روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان البارت التاسع والثلاثون

رواية ماسة وشيطان الجزء التاسع والثلاثون

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة التاسعة والثلاثون

الطيف الثاني
=======
*أحمر*
======
لعبة!
مقامرة!
هكذا قررت أن تكون حياتي !
اشتقت اللعب ! اشتقته يا أمي !
لا ..ليس اللهو الخبيث الذي طالما تدنست به روحي ..إنما ذاك المغامر الشهي الذي يجعلني لا أحمل هماً !!
وهل لمثلي ألا تحمل يوماً هماٌ؟!!
تظنينني سأضحك من جديد يا أمي؟!
لا ..ليست تلك الضحكة التي تغتسل بالخداع ويجففها الوجع !
إنما تلك التي تشبه طفلتك القديمة بعفويتها وبراءتها!
تراكِ ستشعرين يا أمي؟!
هذه الدقائق القليلة التي تفيقين فيها -بالكاد- لتميزي ما حولك ..
هل ستدركين الفارق بيني و”بينها”؟!
هل سيرشدكِ “قلب أم”؟!
قلب أم!
صرت مثلكِ يا أمي! صار لي “قلب أم” يعذبني بفلذة كبدي!!
لكن الفارق بيننا أن وجعكِ بي قد ينتهي
فلازلت فوق التراب ..
إنما وجعي به سيبقى جحيمي وهو تحت التراب !
أنا قتلته يا أمي ! قتلته !!
لايزال صوته يدوي في أذني بكلمته التي لم يكد ينطق سواها..”ماما” !
لا تعاتبيني إذن في الهروب فلم أعد أملك سواه !!
كل سجانيَّ رحلوا يا أمي ..وصار باب قفصي مفتوحاّ ..
فلا تلوميني أن بعت سجني لغيري!!
لعبة! دعيني ألعبها يا أمي !
وحدي هذه المرة !
تتهمينني بالجحود؟!
تركتكِ في مرضكِ كي أحلّق بعد طول حبس!
أنا لا أحلق ! أنا أسقط !
أسقط في كل لحظة أراكِ فيها بهذا الحال و”يد الفراق” تكاد تلوح بيننا !
لا تذكرينني بل ولا تكادين تذكرين أي شيء!
أسقط في كل لحظة أتذكر فيها منامة ابني وقد تلطخت بدمائه !
أسقط في كل لحظة أشفق فيها على نفسي وأنا أراقب محطات “الراحلين” ..
لأدرك أنني ما كنت فيها سوى عابر ثقيل الظل لفظوه خلف ظهورهم ولفظتهم أنا كذلك!!
حفنة تراب على جانب الطريق لا يهم الرائي إن كانت مكدسة أو منثورة ..هكذا أنا!!
فلا تلوميني إن بعثرت بقية العمر في لعبة !!
لعبة تثير حواسي وأنت تعلمين أني فقدت هذا الشغف منذ زمن !!
اسمها “سمرا”!
التقيتها هنا في محل بيع ملابس الأطفال هذا !
يومها كنت في أشد حالاتي انهياراً فقد كان يوافق يوم ميلاد ابني !
خرجت كالمجنونة أجوب الشوارع في سيارتي ..
توقفت أمام المحل ودخلت لأختار له منامة جديدة ..منامة لا تلوثها الدماء!
توقفت أمام الواحدة تلو الأخرى لكنها كلها بقيت في عيني ملوثة بالدم !!
هل صرخت وقتها؟! لا أدري !!
أنا لم أكن أسمع سوى كلمة “ماما” بصوته !!
هل بكيت؟! هل سقطت؟! هل أغشي عليّ؟!
لا أدري! لا أذكر!!
فقط عندما عاد إليّ إدراكي وجدتها أمامي!!
تشبهني كثيراً ..أنفها كان أكبر حجماّ..شفتاها أكثر اكتنازاً ..شعرها أقل شقرة ..وجسدها أكثر امتلاء ..لهذا لم أتعجب عندما هتفت لي باستغراب أنها هي الأخرى تشعر بالعجب من هذا التشابه بيننا !
تذكرين تلك العبارة التي ظل “فادي” يكررها لي عقب زواجنا ؟!
(ليت هذا الوجه الجميل لروح أخرى غير روحك الخربة!)
لم يسعني وقتها سوى تذكر عبارته ..وتمنيت!
تمنيت مقايضتها !!
تمنيت شراء حياتها البسيطة هذه وتمزيق ورقة حياتي أنا ألف قطعة كي ألقيها خلفي!!
لكن كيف ؟! و شبح رفعت الصباحي كان لايزال يفزعني!!
والآن رحل ! فلماذا لا ألعب؟!
معي ماله وبقايا من نفوذ سلطاته ..فلماذا لا أشتري بهما لعبة مادام هو لم يشترِ لي اللعب يوماً؟!
اشتريت بديلة !!
القصة المضحكة التي طالما رأيتها كوميدية في أفلام التلفاز صارت واقعي ..
مجنونة !
ربما !!
قلتها لنفسي وأنا أتوجه مع تلك الفتاة كي أجري لها جراحة تجميلية لأجعلها نسخة مني !
قلتها لنفسي وأنا آمرها بهذه الحمية الخاصة كي تفقد بعض وزنها فتصير تماماً مثلي!
قلتها وأنا أدربها على حركاتي ..أزرعها بيدي في بيتنا كي تكون مجرد صورة مني !
صورة تصلح لتلقي التعازي في الفقيد ..لثرثرة رفيقات النادي وشماتتهن ..لآداء واجباتي التي لا أطيقها ..ولعيش حياتي التي لا أحبها!!
مجنونة باعت حياة واشترت أخرى بهذه البساطة !!
لكنني أتلذذ بكل لحظة أعيشها في هذا الجنون!!
كأنني فجأة ولدت من جديد وتركت ماضيّ خلفي!!
شعور رائع يا أمي!!
رائع!! رائع!!
لا تنغصه سوى تلك اللحظات التي تجتاحني فيها ذكريات الماضي لتفجر شظاياه في روحي !!
تعلمين كم أغبطكِ في هذه اللحظة على مرضكِ الذي ينعم عليكِ بالنسيان !!
ليتني لا أذكر ..لا أعي ..أي شيء ..وكل شيء !
كيف أنساني يا أمي؟!
كيف أنساني؟!!
_سمرا! شاردة كالعادة !! وتبكين أيضاً!! لو رآكِ صاحب المحل سيخرب بيتنا!
تهتف بها زميلتها في العمل فتنتبه لحالها متجاوزة حديث نفسها الصاخب !
تغلق هاتفها على صورة أمها ثم تمسح دموعها بسرعة فتتنهد زميلتها بحرارة وهي تجلس جوارها لتربت على كتفها قائلة بإشفاق:
_لو تخبرينني فقط ما الذي تغير فيكِ منذ تلك الفترة التي انقطعتِ فيها عن العمل هنا ! لقد تبدلت أحوالك تماماً كأنكِ صرتِ أخرى!! أشعر أن ملامحك نفسها قد تغيرت !
_ربما لأنني فقدت الكثير من وزني فحسب!
تقولها بتماسك هش لترمقها رفيقتها بنظرة طويلة قائلة :
_ليست
الملامح فقط ..طبيعتك ..روحك ..بل ..وصوتك!!
_أخبرتكِ أنني تعرضت لحادث كان السبب في انقطاعي عن العمل ..وهو السبب كذلك في تغير صوتي!
ترمقها رفيقتها بنظرة متشككة لكنها تهز كتفيها أخيراً لتعاود سؤالها باهتمام :
_ولماذا صرتِ تبكين كثيراً؟! هل عاد ذاك الوغد يتحرش بكِ؟!
كانت تعلم عمن تتحدث فقد أخبرتها “سمرا” بكل تفاصيل حياتها ..لكنها قبلت المغامرة على كل
حال!!
أي شيء سيكون أكثر بريقاً من حياتها الباهتة !!
لهذا اغتصبت ابتسامة شاحبة وهي تقول باقتضاب:
_لا تقلقي ..أنا بخير .
تتنهد رفيقتها باستسلام وهي تعاود التربيت على كتفها قبل أن تتعلق عيناها بالمرأة التي دخلت المحل لتوها فتقف مكانها تغمغم بلهفة :
_أول زبونة من أول اليوم ..لعلها تشتري ولا تكتفي بالمشاهدة والاستمتاع ب”التكييف”!!
تبتسم يسرا وهي تقف مكانها بدورها ..تتوجه نحو المرأة لكن عينيها تتعلقان بالطفل معها !!
أعظم ميزة تجدها في العمل هاهنا !!
تلاعبه بلطف تاركة مهمة اختيار ثيابه
لأمه..تضمه بقوة لصدرها وهي تشم رائحة شعره بهذه الطريقة التي كانت تفعلها مع ابنها الراحل !!
لحظات مختلسة من المتعة تنتهي سريعاً لتعاود الجلوس مكانها بعد رحيلهما ..
تتنهد بعمق ثم تأخذ نفساً عميقاً كأنما تلفظ حياة وتستقبل أخرى ..
تتأكد من مغادرة رفيقتها وبقائها وحدها فتتناول هاتفها لتجري اتصالها بصوت عاد إليه تسلطه :
_التزمي بالبرنامج الذي وضعته لك ..أنتِ تحت عيني ..سأزور أمي الليلة ..سأكلمكِ وقتها لندبر الأمر .
تتلقى موافقة “بديلتها” برضا ثم تغلق الاتصال شاعرة بالانتشاء!
هي ليست لعبة مغامرة فحسب ..
بل تحكم !!
طالما جربت تحكم الآخرين في حياتها والآن تجرب العكس!!
فمرحباً بمتعة كهذه !!
و”لعبة”كهذه !!
=======
_ليس الأصفر! ستبدو شاحبة به ..جربي الأحمر أو الوردي سيكون عليها أفضل .
تقولها يسرا بحنان صادق لكن أم الطفلة ترمقها بنظرة شذرة وهي تنتزع منها القطعة الصفراء هاتفة بفظاظة :
_هل يمنحونك راتبك كي تلبسي أطفال غيرك على ذوقك الخاص ؟ نصيحة ! اعتني بحالك يا فتاة ..وانظري لنفسك فلا تغتري بجمال الدمى هذا !
تلتمع عينا يسرا بشراسة فطرية جبلت عليها فتود لو ترد على الأم بما تنتقم منه لكبريائها ..
لكن الابتسامة النقية على وجه الطفلة تذكرها ب”ابتسامة شبيهة ” ..فقدتها للأبد !
تتكدس الدموع في عينيها وهي تأخذ نفسا عميقا لتشيح بوجهها فيما تسحب الأم طفلتها نحو الغرفة الجانبية للقياس في المحل ..
قبل أن تخرج بالطفلة وقد ارتدت
الأصفر ..الطفلة التي هرعت أليها هي لتهتف بفضول طفولي:
_هل هو سيئ حقا؟
فلا تشعر بنفسها وهي ترفعها لتضمها بقوة مغمضة عينيها ومستشعرة قيمة عناق كهذا حرمت منه منذ عهد بعيد ..
تشم رائحة شعرها بهذه الحركة المعهودة لها حاملة معها عبق الغالي الراحل :
_بل أنت جميلة حقا ..في كل لون وكل حال !
ترمقها الأم بنظرة متشككة ونبرتها شديدة العاطفية لا تتسق مع مجرد بائعة في محل
ملابس ..
هل تخطط لخطف طفلتها ؟
هل ينسقون لجرائمهم بهذه الطريقة ؟!
من يدري ؟ ربما ..
لهذا انتزعت طفلتها منها ببعض العنف قبل أن تتحرك نحو “الكاشير” كي تدفع ثمن الثوب و..ترحل !
ترحل ..
ترحل ..
الكلمة تدوي في أذنيها بطنين رهيب وهي تراقب كل طفل يدخل بعدها ل”تسرق” منه عناقا ..فتتقبل أمه أو ترفض ..لكنه في النهاية يرحل ..
ك”من رحل”!
ينتهي يوم عملها بمزيج بؤسه وهنائه المعهود فتتناول هاتفها لتطلب سيارة أجرة عبر تطبيق “أوبر” الشهير ..
لم تفقد طباعها الأرستقراطية على أي حال ..
السيارة المنشودة تتوقف على بعد خطوات منها فتستقلها لترمق السائق بنظرة عابرة ..
وسيم ؟
ومالها هي ؟
هي جربت مزيج الوسامة والقوة عندما يمتزج
بالنفوذ والسلطة في زيجاتها
الثلاث السابقة ..فزهدت كل هذا !
لكن هذا لم يمنعها من تفحص
ملامحه الجانبية ..سمرة بشرته الجذابة مع لحيته المهذبة ..حاجبيه شديدا الكثافة والمنعقدان بوجع اعتادته في وجوه الناس هنا ..
شفتاه المزمومتان بقوة كأنه يكتم بهما انفعالا صاخبا ..
وأخيرا عيناه اللتان اصطدمتا بعينيها عبر مرأة السيارة ..
سوداوان كليل بلا قمر ..
واسعتان كبحر بلا شطئان ..
موجوعتان كغريق بلا أمل ..
وخطيرتان كحافة بئر لا تحتاج سوى ل”زلة قدم” كي تسقط فيه بلا رجوع !
تتنحنح وهي تلعن نفسها على هذا الخاطر الغريب الذي جمعها برجل لن تلتقيه سوى مرة واحدة ..ويرحل !
يرحل ..
يرحل ..
الكلمة اللعينة من جديد تصفعها ..تطعنها ..تجلدها ..و ..تقتلها !
قطرات عرق خفيفة تتكاثف فوق جبينها الوضاء وهي تستعيد ذكرى بعينيها تجعل جسدها يرتجف مكانه ..
المنامة الملوثة بالدم!
حركة السيارة تتباطأ وقد مرت ب”زفة عروس” فتلتفت لسيارة العرس تتأمل العروس بنظرة شاردة ..
كم مرة ارتدت هي فيها ثوب الزفاف ؟!
ثلاث مرات!!
ثلاث حفلات أسطورية الفخامة تليق بابنة رفعت الصباحي!!
اثنتان هنا في مصر وأخرى في لبنان !
لون الثوب الأبيض في كل مرة كان أشد نصاعة عن سابقتها !!
كل رجل كان أكثر بريقاً عمن قبله!!
وحده قلبها كان يزداد ذبولاً ..
“قوس قزح” باهت بقي يلوح لها وسط سيل المطر ..قبل أن يختفي تماماً ..و..يرحل!!
يرحل!!
آهة خافتة تفلت منها رغما عنها وهي تمسح جبهتها بألم فاق احتمالها ..
ليصلها صوته هو غارقا في الجدية رغم لطف عرضه :
_أشغل “المكيف”؟
يقولها وأنامله تتحرك نحو ما يحكي عنه لتمنحه أيماءة موافقة بينما تراقب هذه الدبلة بألوان “علم مصر” في يده ..
فتبتسم بشحوب وهي تفكر أنها حقا تليق به ..
كل ما فيه مصري حتى النخاع ..ملامحه..شعره المجعد بخفة محببة ..ملابسه البسيطة بطرازها متواضع الأناقة ..وهذا المزيج الساحر من الجاذبية والوجع في عينيه ..
مزيج صار يحمل اسم مصر في عينيها ..الجاذبية ..والوجع !
رنين هاتفه يقاطع أفكارها فتلتفت نحوه بفضول وهي تراه يغلق الاتصال دون أن يرد والضيق على ملامحه يزداد حرقة ..
تختلس نظرة لشاشة الهاتف فتروعها الصورة التي جعلها للمتصل ..
او على الأدق ..المتصلة !
إنها هي ..
لاتزال تذكرها رغم مرور هذه السنوات ..
وكيف لا تفعل وهي التي كادت تقتلها يوما حقدا وغيرة ..
إنها هي ..حبيبة فهد الصاوي ..زوجته و..أم طفلته ..
جنة الرشيدي !
هي التي حظيت بكل ما حرمت هي منه !
ما علاقتها بهذا السائق حتى يضع لها صورة وهي معه !
اللمحة الخاطفة لصورتها معه كانت تضحك فيها بحب!!
هي تعلم أن جنة الرشيدي لا إخوة لها من الذكور!!
فمن هذا إذن؟!
هل تخون فهد ؟!
معقول؟!
تخون فهد الصاوي مع هذا ؟!
تعاود تفحص السائق الذي عرفت اسمه من تطبيق الهاتف بنظرة أكثر جرأة هذه المرة شاعرة بنشوة المغامرة ..
“ابراهيم”!
جزء بداخلها يستصرخها أن تهرب من كل ما يمكن أن يحيى رماد ماضيها ..
لكنها تبتسم بتحدّ ..لماذا لا ألعب؟!
_اسمك ابراهيم؟
تسأله مباشرة فينعقد حاجباه بضيق وهو يختلس نظرة لملامحها عبر المرآة ..
جمالها الصارخ يدق ناقوس خطر برأسه ..هو لم يقم علاقة عاطفية واحدة مع أي امرأة في حياته !
إنه حتى كان يتعجب كيف وقع حسن في غرام جنة قبل أن يخطبها !!
طالما كان يظن أن مزلاج القلب لا يفتح إلا ب”الحلال”!
ربما لهذا كان يهرب دوماً من أي باب قد يفتحه له شيطان غواية !
لهذا أجاب سؤالها باقتضاب:
_نعم.
_أنا …سمرا .
كادت تخطئ باسمها الحقيقي لتنقذ نفسها في اللحظة الأخيرة فيما ازداد انعقاد حاجبيه وهو يفكر أن الاسم لا يليق بها بتاتاٌ ..
_أمي من حي بسيط ..تعلم كيف يخافون من الحسد في هذه المناطق ..كانت تقول إنها عندما رأتني في المهد شقراء هكذا أرادت أن “تخزي العين” فأطلقت عليّ هذا الاسم .
تقولها كما سمعتها من “سمرا الحقيقية” بنبرة تعمدتها عفوية بريئة لكنه بقي صامتاً لا يرد وهو يشعر بناقوس الخطر داخله يزداد دقاً !!
يجاهد نفسه بصعوبة كي لا يختلس نظرة أخرى نحوها بهذا الجمال الكارثي الذي وجد أثره في نفسه !
يستغفر الله سراً وهو يحاول التشاغل بأفكاره بعيداً عنها لكنها تعاود غزوها الناعم :
_تبدو طيباً و”ابن حلال”! هل يمكن أن آخذ رقمك كي تقلّني في مشاويري بعيداً عن خدمة “أوبر”؟!
_لا للأسف! لا وقت لدي هذه الأيام .
لم يستغرق ثانية واحدة للرد بها وهو يود لو ينتهي هذا “المشوار” الثقيل على قلبه ..
فيما انعقد حاجباها هي ببعض الدهشة وهي تستشعر بحدسها الأنثوي نفوره منها ..
النفور الذي لم تستشعره يوماٌ إلا من فهد الصاوي..
فجمالها كان دوماً سهماً نافذاً نحو قلوب الرجال!!
هل هو أثر جنة الرشيدي؟!
هل تسكن قلوب عاشقيها إلى هذا الحد فلا يرون سواها؟!!
غضبٌ غير منطقي يسري بين أوردتها مع الخاطر الأخير وهي تسيئ تأويل أفعاله !
إنه حتى لم يرفع عينيه إليها بعدها بفظاظة غير مبررة !!
عيناها تشتعلان بالمزيد من الضيق وهي تميز قرب وصولها للحي البسيط الذي تسكنه ك”سمرا”!!
يجب أن تفكر في حل بسرعة !!
لن تخسر “هذه اللعبة” الشيقة!!
تبتسم بخبث والفكرة تختمر في رأسها ..تلتقط هاتفها تتأكد من وجود صورة واضحة لها في “الجاليري” الخاص به ..
تلتقط خفية صورة واضحة ل”بطاقة المحل” الذي تعمل به برقم هاتفه ..تمسح بعض البيانات التي لا تريدها أن تظهر لأحدهم ..
ثم تلقيه تحت قدميها بحرص خفي!!
_هنا؟!
يسألها بجدية دون أن ينظر إليها وقد وصل بها للمكان المنشود فتبتسم وهي تمد له يدها
بالنقود ..
تلتقي عيناهما للحظة فيشعر وكأن مساً قد أصابه !
عمله هذا -كسائق يلتقي يومياً بجميع صنوف البشر- أكسبه خبرة في قراءة الناس ..
لكنه يعجز عن قراءة هذه المرأة بالذات!!
جرأتها مع شكلها الخارجي جعلته يضعها في خانة ما ..
لكن هذه النظرة الموجوعة في عينيها تضعها في خانة مغايرة تماماً ..
هو عايش الوجع لسنوات ويمكنه تمييزه في عيون الناس ..
ووجع هذه المرأة ليس عادياً بل يبدو وكأنه نقش على حدقتيها !!
من جديد يستغفر الله سراً وهو يشيح بوجهه بينما تترجل هي من السيارة لتغادرها فينطلق هو مبتعداً بسرعة كأنه يهرب ..
_ترى ماذا سيحدث بيننا يا إبراهيم؟! هل ستتوقف “اللعبة” هاهنا أم ستحلو أكثر؟!
تحدث بها نفسها بمزيج اليأس والجنون الخطر قبل أن تأخذ طريقها نحو بيت سمرا البسيط هناك ..
فيما ظل هو يجوب الشوارع بعدها بحثاً عن عميل جديد لكن القدر جعلها آخر وجه يراه لهذه الليلة ..
ربما لهذا لم تغادر ذهنه طويلاً بعدها حتى انتهى به المقام في شارعه حيث “الجراج” الذي أدخل فيه سيارته ..
هاتفه يرن برقم أبيه فيتناوله ليرد بابتسامته “المنقوصة”:
_”مستر”ربيع! أنا في “الجراج” تحت البيت ..تريد طلبات خاصة للعشاء!
_تسأل بعدما صرت تحت البيت يا “وغد”!! اطلع !اطلع!!
صوت العجوز المستنكر بعتاب مرح يغرس فوق شفتيه شبه ابتسامة لم تلبث أن اكتست ببعض الضيق وهو يسمع أباه يستطرد :
_جنة اتصلت بي ..تقول إنك لا ترد على
اتصالاتها ..هي حولت القضية لمحامٍ ماهر تعرفه ..وتريد إعطاءك التفاصيل ..كلمها غداً .
_كما تريد .
_ما بالك تقولها هكذا من تحت ضرسك؟! قلها جيدا يا “ولد”!
_كما تريد يا “مستر ربيع”..يا فاهم كل المواضيع !
يقولها بمرح كنشيد قديم اعتاد هو وحسن قوله للعجوز الذي ضحك وهو يسبه مازحاً ..
لتتسع ابتسامة إبراهيم وهو يغادر السيارة ليغلق الاتصال ..
يدور حولها بخفة لتتوقف عيناه أمام ذاك الهاتف في دواسة السيارة الخلفية والذي كان يضيئ بوميض منتظم منبئاً عن وصول اتصال!
ينعقد حاجباه بدهشة وهو يعاود فتح السيارة ..
ليلتقط “الدرويش” الهاتف ..و”الطُعم”!
======
======
*برتقالي*
======
_هاهو ذا موعدنا مع الندوة المرتقبة بين ضيفينا…
يقولها مدير دار النشر والذي يترأس الندوة التي عقدت في إحدى القاعات المغلقة في مدينة أبو ظبي ..
تتحفز طيف مكانها وهي تختلس نظرات جانبية نحو ذاك المستفز الذي أتى بكامل أناقته كأنما تنقصه الوسامة !
شعره البني الداكن المصفف بعناية تمنحه مظهراً لامعاً ..عيناه البنيتان المميزتان بلمعة ماكرة نافذة ومخترقة !
لم يكن حليق الوجه تماماّ ولا ذا لحية ظاهرة كثيفة..بل احتفظ بهذا الشكل الوسطي بينهما والذي منحه مظهراً أكثر رجولة وجاذبية ..
كل هذا يمنحه المزيد من نقاط القوة وهي خير من تفهم كيف تفكر “غالبية” بنات جنسها!
تعلم أن هذا سلاح نافذ له لمجابهة سطحيات العقل ممن يحضرن الندوة واللائي لن يبالين كثيراً بفكره المتطرف ضد المرأة بقدر ما ستنسج كل منهن حلمها بحل عقدة ذاك الوسيم وجذبه لشباكها !!
لكنها ستحرص أن يخرج من هذا المكان مجرداً من كبريائه !
_الأستاذة ..طيف الصالح..غنية عن التعريف
بالطبع ..تربعت فوق عرش الكتابة منذ سنوات بموهبة فطرية عظيمة ..حبكات مبتكرة ..تجديد في لغة الحوار بين العامية والفصحى..لقّبها بعض من جمهورها بالأرملة السوداء
لاستشعارهم عدائيتها نحو الرجال ..لكنني أظن أن لها تفسيراً آخر لأفكارها في رواياتها ..ستكشف لنا اليوم بعضاً من أسراره !
تضج القاعة بالتصفيق والرجل يشير نحو طيف الجالسة عن يمينه فتبتسم الأخيرة بثقة وهي ترفع أنفها بكبرياء ..
لم تكن حديثة العهد بندوة كهذه ..لقد حضرت منها الكثير ومستعدة دوماً للرد على أي سؤال يخص أفكارها التي تلاقي رواجاً كبيراً في سوق النساء المعاصرات بطبيعة الحال !
لهذا وضعت إحدى ساقيها فوق الأخرى وظهرها ينتصب في جلستها بوضع ملكي تدربت عليه كثيراً ..
فيما يستطرد الرجل مشيراً ليحيى على يساره :
_الأستاذ يحيى العراقي ..الكاتب الذي صعد بسرعة الصاروخ ليكتسح كتابه الأسواق ويكتب له أسرع نجاح عرفه كُتّاب هذا العام..يتميز بسرده الفخم ..عباراته القوية ..هو كاتب وليس روائياً ..لكنه أثبت لنفسه مكانة عظيمة وظني أنه سيكتسح مجال الرواية لو أراد كما أجاد طرح أفكاره في كتابه ..لقّبه بعض القراء ب”عدو المرأة” لشرحه بعض الدواخل النفسية شديدة الحساسية للمرأة ومبرراتها للخيانة في كتابه “الأخير”..
_الوحيد!
تقاطعه بها طيف ببعض الفظاظة المستهينة وهي تلوح بسبابتها فتنطلق بعض الضحكات في القاعة ..
ضحكات تزيد من اتساع ابتسامتها الواثقة وهي ترى نفسها تحرز أول نقطة ضد ذاك المستفز!
طيف:واحد .
يحيى :صفر!
لكن مدير الدار يلتفت نحوها بنظرة عاتبة ثم يبتسم ليقول بنبرة دبلوماسية :
_أعلم أن المناقشة ستكون حامية الوطيس هاهنا ..لكن أرجو من كليكما أن يلتزم بآداب الندوة وألا يتحدث إلا في دوره ..
تبتسم ساخرة بفظاظة تزيد من طلتها الواثقة فيختلس يحيى نحوها نظرة واحدة..
نظرة واحدة تكفيه !!
يشبك أنامله مع تحريكها في بطء رتيب ..
هذه الحركة مع انعقاد حاجبيه الطفيف ووسامته الفطرية تجعله أقرب لحكيم أسطوري !
عقله شديد الذكاء يعمل بسرعة كعهدها لا تخذله !
طيف! أي طينة من النساء تلك؟!
لقد ظن أنه جمع عنها من المعلومات ما يكفي لسحقها تماماّ في هذه الندوة ..لكن نظرته لها بهذا القرب تخبره أنها لن تكون خصماٌ سهلاٌ ..
سمراء نحيفة تفتقر لمقومات الجمال والإغراء المعهودة ..ربما لهذا تظهر بطلات رواياتها دوماٌ رائعات الجمال متفجرات الأنوثة بمنحنيات بارزة !
لا فائدة !
عهده دوماٌ ب
“الأدب النسائي”أنهن يفرغن فيه كبت صدورهن !
لكنه يعترف أنها تناقض فكرته الأخيرة هذه في مواضع كثيرة ..
فكتاباتها تتميز ببعض العمق خاصة في وصف الحنين ..الغدر ..الألم ..والحب!
ليس حب المرأة والرجل فحسب بل الحب عموماٌ !
خبرته الحياتية مع ما جمعه عنها من معلومات تفيده أنها امرأة متمردة ..متسلطة ..لا تهاب أحداً ولا شيئاً ..افتقدت الحنان في حياتها وربما تعرضت لتجربة حب فاشلة أقنعت نفسها -كعهدهن- أنها فيها ضحية حتى صدقت نفسها فصارت تملأ الدنيا ضجيجاً عن حقوق المرأة الغائبة وجحود الرجل !
ربما الميزة الوحيدة التي وجدها في وجهها الذي يراه قبيحاّ حد النفور هو خلوه من
الأصباغ!!
لا يطيق “مكونات الخداع التجميلية” هذه !!
المرأة المتبرجة في عينيه مهما تضاءلت زينتها مجرد “بلياتشو” ..أقرب للهزلية منها للغواية !!
شعرها الناعم ميزة شكلية لا تعنيه كثيراٌ ..
قرطها المتوهج بأحجاره البرتقالية يثير المزيد من نفوره ..
يذكره بلون صدفته التي احتفظ بها تذكاراً من هذا البلد فيزعجه هذا أكثر..
عيناها متوهجتان بشراسة شهية قد تكون جاذبة لعيني أي رجل ..سواه هو !
هو لم تعد تجذبه أي شارة حُسن في وجوه النساء منذ زمن بعيد ..
كلهن دميمات الروح مهما تجمل منهن وجه أو جسد !
وهذه “القنفذ” أمامه صورة حية لما يؤمن به ..
غير أنها -مشكورة- لم تتكلف تجميل قبح مظهرها!
_نبدأ الحوار بالأستاذة طيف ..لقد قرأتِ كتاب
الأستاذ يحيى بالطبع ..فما انطباعك عنه ؟!
يسألها مدير الدار بدبلوماسية وعيناه تحملان نظرة محذرة تتجاهلها عامدة وهي ترد بسخرية فظة:
_ذكرني بالفيلم القديم ل”رشدي أباظة” عن عدو المرأة ..أفكار شاذة متطرفة ..مع عبارات بليغة جداً لكنني قرأتها من قبل ..ليست جديدة أو مبتكرة .
ينال جوابها بعض التصفيق من الفريق المؤيد لها فتتسع ابتسامتها بانتصار وهي تسجل هدفاً آخر ..
طيف :اتنين
يحيى: صفر .
لكن الرجل يلتفت نحو يحيى الذي ظل يبدو كحكيم أسطوري مكانه رابط الجأش مكتفياً بابتسامة هادئة ليسأله نفس السؤال بالمقابل عنها فيصمت يحيى للحظة ترتفع فيها دقات قلبها هي ترقباً غير قادرة على منع تحفز جلستها ..
لكنه يرد أخيراّ بنبرة مهذبة :
_كتابات الأستاذة جيدة جداٌ ..
تتسع عينا طيف ببعض الصدمة فلم تتوقع إطراء كهذا !
لكنه بدا وكأنه يصفعها بتكملة عبارته :
_مقارنة بامرأة غير متعلمة !
طيف :اتنين
يحيى: واحد!
تكز على أسنانها بقوة تكاد تحطمها بينما هو مستمر في حديثه بنفس النبرة المهذبة التي تنضح سخرية قاسية :
_لا يمكنني أن أقسو كثيراٌ على فكرها “الأعوج “،فهي مشكورة على أي حال بالنسبة لكونها لم تحصل في حياتها على شهادة تعليم واحدة !
همهمات تعجب تجتاح الحضور وتجعلها تشعر
بالحرج لأول مرة من ذكر هذا الأمر !
لقد كانت تتباهى دوماٌ بمكانتها التي وصلت إليها كتابياٌ دون أن تتحرج من نشأتها وظروفها ..
لكن الآن وهو يقولها بهذه الطريقة -مع علمها أنه هو قد أكمل جانباً من تعليمه في إحدى الدول
الأجنبية لينال شهادة رفيعة المستوى – فهي تشعر بمرارة قاسية في حلقها ..
ومن جديد تبزغ صورة حسام القاضي أمامها بنفس الصورة التي كانت تراه فيها أول
علاقتهما ..
هضبة عالية تنظر إليها هي كنملة !
لا!!لا!!لا!!
أفيقي يا طيف!!
لم تعودي نملة ! بل صرتِ هضبة أخرى تفوقه علواً !!
تباً لك أيها ال”يحيى”!!
لماذا تعود لتنثر ما استكان من “رماد” روحي؟!
لن أسمح لك!!
سأريك كيف تكون القوة ..الشجاعة ..
سأوقد كل مشاعل سوءاتي التي قد يظنونني أخفيها في الظلام!
_لم أخجل يوماً من الاعتراف بهذا الأمر ..ولا من ذكر أي شيء يتعلق بتفاصيل حياتي ..أنا ..طيف الصالح كما يعرف الجميع ..نشأت فقيرة معدمة ..بل وعملت خادمة في البيوت ..بل وسأذكر شيئاً أيضاٌ ربما لا يعلمه الكثير هنا الآن ..أنا ابنة غير شرعية ..”بنت حرام” كما يسمونها عندنا في مصر !
تضج القاعة بصخب مرتفع فور تصريحها الذي جعل مدير الدار يفغر فاه بصدمة وهو يحدق فيها ..
لكنها كانت تحدق بيحيى !!
عيناها بقيتا ملتصقتين بوجهه كأنما تختبر فيه أثر كلماتها !!
فضيحة!!
منذ متى تعنيها الفضيحة !!
هي تعلمت بالطريقة الأقسى أن تواجه أعظم مخاوفها ولا تهرب منها !!
أن تقرع فوق جرحها بشدة فإما شفاء وإما موت !
لكنه للعجب لم يغير جلسته ولا هذه الطريقة الرتيبة التي يحرك بها أنامله المتشابكة ..
بل إنه حتى لم ينظر إليها !!
فقط عيناه كانتا شاردتين ..مغلقتين ككهف مظلم !!
وعضلة فكه متشنجة كأنه يكز على أسنانه خفية !!
هل تذكر شيئاً من ماضيه ؟!
هل خانته زوجته ؟! أم مجد ؟!
هذا هو التفسير المنطقي لعيش الطفلة وحيدة معه ولكرهه المتطرف هذا لخيانة النساء!!
لعلها أصابت سهماً في جرحه ! لا بأس فلتستمر في هجومها ..فالهجوم خير وسيلة للدفاع كما علموها :
_لكنني لم أهتم لماضٍ لم يكن لي دخل فيه ! تعبت وتعبت وتعبت حتى وصلت لما أنا فيه
الآن ..علمت نفسي بنفسي ..قرأت من الكتب العشرات ..المئات بل والآلاف ..تعلمت
الانجليزية وصرت أجيد القراءة بل والكتابة بها ..عشت شغفي في الكتابة كما تمنيت وحصلت فيها على جوائز عدة ..حفرت في الصخر حتى صارت لي حياتي الخاصة ..نجاحي الخاص ..ولا أظن هذا ينقص قدري بل ..يعليه !
تصفيق الحضور يعلو حد الصخب فتدمع عيناها بفرحة انتصار وهي ترى مدير الندوة يرمقها بنظرة إعجاب راضية ..
لكن عينيها بقيتا ملتصقتين به ..بهذه التقاسيم الغامضة حد البرود والتي لم تحمل أي أثر لكلماتها وكأنه لم يسمعها ..
أو ربما لم يهتم !
نظراته بقيت نافرة منها ..لا يختلس نحوها ولو نظرة !!
لكن النتيجة ترضيها ..
طيف :ثلاثة
يحيى: واحد !
_عظيم يا أستاذة! نعود لأستاذ يحيى ..ألم تشعر بالتخوف من طرح أفكارك الغريبة والمنتقدة ضد النساء في أول كتاب لك ؟!
يسأله مدير الندوة ليرد بابتسامته الغامضة وبنبرته شديدة التهذيب ..شديدة الثقة :
_لو كانت أفكاري غريبة وخاطئة لما حظي كتابي بكل هذا النجاح ..أنا فقط تناولت “المسكوت عنه” ! دخلت دون وجل لهذه المنطقة المحظورة التي يخشاها غيري ..أغلب الرجال لا يحبون الاعتراف بخيانة نسائهم لأنهم يرون في هذا انتقاصاً لرجولتهم ..لكنهم لا يعلمون أن العيب ليس فيهم ..بل في تركيبة المرأة الميالة للملل والتغيير بطبيعتها ..والتي لا تحب تسمية الأشياء بأسمائها ..الكذب لديهن مجاملة ..والتبرج زينة ..الغزل ممن يردن لطفاٌ وممن لا يردن تحرشاً ..والخيانة في عرفهن مجرد تمرد وصفعة إفاقة للرجل! بينما الإخلاص في عرفهن ضعف ورجعية وتبعية لرجل لا يستحقهن ..صدقني كلهن يفكرن بهذه الطريقة مهما اختلفت الطبقات والأعمار ..ثوب الضحية جاهز دوماً لتلقي بقع الخيانة ..ولمَ لا؟! مادام سهل الغسل والكيّ بعدها كي ترتديه من جديد ؟!
كلماته لم تكن متشنجة عصبية بل كانت هادئة مقنعة بشكل غريب خاصة مع هذه الهالة المهيبة المحيطة به ..
ربما لهذا نال حديثه الكثير من صفقات التقدير من أغلب الرجال الذين حضروا ..بل -وللعجب- بعض النساء!
خاصة عندما أردف بنفس الابتسامة الواثقة :
_عندما تخون المرأة فإنها لا ترى نفسها خائنة ..بل منتقمة ..منتقمة من إهمال الرجل ربما ..من خيانته هو قبلها ..وربما من عدم تقديره ..بل أحيانا تسول لها نفسها الانتقام منه لأنه لم يرتقِ لمستوى طموحها ..وهكذا تجد دوماً مبرراً للخيانة بدعوى الانتقام ..والرجل
أولاً وأخيراً في ظنها هو السبب ..لهذا لا أتعجب فخر الكثيرات منهن بخيانتهن بدلاً من الشعور بالعار ! لا تندهشوا ! بداخل كل امرأة مهما أنكرت هذه البذرة الشيطانية التي تبرر الخيانة دوماً ..ربما هناك صالحات لا تزال بذورهن مطمورة تحت تراب الرضا ..لكن صدقوني في أول لحظة تهب فيها رياح السخط فإنها تكون على أتم استعداد لري بذرتها هذه والتباهي برؤيتها تنمو .
يسود الصمت المهيب في المكان وكأنما أقنعتهم هالته الجاذبة قبل حديثه ..
فترتجف أعماقها هي شاعرة بالخطر ..
خاصة عندما أشار لها كفه فجأة مع سؤاله بنبرته الواثقة ..ودون أن ينظر إليها أيضاٌ:
_تنكرين أنكِ لم تفكري بهذه الطريقة يوماٌ ؟!
تكتم شهقة دهشتها بقوة تحسَد عليها وهي تشعر به من جديد يدفعها نحو حافة الهاوية !!
هاوية الماضي التي تجاوزتها بكل عسر نحو سهول أمانيها !!
من جديد ينثر الرماد المستكين بروحها ويرسم لها صورة من حسام !!
_تنكرين؟!
يكررها بثقة تزايدت مع صمتها الغريب على طبيعتها المتمردة ..
_لم تخوني أحدهم ؟! لم تخدعيه ؟! لم تبرري ذلك في ساعتها بدعوى الانتقام؟!
تفيق من سكرة ماضيها فتكاد تهم بالرد نافية لكنها تتذكر صورة مشابهة لما يحكي عنه ..
ليس فقط ما فعلته بحسام ..بل وبعاصي أخيها!
هل يمكنها الاعتراف الآن أنها خدعتهما معاً بدعوى الانتقام!
أنها ربما لم تكن خيانة بالمعنى المشهور ..لكنها تبقى ..خيانة !
طيف :ثلاثة .
يحيى:اثنان!
تزم شفتيها بقوة وهي تفكر في الكذب كي تنقذ ماء وجهها أمام الجمع ..لكنها لم تفعلها !!
الكذب هاهنا سيكون أقوى اعتراف منها أمام نفسها أنه هزمها ..وهي لن تفعلها أبداٌ !!
لهذا رمقته بنظرة حاقدة طويلة لم يرها وقد ترفعت عيناه عن النظر إليها كعهده لكنه كان يشعر بها تخترقه !!
تلتوي شفتاه بابتسامة ظاهرها التهذيب وباطنها السخرية :
_عظيم ! أظن هذا اعتراف منكِ بأنني على حق.
تكز على أسنانها بقوة وهي تود لو تخترق قواعد الندوة فتشعل واحدة من سجائرها لتأخذ منها نفساً عميقاّ ثم تطفئها في أنفه المغرور هذا !!
لكنها تتمالك نفسها بشق الأنفس وهي تتخيل مشهداً برأسها أنها تنفرد به في مصعد العمارة حيث يسكن معها فتضغط زر تعليقه ثم تكيل له لكماتها وصفعاتها وسيل شتائمها الذي لن يكفيها وقتها كي تشفي غليلها منه !
هذا التخيل الذي أرضاها مؤقتاً لتعود لوجهها دماؤه ..ولذهنها صحوته ..
لهذا تتهرب من الرد وهي تضرب بكرتها في مرمى آخر بسرعة :
_هل يرضيك ان تقرأ ابنتك هذا الهراء الذي تكتبه عن خيانة المرأة ؟! ألن تظنه رسالة خفية لأمها؟!
تقولها مبتسمة بخبث وهي تواجه نظرته الداكنة بعينيها الماكرتين ليطرق برأسه للحظة فيسود بعض الهرج في المكان ..
لكن رئيس الندوة يطلب منهم الصمت ..
ليرفع يحيى رأسه ..كالعادة لم ينظر إليها كأنها دنس يكره تلويث عينيه به ..
_ابنة؟! ليست لدي واحدة ! أنا أعزب كما يعلم الجميع ..لم أتزوج ولن أفعل ..معلوماتك ليست دقيقة ياسيدتي كعهدي مع كل كتاباتك .
تشتعل وجنتاها بغضب من كذبه البين فتهم بالحديث لولا تدخل رئيس الندوة بحرج:
_السيد يحيى محق ..هو أعزب لم يسبق له الزواج ..أنا واثق من ذلك.
تشحب ملامحها كأنما فقد وجهها كل دمائه وهي تشعر بنظرات الحضور ترجمها بسخريتها ..فتهتف بصوت متحشرج :
_كاذب ..أنا رأيتها عندما ..
تبتلع بقية كلماتها قسرا ..وقهرا !
هل يمكنها سرد موقف كهذا علانية ؟!
هل ستسمح له بالسخرية منها من جديد ؟!
مجد ! ليست ابنته!!
مجد يحيى العراقي!!
هي تذكر قراءة الضابط لاسمها !!
المتلاعب!!
ما الذي يحدث ؟!
_عندما ماذا؟! أنتظر بقية عبارتك سيدتي!
يقولها بنفس المهذبة المغيظة والتي حلقت فوقها ابتسامته الساخرة كسوط فوق ظهر كرامتها!
طيف :ثلاثة .
يحيى:ثلاثة .
النتيجة الأخيرة تشعرها بالمزيد من الغضب فتهتف بانفعال يجعل كلماتها تبدو حمقاء:
_أنت جاري في نفس البناية .. وأنا واثقة أن لك ابنة أراها كثيراً من نافذة شقتي ! لماذا تكذب؟!
_إذن نضيف لهواية الكتابة التي لا تجيدينها تماماٌ ..هواية التلصص على الجيران والتي يبدو أنك لا تجيدينها أيضاٌ!
يقولها ببرود ساخر كذلك دون أن ينظر إليها فتمتلئ القاعة بالضجيج الذي تخللته بعض الضحكات ..
يكتم مدير الندوة ابتسامته وهو يشعر ببعض التشفي من طيف التي طالما سلخته بلسانها ..لكن شعوره الأكبر كان
بالحماس فالندوة تلقي بثمارها أكثر مما توقع ..والنزال بين هذين صار على أشده ..لهذا تنحنح بحرج وهو يشعر من وجه طيف المحتقن بدماء غضبه أنها على وشك الانفجار لهذا قال مهدئاً:
_الندوة ليست لمناقشة أمور شخصية ..دعونا نتحدث عن أعمالكما فحسب ..عن نظرة كل منكما المتطرفة عن الجنس الآخر ..سؤالي
للأستاذة طيف ..ألا تؤمنين بالحب؟!
_أؤمن بالحب لكنني لا أؤمن بوجود رجل يستحقه في هذا الزمان !
تقولها من بين أسنانها وهي لاتزال تشعر
بالتخبط والارتباك لكن التصفيق الحار الذي صاحب عبارتها منحها بعض الثقة ..
فيما أعاد الرجل نفس السؤال على يحيى ليرد بثقة :
_لا أؤمن بالحب كما يصورونه في الروايات
والأفلام ..أظنه أشبه بسترة واسعة مهلهلة يلقيها البعض لتناسب أي جسد يرتديها ! أي
علاقة جسدية ..أي متعة عابرة ..أي انجذاب شكلي ..أي تسلية تقتل الملل ..كل هذه تصلح
لارتداء السترة المهلهلة ..حتى القرآن الكريم لم يعبر عن علاقة الزوجين بالحب بل وصفها
بالمودة والرحمة ..والموضع الوحيد الذي ذكر فيه الحب في القرآن بين رجل وامرأة كان لوصف شهوة امرأة العزيز المذمومة فقال تعالى(قد شغفها حباً)!
تعقد طيف حاجبيها بقوة وهي تشعر أنها تواجه كياناً غريباً !
أفكاره تزلزل أرضها الثابتة رغماٌ عنها وتجعلها تشعر بالمزيد من الارتباك ..
لكنها تمسكت بقوة جدالها :
_لا أحب إقحام الدين في هذه الأمور ..لكنني سأحدثك بلسانك ..النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أحب الناس لقلبه قال عائشة ..ولم يقل لهم لا وجود للحب!!
من جديد تضج القاعة بالتصفيق فتبتسم بظفر وهي تعود لحساب النتيجة ..
طيف :أربعة.
يحيى:ثلاثة
_ومَن مِن الرجال الآن كالنبي؟! ومَن مِن النساء كعائشة ؟!
_لا تخلط الأمور ..أنا أتحدث عن المبدأ .
_أنتِ تناقضين نفسك ! لو كنتِ تؤمنين بالحب كما تزعمين لما جزمتِ بعدم وجود رجل يليق به ..أنت تخافين الاعتراف بأنكِ لا تؤمنين بالحب كي لا تخسري تعاطف معجبيكِ الذين يتهافتون على حبكات رواياتك الرومانسية..تدفعين بهم في بحر العاطفة وتجبنين أن تدليهم على مكان الشاطئ مكتفية بصوت انتشائهم وسط أمواجك ..هذا هو نجاحك الذي تزعمين وجوده وتكرهين
الاعتراف أنكِ تناقضين نفسكِ لأجله !
من جديد تشعر وكأنه يقتحم كل حصونها دون رحمة !!
رغم أنه لم ينظر إليها مرة واحدة منذ بدأ اللقاء لكنه بدا وكأنه يمتلك عيناً خفية تخترق خبيئتها فتقرأها بسهولة ..
لم تعد تهتم بحساب النتيجة هذه المرة ..
ولا بالهمهمات المتحمسة التي ازداد صخبها حولها ..
فقد كانت تشعر بشعور آخر يوازي إحساسها
بالغضب بل يفوقه !
شعور بالعري!!
كأنه جردها من كل سترة تداري بها وهن أنوثتها!
خاصة وعيناها عاجزتان عن منع التصاق نظراتهما به بينما يحرك أنامله المتشابكة بذات الوضع الرتيب مع استطراده :
_هذا هو ما أحكي عنه بالضبط ..قدرة النساء على تضليل أنفسهن قبل أي أحد ..مهارتهن في تزيين الكذب ليبدو حقيقة ..براعتهن في صنع المرايا الخادعة ثم تصديقهن لصورها ..لا توجد امرأة في هذا الكون تعترف أنها مخطئة ولو سراً ..كلهن يجدن اختلاق الأعذار لملائكيتهن البريئة مهما تشيطنت أفعالهن !
تعود القاعة لتضج بصخب بين مؤيد ومعارض ليطلب منهم رئيس الندوة الصمت ..
قبل أن تقرر طيف تسلم زمام المبادرة فتهتف بحدة لم تملكها:
_ تزعم أن الحبكة العاطفية هي سر نجاح رواياتي ..أنا على استعداد لتحدّيك وكتابة رواية كاملة بعيدة عن الرومانسية و لا تتحدث عن الحب .
تلتمع عينا مدير الدار بظفر وهو يكاد يقسم على نجاح هذه الرواية قبل حتى أن تكتب ..لو كانت مجرد بضع وريقات بيضاء فسيهرع القراء لشرائها بعد هذا التحدي السافر والدعاية الغريبة!
لو فعلها يحيى العراقي وأعلن هو الآخر الآن عن كتابه القادم فستكون ضربة مزدوجة ..
لكن يحيى قام من مكانه ليواجه الحضور بابتسامته المهذبة وهو يغلق زر بدلته كأنه يعلن انتهاء المقابلة بقوله :
_خطوة جريئة يا سيدتي لكن يؤسفني أنني لا أهتم .
يشعر مدير الدار ببعض الحرج وهو يقف مكانه ليسأله بابتسامة مرتبكة :
_هي فرصة جيدة لتعلن أنت أيضاً عن كتابك القادم ..أو مجرد إعطائنا فكرة عنه حصرياً لهذا الحضور !
فاتسعت ابتسامة يحيى وهو يدور ببصره بينهم بهذه النظرات النفاذة ليقول بنبرته الواثقة كملك مهيمن :
_لا كتاب قادم ! أنا لست كاتباً ولم أدّعِ الموهبة ! أنا فقط عرضت أفكاري التي أنا مؤمن بها ولا رغبة لدي في تكرار التجربة ..سعدت كثيراً بهذا الحضور ..ولا مانع عندي من الرد على تساؤلاتكم على البريد الالكتروني الخاص بي .
تبدو الصدمة على وجه مدير الدار وهو يرمقه بنظرة مصعوقة بينما تتخشب طيف مكانها للحظة شاعرة أن موقفه الأخير هذا بمثابة صفعة على وجهها!!
هل تفرح مدعية أنها هزمته في هذه الندوة وجعلته يعتزل الكتابة !
يمكنها الآن طرق الحديد وهو ساخن وكسر أنفه المغرور هذا !!
لكنها لم تقوَ على فعلها !
ليس وهي تشعر بداخلها أنه هو من هزمها !!
تراقبه بعينين مشتعلتين وهو يلوح للحضور مودعاً قبل أن يصافح مدير الدار معتذراً عن البقاء لمدة أطول ..
تنتظر أن ينظر إليها لكنه تجاهلها تماماّ وهو يمر من أمامها ليغادر القاعة بهذه المشية الواثقة .
لا تعرف كيف دبر مدير الدار نهاية الندوة بكلمات دبلوماسية سريعة ..ولا كيف أنهتها هي بدورها بسرعة بكلمات مقتضبة مما اعتادت قوله في شبيهات الندوات ..
كل ما كانت تعرفه أنها تريد الآن ..التدخين!!
لهذا اندفعت شبه راكضة لتخرج من القاعة فاصطدمت عيناها به وهو يقف في مدخلها كأنه ينتظر أحدهم ..
توقفت خطواتها فجأة وهي ترمقه بنظرة مشتعلة عاجزة عن وصف هذه الفوضى التي تضطرم داخلها نحوه ..
تفتح حقيبتها لتستخرج منها سيجارة تشعلها بأنامل مرتجفة وهي لاتزال تقف خلفه ..
تسحب منها نفساً سريعاً لعلها تطفئ بها حريق روحها وهي تتساءل عما ينتظره ..
بينما وقف هو منشغلاً بهاتفه للحظات قبل أن يرفع عينيه نحو السيارة التي توقفت لتوها أمامه ..
انعقد حاجباها بشدة وهي تميز الرجل الذي كان يقودها ..ماذا كان اسمه ؟!
نزار ..نعم ..إنه من كان يقود كرسي الصغيرة عندما رأته !
وها هي ذي مجد في المقعد الخلفي!!
_بابا!
تهتف بها بسعادة وهي تفتح له ذراعيها من داخل السيارة ..فيهرع إليها ليفتح الباب الخلفي ويضمها نحوه بقوة ..
هنا فقط يبدو وكأنه انتبه ل”طيف” التي تحركت لتقترب منهم بغيظ وعيناها تكادان تصرخان ..
الكاذب!! المتلاعب!!
_حبيبة بابا!
يتعمد أن يعلو صوته بها وهو يعاود الاستقامة بجسده بينما يبسط ذراعه بطوله فوق باب السيارة بوقفة مهيمنة كأنما يريد إذكاء غيظ تلك ال”قنفذ” أمامه ..
ليس هذا فحسب!
بل إنه سمح لعينيهما أخيراً أن تلتقيا!
و…..صعقتها النظرة !
صعقتها وهي تشعر بها تنفذ داخلها كسهم غادر ..
بل وتطوقها بعنف لتدور بها كإعصار هادر لا يرحم ..
منذ دقائق فقط كانت غاضبة لأنه يتجاهل النظر نحوها ..
والآن ستكون ممتنة بحق لو لم ينظر إليها بعد
الآن ..أبداً!!
ليس بهذه الطريقة التي تشعر بها وكأنه غرس لون عينيه فوق حدقتيها فلن تنساهما بعدها يوماً!
تحاول الطفو فوق سطح مشاعرها الهائجة التي لم تهدر منذ زمن بعيد بهذا الجنون ..
تحاول التماسك كي لا تهرب من لقاء عينيه كأي حمقاء ضعيفة وهي تأخذ نفساً آخر من سيجارتها لتنفثه في الهواء صوبه بتحدٍّ ظاهر كأنها لا تهتم ..
تحاول قراءة هذه النظرة التي لم تحد في عينيه عنها ..لكنها كانت ..نظرة موصدة !!
مقفولة بمغاليق غامضة تشبه روحه !!
لأول مرة تجد نفسها عاجزة عن قراءة نظرة أحدهم رغم أنها تسمرت فوقها لما يقارب دقيقة كاملة !!
_بابا!
تهتف بها مجد من داخل السيارة وهي تحاول
الالتفات لما ينظر إليه فيما يهتف نزار من المقعد الأمامي بنبرته العابثة :
_ما النظام يا “سندباد”؟!
فيحيد ببصره عنها أخيراّ وهو يغلق باب السيارة الخلفي بقوة أجفلت طيف مكانها قبل أن يحتل المقعد الأمامي منها جوار نزار الذي انطلق
بالسيارة بسرعة عالية ..
_قرصَتك؟!
يقولها نزار بالانجليزية كي لا تفهمه مجد التي تستقل المقعد الخلفي ليطلق يحيى همهمة خافتة متسائلة وهو يراقب بقايا صورتها في مرآة السيارة الجانبية تبتعد وتبتعد ..
فيضحك نزار مكرراً بنفس النبرة العابثة :
_أعني أنك لا تبدو بخير ! “الأرملة السوداء” هذه قرصتك؟!
تهتز شفتا يحيى بابتسامة غريبة وهو يرى صورتها تختفي تماماً من مجال رؤيته ليقول بغرور عبر كلماته الشاردة :
_بل أظنني أنا من منحتها اليوم ذكرى لن تنساها أبداٌ !
======
_سلطانة !
يغمغم بها حسام بحنان حقيقي وهو يجلس على ركبتيه في حديقة منزله بالعاصمة..
يمسد ظهر الكلبة التي فتحت فمها ليتدلى لسانها خارجه ..كذلك ذيلها تدلى في وضع
الاسترخاء قبل أن يرتفع إلى الأعلى ليتحرك بشكل موجي ..
يبتسم برضا وهو يشعر أنه قد صار يفهم لغتها تماماً ..
يتنبأ بحركتها التالية وهو يرى أذنيها ترتفعان
لأعلى مع اتساع حدقتيها فيدرك أنها تدعوه للّعب!!
يضحك ضحكة حقيقية لم يعد يعرفها إلا قليلاً وهو يدلك جسدها بحركات خفيفة فيراها تنزلق بساقيها الأماميتين وهي تنخفض برأسها لأسفل مع رفعها لقدميها الخلفيتين بوضع متقوس ..هذا الذي يشير لسعادتها بما تفعله..
تدور حوله عدة دورات مكررة هذا الوضع الذي يسمونه “انحناءة اللعب” ..ثم تعود لتستقر أمامه فيضحك بالمزيد من الرضا ..
الرضا الحقيقي الذي يجعله يتناسى -للحظات- هوسه بالمظاهر وهو يضمها إليه مغمضاً عينيه بقوة ..
لحظة نادرة من هذه اللحظات القليلة التي يشعر فيها بهذا الصفاء مع “كيان” يحبه هو ..هو لشخصه وليس لأي اعتبار آخر ..
وكم يحتاج لهذا الشعور بالذات كي يمنحه بعض التوازن !
_أحبك !
يرتجف جفناه المغمضان وهو يذكرها بصوت طيف ..قبل أن تتداخل الأصوات ..كثيرات قلنها له بعدها لكنهن كن عابثات ..
ربما كانت المرة الوحيدة الصادقة التي سمعها فيها كانت لها هي ..قبل أن يثقب” هو “السفينة وتحرق “هي “شراعها فتغرق للأبد !!
يفتح عينيه فجأة كأنما يجبر نفسه أن يفيق من هذا الماضي ..يعاود تدليكه الناعم لظهر سلطانة ثم يقرب منها طعامها ..يراقبها بحنان وهي تأكل ثم تغلبه طبيعته المهووسة..
فيتناول هاتفه ليلتقط عدة صور لهما ثم يرسلها عبر حساباته على مواقع التواصل ..
يراقب التعليقات بعدها بنَهَم ..يرد على بعضها ويتجاهل الأخرى ..يبتسم برضا “زائف” هذه المرة وهو يغادر الحديقة نحو البيت الذي دخله ليتفحصه باهتمام ..
يتوجه نحو تلك الأرجوحة التي اشتراها لتوه والتي وضعها في الشرفة الخارجية المطلة على الحديقة ..
يحرك هذه الشجرة الاصطناعية التي تستخدم
للإنارة فيضعها جوارها ..يحضر لنفسه كوباً من العصير مع عشاء خفيف يضعه أمام هذه الطاولة أمام الأرجوحة ..ثم يلتقط لنفسه المزيد من الصور ..
_عشاء خفيف بعد اللعب مع سلطانة !
يكتبها ملحقة مع الصور كأنما يصور له هوسه أن الناس يتحرقون شوقاً لمعرفة أخباره !!!
المزيد من شارات
الإعجاب ..التعليقات المبهورة ..طلبات الصداقة والمتابعة ..
“كنزه الزائف” الذي يجمعه بولع يوماً بعد يوم!!
صوت رنين جرس يقطع أفكاره فينعقد حاجباه وهو يتوجه نحو مرآة قريبة يطمئن لسلامة مظهره قبل أن يفتح الباب ليبتسم ببعض التحفظ :
_دينا! كنت أعلم أنه أنتِ!
تبتسم بارتباك وهي تحافظ على مكانها أمام الباب ..
ملامحها رقيقة الجمال بهذه الهشاشة التي تخشى معها التحدث إليها خشية كسرها ..
عيناها واسعتان بلا رموش تقريباً كذلك شعرها خفيف لهذا تعوض الأولى ب”ماسكارا” ثقيلة والثاني بتصفيفة الشعر هذه التي تثيره فيها حول وجهها كخيوط شقراء لونت بعضها لتضفي عليه بعض الجاذبية ..
ثوبها قصير بالكاد يغطي ركبتيها وكتفيها لكنها تعلم أنه لا يحب أن تزوره هنا بثياب أكثر عرياً ..بل لا يحب أن تزوره إطلاقاً!
_حمداً لله على سلامتك ..علمت بأمر الحادث مصادفة ..لماذا لم تخبرني؟!
تقولها بقلق يستقبله هو بابتسامة مصطنعة زاهداً في الرد ولايزال يقف مكانه دون دعوتها للدخول ..
فتتنحنح لتقول بالمزيد من الارتباك :
_والدتك هنا؟!
_عادت للصعيد .
يقولها باقتضاب وهو يهز رأسه نفياً فتعاود قولها بنبرة شبه راجية :
_أدخل؟!
_دينا!
يقولها بنبرة محذرة فتحمر وجنتاها الرقيقتان وهي تهتف بانفعال:
_لا تبدأ في هذا الكلام الذي أحفظه عن ظهر قلب ..أرجوك دعني أدخل ..الليلة فقط .
يرمقها بنظرة قاسية رافضة لكنها تقترب منه خطوة لتهمس بالمزيد من الرجاء:
_لا تعلم كم كنت قلقة عليك عندما علمت الخبر ..دعني فقط أشعر الليلة أنك بخير ..معي .
يشرد ببصره للحظات كأنما سحبته عوالم مجهولة قبل أن يشير لها بالدخول ليغلق الباب خلفها ..
تبتسم بحنان وهي تتأمل ملامحه الوسيمة لكنه يتجاهل نظراتها ليسألها :
_تناولتِ عشاءك ؟!
_سأتناوله معك لو أردت .
تقولها بمزيج من لهفة ورجاء فتزداد سحابة الضيق فوق ملامحه تكاثفاٌ لكنها تردف بسرعة :
_أنا على عهدنا لا تقلق .
بدت عبارتها وكأنما منحته بعض الاطمئنان فتفحص ملامحها باهتمام متسائلاً:
_تبدين شاحبة هزيلة ! هل …؟!
يقطع تساؤله بشك متهم فتهتف بسرعة :
_لا ورب العزة ! أبداّ! أخبرتك أنني على عهدنا .
يتفحصها بنظره لثوانٍ قبل أن يباغتها باختطاف حقيبتها ..يفتحها بسرعة ليلتقط منها هاتفها ..يقلب الأرقام بسرعة ثم يلتقط لها “سكرين شوت” يرسلها لهاتفه هو ..
_تعلمين أنه يمكنني معرفة الأصحاب الحقيقيين لهذه الأرقام .
_تغار ؟!
تقولها بنبرة غريبة بين مرح وترقب فيعود ليرمقها بنظرة قاسية تناسب قوله :
_لو بقيتِ تتحدثين بهذه الطريقة فمن الأفضل أن تغادري!
تتنهد بأسف وهي تتحرك نحو المطبخ الذي تعرف مكانه قائلة :
_سأعد لك المكرونة كما تحبها ..انتظرني في الشرفة .
يتحرك ليبدو وكأنه يتجه حقاً للشرفة لكنه يعود بحذر ليراقبها خلسة من خلف أحد الأعمدة ..
يقرأ ملامحها بخبرته فلا يزيده هذا إلا أسفاٌ !
متى التقى بها أول مرة ؟!
عام ؟!..عامان ؟! هو لا يذكر بالضبط ..
حياته كلها صارت متشابهة الأيام ولولا عمله لما انتبه لمرورها !!
يرتاح إلى هذه “الفتاة” ربما لأنها من القلائل الذين لا يرمون المزيد من “الحطب” فوق نيرانه ..
بل إنه يشعر بها -أحياناً-تنجح في إخماد بعضها !
فتاة !! تحلو له تسميتها هكذا..يحب أن يراها بهذه العين البريئة..
هذه العين التي -ربما- يود لو يراه الناس -هو- بها!!
يشفق عليها من ماضيها ..لكن عزاءه أنها وجدت اليوم والغد !!
من يدري؟!
ربما كانت تخدعه هي الأخرى!!
كما يخدع هو الناس بمظهره !
كلاهما مثقل بأوزار ماضيه لكنه يظهر للناس محلقاً في عليائه !!
يراها أوشكت على الانتهاء مما تفعله ..تمسح دمعة تفر من عينها غادرة فيبتسم بسخرية مريرة وهو يدرك سبب بكائها ..
ليته كان يستطيع منحها ما تريده منه!
يبقى مكانه مختبئاً وهو يراها تتقدم بطبقي الطعام فيكتم أنفاسه ..
يظهر لها فجأة فتشهق بعنف ليسقط الطبقان من يدها بمحتوياتهما !!
_آسفة! أنت أفزعتني! سأنظف هذه الفوضى وأعد غيره ..
تهتف بها بتلعثم لكنه يقاطعها وهو يمسك معصميها بعنف ليهمس أمام عينيها بنظراته القاسية :
_رأيتِ كيف يكون شعوركِ عندما تتعبين في صنع شيء ويسقط منكِ في اللحظة الأخيرة ؟! تذكري هذا الشعور جيداً قبل أن تفكري في عمل شيء يجعلني أحس أن ما فعلته معك راح هدراً!
تدمع عيناها بمزيج من رهبة وعاطفة وهي تومئ برأسها فيرمقها بهذه النظرة التي تكاد تجمد الدماء في عروقها للحظات ..
قبل أن يحرر معصميها ليعطيها ظهره قائلاً بنبرة منهكة تناقض تماماً نبرته السابقة كأنه بدل جلده في ثوانٌ :
_انتهي من التنظيف والحقي بي هناك ..لا تعدي طعاماً آخر ..لست جائعاً ولا أظنك كذلك !
تتمالك خفقاتها بشق الأنفس وهي -بالكاد- تمنع نفسها من معانقة ظهره المواجه لها ..
لا عناق رغبة بل عناق احتواء!!
طالما شعرت به خلف هذه الواجهة المرعبة مجرد طفل مدلل انتزعوا منه دميته ورموه في عرض الطريق!!
ربما لهذا سقطت رغماً عنها في بحر عاطفتها
-اللامسماة – هذه نحوه !!
ربما لأنه الرجل الوحيد الذي نظر فيها لما يفوق جسدها !!
وربما لأنها تتمنى لو ترد له صنيعه فتكون المرأة التي تنقذه من شتات نفسه ..
فقط لو يسمح لها !!
تراه يتحرك ليبتعد فتتحرك بدورها لتحضر ما تنظف به المكان ..
تنتهي مما تفعله فتلحق به إلى الشرفة ..
_تركت لكِ الأرجوحة ..أظنها ستعجبك!
يقولها وقد جلس على الكرسي الوحيد في الشرفة وقد انشغلت أنامله بجهاز ما سرعان ما انبعتث منه هذه الأنغام الأجنبية الصاخبة التي لا تفهمها لكنها تثير خوفها ..
تثير خوفها وتحبها في مزيج عجيب يشبه شعورها نحوه !!
تنحي أفكارها جانباً وهي تتحرك لتعتلي
الأرجوحة المعلقة ..
تضحك ضحكة مكتومة وهي تحرك قدميها في الهواء شاكرة له هذه المتعة القصيرة ..
لكن متعتها بالأرجوحة تتضاءل أمام متعة رؤيته وهو يغمض عينيه ليرفع وجهه نحو السماء المظلمة إلا من قمر مذعور يختبئ خلف غيومه ..
يبدو وكأنه توحد تماماً بحركة رأسه الراقصة مع الأنغام المنبعثة حوله حتى نسيها هي ..
بينما تبدو هي وكأنما توحدت بهذا السحر الخاص الذي يشع منه ..
تنتهي الأنغام أخيراً فيفتح عينيه لينظر إليها فجأة بتعجب كأنه قد تذكر وجودها فجأة..
_احكي لي عن آخر أخبارك ..كيف تبلين في حياتك الجديدة ؟!
_لا أريد الحديث عني هذه المرة .
_إذن ..لماذا أنتِ هنا؟!
_أخبرتك أنني جئت كي أطمئن عليك ..أنت بخير؟!
تسأله ولا تنتظر الجواب ..
فقط تستمتع بالمزيد من هذا السحر الرجولي المنبعث منه..
عيناها تلتمعان ببريق إعجاب احتل خلاياها كلها وهي ترمقه في جلسته المهيمنة كملك متوج…
شعره المصفف بعناية كما يجب أن يكون…
جبينه الوضاء الذي تجعد مع انعقاد حاجبين
ظلّلا عينين صقريتين تتوهجان كشهابين من نار…
أنفه الذي يحكي بشموخه ألف قصة من غرور…
شفتيه اللتين ناقضتا كل هذا بابتسامة جليدية قبل أن تمتد أنامله ليشعل لفافة تبغ أخذ منها نفساً عميقاً قبل أن ينفثه ببطء …
خطواتها تنجذب نحوه دونما وعي حتى تقف أمامه قبل أن تنحني على ركبتيها وهي تعقد ساعديها على ساقيه لتتمتع عيناها بصورة أقرب وهي ترفع وجهها إليه لتهمس بصوت مغوٍ:
_لن تقنعني ببرودك هذا…تحت الرماد نار أكاد أحسها تلفحني بلهيبها.
فتتسع ابتسامته القاسية موازية لصرخة دهشتها وهي تراه يغرس “سيجارته” المشتعلة في معصمه لتتجمد ملامحه بألم بدا وكأنه اعتاده …
قبل أن يتصبب جبينه بعرق خفيف وهو يتناول مطفأة سجائره من جواره ينفخ بقايا رمادها في وجهها متجاهلاً سعالها …
قبل أن تتبع هي بنظراتها تلك الندوب على ذراعه والتي تعرف – الآن- سببها!!
ليقول أخيراً خلف عينين تموجان ألماً وقسوة وهو يتذكر آخر عبارة ل”طيفه” الغادر :
_حمقاء! وهل للرماد حياة؟!
تشحب ملامحها بمزيج من إشفاق وخوف ..
ترفع ذراعيها ببطء تتوق لعناق واحد ..
عناق واحد تحتوي فيه هذا الوجع الذي يسكنه لكنه يقف مكانه فجأة فيختل توازنها وهي تسقط للخلف ..
تستند على راحتيها لتقف أمامه لكنه لا ينظر إليها ..
عيناه يبتلعهما العالم الأسود الذي طالما يختطفه منها ..
_من الأفضل أن ترحلي ..لن تجدي بغيتك هنا .
_بغيتي أن أراك .
_لا أحد يراني يا حمقاء ..لا أحد يراني !
يهمس بها بقسوة معذبة وهو يتحرك مبتعداً عنها فتهم بالاقتراب لكنه يشير لها بكفه قائلاً بصرامة :
_لو كنتِ تريدين البقاء فابتلعي لسانكِ حتى يشرق الصباح ..ساعتها سأنام أنا وترحلين دون كلمة واحدة ..وإلا وفري وقتك وارحلي الآن .
تومئ برأسها في طاعة وهي تدرك أن هذا أفضل ما ستناله منه ..
تعود لمكانها فوق الأرجوحة تراقبه بصمت ..
فيما يظل هو يراقب السماء المظلمة بشرود قبل أن ينحني ليتمدد مكانه على الأرض ضاماً ذراعيه لصدره كأنه يحمي نفسه ..
تزدرد ريقها بانفعال صامت وهي تراه يغمض عينيه للحظات قبل أن يعود ليفتحهما ناظراً للسماء من جديد ..
شفتاه تتحركان بتمتمة لا تسمعها لكنها تكاد تشعر بها !
يبقيان على هذا الحال لدقائق طالت لم تدرِ عددها حتى يتبين أخيراً الخيط الأبيض من الخيط الأسود في السماء ..
هنا فقط ..تشعر أنه وجد الأمان ليغلق جفنيه تماماً مستسلماً للنوم ..
تنهض من مكانها لتتحرك نحوه ببطء حذر ..
تتردد في إيقاظه خوفاً عليه من نومة غير مريحة كهذه لكنها تؤثر تركه وقد شعرت أن النوم “العزيز” هذا لا يأتيه بسهولة ..
ترمقه بنظرة مودعة أخيرة وهي تمنع نفسها
بالكاد من تقبيل جبينه قبل أن تتحرك بخفة لتغادر ..
فتسمعه يتمتم في نومه مكرراً :
_لا أحد يراني ..لا أحد يراني ..
======
*بنفسجي*
======
_أين جمالك يا “ياسمينة الشام”؟! من يراكِ الآن يظن أن وجهك قد داسه قطار!
تهتف بها زوجة غازي بشماتة وحروفها تقطر غلاٌ أمام ديمة في مدخل بيت غازي الذي تسكن فيه ديمة الطابق الأرضي فيما تسكن ضرتها الطابق الذي يعلوه ..
كانت ديمة قد خرجت لتوها كي تتنشق بعض الهواء النقي في مدخل البيت بعيداً عن جو البيت الداخلي الخانق ..
لكن لا فائدة ..غازي لوث هواء الدنيا كلها!!
تتجاهل حديث المرأة الشامت كعهدها وقد قررت العودة للداخل تجنباً للمشاكل لكن المرأة البدينة وافرة الصحة -والتي تفوقها حجماً وعمراً بمقدار الضعف وأكثر- تسد طريقها لتعتصر ذراعيها بين قبضتيها وهي تجول بعينيها الحاقدتين فوق وجه ديمة المكدوم ..عينيها المتورمتين ..وشفتيها المجروحتين ..وأخيراً شعرها المقصوص ببشاعة ..لتقول بالمزيد من الشماتة :
_هل رأيت عاقبة من تخطف رجلاً من زوجته ؟! دخلتِ بقدميكِ للنعيم يا حبيبتي؟!! اشبعي به !!
تمتلئ عيناها بالدموع لكن ملامحها تبقى على جمودها مما يستفز المرأة لتردف بالمزيد من الغيظ :
_أي مصيبة قذفت بكِ إلينا؟! نحس ..باردة ..ثقيلة الظل ..لا أدري ما الذي يعجبه فيكِ؟!
تقولها وهي تبسط راحتها المفرودة في وجهها دافعةً ديمة بعيداً لتكتم الأخيرة تأوهها ثم تقول وعيناها تلتمعان بوميض غريب غامض :
_لا بأس ! قريباً نرتاح كلنا !
لكن المرأة تسيئ تأويل عبارتها فتخبط صدرها بكفها هاتفة باستنكار:
_تهدديني يا ….(….)!
لسانها يسترسل بقبيح الشتائم وهي تدفع ديمة أرضاً لتجثم فوق جسدها الضئيل بجسدها هي الضخم ..تشد شعرها متجاهلة صرخاتها وهي تكيل لها صفعات غيظها ..
فتغمض ديمة عينيها وقد توقفت حتى عن المقاومة ..
ليتها تقتلها فينتهي هذا الألم ..ينتهي للأبد !!
_يتزوج عليّ واحدة مثلك لا تساوي في سوق النساء ربع جنيه ! لماذا؟! كي ينجب !! هأنتذا لم تنجبي كذلك !! العيب منه ذاك ال…!!
تنقطع كلمات المرأة بصرخة قوية وهي تشعر بغازي خلفها فجأة يجرها من شعرها ليبعدها عن ديمة فتشحب ملامحها بارتياع موقنة من أنه قد سمعها ..
_متى عدت؟! لم أقصد ..هي التي استفزتني ..آه ..
صرخات المرأة تتواصل وهو يسحبها خلفه نحو الطابق العلوي من شعرها وقد بدا من ملامحه أنها ستنال ما يفوق الضرب المبرح !
فيما بقيت ديمة ممددة على ظهرها على الأرض زاهدة في مجرد الحركة ..
شعور الخيبة لديها الآن يفوق شعور الألم!
لماذا جاء غازي الآن ؟!
ربما لو كان قد تأخر قليلاً لقتلتها المرأة غلا!
لكفاها وكفى نفسه ما تعده هي له !!
لا بأس ..غداً ينتهي كل هذا ..
غداً تستريح ..ويُستراح منها !!
تسمع صرخات المرأة قادمة من الأعلى فيرتجف جسدها بالألم كأنها هي من تتلقى الضربات ..بل و”ما يليها”!!
الوحع يخدر جسدها هي حتى تسكن صرخات المرأة أخيراً فيرتعد جسدها هي برهبة وهي توقن أن دورها هي قادم ..
تحاول النهوض فتنفلت منها آهة توجع رغماً عنها ..
لكنها تتحامل على نفسها لتقف أخيراً قبل أن يروعها هذا الصوت المعدني لشيء ما يسقط ..
تشهق بجزع وهي تتحسس أذنها ثم تنحني لتلتقط “فردة الحلق البنفسجية” والتي كانت قد كسرت!!
هنا فقط تعود لها كل مشاعرها المفقودة ويتشقق القناع الجليدي عن وجهها فتبكي بحرقة وهي تهتف بين شهقاتها :
_إلا أنت ! لا تنكسري!! لا تنكسري أبداّ!! اصبري قليلاً ..لم يبقَ إلا القليل ..واجعلهيم يدفنونكِ معي !!
تقولها وهي تقبض كفيها على البقايا المكسورة تقربها من صدرها تارة ..ثم تقبلها بشفتيها تارة أخرى لتتمتم بين دموعها :
_أنتِ غاضبة مني يا هالة ؟! غاضبة لأني لم أعد أزورك !! تعلمين أنه رغماً عني !! لو كان الأمر بيدي لما تركت قبرك أبداً حتى يجدوا لي مكاناّ جوارك !!
_ماذا تحملين في يدك أنتِ الأخرى؟!
يهتف بها غازي خلفها فتنتفض مكانها بخوف قبل أن تبسط له كفيها كي يرى ما فيهما ..
هنا تبدو الاستهانة الساخرة على وجهه العبوس لتهدأ بعض ثورته وإن حافظت لهجته على فظاظتها :
_لعنها الله ! بسببها ابتليت بكِ!
يقولها ثم ينتزع منها البقايا المكسورة فتصرخ بهلع :
_لا! لا أرجوك ..أرجوك ..دعها لي!
_اخرسي!
يهتف بها بخشونة فتنهار في بكائها من جديد لكنه يدفعها نحو الداخل مردفاً :
_ادخلي واستري نفسك .
تتردد قليلاً في أن تقبل يديه كي يترك لها البقايا المكسورة لكنها كانت تعلم أنه لن يفيدها ..
لهذا عندما دفعها بخشونة من جديد نحو البيت عادت دونما مقاومة تجر خلفها أذيال خيبتها ..
_أديم!!
يصرخ بها غازي بصوته الغليظ فتختبئ هي خلف النافذة لتراه وهو يلقي البقايا المكسورة بعيداّ ..
تشعر وكأنما ألقى ما بقي من روحها معها ..لكنه لم يكن يهتم وهو يلقي ببعض أوامره لحارسه !
_لا بأس! لا بأس! اقترب الخلاص يا بنية !
تقولها لنفسها وهي تتوجه بخطوات متثاقلة نحو المطبخ القريب ..تعد له الطعام ب”إضافتها الخاصة” التي تواظب عليها منذ أيام ..
هذه المأساة ستنتهي قريباً ..
ربما كانت سعيدة الحظ لتنجو بفعلتها ..
وربما كان حبل المشنقة أقرب للخلاص الذي تريده !!
لا يهم!! لا يهم!!
فلينتهِ كل هذا فحسب!! فلتسترح ..فلتسترح!!
تحمل الأطباق نحو المائدة لترصها أمامه ..
كالعادة لم يدعها لمشاركته الطعام وليته يفعل !
ليت كل هذا ينتهي دفعة واحدة !!
تراه وهو يتناول الطعام بنهم بينما هي شاردة في ملامحه كأنما تبحث فيها عن طيف قديم عشقته ..
لكنها لا تتعثر سوى بالشوك يدمي قدميها !!
“خاطفة رجال”!!
هل هي حقاً كذلك؟!
هل يعاقبها الله لأجل هذا ؟!
يشهد الله أنها لم تحسبها هكذا !!
بل إنها لم تحسبها أصلاً!!
حمقاء كانت !
مجرد كرة يدار بها بين الأقدام فلا تعلم أي قدم داستها !
لكن ..قريباٌ ..قريباً ينتهي كل هذا ..قريباً تنتقم لنفسها ..
وربما منها !
أناملها تتحسس أذنها حيث فردة القرط المفقودة فيفيض نهر الذكرى:
_هالة! خذي واحدة وسألبس الأخرى! أعلم أنه رخيص ولا يليق بمقامك لكنني أحب هذا اللون منذ صغري..غداً عندما أملك المال سأشتري لنا تذكاراً أفضل منه !
_لا تكوني سخيفة ! إنه جميل حقاّ! يكفيني شعوركِ هذا .
_أعجبكِ حقاً ؟! دعيني إذن ألبسكِ إياه !
تقولها وهي تقرن قولها بفعلها فتضحك هالة وهي تستسلم تماماّ لما تفعله قبل أن تفعل معها المثل ..لتقول لها أخيراً بعاطفة حقيقية :
_أنتِ أجمل هدية منحها لي الزمن منذ عهد بعيد ..كأن القدر جاء بكِ من بلدك إلى هنا كي تكوني أختي التي لم تلدها أمي .
_وماذا أقول أنا إذن؟! أنتِ صديقتي وأختي وأمي ..عِوض القدر عن كل من فقدتهم من أهلي .
_ما هذا الطعم ؟!
صوت غازي الفظ ينتزعها من شرود ذكرياتها فتشحب ملامحها بخوف :
_أي طعم ؟!
_الطعام مذاقه غريب ..كأن ..
تزداد خفقاتها جنوناّ وملامحها تشحب حد الموت واشية بجرمها ..
لكنه يردف بغضب:
_كأن ملحه زائد! ليس اليوم فحسب بل منذ بضعة أيام !
تتنفس الصعداء وهي تحاول التقاط أنفاسها لترد بسرعة :
_سأنتبه في المرة القادمة .
يزفر بسخط وهو يخبط المائدة بكفه صارخاّ:
_لا فائدة ! الإسراف في دمك!! مال سائب هو؟!
تنكمش على نفسها وهي تتوقع بطشه لكنه يدور ببصره فوق ملامحها وقد بدا عليه بعض
الاستياء من إيذاء زوجته الأخرى لها :
_لن تمسّكِ ثانية ! لقد ضربتها ضرباً سيقعدها في السرير ليومين على الأقل ..أين كان عقلي وأنا أرمي بنفسي للتهلكة مرتين ؟! ظننت السورية تختلف عن المصرية ! كل النساء طينة واحدة ! خميرة نكد !!
يهتف بها بفظاظة وهو يلوك الطعام في فمه فيزداد انكماشها على نفسها وهي تراقب
ملامحه بمزيج من رعب وترقب ..
متى سيؤتي فعلها ثماره ؟!
متى ستراه يسقط أمامها لتسقط هي بعده وينتهي كل شيء؟!
أو تنجو ويكون لها بعث جديد وميلاد جديد ؟!
يالله !! مجرد التفكير الأخير معجزة ..
معجزة تعلم أنها لا تستحقها!
_أنا انتهيت! أعدي لي الشاي ولا تزيدي السكر! وإياكِ أن تزيدي الملح في الطعام مرة أخرى !
يهتف بها بقسوته المخيفة التي تمتزج كعهدها ببخله الشديد فتومئ برأسها في طاعة وهي تنظر للأطباق التي فرغ محتواها بمزيج من خوف وأمل ..
تعد له الشاي ثم تراقبه برعب يزداد لحظة بعد لحظة ..
يشرب الشاي ثم يتجشأ بمشهد مقزز أمام التلفاز قديم الطراز فوق المنضدة ..
البيت كله قديم الطراز وقد منعه بخله من تجديده رغم أنه قد صار كبير هذه البلدة خاصة بعد رحيل عاصي الرفاعي بعيداً ..
تتلون ملامحها بألم غامض واسم عاصي الرفاعي يغزو خاطرها ..
لكنها تنفض كل هذا عن ذهنها وهي تعود لمراقبة هذا “الغول” أمامها ..
يشرب الشاي ..رشفة رشفة ..
فيخفق قلبها بجنون وكأنه لا يرتشف من كوبه بل مما بقي من عمرها ..من عمريهما معاّ!
يسعل فجأة فتنتفض مكانها برعب وهي ترجع للخلف تلتصق بالحائط ..
لكنه يقف أخيراً ليهتف وهو لا يميز شيئاّ من انفعالاتها :
_سأخرج لبعض شأني ! إياكِ أن تنامي قبل أن أرجع ..وانظري في حل لوجهكِ المشوه هذا ..النساء يفهمن في هذه
الأمور ..لكن من أين تدركين أنتِ خبايا النساء وأنت مجرد حمقاء بلا خبرة ؟!
يتبع كلماته بلعناته التي اعتادتها وهو يلكمها في كتفها بعنف غير مبرر كي يزيحها من طريقه ليخرج صافقاً الباب خلفه ..
فتنهار جالسة مكانها على الأرض وهي تنشج بصوت خافت :
_ليتك لا ترجع ..ليتك لا ترجع !
======
*أديم ….(طائر الظلام)
======
_توقف بالعربة هنا ..أحب رؤية هذه الأنقاض!
يقولها غازي بتلذذ سادي مخاطباً أديم الذي نفذ رغبته فوراً ..بل إنه توقع منه هذا الأمر كعهده كلما مر ب”أطلال” بيت عاصي الرفاعي الذي هدمه بنفسه منذ سنوات وتركه هكذا على حاله قبل أن يهجر البلدة كلها !!
_هل تذكر عاصي هذا يا ولد ؟!
يسأله بنبرة فاح منها حقده ليرد أديم باقتضاب:
_لم أكن وصلت لهذه البلدة بعد ! أنت أول من أعمل لديه هنا !
_من حسن حظك أنك لم تدرك ذاك الطاغية ! عليه اللعنة أينما حل!! لو أدري فقط من أين يأتي بحظّه الناريّ هذا ؟! يسقط من فوق الجبل فلا يموت ..يفقد بصره ثم يعود إليه ..يعيش كل هذه السنوات بلا طفل ثم يُرزق باثنين! اثنين !! وأنا ..
يبتر عبارته قسراً وقد سوّد الغل وجهه فيصمت أديم وقد تعلم مع بطش سيده متى يصمت ومتى يتكلم ..
_خذنا للمكان الذي تعرفه ..أريد أن أحسن مزاجي .
يقولها غازي أخيراّ وهو يشير له بملل فيعاود التحرك بالعربة نحو ذاك المكان القصي في أطراف المدينة حيث اعتاد سيده العزلة ..
صوت الريح يصدر صفيراً خافتاً يتردد صداه بين المرتفعات حوله فيأخذ حذره وهو يوقف العربة ليترجل منها ..
يشعل بعض الأحطاب ثم يفرش سجادة صوفية خشنة أمامها قبل أن يعد لسيده ما اعتاد به تحسين مزاجه ..
يجلس غازي على الأرض مستمتعاً بهذه الأنفاس ساحرة التأثير من الشيشة أمامه ..
يتلذذ بهذا الصمت الكئيب حوله فهو لا يحب الناس كما لا يحبونه ..ولا يعنيه أن يحبوه ! المهم أن يخافوه !
لهذا كانت وحدته هنا في هذا المكان بمثابة مكافأة له في نهاية كل يوم طويل ..
ولولا حاجته للحراسة بعد حالة الانتشاء التي يصل إليها بعد كل جلسة كهذه لما أراد صحبة أديم ..
_تعرف يا ولد ؟! لماذا أفضلك على البقية ؟!
يسأله وقد بدأ أثر النشوة يلعب برأسه فيومئ أديم برأسه بخنوعه المعهود منتظراً الرد …
_لأنك لم تخيب ظني في أي شيء طلبته منك ..تبدو لي كطائر يجيد اختراق
الظلام حتى يصل لبغيته ..جناحاك يبدوان صغيري الحجم لكنهما قويان كحد السيف ..قليل الكلام وهذه ميزة لرجل ملول مثلي ..والأهم أنك لا تطمع فيّ ..لا تطلب الكثير بل لا تطلب أصلاٌ ..لا أخفيك قولاً أنني خفت من سواد بشرتك الذي يشبه الجان هذا عندما رأيتك أول مرة ..لكنني وجدتها ميزة كي أئتمنك على أهل بيتي .
يقولها ببعض التخبط وهو يراقب الأدخنة الكثيفة التي بدأت تتكون حوله فيدرك أديم أنه قد بدأ يفقد إدراكه بفعل ما يتناوله ..
وأنه سيهذي بخباياه ككل ليلة بعد انتشائه المذموم ..
_لا تعنيني “البقرة” الكبيرة ..فلا أظن أحدهم يهتم بكتلة الشحم هذه ..لكن الغزالة الصغيرة هي المشكلة ..هل تدرك صعوبة أن يتزوج رجل بكتلة من الفتنة مثلها ؟!
تشتعل جوارح أديم رغم صمته وهو يدرك أين سيقود الحوار والرجل يزداد هذيانه :
_لا يغرنك وجهها الشاحب هذا ..أنت لا تعلم أي فتنة يخفيها جسدها ..عندما رأيتها أول مرة شعرت وكأنني لم أرَ امرأة قبلها ..زهرة نادرة الجمال كنت أول من يقطفها ..لن يملأ عينيها إلا رجل مثلي يعرف كيف يرضيها ..عندما تكون بين ذراعي تتنهد بهذه الطريقة التي ..
يكز أديم على أسنانه بقوة وهو يكاد يرجوه التوقف بينما الخسيس مستمر في بذاءاته ..
يصف له بكل فجور تفاصيل جسدها بل
وعلاقتهما الخاصة !!
يشعر بالدماء تفور في عروقه فيهمّ بإخراس لسانه ولو بقذف أكبر حجر في هذا المكان فوق رأسه ..
لكنه يعود ليذكر نفسه بالصبر ..الصبر !!
_هذا الصنف لم يعد كالسابق ..أضف المزيد يا ولد ! رأسي لم يصل لتمام الضبط ..أريدها ليلة كاملة معها ..تحلف بها!
الوغد مستمر ببذاءاته وهو لا يعي ما يقول ..
لكنه يحاول صرفه للحديث عن شيء آخر :
_هل ستسافر للعاصمة ؟! ستحتاجني معك ؟!
_أسافر؟! لا أفكر الآن إلا في السفر بين ذراعيها ..تعرف ما الذي يفعله العنف في الفراش يا ولد ؟! تبدو قليل الخبرة خائب الرجا ..دعني أخبرك!
هنا يعقد حاجبيه بقوة وهو يستمع منه لتفاصيل ما ينتوي فعله بها فلا يملك نفسه وهو يزيد له جرعة هذا السم الذي يتناوله ..
ليته يزيدها حد القتل فيستريح وتستريح هي منه ..
لكنه يعلم أنه لايزال يحتاجه !!
لهذا زاده فقط بهذا الحد الذي ذهب بوعيه تماماٌ بعد دقائق ..
ليتركه في وادٍ آخر عاجزاً عن المزيد من الثرثرة ..أو حتى الوقوف!!
لا بأس!
هو كفاها أذاه هذه الليلة وليته يملك فعل المزيد !!
ربما لو تصبر قليلاً ..قليلاً فحسب ..
فيخلصها من هذا الجحيم الذي تعيشه هنا!!
يسمع صوت شخيره يعلو فيبصق على وجهه ثم يطفئ النار وهو يود لو يحرق بها أطراف ذاك الوغد واحداّ واحداً ..
يرفعه ببعض العسر وقد تثاقل جسده كخرتيت ليعيده بخطواته المترنحة إلى العربة التي يقودها بحرص مبتعداً عن الطرق المعمورة كي لا يرى الناس “كبيرهم” بهذا الحال!!
_أديم!
تفتح له الباب بدهشة وهي تثبت وشاحها فوق رأسها فيطرق برأسه وهو يسند ذراع سيده فوق كتفه دون رد ..
لتهتف هي بلهفة:
_مات؟!
كلمتها الغريبة بهذه اللهفة تثير مشاعره الجامحة نحوها وهي تشعره أن هذا قد صار منتهى أملها !!
_هو بخير ..ربما زادت فقط جرعة هذه الليلة ..سأذهب به للفراش .
تكتسي ملامحها بمزيج من خيبة وارتياح وهي تشير له نحو الداخل ..
تراقبه بشرود وهو يعود أخيراً مطرق الرأس غاضاً بصره عنها ليخرج بسرعة فتخرج خلفه لتناديه هامسة فيلتفت نحوها دون أن يرفع إليها بصره كأنه يخشى وهنه نحوها …
_هل سيفيق قريباً ؟!
تسأله بوجل فيهز رأسه نفياً بجوابه :
_لا أظنه سيفيق حتى الصباح .
_إذن سأطلب منك شيئاً ..لكن لا تخبر سيدك عنه .
يهز رأسه وهو يتمنى لو كان ما تطلبه في يده فتعاود رجاءها الخافت :
_أريد زيارة المقابر .
_الآن ؟! في هذا الليل؟!
يقولها بخشونة صوته التي تخيفها أحياناً فترد بنفس النبرة الراجية :
_هو لا يسمح لي بالخروج نهاراً ..وربما لن تسنح لي فرصة كهذه مرة أخرى!
كل ملامحه تنطق بالرفض وهو يشيح بوجهه حتى أنها لم تفكر بعدها في تكرار رجائها ..
فقط تقبلت خيبتها كعهدها وهي تكاد تعطيه ظهرها لكنه التفت فجأة لتلتقي عيناهما عبر هذا الضوء الخافت القادم من مدخل البيت ..
كانت المرة الأولى التي يسمح فيها لنفسه
بالغرق هكذا في زرقة عينيها القاتمة ..
دون محاذير ..دون قيود ..دون أي حسابات ..
لؤلؤة فقدت محارتها !
هكذا كان يراها دوماً منذ وقعت عينه عليها !
فتمنى لو يكون لها دفء محارة تغلق عليها فلا تمسها بعده أنامل بشر !!
النمش فوق بشرتها بدا له وكأنه ندوب العمر تستصرخه أن يمحوها ..
وهذه الشعيرات الغادرة التي تفلتت من حجابها عبر وشاحها بلونها الأحمر المتوهج تبدو له كجحيم تصطلي به وحدها ..
وهاتان الشفتان المتورمتان بجرح جانبي ترتجفان كطفلتين ترتعدان بين ظلمة وبرد !
فمن يكون هو كي يرفض لها بعد كل هذا رجاء؟!
يحرك رأسه موافقاً ثم يشير لها كي تتقدمه فتشرق ملامحها قليلاً وهي تتحرك بحذر ..
يسير بها في طريق مختصر نحو المقابر القريبة دون أن يسألها عمن تود زيارته ..
هو يعلم ..يحيط بكل تفاصيلها خبراً!!
يتوقفان أمام حارس المقابر الذي كان لايظل ساهراً يرمقهما بدهشة ..
لكن أديم يرمقه بنظرة صارمة تخرسه وهو يشير له بالصمت قبل أن يدس يده في جيبه ليستخرج منه ورقة نقدية وضعها صامتاً في كف الحارس كإشارة لا تحتاج تأويل !
لكن ديمة كانت غافلة عن كل هذا وهي تتركهما خلفها لتتقدم نحو الداخل وقلبها يرتجف بين ضلوعها ..
رائحة الموت لم تعد تقبض قلبها بل صارت تجد فيها أنسها ..
أحباؤها تحت الأرض أكثر بكثير من أحبائها فوقها ..
غداً تلقاهم ويكتمل الجمع!!
ربما لهذا لم تكن تشعر بالرهبة بل ..بالراحة !
قبر هالة هناك يكاد يناديها فتهرع إليه لتجثو على ركبتيها أمامه !!
بضع ذكريات متفرقة لهما معاً تجتاحها فتدمع عيناها بحنين ..
حنين انفرطت حبات عقده لتحمل معها المزيد من ذكريات بلدها كذلك ..
أمها ..أبوها ..أهلها ..بيتها الجميل ولعبها الطفولي في مدخله ..
لكن الصور كلها تتلطخ أخيراً بمزيج من زرقة البحر وحمرة الدم ..
وأخيراً هذا اللون البنفسجي الذي صار أيقونة روحها النازفة !!
_تذكرين حديثنا عن الحب يا هالة ؟! كلتانا أهلكها الحب ..كلتانا اختارت الرجل الخطأ ..وقريباً كلتانا تموت بسببه !
تهمس بها بخفوت بصوت لا يسمع لكنها كان يدوي بين ضلوعها كطلقات رصاص ..
_ربما ..لو أنصفني الحظ وانتقمت لنفسي ..سأعيش لأنتقم لكِ!
هنا تلتمع عيناها بقسوة جريح ..وليس أشد من قسوة الجريح لو تعلمون!
هذه التي شوهت براءة ملامحها للحظات قبل أن تعود لتذوي خلف وجع الخيبة !!
شعلة بقيت متوهجة يواريها الرماد تنتظر الفرصة كي ينثره أحدهم فتضطرم لتحرق
الأخضر واليابس!!
تسمع صوته يتنحنح خلفها من بعيد فتنهض من مكانها ..
ترفع كفيها بالدعاء لكنها تشعر أنهما مدنسان فتعاود خفضهما ..
هالة تستحق من هي أفضل منها كي تطلب لها الرحمة ..
هي هنا فقط كي تخبرها أنها لم تنسَ ..ولن تفعل!!
تعود معه وهي تشعر بخيبة المشوار تطبق
كالجاثوم فوق صدرها وهي التي ظنت نفسها سترتاح ..
لا بأس! يبدو أن عمرها القصير لن يحمل لها طعم الراحة !
يصلان لمدخل البيت فتلتفت نحوه كي تشكره ..
لكنها اصطدمت بهذه النظرة المشفقة في عينيه !
عزت عليها نفسها فابتسمت ابتسامة مريرة ناسبت قولها الشارد :
_لاريب أنك تتعجب من المجنونة التي تزور القبور ليلاً ..تعلم ؟! في بلدي كنت طبيعية ..أخاف من الليل ..من السكون ..من الأشباح ..لكن الآن ..
تنقطع عبارتها بدمعة خائنة تمسحها بسرعة لتردف :
_الآن لم أعد أخاف من الأشباح ..صرت منهم !
يقبض كفيه جواره بقوة وهو يشعر أنه يحتاج ما يفوق ما يفوق قدرة البشر كي يمنع نفسه عنها في هذه اللحظة ..
الهواء يحرك ثوبها بحفيف يقع فوق قلبه
كالسياط وهو يتذكر حديث ذاك الفاجر عنها ..
فيرتجف جسده رجفة تشمله كاملاً وهو يغمض عينيه بقوة ليعطيها ظهره ..
لكنه دس يده في جيبه لتفاجأ به من خلف ظهره يمد لها كفه بما يحمله ..
اتسعت عيناها بصدمة وهي ترى فردة القرط في يده ..وقد أُصلحت!!
_أنت فعلتها؟!
تطلق صيحة فرحة قصيرة يود لو يرى معها
ملامحها بهذا الرضا النادر لكنه لايزال يعصمها ويعصم نفسه ..
_”الله يسلم إيديك ..يعطيك العافية ..عن جد ما بعرف شو بدي قلّك”
بلهجتها السورية تنطقها متتابعة دون فواصل واشية بانفعالها كأنه رد إليها بعض روحها ..
لتنتهي كلماتها الفرحة ببكاء خافت كأنما لم تكن سعادتها القصيرة سوى فرحة مختلسة من حساب الزمن!
يزداد تشنج جسده وهو لايزال يعطيها ظهره ولو صدق نفسه لأدرك أنها أبداً ليست خلفه ..بل هي هنا ..
داخله !!
حلقه يجف وهو لا يقوى حتى على رد شكرها ..
يشعر بها تبتعد راكضة كطفلة حافية في واد لا تخشى له شوكاً ولا زلقاً ..
فيسمح لنفسه أخيراً بتنهيدة راحة ..
كفاه أنه الليلة منحها بعض الفرح الذي تستحقه !
هنا يرتخي جسده ليجلس مكانه جوار أحد
الأعمدة ممسداً صدره بكفه ومستعيداً شعوره بها تسير جواره ..خلفه تارة ..وأمامه تارة أخرى ..إنما تبقى حواسه أسيرة عبق عطرها..
حقيقة أجمل من الحلم !
وفي غرفتها كانت هي تقف أمام مرآتها تثبت فردة القرط في أذنها باشتياق ..
تتنهد بارتياح يتلاشى وهي تتأمل ملامحها التي شوهها الضرب والألم ..ولا تبالغ لو اعترفت أن روحها كذلك مثلها قد تشوهت ..
تنظر عبر المرآة لجسد غازي المسجى على الفراش ..تراقبه بمزيج من حقد وخوف قبل أن تنتبه لما جعل خفقاتها تتقافز بجنون ..
تهرع إليه لتبسط كفها فوق صدره ..تتحسس نبض عنقه ..تحرك أناملها أمام أنفه ..ترفع ذراعه ثم تتركه ليسقط حراً ..
تشعر بطنين غريب في أذنيها وبتنميل يشل أطرافها كاملة ..
قبل أن تنطلق صرختها :
_قتلته ! أنا قتلته !
=========

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى