روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الأول 1 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الفصل الأول 1 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء الأول

رواية ماسة وشيطان البارت الأول

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الأولى

لا أدري في الواقع من اختار لي هذا الاسم…

من الطبيعي أن يسمي الابن والداه…

لكن اللقيط من يسميه؟!!!!

نعم…

وجدتني”رحمة” مجرد “قطعة لحم حمراء” كما يقولون ملقاة جوار مسجد في حارتنا الصغيرة…

فاعتبرتني هدية القدر لها بعدما فرّ زوجها هارباً بابنها الوحيد مع زوجته الثانية إلي بلد عربي…

ليبعث إليها بورقة طلاقها بعدها بأيام!!!

رحمة -التي جعل لها القدر من اسمها نصيباً -ربتني كابنتها…

لكن عندما عاد ابنها الحقيقي كان عليها أن تختار بيننا….

خاصة بعد الحادث -المخزي-الذي تعرضتُ أنا له…

وبالطبع….اختارت ابنها…

لأجدني فجأة في وضعي الطبيعي الذي كان ينبغي أن أكون عليه من البداية…

مجرد لقيطة!!!

================================================== =================

وقفت في محطة القطار تنتظر وصول قطارها القادم…

تأملت تذكرتها في يدها بنظرة ساخرة مريرة…

إنها ليست مجرد تذكرة سفر…

لكنها وسيلتها للهرب من عالمها الذي عرفته طيلة عمرها….

لم تتصور أبداً ولو في أسوأ كوابيسها أن تخرج يوماً من حضن رحمة…

رحمة التي كانت لها الأم والصديقة والأخت….

والآن تجد نفسها محرومة من كل هذا!!!

لكنها مضطرة…

من أجل رحمة نفسها …ستفعلها!!

سمعت صوت صافرة القطار فانقبض قلبها بشدة…

لتتحسس أناملها تلقائياً سلسلة صدرها الصغيرة المنقوش عليها اسمه…

عزيز…

“حب قلبها “الذي كان أروع من أن يكتمل في عالم كهذا…

و”خطيئتها” التي دفعتها للهرب رداً لمعروف رحمة التي تستحق تضحية كهذه…!!!

التفتت خلفها وكأنها تبحث عمن يودعها…

لكنها بالطبع لم تجد أحداً !

ماسة صارت وحدها في هذا العالم…

وحدها تماماً هذه المرة!!!

سارت بخطوات متثاقلة نحو القطار المتجه لإحدى مدن الجنوب البعيدة…

حيث اختارت الفرار …

لكن بمسمى العمل!!!

اختارت مكانها جوار النافذة لتجلس باستسلام ثم أسندت رأسها على زجاج النافذة تراقب الطريق….

شئ بداخلها يرجوها العودة…لكنها تعلم أنها مستحيلة….

تذكرتكِ بلا عودة يا ماسة….

بلا عودة!!!

تناولت هاتفها لتبحث عن آخر ما تبقى لها من عزيز…

خواطره التي يكتبها على مدونته الشهيرة…

والتي تعلم أنها بطلتها الوحيدة….

خواطره التي تلاقي إعجاباً شديداً وشهرة واسعة….

نعم…عزيز ماهر حقاً في الكتابة عن الحب…

وكيف لا؟!!!

وعزيز روحٌ تنبض بالحب…وللحب!!

ظهرت لها آخر كتاباته أخيراً…

لتبتسم في مرارة وهي تتبين تاريخها…

لقد كتبها بالأمس فقط…

كتبها لها هي…

مهلاً يا سيدتي…

مهلاً يا قاتلتي…

ماجئت أقول بأني معتذرٌ…

ماجئت أقول بأني منتظرٌ…

ما جئت أقول وكيف أقول…

وكلامي بعدكِ صار عجوزاً…

يتكئ علي صمتي!!

ما جئت أقول بأنك راحلةٌ..

تاركةً خلفكِ قافلتي…

وجحيماً آخر من أسئلتي…

بل…من أجوبتي!!

ما جئت أقول بأنك كل الأحزان…

وبأنك كل الألوان…

وبأنك كنت الغفران…

لو ضاق الكون بمعصيتي!!!

عفواً…ما جئت أُذكّركِ…

بل جئت وأحمل في كفي أغنيةً…

كانت هي ..أنتِ!!

وبقايا من عمرٍ ولّي…

حين رحلتِ…

ونحيب سطور قد حملت كلماتكِ…

كم قلتِ وقلتِ!!!!

أتراها تشفع لي عندكِ…

أم أنك أنتِ ما عدتِ أنتِ!!!!!

ما جئتُ أقول بأني متهمٌ…

وبأنكِ أنت مُبرئتي…

بل أعرف أن الذنب بعنقي…

والخطأ يطوق خاصرتي!!

وبأنكِ كنتِ علي حق..

إذ قلتِ بأني بركانٌ…

وفؤادكِ ضاق بأبخرتي!!!

ماذا سأقول يبرئني..

ولساني يعترف بذنبي…

تباً لجميع الألسنةِ!!!

كم قلتِ بأني مغرورٌ…

وغروري عطل أجهزتي…

كم قلتِ بأني كالطفل..

لا يعرف وقتاً للجد ووقتاً للعب…

وهذي حقاً مشكلتي!!!

لازلت أحاول أن أرسم

قرصاً للشمس بمسطرتي…!!!

لازلت أحاول أن أطفئ…

ناراً في القش بمروحتي!!!

وأنتِ ما عدتِ بيتاً…

من أقصي الأرض يناديني…

فألقي فيه بأحملتي!!!

ما كنتِ لديّ صدي صوتٍ…

أو تذكاراً…

أو أشعاراً بمفكرتي…!!

بل كنتِ النور بأرجائي..

وملاكاً أسقط عن وجهي كل الأقنعةِ!!!

إن كنتِ ستمضين بعيداً…

فالتفتي خلفكِ وابتسمي…

كي أبقيها في ذاكرتي!!

في الوقت الضائع قد جئتُ…

لا أعرف حمقاً أم ندماً…

أم حسن الظن بمقدرتي…

لا أعرف حقاً سيدتي!!!

إن كنت فقدتكِ ذا اليوم…

سأفتش عنكِ..

في كل مجرات الكون…

وخلف جميع الأزمنةِ!!

وسأجدكِ يوماً ساعتها…

سأغير تاريخ ميلادي…

سأغير اسمي لو شئتِ!!

عفواً..

ما كنتُ لكِ دفئاً

كما كنتِ أنتِ…

عفواً…

ما كنتُ لكِ وطناً…

كما كنتِ أنتِ…

عفواً…

وأكرر أسفي سيدتي!!!!

دمعت عيناها وعادت أناملها تتحسس سلسلته في عنقها….

عزيز يودعها بكلماته…

يعتذر لها عن زلاته التي غفرتها له…

غفرتها دون جهد يذكر…

فقلبها الذي لم يعترف بغيره سيداً ومالكاً…

لم يكن ليحمل نحوه مشاعر أخري سوي الحب…

من للحب سوي عزيز…؟!!!

وما لعزيز سوي الحب!!!!

تنهدت في حرارة…

وذكراه الحبيبة تتخلل مسام روحها ببطء….

هي كل ما تبقي لمؤازرتها في وحدتها الآن….

لتعود بذاكرتها للوراء…

تسترجع لقاءها به أول مرة….

منذ سنوات….

“يا حلو صبح …

يا حلو طل…

يا حلو صبح…

نهارنا فل”

انبعثت هذه الكلمات بلحنها المميز من المذياع القديم بمطبخ منزل رحمة…

حيث وقفت ماسة تعد لهما الإفطار وهي تشعر بالسعادة المميزة لهذا اليوم…

إنه أول يوم لها في معهد التمريض…

لقد أوفت رحمة بوعدها معها…

وساعدتها علي إكمال تعليمها حتي التحقت بالمعهد…

وهي تنوي استغلال هذه الفرصة جيداً…

لتثبت لرحمة العزيزة أن تضحيتها معها لم تذهب هباءً!!

انتهت من رص أطباق الفطور على المائدة…

طبق الفول “منزوع القشر” حتي لا يؤذي معدة رحمة الحساسة…

وشرائح “الطماطم بالكمون” كما تفضلها….

والجبن قليل الملح مع الخبز الأسمر!!!

إنها دوماً حريصة على أن يكون طعام رحمة صحياً لأقصي درجة…

فصحة رحمة تشكل لها هاجساً منذ زمن بعيد…

منذ وعت علي هذه الدنيا لتدرك أنها ليس لها سواها…

وأنه لولاها لتلقفتها يد الموت ببساطة بعدما ألقاها -أحدهم-طفلة رضيعة جوار المسجد الصغير!!!!

توجهت لغرفة رحمة كي توقظها…

لكنها توقفت أمام المرآة الكبيرة القديمة في صالة المنزل…

تأملت نفسها بتفحص …

جسد نحيف لا يغري بالنظر…

وملامح عادية بسيطة…

لا يكاد يميزها سوى عينين بلون الفضة …

رماديتين تزداد حدة لونهما أو تنقص حسب ما ترتديه….

واسعتين كفضاء بلا حدود…

تظللهما رموش كثيفة شديدة السواد …

ويعلوهما حاجبان رفيعان يمنحانها منظراً ملائكياً!!

ابتسمت في رضا وهي تعيد خصلات شعرها الملساء شديدة السواد للخلف…

وذهبت لتوقظ رحمة عندما استوقفها رنين جرس الباب…

توجهت للباب تفتحه بترقب…

لتطالعها عينان بلون الزمرد الأخضر ممزوجاً بالعسل…

عينان تنبضان بجاذبية كاسحة خاصة لفتاة بلا خبرة مثلها…

تنحنحت في حرج عندما لاحظت تفحصه لها بدوره…

فمنحها ابتسامة-مهلكة-كما شعرت بها وقتها ليسألها بصوته الرجولي الذي لم تسمع أعذب منه:

_الحاجة رحمة هنا؟!!

عقدت حاجبيها في دهشة لتهمس بتساؤل:

_تريد أمي؟!

اتسعت ابتسامته وهو يستند بكتفه علي حاجز الباب ليغمزها بشقاوة قائلاً:

_وأمي أنا أيضاً!

اتسعت عيناها في صدمة لتنتبه ساعتها للشبه الكبير بينه وبين رحمة…

فأشارت إليه بإصبعها هاتفة بلهفة:

_عزيز؟! أنت عزيز؟!!!!

انتبهت من سيل ذكرياتها معه عندما بدأ القطار في التحرك نحو وجهته…

دمعت عيناها وهي تشعر شعور من سُلخ من جلده…

لقد رحلت عن عزيز ورحمة إلي الأبد…

ولم يبقَ لها منهما سوى ذكريات…

ذكريات ستبقى زاد قلبها في رحلته الطويلة….

=============

_رؤى!

هتف بها فهد بلهفة فتوجهت نحوه بسرعة لتهتف بلهفة مماثلة:

_فهد!!لقد كنت أبحث عنك!

التقط كفها ببساطة ليهتف بمرح:

_افتقدتك يا حبيبتي…لكنني سأعوضك عن غياب الأيام السابقة كلها!!

ابتسمت رؤى في حنان وهي تنزع كفها منه بخجل قبل أن تملأ عينيها من ملامحه التي اشتاقتها حد الجنون…

فهد جاسم الصاوي….

ابن جاسم الصاوي رجل الأعمال المعروف…

وحبيب قلبها الذي دخل عالمها منذ بضعة شهور فقط ليقلبه لها رأساً علي عقب…

وكيف لا؟!!!

وفهد هو النموذج المجسم لكل ما تطلبه فتاة في فارس أحلامها…

وسامته…

حنانه…

قوته…

ثراؤه ومركزه الاجتماعي…

وفوق كل هذا حبه …

حبه العميق الذي تشعر به يطوقها بحنان آسر!!

تأملها بدوره وقد أسعدته نظراتها المتلهفة والممزوجة بعشقها الذي يشعر بكل ذرة منه…

ليهمس لها بتردد:

_كنت أريد أن أطلب منكِ شيئاً…لكنني أخشي أن تسيئي فهمي؟!

هزت رأسها نفياً وهي تهمس بدلال:

_لن أسئ فهمك أبداً!!

ابتسم في حنان وقد بدا عليه التردد للحظات…ثم وجد الشجاعة المناسبة ليقول بعاطفة مست قلبها:

_لقد افتقدتكِ حقاً…أريد أن نتحدث سوياً بحرية دون خوف من أن يرانا أحد…ما رأيك لو أصطحبكِ معي لشقتي ؟!

تجمدت ابتسامتها علي شفتيها وهي ترمقه بنظرات مصدومة للحظات أغنته عن ردها على طلبه…

فأطرق برأسه ليقول بأسف:

_أنا آسف…ظننتُ أن ما بيننا يستوجب الثقة!!

لكنها هزت رأسها لتقول بارتباك:

_ليست مشكلة ثقة يا فهد!! لكنها ….

قاطعها قائلاً بحنان:

_لا بأس يا حبيبتي…أنا أفهمك…أنا فقط أردت أن أحتفظ بكِ وحدي في عالمي لدقائق.

تنهدت في حرارة…

ثم تلفتت حولها لتطالعها العيون المراقبة لهما بنظرات بين الحسد والفضول…

نعم…

فهد الصاوي بكل مميزاته هو قِبلة العيون هنا في الجامعة…

ومحط أنظار الفتيات…

ومن الطبيعي أن تثير علاقته بها الأقاويل…

لهذا تتحفظ كثيراً في خروجها معه…

فلو علم شقيقها عن هذا سيذبحها حقاً دون مبالغة…

لا مزاح لديه في هذه الأمور….

ربما هو محق بشأن لقائه معها في شقته بعيداً عن العيون…

لكنها لا تستطيع…!!!!

إنها تثق به …

ولو كان هناك أكثر من الثقة لمنحتها له…

فهد أبداً لن يؤذيها…

لكنها لا تستطيع تقبل الفكرة بسهولة…!!!

لاحظ شرودها عنه فهمس بحنان:

_ما الأمر يا حبيبتي؟! هل أزعجكِ طلبي إلي هذا الحد؟!

التفتت نحوه لتبتسم بدورها هامسة:

_لا أبداً…أنا فقط كنت أفكر فيه…

ثم أردفت بثبات وهي تنظر في عمق عينيه:

_أنا أثق بك يا فهد!!

منحها أرق ابتساماته التي خفق لها قلبها طرباً…

فهد من قلائل الرجال الذين يعرفون كيف يرضون عقل المرأة وقلبها معاً…

رغم أنه يكبرها بثلاث سنوات فقط…

لكنها تشعر أن عقله أكبر من هذا بكثير…

قراءاته المتنوعة وثقافاته المختلفة التي اكتسبها من طول أسفاره…

وعمله مع والده منذ سنوات…

كل هذا جعل عقله أكبر من مجرد عقل طالب جامعي في سنته الأخيرة…

وهذا أكثر ما جذبها إليه!!!

قاطع أفكارها عندما نظر في ساعته ليقول بأسف:

_حددي المكان الذي ترغبين الذهاب إليه….لن أستطيع البقاء معكِ أكثر من ساعة فعندي موعد مع والدي بعد قليل.

فابتسمت برقة لتقول برفق وقد حسمت أمرها:

_حسناً…لا أمانع في أن أري شقتك.

=============

فتح فهد باب شقته بهدوء ثم التفت لها قائلاً بحنانه المعهود:

_تفضلي يا أميرتي!!

دخلت بتردد وهي تجيل بصرها في محتويات الشقة حولها…

شقة فاخرة كما تليق بفهد الصاوي…

وذوق بسيط متفرد كما يليق بحبيبها الذي تعرفه!!

جلست علي أحد المقاعد فجلس علي الأريكة جوارها ليقول بعاطفته التي تأسرها:

_لا أصدق أنكِ هنا معي حقاً…سأحرّم علي أي أحد الجلوس علي هذا المقعد بعدك!!

ضحكت بخجل ثم لوحت له بسبابتها قائلة بجدية:

_أنا لم آتِ إلي هنا لنتبادل الغرام يا سيد فهد….أنا جئت لأعرف آخر أخبارك مع والدك.

فتنهد بحرارة ثم قال بحزن واضح:

_لازالت الفجوة بيننا تتسع يوماً بعد يوم…تسلطه على أحلامي وطموحي يجعلني أكره كوني ابنه الوحيد…ربما لو كان لي إخوة لرفع هذا عن كاهلي الحمل قليلاً…لكنه يصر على دفعي لأكون نسخة منه…امتداداً لأعماله ونجاحه….مجرد ظل بلا رأي…كلمتي لا تساوي لديه شيئاً.

فهزت رأسها بأسى ثم قالت بإشفاق:

_لا بأس يا فهد…من يدري…لعل الأيام تقرب بين أفكاركما…

ثم أردفت بحنانها القوي:

_أنا واثقة من أنه سيأتي يوم يدرك فيه قيمتك الحقيقية!!

ابتسم بعاطفة أغرقتها في بحور عشقه أكثر وهو يهمس بامتنان:

_شكراً لأنكِ دخلتِ حياتي لتكوني النور وسط ظلمة روحي.

فابتسمت بدورها وهي تتلفت حولها لتقول بمرح:

_لم أعرفك بخيلاً هكذا….ألن تدعوني لأشرب أي شئ؟!!!

ضحك في مرح وهو يمد لها كفه ….

فمدت له كفها بتردد ليقوما معاً…

ثم توجها إلي ذاك الركن الأنيق في شقته والذي يمثل مطبخاً علي الطراز الأمريكي…

ساعدته في إعداد مشروبين خفيفين لهما…ثم جلسا متجاورين يتجاذبان الأحاديث بمرح…

حتى نظرت هي في ساعتها لتقول بأسف:

_مرت الساعة سريعاً….هيا كي لا تتأخر علي موعدك.

أومأ برأسه إيجاباً…ثم قام معها ليغادرا الشقة بهدوء….

قبل أن تقول هي برقتها الآسرة:

_شقتك جميلة ومريحة مثلك.

ابتسم وهو يتفحص ملامحها بنظراته الحارة ليهمس بحب:

_أقصى ما أحلم به الآن…أن تشاركيني فيها يوماً يا أميرتي

تململت ماسة في جلستها في القطار…

تتابع الطريق بشرود…

وتضم هاتفها لصدرها تحتضن آخر كلمات عزيز التي بدت كنَعْيٍ أخير لحبهما….

ورغماً عنها عادت ذكرياتها معه تغزو عقلها بعنف….

_عزيز؟!!! أنت عزيز؟!!!!

هتفت بها بلهفة ثم انطلقت تعدو نحو غرفة رحمة لتوقظها بعنف هاتفة بفرح :

_استيقظي يا أمي….عزيز عاد…عزيز هنا!!!

فتحت رحمة عينيها وهتاف ماسة يشق أذنها بفرحتها الطاغية….

فانتفضت لتقول بدهشة والنوم لم يفارق عينيها بعد:

_من الذي عاد؟! من هنا؟!

_أنا عزيز يا أمي!!!

كان هذا هو عزيز الذي اندفع نحوها ليجلس جوارها علي طرف الفراش متفحصاً ملامحها بعطش …

عطش ابن حُرم من أمه طوال هذه السنوات…

لكنه أبداً لم ينسَ ملامحها التي حفرت في ذاكرته …

قبل أن يهرب به والده وهو مجرد طفل صغير ليتربى دون حنانها…

فيعاني غربته وقسوة قلب زوجة أبيه في ذات الوقت….

دارت عيناه علي ملامحها التي غيرتها السنون…

وبدت تجاعيد وجهها كعلامات واضحة على أثار الحزن قبل الزمن …

لكن عينيها لازالتا كما هما…

نفس لون عينيه المميز بلمعة الزمرد والعسل…

لكنهما تحملان نظرة كسيرة…

نظرة امرأة هزمها الزمن ليختطف منها الحزن فرحتها غدراً!!!!

وأمامه كانت رحمة متجمدة مكانها ….

قلبها يتوسلها أن ترفع ذراعيها لتضمه إليها…

لكنها كانت عاجزة عن فعل أي شئ سوى التعلق بوجهه…!!!

إنه هو…عزيز…

ابنها الذي حرمت منه طيلة هذه السنوات…

صحيح أنها كانت تعيش على أمل أن تلقاه يوماً….

لكنها لم تتصور أنه قد صار رجلاً بكل هذه الوسامة والقوة….

مدت ذراعيها بتردد نحوه….

أناملها ترتجف بشدة وهي تتلمس ملامح وجهه…

عينيه وأنفه…

شفتيه …

ثم تصعد إلي جبينه العريض لتهبط منه إلي وجنتيه…

تحتضنهما بقوة…

قبل أن تدفن وجهه كله في صدرها هاتفة بحرقة:

_آآآآه يا عزيز!!!! إنه أنت أخيراً!!!!

دمعت عينا ماسة بتأثر وهي تشاهد فرحتهما المشتركة…

ودموع رحمة المنهمرة بغزارة مع انتفاضة جسدها المشتعل بانفعاله….

لقد عاد عزيز أخيراً وتحقق دعاء رحمة الغالية…

رحمة تستحق فرحة كهذه…

لقد عاشت عمرها كله تنتظر عودته…

ولم يخيب القدر رجاءها!!!!

التفتت نحوها رحمة لتهتف بسعادة وكأنها لا تصدق:

_هذا هو عزيز يا ماسة….عزيز عاد!!!

ابتسمت ماسة بسعادة حقيقية…

عندما التفت هو نحوها متفحصاً إياها بإعجاب ظاهر…

ثم هتف بمشاكسة:

_أنتِ إذن الماسة التي اختطفت مكاني في حضن أمي؟!!!

احمرت وجنتاها بخجل للحظات…

فأردف بنفس اللهجة الممازحة :

_أنتِ حقاً تستحقين!!

لكن رحمة أدارت وجهه إليها لتقول باشتياق :

_احكِ لي كل شئ عنك يا ابني…أريد أن أسمع صوتك.

تنهد عزيز في حرارة…ثم قال بشرود:

_أبي عاد بنا منذ عام…واستقر هنا في أحد الأحياء الراقية…وأنا افتتحت مشروعاً صغيراً خاصاً بي….

هزت رأسها لتسأله بعتاب يمتزج بالألم:

_عام كامل هنا يا عزيز ….ولم تتذكرني إلا الآن؟!!

قبل كفها بحرارة ليقول بأسف:

_أبي رفض منحي العنوان…وطوال هذه الأيام وأنا أحاول العثور عليكِ…سامحيني…من الآن لن يمر عليّ يوم دون أراكِ…

فتحت شفتيها لتطلب منه شيئاً ما…

لكنها عادت تطبقهما في ألم…!!!

أجل…كادت تطلب منه أن يقيم معها هنا…

لكنها تعلم أن هذا لن يحدث…

ليس فقط بسبب وجود ماسة …

والذي يجعل بقاءهما معاً في بيت واحد غير لائق…

لكن لأن عزيز الذي تربى على الغنى والرفاهية لن يتحمل العيش في هذه الحارة الفقيرة…

وهذا المنزل البسيط…

هو يستحق أفضل من هذا…

وهي لن تكون بهذه الأنانية لتحرمه من الترف الذي يعيش فيه….!!!!

بينما كان هو يتأمل ملامحها بأسف…

كم يتمني لو يبقى معها هنا…

لكنه علم قبل أن يأتي إلي هنا بحكايتها مع ماسة…

الطفلة التي ربتها كابنتها وأقامت معها طيلة هذه السنوات لتعوضها عن حرمان قلبها الذي أذكاه فقدها له هو…

ويعرف أنه لن يستطيع البقاء معها في وجود ماسة…

لكنه سيزورها يومياً لعله يروي ظمأه لأمومتها….

ويعوضها عن كل ما افتقدته!!!!

قطعت أفكاره عندما تقدمت منه ماسة لتقول بخجل زادها فتنة:

_الإفطار جاهز …ماذا تحب أن تشرب؟!!!

التقطت عيناه عينيها أخيراً بعدما رفعتهما نحوه…

لتلتقي بحور الفضة بلمعة الزمرد والعسل…

ويبدأ بينهما حديث طويل …

حديث عرف طريقه لقلبيهما معاً….قبل أن يهمس بحنان لم يتكلفه:

_أي شئ من يديكِ سيكون رائعاً!!!!

دمعت عيناها عندما وصلت لهذه النقطة من ذكرياتها معه….

رغم كل لحظات الحب التي جمعتهما منذ سنوات…

تبقي حلاوة هذه الذكري في قلبها ليس لها مثيل…

إنها ذكرى أول دقة قلب غادرة تخرج عن سياقه المعروف…

أول رجفة لذيذة للروح بعد طول سباتها…

وأول حلم يملك كيانها خلف ستائر وردية…

هكذا كان عزيز…

وهكذا كان حبه…

كان…!!!!

===============

تنهدت رؤى في حرارة وهي واقفة في فناء الكلية تتلفت حولها في قلق…

فهد مختفٍ منذ بضعة أيام ولا تعرف عنه شيئاً…

حتى هاتفه مغلق وهذه ليست أبداً عادته!!!

زفرت في حنق وهي تحاول إعادة الاتصال به دون جدوى.

ثم جلست علي السلالم الخارجية تحتضن حقيبتها في شرود…

لقد تعلقت به حقاً حد الإدمان…..

أيامها تختنق دونه…

لكنه يستحق…

يستحق أن يتملك كل ذرة في كيانها العاشق…

كفاها أنه حافظ عليها عندما استأمنته علي نفسها وذهبت معه إلي شقته…

واحدٌ غيره كان سيستغلها بحقارة…

لكنها كانت تعلم أنه أهلٌ لثقتها هذه!!!

دمعت عيناها اشتياقاً وهي تتساءل في نفسها عما حدث…

ماذا لو كان أصابه مكروه…

كيف يمكنها الاطمئنان عليه؟!!!

قطعت أفكارها عندما رن هاتفها باسمه أخيراً ففتحت الاتصال لتهتف بلهفة:

_فهد؟! أين أنت؟!

لم يصلها صوته للحظات…

لتسمع همسه بعدها يأتيها متألماً بل مذبوحاً:

_أحتاج التحدث إليكِ .

خفق قلبها بقوة لحزنه…فهتفت بسرعة:

_حسناً…لكن كيف نلتقي؟!

صمت للحظات ثم همس بتردد:

_أنا في شقتي لكنني متعَب…لا أستطيع الخروج…

ترددت للحظات…لكن القلق المتنامي في صدرها حسم قرارها بسرعة…

فهتفت بلهفة:

_سآتيكَ حالاً…هل أجلب لك شيئاً معي؟! ألا تحتاج لشئ؟!

لا تدري لماذا شعرت وقتها أنه يبكي…

صوته كان يأتيها مرتعشاً متهدجاً وهو يهمس:

_أحتاجكِ أنتِ…فقط أنتِ!!!

زادت همساته المذبوحة من خفقان قلبها الملهوف…

ثم لم تدرِ كيف اندفعت نحو أقرب سيارة أجرة…

لتجد نفسها فجأة أمام باب شقته…

ترددت أناملها علي الجرس بحذر وجزءٌ من عقلها يدفعها للتراجع…

لكنها نهرته بقوة…

فهد أبداً لن يؤذيها…

لو كان يريد ذلك لفعله منذ أول مرة…

فهد يستحق ما فوق الثقة بكثير!!!

وأخيراً وجدت الشجاعة لترن الجرس …

فتح الباب بعد لحظة واحدة وكأنه كان ينتظرها…

ليهولها مظهره…

عيناه فقدتا بريقهما ليبدو عليهما الحزن…

ووجهه شاحب ليس به أثر من مرحه المعتاد…

لكن ما روعها أكثر..

هو تلك الضمادة المحيطة بجبهته!!!

شهقت بعنف وهي تدلف إلي داخل الشقة لتسأله بلهفة:

_ماذا حدث يا حبيبي؟!

أغلق باب الشقة ليستند عليه بظهره مغمضاً عينيه وهو يهمس بصوت متقطع:

_شجار مع أبي…حادث سيارة…يومان في المشفي…ثم جئت إلي هنا!

وضعت كفها علي شفتيها ثم همست بقلق:

_أنت بخير؟!

فتح عينيه أخيراً لينظر إليها طويلاً….

ثم همس بخفوت:

_أحتاج إليكِ حقاً!!

ازدردت ريقها ببطء وهي تقاوم لهفتها عليه…

تتمنى لو تضمه لصدرها …تحتوي كل حزنه وألمه…

فمدت كفها بتردد لتربت علي كتفه….

لتفاجأ به يجذبها إليه بقوة وهو يضمها إليه هامساً:

_افتقدتكِ يا حبيبتي…افتقدتكِ جداً!

ثم تهدج صوته ليهمس بعاطفته التي تدوّخها:

_أنتِ الوحيدة التي شعرت بحاجتي للتحدث معها…لألقي همومي كلها على كتفيها…

ارتجف جسدها بين ذراعيه وهي تشعر بالاضطراب. …

إنها المرة الأولي التي يضمها فيها هكذا…

ورغم تأنيب ضميرها الذي كان يوخزها الآن بشعور الذنب…

لكنها كانت تشعر حقاً أنه يحتاج لهذا الآن…

تماماً كما تحتاجه هي…

بل ربما لو لم يفعلها هو لسبقته هي وفعلتها!!!

يقول أنه اشتاقها ؟!!!!!

ماذا تقول هي إذن عن شعورها طيلة الأيام السابقة دونه…؟!!!!

لهذا لم تشعر بنفسها وهي تضمه إليها أكثر لتهمس بحنان:

_أنا معك يا حبيبي…أخبرني ماذا يؤلمك إلي هذا الحد؟!!!

تنهد في حرارة وهو يهمس في أذنها:

_لا أريد الكلام عن شئ الآن…أريد فقط الشعور بأنك هنا…معي!!!

أغمضت عينيها بقوة وهي تشعر بهمساته الدافئة تحتل كيانها عنوة…

تتمنى لو يقف الزمان عند هذه اللحظة…

فلا تفترق عنه أبداً…

هذا هو مكانها الطبيعي…

بين ذراعيه ورأسها علي صدره…!!

لكنها انتبهت لنفسها بعد لحظات وقد عاد شعورها بالذنب يوخزها من جديد..

فابتعدت بجسدها قليلاً…

ومع هذا لم يفلتها …

بل نظر لعينيها هامساً بدفء:

_هل يمكن أن يُختزل العالم كله في شخص واحد؟!!!

ذابت نظراتها في سواد عينيه وهي تشعر أنها عاجزة عن الكلام….

عندما أردف هو بصوت متهدج:

_أنتِ عالمي كله يا رؤى!

ابتسمت في خجل وحروفه تخترق قلبها كسهام من لهيب….

عندما اقترب بشفتيه من جبهتها يقبلها بعمق هامساً:

_شكراً لقدرٍ جعلكِ لي…حبيبتي وصديقتي وتوأم روحي !!!

أغمضت عينيها بقوة وكلماته مع قبلته تدوخها بشعور لذيذ تجربه لأول مرة…

فانسابت شفتاه علي وجهها ببطء لتفقد وعيها -جزئياً -غارقة بدفء عاطفته….

ثم لم تدرِ ماذا حدث بعدها…

ولا كيف تسللت أصابعه لتفك أزرار قميصها…

لتسقط معه في دوامة بلا قرار…

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى