روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم نرمين نحمد الله

موقع كتابك في سطور

رواية ماسة وشيطان الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء التاسع والعشرون

رواية ماسة وشيطان البارت التاسع والعشرون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة التاسعة والعشرون

عاد إليها بعد قليل ليجدها جالسةً مكانها على الأريكة …
وحالها يغني عن أي سؤال!!!
لكنها ما إن رأته حتى مسحت دموعها بسرعة لتقول بابتسامة مرتجفة:
_اتفقنا على ساعة يا نصاب…لم يمضِ أكثر من نصفها!!!
ومع إدراكه لمرحها المصطنع عقد حاجبيه بضيق وهو يقترب منها قائلاً:
_لم أحتمل ترككِ أكثر.
وهنا انتبه للهاتف المكسور تحت قدميها فجلس جوارها ليضمها إليه بقوة هامساً بحزم:
_ماذا حدث؟!هل هاتفتِ ذاك الرجل؟!
وضعت أناملها على شفتيها تكتم بكاءها للحظات قبل أن تهمس بصوت متحشرج:
_هو من فعل!
ربت على رأسها برفق ثم رفع ذقنها إليه ليقول بنبرة قوية:
_ماذا كان يريد؟!
لم تستطع منع دموعها أكثر مع قوة إحساسها بحنانه وتفهمه…
فأجهشت بالبكاء وهي تدفن وجهها في كتفه …
ليزفر هو بقوة قبل أن يهتف بحدة:
_قولي لي ماذا فعل وأنا سأعرف كيف أرد لك حقك لكن لا تبكي هكذا.
ظلت على بكائها لدقائق وكأنها لم تسمعه …
فلانت ملامحه رويداً رويداً حتى قبّل رأسها أخيراً مع همسه الحاني:
_إحكي لي يا ماسة…أنتِ وعدتِني أن تحكي لي كل شئ.
تأوهت بخفوت وهي تهز رأسها قبل أن ترفع وجهها إليه أخيراً لتهمس بابتسامة مريرة:
_عمّن تريدني أن أحكي؟!!عن عاصي الذي أعرفه أم عاصي الذي تعرفونه أنتم؟!
عقد حاجبيه وهو يتفحص ملامحها باهتمام عندما شردت ببصرها لتردف بحسرة:
_عن رجلٍ ردّ إليّ كرامتي بل ردّ إليّ نفسي؟!!أم عن رجلٍ طعنني بخنجر غدر في قلبي؟!!
ثم عادت ببصرها إليه لتهمس بألم:
_وليته هانئٌ بخيانته!!!!أنا موقنةٌ أنه يتعذب مثلي وأكثر…ظلم نفسه قبل أن يظلمني.
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يسألها بحيرة:
_ولماذا إذن فعلها؟!
أخذت عدة أنفاس متتابعة وكأنها تمنح نفسها فقط بعض القوة …
قبل أن تزفر زفرة واحدة قوية سبقت قولها باقتضاب :
_ببساطة…لأنه “عاصي”!
هز رأسه بقوة وهو يهتف بعناد:
_أريد أن أعرف كيف بدأ أمركِ مع هذا الرجل…الآن!
ترددت للحظات ثم غامت نظراتها بسحب اشتياق طوقتها رغم أنين روحها…
ثم مضت تروي له كل حكايتها معه بتفاصيلها من البداية…
حتى انتهت بقولها الغارق في حسرته:
_وددتُ لو يكون مثلك…لو يهزم عشقه شيطانَه!!!
صمت فهد للحظات يفكر في حديثها وهو عاجز عن الرد…
عاصي الرفاعي ليس وغداً كما كان يظن…
على الأقل مع أخته!!
على العكس …لقد ساندها في أشد أوقات حياتها صعوبة حتى عادت تقف على قدميها من جديد…
وهو ما عجز عن فعله أقرب أهل الأرض إليها!
قد يقدّر رغبته في الحصول على طفل خاصة في ظل التهديدات التي يتعرض لها الآن…
لكن …ألم يكن من الأولى به -طالما يحب ماسة هكذا- أن يهرب بها -ومعها- من هذا الجحيم كما طلبت منه يوماً؟!!
لهذا تنهد بحرارة ثم ربت على وجنتها ليقول أخيراً بحزم :
_تريدين رأيي؟!كلاكما لم يعشق صاحبه كما ينبغي.
زأرت أمواج فضتها باعتراض فضحته عيناها بينما استطرد هو بأسف:
_هو جعل أولويته لنفسه كما فعلتِ أنتِ…هو فضّل الوريث عليكِ وأنتِ فضّلتِ كبرياءكِ عليه…
ثم شرد ببصره هامساً بمزيج من حنين ولوعة:
_الحب الذي أعرفه هو الذي يمزج الأرواح فلا يصير هناك “أنا” و”هي” بل…هي أنا وأنا هي!
ابتلع غصته الخانقة عند همسته الأخيرة ليستعيد صوته بعض حزمه وهو يواجهها بقوله:
_حبكما ناقصٌ يسير على قدم واحدة…وحبٌ كهذا لن يصل يوماً لمنتهاه.
هزت رأسها وهي تبتعد عنه لتهتف باستنكار:
_أنت تلومني يا فهد؟!تراني قد قصرت في حقه؟!
ابتسم بحنان وهو يطوق ملامحها بعطفه قبل أن يقول أخيراً:
_لا يا “حبيبة أخيكِ”…ما أريد قوله أن كليكما اختار…ولم يبقَ له سوى حصاد نتيجة هذا الاختيار.
ثم اكتسب صوته بعض الجدية وهو يقول بحزم:
_وما دام الأمر كذلك…فالبتر هنا أفضل من علاج غير نافع!
لمعت عيناها بنظرة متسائلة فلوح بسبابته في وجهها مردفاً بنفس الحزم:
_لن أسمح له أن يؤذيكِ أكثر…ستنالين حريتكِ رغماً عن أنفه.
_لا!
هتفت بها بنبرة أكثر حزماً ثم استطردت بقوة:
_حريتي سأنالها بطريقتي…لا أريد أن يتدخل أحد بيني وبينه…كما بدأت حكايتنا بنا وحدنا فستنتهي كذلك.
انعقد حاجباه بضيق للحظات ثم زفر زفرة قصيرة سبقت قوله:
_حسناً…دعينا نؤجل الحديث عن هذا الأمر الآن حتى تهدئي قليلاً.
أطرقت برأسها للحظات ثم وقفت مكانها لتبتعد عنه بضع خطوات مع قولها بحسم:
_أنا سأسافر.
صدمه قولها لبرهة قبل أن يقف بدوره ليتوجه نحوها قائلاً بدهشة:
_رحلة استجمام مثلاً؟!
لكنها أدارت وجهها نحوه لتبتسم بشحوب مع قولها:
_رحلة علاج…وعمل!
ظهر التساؤل في عينيه جلياً فاستطردت بتماسك مصطنع:
_أحد أصدقاء عزيز يعمل كطبيب في “أبو ظبي”…سيساعدني في العلاج والعمل معه كممرضة.
_ممرضة؟!
هتف بها باستنكار وهو يمسك ساعدها بقوة ليردف:
_ابنة جاسم الصاوي تسافر لتعمل ممرضة؟!
اتسعت ابتسامتها الشاحبة مع قولها الشارد:
_لهذا السبب بالذات أريد السفر…أنا لا أحتاج مالاً …فعاصي أنشأ لي حساباً بنكياً بمبلغ يكفل لي العيش كملكة هنا…لكنني لا أريد العيش بمال جاسم الصاوي ولا عاصي الرفاعي.
تنهد بحرارة وهو يدرك سر تصرفها ليقول بعد تفكير:
_حسناً…اصبري فقط لبعض الوقت وسنسافر معاً.
لكنها هزت رأسها لتقول باعتراض:
_يسرا تحتاجك هنا…لن تستطيع السفر أنت قبل شهرين على الأقل…وأنا أريد السفر اليوم قبل غد.
_وأنا لن أتركك تسافرين وحدك.
هتف بها باعتراض أقوى فتجمعت الدموع بعينيها من جديد….
ثم رفعت رأسها لأعلى لتصرخ بانهيار هزم كل حصون تماسكها:
_أرجوك يا فهد افهمني…أنا أريد أن أبتعد عن هنا…أعلم أنك تحتاجني…ورحمة كذلك…لكنني سأختنق حقاً لو بقيت هنا أكثر..
ربت على ظهرها بإشفاق وقد غلب خوفه عليها أي شعور آخر خاصةً مع انهيارها هذا….
فتحسست رقبتها بأناملها لتردف بصوت مبحوح:
_أريد أن أستعيد نفسي …لو بقيت هنا فلن أرى سوى حطام ماسة تهشمت بمطارق طغيانهم..
ثم التفتت نحوه لتقول في محاولة أخيرة لإقناعه:
_وأظنها ستكون فرصةً مناسبة لإقناع جاسم الصاوي بالاعتراف بي دون قلق.
هز رأسه في عدم اقتناع لكنها استدارت بجسدها نحوه لتحيط كتفيه بكفيها هامسة برجاء:
_لأجل خاطري يا فهد…دعني وما أريد…سأسافر أنا الآن والحق بي أنت فيما بعد عندما تستعيد يسرا كامل عافيتها.
زفر زفرة قصيرة ثم ضم رأسها لصدره لبضع لحظات…
قبل أن يقول أخيراً بحزم:
_حسناً…دعيني أفكر.
============
أعطني الناي وغنِّ .. فالغنا سرّ الخلود
وأنين الناي يبقى .. بعد أن يفنى الوجود
هل تَخَذت الغاب مثلي .. منزلاً دون القصور
فتتبّعت السواقي .. وتسلّقت الصخور
هل تحمّمت بعطر .. وتنشّفت بنور
وشربت الفجر خمراً .. في كؤوس من أثير…
هل جلست العصر مثلي .. بين جفنات العنب
والعناقيد تدلّت .. كثريّات الذهب
هل فرشت العشب ليلاً .. وتلحّفت الفضا
زاهداً في ما سيأتي .. ناسياً ما قد مضى
أعطني الناي وغنِّ .. فالغنا عدل القلوب
وأنين الناي يبقى .. بعد أن تفنى الذنوب
أعطني الناي وغنِّ .. وانْسَ داءً ودواء
إنّما الناس سطور .. كُتبت لكن بماء…
شرد جهاد ببصره مع هذه الأنغام المنبعثة من الجهاز جواره…
غافلاً عن تلك التي اختبأت في ركن مستتر كعادتها تراقبه بهيام…
وقد أضفى شروده المزيد من السحر على عينيه الزرقاوين…
وتزينت شفتاه بابتسامة وقور اعتقلت قلبها هي بسجون فارهة من أحاسيس لم تعرفها إلا معه…
وتلاعبت أنامله ب”شاله المميز” بلونيه الأبيض والأسود وكأنه يعزف عليه لحن الأغنية!!!
كانت تتابع تفاصيله بحنان فطري فيها غلب خجلها المعهود…
لكنها شهقت بحدة عندما اصطدمت أنامله فجأة بكوب “الشاي الأخضر ” على مكتبه …
فسقط الكوب بما فيه على ذراعه…
لم تشعر بنفسها وهي تندفع نحوه بسرعة لتهتف بانفعال:
_أنت بخير؟!
التفت نحوها بدهشة قبل أن يطلق تأوهاً ضعيفاً وهو يشعر بألم حارق في ذراعه…
ثم توجه نحو الحوض الصغير في زاوية الغرفة حيث غسل ذراعه سريعاً تحت نظراتها القلقة…
وبعدها عاد إليها مبتسماً مع قوله:
_لحسن الحظ لم يكن شديد السخونة….
ثم قطع عبارته ليهتف بدهشة:
_لماذا تبكين؟!
انتبهت في هذه اللحظة لدموعها التي غلبتها مع انفعالها كالعادة…
فمسحت وجهها بسرعة مضحكة لتهمس بخجل:
_أبكي؟!!أنا لا أبكي!!!!لا تظنني حمقاء…فقط…كنت…
قطعت عبارتها التي بدت لها أكثر حماقة من دموعها الخرقاء…
وقد سولت لها نفسها الهرب الآن من أمامه بسرعة…
لكن خطواتها عاندتها قبل قلبها الذي كان يرجوها البقاء…
خاصةً مع ابتسامته التي اتسعت كثيراً وهو يعود ليجلس على مكتبه قائلاً ببساطة:
_يبدو أنك شخصية انفعالية.
تجرأت لترفع عينيها نحوه مع سؤالها بحياء:
_وهل هذا جيد أم سيئ؟!
ضحك بخفة وهو يمسح آثار الفوضى على المكتب بمنشفة صغيرة…مع استطراده:
_وطيبة جداً أيضاً!!
احمرت وجنتاها أكثر وكأنه أسمعها قصيدة غزل…
قبل أن تندفع لتساعده فيما يفعل حتى انتهيا من الأمر فقال برفق:
_شكراً يا زهرة…سلمت يداك.
ألجمت مشاعرها لسانها وقد عجزت عن الرد…
فقط دقات قلبها كانت تدوي كقرع الطبول مع صوته الآسر بلكنته المميزة….
فابتسم من جديد وهو يدعوها للجلوس بقوله:
_يمكنكِ الجلوس…تحبين “فيروز”؟!
_أحبك أنت!!
كان هذا هتاف قلبها” الصامت” والذي ترجمه لسانها تلقائياً لرد مقتضب:
_ومن لا يحبها؟!
تنهد بحرارة وقد عاد لشروده مع قوله -وكأنه فقط يحدث نفسه ولا يراها-:
_أنا أعشق صوتها…يذكرني ببيت جدي القديم في منطقة تسمى” باب العمود”..قريبة جداً من المسجد الأقصى…لقد قضيت طفولتي هناك معه .
جلست أمامه وقد وجدتها فرصة لتبادل الحديث معه فتنحنحت لتسأله برقة اصطبغت بخجلها:
_وكيف كان هذا البيت؟! صفه لي.
اتسعت ابتسامته وقد راق له استرجاع الذكريات فقال بانطلاق:
_كان بيتاً بسيطاً مكوناً من ثلاثة غرف ومطبخ صغير تطل نافذته على حديقة البيت …الحديقة نفسها كانت جنة…لازلت أذكر دالية العنب التي كان جدي يجلس تحتها ليروي لي حكاياته الطويلة…قبل أن تقاطع جدتي جلستنا بطبق من “كعك القدس” الذي كنت أعشقه.
ابتسمت لتباسطه معها وقد منحتها كلماته الجرأة لتسأله دون كلفة:
_إذن تحب “فيروز” و”بيت جدك”و “كعك القدس” …وماذا أيضاً؟!
تلاشت ابتسامته تدريجياً مع طيف الألم الذي كسا عينيه وهو يجيبها بصوت شرخه حزنه:
_أحب وطني كله يا زهرة…كله!
امتزج الفخر بالعاطفة في عينيها البريئتين وهي تهمس في نفسها…
لو كان من الممكن أن أحبك أكثر لفعلت…
لكنني وصلت معك لآخر حدود إحساسي!!!
كيف استطعت أن تكون هكذا؟!!
كيف احتكرت وحدك كل صكوك الحب ومواثيقه…
فزيّل إمضاؤك كل أوراقه؟!!
كيف عبثت بنور الشمس وضوء القمر…
فجعلتهما خيوطاً تلمع في عينيك؟!!
كيف ملكت الريح وطويت الأرض بكفيك…
لتصير بعينيّ أول الرجال وآخرهم؟!!
يا من حملت من اسمك نصيباً…
تقاسمته أنا معك…
فأنت -بدربك- في جهاد…
وأنا -بحبك- في جهاد!!
وبهذا الخاطر الأخير ابتسمت برقة ناسبت قولها:
_عساك تعود له عما قريب.
تنهد بحرارة وهو يطرق برأسه للحظات قبل أن يسألها ببعض الاهتمام:
_أنتِ مصرية كما أعلم…هل تقيمين هنا وحدك؟!
أومأت برأسها إيجاباً مع إجابتها البسيطة:
_نعم…أنا أذهب لمصر فقط في إجازاتي السنوية لزيارة والديّ.
هز رأسه بتعجب ليقول ببعض الإشفاق:
_حياة صعبة لفتاة في سنك.
لكنها هزت كتفيها لتقول ببراءتها العذبة:
_اعتدتها…ولدَيّ هنا رفيقات ثقات يساعدنني كثيراً.
أومأ برأسه بلا معنى ثم تذكر شيئاً جعله يسألها باهتمام:
_أحد أصدقائي أوصاني بقريبته…هي مصرية مثلك وأظنكما ستنسجمان …ستأتي للعمل هنا قريباً كممرضة معنا في المشفى…هل يمكنكِ تدبير سكن مناسب لها.
تهللت أساريرها وقد أسعدها أن يطلب منها شيئاً فهتفت مرحبة:
_بالطبع…أنا أقيم مع حسناء في شقة صغيرة إيجارها مناسب…والشقة التي أمامنا خالية…سأستأذن صاحب المنزل إن كان يرغب في تأجيرها.
أومأ برأسه في استحسان مع ابتسامة كانت لها أبلغ شكر…
ثم قال ببعض الحزم:
_يمكنكِ العودة لعملكِ الآن…لا أريد أن أعطلك.
لتغادر هي بعدها الغرفة شبه -طائرة- وهي تشعر أن باباً جديداً يوشك أن يفتح لها معه…
وليته كان كذلك!!!
========
_أين كنتِ؟!
قالها عزيز بجمود وهو يقف مكانه في صالة منزل رحمة…
فازدردت ريقها بتوتر وهي تغلق الباب خلفها برفق مع قولها المقتضب:
_شأنٌ هام وجب عليّ قضاؤه.
ظل يرمقها بنظرات باردة للحظات…
قبل أن يتقدم نحوها ليسألها ببرود لم يُخفِ عتابه:
_ألم يكن من الأجدر بكِ البقاء مع أمي حتى لا تبقى وحيدة خاصةً في ظروفها هذه؟!
أطرقت برأسها للحظات ثم غمغمت بما يشبه الاعتذار:
_كنت أعلم أنك لن تتأخر…ولم أتركها إلا بعد ما نامت…كما أن…
قطعت عبارتها لتصمت قليلاً دون رد…
فابتسم بسخرية غريبة على حنانه المعهود معها ليسألها بتهكم وب-الانجليزية- مقلداً لهجتها القديمة:
_ماذا؟!!أكملي عبارتك …التردد لا يليق بكِ يا “سيدة العقل “!
لكنها لم تنتبه للسخرية في عبارته وسط زئير مشاعرها التي كانت تجتاحها الآن..
كانت قد ذهبت إلى شاكر لتطلب منه أن يوقف الأمر الذي بدأه بشأن منزل رحمة…
ولما رفض هددته بفضح الأمر مهما كانت العواقب …
نعم…لم تحتمل أن تكون سبباً في إيذاء رحمة ولو كان هذا يعني أن تتخلى عن ثراء عزيز للأبد!!!
لكن عزيز لاحظ شرودها الغريب…
فاقترب منها ببطء ليتفحص ملامحها بتمعن مع قوله الذي اكتسى ببعض الصرامة هذه المرة:
_أخبريني أين كنتِ.
رفعت عينيها إليه أخيراً لتقول ببعض الانفعال:
_ما الأمر يا عزيز؟!هل هو تحقيق رسمي؟!!
فجذبها من مرفقها ليهتف بحدة:
_لا …ليس تحقيقاً…لكن من حقي أن أعرف أين كانت زوجتي.
ورغم خشونة تصرفه وحدة نبراته التي لم تعتدها منه…
لكنها همست أخيراً وكأنها تلقي حملاً ثقيلاً من على ظهرها:
_عند عمي شاكر.
ترك ذراعها ببطء ونظراته تكاد تخترقها بغضب أسود…
لكنها لم ترَ كل هذا فهي لم ترفع بصرها نحوه…
بل ثبتت نظراتها على باب غرفة رحمة المغلق هناك وهي تردف بجمود:
_أجل…أنا التي دبرت كل هذا…الخطة كلها كانت لي…ليس منزل رحمة فحسب لكن عملك أيضاً!
انعقد حاجباه بغضب وقد اشتعلت ملامحه كلها مع هتافه الهادر:
_وتعترفين أيضاً؟!!!آمنّاكِ أنا وأمي لتفعلي بنا هذا؟!!
شعرت بألم بطنها المعتاد عند انفعالاتها الشديدة يراودها …
لكنها كتمت تأوهها مع قولها بانفعال زاده ألمها:
_نعم…فعلتها تلك الليلة التي تركتني فيها هنا وحدي لتلحق بماسة في آخر الدنيا…فعلتها لأجل طفلي الذي لم أحتمل أن يلاقي ما لاقيته أنا من نبذ وهجران…فعلتها لأنني لم أعتد الخسارة .
_خسارة؟!!
هتف بها باستنكار وهو يشير بكفه نحو صدره مردفاً:
_أنا منحتك عمري القادم كله …وأمي اعتبرتك كابنتها تماماً…وتقولين خسارة؟!
هنا انهمرت دموعها رغماً عنها لتغرق وجهها كله مع زفرات ندمها الحارة:
_ولهذا خرجت منذ قليل …لقد ذهبت إلى والدك لأقنعه بالتخلي عن الفكرة لكنه رفض…فانطلقت بنفسي إلى ذاك الرجل في إدارة الحي وهددته بفضح الأمر لو مضى في تنفيذ القرار…دفعت له ضعف المبلغ الذي دفعه والدك لأقنعه بإيقاف الإجراءات…
ثم انفلتت منها آهة ألم ابتلعتها بسرعة لتهمس بانهيار:
_لم أحتمل أن تنهار أمي بسببي…لم أستطع…
_لا تقولي أمي!!!
صرخ بها في غضب مقاطعاً لكنها هتفت بنبرة أكثر انفعالاً:
_بل أمي…أمي يا عزيز…ولولا شعوري بصدق هذا لما اعترفت لك بالحقيقة.
هز رأسه بعدم تصديق وهو يبتعد عنها ليقول باستنكار :
_لم أصدق “سكرتير” والدي الذي هاتفني منذ قليل يخبرني أنكِ عنده…الرجل الطيب ظنني تصالحت مع والدي واتصل ليوصيني عليه…لكنني ربطت هذا مع قول صديقي في إدارة الحي والذي أخبرني أن الأمر يبدو مدبراً…ومع انهيارك الغريب يومها تأكدت أنك وراء كل هذا!!
_أخطأت!!
صرخت بها بحدة جعلته يلتفت نحوها لتلوح هي بذراعيها مع سيرها نحوه مردفة بهياج:
_أخطأت كما يفعل الجميع…كما فعل أبي وكما فعلت أمي…وكما فعلت أنت…ما المشكلة؟!!على الأقل أنا اعترفت بخطئي وصححته قبل فوات الأوان…فماذا فعلتم أنتم؟!
انعقد حاجباه بانفعال وقد بدأ يشعر بالقلق من ثورتها…
خاصةً مع حركة أناملها التي كادت تعتصر بطنها…
لكنه عجز عن الكلام مع استطرادها الثائر:
_كلكم ندمتم على أخطائكم لكن بعد ما دمرتم من تحبون…أما أنا فأنقذت نفسي في الوقت المناسب…
ثم انفلتت منها آهة أخرى مع همسها بانهيار:
_يا إلهي!!!ماذا فعلتَ بي؟!!أنت هدمت كل ما سعيت عمري في بنائه…أعدتني لسجون احتياجي وضعفي…سحبت…آآه…
انقطعت عبارتها بصرخة ألم قوية لم تستطع كتمانها…
عندما فتح باب غرفة رحمة التي خرجت منها أخيراً لتهتف بجزع:
_اهدئي يا ابنتي..لا تصرخي هكذا.
لكن ميادة لم ترد عليها وعيناها تتسعان بارتياع مع شعورها الغريب بأن ثمة شئٍ ما خطأ…!!!!
قبل أن تتشبث بساعد عزيز فجأة لتهمس أخيراً بألم:
_أنا أنزف…
أطلقت رحمة صيحة خوف وهي تندفع نحوها بجزع…
بينما تجمد عزيز مكانه بصدمة مع انهيارها الكامل بين يديه وهي تهمس برعب:
_بنتنا يا عزيز!!!
========
_أنت قسوتَ عليها يا عزيز!
قالتها رحمة بعتاب حنون خارج غرفة الكشف التي اختفت بداخلها ميادة مع الطبيبة…
فغمغم عزيز بضيق:
_أنتِ التي تقولين هذا يا أمي؟!ألم تعلمي ماذا فعلت؟!
ابتسمت رحمة بحنانها المعهود قبل أن تقول بحكمة:
_لو كنت فكرت قليلاً لتبينت أنها اعترفت لك بالحقيقة قبل أن تعيَ هي أنك كشفت الأمر…بل و سَعت لتصحيح خطئها كذلك.
زفر بقوة وهو يشيح بوجهه قائلاً بانفعال:
_كيف أنسى أنها كانت تخدعنا طوال ذاك الوقت وهي تدبر لنا مكيدة في الخفاء؟!
ربتت رحمة على كتفه برفق امتص غضبه مع كلماتها المتعقلة:
_زوجتك ليست إلا طفلة كبيرة…كبر جسدها وبقي قلبها على ضعف احتياجه…أنا أقدّر غيرتها من ماسة التي دفعتها لهذا الطريق وأقدّر أكثر رغبتها في الإحساس بالأمان المادي…
ثم تنهدت بحرارة لتردف بإشفاق:
_فقر المشاعر يورث المرء الكفر بها يا ابني.
أطرق عزيز برأسه دون رد للحظات وكأنه يعقل حديثها…
قبل أن يغلب قلقه غضبه فرفع رأسه أخيراً ليقول برجاء:
_ادعي لها يا أمي…هي والصغيرة.
أغمضت رحمة عينيها ببطء ثم رفعت كفيها لتتمتم بدعاء خاشع…
بينما غرق عزيز في لجة أفكاره وهو لا يدري أين الصواب….
كيف يأتمنها بعد هذا على نفسه ووالدته وطفلته وهي التي كانت تدبر كل هذا خلف ظهره؟!!
لكن…ربما…
رحمة محقة…!!!
نعم…ميادة كانت مخطئة…لكن من مِنّا بلا خطايا؟!!!
هو يعلم أكثر من غيره كم يتحكم فيها ماضيها …
ماضيها الذي جعل منها هذه الصورة القاسية!!!
لكن عندما وضعها القدر في لحظة اختيار…
بين “ماسة” الحب و”شيطان” الطمع…غلبت ماستها شيطانها!!
انقطعت أفكاره عندما فتح الباب أخيراً لتخرج منه الطبيبة مبتسمةً مع قولها بارتياح:
_الطفلة بخير…لكن زوجتك تحتاج للراحة والنوم على ظهرها لبضعة أيام حتى لا يتكرر النزيف.
تنهدت رحمة بارتياح واضح وهي تحمد الله سراً…
بينما اندفع عزيز بعاطفته التي تغلبه- كعادته -نحو ميادة الراقدة على سرير الكشف…
لكنها لم تكن تنظر نحوه…
عيناها كانتا معلقتين بشاشة الجهاز بشرود …
وأناملها تتحسس بطنها مع همهمتها الخافتة وكأنها تحدث نفسها!!!
جلس جوارها ليحتضن كفها هامساً برفق:
_لا تخافي.
لم تستطع النظر نحوه وهي تهمس دون أن تنظر إليه:
_وكيف لا أخاف؟!
ثم التفتت نحوه وحركة أناملها على بطنها تزداد انفعالاً…
لتهمس بضعف استسلمت له أخيراً:
_أنا أحبها يا عزيز…رغم أني لم أرَها بعد لكنني أحببتها أكثر من أي شئ في حياتي…
ثم أغمضت عينيها بقوة لتردف بألم:
_خشيت أن أفقدها…أن ترحل عني كما الجميع.
صفعت عبارتها قلبه بذاك الألم الذي خنق حروفها …
فضغط كفها في راحته أكثر ليهمس بحنان:
_ستكون بخير…وستمر الأيام سريعاً فتجدينها حقيقةً بين يديكِ.
رفعت عينيها إليه بتوسلٍ متشح بالندم..
وسؤالٌ حائر يظلل مقلتيها لكن كبرياءها -العتيد-منعها البوح به…
سؤالٌ قرأه “قلب الشاعر” فتنهد بحرارة مع همسه مؤكداً:
_أنا لست غاضباً منكِ بعد…كنتِ محقة…أنتِ تراجعتِ عن الخطأ في التوقيت المناسب .
ابتسمت ابتسامة شاحبة وهي تميل رأسها على وسادتها لتتفحص ملامحه بتمعن…
قبل أن تعاود تحسس بطنها بأناملها الحرة هامسة بعاطفة طاوعها لسانها فيها لأول مرة:
_محظوظةٌ “ميادة” الصغيرة بأب حنون مثلك.
فرفع كفها إلى شفتيه يقبله مع همسه الرائق:
_بل نحن المحظوظون ب”ميادة” الكبيرة .
أغمضت عينيها بقوة- وكأنها تعاود الاختباء من عاطفتها- مع سؤالها بخفوت:
_من قلبك يا عزيز؟!
فلامس جفنيها المطبقين بأنامله ليجبرها أن تفتح عينيها من جديد…
لتتلقى فيوض حنانه الزمردية بلمعة العسل التي اكتسبت الآن بريقاً خاصاً ناسب همسه :
_منذ أول لقاء لنا وأنتِ تتساءلين عن نتيجة الصراع بين عقلك و”قلب الشاعر”..فماذا ترين عاقبة الأمور؟!
ابتسمت وهي تتذكر ما يحكي عنه لتصمت قليلاً…
قبل أن تجيب بخفوت:
_حنان “قلبك” هزم حسابات “عقلي”…إذن…
واتسعت ابتسامتها مع استطرادها:
_كسب “قلب الشاعر”…وخسر عقلي بحساباته.
ضحك ضحكة رائقة وهو يضم كفها لصدره قبل أن يقترب بجسده منها وهو يهز رأسه نافياً مع همسه:
_لم يخسر أحدنا …على العكس…كلانا كسب الآخر …وهذا وحده يكفي!!!
أومأت برأسها موافقة وهي تشعر أخيراً بالسكينة تظلل روحها…
قبل أن تتلفت حولها متسائلة بقلق:
_أين أمي؟!!هل هي غاضبة مني؟!
وعند الباب المفتوح ظهرت رحمة أخيراً لتهمس بارتياح:
_لا يا ابنتي…صدقيني…لم أكن يوماً أكثر رضًا منّي الآن…حمداً لله على سلامتك.
قالتها وهي تتوجه نحوها لتربت على كتفها برفق…
قبل أن تلتفت نحو عزيز لتقول بحزمها الحنون:
_ابقَ مع زوجتك…فلديّ مِشوارٌ هام.
عقد عزيز حاجبيه مع قوله بتعجب:
_لم تستعيدي كامل عافيتك بعد…ألا يمكنكِ تأجيله؟!
لكنها ابتسمت ابتسامة شاحبة لتقول بغموض:
_كفاه تأجيلاً…لقد تأخرت فيه لسنوات.
======
_رحمة!!
هتف بها شاكر بدهشة وهو يراها تقتحم عليه مكتبه وخلفها مساعدته تهتف باعتذار:
_عذراً سيدي…أخبرتها ألا يجوز لها الدخول دون موعد لكنها…
تنحنح شاكر بحرج مقاطعاً إياها بقوله:
_لا بأس!!اخرجي أنتِ الآن.
رمقتها مساعدته بنظرة فضولية قبل أن تغلق الباب خلفها…
فتقدمت نحوه رحمة لتقول ببرود:
_أصيل يا شاكر…على الأقل لم تطلب “موظف الأمن” ليطردني!
أطرق بوجهه دون رد وقد عجز عن مواجهتها بعينيه…
بينما أكملت هي سيرها نحوه لتردف بتهكم :
_ابن الحاج”جاد” لازال يفهم في “الأصول”…لازال يطرق برأسه عندما يخطئ كما كان يفعل وهو صبيٌ صغير يسرق الحلوى من دكان جده…فتعنفه أمه ليهرع إلى أمي ويطلب منها الاختباء في بيتنا.
رفع إليها عينين زائغتين وهو يتذكر ما تحكي عنه…
رحمة لم تكن زوجته وأم ابنه فحسب!!!
بل كانت جارته ورفيقة طفولته في حيهما القديم لسنوات لم يعد يذكر عددها…
نقطة ضعفه التي يصر عقله على إلقائها في ركن ذاكرة مهمَلٍ كي لا تعيده لماضٍ لا يريد تذكره!!!
لكنها وصلت إليه أخيراً لتكتسي عيناها بقسوة قلما حملتها ملامحها الطيبة…
مع قولها ببطء متعمد:
_كبر الصغير…وسرق مكان “الحلوى” طفلاً…وبعدما كان يختبئ في بيتي ،اختبأ مني!!
كز على أسنانه بغضب وكلماتها الصادقة توخزه بسِنَان سامة…
لكنه كان لا يزال عاجزاً عن الرد مع شعوره العظيم بالخزي…
طوال هذه السنوات وهو يهرب من لقائها وجهاً لوجه…
كان يعلم أن سواد ماضيه مسطورٌ على جبينها بحبرٍ لن يزول…
ربما لو كانت امرأة أخرى سواها لفضحته في كل مكان مطالبةً بحقوقها..
لكن رحمة لم تفعلها…
بل إنها حتى لم تعاتب…
وكأنها اعتبرت مجرد حرمانه منها عقاباً كافياً!!!
لهذا وقف مكانه أخيراً ليواجهها بقوله الذي تذبذبت لهجته بين خزي وضيق:
_ماذا تريدين الآن يا رحمة؟!
وجوابها كان صفعة!!!!
نعم…صفعة مدوية على وجنته مع هتافها بانفعال:
_صفعة تأخرت طوال هذه السنوات….ليس لأجل عمري الذي استحللت إزهاقه…ولا لأجل الغدر الذي طعنتني به دون ذنب مني…ولا حتى لأجل العِشرة الطويلة التي خنتَها بمنتهى الخسة…لكن لأجل ابني الذي كدت تدمر حياته!!!
نفرت عروق جبينه بغضب هادر وقد اشتعلت نظراته مع صراخه:
_كيف تجرؤين؟!
_كما جرؤت أنت على تحطيم ابني وسعادته…لقد كاد يفقد زوجته وطفلته بسبب مؤامرتك!
هتفت بها بقوتها التي هزته رغماً عنه مع استطرادها وهي تلوح بسبابتها في وجهه:
_ابتعد عن عزيز يا شاكر…وإلا سأفتح عليك أبواب ماضٍ لن يروقك كشفه!!!
قالتها ثم أعطته ظهرها لتتخذ طريقها نحو الباب…
لتتوقف أناملها على قبضته أخيراً مع استدارة رأسها نحوه بقولها الواثق:
_أنت هربت به صغيراً لتبعده عن حضني…لكن عدالة القدر شاءت أن يعود إليّ الآن في أشد أوقاتي احتياجاً إليه…ربما كسبت أنت حفنة أوراق مالية تتكاثر بحسابك البنكي…لكنني أنا كسبت ابني يا شاكر…
ثم ابتسمت مكررة بحزم:
_كسبت ابني!
قالتها ثم فتحت الباب لتخرج قبل أن تصفقه خلفها بعنف…
تاركةً إياه غارقاً في خضمّ ذكرياته …
لقد استجاب لنزوة عاطفته مع تلك المرأة التي تزوجها سراً بعد رحمة ليهرب معها إلى بلد آخر بعدما وعدته بمساعدة قريب لها في حصوله على عمل جديد…
ومع إغراء العرض لم يستطع مقاومة طمعه…
كانت نيته أن يبتعد لبضع سنوات فقط حتى يدخر ما يكفيه من مال…
لكن سنوات عمره انفرطت من عقدها بسرعة البرق سنةً خلف سنة…
وكلما كان ضميره يوخزه بالندم على حرمانها من طفلها وحرمان عزيز منها هو الآخر…
كان يئد صوته بالمزيد من السعي خلف ملذاته!!!
نعم…هو في قرارة نفسه يعلم أنه ظلمها ظلماً لن يغفره تسامُحها مهما عظم…
لكن ما عسى يجديه اعترافه بعد كل هذه السنوات؟!!!
وهنا عاد ينهار جالساً على كرسيه من جديد وهو يتحسس مكان صفعتها…
رحمة محقة…
هو بعد كل هذا السعي لم يكسب سوى حفنة أوراق نقدية…
لكنه خسر قبالتها ابنه…
فبئس السعي…
وبئست الصفقة!!
======
_بالرفاء والبنين!!
قالها الشيخ المعمم بابتسامة رتيبة وهو يغلق دفتره …قبل أن يصافح عبد الله مردفاً:
_مباركٌ زواجك يا شيخ!
صافحه عبد الله بفتور احتل نبرته كاملة وهو يغمغم بكلمات لم يدرِ فحواها…
ثم اصطحبه ليغادر الشيخ المكان مع راغب الذي صافحه مهنئاً بعفوية…
قبل أن يرحل بدوره مع أخيه الذي حضر معه كشاهدين على العقد…
بينما امتنعت رؤى -بإرادتها- عن المجئ تضامناً مع صفا…
فقد كانت ترى طلاق أخيها لها ورغبته بأخرى جريمة لا تغتفر في حق امرأة ك-صفا -أعطت أكثر مما أخذت بكثير!!!
أغلق باب الشقة خلفه ثم استند عليه بظهره وهو يرمق تلك الجالسة مكانها هناك بنظرة طويلة شاردة …
لقد قُضِي الأمر يا عبد الله!!!
تلك المرأة التي طالما ألهبت خيالاتك صارت اليوم حليلتك !!!
فيالسعادتك!!!
بل يالشقاؤك!!!
وهل أشقى من المرء إذا تشوشت رؤيته بطريق مقفر فما عاد يعرف بُغيته؟!!
ها قد تزوجت امرأة الحلم التي كانت هاجسك…
فاتنتك -الضعيفة- التي ترضي -غرور رجولتك- مع وعد حالم ب-ذرية -كنت قد فقدت الأمل فيها!!!
فهل من مزيد؟!!
افرح وارضَ يا عبد الله…
أم أن كلمات صفا الأخيرة قد عكرت- صفو- حياتكِ للأبد!!!
وكأنما قرأت -هي- حيرته بعينيه فقامت من مكانها لتتوجه نحوه هامسةً بتردد:
_ما الأمر يا شيخ؟!هل أخطأتُ أنا بشئ؟!!
قالتها وهي تشعر بالعجب من شأنه فملامحه كانت بعيدة تماماً عن ملامح رجل سعيد بزواجه…
لكن لو لم يكن راضياً عن هذه الزيجة فلماذا طلبها من الأساس؟!!
بل إنها تشك -كما الجميع- أنها سبب طلاقه من صفا!!!
فلماذا يبدو الآن وكأنه متهم سمع -لتوه-حكماً بإعدامه؟!
لكن الصغير محمد قطع أفكارها عندما اقترب منهما وهو يرمق عبد الله بنظرة قلقة مع قوله بحيرة طفولية:
_هل سنبيت معك هنا يا شيخ؟!
وكأنما كانت كلمات الصغير طوق نجاة له من شروده الحائر…
فابتسم بحنان وهو ينحني ليحمله بين ذراعيه قائلاً برفق وهو يتلفت حوله في المكان:
_هل أعجبتك الشقة الجديدة؟!!
أومأ الصغير برأسه قبل أن يقول بحزنٍ يفوق عمره بسنوات:
_لم أعد أريد أن أفرح ببيت جديد حتى لا أغادره ككل مرة.
دمعت عينا فتون بتأثر وهي تربت على ظهر صغيرها…فيما ضمه عبد الله لصدره بقوة قائلاً بحنان:
_لا يا صغيري…أعدك أن يبقى هذا بيتك دوماً فافرح كما تشاء.
ابتسم محمد بفرحة ثم مال على وجنته بقبلة عفوية مع هتافه المنطلق:
_شكراً يا شيخ…أنت طيب القلب حقاً كما تقول أمي.
وهنا التقت عينا عبد الله بعيني فتون- الراجيتين- وكأنما تطالبه بالوفاء بوعده…
فازدرد ريقه بتوتر وهو يهرب بعينيه منها قبل أن ينتزعه الصغير من ارتباكه بسؤاله البرئ:
_هل ستنام معنا؟!
احمر وجه فتون بخجل وقد عجزت عن الرد لكن عبد الله تدارك الأمر بذكاء:
_والدتك ستنام معك الليلة…لكنك كبرت ويجب أن تعتاد النوم وحدك…صحيح؟!
نقل الصغير بصره بينهما بحيرة ثم هتف باعتراض:
_لا …أنا أريد أن تنام أمي معي كل ليلة.
خفض عبد الله بصره بضيق حقيقي وهو يشعر بغربة حقيقية في هذا المكان…
ما الذي يفعله هنا؟!!
لا البيت بيته…ولا المرأة امرأته…ولا الصغير ولده!!!
ورغماً عنه اكتسحت كيانه ذكرى قريبة ل”صفا روحه” وهي تستقبله بحنانها المعهود بعد صلاة العشاء كل ليلة لتمنحه من السكينة ما يكفيه عمراً!!!
فكتم آهة ندم غادرة كادت تغادر حلقه عندما تناولت فتون منه الصغير بين ذراعيها لتغمغم باضطراب:
_عفواً يا شيخ…سأنيمه في غرفته.
اغتصب ابتسامة باهتة وهو يربت على رأس الصغير برفق قبل أن يراقب بشرود مغادرتهما معاً نحو الغرفة الجانبية…
تنهد بحرارة ثم رفع رأسه للسماء باستغفار قلب مثقل بهمه…
قبل أن يتحرك بخطوات متثاقلة نحو غرفته حيث جلس بكامل ثيابه على الفراش مستنداً بمرفقيه على ركبتيه في شرود لم يدرِ إلى متى طال…
حتى قطعه دخولها المرتبك إليه مع همهمات اعتذارها:
_اعذرني يا شيخ…الولد لم يعتد بعد على الوضع الجديد.
أطرق برأسه متحاشياً النظر إليها مع عبارة بدت وكأنها تصف حاله هو الآخر:
_لا بأس…غداً يعتاد جديده وينسى القديم.
تأملته ببصرها متفحصة للحظات وقد مستها عبارته بالحزن الذي كان يقطر من حروفها والذي ضاعف حيرتها بشأنه أكثر…
فتقدمت ببطء لتجلس جواره على طرف الفراش ثم سألته ببعض الخزي:
_لماذا لم تدعُ أحداً لحضور عقد قراننا ؟!!
صمت طويلاً دون رد فغمغمت بتردد:
_هل تخجل من زواجنا يا شيخ؟!
نعم…
أخجل !!!
ولو داريتها عن العالمين فلن أخفيها عن عيني أنا…
لكنني لا أخجل منك بل من نفسي!!!
أخجل من خيانة أستشعر وزرها ولو حللها الشرع وساندتها الأعراف…
أخجل من ذنب قد يغفره ربي لكنني لن أسامح فيه نفسي…
أخجل من شعوري كالطفل الضال الذي وقف بمنتصف الطريق حائراً لا يدري فيمَ جاء ولا إلى أين يذهب…
لكنه أخفى كل هذا خلف ابتسامة باهتة مع قوله أخيراً برفق دون أن ينظر إليها:
_ولماذا أخجل؟!!لبساطة حالك؟!!يوماً ما كنت مثلك حتى أغناني الله من فضله …
ثم التفت نحوها أخيراً ليردف بفتور:
_كل ما في الأمر أن ما تبقى من عائلتي لا يقيمون هنا في نفس المدينة الآن…وأنا لا أملك الكثير من الأصدقاء سوى شركائي في السوق…وهؤلاء لا أحب أن يعرفوا عن حياتي الخاصة شيئاً…
رفعت عينيها إليه بعدم اقتناع مع همسها المتردد:
_وشقيقتك ؟!!
أطرق برأسه مجيباً:
_رؤى لازالت في مرحلة التعافي بعد الحادث…لكن زوجها حضر مع أخيه.
ظلت ترمقه بنظرة متشككة وهي تشعر بالضيق المغروس في ملامحه…
ثم عادت تسأله بتفحص:
_لماذا اخترتني أنا للزواج؟!!
تنهد بحرارة وهو يقوم من مكانه ليتوجه نحو شرفة الغرفة الصغيرة …
حيث وقف يتأمل السيارات الغادية والرائحة بشرود…
فلحقت به لتتابع حديثها من خلفه:
_هذا هو السؤال الذي عجزت عن معرفة إجابته طوال الأيام السابقة…لو كنت حقاً تريد الزواج لأجل الإنجاب فلماذا احتملت كل هذه السنوات؟!!ولماذا لم تتخير امرأة أفضل مني؟!!
التفت نحوها برأسه ليرمقها بنظرة جانبية طويلة مع ابتسامة مريرة غلفت قوله بلهجة غريبة:
_ألا يحتمل أن أكون…قد أحببتك؟!!
_لا!
هتفت بها واثقة وهي تهز رأسها نفياً …
قبل أن تردف بلهجتها البسيطة ذات النبرة الممطوطة الواشية بأصلها الريفي:
_ربما أبدو بسيطة في عقلي لكنني يمكنني تمييز نظرة حب رجل لامرأة عندما أراها…نظرة كهذه التي كنت ألمحها في عينيك نحو سيدتي صفا كل ليلة بعد عودتك للبيت.
وكأنما ضغطت بعبارتها البسيطة على جرحه فاستدار نحوها بحدة هاتفاً بغلظة:
_لا تذكريها بيننا ثانيةً…هل تفهمين؟!!
ارتجفت مكانها بخوف حقيقي وهي ترى الغضب الذي عصف بملامحه…
لتدرك وقتها أنها لا تعرف شيئاً عن هذا الرجل الذي قبلت الزواج منه…
لكن…هل كان لديها حقاً مزية الاختيار؟!!
هي قبلت زواجه مرغمة…لكن ماذا عنه هو؟!!
لماذا يبدو وكأنه هو الآخر كان مجبوراً مثلها؟!!
بينما زفر هو بضيق وهو يحاول تمالك انفعاله …
ثم عاد يدلف إلى داخل الغرفة مغلقاً شرفتها بعنف لتتبعه هي صاغرة وقد عجزت عن فهم ما يجري…
لكنها حاولت تبديد هذا الجو من التوتر الذي ساد بينهما …
فاقتربت منه بتردد لتنزع عنه سترته ثم قالت بلهجتها الخانعة:
_هل أعد لك العشاء؟!
التفت نحوها أخيراً بتفحص ووجودها بهذا القرب يشعل حواسه…
فتعلقت عيناه بشفتيها للحظات تأججت فيها نيران جسده…
وبالتحديد عند شامتها- الآسرة- التي بدت وكأنها تدعوه بغنج للاقتراب…
ولم يظن نفسه بقادر على خذلان دعوتها وهي التي كانت هاجسه الشيطاني لليالي مرت…
فغامت عيناه بنظرة داكنة وهو يزدرد ريقه ببطء ليقترب منها أكثر…مع همسه الشارد:
_هل تدلكين كتفي؟!
ابتسمت بخجل لا تدعيه وهي تفك أزرار قميصه بارتباك كان هو أشد ما يكون غفلةً عنه…
وعيناه شاردتان في وادٍ آخر بين خيالات ما عاد يدرك لها صحة من وهم…
لكنه انتفض مكانه بحق وأناملها تعرف طريقها لكتفيه في حركة لم تكن تجيدها سوى امرأة أخرى!!!
امرأة لم تكن حركتها هذه مجرد لمسات بل كانت قطرات خبيرة تعرف كيف تسقي جديب روحه…
امرأة كانت وحدها تجيد العزف على أوتار روحه لينبعث منها اللحن الذي أرادت متى أرادت وكيف أرادت…
امرأة ضيعته…وضيعها…
فتساوت الخسارة عندما نصب الميزان بكفته وكفتها…
نعم…الآن بعد فراقهما كلتاهما خالية!!!
وهنا اخترقت عبارتها الأخيرة ذهنه :
_تزوج امرأة…واعبث بأخرى…جرّب عشرةً ومائةً وألفاً…وأتحداك لو وجدت مثلي…تدري لمَ؟!لأن ترياقي الذى سرى في عروقك قطرة قطرة ويوماً بيوم حد الإدمان سيقتلك اشتياقاً قبل أن تستلذ بخيانة…صورتي ستقف بين عينيك وبين كل النساء…خذها كلمةً مني لن تنساها يوماً!
فتأوه بقوة وهو يبتعد عنها بسرعة ليعطيها ظهره …
وقد تصبب جبينه بعرق غزير مع تمتمة لم تفهمها…
ورغم شعورها بالاضطراب الطبيعي لقربها منه هكذا لأول مرة …
لكن حيرتها وقلقها على وضعها -وعلى ابنها – قبلها غلبا خجلها!!!
فعاودت الاقتراب منه من جديد لتغمغم بارتباك شديد:
_ماذا حدث؟!هل أخطأت بشئ؟!!
بل أخطأت أنا..
تهور وعناد واندفاع ورغبة متخبطة في إثبات شئ ما لم أعد أعرفه…
كل هذا دفعني إلى هنا كغرٍ أحمق!!!
لأجدني قد ضللت طريقي في عرض البحر دونما دليل!!!
نعم…بالضبط!!!
هذا هو ما كان يشعر به الآن في متاهة أحاسيسه الغريبة التي أطفأت -للعجب- نيران رغبته المتأججة ب-الفاتنة- ليعاود عقد أزرار قميصه بأنامل مرتجفة…
قبل أن ينظر إليها بعينين زائغتين أثارتا ارتباكها وخوفها أكثر…
لكنه أراحها من كل هذا عندما اندفع بسرعة خارجاً من الغرفة بل…
من الشقة كلها!!!
لم يدرِ كم مر عليه من الوقت هائماً في الطرقات على قدميه أسيراً لأفكاره….
لكن صوت الآذان القريب استوقفه لينتبه أنها الخامسة فجراً!!!
فتنهد بحرارة ثم استغفر الله بصوت مسموع قبل أن يأخذ طريقه إلى المسجد…
أدى الصلاة بعقل غائب وهو يجاهد شيطانه في استحضار خشوعه…
حتى انتهى ليجلس مكانه متربعاً على الأرض وقد أسند جبهته على أنامله المتشابكة في صورة نابضة بالضياع…
لم يدرِ كم ظل على حاله لكنه انتبه من شروده على تربيتة على كتفه مع صوت حنون:
_ماذا بك يا ابني؟!!ادعُ ربك يكشف همك…وأنت تبدو على قدر كبير من الصلاح!
رفع عينيه الدامعتين لصاحب الصوت والذي كان إمام المسجد الذي أمّهم في الصلاة …
ثم غمغم بصوت متعَب:
_لا تجعل المظاهر تخدعك يا شيخ!!أنا أشعر الآن أنني أشقى عباد الله وأعظمهم معصية!!
ابتسم الرجل بحنان وهو يقول بحكمة:
_الشقي من لا يدرك حجم خطاياه …وأنت على ما يبدو تدركها جيداً…الله سبحانه وتعالى أقسم بالنفس اللوامة…فاحمد الله على بصيرة لازالت تنير دربك واستعجل التوبة مادمت تعرف الذنب.
تأوه عبد الله بصوت مسموع ثم همس بعجز:
_لم يعد يفيد الندم…لقد عوقبت بالحرمان على نعمة لم أؤدّ حق شكرها…شيطان نفسي غلبني حتى خسرتها.
عقد الشيخ حاجبيه بتأثر ثم عاود تربيته على كتفه قائلاً:
_ما هي حكايتك يا ابني؟!
تنهد عبد الله بحرارة ثم شرد ببصره قائلاً برجاء مشوب بالندم:
_سأحكي لك يا شيخ…لعل الله أرسلك إليّ في هذه اللحظة بالذات كي تريح قلبي.
قالها ثم مضى يحكي له تفاصيل قصته وكأنه فقط يسمح لنفسه بإلقاء الوزر عن كاهله…
حتى انتهى من روايته بقوله:
_يشهد ربي أنني كنت أقاوم شيطاني بكل ما أوتيت من قوة…لكنني أشعر أن علتي فيّ أنا…زوجتي الأولى لم تكن تكفيني…كنت أبحث فيها عن طيف ما يكمل نقصاً بداخلي…ولما وجدت هذا الطيف في زوجتي الثانية وجدتني عاجزاً حتى عن لمسها…
ثم استغفر الله بصوت مسموع قبل أن يهز رأسه ليردف بالمزيد من الندم:
_عنادي واندفاعي وعجزي…كل هذا دفعني لهذه الزيجةالثانية…والآن أشعر أنني غريب في وسط الطريق…أنا لا أعلم ماذا بي…لا…بل أعلم…أعلم…هو عقاب ربي على جحودي.
تهدج صوته في عبارته الأخيرة فاضحاً حسرته …
فتنهد الشيخ قبل أن يومئ برأسه قائلاً بحزم رفيق:
_علّتك يا ابني لم تكن في جحودك…فالجاحد لا يرى أثر النعمة…وأنت كنت تراها لكنها لم تكن تكفيك…علتك الحقيقية كانت في عدم الرضا…وعدم المصارحة….أنت أردت امرأة كاملة ونسيت أن الكمال لله وحده…وتكتمت على بركان غضبك في نفسك حتى ثار وابتلعتك حممه…ربما لو كنت أكثر صراحةً مع زوجتك الأولى لما وصلتما لهذه النهاية…
ثم صمت لحظة ليردف بأسف:
_لقد سبق السيف العزل كما يقولون…لم يبقَ لك سوى زوجتك الثانية…استفد من أخطاء ماضيك…لا تظلمها هي الأخرى وارضَ بما قسمه الله لك.
أغمض عبد الله عينيه بألم وهو يومئ برأسه في استسلام…
ثم قام واقفاً ليشكر الشيخ بكلمات مقتضبة …
عندما وقف الشيخ بدوره ليصافحه بابتسامة بشوش:
_لا تتعجل…لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً!!!
وكأنما منحته كلمات الرجل بعض السكينة فانتقلت ابتسامته البشوش إليه…
قبل أن يغادر المسجد بخطوات متثاقلة…
ثم عاد إلى منزله ليجدها تنتظره في غرفتهما…
وفي عينيها ألف سؤال!!!!
ألقى السلام بفتور وهو يغلق الباب خلفه …
ثم بدأ في خلع ملابسه عندما تقدمت هي منه …
وقد منحها قلقها جرأة أكبر لتمد كفها نحوه هامسة بحذر:
_أساعدك؟!
لكنه تراجع عنها دون وعي وقد انفرجت شفتاه عن حديث لم يبُح به لسانه وإن فضحته عيناه باقتدار…
فعادت تبتعد عنه خطوة لتفاجئه بابتسامة شاحبة مع همسها بإدراك:
_أنا فهمت!
زفر زفرة مشتعلة وهو يعطيها ظهره مع قوله الذي خرج مشبعاً بتعبه :
_ماذا تقصدين؟!
تجرأت لتتقدم نحوه من جديد مقابلةً إياه بوجهها مع همسها المشفق:
_قلبك لا يطاوعك أن تخونها.
أغمض عينيه بعمق شعوره بالضياع الآن…
ماذا يريد؟!!
هو ما عاد يعرف ماذا يريد!!!!
ليته كان حقاً بهذه المثالية التي تظنها…
لكنه يبدو كجسد معلق في أنشوطة يتأرجح بين نار الوفاء وجحيم الخيانة…
كلاهما قاتل…!!!
ليهمس أخيراً بخفوت وكأنه فقط يحدث نفسه:
_أخونها؟!!وماذا بقي بيننا كي أخون أو لا أخون؟!!هي حُرمت عليّ للأبد…وأنا…
قطع عبارته بأسف وهو يرفع رأسه لأعلى دون أن يجد ما يكملها….
فعادت هي تسأله بإدراك :
_أنت تشعر أنك تورطت في هذه الزيجة؟!!
مسد جبينه بأنامله دون رد …فتنهدت هي أخيراً لتقول بحزن:
_حسناً…مادمت لا تريد إخباري بسبب زواجك مني فسأخبرك أنا بسبب قبولي .
عاد ببصره إليها في نظرة متسائلة لتقول هي بلهجة ذات مغزى وكأنها تمنحه الحل:
_الستر…الستر فقط يا شيخ!!!
انعقد حاجباه بتفحص وهو يتأمل ملامحها بتمعن عندما أردفت هي بصوت متهدج:
_لو كان الأمر بيدي لما خنت سيدتي صفا أبداً…لو كنت أملك حق الاختيار لرفضت أن أشاركها رجلاً لا أظنه سيعشق سواها.
عادت ملامحه تشتعل بغضب ممزوج بألمه لكنها غمغمت برفق:
_لا أريد معرفة تفاصيل ولن أسألك عما لا تريد البوح به…لكن فقط عدني ألا تتخلى عني وعن محمد.
ثم ضمت ملابسها عليها بحركة ذات مغزى لتردف بخفوت :
_أما عن زواجنا فلن أحرمك حقك لكنني …لكنني…أظنك زاهد فيه…
ثم همست أخيراً بحسم وكأنها تأخذ القرار لهما معاً:
_مثلي تماماً…والسبب واحد!
قالتها ثم غادرت الغرفة بخطوات سريعة وكأنها لا تحتاج لرد…
وعلى الفراش استلقى هو وحيداً لتراوده أحلامه المشعثة بذكرياته القديمة معها…
أحلامه التي كانت بطلتها “فتون” يوماً …
والآن يجدها هي بطلتها…
نعم…صفا…!!!
وبين حقيقة وخيال دمعت عيناه مع همس بلهب الندم:
_لم أخن يا “صفا روحي”…لم أخن!!!
ليغمض عينيه بعدها على صورتها مع تمتمته:
_هل أعرف الراحة بعدكِ يوماً؟!!
وعندها أراحه عقله من هذه الدوامة التي يدور فيها بلا انقطاع عندما استسلم للنوم أخيراً…
وآخر ما علق بذهنه من كلمات الشيخ …
_ارضَ بما قسمه الله لك.
نعم…دون الرضا تهلك عرائس النعم وتضل خطى الأقدام…
فأي ضياع تحياه يا عبد الله…
أي ضياع!!!
بدأ مسلسل الحصاد بالخسران لمن غرّه حِلم “العظيم”…
فلما نسوا ما ذُكّروا به فتح عليهم أبواب كل شئ …حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذهم بغتة…
فإذا هم مبلسون!!!
نعم…صدق الله وعده وحقت كلمته على الظالمين…
وانغمست كلمات النهاية بالندم الذي فقد قيمته…
عندما هوى القلب المشبع بأطماعه من أعلى قمم طموحه …
فما أقسى السقوط وما أشنع العاقبة!!
وقفت تراقب الجسد المسجى أمامها على الفراش بالمشفى بأسى حقيقي غلب طول حقدها عليه….
لتدمع عيناها وهي تلتفت نحو فهد هامسة:
_لا أصدق ما حدث!!!
وبينما كانت عيناه دامعتين هو الآخر لكنه تمالك نفسه ليهمس بشرود:
_لا أحد يصدق…يقولون أنه كان في قمة سعادته عندما تلقى خبراً مؤكداً بمنصبه الجديد كرئيس للمجلس…وبعدها بساعات سمع أحد الخدم صوت استغاثته في غرفة نومه…فاستدعى الإسعاف بسرعة.
ضغطت شفتيها بقوة لتكتم دموعها ثم أسندت جبينها على كتفه لتهمس بارتياع:
_أنا أعلم جيداً عن هذا المرض يا فهد…سيتعذب كثيراً .
ضمها إليه برفق وهو لا يدري ماذا يقول…
المفاجأة كانت صادمةً للجميع …
لم يتخيل أحد أن جاسم الصاوي الذي كان يتمتع بقدر وافر من الصحة والعافية قد يصاب بهذا المرض النادر!!!
ومتى؟!!
في عز فرحته بتمام سطوته!!!
لقد كسب “كرسي المجلس” وخسر “كل شئ آخر”!!!
صحته وسعادته وولديه…..وقبل كل هذا نفسه!!!
ورغم أن فهد كان ناقماً عليه بما ظن أنه لن يُمحى بينهما أبداً…
لكنه لم يستطع منع أساه على مصابه بأي حال!!!
انقطعت أفكاره عندما فتح جاسم عينيه أخيراً ليدور بهما حوله قبل أن تستقرا عليهما…
ليهمس بخفوت لم يدارِ خوفه:
_ماذا حدث؟!
تبادلت ماسة مع فهد نظراتٍ مفعمة بالمشاعر قبل أن يقول الأخير ببعض الرفق:
_لا شئ يا أبي…مجرد نوبة اغماء عادية.
لكن جاسم ابتسم ابتسامة شاحبة ناسبت قوله الساخر:
_عادية؟!!
ثم غلبته آهة ألم قوية سبقت همسه بإدراك:
_أنا أعلم أنها النهاية.
تشبثت ماسة بكف فهد أكثر وهي عاجزة عن قول أي شئ ولو من باب المجاملة…
لسانها انعقد في حلقها وسط فوضى مشاعرها الآن…
هل تدعي أنها تشعر الآن نحوه بأي عاطفة؟!!
هل تكذب زاعمةً أنها تكن له من المشاعر مثقال ذرة مما حملته نحو عاصي ورحمة وفهد أو حتى عزيز؟!!
هل ترتقي الشفقة لمقام الحب يوماً؟!!
لا…لا…وألف لا!!!!
من قال أن المشاعر تولد بداخلنا دونما سبب؟!!
الأحاسيس قرينة المواقف…متى اسودت الثانية أظلمت الأولى!!!
وهو لم يترك لها يوماً إلا السواد!!!
لكنه بدا وكأنه قد قرأ أفكارها عندما التصقت نظراته بها للحظات…
قبل أن يهمس بصوت ضعيف:
_اقتربي يا ماسة…أريد الحديث معكِ وحدنا.
نظرت ماسة إلى فهد بحيرة وكأنما ترجوه ألا يتركها وحدها معه…
لكنه ارتاح لأن يفعل…
ربما ل”أملٍ ما” نبت في صدره أن تكون ماسة هي طوق النجاة الأخير لوالده…
خاصةً بعد مصابه الأخير!!!
نعم…جاسم الصاوي فقد “ابنه” بعد فعلته التي لا تغتفر ب”زوجته”!!!
دم جنة سيبقى بينهما للأبد…
لكن ماسة…لا يزال لديها معه البقية من أمل!!!
لهذا ربت على كتف ماسة مشجعاً قبل أن يقول بحزم:
_سأنتظر بالخارج لدقائق.
قالها ثم غادر الغرفة بعدما منح ماسة نظرة حنون أخيرة…
فأغمضت عينيها بقوة للحظات قبل أن تتقدم لتجلس على الكرسي جوار فراشه هامسةً دون أن تنظر إليه:
_حمداً لله على سلامتك.
_انظري إليّ يا ابنتي.
وليته لم ينطقها!!!
وكأنه هيج بها جروحها القديمة كلها …
أشعل بها الحرائق التي طالما دمرت وديان سعادتها…
لتجد نفسها تنسى الزمان والمكان وتتذكر فقط ما أصابها بسببه…
فتهتف بانفعال جرف في تياره ما استجد من شفقتها:
_ابنتك؟!! بأي أمارة؟!!
أشاح بوجهه في ألم فضحته قسماته لكنها لم تكن ترى سوي جرحها هي…
جرح سنوات جعلها تردف بعتاب قاسٍ:
_كل ما أصابني في حياتي كنت أنت السبب فيه…كل ذرة ألم تغلغلت بروحي كنت أنت مصدرها…لو كان قلبي يعرف الكراهية لكنت أنت الأحق بالمركز الأول.
أطلق آهة ألم أخرى لم يدرِ هل كانت حقيقية من جسد ضج بوجعه…
أم من قلبٍ فاض بسواد إثمه؟!!
لكن دموعها التي سالت على وجنتيها الآن ناقضت همسها القاسي:
_إياك أن تعود لضميرك…إياك أن تعتذر وتطلب مني السماح…إياك أن تفعلها الآن…ارحل من حياتي كما دخلتها …مجرد طاغية بلا قلب …لا أريد ندمك ولا أبوتك…لا أريد أن أحزن عليك …لا أريد.
انتهت كلماتها بنشيج مرتفع وهي تدفن وجهها بين راحتيها …
فدمعت عيناه بعجز وهو يهمس بألم:
_لا تخافي…حتى لو أردت…مضى عهد الندم…ليس في طريقي رجوع.
وكأنما لدغتها عبارته كأفعى لتهب من مقعدها هاتفة بثورة:
_أنت تتحدث مثله…كلاكما نسخة واحدة…أنت وعاصي الرفاعي لعنة حياتي التي سأكسرها مهما كان الثمن!!!
رمقها بنظرة طويلة أذابت قسوتها شيئاً فشيئاً ….
حتى لانت نظراتها أخيراً مع همسه ب”حمية “أبوية مست قلبها بصدقها رغم كل شئ:
_هل آذاكِ ذاك الرجل؟!!كلمة واحدة مني تلقيه خلف حدود الشمس!
آهةٌ طويلة منها شقت صدرها …وصدره!!!
كيف يمكنها وصف شعورها في هذه اللحظة؟!!
كل ثوابتها انهارت فما عادت تجد تحت قدميها أرضاً تستند عليها!!!
هل من المفترض أن تسعد الآن وهو يعرض عليها “رداء” أبوة قديم حال لونه وتهلهل برُقَعه؟!!
أم تلقيه في وجهه لتقف وحدها وسط رياح برد تنخر عظمها ؟!!
هل تشكره على حمية غيرة تأخرت كثيراً؟!!
أم تعترف لنفسها -قبله – أن نخوته هذه قد انتهى تاريخ صلاحيتها؟!!
هل تشكو من عاصي إليه؟!!
عاصي الذي احتل عشقه حصون “الأب “و”الأخ “و”الصديق “قبل أن ترتفع رايته وحدها على قلعة “الحبيب”؟!!
عاصي الذي كانت تلقي على صدره خبايا روحها التي لم يعرفها سواه!!!!!
فهل تجئ اللحظة التي تشكو هي منه ….لغيره؟!!
والإجابة جاءتها قاطعة من قلب لازال مكبلاً بأغلاله!!!
لا…عاصي لا تجوز الشكوى منه إلا له!!!
هو -الشمس -مهما أحرقنا لهيبها ننتظرها في كل يوم لأننا نعلم أن غيابها يعني النهاية!!!
لهذا مسحت دموعها أخيراً برفق لتهمس ببعض الرفق:
_تأخرتَ كثيراً يا سيد جاسم…لا تقلق بشأني… أنا بخير.
ثم عادت تجلس أمامه لتقول بصلابة حاولت بها مداراة شفقتها نحوه:
_لن أضايقك بوجودي بعد فأنت تحتاج للراحة…لكن هل فكرتَ فيما أبلغك به فهد بشأني؟!!
ازدرد ريقه الجاف بصعوبة ثم سألها بترقب:
_أين تريدين السفر؟!
_الإمارات!
قالتها باقتضاب رافق شحوب وجهه مع سؤاله بضيق لم تعرف سببه:
_ولماذا “الإمارات” بالذات؟!!ألا تختارين بلداً آخر؟!
فابتسمت ساخرة مع قولها بفتور:
_حكم الظروف.
لم تكد تتم عبارتها حتى سمعت جلبةً شديدة بالخارج…
قبل أن يدخل فهد بسرعة مغلقاً الباب خلفه مع قوله بضيق:
_الصحافة والإعلام لا يريدان تفويت هذا الخبر…والأمن بالخارج يحاول منعهم دون جدوى.
ظهر القلق في عيني جاسم اللتين خبا بريقهما المسيطر ليحل محله شحوب منهَك…
فتقدم منه فهد ليقول بحزم:
_أظنها اللحظة المناسبة …صحح هذا الخطأ الذي أحرق صدرك لسنوات…هي خطوةٌ واحدة…أفتح معها باب الغرفة لتعترف للجميع بابنتك.
ظهر التردد في عيني جاسم وهو يدور ببصره في الغرفة حوله…
لتنكسر نظراته مع هذا الألم الذي كان يكتسح جسده بلا رحمة ….
وشبح الموت القريب يخنق أنفاسه برائحة الخسارة…!!!
لكن صوتاً بداخله عاد يصدح بقوة كعادته…
جاسم الصاوي لن ينهزم!!
لن يكسره مرضٌ ولن يغلبه عجز!!!
هي مجرد كبوة للجواد سيعود بعدها سريعاً لجموح انطلاقه!!!
وبهذا الخاطر الأخير عادت عيناه تتوهجان ببريق قوتها مع التفاتته نحو فهد بقوله:
_سأطلب طائرة خاصة لنقلي للعلاج بلندن…لن أعترف بتخريف الأطباء هنا.
ثم عاد يلتفت نحو ماسة مردفاً بنبرة قاطعة:
_اذهبي مع أخيكِ الآن حتى لا يتساءل أحد عن هويتك…وعقب عودتي من لندن سأتدبر الأمر مع محاميّ بسرية كما اتفقنا شريطة أن تسافري بعدها من هنا.
اشتعلت ملامح فهد بغضب أسود وقد انفرجت شفتاه ليهمّ بالانفجار فيه…
لكن ماسة ابتلعت انفعالها بصمود كعادتها وهي تحتضن ذراعه بساعديها لتبعده وتبتعد معه مع قولها الحاسم:
_هيا بنا يا فهد…انتهى الكلام!
===================
_وهذه هديتي ل”ست البنات”!!
قالها عبد الله بحنان وهو يناولها ما بيده فتبادلت نظرة متسائلة مع راغب…
عندما أردف عبد الله بابتسامة واسعة:
_لقد حجزت لكما في فندق مميز ب”شرم الشيخ”…رحلة قصيرة تحتاجينها كي تعوضي الفترة الصعبة السابقة.
ضحكت رؤى بسعادة خالصة وهي تهتف بامتنان:
_شكراً يا عبد الله.
ثم رفعت عينيها إلى راغب لتسأله بتردد:
_لكن عملك…هل..؟!
ربت راغب على كتفها مقاطعاً ليقول برفق:
_فِداكِ !!!ما دمتِ ترغبين في ذلك!
نقل عبد الله بصره بينهما بتفحص وقد اطمأن قلبه نوعاً من نظراتهما العامرة بالعاطفة…
بينما استأذن منهما راغب للرد على هاتفه فوجدها عبد الله فرصة مناسبة ليسألها باهتمام:
_أنتِ سعيدة حقاً يا رؤى؟!ألا ينقصكِ شئٌ هنا؟!
هزت رؤى رأسها نفياً وهي ترمقه بحنان…
منذ ذاك الحادث وقد تغير عبد الله معها كثيراً…
لا يكاد يمر يومٌ دون أن يزورها ليطمئن عليها…
حقاً…رب ضارة نافعة!!!
وكأن الأقدار التي حرمتها حنان الأخ والحبيب عادت لترد لها كل هذا أضعافاً مضاعفة…
لهذا تنهدت أخيراً بارتياح لتقول بصدق:
_اطمئن يا أخي…لم أكن يوماً أسعد حالاً مني الآن.
أومأ برأسه وهو يربت على كفها ليقول بارتياح:
_الحمد لله…أدامها الله عليكِ نعمة لا تزول.
تبدلت نظراتها المطمئنة لأخرى مشفقة وهي تلاحظ نحول جسده وشحوب وجهه الذي لم تخفه ابتسامته …
لتسأله بتعاطف:
_وأنت كيف حالك مع زوجتك؟!
وكأن كلماتها هيجت جروحه من جديد…فأشاح بوجهه للحظات دون رد…
عندما تنهدت هي بحرارة لتسأله بحنان لا يخلو من عتاب:
_طاوعتك نفسك أن تتزوج بعد صفا؟!!وممن؟!!خادمتها؟!
التفت نحوها بحدة وقد غلبه طبعه -الانفعاليّ- ليهتف باستنكار:
_رؤى!!منذ متى تتدخلين في شئوني؟!
وبرغم لهجته العنيفة لكنها لم تغضب ولم تخفْ كعادتها…
بل اقتربت منه أكثر لتربت على كتفه قائلة بحنان مصطبغ بقوتها -الجديدة-:
_منذ أصبحنا إخوة ب-حق -لا على الورق.
لانت نظراته نوعاً وقد مست كلماتها قلبه عندما استطردت هي بنبرة أكثر حناناً:
_منذ عدت أخي الذي يسند ظهري …يده في يدي لا تفارقها…و عيناه تفهمان نظراتي قبل كلامي،وحقك عليّ الآن أن أشاركك همك.
دمعت عيناه بتأثر لم ينكره فأغمضهما للحظات…
قبل أن يفتحهما من جديد مغمغماً بابتسامة شاحبة:
_كبرتِ يا صغيرة!
تفحصته ببصرها بقلق وقد شعرت بأن حملاً ثقيلاً يكاد ينقض ظهره…
فرفعت كفه إلى شفتيها تقبله باحترام مع همسها الموقر:
_لو كبرت على الدنيا كلها فلن أكبر عليك يا شيخ.
اتسعت ابتسامته وهو يرمقها بتشتت للحظات…
قبل أن يسألها بحذر:
_هل تهاتفينها؟!
هزت رأسها وهي تدرك من يقصدها بالسؤال لتجيبه بأسف:
_نعم…في البداية كانت لا ترد على اتصالاتي…لكنها صارت تفعل.
توهجت عيناه بعاطفة أشرق لها وجهه كله مع سؤاله بلهفة:
_هي بخير؟!
ترددت للحظات في إخباره بما تحسه….
قبل أن تحسم أمرها لتشاركه حيرتها بقولها:
_صفا تبدو وكأنها اختُطفت منا لتعود واحدة أخرى…لقد تحولت شخصيتها مائةً وثمانين درجة…لهجتها…اهتماماتها…مظهرها…لم أعرفها يوم التقيتها في الطريق…ساعتها ظننتها امرأة شبيهة!
ازدرد ريقه بتوتر وهو يطرق برأسه قبل أن يهمس بلهجة غريبة:
_أنا السبب!!
كانت عبارته للجواب أقرب منها للسؤال…
لكنها ردت بتعقل:
_لست وحدك يا أخي…كلاكما شدّ الحبل بأقصى قوته في عكس الاتجاه حتى انقطع فسقطتما معاً.
زفر زفرة مشتعلة قبل أن يرفع وجهه إليها أخيراً ليقول باستسلام النادم:
_نعم…كلانا صنع من عيوب صاحبه خنجراً أخفاه خلف ظهره…حتى إذا ما اختلفنا طعنّا بها صدورنا بلا رحمة.
دمعت عيناها بحزن حقيقي وهي ترى بؤس حاله…
لقد كانت تعتب عليه ظناً منها أنه نسي صفا مع غيرها…
لكن هيئته توحي لها بالعكس…ويحق له هذا وأكثر!!!
صفا لم تكن مجرد زوجة …صفا كانت له -ولها قبله- أماً وصديقة وعائلة…ووطناً!!!
لهذا كان قلبها يكاد ينفطر على حالهما وبالذات هو…
ليس فقط لأنه أخوها…
بل لأنها تشعر أنه -رغم زواجه- هو النادم الأكبر…
بينما صفا لم تزدها مصيبتها إلا تجبراً وعناداً…
تعدو بكل قوتها لكن في الطريق الخطأ!!!
لهذا مسحت دمعتها الخائنة بسرعة وهي تضغط على شفتها السفلى …
وقد سولت لها نفسها الكذب عليه لعلها تمنحه بعض السلوى…
كذبة “بيضاء” في ظنها جَمّلها لسانها بقولها:
_لا أظنها حاقدة عليك…هي تسألني عليك دوماً لتطمئن.
و-بعكس توقعها- شحبت ملامح وجهه أكثر مع انعقاد جبينه بألم كسا ملامحه…
قبل أن يقوم من مكانه ليقول لها بشرود:
_لو سألتكِ عني ثانية …قولي لها أنها كانت “صفا” روحي…ولن تصفو لي بعدها حياة.
وقفت بدورها وقد وخزت عبارته قلبها لتهمّ بالرد…
عندما قطع راغب حديثهما بدخوله مع قوله بنبرة اعتذار:
_عفواً يا شيخ…مكالمة عمل هامة.
همهم عبد الله بعبارة تفهّم مقتضبة قبل أن يربت على وجنة رؤى وهو يقبل جبينها قائلاً بحنان:
_اعتني بنفسك يا “ست البنات”…سأزوركِ غداً في نفس الموعد.
أومأت برأسها في تعاطف صامت وهي تراقب مغادرته مع راغب الذي أوصله حتى باب المنزل…
قبل أن يعود إليها بخطوات سريعة ليجذبها نحوه بعنف جعلها تشهق مع همسها :
_راغب…ماذا…
انقطعت عبارتها عندما حطت شفتاه على جبينها بعمق مرة تلو مرة تلو مرة…
قبل أن تطوفا بتمهل على وجهها كله مع همسه العاشق:
_لا أريد أن تتذكر بشرتك إلا ملمس شفتيّ أنا…أنا فقط.
ابتسمت بعاطفة اكتسحتها بعنف وهي تدفعه برفق مع همسها المستنكر:
_تغار من أخي؟!
لامس شفتيها بهيام يليق بغرامه قبل أن يهمس بجدية :
_ومن تراب الأرض لو لامس قدميكِ!
اتسعت ابتسامتها وهي تلقي برأسها على صدره لتهمس بسعادة صبغت صوتها بلون الحب:
_كل هذا كثير على قلبي…أنا أشعر وكأنني أحلم.
فابتسم وهو يضمها إليه أكثر مع همسه بمكر في أذنها:
_هل أقرصكِ كي تتأكدي أنها حقيقة؟!
ضحكت بخجل وهي تدفن وجهها في صدره أكثر…
قبل أن ترفع إليه رأسها لتقول ببراءتها المهلكة:
_لم أكن أظنك …هكذا!!
وكأنما أوقدت ضحكتها آلاف القناديل في روحه التي طالما أظلمت باشتياقها …
ليضحك بدوره وهو يميل رأسه ليسألها بنفس النبرة الماكرة:
_ماذا تعنين ب”هكذا”؟!
احمرت وجنتاها أكثر وهي ترفع كفيها لتغطي بهما وجهها الذي شعرت بسخونته مع همستها بارتباك :
_هكذا…جرئ…هكذا!
ضحك بانطلاق وهو يرفع كفيها من على وجنتيها المحمرتين ليتأمل ملامحها بوَله …
ثم هز رأسه ليهمس بنبرة دافئة:
_أنا أيضاً لم أكن أظنك “هكذا”!!
ارتفع حاجباها بدهشة مع نظرة متسائلة…
فدار بأنامله على ملامحها بتبتلٍ عاشق يليق بهمسه:
_تسرقين القلب بسكناتك قبل حركاتك…كل ما فيكِ مهما كان بسيطاً يتلقاه قلبي كمعجزة لن تتكرر ولا بعد ألف عام…لمعة عينيكِ…رفرفة رموشك…احمرار وجنتيكِ …ضحكتكِ التي تمزج براءة الطفولة بفتنة الغواية…شق ذقنكِ الذي يبدو كنجم لامعٍ تحت شفتين بدفء الشمس وسحر القمر.
أسبلت جفنيها وهي تهمس بخفوت شديد:
_راغب…توقف!
قالتها بلهجة غريبة ظاهرها يرجوه السكوت وباطنها يتوسله المزيد…!
ولم يكن هو بالغافل عن نداءاتها ولو كانت صامتة…
لهذا استمر على حركته مردفاً بنفس النبرة الذائبة بإحساسها:
_كل يوم أقسم لنفسي أنه من المستحيل أن أحبك أكثر…فأجدني مع كل يوم أحنث بقسمي…لو كان الحب رزقاً كما يزعمون…فكم فاض عليّ القدر بأرزاقه!!!
فتحت عينيها ببطء لتسبح فوق غمام الحب الذي علا فضاء عينيه…
عندما اقترب بوجهه منها لتكمل شفتاه حديثاً ستغبنه الكلمات حقه…
فغرقت معه في فيض عاطفته للحظات…
قبل أن يقطع سحر المشهد رنات هاتفه اللحوحة التي صدحت مراراً…
فزفر بقوة وهو يبتعد عنها قسراً ليتناوله وفي نيته إغلاقه…
لكن اسم المتصل جعله يتراجع عن قراره خاصةً مع همسها هي بحزنٍ لم تستطع إخفاءه:
_إنها عزة…من المفترض أن تبيت معها هذه الليلة.
أخذ نفساً عميقاً وهو يرفع رأسه لأعلى متمالكاً مشاعره…
قبل أن يفتح الاتصال ليقول بنبرة محايدة:
_أهلاً عزة…
ثم صمت لحظات يستمع إليها باهتمام قبل أن يعقد حاجبيه قائلاً بتفهم:
_حسناً…لقد فهمت…أنا كنت سأصعد إليكِ الليلة على أي حال.
قالها ثم أغلق الاتصال لتسأله رؤى بقلق:
_ماذا هناك؟!
التفت نحوها ليربت على وجنتها برفق مع قوله :
_لا شئ…عزة تقول أن هيام بدأت تنتبه لبرود علاقتي مع عزة…لقد حادثتها مباشرةً في هذا الشأن صباح اليوم …وعزة تخشى أن ينكشف الأمر.
ورغم ما كان يجيش بصدرها من انفعالات لكنها ربتت على كتفه لتقول بتعقل حولت به منع طوفان مشاعرها:
_معها حق…هيام لن يفوتها شئ كهذا…وأول ما ستفكر فيه أنني أحاول إفساد الأمر على شقيقتها وربما تعود لسابق معاملتها السيئة لي.
ثم صمتت لحظة لتردف بنبرة أكثر قلقاً:
_كما أننا إلى الآن لا نعلم ما الذي سمعته عزة من حوارنا بالضبط بالمشفى ليلتها…وأخاف أن …
وضع أنامله على شفتيها مقاطعاً بحزم:
_لا أريد أن أسمع منكِ كلمة “أخاف” هذه مرة أخرى.
ثم زفر بقوة ليردف بنفس الحزم:
_نحن سنمضي فيما اتفقنا عليه بصرف النظر عن أسبابنا…من حق عزة علينا أن نحفظ لها كرامتها أمام شقيقتها فلا تظهر وكأنها منبوذة من زوجها خاصةً وهي لا تطالب بشئ من حقوقها….صحيح؟!
ورغم أن حديثه كان شديد الحيادية ومنطقياً إلى حد كبير لكنها شعرت بالغيرة تنهش قلبها رغماً عنها …
فأشاحت بوجهها وهي تبتلع غصة حلقها مع همسها المختنق:
_معك حق.
احتضن وجنتها براحته ليقرب وجهها نحوه من جديد هامساً بحنان لم يغادره حزمه:
_أنا أقدر شعوركِ جيداً…لكن ألم نتفق على الصبر ؟!
أومأت برأسها دون رد فابتسم مداعباً “شق ذقنها” بإبهامه هامساً:
_ابتسمي إذن.
خفضت بصرها عنه لتخفي مشاعرها فعاد يهمس في أذنها مشاكساً:
_تبتسمين من تلقاء نفسك أم أدغدغكِ أنا حتى يصل صوت ضحكاتك ل”الحاجة” بالأسفل كالمرة السابقة؟!
ابتسمت رغماً عنها وهي تتذكر ما يحكي عنه وخجلها تلك الليلة من تصريح والدته بهذا …
لتهمس وهي تعاود رفع عينيها إليه :
_حسناً..ها قد ابتسمت…يمكنك الذهاب الآن.
لكنه عاد يجذبها نحوه من جديد ليهمس بين شفتيها بعاطفة حارة:
_ليس قبل أن نكمل حديثنا الذي قطعه الهاتف…لازال في قلبي الكثير!
==============
أنهت آخر محاضراتها لتجمع أشياءها بلهفة كي تغادر الجامعة…
هبطت الدرج بخطوات سريعة وابتسامتها التلقائية تزين شفتيها مع ذكرياتها حول الأيام القليلة السابقة التي قضتها معه في “شرم الشيخ”…
أيامٌ بدت لها وكأنها اقتطفتها من الجنة …
هي و هو وثالثهما الحب!!!
بلا شوائب من ماضٍ ولا خوف من حاضر ولا قلق من مستقبل…
عبد الله كان محقاً في حاجتها لهذه الإجازة…
“شهر عسل” تأخر كثيراً لكن حلاوته كانت تستحق!!!
انقطعت أفكارها عندما استوقفها أحد زملائها قرب باب الخروج ليسألها بتهذيب:
_لقد قرأت اسمك في طلبات الانضمام لدورة “الإسعافات الأولية” التي تنظمها أسرتنا هنا تحت إشراف “الهلال الأحمر”..صحيح؟!
أومأت برأسها إيجاباً وهي تقول بتحفظ:
_نعم…كان هذا منذ فترة لكنني تراجعت عن الأمر عندما علمت أنه سيتطلب الخروج من الجامعة وظروفي…
قطعت عبارتها فجأة عندما رأته أمامها!!!
يتقدم نحوهما بنظرات جامدة جعلت قلبها يسقط بين قدميها…
حتى صار أمامهما تماماً فشحب وجهها وهي تتذكر ما حدث منه يوماً في موقف مشابه…!
انفرجت شفتاها وهي تهمّ بالشرح لكن لسانها بدا وكأنه قد انعقد بخوفها الذي عاد يحتل كيانها من جديد….
لكن راغب نقل بصره بينهما بجمود مع قوله :
_ما الأمر؟!أنا زوجها!
التفت نحوه الشاب بابتسامة مهذبة قبل أن يمد له يده مصافحاً ليقول بهدوء:
_تشرفت بك ..
ثم أشار لرؤى مردفاً باهتمام:
_كانت قد طلبت الانضمام لدورة “الإسعافات الأولية” لكنها ترددت عندما علمت أن الأمر سيتطلب بعض الأنشطة الخارجية .
عاد راغب ببصره نحو رؤى التي كانت مطرقةً برأسها وكأنها تنتظر كارثة…
فيما أردف زميلها الذي لم يكن يشعر بكل هذا :
_لكن النتيجة تستحق يا سيدي…لو كان الأمر بيدي لطلبت تعميمها على جميع الطلاب هنا…خبرة الإنسان في هذا المجال قد تكون سبباً في إنقاذ حياة.
صمت راغب للحظة وقد التقطت عيناه ارتجافة جسدها والعرق الذي عاد يتصبب على جبينها كعادتها عندما ترهب شيئاً…
فاقترب منها أكثر ليمسك كفها فيضغطه برفق بكفه مع قوله بنفس الجمود:
_ما رأيك يا رؤى؟!هل تريدينها حقاً؟!
رفعت عينيها إليه بحذر غلفه خوفها وهي تتمنى لو يمنحها نظرة مطمئنة …
لكن نظراته لم تكن أقل جموداً من لهجة حديثه !!!
فاعتصرت قبضة باردة قلبها وهي تشعر بالخوف يكاد يخنق أنفاسها…
ربما هو ليس خوفاً منه هذه المرة…
لكن خوفاً من أن تعود معه لنقطة الصفر…!!!
أن تعود له هواجس شكه وعدم ثقته فيها!!!
وهنا اجتاحتها ذكرى تلك الليلة التي أنقذت فيها عزة من ذاك الوغد…
تلك الليلة التي كانت فاصلاً هاماً في حياتها كلها…
لتستعيد ذاكرتها درجات السلم التي كانت تصعدها ببطء …
وكأنها تدهس بقدميها مع كل درجة هاجساً من هواجسها…
قبل أن يغزو فكرها قَسَمها الذي أقسمته لنفسها تلك الليلة…
ستتشبث بقوتها دوماً…ولن تخاف!!!
هي دفعت فاتورة خطيئتها كاملة…ولن تدفع المزيد!!!
وهنا تلاشت سحب الخوف التي ظللت روحها شيئاً فشيئاً…
حتى استعادت هدوء أنفاسها تدريجياً…
وهي تمسح عرق جبينها بمنديلها في ثقة ناسبت قولها أخيراً وهي تخاطب زميلها:
_سأفكر وأخبرك برأيي غداً.
أومأ زميلها بإشارة موافقة قبل أن يغادرهما بتحية مهذبة…
بينما حافظ راغب على صمته المقلق…
فتنحنحت هي لتقول دون أن تنظر إليه:
_هيا بنا.
ظهر شبح ابتسامة على شفتيه لكنه أخفاه سريعاً وهو يسير جوارها صامتاً حتى وصلا إلى سيارته…
فاختلس نظرة جانبية إليها وهو يركب جوارها لكنها كانت شاخصةً ببصرها في الفراغ أمامها …
ظلا على صمتهما الثقيل طوال الطريق حتى دخلا لبيتهما …
لتندفع هي بسرعة نحو غرفتهما مغلقةً بابها خلفها بعنف!
ظل واقفاً مكانه للحظات وكأن شيئاً ما يشغل تفكيره…
قبل أن يتقدم بدوره ليفتح الغرفة ويدخل فوجدها جالسةً بكامل ملابسها على طرف الفراش لم تحاول حتى رفع عينيها إليه…
جلس جوارها برفق يتفحص ملامحها المنفعلة ثم سألها بنبرة محايدة:
_لماذا لم تبدلي ملابسك بعد؟!
وقفت مكانها لتسير بضع خطوات مبتعدة عنه مع قولها بنبرة مختنقة:
_أنتظر عقابك كيف سيكون هذه المرة…صفعة تتبعها إهانة…؟!!أم تراك تكتفي بطردي لبيت أخي؟!
قبض أنامله جواره بعنف وهو يتلقى عبارتها كسوط حاد على صدره…
قبل أن تردف هي بنفس الانفعال ولازالت تعطيه ظهرها:
_أراهن أنك تراقبني كل يوم في انتظار دليل إدانة…واليوم وجدته عندما رأيتني واقفةً مع ذاك الرجل…صحيح؟!
لم يصلها منه رد…فالتفتت نحوه برأسها لتهتف بحدة غريبة على لهجتها الوديعة:
_لن تنزلق قدمي في هذا البئر من جديد…أنا دفعت ثمناً غالياً كي أكسر تلك الدائرة التي كنا ندور فيها بلا نهاية…ولن أعود بظهري مهما كان الثمن.
كان صدرها يعلو ويهبط في انفعال جارف …..
فاحتضنت جسدها بذراعيها وهي تعود برأسها للأمام…
عندما وقف هو أخيراً ليتوجه نحوها ثم احتضن كتفيها بكفيه ليديرها نحوه قائلاً :
_هل انتهيتِ؟!
ارتجفت شفتاها وكأنها على وشك البكاء مع همسها المنفعل :
_أنا مللت الدفاع عن نفسي في كل موقف شبيه بهذا…مللت الشعور بأنني محل شك وانتقاص…مللت…
قطع حديثها بشفتيه في قبلة عميقة وهو يضمها إليه بقوة حانية…
قبل أن يبعدها برفق ليمسح دموعها المحتجزة بين رموشها هامساً بحنان:
_كنت أنتظر هذا الانفجار…والحمد لله أن انتظاري لم يطُلْ.
رمقته بنظرة حائرة بين ملامحها المنفعلة …فضم رأسها لصدره مردفاً برفق:
_طوال الأيام السابقة وأنا أشعر بخوفكِ وتوجسك من القادم…كنت أقرأه في عينيكِ في كل مرة نخرج فيها معاً…حتى رحلتنا الأخيرة التي كنتِ ترفضين فيها مغادرة غرفة الفندق وكأنك تخشين تواجدنا وسط الناس…لكنني لم أشأ أن أحدثكِ في الأمر …الكلام لم يكن ليكفيكِ مالم يحدث موقفٌ كهذا الذي حدث اليوم.
رفعت عينيها إليه بترقب فمد أنامله ليزيح عنها حجابها برفق …
ثم حرر شعرها من رباطه لينثره بحرية ثائرة حول وجهها…
لتليق طلتها باستطراده الحازم:
_لم أكن أراقبكِ ولم أشكّ لحظة في سلوكك…جئت بالمصادفة لأدعوكِ لتناول الغداء بالخارج …وعندما رأيتكِ واقفةً معه وجدتها فرصة لكلينا كي نتجاوز هذا الحاجز الأخير…
هزت رأسها بلا معنى فاحتضن وجنتيها براحتيه ليهمس باعتزاز:
_أنا فخورٌ بصغيرتي القوية…الآن صارت معتدة بنفسها…لن تسمح لأحد أن يدوس لها على طرف مادامت لا تفعل ما تخجل منه!!
عادت عيناها تمتلئان بالدموع من جديد وهي تتفحص ملامحه وكأنها تتأكد من صدق ما يقول…
ثم أخفت وجهها في صدره ليضمها هو بكل قوته مع همسه بلهجة اعتذار:
_أنا آسف يا رؤى…آسفٌ حقاً على ما مضى…وآسفٌ أكثر لأنني لم أجرؤ على قولها قبل اليوم.
ثم قبل رأسها بعمق مع استطراده:
_كوني هكذا دوماً…قوية حرة ثائرة بحقك …فالخوف لم يُخلق لقلب نقي كقلبك.
رفعت إليه وجهها أخيراً بابتسامة رائقة…
قبل أن تستطيل على أطراف أصابعها لتقبل جبينه بامتنان يليق بهمسها:
_أنتَ الذي بُعثت بغرامه من جديد…كنت قبلك أكره نفسي لكنني معك أحببتها…أحببتها لما رأيت صورتها في عينيك…عمري كله لن يكفيك كي أريكَ أيَّ عاشقةٍ قوية صنعتها يداك.
وهنا اعتصرها بين ذراعيه بقوة عشقه…
وكأنه يريد طيّ هذه الصفحة الأليمة من حياتيهما للأبد…
ما عاد هناك مجالٌ لشك أو ظنون…
بعد كل ما كان بينهما كلاهما يستحق الراحة بعد طول تعب!!!
لهذا أبعدها أخيراً برفق ليربت على ظهرها قبل أن يميل رأسه ليسألها باهتمام:
_لماذا لم تخبريني عن أمر تلك الدورة قبل أن تنضمي إليها؟!
عادت عيناها تتألقان ببريق براءتها مع همسها المشفق:
_أنا آسفة…كان يجب أن أستأذنك أولاً لكنني فعلتها دون تفكير…
ثم عادت تسند جبينها على صدره مع استطرادها :
_فعلتها لأجل أمي…عندما أصابتها نوبتها الأخيرة شعرت بالخوف عليها…وددت لو كان بإمكاني مساعدتها بأي شئ…لهذا لم أفكر عندما رأيت الإعلان عن هذه الدورة…شئٌ عظيم حقاً أن تتمكن من إسعاف شخص يحتاج المساعدة.
ابتسم باعتزاز وهو يقبل رأسها من جديد ليهمس بفخر:
_أعجبتِني يا “ليمونيّة”!!
ضحكت بفرح طفولي وهي تتعلق بذراعيها في عنقه لتهمس بدلال:
_”الليمونيّة” جائعة…فهل أستحق دعوة الغداء التي كنت تنتويها؟!!
هز رأسه نفياً وقد ظهر الرفض على ملامحه…
فانعقد حاجباها بدهشة عندما التمعت عيناه بخبث لذيذ…
وهو يمد أنامله ليحل رباط سترتها هامساً بمكر:
_الطعام سيأتينا حتى هنا…أما الآن..
ثم تثاقلت نبرته مع استطراده بحرارة:
_لدينا حديثٌ أهم!!
=======

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى