روايات

رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الرابع والستون 64 بقلم سماح نجيب

رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الرابع والستون 64 بقلم سماح نجيب

رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الرابع والستون

رواية لا يليق بك إلا العشق البارت الرابع والستون

لا يليق بك إلا العشق
لا يليق بك إلا العشق

رواية لا يليق بك إلا العشق الحلقة الرابعة والستون

ج٢–١٨–” أنتِ إمرأتى وجذورى ”
أنزلقت نظراتها من رأسه المكلل بشعره الأسود ، الذى تضارب لونه مع غطاء الوسادة الأبيض ، إلى وجهه ذو التعبيرات الهازئة والذى يبدو أنه مستمتعاً بحيرتها ، مروراً بصدره الذى إلتمع جلده تحت تلك الإنارة الخافتة على جانبى الفراش ، وساقيه الطويلتين اللتان وصلتا لحافة الفراش الواسع ، الذى كانت تغرق بين طيات أغطيته بجسدها الذى إزداد نحوله منذ أن تركها
أرادها أن تتيقن من صدق حديثه ، فترك الفراش وأخذها من مرفقها حتى وصلا غرفة الثياب ، رفع يده يشير إلى ذلك الجزء الذى تم تخصيصه لثيابه ، فتجولت ببصرها فى تلك الأرفف التى كانت خاوية حتى مساء اليوم ، ولكنها صارت تعج بثيابه العملية والبيتية ، تعجبت حياء من عدم ملاحظتها لثيابه عندما ولجت للغرفة وأخذها ثياب لها ، فربما إنشغالها بالتفكير فيما فعلته معه ، جعلها تتصرف بآلية ولا تنتبه لأى تغير طرأ على غرفتها ، أو إذا أنصفت القول غرفته
فيما مضى كانت تلك غرفته وكانت هى من تسكنها معه ، وظلت مقيمة بها بعد رحيله ، ولكنه عاد ثانية ليفرض هيمنته وسيطرته ، على ذلك الحيز الوحيد الذى تأخذ راحتها به ، وتتعرى من جمودها وتستطيع أن تكون على سجيتها ، خلافاً لإبتساماتها المصطنعة وكبرياءها الواهى
إلتفتت برأسها إليه وتساءلت بنبرة جامدة :
– وده إسمه إيه بقى يا راسل ؟
دفعها برفق حتى وقفت أمام تلك المرآة الطويلة ، والتى أنعكس على زجاجها صورتها من رأسها حتى أخمص قدميها ، ولا تدرى لما جعلها تقف أمام المرآة ، ولكن لم تدوم حيرتها طويلاً ، إذ وجدته يقف خلفها ، حتى باتت تشعر بدقات قلبه تصدر صوتاً ورجفة بعمودها الفقرى ، فقبل أن تفكر فى الإبتعاد لكى تحل إلتصاقه بها ، وجدته يمد ذراعيه ويطوقها بهما ، بل عمل على ضمان بقاءها بينهما بأن تشابكت أصابعهما سوياً ، وأحنى رأسه على كتفها
شهقت حياء من جرأته التى لم يعد لها حد ، وتململت بين ذراعيه تحاول الفكاك منه وهى تقول بصوت مختنق :
– إيه اللى بتعمله ده ، ثم أنا سألتك سؤال جاوبنى بتعمل ايه فى أوضتى ؟
– مبعملش حاجة جديدة يا حياء ودى أوضتنا اللى شافت نصيب من ليالى حبنا
بدا صوته الخافت معبأ بأشواق خرجت من بين شفتيه ، قاصدة حواسها ، التى يعلم كيف يجعلها تشعر بالخدر ولا تبدى إعتراضًا
تعذبت ما أن تذكرت تلك الليلة التى رواها بالعشق وأيقظها على الغدر ، كأنها متاع رخيص ، حاول الإستفادة منه قدر إستطاعته قبل أن يلقيه ولا يلتفت إليه ،إنتفضت ما أن مرت الذكرى بمخيلتها ، فحدقت بصورته المنعكسة أمامها على المرأة ، وقالت بإشمئزاز وقهر :
– ليالى حبنا اللى أنت سقتنى فيها السم ، خلتنى أحس أن زى أى واحدة من الشارع ، قضيت معاها الليلة ورمتها ومسألتش فيها لأنها متهمكش فى حاجة أكتر من أنك تاخد منها حقوقك كزوج غير كده هى متلزمكش
دام الصمت لبرهة ومن ثم عادت تستأنف حديثها المرير :
– زى اللى بتعمله دلوقتى ، حسيت فجأة بندمك وبتحاول تعتذر علشان بس تلاقيك زى أى راجل عايز أى واحدة ترضى غروره كراجل ، وبما أنك ملكش فى الشمال فقولت فى نفسك وماله ماهى مراتى لسه موجودة واخد منها اللى أنا عايزه ، مش هو ده تفكيرك يا راسل ، بس مكنش ليه لزوم كل اللى بتعمله ده ، كنت تعال وقولى أنا عايز مراتى ، وأنا مكنتش هكسفك ، زى دلوقتى كده
إستدارت بين ذراعيه ونزعت عنها حجابها وثوبها الطويل ، ولم يتبقى سوى ذلك الثوب القصير ، الذى دائماً ترتديه أسفل ثيابها ، ولم تكتفى بذلك ، بل أقتربت من ثياب نومها ورفعت عدة أثواب بين يديها وأضافت :
– تحب ألبسلك أى واحد فى دول ، أختار وأنا ألبسهولك ، ولا أنت عملت حسابك وإشتريت حاجة جديدة علشان خاطر مزاجك ، أصل عارفة أن مزاجك عالى وبتحب تشترى الحاجة اللى تخليك مبسوط ، زى ما أنت فاكر كده إنك إشترتنى أنا كمان ها قولى
حديثها الساخر الذى راحت تقذفه به ، جعله يقف متصنماً ، كأنه تمثال من الشمع ، حتى أنه لم ينتبه على شعرها القصير ، و ظل محدقاً فى وجهها ، وكأن الدماء نضبت من عروقه ، ولكن بجهد إستطاع أن يقول بصدمة :
– إيه اللى بتقوليه ده يا حياء ، إزاى تفكرى كده
كل منهما يحاول أن يستعرض ذكاءه على الأخر ، ويظن نفسه أنه قادراً على فهم ما يدور بعقل من يقف أمامه ، وكلاهما يحاولان ممارسة سلطتهما وتأثيرهما على ما يظناه النصف الأضعف والقابل للإنصياع ، ولكن الأمور بينهما إزدادت سوءاً ، وأتسعت تلك الهوة بينهما ، حتى لم يعد أى منهما قادراً على سد تلك الفجوة أو ترميم ذلك الصدع الذى أوشك على هدم حياتهما
– إيه قولت حاجة غلط مش هى دى الحقيقة يا حبيبى
أرتجفت شفتاها وحاولت السيطرة على دموعها التى ملأت مقلتيها ، ولكنها أبت أن تطرق برأسها أرضاً ، وظلت تحدق به كند له ولن تعلن هزيمتها مهما بلغت خسائرها
فما كان منه سوى أن قبض على كلتا جانبى رأسها بكفيه ، وبدا أنه على وشك عصرها ، فأحناها قليلاً للخلف ، لكى ينظر فى عينيها بهيمنة ، فقال من بين أسنانه والغضب يكتسح ملامحه :
– حقيقة إيه يا حياء ، وإزاى يخطر فى بالك أن أنا ممكن أفكر فيكى بالطريقة دى ، أنت مراتى وحبيبتى ، ساكنة ضلوعى وجذورى ، وأنتى حقيقتى فى الدنيا دى ، مستحيل أنظر ليكى نظرة مختلفة عن أنك نصى التانى وتؤام روحى
رفعت يداها ووضعتها على يداه لتسحبهما عن رأسها ، فضغط كفيه لا يطاق ، ولكن خرج صوتها متألماً وهى تقول بنبرة متحشرجة :
– حلو الكلام ده يا راسل ماهو مفيش أسهل منه ، لكن تصرفاتك غير كلامك ، متحاولش دلوقتى تطلع نفسك برئ ، كل تصرفاتك معايا أثبتت ليا إن أنا ولا حاجة بالنسبة ليك ، متجيش دلوقتى تضحك عليا بكلامك
قبض على خصيلاتها بحنان ، ومرر يده بينهما إلا أن جولته بين طياتها أنتهت بسرعة ما أن وصل لأطرافها القصيرة ، فهنا وأدركه الفهم ، أنها لم تبقى على شعرها الطويل ، فجن جنونه وهو يلمس أطراف شعرها قائلاً بدهشة :
– أنتى قصيتى شعرك يا حياء ، معقولة اللى أنا شايفه ده ، إزاى تعملى كده ، إزاااى
ما أن صاح بعبارته أزاحت يديه وأرتدت بخطواتها للخلف واضعة شعرها خلف أذنيها قائلة ببرود وفتور :
– وفيها حاجة لما أقص شعرى ، أنا حرة فيه أقصه أخليه طويل دى حاجة تخصنى أنا بس ، أنت زعلان ليه وبتزعق فيا ، عايز تتحكم حتى فى شعرى
عادت عيناه تحملق بها وهو ما زال مذهولاً ، فحلمه الدافئ بأن يعود يوماً ويدفن وجهه بين طيات شعرها الحريرى ويهمس بأسراره بين جدائلها ، التى كان يهوى هو أن يجدلها بيديه مثلما كان يفعل مع إبنته ، لن يعود بإمكانه الحصول عليه ، إذ أحرقت أمنيته تلك بمقص جائر راح يهدر أطراف شعرها الحريرى ، ليكسبها مظهراً لم يعتاده ، كأنها أرادت طمس تلك الملامح التى كانت راسخة بذهنه ، ولتجعله يستبدلها بأخرى ، ربما سيأخذ وقته قبل أن يعتادها ، فلو كان التوبيخ والتأنيب والتقريع قادراً على إعادتها لصورتها الأولى ، لكان قضى ليلته بأكملها يأنبها على ما فعلت
– الظاهر فعلاً إنك أتغيرتى يا حياء ، كل حاجة كنت بحبها فيكى بقيتى تغيريها ، كأنك بتقوليلى إن مراتى اللى أعرفها خلاص مبقاش ليها وجود
قالها همساً بصوت مبحبوح ، كأن تلك الغصة التى تكونت بحلقه منعته من أن يخرج صوته طبيعياً
– أيوة أتغيرت يا راسل ، زى ما فى حاجات كتير أتغيرت فى حياتنا ، إحنا بقينا عمالين زى اللى بيدور فى دايرة مقفولة ، بنلف ونرجع لنقطة البداية تانى ، ومبقتش عارفة مين فيا الأقوى أو اللى قادر يضحك على التانى
رفعت وجهها بإباء ما أن أنتهت من قول عبارتها ووجنتيها اللتان شحبتا فجأة ، بدت بهما عظامها الغائرة ، وكأن سقط عنها تلك الملامح الزائفة ، ليبرز من خلفها حقيقتها المرهقة والمعذبة وشحوبها الذى لم يسكن وجهها فقط بل أن روحها ما عادت تملك رونقاً ، كتلك الأيام الخوالى التى كانت تعيش بها منعمة ومترفة بنعيم الحب ، الذى لم يدم طويلاً ، بل جاءت النهاية أبكر مما كانت تظن ، فأن تنعم بأشهر قلائل لم تخلو من العثرات ، ويأتى بعدها أيامها الخاوية ، لهو بالأمر الذى تستحق أن تكافئ عليه من أنها مازالت صامدة رغم كل ما حل بها من نوائب وكوارث ، كانت كفيلة بالقضاء عليها حتى رمقها الأخير
فركت يديها ببعضهما وسرعان ما قالت بإبتسامة متألمة نابعة من قلبها المتكتل بالغصات الأليمة :
– أنت عارف لما سبتنى ، كنت كل يوم أدعى ربنا وأتمنى أنك ترجع حتى لو رجعت وأنت زعلان منى ، بس كنت هحاول أفهمك إن أنا مليش ذنب وكنت مستعدة أنسى اللى حصل ونبدأ حياتنا من تانى طالما الخطر والشر بعد عننا
صمتت لهنيهة ومن ثم ضحكت ساخرة من حالها وتلك الدمعات تتسابق فى الإنسكاب على وجنتيها الشاحبتين ، فتابعت حديثها :
– بس إكتشفت إن كنت ساذجة فى تفكيرى ، لأن الخطر الحقيقى مكنش فى وجود عمى أدريانو أو ديفيد أخويا ، لاء دا الخطر كان حبى الزايد ليك وخوفى عليك ، اللى خلونى أوقف حياتى على وجودك جمبى ، ومفكرش فى أى حاجة تانية ، كنت بالنسبة ليا الهوا اللى بتنفسه ، دقات قلبي اللى مخليانى لسه عايشة ، وده كان غلطى أنا مش غلطك يا راسل ، إن خليت حياتى كلها وقفت عليك ، بس دلوقتى عرفت أن محدش هيمسح دمعتى غير إيدى ، وإن مهما وقعت مش هرجع أقف على رجليا تانى إلا علشان خاطر نفسى مش علشان خاطر حد ، وأتعلم إن أحب نفسى لأن أنا أستاهل أتحب ، حتى لو ملقتش اللى يقدر يحبنى بالشكل اللى كنت بتمناه
تدفقت عبراتها وأنسكبت حتى تخضل وجهها ، وكلما حاولت محوها بكفيها ، تعود وتنهمر بغزارة ، وهى مازالت تعنف نفسها بصمت من أن تكف عن البكاء ، فهى لا تريد إثارة شفقته أو أن تجعله يرى ضعفها ، ولكن تلك هى طبيعيتها التى كرهتها مؤخراً من أنها ما أن تنفعل أو تشعر بالتوتر تبكى حتى لأتفه الأسباب
جذبها إليه برفق وطوقها بساعديه مقبلاً لرأسها يرجوها بصوته الذى بدا ممزق النبرات :
– خلاص يا حبيبتى كفاية ، ليكى حق تكرهينى ، أنا اللى إستحق علشان ضيعت الحاجة الحلوة اللى فى حياتى ، بس والله العظيم يا حياء أنا عمرى ما حبيت وعشقت واحدة زى ما بحبك أنتى
كأنه أدرك بوقت متأخر مدى فداحة أفعاله ، من أن يجعل صبيته الحسناء و زهرته الندية والتى أرتوت من فيض عبراتها ، أن يصل بها الحال من أن تشعر بالسوء من حبها له وشغفها به ، فكم تبدو كطفلة خائفة وحائرة ضلت طريقها إلى المنزل ، وهى تمسح وجهها بظاهر يدها وعيناها زائغة النظرات ، كأنها تبحث عن بارقة أمل أو ضوء من بعيد لتخرج من ذلك النفق المظلم الذى تاهت بين أرجاءه
أهتزت الدموع بمقلتيه تريده أن يطلق سراحها من محبسها ، فغص حلقه وهو يستأنف حديثه بندم حقيقى:
– أنا عارف إن مقدرش أرجع اللى فات ، وإن أخليكى تنسى اللى حصل ، بس لو قضيت الباقى من عمرى وأنا بحاول أخليكى ترجعى حياء اللى حبيتها فأنا مش هيأس ولا أزهق ، بس أدى حبنا فرصة تانية
طبع قبلة دافئة على رأسها حاول تضمينها إعتذاره وندمه الذى تأكل خلاياه ، ومازال ينخر بعقله على أنه بالرغم من أنه أخذ قراره بأن يحاول إستعطافها لتغفر له مما كان بحقها ، إلا أنه مازال رافضاً البوح بأسبابه الجوهرية ، مكتفياً بأن تعتقد أنه تركها بالبداية من أجل ما حدث له من عمها وشقيقها ، فهو بحاجة لمزيد من الوقت حتى يستطيع إخبارها بما أخفاه عنها ، فالوقت الآن ليس فى صالح أحد منهما وخاصة هى ،وهو لن يغامر بأحلامها ، ويجعلها قيد المراهنة على أمنية تزداد فرص الإخفاق فى تحقيقها
رفعت وجهها إليه وتساءلت بنبرة لجوجة :
– وعايز فرصة تانية ليه ؟ وليه لحد دلوقتى حاسة أنك بتلف وبتدور عليا في الكلام ؟
إستكانت إليه بوداعة ، خشية ألا تتحمل قدميها حملها ، فهى تعبة ومرهقة وتعيسة لأبعد الحدود ، وبدت بتلك اللحظة أنها تحدق بالفراغ وترى حياتها الماضية تسير أمامها كمشاهد لفيلم بدأ بداية حسنة ووممتعة وهادئة وسرعان ما تصاعدت أحداثه ، حتى صار درامياً ومأساوياً ولا يستطيع أحد التكهن بنهايته
أفترت شفتيه عن تنهيدة حارة تبعها بقوله :
– حياء عايزك تقبلينى على الحالة اللى أنا فيها دلوقتى ، صدقينى الوجع جوا زيك بالظبط ويمكن أكتر كمان ، وأنا بشر بغلط ومنكرش إن غلطت ، فسبينى أصلح غلطى ، حتى لو فى الأخر أصريتى على أنك تبعدى عنى بس أكون كفرت عن غلطى فى حقك
عملت إحدى يداه بالربت عليها والأخرى تمسد على رأسها بداية من منبت شعرها حتى نهاية أطرافه ، فبتردد رفعت راحتيها وحطت بهما على ظهره ، فأرتعد بخفة من ملمس يديها الباردتين على سخونة جلده كأنهما بأحد أيام الشتاء القارصة البرودة ، أغمضت عينيها بإرهاق بعدما تسرب دفئه إليها ، فماذا تفعل ؟ وبما تجيبه ؟ فهى حائرة تائهة ، ولا تعلم أى سبيل تسلكه لتخرج من تلك المتاهة ، فهل تقبل بعودتها إليه وبذلك يكون خدعها أكثر من مرة عوضاً عن مرة واحدة ، فأسئلة كثيرة تزاحمت بعقلها وتريد إجابة عليها ولكن يبدو أنه ليس مستعداً لأن يجيبها على ما تنوى السؤال عنه ؟ ولذلك فهى لن تقبل بعودتها إلى بصورة فعلية ، إلا إذا قدم إليها تفسيراً كاملاً عما فعله
ومن المحتمل أن الحظ كان حليفها بتلك اللحظة ، إذ سمعت طرقاً متتالياً على باب الغرفة ، وصوت سجود الباكى وهى تقول بإلحاح:
– مامى إفتحى أنا خايفة ومش لاقية بابى فى أوضته
أنسلت من بين ذراعيه وراحت تبحث عن رداءها، بينما أخذ راسل قميصه وإرتداه ومن ثم فتح الباب لصغيرته ، التى سبقته قدميه فى الإقتراب من الباب ليعلم سبب إستيقاظها هكذا بوقت متأخر وتبكى أيضاً بصوت مسموع ، وما أن فتح الباب انحنى إليها وحملها قائلاً وهو يربت على ظهرها بحب وحنان :
– مالك يا روح بابى بتعيطى ليه كده
وضعت سجود رأسها على كتف أبيها وأخفت وجهها بين ثنايا عنقه قائلة وهى ترتجف :
– بابى كان فى ست وحشة جاتلى فى أوضتى وخوفتنى
عقد راسل حاجبيه بعدما سمع ما قالته إبنته ، ولكنه عاد يربت عليها مطمئناً لها ، فربما شاهدت فيلماً ورآت إحدى شخصياته الشريرة بأحلامها ، فقبل وجنتها قائلاً برفق ولين :
– حبيبة قلبى متخافيش تلاقيكى كنتى بتحلمى ، أنتى أتفرجتى على فيلم كارتون قبل ما تنامى ؟
هزت سجود رأسها علامة الموافقة على سؤال أبيها ، إلا أنها عادت تحكم ذراعيها حول عنقه رافضة تركه ، وحتى لا يفكر بأن يعيدها إلى غرفتها ، ولكن ما أن رآت حياء تخرج من غرفة الثياب ، حلت ذراعيها من حول عنق أبيها ودفعت كتفيه برفق لكى يحل وثاق ذراعيه عنها لتذهب إليها
تركت سجود والدها وركضت إلى حياء ، التى جلست القرفصاء أمامها وأحتضنتها بحنان كعادتها ، فعادت سجود تتلو عليها ما تلته على أبيها وجعلها تفزع من نومها ، ولكن وجدت السلوى بين ذراعى حياء إذ أخبرتها بأنها ستنام برفقتها الليلة
فصفقت الصغيرة بحماس لعرض حياء المغرى ، والذى يبدو أنه لن يقتصر على المبيت لديها الليلة ، إذ يبدو أن أبيها هو الأخر سينام بجوارها على الجانب الأخر ، على الرغم من أن سنها لا يسمح لها الآن بالنوم بين والديها ، إلا أن سجود لم تعترف بعد بأنها لم تعد تلك الصغيرة التى يُسمح لها بالنوم فى غرفة والديها
– يلا بقى يا بابى أنت ومامى علشان ننام
قالت سجود عبارتها وسرعان ما قفزت على الفراش وتمددت بالمنتصف ، وهى تشير بكلتا يداها لهما بأن يستلقيان جانبها ، تبادل راسل وحياء النظرات سوياً بصمت ، على الرغم من أنه كان بنيته أن يقيم معها بالغرفة ، حتى لو لم تكن سجود هى من تدعوه الأن للإستلقاء على ذلك الفراش ، الذى لم يتقاسماه منذ تلك الليلة التى غادر بعدها ولم يعد
قطعت حياء حيرتهما بأن تمددت بجوار الصغيرة ، وفتحت لها ذراعيها وغاصت بينهما بإرتياح ، بينما إستلقى هو على طرف الفراش الأخر ، وترك مسافة كافية بينه وبينهما ، إلا أن سجود قالت وهى تشعر بالنعاس :
– قرب مننا يا بابى وطبطب عليا علشان أروح فى النوم
لم يجعلها تكرر مطلبها مرتين ،إذ أقترب منهما وعلى وجهه إمارات التسلية ، بعدما رآى حياء تنظر إليه محذرة إياه من أن يقترب أكثر من تلك المسافة ، التى جعلته كاد يلمس أطراف قدمها ، ولكنه لم يكن ذلك الذى يلتزم عهداً يمنعه من أن يدنو منها ، حتى إنه أخذ أمر الربت على صغيرته وسيلة لأن يلمس ظاهر يدها من حين لأخر
وما أن تيقنت حياء من خلود الصغيرة لنومها ، قالت بصوت هامس:
– أنت بتعمل إيه على فكرة بنتك نامت بقالها شوية وأنت برضه عمال تطبطب عليها أو لو قولت الحق بطبطب على إيدى أنا
أدعى راسل الجهل وقطب حاجبيه قائلاً ببراءة لم تصدقها :
– إيه ده هى دى إيدك أنا أفتكرتها إيد سجود وأنا برضه عمال أقول إيد سجود كبرت ليه كده
ألتوى ثغرها الوردى وإستطاع هو رؤية ملامح وجهها الساخرة بضوء الإنارة الخافتة بالغرفة ، إلا أنه أعاد الكرة مرة أخرى ، حتى رآها تنفض يده عنها محذرة :
– راسل بطل إستهبال شوية ، علشان أنا عرفاك ، لولا سجود كنت خليتك ترجع أوضتك دلوقتى
لم يعنيه تحذيرها وتهديدها ، بل أن يده راحت تداعب وجنتها بلطافة ،جعلتها تأخذ أنفاسها بحذر خشية أن تستيقظ سجود ، فأدنى برأسه قليلاً منها متبجحاً بقوله :
– حتى لو مكنتش سجود جت يا حياء مكنتش هسيبك ولا أسيب الأوضة
كزت على أسنانها قائلة بغيظ :
– ليه إحتلال ده ولا إيه يعنى ، لو أنت مصمم تقعد هنا هشوف أنا أى أوضة تانية أقعد فيها القصر مفيهوش أكتر من الأوض
أشاحت بعينيها عن وجهه ما أن أنتهت من قول عبارتها التى خرجت منها بنبرة جافة ، لتدرأ عنها تلك الأفكار ، التى بدأت تتمحور بعقلها ، جاعلة نبضات قلبها تتصاعد ، حتى كادت تشعر بأنه كاد يحطم ضلوعها من شدة خفقانه ،ولعله يعلم أنها جادة بحديثها
حاول بلع حديثها وقال مزمجراً بدهاء :
– مش هيحصل يا روحى ، أنتى هتقعدى مكان ما أنا قاعد ، ولولا شغلى وشغلك ، كنت خليتك تلازمينى زى ضلى علشان متبعديش عن عينى يا نور عينى ، ومش هنتكلم فى الموضوع ده تانى
من المحال أن يتركها تسكن غرفة أخرى غير تلك الغرفة ، خاصة وأن ذلك الشاب مازال مقيماً هنا ، فلا تعلم أى جمر يتأكل روحه وأحشاءه كلما رآى أدم ، ويراها هى تضحك وتبتسم وتتحدث معه حتى وإن كانت حريصة على الإلتزام بالعادات الأسرية من كونها زوجة له ولا تتعدى تلك الحدود الشرعية والمشروعة، التى تجعل أحد يظن أنها لا تضع لزوجها حسابها أو أنها مازالت تحمل إسمه حتى وإن كان ظاهرياً بذلك الوقت
– راسل أنا….
لم يدعها تكمل جملتها ، إذ اسرع بوضع يده على فمها ليمنعها الكلام ، وتجنباً لثورتها التى لاحت بوادرها بعينيها الملتمعتان رغم ذلك الضوء الخافت الساقط عليهما ، إلا أنه رآى أن من الأفضل أن يحاول إسكاتها بتلك الكلمة التى قفزت إلى شفتيه وهو يقول بوله ظاهر :
– بحبك
حيلة جديدة منه محاولاً بها أن يجعلها تنسى أو أن تمرر له ما حدث ، هكذا فكرت حياء وأقنعت عقلها بأنه لم يتفوه بتلك الكلمة إلا من أجل إلهاءها ، رغم أن بإمكانها رؤية سوداويتيه التى تشعان ببريق لطالما تمنت رؤيته ولطالما جعلت نبضها لا يهدأ ، بل دائما ما ينجح بخلق جو من الشغف الخانق بداخل أوردتها ، ولم تكن تستطع السيطرة عليه ، إذ كانت تسرع بالإرتماء بين ذراعيه وتلتصق به راغبة فى أن تسمع المزيد والمزيد على شاكلة تلك الكلمة التى يضع بها عمق صوته وسحره وتأثيره الكامل بها ، فمحاولة منها لإيقاف ذلك الإرتجاف الذى ضرب حواسها ، شددت من إحتضان الصغيرة ، لعلها تقيها لفحات الضعف والخيبة التى بدأت تنتشر بمراكز الحواس لديها
ولكن علام تقى نفسها وهى تحتضن قطعة منه ، تحمل دماءه وتأثيره عليها ، فدائماً سجود كانت تنجح بجعل إشتياقها رهن سيطرتها عندما كانوا يعيشون سوياً كأسرة صغيرة سعيدة ، إذ كانت تملأ عينيها من رؤية وجه الصغيرة المحبب لها لكونها إبنته حتى يحين موعد عودته إليها، ولكن يبدو عليه الأن أنه لن يكتفى بأن يجعل عواطفها حكراً على صغيرته ، بل سيعمل جاهداً فى أن ينفض الثرى عن مشاعرها ، التى حاولت يأساً دفنها بغياهب عقلها وقلبها ، فلو كانت تتمتع بذرة واحدة من الذكاء ، لكانت غادرت الفراش الآن ، أو أن تحاول على الأقل ، بألا تجعله يضع يده عليها مثلما يفعل الآن وكاد يذيب بشرتها بأصابعه القوية ، التى راحت تداعب وجنتها تارة وتمسد على شعرها تارة أخرى
❈-❈-❈
جلسا ينتظران دورهما بعيادة الطبيبة النسائية ، التى زارها منذ بضعة أيام وأكدت لهما حمل هند ، ولكنها طلبت منها عمل بعض التحاليل الطبية والفحوصات ، للتأكد من سلامتها وسلامة ذلك الجنين الذى تحمله بأحشاءها ، فسعادتهما وبالأخص هى بلغت عنان السماء ما أن سمعت الطبيبة تهنئها بحملها ، وراحت بوقتها تحتضن زوجها بفرح مجنون متناسية أنها فى عيادة الطبيبة وأنهما ليسا فى المنزل ، ولكن سعادتها جعلتها تنسى كل شئ عدا أن تهنئ نفسها وزوجها بأنه فى القريب العاجل وبعد بضعة أشهر سيحملان صغيرهما ، والذى تمنت هند أن يكون صبياً يشبه والده بملامح الوجه وخاصة رماديتيه ، اللتان تجعلانها تشعر بفيض من المشاعر الجامحة ، والتى لا يستطيع أحد أن يجعلها تشعر بها غيره ، ولم تنسى أن تخبر والديها بأن الحفيد الأول لهما صار فى طريقه للمجئ إلى هذا العالم ، فتذكرت بإبتسامة كيف كان رد فعلهما ، إذ أحست بأن أباها ود لو كان يملك جناحان ويصل إليها ليهنئها وجهها لوجه ، حتى صارت تتخيل تلك الأوقات التى ستجمعهم برفقة طفلها
– هو لسه كتير على دورنا ولا إيه
مال كرم برأسه لزوجته هامساً بعبارته ، ونقر على شاشة هاتفه نقرات خفيفة دلت على شعوره الطفيف بالضيق من مكوثهما بالعيادة لمدة تزيد عن النصف ساعة ، فالممرضة لم تعلن بعد عن دورهما ، لتكدس العيادة بالنساء الحوامل
أجابته هند باسمة وهى تنظر لتلك التقارير الطبية التى وضعتها على ساقيها :
– هانت يا حبيبى هندخل للدكتورة بعد المدام اللى عندها ما تخرج
ضحك كرم بصوت خافت قائلاً بطرافة :
– دا اللى بتدخل جوا مش عارف بتنام ولا إيه ، دى لو بتولدهم كانوا خلصوا أسرع من كده
وكزته هند بلطف لتجعله يكف عن دعابته ، والتى حرص على أن يقولها بصوت منخفض ، بعد رؤيته للممرضة وهى تنظر إليهما عن كثب ، كأنها راغبة فى معرفة عما يتهامسان حوله ، فوضعت هند يدها قريباً من فمها قائلة من خلف ستار أناملها الرقيقة :
– بس بقى الممرضة عمالة تبص علينا كأنها شوية وتيجى تقولنا بتضحكوا على إيه
لم ينتبها لخروج المرأة التى سبقتهما فى الدخول للطبيبة إلا بعدما نادت الممرضة بصوتها الجاف ، لتنبههما بأن دورهما قد حان ، فنهض كرم وأخذ يد زوجته وولج للداخل
بعدما جلست هند على ذلك المقعد الجلدى أمام المكتب الصغير الذى جلست خلفه الطبيبة ، ناولتها التقارير الطبية والفحوصات ، فأخذتها منها وبدأت تمعن النظر بها جيداً ، مما أثار شكوك هند خاصة بعد رؤية تلك التقطيبة الخفيفة التى أرتسمت على جبين الطبيية الخمسينية ، والتى راحت من حين لأخر ، تعدل من وضع نظارتها الطبية ، لكى تساهم فى جعلها ترى التقارير بوضوح
خرجت هند عن صمتها وتساءلت بقلق:
– هو فى حاجة فى التقرير أو الإشاعة يا دكتورة ؟
خلعت الطبيبة نظارتها وضمت كفيها بعدما إستندت بمرفقيها على حافة مكتبها الصغير وقالت بصدق ودون مواربة :
– هو الموضوع يا مدام هند أن حضرتك عندك عضلات الرحم مش قوية يعنى متستحملش ضغط حجم البيبى لو كبر وممكن بعد الشر يحصل إجهاض
شحب لون وجه هند بعد سماعها ما تفوهت به الطبيبة ، و تلقائياً نظرت لكرم ، لعله هو يخبرها أنها إستمعت لشئ خاطئ أو توهمت ذلك ، إلا أن نبرة صوته التى خرجت من فمه تحمل فزعاً وهو ينظر للطبيبة متسائلاً بدهشة:
– يعنى إيه كلامك ده يا دكتورة ؟ وإيه الحل دلوقتى ؟
بدأت عينىّ هند تتجمع بهما العبرات الحارة حزناً على حلم لم تدوم سعادتها به إلا أيام قلائل ، إلا أنها أنتبهت عندما قالت الطبيبة بمهنية محاولة منها طمأنتهما :
– هو إن شاء الله خلال الحمل مدام هند تلتزم الراحة التامة فى السرير ، ولما أقول الراحة التامة أنها تنام على ضهرها خلال شهور الحمل لحد الولادة ومتعملش أى مجهود من أى نوع فاهمنى يا أستاذ كرم ، وفى الشهر التالت لو حسينا بأى خطر على البيبى ممكن نعمل عملية ربط للرحم
أزدرد كرم لعابه لفطنته بما تعنيه الطبيبة بتحذيرها له من أن يحرص على عدم قيام هند بأى مجهود يذكر ، خاصة المتعلق بحياتهما سوياً كزوجين محبين ، فمد يده وقبض على يد زوجته قائلاً بهدوء :
– تمام يا دكتورة حضرتك إحنا هنلتزم بكلامك بالحرف الواحد ، المهم هى والبيبى يكونوا بخير
رفعت هند كفها الأخر وأحتضنت يده ورمقته بإبتسامة عاشقة ترافقت مع إهتزاز تلك العبرات بعينيها ، ولكن ساهم صوت الطبيبة بخروجهما من تلك الحالة العاطفية ، بأن أخبرتهما بالنظام الواجب عليها إتباعه للحفاظ على جنينهما وأن تحول دون خسارتهما له
فبعد بضعة أيام ، كانت هند تستلقى على فراشها بعدما نجحت الطبيبة فى طمأنتها و أن تجعلها تشعر بالسعادة من أنها ستتذوق حلاوة شعورها بأن تكون أم لطفل من زوجها ، ولكن لا شئ يجعلها تشعر بالضيق ، سوى أن أعباء المنزل كافة وقعت على عاتق زوجها ، فقبل ذهابه لعمله يتتهى من الأعمال المنزلية اليومية ويوصيها بعدم الحركة إلا بأضيق الحدود كذهابها للمرحاض ، ويوصى والدة سويلم بأن تنتبه عليها لحين عودته من عمله الذى حرص أن يعود منه مبكراً من أجلها
أنتهى من إرتداء قميصه وتأهب للذهاب إلى عمله ، بعدما وضع لها طعام الإفطار بجوار الفراش لحين نهوضها ، إلا أنها أعتدلت بجلستها وهى تقول بتثائب :
– حبيبى إنت خلاص خارج ، هى الساعة كام دلوقتى ؟
نظرت هند بشاشة هاتفها ووجدت الساعة تشير للسابعة صباحاً ، فرد كرم قائلاً بعجالة وهو يدنو بوجهه منها يقبلها على رأسها :
– أيوة يا حبيبتى يادوب ألحق ، أنتى عارفة اليومين دول فى ضغط شغل والمدير مأكد علينا نكون موجودين بدرى أنا عملتلك الفطار كلى كويس وأنا إن شاء الله هرجع البيت بدرى ، خلى بالك من نفسك سلام
حركت هند رأسها ببطئ ونظرت لأثره وهو يخرج من الغرفة يحث خطاه على الإسراع ، فزفرت بقلة حيلة وهى تنظر للطعام الموضوع على المنضدة القريبة من الفراش ، ولكن قبل أن تمتد يدها إليه ، فكرت فى حيلة ربما تفيدها فى أن تخفف العبء عن كاهل زوجها ، وهى أن تهاتف والدتها ، وأن ترسل إليها إحدى الخادمات التى تعمل عندهما بالمنزل ، وبذلك تستطيع أن توفر الراحة لها ولزوجها ، عوضاً عن تشتته بين المنزل وعمله
لم تفكر مرتين بالأمر ، إذ أخذت الهاتف من على الكومود وأجرت إتصالاً بوالدتها ، التى جاءها صوتها متلهفاً وهى تقول بحنان أمومى طاغى :
– حبيبة قلبي عاملة إيه دلوقتى وحشانى أوى والنونو عامل إيه ؟
أجابتها هند بصفاء صوتها العذب وهى تمسد بيدها على بطنها التى لم تظهر بها علامات الحمل بعد :
– الحمد لله يا ماما نحمد ربنا أنا تمام أنتوا اللى وحشتونى أوى
عادت والدتها تقول بصوتها الحانى :
-لولا إن باباكى اليومين دول مشغول فى الشغل كنت جتلك على طول ، وقالى هيخلص شغله فى أقرب وقت ونجيلك علشان نشوفكم ، دا من ساعة ما عرف والدنيا مش سيعاه من الفرحة وبيحاول يخلص شغله بسرعة علشان نجيلك بس نعمل ايه فى شغل السياسة اللى واخد كل وقته
إستشعرت هند صدق نبرات صوت والدتها ومدى لهفتها بأن تراها ، وهذا ما جعلها تتشجع قليلاً بقولها ، محاولة الحفاظ على توازن نبراتها التى خشيت أن يظهر إرتجافها مدى ذلك الشعور بالقلق المستبد بقلبها :
– ماما كنت عايزة أقولك على حاجة وكمان ليا طلب عندك
فهى حتى الآن لم تخبرهما بشأن أحوالها الصحية التى تستدعى الراحة التامة بالفراش ، من أجل الحفاظ على جنينها ، كونها أنها لم ترى داعِ لأن تثير قلقهما ، إلا أنها الآن لم تجد ضرر من أن تخبر والدتها وتوصيها بألا تخبر أباها حتى لا تثير قلقه عليها ، لعلمها بحب أبيها الشديد وتعلقه بها وبحثه عن كل سبل الراحة لها ، وتخشى إذا علم بشئ بأن يصر عليها بأن تعود لمنزله لحين ميعاد وضعها لطفلها ، وهى لا تريد ذلك ، أو أن تقضى أشهر الحمل بعيداً عن زوجها ولا تراه إلا بعطلات قصيرة ، فعلى الرغم من أن إقامتهما معاً فى الوقت الحالى والتى ستمتد لبضعة أشهر ، بدت كأنهما أشقاء أو صديقين ، إلا أن ذلك أهون عليها من أن تظل أيام طوال من دون رؤيته أو أن يكون بجوارها عندما تخلد لنومها أو تستيقظ منه ، فذلك الأمر مرفوض رفضاً باتاً ، فهى لن تقيم بمكان إلا إذا كان هو معها ، وترى أنه من حقها أن تنعم بتدليله لها أثناء حملها وأن ترى حماسه وترقبه لرؤية مولودهما ، لذلك شعرت بالراحة بعد سماع والدتها تخبرها بأنها سترسل لها الخادمة بأقرب وقت ، على أن توافيها هى وأبيها بعدما ينتهى من أعماله وأعباءه السياسية ، وبعد إنتهاء المكالمة وضعت هند الهاتف بمكانه ، وبخطوات حذرة ذهبت للمرحاض ، وبعد إنتهاءها من روتينها اليومى ، عادت للفراش وبدأت تتناول إفطارها بإبتسامة ومن حين لأخر تمسد على بطنها وتتحدث مع جنينها وتشاهد التلفاز أو تتصفح الهاتف ، لعل الوقت ينتهي بسرعة ويعود زوجها.
❈-❈-❈
ليلة أخرى يقضيها برفقتها تحت ضوء القمر ، والذى ألقى بنوره الفضى على سطح ماء المسبح الموجود بالباحة الخلفية للمنزل ، تأجج الشوق بقلبه من إختلاسهما تلك الأوقات بعيداً عن أعين الجميع ، ولم تدخر هى جهداً فى زيادة وقود أشواقه ، ولا يعلم هل تفعل ذلك بجهل منها أم ماذا ، فبدا كأنه يجلس على حافة سكين حاد ، مطالباً أن يكون حذراً بمعاملتها وبذات الوقت يحاول إلجام مشاعره الثائرة ، والتى ينفلت عقالها ما أن تنادى بإسمه ، الذى يخرج من بين شفتيها المكتنزتين كنغمة عذبة ، فيتركها تتحدث كيفما تشاء ولا يسمع نصف ماتتفوه به لإنشغاله بتأملها وتركيز بصره على خروج حروفها من فمها السخى ، القادر على إغواءه وقتما تريد ، حاول تنظيم أفكاره وإعادتها لمسارها الصحيح بأن ينتبه على ما تتحدث بشأنه ، إلا أنه صار بارعاً فى إظهار فشله فى فعل ذلك ، بأنه ما أن يجيبها على سؤال إستطاع إلتقاطه من بين حديثها ، يعود وتأخذه أفكاره حول رد فعلها إذا أقدم على عناقها ، أو أن تتركه يضع رأسه على كتفها ويخبرها عن شعوره القاتل بالوحدة
تلك التنهيدات الحارة التى خرجت منه تحمل على أجنحتها مدى لوعته ، وصلت لأذنيها بوضوح ، فرمقته بقلق لتستوضح سبب فعله لذلك :
– مالك يا عمران فى إيه ؟ أنت النهاردة مش على طبيعتك خالص
داعب رأسها الجميل ومرر أنامله على وجهها قائلاً بلطف :
– مفيش حاجة يا حبيبتى ، مقولتليش الدكتور قالك إيه على نتائج التحاليل بتاعتى
وضعت ميس قدميها بالماء ، ورفعت رأسها تنظر للسماء ، التى أختفى بها القمر خلف إحدى السُحب ، مما أثار بقلبها إنقباض لم تستطع تفسيره ، ولكنها ردت قائلة بهدوء :
– بيقول التحاليل كلها كويسة ، فاضل بس يحدد الميعاد المناسب للعملية يعنى تقريباً ممكن تبقى بعد أسبوع أو عشر أيام
هز عمران رأسه ولم يعد يفه بكلمة ، فتعجبت ميس من حاله ، الذى لم يكن على مايرام باليوميين الماضيين ، فهو إن لم تحدثه يظل صامتاً كأنه يفكر بأمر يشغله ، وعندما تسأله يخبرها بأن كل شئ على ما يرام وأنه فقط يشعر بإرهاق من كثرة العمل ، فما أن أنتهى وقت جلستهما ، تركها على مضض ليعود إلى منزله ولكن أحزنه أنها لن تكون برفقته عندما يعود لغرفته
اليوم التالى صباحاً ، أغلق عمران الملف الثالث من تلك الملفات التى وضعها أمامه شقيقه معتصم ، والتى أحتوت على أرباحهم من إدارة الفنادق والمطاعم ، فالأرباح يتم تقسيمها بالتساوى ويأخذ كل منهم نصيبه ، والنقود الخاصة بغزل يتم وضعها بحسابها البنكى ، نظراً لأنها منذ علمها بخبر حملها وهى لم تعد تأتى للعمل ، ويقوم كل من عمران ومعتصم بمهامها ، بل وإنهما يضعانها بالمقدمة
سمعا صوت جلبة أمام المكتب ، فخرجا يستطلعا ما يحدث وعلام تلك الصيحات التى يبدو عليها أنها لفتاة أو إمرأة ، خرج عمران يتبعه معتصم ، فوجد إمرأة من العاملات بخدمة الغرف تتشاجر مع رئيسها المباشر فى العمل
صاح عمران بصوته قليلاً متسائلاً:
– فى إيه ليه الصوت العالى ده أنتوا فاكرين نفسكم فين هنا ؟
إلتفتت إليه المرأة الباكية ،بل أنحنت على يده محاولة تقبيلها وهى تقول بغصة :
– عمران بيه الحمد لله إن شوفت حضرتك ، هم كانوا مانعينى من إن أقابلك وقالولى أنك مش فاضى علشان كده كنت بتخانق علشان عايزة أقابلك
سحب عمران يده قبل أن تمسها وتساءل بإرتياب من حالتها وإصرارها على مقابلته :
– كنت عيزانى فى إيه ؟ خير
مسحت المرأة وجهها بكفيها ونظرت حولها وجدت معتصم وذلك الرجل مازالا واقفان ، فشعرت بالخجل منهما ورغبت بأن تحدثه على إنفراد ، فلم يرد عمران مطلبها وجعلها تسبقه لغرفة مكتبه وأخبر معتصم بالذهاب للمصرف لإنهاء بعض التعاملات البنكية وصرف الرجل الأخر لعمله ، وبعد ذهابهما ولج لغرفة مكتبه وجدها تقف أمام المكتب تفرك يديها وتمسح وجهها من حين لآخر ، فدعاها للجلوس علها تخبره بذلك الأمر الهام الذى تريده من أجله
جلست المرأة ومازالت تفرك كفيها حتى صارا باطنهما بلون الدم من كثرة فركهما وتخضب وجهها بدماء الخجل الذى لم يخلو من الرهبة لكونها تتحدث مع صاحب العمل وجهها لوجهه ، إلا أن عمران حثها برفق ان تقول ما لديها ، فبدأت حديثها قائلة بصوت خفيض ولكن كافياً لأن يسمعه عمران بوضوح :
– الموضوع إن حضرتك أنا عندى إبن مكملش ٣ سنين ومحتاج عملية ضرورى وهتتكلف فلوس كتير ، وأنا وجوزى على قد حالنا ومش معانا فلوس العملية ، فكرت أخد قرض من البنك بس البنك عايز ضمان وإحنا محلتناش أى حاجة ، فقولت أقول لحضرتك لو ممكن أخد القرض من حضرتك وأمضيلك على شيكات أو حتى أشتغل من غير فلوس ، بس المهم إبنى يعيش أنا معنديش غيره ، الله يباركلك يا عمران بيه توافق
ظلت تتوسله ، حتى رفع عمران يده ليجعلها تصمت لعله يقول ما لديه ، فنهرها قائلاً برفق ولين :
– طب إهدى بس وخلينى أتكلم ، إن كان على إبنك أنا متكفل بعمليته وعلاجه وهخلى أشطر جراح هنا فى إسكندرية يعملهاله هو يبقى عم مراتى وهى كمان دكتورة جراحة ومش هيمانعوا أبدًا ، أنتى بس ودى إبنك على مستشفى الرحمة ، وهتلاقى إن شاء الله اللى يستقبله ويعمله اللازم متشليش هم ، أنا هكلمهم حالاً
أشرق وجه المرأة بسماع ما قاله ، بل ظلت تدعو له وتثنى على أخلاقه الكريمة والطيبة ، ولم تنتظر دقيقة أخرى بعدما أخبرها عمران بالذهاب لمنزلها وجلب طفلها لمشفى راسل ، بل إنه ذهب معها ليصطحب الطفل وزوجها بعدما أخبر ميس بالقصة كاملة وهى بدورها ستخبر راسل
فبعد بضعة ساعات كان عمران جالساً برواق المشفى ينظر لتلك المرأة وزوجها ، الذى رآه يسير على عكازين وعلى الرغم من ذلك لسانه لم يكف عن الشكر والحمد لله ، وعلم أيضاً أنه ليس لديه مصدر دخل ثابت ولذلك إضطرت زوجته للخروج إلى العمل لكى تساهم بالإنفاق على متطلبات الحياة ، فأخذ عمران قراره بأن يجعله يعمل لديه بأحد الفنادق الخاصة به
خرج من تأمله لهما بعدما سمع صوت ميس وهى تقترب منهما قائلة بإبتسامة :
– الحمد لله إبنكم بخير وهو هيتنقل العناية وشوية وتقدروا تشفوه وألف حمد الله على سلامته
صاحت المرأة بسعادة ونظرت لزوجها ، الذى بادلها إبتسامتها بإبتسامة شاكرة لله ، ولم تكتفى بذلك بل أقترب من ميس وإحتضنتها قائلة بإمتنان :
– شكراً ليكى يا دكتورة ميس ربنا يبارك فيكى ويباركلك فى عمران بيه وفي أولادكم ، جميلكم ده فى رقبتنا
ربتت ميس على ظهر المرأة وإبتسمت إبتسامة خفيفة وهى تنظر لزوجها ، الذى يبدو عليه إنه إستمع لدعوة المرأة الخاصة بأطفالهم الذين لم يولدوا بعد ، وبعد ذهابها هى وزوجها للوقوف أمام تلك الغرفة التى سيتم نقل طفلهما إليها
أقتربت ميس من عمران وجلست على المقعد المجاور له وتساءلت :
– مالك يا عمران حاسة زى ما يكون فى حاجة مضيقاك ؟
إبتسم عمران إبتسامة بدون مرح ورد قائلاً بما يشبه الإرهاق :
– مش عارف اليومين دول حاسس إن مخنوق من غير سبب ، زى ما يكون فى هم على قلبى مش عارف ليه ، أنا هروح البيت دلوقتى وهبقى أكلمك سلام
نهض عمران عن مقعده وذهب دون أن يفه بكلمة أخرى ، حتى إنه لم يستمع لردها ، كأنه شعر بالإختناق ولم يعد بالإمكان أن يحد من ذلك الشعور
وصل لسيارته المصفوفة أمام المشفى وما أن صعد إليها ، لم يفكر بأن يقودها ليعود إلى المنزل كما أخبر زوجته ، بل ظل جالساً خلف المقود يزفر زفرات متتابعة لعله يعيد تنظيم أنفاسه الحائرة ، فذلك الشعور الذى جثم على صدره وقلبه فجأة ، جعله يشعر بخوف مبهم ، ولا يعلم علام خوفه ، ولكن كأن الأيام القادمة تحمل له مفاجأت لم يضعها بحسبانه يوماً ، ولكنها ستكون مفاجأت غير سارة على الإطلاق ، ولم يراوده ذلك الشعور ، إلا من بعد عودة ليالى ، حاملة معها نوائب وكوارث ، وإن لم يأخذ حذره منها ، سيكون هو الخاسر لا محالة ، فبعد أن رآى أنه بحالة جيدة نسبياً ، قاد سيارته حتى وصل بها للمنزل ، والذى لم يجد به أحد ، وأخبرته إحدى الخادمات أن معتصم إصطحب ولاء ومراد من أجل الزيارة الأسبوعية لوالدة زوجته ، فصعد لغرفته وحل رابطة عنقه وخلع عن سترته وأرتمى على فراشه دون أن يفكر فى إستبدال ثياب العمل
❈-❈-❈
لم تراه والدته يشعر بكل هذا الحماس والترقب من قبل ، فدائماً ما كانت تراه متجهم الوجه عابس الملامح ، خاصة إذا رآها برفقة زوجها ، وظلت العلاقة بينهما قائمة على الفتور والجحود الخفى منه ، رغم محاولته الظهور بمظهر الإبن البار خاصة بتلك الآونة ليوهم أنسباءه الجدد بأن علاقة الإبن ووالدته على خير ما يرام ، ولم تنكر إبتهاجها بأن تراه على وشك إقامة حفل زفافه ، وربما نزعتها الفطرية كأم ترى إبنها وقد صار شاباً وبصدد الزواج ، هى ما جعلتها تحاول مد جسور الود بينهما ، حتى وإن كانت على علم بأنه لن يكلف نفسه عناء بناء تلك الجسور أو مدها أو حتى عبورها ليصل إليها ، ولكنها لم تجد ضرر من المحاولة ، وكم أدهشتها لطافته عندما أخبرها بشأن إصطحابه لها لذلك المطعم ، الذى تم دعوة أسرة خطيبته لتناول الغداء به والتنزه حتى المساء
أغلق عمرو أزرار قميصه قائلاً والحماس ملأ صوته :
– أخيراً هشوف سهى من غير ما أشوف إبن عمها السمج
لم تأتى دعوته تلك إلا من أجل رؤيته لسهى خارج منزلها ودون أن يرى حاتم إبن عمها ، الذى أصبح لا يفوت مناسبة لقدومه إليها ، إلا وأن يكون حاضراً ، كأنه لا يريده أن يلتقى بها قبل أن يساهم بفوران دماءه خاصة بقصصه ونكاته السخيفة ، التى يقصد من باطنها إهانته بالمقام الأول
خرج من غرفته وهبط الدرج ووجه يطفح بالبشر ، وجد والدته فى إنتظاره ، فهتف بها بلطف:
– يلا بينا يا ماما علشان منتأخرش
أنهى عبارته وسبقها فى الخروج من باب المنزل ، قاصداً المرآب ليأخذ سيارته ، ولكن فسرت والدته فعلته تلك أنه عاد لجفاءه وفتوره معها ، فتبعته بصمت وإستقلت السيارة فى المقعد المجاور له ، اخرج هاتفه واجرى إتصالاً بسهى ، يخبرها أنه كاد أن يصل للمطعم ، وأخبرته هى بدورها أنهم سيصلون فى غضون عشر دقائق
وصل عمرو المطعم وجلس على أحد مقاعد تلك الطاولة ، التى تم حجزها من أجلهم ، وما أن رفع بصره لباب المطعم وجدها تلج وهى تتأبط ذراع والدها ، وزوجة أبيها تصطحب الصغيران ، ولكن أختفت إبتسامته بلمح البصر ، عندما أبصر حاتم يأتى من خلفهم ، فتهدلت قسمات وجهه ، و ملأه الغضب ، إلا أنه حاول السيطرة على إنفعالاته حتى يمر اليوم بسلام
– أهلا يا عمى نورتوا المكان
قالها عمرو وهو يصافح والد خطيبته ، ومن ثم صافح حاتم ببرود ، وتبادلت سهى وزوجة أبيها التحية معه ومع والدته التى قبلتها على وجنتيها ترحيباً برؤيتها لها ، خاصة أنها لم تراها سوى مرات قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة
أقترب حاتم من والدة عمرو قائلاً بإبتسامة جذابة ، ولكن يضمر بها الخبث ، لعلمه بأن ما سيقوله سيساهم بتعكير صفو مزاج عمرو:
– أهلا بحضرتك ، هو أنتى تبقى أخته ، حاسس إن شوفتك قبل كده
إبتسمت والدة عمرو لإطراءه الذى بدا لطيفاً من شاب مثله ، ولكنها ردت قائلة بهدوء :
– لاء أنا مامته ، وأكيد شوفتى يوم خطوبة سهى وعمرو ، مش أنت حاتم إبن عمها برضه ، أنا فكراك كويس
– ده من حسن حظى إنك فكرانى لدلوقتى
نطق حاتم بعبارته همساً حريصاً على أن تسمعه هى فقط ، دون أن يصل صوته لمسامع ذلك الذى بدا مشغولاً بالترحيب بأسرة خطيبته
فضل حاتم الجلوس بالمقعد المجاور لها ، وجلس والد سهى بجوار زوجته وجلست سهى بجوار والدة عمرو على الطرف الأخر وجلس عمرو على رأس الطاولة
مال برأسه قليلاً متسائلاً بهمس لا يخلو من الضيق :
– هو إيه اللى جاب إبن عمك ده معاكم ؟ أنا معزمتوش
توترت سهى ما أن سمعت قوله وخشيت سماع والدها لما قاله ، خاصة أنها تعلم أى محبة مكنونة لديه تجاه إبن شقيقه ، فنظرت لعمرو قائلة بذات الهمس :
– إهدى شوية لبابا يسمعك ، هو لقانا خارجين قال أنه هييجى معانا ، فمش معقول هنقوله لاء متجيش
– بنى أدم سمج ، مش عارف إبن عمك ده مستحملينه إزاى
هتف عمرو بضيق وهو رافعاً شفته العليا بإشمئزاز واضح ، إلا أنه عاد مغمغماً بأسف ما أن رآها تطرق برأسها ملتزمة الصمت بعد عبارته التى تفوه بها :
– سورى يا سهى مش قصدى حاجة ، متزعليش منى
هزت رأسها دلالة على أنها لن تعطى الأمر أهمية أكثر من ذلك ، فحاولت أن تبتهج بدعوته لهم ، وما أن أنتهوا من تناول الطعام ، أقترح عمرو عليهم التنزه قليلاً والذهاب للسينما ، فقبلوا أقتراحه بسرور ، ولكن يبدو عليه أنه غفل عن والدته وذلك الذى جلس بجوارها فى قاعة عرض الأفلام ، ولم ينتبه أحد عليهما ، إذ أندمج كل فرد منهم فى مشاهدة الفيلم المعروض على تلك الشاشة الكبيرة
أدنى حاتم برأسه من والدة عمرو مازحاً بصوت خافت :
– تلاقيكى النهاردة أضايقتى منى خالص صح
إبتسمت له وردت قائلة بلطف :
– لا أبداً أنت شخصية لطيفة جدا يا حاتم وشاب مهذب وجنتل مان
لم يشعر بالإطمئنان إلا بسبب الإنارة الخافتة ، فقال بنبرة صوت وضع بها كل ما يمكن أن يجعلها تشعر بالخجل من إطراءه :
– أنا أول ما شوفتك ما صدقتش أبداً أنك والدة عمرو ، اللى يشوفك ميصدقش أنك أم وعندك إبن كبير كده ، دا أكيد اتجوزتى وخلفتى عمرو وأنتى صغيرة جدا
ظل الحديث بينهما قائماً على المنوال ذاته من أنه لا يتردد فى إخبارها عن مدى جمالها وأناقتها ، وهى تتقبل إطراءه بإبتسامات لطيفة وخجولة ، حتى أنتهت الأمسية وخرجوا من السينما ، ولم يتردد حاتم فى التجرأ بأن يطلب منها رقم هاتفها للإطمئنان عليها من وقت لأخر ، متذرعاً بأنهما بعد أيام قلائل سيصبحان أقرباء وستمتد أواصر المعرفة بينهما ، بعد زواج إبنة عمه من إبنها الوحيد
بعد بضعة أيام ….
ثوب زفافها الذى أرسل إليها فى اليوم الأخير بإختباراتها الجامعية ، صار يتلألأ لونه المائل للون الفضى ، بعدما أرتدته وظلت تدور حول نفسها ويتطاير حولها نسمات الهواء المحمولة برائحة عطر أخاذ ، دمعت عينىّ زوجة أبيها وهى تراها قد أنهت زينتها وبصدد الذهاب لتلك القاعة المقام بها حفل زفافها ، فاليوم أدت مهمتها ووفت بذلك الوعد الذى وعدته لوالدة سهى ، بأنها ستظل ترعاها حتى تخرج من بيت أبيها وتذهب لمنزل زوجها ، رآتها سهى وهى تحاول إخفاء دموعها عنها ، فأقتربت منها خطوتان ولم يمنعها من الإقتراب أكثر دون إنحناءها بجزعها العلوى سوى ثوبها الثقيل ، فأخذت يديها بين راحتيها وشدت عليهما بإمتنان ، ولم تكتفى بذلك ، بل رفعت يد زوجة أبيها وقبلت باطنها إعترافاً منها بجميلها ، كونها تحملت سخافتها بعد زواجها من والدها ، وأنها حاولت الحفاظ على عهدها مع أمها الراحلة
– ألف مبروك يا حبيبتى ، ربنا يتمم بخير يارب
أدنت زوجة أبيها منها وقبلت جبينها قبلة محبة ومن ثم إحتضنتها بحنان ، وظلتا هكذا حتى سمعتا صوت أبيها الذى جاء ليصطحبها لعقد القرآن ومن ثم يبدأ حفل الزفاف ، الذى حرص عمرو على أن يكون لائقاً برجل الأعمال الشاب الذى ذاع صيته بالسنوات القليلة الماضية
نظر إليها أبيها وهى تتأبط ذراعه فقال باسماً:
– مليون مبروك يا حبيبتى ربنا يسعدك يارب
وصلوا لتلك القاعة التى سيتم بها عقد القران ، فأطلقت زوجة أبيها الزغاريد بصوت صادح ، مما جعل ساقىّ سهى ترتخيان فجأة ، كأنهما ستضعفان أمام حمل جسدها ، وتلك الرجفة سكنت أوصالها من شعورها بالترقب ، أو أنها مازالت غير واعية لما يحدث لها من موافقتها على الزواج من ذلك الوسيم ، أو من أنها ستصبح زوجة لشاب حمل جزء من ماضيه بعض الشبهات التي تجعل أى فتاة بكامل قواها العقلية ، تفكر ألف مرة قبل أن تقترن به
تأملها عمرو لبضع لحظات ونظر لوالدها قائلاً بحماس :
– يلا بينا يا عمى نكتب الكتاب
جلس عمرو على الطرف الأخر من تلك الأريكة العريضة ، ومد يده ووضعها بيد والد سهى وما لبث أن شرع المأذون بعقد القران ، الذى مر وقته عليها كأنه ثوانِ معدودة ، حتى قال المأذون جملته الشهيرة ومن ثم أدركت أنهما صارا زوجاً وزوجة
أزدردت لعابها ما أن رأته يقف أمامها ويمد يده لها لكى تنهض من مقعدها ، خشيت أن ترفع وجهها وتتمعن النظر به ، حتى وإن كان يحق لها الآن أن تنظر إليه كيفما يشاء ، بل أن ما حصلت عليه من مميزات بعد عقد قرانهما وذلك الحفل الذى على وشك أن يبدأ ، لابد أن يصرف عنها خوفها وخجلها ، إلا أنها لم يبدو عليها أنها ستعتاد بسهولة أمر أنه صار زوجها ، ومما جعل حلقها يجف أكثر وتزداد مرارة الخوف به ، تلك القبلة المتمهلة التى وضعها على مقدمة رأسها ، مما جعلها تغمض عينيها وهى تستشعر دفئه الوشيك منها وهما كادا يلتصقان ، ولكنها أمتنت لأبيها ، إذ سمعت صوته مهنئاً لهما ، فأسرعت فى الإرتماء بين ذراعيه وعيناها دامعتان ، كأنها بالدقيقة التالية سترجوه بأن يصطحبها معه للمنزل ، لكى تعود لغرفتها القديمة خشية أن لا تعتاد المكوث فى بيت زوجها
أنفض المشهد العاطفى بين العروس وعائلتها ، بأن بدأ حفل الزفاف ولم تجد مفر من أداء الرقصة الأولى لهما ، والتى بدت وكأنهما مغرمان ببعضهما البعض منذ علم كل منهما معنى أن يخفق القلب لأجل أحداً بعينه ، ولم تنكر أنها إستمتعت كثيراً بتملكه الظاهر للعيان من إحكام ساعديه حولها يلصقها به ويضمها إليه أكثر فأكثر كلما وقع بصره على إبن عمها الواقف بجوار أبيها ويتابعهما بصمت مطبق وملامح خالية من مظاهر الفرح
فهمست له بتوتر :
– عمرو كفاية كده ، الناس بتبص علينا
إبتسم عمرو لها ومن ثم رمق إبن عمها بطرف عينيه قائلاً بلهجة المنتصر :
– فى إيه يا حبيبتى ، النهاردة فرحنا وأنا إستنيت اللحظة دى بقالى كتير
لم يحيد بعيناه عن إبن عم زوجته ، الذى رفض هو الأخر أن يشيح بوجهه عنهما ، بل ظل يحدق فى عمرو بتقييم ، ليجد سبباً لتفضيل إبنة عمه له ورفضها للزواج منه هو ، فإبتسم فجأة بسخرية لعله يثير أعصاب عمرو ، كأنه ينبأه أن لولا وسامته وماله ، لن يجد فتاة تقبل به ، وربما كان سيكون هو عريس تلك الليلة ويظفر بإبنة عمه ، فبعد إنتهاء رقصتهما وجلوسهما ، أقترب منهما مهنئاً بفظاظة :
– ألف مبروك يا عريس ، عرفت تختار ، بس يا ترى بنت عمى عرفت تختار ولا المظاهر زغللت عينيها خلتها متعرفش تشوف كويس
نظرت سهى حولها بإرتباك من حديث إبن عمها الفظ ، والذى لم تراه يوماً بتلك الحالة ، بل كان دائماً هادئ الطباع خلوقاً بحديثه ، إلا أنه اليوم كأنه شخص أخر غير ذلك الذى أعتادت أن تراه
سريان الدم الحار بعروق عمرو ، جعله يشعر بأن هناك سيل عارم من السباب والإهانات قادماً الآن من فمه وسيقصد أذنىّ إبن عم زوجته ، وربما تلك الليلة ستنتهى نهاية غير مستحبة لأحد غير ذلك الواقف أمامه يناظره ببرود ، كأنه أخذ سهى منه عنوة
ترك عمرو مكانه ، وقبض على ذراعه محاولاً أن يبتسم ، لكى لا يثير ريبة أحد من المدعويين ، فكز على أسنانه قائلاً بإبتسامة صفراء :
– أنا شايف أن إحنا محتاجين نتعرف على بعض ونتكلم شوية
ما أن إبتعدا حتى جلسن بعض صديقات سهى بجوارها ، وهذا ما جعلها لا تعلم أين ذهب زوجها برفقة إبن عمها ، إذ كانت مشغولة بإلتقاط الصور برفقة صديقاتها
ففى أحد أركان القاعة الفسيحة والتى عم بها الهدوء نسبياً لانشغال الضيوف والمدعوين بفقرات الحفل ، وقف عمرو قبالته قائلاً بسخط :
– أنت عايز إيه بالظبط ، وليه كلامك ده اللى ملوش أى لازمة
عقد حاتم ذراعيه أمام صدره قائلاً بحنق بالغ :
– وأنا هعوز منك إيه ، أنت اللى مش عارف طلعتلى منين وضحكت على عقل سهى ، أشترتها بفلوسك و…..
رفع عمرو سبابته محذراً من أن لا يزيد حرف أخر ، فأجابه بسخرية :
– وليه متقولش إن بنت عمك فضلتنى عليك ، وأنا لحد دلوقتى لسه فاكر لما أنت حبيت تفركش خطوبتنا يوم ما اتخطبنا وده اللى بتحاول تعمله دلوقتى ، بس علشان خاطر سهى وباباها أنا هضطر أستحملك ، فمتخلنيش أفقد أعصابى بسرعة أحسن لك يعنى ، ودلوقتى أنا بقيت جوز بنت عمك ، فلازم تحترم نفسك
ضحك حاتم بصوت عالى حتى دمعت عيناه ، فتعجب عمرو وإندهش من رد فعله الغير مبرر ، خاصة أن الحديث بينهما لا يتضمن ما يستحق الضحك ، بل حوى تهديداً صريحاً من عمرو بأنه ربما يقدم على إيذاءه إن لم يلتزم بالرابط الجديد بينه وبينهم
فأدنى حاتم برأسه من عمرو هامساً بشماتة :
– لو أنت بقيت جوز بنت عمى ، فأنا بقيت جوز أمك، دى طلعت رخيصة أوى ومخدتش فى إيدى غلوة

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية لا يليق بك إلا العشق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى