رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل السادس والأربعون 46 بقلم سماح نجيب
رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء السادس والأربعون
رواية لا يليق بك إلا العشق البارت السادس والأربعون
رواية لا يليق بك إلا العشق الحلقة السادسة والأربعون
نهاية الجزء الأول -” ما كنت أخشاه ”
هكذا كان الأمر دائماً ، فشقيقه الراحل كان يتمتع بمكانة خاصة بين عائلة والده وعائلة والدته ، فالجميع كان ينظر لدانيال على أنه الشاب البكر لإسكندر شمعون وولى العهد والمخول له قيادة العائلة خلفاً لأبيه ، كان يتمتع بكل الصلاحيات التى كانت تُمنح لإعداد رجل سيكون هو الوريث والرشيد والحكيم ، الذى بإمكانه الحفاظ على تلك المكانة التى تمتعت بها العائلة بالمجتمع السكندرى
أما هو فهو الشقيق الأصغر ، والذى كان لا ينظر إليه أحد ، سوى أنه سيكون الشاب المدلل للعائلة ، والذى سيعمل تحت إمرة أخيه بالمستقبل ، رآى كيف أن والديه كانا يغدقان بكامل الحب والإهتمام لشقيقه ، وربما زاد من الأمر ، كون دانيال كان لطيف ولين الطباع مع والديه ، ولكن هو كان المشاكس والمشاغب والذى يخرج جميع من حوله عن طورهم ، نظراً لكونه صعب المراس ، ولا يستطيع أحد إلجام سلوكه السيئ ، والذى بدأت بوادره منذ صغره ، وكيف كان يحاول إيذاء من حوله
أطاح بكل ما تحمله المنضدة أمامها ، بسبب إتيانها على ذكر تلك الأمنية ، والتى لم تكف عن ترديدها منذ سنوات ، على الرغم من أن شقيقه قد لقى حتفه منذ زمن ، وهو مازال على قيد الحياة
فتلبسه الجنون وهو يصيح بها :
– اخررررررسى
لم يرف لها جفن ، ولم تتحرك من مكانها قيد أنملة ، على الرغم من أنها تعلم أنه وصل لأقصى درجات الغضب ، وربما بالدقيقة التالية سيرديها قتيلة برصاصة واحدة من ذاك السلاح النارى الموضوع بغمده حول خصره ، والذى لا يفارقه بنومه أو صحوه
فكل ما إستطاعت فعله ، هو إنحناءها لتلقط صورة من الورق ، ولكن تلك المرة تحمل صورة الفتى ، مررت يديها على الورقة من أعلاها لأسفلها ، وأغمضت عينيها ، بينما أرتجفت شفتيها الجافتين وهى تهمس ببضع كلمات ، لم يفهم هو منها شيئاً
ففتحت عيناها التى تشبه الكوبلت الأسود ، وأنتفض جسدها وألقت بالورقة على الفور ، كأنها شعرت بحرق مفاجئ بيدها ، وتتابعت أنفاسها وهى تردد كلمة واحدة ولم تقول غيرها :
– هو
لم يفهم أدريانو مغزى كلمتها ، ولا من تقصد ، ولكن نفض كل هذا عن عقله ، فهذيانها الدائم صار معتاداً عليه منذ سنوات طويلة ، أى منذ قام بحبسها بذلك المكان ، خشية علم أحد بما يخفيه من ماضيه ، ولكن دائماً ما كانت هى تحذره من كشف المستور ، بل والويل الذى بإنتظاره ، ولكن هو لا يؤمن بتلك الخرافات التى تهذى بها ، على الرغم من أنه يعلم أن قدرتها العجيبة على معرفة ما يخفيه بمهارة الإستبصار التى تملكها ، والتى لم تأتيها من فراغ ، بل تعلمت تلك المهارات من إحدى جداتها والتى كانت تشتهر فى صقلية بأعمال السحر وقراءة الورق و الكف ، وبالرغم من أنها شقيقة والدته ، إلا أن أمه لم تكن ضليعة بتلك الأمور كشقيقتها الصغرى
أراد الخروج من الغرفة ، ولكن ما أن وصل للباب حتى سمعها تقول بتحذير:
– رحب بالضيف يا ادريانو وبلاش أذية علشان هى ممكن تحرقك بنارها
إلتفت برأسه إليها مقطباً حاجبيه قائلاً:
– قصدك على مين يا مارجريت وعرفتى إزاى أن جه ضيف
ضحكت مارجريت حتى صار صوت ضحكتها يتردد بين أرجاء الغرفة ، وكأن الصوت يأتيه من كل حدب وصوب ، فما ذلك السؤال السخيف ، أمازال لديه شك بقدراتها ؟
نهضت مارجريت من مكانها وسارت بخطوات بطيئة ، حتى وصلت إليه ، ولكن برؤيته لها تتقدم منه ، تقهقر هو بخطواته للخلف ، كأنه يخشى أن تبتلعه كالوحش
ولكنها لم تفعل شئ ، سوى أنها ربتت على كتفه وهى تقول بإبتسامة خافتة :
– لسه يا إبن أختى بتسأل السؤال ده ، المهم قولتلك رحب بالضيف ، وكمان أبعتلى الأكل علشان جوعت أوى
تركته وأتجهت صوب فراشها ، فأستلقت عليه بعظامها الهرمة والواهنة ، ولكنها ظلت تنظر إليه ، وتلك الإبتسامة على شفتيها ، كأنها تشعر بالشماتة مما سيلقاه بالمستقبل ، والذى يحاول هو إنكاره
خرج من الباب وأوصده كالعادة واضعاً المفتاح بجيبه ، فعاد ثانية لغرفة إبنته ، فأبتهجت نفسه قليلاً بعد تلك المقابلة العاصفة مع خالته ، خاصة وهو يرى بيرى جالسة بالفراش وحياء تطعمها بيدها وهى تثرثر معها وتبتسم
– عاملة ايه دلوقتى يا حبيبتى
قالها أدريانو وهو يقترب من فراش إبنته ، وجلس على حافة الفراش بجانبها ، رابتاً بيده على يدها
سحبت بيرى يدها من أسفل يد أبيها ، وتجهمت ملامحها المرهقة ، إلا أنها ردت بجفاء :
– تفتكر هكون عاملة ايه
تلقائياً تحولت أنظار أدريانو تجاه راسل الجالس على المقعد بجوار النافذة ، فألتقت أعينهما بحوار صامت ، فأدريانو لايريد لراسل معرفة ما يدور بمنزله ، فنهض من مكانه مقترباً منه ، وبحث عن ديفيد ولكنه لم يجده بالغرفة
فرفع أدريانو يده يشير لراسل بأن يتبعه وهو يقول بود زائف :
– أتفضل معايا يا دكتور راسل وسيبهم هم يقعدوا براحتهم ، أنت أول مرة تشرفنى فى بيتى وكمان أنت جوز بنت أخويا ، فلازم نرحب بيك
ما كاد راسل يرفع جسده عن المقعد ، حتى سمع صوت حياء تقول برفض :
– لاء معلش يا عمى خلى جوزى هنا ، هو برضه دكتور وممكن يساعدنى فى أن نخلى نفسية بيرى تتحسن
إلتفت إليها أدريانو وهو يبتسم على كذبتها الواضحة ، فقال بهدوء مرعب :
– بس اللى أعرفه أن جوزك دكتور جراح مش نفسى يا حياء
حاولت حياء السيطرة على إرتجافها المفاجئ ، فهى لا تريد أن يغيب راسل عن ناظريها ، فهى طوال طريقهما من قصر النعمانى لهنا ، وهى كانت تلوم نفسها على موافقتها بأن يصطحبها ، فما بالها الآن وهى ترى عمها وشقيقها يحاولان إستدراج زوجها بحديثهما المنمق
أراد راسل فض الحوار بين زوجته وعمها ، فقال بهدوء :
– خلاص يا حياء أنا برضه عايز أتعرف على عمك وأخوكى ، وعلى ما تخلصى نكون أتكلمنا شوية
ما كاد يخرج راسل برفقة أدريانو ، حتى نظرت بيرى لحياء وهى تقول بإلحاح وخوف :
– قومى يا حياء روحى لجوزك ليأذوه ، هم أذيتهم وحشة ، وأنا هاخد شاور وأحصلك
لم تنتظر حياء أن تعيد بيرى حديثها ثانية ،إذ قامت بوضع الملعقة من يدها وخرجت تهرول من الغرفة تبحث عن مكان وجود زوجها ، ظنت بالبداية أنها ستجدهم بغرفة المعيشة ، ولكنها لم تجد أحداً بها
– هم راحوا فين
نطقت بها حياء بجنون وهى تبحث بكل مكان بالمنزل ، كأنهم أختفوا فجأة ، ولكن بسؤالها لأحد الحراس ، أخبرها بأن سيديه يجلسان مع الضيف بالحديقة ، خاصة بذلك المكان الذى خصصه أدريانو للتدريب على إستخدام الأسلحة النارية
فبسماعها لما قاله الحارس؛ لطمت خدها ، وركضت حتى وصلت لذلك المكان المتواجدون به بعد إنضمام شقيقها لهما
فصاحت منادية لزوجها بخوف :
– راااسل
إلتفت راسل لمصدر الصوت ، فوجدها تهرول إليه ، ووقفت أمامه وسحبت ذلك السلاح النارى ، الذى يحمله بيده ويبدو أنه كان على وشك إطلاق النار على ذلك المجسم المتخذ شكل إنسان
فزجرته بحدة :
– بلاش ضرب نار لتأذى نفسك وأنتوا بتعملوا إيه هنا
تتابعت أصوات إطلاق النيران من عمها وشقيقها ، فبعد إنتهاءهما ، رمقها ديفيد قائلاً بسخرية :
– فى إيه يا حياء مالك خايفة ليه كده ، إحنا بس كنا بنتسلى شوية تحب تتسلى معانا
أقترب منها ديفيد ، وجعلها تمسك السلاح بوضع الإستعداد ، حاولت إلقاءه من يدها ، إلا أن شقيقها أحكم قبضتيه على يديها ، فأدنى برأسه من أذنها وهو يقول بهمس ومكر :
– إيه رأيك دلوقتى أخليكى أنتى اللى تقتليه ، دا الموضوع سهل جدا ، يعنى بس تنشنى على القلب كده
صوب إتجاه السلاح لراسل ، وعاد مستأنفاً حديثه :
– وتضغطى بصباعك على الزناد كده
قبل أن يجعلها تضغط بإصبعها على الزناد ، كانت هى تدفعه عنها وتضع السلاح بمنتصف جبهته وهى تساير سخريته :
– طب إيه رأيك لو ضربتها فى راسك يا ديفيد
قهقه ديفيد لعلمه بأنها لن تفعلها وخير دليل على ذلك ، يدها التى أصابتها الرعشة ووجها الذى إستحال لونه للأبيض الشاحب كوجوه الموتى
وضع راسل يديه بجيبه وهو يتابع الحوار بين زوجته وشقيقها ، فشعوره بوجود شئ غامض بدأ بالتزايد ، فعائلة زوجته غريبة الأطوار حقاً ، فمنهم الإبنة التى تعامل أبيها بجفاء كأنها لا تريد رؤيته ، ومنهم الأب الذى لا تنم تصرفاته الهادئة إلا على أنه يضمر بداخله شيئاً لايريد أحد ان يعلمه ، والشاب الذى من المفترض أنه شقيق زوجته ، يمزح معها بالأسلحة النارية ، إنها حقاً عائلة توضع بقائمة المجانين، ولكن ماله وما لهم ، فهو لا يريد شيئاً منهم سوى زوجته فقط
فحمد الله على دعوة أدريانو لهما بأن يذهبا لنيل راحتهما بإحدى الغرف ، وما كاد يغلق الباب بعد دخولهما ، حتى إستند بظهره على الباب
فزفر بقوة قائلاً بصوت منخفض:
– يا ساتر يارب بيت ده ولا مقبرة
سمعت حياء ما قاله ، فأقتربت منه تأنبه على إلحاحه بالمجئ :
– قولتلك متجيش وأنت اللى أصريت يا راسل دماغك ناشفة
رفع يده ومسح وجهه مغمغماً:
– هو حرام أتعرف على أهلك ، أينعم ترحيبهم مش ولابد وكمان إكرامهم للضيف غريب ، كانوا واخدنى أتعلم ضرب النار ، مع أن بعرف أضرب نار كويس بس أخدت أخوكى على قد عقله
قبضت على كفيه وهى تقول برجاء :
– حبيبى لو عايز ترجع بيت باباك أرجوك أرجع وأنا هطمن على بيرى وهحصلك على طول ، أنا حاسة أنك مرتحتش لمقابلة عمى أدريانو وديفيد
أدناها منه وضمها إليه بقوة ، يكاد يجعلها تنفذ من بين ضلوعه لتستكين بين ثنايا قلبه ، فرد قائلاً:
– هو بكرة تطمنى عليها ونروح سوا ماشى يا روحى
هزت رأسها بضعف وهى تستشعر دفء ذراعيه المحيطتان بها ، حتى أنها كاد يغلبها النعاس ، فغمغمت بصوت خافت :
– ماشى يا حبيبى تعال ننام
أنحنى حاملاً إياها بين ذراعيه ، ولكن ما أن وضعها على الفراش ، حتى رآى ظل أسود عند النافذة ، فذهب ليتحرى الأمر ولكنه لم يجد أحد
جلست حياء بالفراش ورمقته متسائلة :
– فى ايه يا حبيبى بتبص على إيه فى الشباك
أغلق راسل النافذة وضم ستائرها ، فإستدار لها قائلاً بإبتسامة :
– لاء يا حبيبتى مفيش حاجة
إستلقى بجانبها على الفراش وجذبها إليه دون أن يحاول إستبدال ثيابه ، فشعور طاغى بعدم الراحة جثم على صدره ، حتى كاد يمنعه أن يتنفس براحة ، ولكنه لم يشأ أن يسبب لها القلق ، فحاول قدر إمكانه أن يجعلها تغرق بنومها دون الشعور بما يعتريه ، فبعد نجاحه بجعلها تخلد للنوم ، سمع صوت مواء لهرة ، كأنها طفل صغير يبكى وينوح ، فكلما أغلق عيناه يعود ويفتحهما كأنه لن يستطيع جلب النوم لجفونه
_____________
إصطدامه المتعمد بها اثناء خروجها من أحد المتاجر ، زاد غضبها أكثر ، خاصة بعدما أمعنت النظر بوجهه وعلمت من يكون ، ولكنها لم تشأ أن تثير إنتباه المارة عليها إذا تشاجرت معه ، فبهدوء أنحنت ولملمت أغراضها المتناثرة ، وبعد إنتهاءها إستقامت لترحل ، ولكن ما كادت تبتعد خطوة حتى ناداها بصوت متلهف لأن تمنحه إلتفاتة منها ، أو تجيبه على نداءه المُلح ، ولكنها أكملت بطريقها كأنها لم تسمعه
ولكن مع إزدياد أفعاله الجنونية والطائشة كركضه واللحاق بها والوقوف أمامها يسد عليها الطريق ، كان ذلك أدعى لأن تفرغ به كامل إستياءها وحنقها من أفعاله
فتعالت صيحتها وهى تقول بغضب :
– فى إيه يا أستاذ انت ، هو أنت مجنون ولا إيه حكايتك
أكسب ديفيد صوته ليناً ولطفاً ، لعلها تكون أكثر هدوءًا وهو يقدم لها إعتذاره على أفعاله الصبيانية :
– أنسة ياسمين إهدى ، أنا بس بنادى عليكى علشان أتأسفلك على سوء التفاهم اللى حصل بينا فى المكتب بجد أنا أسف
زفرت ياسمين زفرة مطولة وقالت بدون أن تنظر إليه :
– خلاص قدمت أسفك وإعتذارك أتفضل أمشى بقى علشان مينفعش اللى بتعمله ده ، دا إسمه شغل مراهقين ، ومتفتكرش أن أنا مش فاهمة تصرفاتك السخيفة دى
عينيها الملتمعتان بغضب ، تنذره بأنها لن تطيل الوقوف هكذا أمامه ، ولو حدث ذلك لربما لن تكتفى بأن تجعل المارة بالشارع يلقونه درساً قاسياً جراء فعلته ، فتنحى جانباً ورفع يديه يشير لها بالسير ، يرافقها همهماته العاشقة
أحكمت ياسمين ذراعيها على ما تحمله من أغراض ، ولسانها يتمتم بالكلمات الغاضبة وسوء حظها لمقابلة هذا الشاب ، فهى أيقنت الآن أنه مجنون ، فليس هناك أحد بكامل قواه العقلية ويفعل ما يفعله
وصلت للمنزل وولجت للشقة ، فوضعت ما تحمله على مائدة الطعام الموضوعة بالصالة ، رآت والدتها تخرج من المطبخ وهى تجفف يديها بمنشفة صغيرة
فتلاحما حاجبى والدتها وهى ترى بوادر الغضب على وجهها ، فأقتربت منها وسألتها بقلق :
– مالك يا ياسمين فى إيه باين على وشك أن فى حاجة حصلت
سحبت ياسمين مقعد وجلست عليه وهى تقول بعدم إكتراث:
– مفيش حاجة يا ماما أنا كويسة
ربتت والدتها على كتفها وهى تقول بمساكشة :
– مفيش حاجة! ولا أنتى متوترة علشان العريس اللى جايلك النهاردة
إصطبغ وجه ياسمين على الفور ، وفرك يديها وهى تقول بخجل :
– و وأنا هتوتر ليه يعنى يا ماما عادى يعنى
جذبتها والدتها حتى إستقامت أمامها ، فضمتها بين ذراعيها الحانيتين وهى تقول يسعادة غامرة :
– مش مصدقة أن جه اليوم واللى هشوف فيه بنتى حبيبتى كبرت وبقت عروسة ، وهتبقى أحلى عروسة
رفعت ياسمين ذراعيها وربتت على ظهر والدتها بمحبة ، فسمعا صوت الباب يفتح ويدلف منه أبيها وشقيقها ، فهما عادا بعد أن أنتهيا من تأدية صلاة العصر بالمسجد ، الذى يعمل أبيها إماماً له
فتبسم “بلال” وهو يرى شقيقته الصغرى ووالدته متعانقتان ، فقال بحب هو الأخر :
– طب أنا مليش حضن أنا كمان يا ماما إيه التفرقة العنصرية دى ، ولا علشان ياسمين هى أخر العنقود وخلاص هتطير زى العصفورة على بيت العريس
تركت ياسمين والدتها وأقتربت من شقيقها وقبلته على وجنته وهى تقول بإبتسامة ومشاكسة :
– عصفورة مين اللى هتطير يا أبيه بلال أنا قاعدة على قلبك أهو
إبتسم إمام المسجد على قول إبنته وشجارها المحبب مع شقيقها الأكبر ، فخرجت نهدة قوية من بين شفتيه وهو يفكر بأنه بوقت ليس ببعيد سيتزوج بلال ويترك المنزل ، وستتزوج صغيرته أيضًا ، وسيصبح هو وزوجته بمفردهما ، فالله لم يمن عليه سوى ببلال وياسمين ، لذلك يهيم حباً بهما ، ولم يتقبل حتى الآن ، أنهما سيتركانه بالقريب العاجل
لاحظت زوجته سكوته الغير معتاد خاصة بوجود أولادهما ، بل زاد تعجبها وهى تراه يلج غرفتهما بدون أن يفه بكلمة ، فتبعته لتعلم سر صمته المقلق لها
وجدته يجلس على طرف الفراش ، فشب القلق بقلبها ، جاورته بجلسته وهى تقول بإهتمام :
– مالك فى إيه يا أبو بلال ، ساكت كده ومش زى عوايدك حتى ياسمين رجعت من برا وكانت ساكتة وكأن فى حاجة حصلت أنتوا مخبيين عليا حاجة
رفع زوجها رأسه ونظر إليها متسائلاً بقلق :
– مالها ياسمين فيها إيه حصل ليها حاجة
تبع حديثه بإنتفاضه من مكانه وبنيته الخروج ليرى ما أصاب إبنته ، إلا أن زوجته قبضت على ذراعه وهى تقول بهدوء :
– إهدى يا أبو بلال ، أنا قولت أنها كده علشان متوترة بخصوص العريس اللى جاى ، وأنت بقى مالك
تنهد بصوت مسموع قائلاً بحنان :
– مش قادر أتخيل أن ولادنا كبروا كده وخلاص كل واحد هيبقى له حياته ، زى العصافير اللى كبرت وسابت العش علشان تبنى ليها عش خاص بيها ، وخصوصاً مش متخيل البيت من غير ياسمين ، أنا بتهيألى لو جوزها زعلها فى يوم ، مش عارف أنا ممكن أعمل فيه إيه أو أتصرف إزاى
ضحكت بخفوت على قوله ، فهى تعلم مدى حبه الشديد لإبنتهما ، فياسمين كالزهرة التى ينتشر عبيرها بكل زاوية من المنزل ، فهى الأخرى لم يطاوعها قلبها حتى الآن ، بتخيل اليوم الذى ستفارقهما به وتذهب لمنزل زوجها ، فعلى الرغم من هدوءها الظاهرى ، إلا من داخلها لم تكن بأقل من زوجها من حيث قلقها وخوفها على إبنتها
تحدثت مع زوجها طويلاً ، وحاولت خلال حديثها أن تطمئنه على أن إبنتهما ستنعم بزيجة مباركة ، خاصة أن العريس المنتظر لها ، لم يكن سوى إبن أحد أصدقاءه المقربين ، والمعروف عنه إلتزامه وخُلقه الحسن ، علاوة على تحصيله الدراسي الذى مكنه من أن يعمل بإحدى شركات الطيران
_____________
حلها الوحيد لتصحيح المفهوم الخاطئ لدى أبيها ، المختص بحادث خطفها ، وقراره بزواجها وعدم ذهابها للمدرسة ثانية ، كان بذهابها لمقر عمله ، فبالمنزل لم تعد تراه ، كأنه يتحاشى الجلوس معها أو رؤيتها ، حتى لا تغلبه عاطفة الأبوة تجاهها ، ويحيد عن قراره بتزويجها من إبن شقيقه ، فهى تعلم بأى من الشركات الكبرى يعمل أبيها ، وهناك ربما سيضطر لسماعها إذا جلسا بمفردهما بمكتبه أو ماشابه ، على الرغم من خوفها من رد فعل والدها ، إلا ان ذلك لم يحد من عزمها وتصميمها الكامل على الحديث معه
فبمجرد وصولها وسؤالها عن مكتب أبيها ، دلها أحد العمال على تلك الغرفة التى يتخذها مكتباً نظراً لكونه مدير الشئون القانونية بالشركة ، وصلت أمام المكتب ومدت يدها بتردد ، ولكن حسمت قرارها بطرق الباب ثلاثة طرقات ، إذا لم يأتيها رد ، ستعود أدراجها ، وربما ذلك سيكون لصالحها حتى لا يثور أبيها بوجهها على أنها تريد مناقشة أمر كهذا هنا بمقر عمله
– أنتى بتعملى إيه هنا
أنتفضت سهى إثر سماعها تلك الجملة ، التى جاءتها من ذلك الشاب ، الذى تستطيع تميز صوته بسهولة الآن
فنظرت إليه وقالت بدهشة :
– أنت اللى بتعمل إيه هنا وجاى هنا ليه
وضع عمرو هاتفه بجيبه ، ورد قائلاً بهدوء :
– دى شركتى ، يعنى أنا صاحب الشركة
فغرت فمها الصغير مما سمعته منه ، فكيف يكون هو مالك تلك الشركة ، وهو مازال شاباً بمقتبل حياته ، فقالت بغرابة :
– صاحب الشركة إزاى يعنى
إبتسم عمرو على رد فعلها ، فأجابها وهو يحرك كتفيه دليلاً على أنه هو الاخر لا يعلم كيف يكون صاحب الشركة ، ولكن هذا هو الواقع :
– زى الناس ، الشركة كانت بتاعة بابا الله يرحمه ومات وأنا ورثتها هى دى الحكاية ، بس مقولتليش بتعملى إيه هنا
رفعت سهى يدها تشير لغرفة مكتب أبيها وقالت بشعور ساحق بالخوف والخجل :
– كنت جاية أشوف بابا علشان عيزاه فى موضوع مهم
رفع عمرو حاجبيه قائلاً:
– بجد هو مدير الشئون القانونية بالشركة يبقى باباكى
أماءت برأسها عدة مرات ، ولكن فكرت بأنه يمكن أن يساعدها ، فهو الشاهد الوحيد على صدق حديثها ، فربما تلك الصدفة كانت بمحلها ، فبإمكانه إخبار أبيها بما حدث لها من إختطاف وإنقاذه هو لها ، وبذلك من الممكن أن يصدقها أبيها ويترك كل خططه بشأن زواجها جانباً ، فهى تريد إتمام دراستها ودخول الجامعة ، ولا تريد التفريط بأحلامها من أجل سوء تفاهم
ضمت شفتيها لعدة ثوانِ ، ولكن سرعان ما نظرت إليه وقالت بما يشبه الرجاء :
– ممكن أطلب منك طلب ، أنت الوحيد اللى تقدر تساعدنى ، لأن بابا من ساعة ما رجعت البيت وهو مش مصدق موضوع الخطف وكمان عايز يجوزنى ومكملش دراستى ، فأنت ممكن تحكيله على الحقيقة
فكر جدياً بمطلبها ، ولكن كيف يخبر أبيها بشأن أنه يعلم من قام بإختطافها ، وأنه متورط بأعمال غير مشروعة ، ولكن ربما هناك حل أخر ، فحدق بها وهو يقول بتفكير :
– هو ممكن أكلمه بس طبعاً مش هقوله أنا جبتك منين ولا أن أعرف اللى خطفك ، بس ممكن أقوله أن لقيتك بعد ما قدرتى تهربى وكنتى تعبانة واستضفتك فى بيتى
حكت سهى جانب رأسها وقالت بتفكير هى الأخرى :
– بس أنا حكيت لبابا على اللى حصل بالتفصيل ، وأن اللى أنقذنى أخدنى من المكان اللى كنت فيه ، فإزاى دلوقتى هغير كلامى
قضم عمرو جانب شفته السفلى ، بعدما إهتدى بتفكيره لذلك الحل ، الذى تبادر لذهنه ، فأشار إليها بأن تعود للمنزل ، على أن يقوم هو بحل الأمر مع أبيها ، أرادت التصميم على رأيها أنها لن ترحل قبل أن تعلم ماذا ينوى أن يفعل مع والدها ، إلا أنه أصر عليها بالرحيل مع وعده لها بأن أمورها ستسير على ما يرام
فبعد إطمئنانه لرحيلها ، عاد لمكتبه وارسل بطلب والد سهى من أجل مقابلته ، فجاءه على وجه السرعة ، ليعلم ماذا يريد منه المالك الجديد ؟
أرتخت قسمات وجه عمرو وهو يدعو والد سهى للجلوس فقال باسماً:
– أتفضل حضرتك أقعد علشان فى موضوع مهم كنت عايز أكلمك فيه
جلس والد سهى ونظر إليه فى إنتظاره أن يقول ما لديه ، فحمحم عمرو ليجلى صوته ، فما لبث أن قال بهدوء يحُسد عليه :
– هو الموضوع أن عرفت أن عندك بنت ، والصراحة أنا شفتها قبل كده بس مكنتش أعرف أنها بنتك ، بس لما سألت عليها عرفت كل حاجة عنها ، حتى كمان فرحت أوى أنك أنت باباها ، فكنت حابب أطلب إيدها منك قولت إيه
ظن والد سهى أن عمرو يمازحه ، ودل على ذلك ملامحه التى أكتسبت معالم الدهشة والصدمة معاً ، ولكن تلك الحالة التى أعترت والد سهى ، لم تكن شئ يذكر بجانب ما أعترى عمرو ، فكيف تقدم بمطلبه هذا ؟ وهو لا يميل لبنات حواء بالأساس ، ولكنه يعانى من التطرف بالسلوك الإنسانى والفطرة من حيث الشذوذ ، وأنه لم يكن له تجربة تذكر مع أى أنثى من قبل ، فدائماً تجاربه ما كانت تؤول للفشل ، ويعود لما كان عليه أمره ، ولكن ما جعله يأمل بأن من الممكن أن يقلع عن شذوذه ، أنه منذ مجيئه للإسكندرية وهو لم يرتكب تلك الفاحشة ، التى كان معتاداً عليها أثناء إقامته بالولايات المتحدة الأمريكية ، بل أنه كان يمتلك صديق مقرب بالخفاء ، ولم يرد أن يعلم أحد بهذا الشأن ، خاصة أن من المفترض أنه شاب عربى ومسلم ، ولابد أن قيمه ودينه يمنعانه عن إرتكاب مثل تلك الفاحشة ، التى يهتز لها عرش الرحمن
_____________
إحدى أقساط الراحة التى كان يحصل عليها عادة بيومه المتكدس بالهموم والمشكلات والأعمال ، هى عندما يجلس قريباً من حظيرة الخيول ، ويراقب تلك الصغيرة الفاتنة وهى تمتطى مُهرة خصصها لها لتكون ملكاً لها فيما بعد ، حتى أنه أطلق عليها إسم ” سيجو ” تيمناً باللفظ التحببى الذى يخص حفيدته ، والذى يتأكله الخوف يوماً تلو الأخر من أن يعلم ولده بما أخفاه عنه ويجده قد أختفى من حياته هو والصغيرة ، فجموح راسل يشبه جموع الجياد والتى إن روضت وعادت لجموحها ثانية ،تخرج زمام أمورها عن السيطرة ، بل وتصبح أشد خطراً على المحيطين كونها تصبح كالوحوش المفترسة ، والتى ترغب بالثأر
رفعت سجود يدها ولوحت بها لرياض وهى تصيح منادية بسعادة :
– جدووو
تثلج صدره بإقرارها بهويته وكينونته لها ، بل ويصبح أشد الناس سعادة ، عندما يجدها تأتيه ركضاً لتلقى نفسها بين ذراعيه ، لتحصل على الدلال المتمثل بشراء ثياب أو حلوى أو أن يحاولا خداع راسل والمقيمين بالقصر بإحدى ألاعيبها الطفولية
لوح لها هو الأخر بيده وقال رداً لنداءها :
– روح جدو
سمع رنين هاتفه بإسم حياء ، فألتقطه بلهفة وفتحه واضعاً إياه على أذنه ، فقبل أن تقول شيئاً ، كان يبادر هو سؤالها عن ولده :
– راسل عامل إيه يا حياء ، إبنى كويس طمنينى عليكم
أجابته حياء بهدوء :
– أطمن يا عمى إحنا كويسين وراسل مش بيغيب عن عينى ، أنا أتصلت بيك علشان أطمن على سجود
نظر رياض لحفيدته ، التى مازالت تمتطى مُهرتها ،ورد قائلاً :
– سجود الحمد لله كويسة وبخير ، بس أنا اللى قلقان عليكم ، ومش عارف ليه وافقت أنكم تروحوا بيت أدريانو ياريتنى ما كنت وافقت ، وعلى الرغم من أن مأمن وجودكم هنا بس برضه مش مطمن لعمك ده ، لأن إبنى لو حصله حاجة ، مش هيكفينى فيه المرة دى أن أقطعه حتت وأخلى الكلاب تاكله ، لأن كفاية اللى راح منى
إستشعرت نبرة صوته الخائفة ، فهى ليست بأقل خوفاً منه ، ولكن زوجها العنيد ذو الرأس اليابس هو من صمم على الذهاب برفقتها
فزفرت زفرات متتالية حملت على أجنحتها خوفها ، الذى لم تستطع أن تداريه وقالت بأمل :
– أمتى ينتهى الكابوس ده ونرجع البيت تانى ، أو أمتى نخلص من الخطر ده كله ونعيش مرتاحين
– هاتى راسل وأرجعى يا حياء
قال رياض وهو يضرب الأرض بعصاه ، فالخوف نخر قلبه وعقله ، وعلى الرغم من إتخاذه كافة الإجراءات اللازمة ، لتأمين وجود راسل وحياء ببيت أدريانو ، إلا أن عاطفة الأبوة لديه ، صارت تجعله يتخيل أبشع الأمور وأسوءها ، فيكفى فاجعته الأولى بموت ولده الأكبر ، فهو ليس على إستعداد لخسارة إبنه الثانى
وكأن جملته زرعت بها العزم فجأة ، فردت قائلة بإصرار :
– حاضر يا عمى هجيبه وأرجع هخلص مهمتى ونرجع على طول
أنهت حياء المكالمة مع والد زوجها ، وأغلقت صنبور الماء ، فالمكان الوحيد الذى تأمن بالحديث به مع والد زوجها هو المرحاض ، فبإمكانها أن تتذرع بحجة أنها تغتسل ، كخروجها الآن وهى ترتدى مأزر الحمام وتعقص شعرها بمنشفة صغيرة ، فبحثت عن زوجها الذى تركته نائماً أثناء دخولها ، وجن جنونها لعدم رؤيته بالفراش
– أنت روحت فين يا راسل
قالتها بخوف وأقتربت من السرير وأزاحت الأغطية ، فوضعت يدها على فمها وهى تكتم صوت صرختها ، وهى ترى تلك البقع من الدماء تغطى الملأة البيضاء ، فلو ذبحها أحد الآن لن يجد بعروقها نقطة دم واحدة ، فالدماء نضبت وجفت من جسدها فجأة ، بل شحب وجهها على الفور ، خاصة وهى تتبع أثر الدماء على الأرض ، والذى يبدو أنه لن ينتهى ، إلا عندما تبلغ باب الغرفة ، فبوصولها للباب فتحته ، ووجدت أدريانو يقف أمام الباب وهو يبتسم أبشع إبتسامة يمكن أن تراها فى حياتها بأسرها ، فصدمة تلك الأفكار ، التى تدور بعقلها ألجمت لسانها ، بل كأنها أخرستها للأبد ، فدارت الدنيا من حولها ولم تعد ترى سوى هوة سوداء تبتلعها ، تتمنى أن لا تخرج منها وترى ما رفضت تصديقه صار حقيقة واقعة لا محالة
______________
تلك الورقة التى تحملها بين يديها ، كانت الدليل القاطع على أنها تحمل الآن بأحشاءها جنيناً ، ضمن إحدى منح الله لها ، ثمرة عشقها لزوجها ، والذى وصلت الأمور بينهما الآن ، لتشييد جدران من البرودة والجفاء ، فهى لم يكن لديها الوقت الكافى لتنعم بعشقه الدافئ ، فحتى عندما أرادت أن تتحداه ، صار الحال للأسوء كحالهما الآن ، فعلى الرغم من تركها باب غرفتها موارباً كل ليلة ، كأنها تمهد الطريق له بأنه مرحب بعودته إليها ، إلا أنه كأنه زهد بقربها فجأة ، وكان ذلك أدعى لأن يسكنها الشك من أن يكون حديثه الذى قاله أثناء غضبه جدياً ، وأنه الآن يمتلك زوجة أخرى
سمعت حركة بالغرفة المجاورة ، والتى لم يكن يفصلها عن غرفتها سوى باب ، كانت توصده هى كل ليلة قبل خلودها للنوم ، ولكن الليلة أرادت الحديث معه بشأن ذلك الطفل ، الذى سيرزقان به بعد بضعة أشهر ، فأندفعت ناحية الباب وأدارت المفتاح بالمقبض وفتحت الباب بدون طرقه
خطت عدة خطوات حتى صارت تقف بمنتصف الغرفة ، ولكنها لم ترى له أثر ، فنادته بإلحاح :
– عمران عمران
خرج عمران من المرحاض وهو يجفف رأسه ، فأزاح المنشفة عن وجهه ورأسه ، فنظر لها قائلاً ببرود :
– نعم ، هى المدام مشرفانى بالزيارة ليه
بعد أن قال عبارته ، عاد يجفف عنقه وصدره من بقايا قطرات الماء العالقة بهما بعد إغتساله ، ولكن كأن الجو أصبح مشحون بشحنات كهربائية ، جعلتها تشعر بإرتعاش أطرافها ، وهى تتأمل ما حُرمت منه بالأيام الماضية، فإبتسم هو لعلمه بما يدور برأسها الجميل ، والذى أتضح أنه صلب ولا يلين ، وربما ذلك عائد لتلك الصفات السائدة بعائلتها ، فجميعهم يمتازون بالعناد والكبرياء
فحركة بؤبؤ عينيها ، دلت على أنها تبحث عن شئ أخر يخرجها من تلك الحالة من الضعف التى أصابتها ، ولكن هو لم يمهلها فرصة ، إذ أقترب منها فجأة مشدداً من حصاره حولها ، إلا أن حالة قوية من الغثيان أنتابتها ، خاصة بعد إستنشاقها تلك الروائح العطرية التى تفوح منه بعد الإستحمام
فتخبطت بين ذراعيه ، لعله يطلق سراحها ، قبل أن تفرغ ما بمعدتها عليه ، فوضعت يدها على فمها وهى تقول :
– عمران إبعد إبعد
وصلت بالأخير لأن تدفعه عنها حتى كاد يترنح بوقفته ، وركضت للمرحاض ، فبعد أن أنتهت من القئ ، خرجت تجفف وجهها بالمنشفة
فأنكمشت ملامح وجهها وهى تقول بدون أن تعى قولها :
– ريحتك مقرفة أوى يا عمران
إستشاط غضباً وجن جنونه من قولها ، فصرخ بها بصوت جهورى :
– أنا ريحتى مقرفة يا بنت النعمانى ، الظاهر أن سكتلك كتير أوى
بدون أن يعى ما يفعل ، كان حاملاً إياها وألقاها على الفراش بعنف مستأنفاً :
– أنا هوريكى قلة أدبك دى
عنفه المفاجئ وإلقاءه لها على الفراش جعلها تشعر بألم شديد بظهرها ، فقطبت جبينها وقبل أن تقول شيئاً ، كان يشن هجومه عليها ، كوحش جائع ووجد فريسته بالأخير ، حاولت الصراخ أو أن تقول ما لديها وتخبره بأنها الآن تحمل طفله ، إلا أنها كلما حاولت إخباره يخرسها ويجعلها تبتلع كلماتها بجوفها ، فأصابها الإنهاك والتعب من شراسته وهمجيته ، التى لم تكن تتخيلها بأسوء حالاتهما ، كأنهما إثنان بحلبة للمصارعة ولكن أحد الخصمان ، كان لديه العزم والتصميم على النيل من الأخر
فآلام بطنها زادت عن حدها ، وصرخت ميس صرخة مدوية ، ولم ينتبه عمران لما يفعله ، إلا عندما وجد الدماء تغطى ساقيها
فصُدم عمران لما يراه ، وحالتها المزرية التى أصبحت عليها ، بل صارت تتلوى بالفراش وهى ممسكة ببطنها وتصرخ وتبكى بأن واحد :
– إاابنى يا عمران إبنى
أدرك الآن خطأه الفادح ، فنظر إليها بوجه شاحب متسائلاً:
– ميس هو أنتى حامل ؟
دفنت وجهها بالوسادة من الألم وهى تبكى وتصرخ :
– أااااااااه
لم ينتظر دقيقة أخرى ، إذ أرتدى ما قابله من ثيابه التى عاد بها من عمله ، ودثرها بالملأة وحملها وهرول من الغرفة بدون أن ينتعل حذاء ، فتساقطت دموعه وهو يلعن نفسه على غباءه ، الذى جعله يفعل ذلك بزوجته ، بل تسبب أيضاً بخسرانها لطفلهما
رآه معتصم وولاء الجالسان بالصالة ، ففزعت ولاء من المشهد الذى تراه ، وقالت بخوف :
– إيه الدم ده ميس مالها
لم يكن لديه الوقت الكافى للرد ، إذ تجاوزهما وخرج حتى وصل لسيارته ، فتبعه معتصم وولاء ، حتى وصلا للمشفى ، وقف عمران بالخارج مع شقيقه معتصم وزوجته ، لحين خروج الطبيب
فقبض معتصم على كتف عمران محاولاً تهدئته :
– إهدى يا عمران إن شاء الله خير بس هو إيه اللى حصل لميس
صمت عمران فهو ليس لديه ما يقوله ، فهل يخبر شقيقه ، أنه إعتدى على زوجته بهمجية ؟ فما انقذه سوى خروج الطبيب ، الذى أقترب منه بلهفة متسائلاً:
– هى عاملة إيه دلوقتى يا دكتور
رد الطبيب قائلاً بمهنية وآسف:
– هى المدام كويسة وممكن شوية وتدخلوا تشوفوها بس للأسف خسرت الجنين حصل إجهاض ، بس إيه اللى حصل لكده
إرتطم ظهر عمران بالجدار بعد سماع الطبيب يقر بتلك الحقيقة التى أراد أن يكون مخطئاً بشأنها ، فولاء ومعتصم أصابهما الصدمة مما سمعاه ، ولكن لم يجرؤ أحد على قول كلمة واحدة
فبعد علمه بأمر إفاقتها ولج للغرفة وقدماه ترتعشان ، فما أن وقع بصرها عليه حتى صرخت بصوت جهورى مقهور، على الرغم من شعورها بالوهن والضعف:
– أطلع براااااا ، مش عايزة أشوف وشك أنت اللى قتلت إبنى قتلته قتلته
على حين غرة ، أقترب من فراشها وانحنى إليها باكياً وهو يمسد على رأسها :
– أنا أسف يا حبيبتى بس ليه مقولتليش ليه يا ميس
تتابعت شهقاتها وهى تقول بصوت ملتاع :
– أنت أديتنى فرصة أتكلم ، طلعت حيوان يا عمران وأنا مش عايزة أشوف وشك تانى أخرج برا
تساقط دموعه على جبينها وهو ينحنى مقبلاً لرأسها ، ولكن دفعته بيديها المرتجفتين ، فإستجاب لرجائها بأن يتركها ، ولا يجعلها ترى وجهه خاصة بذلك الوقت ، وخرج من الغرفة وطلب من زوجة شقيقه أن تلازمها حتى تستعيد عافيتها ، بينما هو سار بخطوات شاردة برواق المشفى ، يرى أن فعلته تلك حتماً ستخلق فجوة كبيرة بينه وبين ميس ، فما أن وصل لسيارته وأستقلها ، حتى ظل يضرب بيديه على المقود ، وهو يسب ويلعن نفسه ، على قطعه لذلك الخيط الدقيق ، الذى كان سيعزز علاقته بزوجته
_____________
إستدعاء والد زوجته له جاء ضمن تلك الخطط التى وضعها ، بأن يقيم لهما بالبدء حفل زفاف ضخم يشهد عليه المجتمع المخملى بالإسكندرية ، وقضاء عطلة بإحدى الدول الأوروبية التى لم يطأها بقدميه من قبل ، فلبى دعوته التى حملتها له الخادمة ، فبعد سماعه بحقيقة أمر والد زوجته ، وهو صار يتجنب الجلوس معهما معللاً ذلك بإصابته بألام الرأس ، كونه يفكر كثيراً بعودته المرتقبة للأقصر وأصطحابه لهند معه ، فلم تظهر له خالته وزوجها سوى السعادة والترحيب بقراره
ولج غرفة النوم الخاصة بزوج خالته بعد طرقه للباب ومنحه الإذن بالدخول ، فقال بأدب جم :
– أيوة يا عمى حضرتك كنت عاوزنى
أشار له بالجلوس وهو يقول بحبور :
– أيوة يا كرم كنت عايزك فى موضوع ضرورى
جلس كرم وهو يدعى الجهل ، فقطب حاجبيه متسائلاً :
– خير يا عمى أتفضل قول
سحب من أسفل وسادته تذاكر الطيران الخاصة به وبهند ، فناولهما له وقال باسماً:
– دى تذاكر علشان تقضوا شهر العسل ، وكمان هعملكم فرح أنت عارف معنديش غير هند وعايز أفرح بيها فأرجوك يا كرم مترفضش عرضى ده ، ولما ترجعوا أبقى أعمل اللى يعجبك واللى أنت مخططله ، أنا كل اللى يهمنى سعادة بنتى وطالما سعادتها معاك أكيد أنا هبقى مبسوط وسعيد
أخذ كرم من يده التذاكر بهدوء ، فحاول الإبتسام قائلاً :
– كل اللى أنت عايزه يا عمى أنا تحت أمرك
تهلل وجه زوج خالته بسماع موافقته على حديثه ، فشد على يده بسعادة وقال :
– حيث كده أنت دلوقتى تروح تختارلك بدلة للفرح علشان هعملكم الفرح بكرة هنا فى الجنينة وكل حاجة هتكون جاهزة متشيلش هم حاجة خالص
أماء كرم برأسه طواعية على قوله ، فخرج من الغرفة مع تركه وعداً له بأن يذهب الآن لإنتقاء حُلة مناسبة لحفل الزفاف ، الذى سيقام بالغد
أثناء سيره شارداً إصطدم بهند ، التى يبدو عليها أنها عادت من الخارج ، تسير خلفها الخادمة تحمل عدة حقائب ، فشعرت الخادمة بالخجل وهى ترى سيدتها الصغيرة ، بين ذراعى زوجها ولا تنتوى الفكاك من تلاحمهما ، فصعدت هى الدرج لتضع الحقائب بغرفتها
شعرت هند بشروده ، خاصة وأنه يرمقها بصمت ، ولكن عيناه كأن بداخلها ألف سؤال ، فسحبت يديها من على كتفه ، وارتدت خطوة للخلف ، مما جعله يحل ذراعيه من حول خصرها
فقالت وهى ترمقه بقلق :
– مالك يا كرم ، فى حاجة يا حبيبى
حرك كرم رأسه نافياً ، فتبسم بدون مرح وهو يرفع تذاكر الطيران أمام وجهها :
– باباكى أدانى التذاكر دى وكمان قالى أنه عملنا فرح بكرة
وضعت يديها على صدره ، وتألقت عيناها ببريق البهجة والسرور:
– إيه رأيك فى المفاجئة دى حلوة مش كده
– حلوة أوى يا هند
قالها كرم بصوت خالى من الدفء ، فلم يشأ أن تسأله عن شئ أخر ، إذ اخبرها بشأن خروجه لشراء ثياب من أجل حفل الزفاف ، بل وأنه سيبيت ليلته تلك بشقته القديمة ، فبعد إلحاحه وافقت ، فبالغد سيصبح لها ما تبقى له من عمره
فباليوم التالى مساءاً وبحديقة المنزل الشاسعة ، كان يقام حفل الزفاف ، الذى أصر والدها أن يضم نخبة كبيرة من رجال الأعمال وأصحاب النفوذ والسلطان
ولجت والدتها الغرفة وصوتها يصدح بالزغاريد ، فأخصائية التجميل أنهت عملها على أكمل وجه وتركت هند بأجمل طلة لعروس بليلة زفافها
فقفزت هند بسعادة وأحتضت والدتها وهى تردد :
– أنا مش مصدقة يا ماما أن النهاردة هتجوز أنا وكرم تانى والمرة دى بجد وهيبقى جوزى وحبيبى ، هو وصل تحت ولا لسه
قبلتها والدتها على وجنتيها وهى تردد عبارات التهنئة :
– مليون مبروك يا حبيبتى وربنا يرزقكم السعادة يارب ، لاء زمانه على وصول
تلفتت هند حولها لتبحث عن هاتفها ، فوجدته على الفراش ، أخذته لتهاتف كرم وتحثه على الإسراع ، فهى بأوج شوقها لرؤيته ، على الرغم من أنه لم يمر سوى يوم واحد على عدم رؤيتها له
وضعت الهاتف على أذنها ولكن جاءها الرد بأن الهاتف مغلق ، فأعادت الكرة مراراً وتكراراً ، حتى إستبد بها القلق ، فنظرت لوالدتها ، وعادت لتحاول الإتصال به مرة أخرى
أخذت والدتها يدها بين كفيها وقالت :
– إن شاء الله خير يا حبيبتى وتلاقى تليفونه فاصل شحن ولا حاجة أنا هنزل لباباكى يبعت حد يشوفه أتأخر ليه
خرجت والدتها من الغرفة ، بينما هى جلست على طرف فراشها ، وضعت يدها موضع قلبها ، لعلها تخفف من وطأة تلك الخفقات المؤلمة التى تشعر بها ، فشعور الخوف أكتسح كل خلاياها ، بل عيناها باتت تهدد بسقوط دموعها ، فأين هو الآن ؟ ولما هاتفه مغلق ؟ أو لما أصر على المبيت بشقته ؟
فكل تلك الأسئلة تريد إجابات شافية وكافية ، لعلها تدرأ عنها وساوس الشيطان ، التى بدأت تنخر بقلبها وعقلها
_____________
برودة مفاجئة أصابته وهو جالساً بإنتظار سماع الإعلان عن رحلته الجوية ، فكأن كل شئ حوله أصبح صامتاً ، لا يسمع سوى أنين ذلك الذى يكتنفه بين أضلعه ، ولكن لم يعد هناك قرار للعودة ، فإتخاذه القرار بالرحيل ، إستلزمه طاقة وجهد كبير على مقاومة روحه المشتاقة والملتاعة لقربها ، ولكن عقله أكتفى من كل شئ ، ولم يعد يملك الطاقة أو الصبر لتحمل المزيد
رفع كف يده الأيسر أمام وجهه ، وحدق بخاتم زواجه الفضى ، الذى ألتمع بضوء الإنارة الخافت داخل مقصورة الركاب بالطائرة ، التى صعد على متنها منذ عشر دقائق ، ولم يفعل شئ سوى التحديق بكفه الأيسر ، فهو الأن بصدد الذهاب لبلاد الضباب ، ذهاب إلى أجل غير مسمى
حرك الخاتم حول إصبعه حتى وصل به إلى طرف بنصره ، فأسقطه بكف يده الأيمن وقال بألم وأنين العالم أجمع :
– سلام يا أحلى ما فى العمر وأمر ما فيه ، وأجمل كدبة عشتها
قبض على الخاتم بكف يده ، وسرعان ما وضعه بجيب سترته ، فالمضيفة بدأت بإلقاء التعليمات الواجب عليهما الإلتزام بها أثناء الإقلاع ، وما كادت تمر لحظات ، حتى شعر بتحرك الطائرة ، فأغلق عينيه يمنع تسرب أدمعه
أنتهى كل شئ ، وصار الأن محلقاً بين السماء والأرض ، فنظر من النافذة وهو يرى معالم الحضارة من مبانى سكنية وغيرها تتلاشى تباعاً ، كتلاشى أحلامه وما تبقى له من أمنيات، كأرض ظن أن الربيع حل عليها ببهاءه ، فإجتاحها الخريف فجأة وأسقط أوراق أحلامه من على أغصان أمنياته ، التى لم يظن أنها ستكون صعبة المنال ، فالحياة تعانده وتحرضه على القتال والكفاح ، ولكن هو من ألقى أسلحته مبكراً وأعلن راية الهزيمة
___________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية لا يليق بك إلا العشق)