رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الأول 1 بقلم ياسمين عادل
رواية ليلة في منزل طير جارح الجزء الأول
رواية ليلة في منزل طير جارح البارت الأول
رواية ليلة في منزل طير جارح الحلقة الأولى
ظلام دامس، وكأنها ستائرًا سوداء غطت المدينة بأكملها، حتى ضوء القمر في ليلتهِ السابعة عشر لم يكن كافيًا لإنارة هذه الأرض المظلمة، وحتى أغلب الشوارع نائية خالية من الناس، بسبب حظر التجوال الذي فرضتهُ الجهات الأمنية بصفة خاصة جدًا على هذه المدينة، بعدما وقعت حادثة الثأر التي راح ضحيتها خمسة رجال من أشداء القوم في إحدى القُرى. وبينما هذه الأجواء المريبة تسيطر على مشهدنا، إذا بها تسير على التعرجات الأرضية بصعوبة بالغة، بعدما انقطع حذائها البالي الذي ارتدتهُ وهي تركض من المنزل فرارًا. استمعت لصوت سيارة تأتي من خلفها، فتوقفت على الفور ونظرت بعيناها الغارقتين في الدموع، فإذا به عربة صغيرة عبارة عن دراجة نارية عليها مجسم للجلوس تقل الأفراد من مكان لآخر (توكتوك). أشاحت إليه بكلتا ذراعيها ليتوقف، فـ تطاير حجاب رأسها دون وعي منها لينكشف شعرها في الهواء، ثم عبثت نسمات الليل الباردة بشعيراتها المتطايرة. لحظات وتوقف سائق العربة، لينظر إليها في تفحصٍ مرتاب وهو يسألها بلكنتهِ الغريبة :
– بتعملي إيه هنا الساعة دي ياست؟!.
ازدردت ريقها وهي تهتف بصوتٍ تقطع من شدة حالتها المتعبة :
– ممكن توصلني للمركز ربنا يخليك يارب.
ثم ترددت في إخبارهِ حول تجردها من أية مبالغ مالية:
– بس… آ.. يعني انا مش معايا فلوس دلوقتي.
تفحص هيئتها جيدًا قبل أن يرد بـ :
– تعالي اركبي.
استقلت مكان الجلوس خلفه بعجالةٍ وهي تقول :
– شكرًا..
اقتاد عربته بها وهو ينظر من حين لآخر عبر المرآة الجانبية، فبزعت في عيناه الناظرة نحوها بوادر الطمع فيها. ضمت ذراعيها لصدرها مستشعرة في نظراتهِ شيئًا يخيفها أكثر، حاولت تجاهل هذا الشعور المتمكن منها، إلا إنه سيطر عليها بالكامل، مما دفعها بطلبه في التوقف على الفور :
– آ.. نزلني هنا.
ماطلها قليلًا ليقول :
– مش قولتي عايزة المركز.. ولا فيه حاجه مخوفاكي مني.. متقلقيش ده انا أمان خالص و….
صرخت في وجهه بعدما لمحت تلك الإبتسامة اللزجة على محياه أثناء الحديث، وقد تيقنت من سوء نواياه حيالها، خاصة وأن الأجواء تُهيئ له أي فعلة دنيئة قد يفكر فيها :
– وقـف هـنا.. نــزلــنــي هــنا بـقولك.
توقف بها فجأة وهو يهتف بصوتٍ تعمد ألا يكون مرتفعًا :
– خـلاص يا ولـية انتي جايه تفضحيني هنا بالذات!.. أنزلي يا ختي نزلت الميا في زورك.. شكلك عامله عملة كبيرة أوي وهتوديني معاكي في نصيبه.
ترجلت في عجالةٍ غير مصدقة إنها نجت منه، ثم نظرت حولها بعينان باحثتان، لم تجد في المحيط سوى ذلك القصر العتيق الذي تعرفه جيدًا، أشهر قصر في القرية بل بالمدينة كلها، قصر آل “العزيزي”.
تأففت بإختناقٍ وكادت الدموع تنهمر من عيناها وهي تهمس بصوتها الضعيف المتقطع :
– يعني ملقتش غير الحتة المقطوعة دي اللي أنزل فيها!! وجمب القصر ده كمان!.. يارب أعمل إيه دلوقتي، ماليش حد أروحله ولا حد ينجدني.
وبدأت تجهش بالبكاء وهي تستعيد في ذاكرتها الظلم الواقع عليها من أقرب الأقربون، من هم من دمها!.. فـ تضاعفت مرارة حلقها، وتوهجت بشرتها بالدموع الساخنة وهي واقفة محلّها، حتى أحست بشئ يلمس أقدامها، فقفزت من مكانها صارخة ونظرت للأرض، فإذا به جرذ صغير، ارتعبت أكثر وراحت تركض وتعدو لأي مكان بعيد عنه، حت وجدت نفسها أمام بوابتهِ، تقف قبالة رجال الحراسة الذين يحاوطون المكان، ترآت لأحدهم فتقدم منها يسأل بخشونةٍ صارمة :
– انتـي مين وبتعمـلي إيـه هنا؟.
انبحّ صوتها وكأنه انقطع، حاولت أن تردف بأي شئ ولكن دون جدوى، فـ تنحنحت وهي تمسح آثار الدموع العالقة على بشرتها وهي تقول بصوتها الخافت :
– عايزة أقابل صاحب البيت… آ.. القصر،. صاحب القصر.
قطب الحارس جبينه ودنى منها خطوة ليسألها في جديةٍ :
– انتي مين وعايزة الباشا بخصوص إيه؟.
ابتلعت ريقها بصعوبة ٍ حتى كاد يسد حلقها، ثم أجابت في رهبةٍ :
– موضوع شخصي.. قوله بس إني عايزاه.
نظر لزميلهِ الواقف على مقربةٍ منه، ثم هتف بـ :
– شوف الباشا لو وافق يقابلها.
عاد الحارس يتفحصها بنظراتهِ المدققة، بينما هي ترتجف بقوةٍ تعجز عن جمحها أو السيطرة عليها، تفرك في أصابعها بتوترٍ وهي تحس بطفيفٍ من البرد، حيث إنه هواء الخريف البارد في شهر تشرين الثاني. وقفت هكذا لحظات طويلة مملة، حتى اشتدت عليها عضلات ساقيها، وأحست كأنها تبدأ في الشعور بالألم. استرقها من أوج شعورها ذلك هذا الصوت الأجش المرتفع وهو يهتف بـ :
– أتفضلي أدخلي.
انفتحت البوابة الألكترونية لترى نصب عينيها المدخل الرخامي الفسيح في منظر راقي مهيب، وكأن القصر في مكانٍ بعيد لا ينتمي لتلك المدينة القديمة في طرازها. قدمت خطوة وأخرت أخرى، وفي عقلها بعض الشتات، هل تستمر في خطوتها أم تعدل عنها قبيل أن تتورط فيها بالكامل. في النهاية أيقظها صوت الحارس من أفكارها وهو يهتف بـ :
– أنجزي يامدام.. هتدخلي ولا هتمشي؟.
تخطت أعتاب البوابة حتى باتت بداخل الحِصن، وقالت بخفوت يتناسب تمامًا مع هيئتها المرتعبة :
– هـدخل.
أشار لها الحارس كي تتحرك من خلفه آمرًا إياها :
– اتفضلي معايا.
سارت من خلفهِ في صمتٍ شديد، وأثناء السير انقطع حذاء قدمها اليسرى حتى انسلت منه فجأة، فـ عضت على شفتها بتحرجٍ وأنحنت كي ترفعها عن الأرضية، ثم أسرعت في خطاها كي تلحق به دونما تتأخر في السير. من مسافة خمسة عشر مترًا استطاعت أن ترى ذلك الطيف، ثم تحول لظل، ثم تحول لجسد رجل يقف أمام باب القصر ويداه عالقة في جيوب سروالهِ الأزرق، ينتظر حضورها بين يديهِ ليعلم سبب زيارتها المفاجئة، وسر الأمر الشخصي الذي ستتحدث بشأنهِ. استشعرت رجفةٍ سرت في سائر جسدها حالما تبينت لها بعضًا من ملامحهِ الجادة، بدا لها وكأنها سرقت النوم من عينيهِ وأيقظته في تلك الساعة المتأخرة، لحظات وكانت تقف أمامهِ مباشرة، تفصل بينهما عدة درجات يقف هو عليها، تسارعت أنفاسها وهي ترى استطلاعهِ المدقق لهيئتها المريبة، كان جلبابها الأسود ملطخ بالتراب، قدمها العارية قد أصابها بعض الوسخ، ملامحها المرهقة تنمّ عن الرحلة الطويلة التي اجتازتها كي تصل إلى هنا. وأخيرًا ترك ذلك الرجل الطويل تفحصه لها ونظر لوجهها لحظتين قبل أن يسألها في حزمٍ :
– في إيه؟؟.. مين انتي وإيه هو الموضوع الشخصي اللي عايزاني فيه!.
انتظر جوابها بينما عيناها تفرّ من النظر إليه، تحس شعورًا غريبًا كلما تلاقت نظراتهما، بينما لم يطيق هو انتظارًا لذلك الصمت الممل، فـ تأفف منزعجًا وهو يكرر سؤاله بشكل أكثر حِدة :
– وبعدين!.. هنفضل واقفين هنا طول الليل ولا إيه؟.
استجمعت شجاعتها المبعثرة، واختطفت زفيرًا عميقًا لأحشائها ليخرج صوتها الأنثوي الممشوج بخليط من الذعر والضعف :
– أنا جيالك عشان تحميني، انت الوحيد اللي تقدر تقف في وشهم.
قطب جبينه في استغراب من كلماتها المبهمة وسأل في فضول :
– مين دول؟.
فرّت عبرةٍ من طرفيها وهي تصرح بهوية ظالميها :
– من أهلي.. عمي وعياله.
تحركت أقدامهِ ليهبط درجتين من السلم متسائلًا :
– انتي بنت مين؟.
أطبقت جفونها في وهنٍ وهي تجيب :
– أنا من عيلة الطحان.
التمعت عيناه فور سماعهِ أسم عائلتها المعروفة في المدينة كلها، ثم سألها في رتابةٍ :
– بنت مين فيهم؟.
تنهدت بقنوطٍ وقد أنهكها الإجابة على تساؤلاتهِ الكثيرة، فـ انفجرت صارخة في وجهه وقد بدأت الدموع تنهمر من عينيها :
– هتحميني لحد ما يطلع الصبح وأروح المركز ولا آخدها من قصيرها وأمشي!؟.
لحظتين.. لحظتين فقط استغرقهما في التفكير، وبدون إطالة كان يفسح الطريق أمامها ليشير إلى خادمتهِ الواقفة على مسافة ليست ببعيدة :
– خدي الهانم لأوضة من بتوع الضيوف يا عبير.
ترآت لها تعابير وجهه بوضوحٍ أكبر بعدما تسلطت الإضاءة وجهه، لم تنظر إليه مطولًا بل أشاحت عيناها عنه وهي تشكر صنيعهِ الكريم :
– شكرًا.. هما كام ساعة بس وهمشي على طول.
نظر الغريب في ساعة يدهِ ليجدها الثانية بعد منتصف الليل، فـ ذمّ على شفتيهِ وهو يعاود النظر نحوها قائلًا :
– براحتك.
لاحظ تعرجها البسيط وهي تسير حتى صعدت الدرجات الأربعة، تتبعتها نظراتهِ الفضولية حتى استقبلتها الخادمة و آوتها بالداخل، فـ أصرف عيناه عنها وهو يشير لأحد رجال الحراسة كي يقترب، ثم أمرهُ بـ :
– قبل طلوع الشمس تكون عرفت دي بنت مين في بيت الطحان وإيه قصتها مع عمها وعياله.
أومأ الحارس رأسه متفهمًا، ثم استدار منصرفًا لتنفيذ أمره بعجالةٍ، في حين طالعت عينا ذلك الغريب حركة الصقور من حولهِ، وقد فكّ وثاقهم من أجل جولةٍ حرة لهم في أنحاء القصر القريبة، وفكرهِ منشغلًا عن تلك المجهولة التي استضافها، وحول الأحداث المترتبة على تلك الإستضافة المفاجئة؟!.. هل يقبل بها صاحب البيت أم يزجّ بها خارج أسوار قصرهِ؟.
*********************
يتبع…..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ليلة في منزل طير جارح)