روايات

رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الحادي والستون 61 بقلم سماح نجيب

رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الحادي والستون 61 بقلم سماح نجيب

رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الحادي والستون

رواية لا يليق بك إلا العشق البارت الحادي والستون

لا يليق بك إلا العشق
لا يليق بك إلا العشق

رواية لا يليق بك إلا العشق الحلقة الحادية والستون

ج٢–١٥–” غيرة بمذاق الأنانية ”
إجتاحته قشعريرة مفاجئة ، وبدأت يده التي وضعها على ساقها وهو راكع أمامها ترتجف بشكل ملحوظ ، حتى أن رجفتها انتقلت إليها ، فخشيت أن تصيبه إحدى نوبات الإغماء التابعة لزيادة إنفعاله الذى لم يعد يسيطر عليه ، فمن بمثل حالته لابد أن يصاب بالدهشة والصدمة التى خلفتها معرفته بأن اليوم حمل له مفاجآت لم يكن يضعها فى باله ، إذ صار لديه إبناً شاباً بالغاً وهناك أخر فى طريقه إليه بعد بضعة أشهر ، وكأن تم إختزان أمانيه بأن يصير لديه أبناء لتلك اللحظة التى يعيشها لتنهال عليه الأنباء الواحد تلو الأخر
حتى إن كان إبنه البكر لم يتعرف إليه إلا منذ بضعة أيام ، ولم ينكر عليه عاطفة الأبوة ، وأن أمر أنه سينسبه إليه ويجعله يحمل إسمه وإسم عائلته صار مفروغ منه بعد تيقنه من أنه حقاً إبنه ويحمل دماءه ، ولكن أن تتفوه معشوقته والتى لم تستطع أنثى غيرها أن تستخوذ على قلبه وعقله بنبأ أنها تحمل فى أحشاءها طفلهما ، كان ذلك أدعى لأن يطفر وجهه بالبشر ، وأن تملأ السعادة جنبيه ، وتلقائياً راحت يداه تمسد على بطنها بحرص شديد كأنه يخشى أن يفرط فى لمساته لها خشية إيذاءها
وبعد أن أمتلأت مقلتيه بدموع الفرح ، التى جرفت معها كل شعور أخر كان يشغله سابقاً قبل علمه بنبأ حملها ، رفع وجهه إليها قائلاً بذهول وأنفاسه تتسارع بوتيرة عالية :
– بجد يا غزل أنتى حامل ، يعنى أنا هبقى أب
قطبت غزل حاجبيها بعد سماعها لما تفوه به ، كأنه نسى فجأة أنه صار أباً لأدم ، ولكن لم تستطع نكران أنها رآت فى وجهه ما كانت بإنتظار رؤيته بعد أن تخبره بشأن حملها ، وربما هذا ما شفع له قليلاً عندها من أنها شهدت على كيف طار صوابه بعد علمه بأنهما سيصير لديهما إبناً أو إبنة يشهدان على تلك الأسطورة من العشق الفريد
قبل أن تفه بكلمة وجدته ينتصب واقفاً ولم يكتفى بذلك بل رآته يخرج من الغرفة على عجالة ، فتبعته لتعلم أين هو ذاهباً ، وما أن وصل لغرفة المعيشة الكبيرة التي مازال الجميع جالسين بها ، حتى سمعته يصيح قائلاً بعفوية وسعادة تجلت فى وجهه :
– غزل حامل ، غزل حامل يا عمى أنا هبقى أب هيبقى عندى أولاد أنا مش مصدق نفسى
على الرغم من أن الجميع أنتباتهم الدهشة مما قاله ، إلا أن نظراتهم تحولت تلقائياً لأدم الذى أنزوى فى مقعده شاعراً بدفقات من العرق البارد تجتاحه فجأة ، كأن والده إستثناه سريعاً ولن يعود فى حاجة إليه لسد حاجته من كيفية الشعور بأنه أباً ، إلا أنه حاول الحفاظ على إبتسامته الهادئة والتى توارى خلفها شعوره بالتوتر والإرتباك
ترك مكانه وكان أول المهنئين والمباركين لوالده إذ رفع يده وربت بها على كتف أباه قائلاً بإبتسامة :
– مبروك مبروك يا با…
لم يستطع أن يكمل مناداته له بتلك الصيغة التى تمنى دوماً أن يقولها ، فهو فى حياته بآسرها لم ينطق كلمة ” بابا ” لأن ببساطة لم يكن له أب يوماً ولم يعلم بوجوده إلا منذ وقت قريب ، وربما هذا ما دفعه للمجئ للإسكندرية ، ومن أجل أن ينعم ببضعة أيام برفقة رجل من المفترض أن يكون والده
جذبه عاصم إليه مطوقاً إياه بقوة مشددًا من إحتضانه له هامساً بأذنه :
– قولها يا أدم قول يا بابا ، أنتى دلوقتى إبنى برضه ، وأخوك ولا أختك اللى جاى فى السكة هتبقى أنتى أخوه وأبوه لأن أنا مش ضامن ألحق أربيه وأشوفه شاب زيك كده ، فأنت اللى هتقوم بالمهمة دى
لمس عاصم قلبه بما تفوه به سرًا فى أذنه ، فأرتفعت ذراعاه وطوقه بهما وهو محاولاً دفن وجهه بكتف أبيه لينعم بذلك الشعور الذى حرم عليه منذ الصغر
تمتم رياض بإبتسامة وهو يرمقهما بهدوء :
– ألف مبروك يا عاصم
أنهالت التهانى والمباركات عليهما ، فحمد رياض ربه أن الله قد أنعم على عاصم وغزل بأنهما سيرزقان بطفل ، وربما ذلك سيساهم بتخفيف الحزن والضيق عنها، نظراً لأنها ستكون مشغولة بأمر حملها ولن تفكر كثيراً بشأن أدم ، أو أن كيف زوجها أصبح والدًا لشاب لم تكن هى والدته
إستطاعت ميس إضفاء جو من المرح وهى تصفق بيدها قائلة بطرافة :
– مبروك يا خالو بقيت أب مرتين فى نص ساعة تقريباً
قهقه عاصم وأقترب منها جاذباً أذنها بشئ من الدعابة وسرعان ما قبل وجنتيها وهو يدعو لها بصلاح أحوالها هى وزوجها ، ولكنه إنتبه على أن الوحيد الذى لم يقدم له مباركته هو راسل ، الذى كان كما هو جالساً بمكانه يطوف بنظراته بين الجميع ، على الرغم من أن حياء تقف بجوار غزل تبتسم لها ويبدو على وجهها سيمات السعادة من أجلها
ولكن لم تدم جلسته طويلاً ، إذ هب واقفاً ومر من جواره مهنئاً له تهنئة عابرة :
– مبروك ييجى ويتربى فى عزك إن شاء الله
لم يزد كلمة أخرى على عبارته المقتضبة نوعاً ما ، ولكن عزز عاصم الأمر لكون راسل دائماً فظاً ومتعجرفاً فى حديثه معه ، فأكتفى برد تهنئته بكلمة شكر واحدة
خرج من المنزل وهو لا يلوى على شئ ، تسوقه قدميه حيثما تريد ، فوجد نفسه بالأخير عند حظيرة الخيول ، إستند بذراعيه على السياج الخشبى الممتد بطول الحظيرة ، وظل يتأمل الجياد بأعين جوفاء ، فمن يراه يظنه يتأمل الخيول بتمعن ، فى حين أنه ينظر فى الفراغ ، كأنه ينتظر بزوغ أمل جديد من العدم أو من ذلك الظلام المخيم على السماء حاجباً ضوء القمر مكتفياً بأن يترك له بعض النجوم ليسترشد بها فى السير بالحديقة الشاسعة
من حين لأخر تتنازع بعض الزفرات فى أيهما ستسبق الأخرى فى الإنفلات من معقلها إذا سمح لها بذلك لينفس عن ضيقه ، ولكن أثناء إنهماكه فى التفكير فيما يحدث سمع رنين هاتفه ، فأخرجه من جيبه ، وربما إبتهجت نفسه قليلاً لعلمه بهوية المتصل ، لكون أن تلك المكالمة جاءته فى وقتها
فتح الهاتف قائلاً بهدوء :
– لقد اتصلت بي في الوقت المناسب ، كنت بحاجة للتحدث معك
جاءه الرد على الطرف الآخر متسائلاً:
– ماذا حدث ؟ يبدو من صوتك أنك تعاني من القلق أو الضيق ، هيا أخبرني؟
ضغط راسل بأصابعه على عيناه قائلاً بحيرة :
– لا أعرف ماذا أقول لك ، لأنني أشعر بالجحيم على الأرض ، ولم أعد أمتلك الطاقة للتحمل والصبر ، لذلك بالتأكيد لو لم يكن الانتحار ممنوعا في ديننا ، لما كنت أتردد في فعل ذلك.
أنهى راسل عبارته وقبض على كفه حتى برزت عروق يده الزرقاء ، رافق ذلك إحتدام نظراته كلما تذكر ما حدث منذ مجئ أدم ، وزوجته التى لم تعد تفوت مناسبة ، إلا وتذكره بحقارة أفعاله وأنها لم تعد كما كانت فى السابق ، بل صارت نموذجاً للمرأة التى حملت مشعل الانتقام لكل فتاة وإمرأة لاقت الخيبة والخذلان من حبيبها ولن تهدأ قبل أن ترد حق كل إمرأة عانت القهر والحسرة
سمع راسل منه صوت زفرة خافتة تلاها قوله الهادئ ، الذى لم يخلو من التأنيب :
– لقد حذرتك من قبل ، وقلت لك أن خير ما تفعله مع زوجتك أن تخبرها الحقيقة ، ولكنك تصلبت برأيك وظللت تدور فى الفراغ ، ولا تنسى تحذيرى لك من الا تقدم على الكذب بشأن ساندرا والصغير ، ولكن رأسك اليابس هو ما أودعك هكذا بين شقى الرحى ، فعليك تحمل نتائج أفعالك
إهتاج راسل لقول محدثه ، فهو كان بحاجة لأن يطمئنه بحديثه ، وليس أن يأتى هو الأخر ليأنبه على تصرفاته ، فصاح به بحنق :
– أتعلم أنت على حق ، وخطئى هو معرفتى بك أيها السمج السفيه التافه لعنة الله عليك
تعالت صوت الضحكات على الطرف الآخر ، مما زاد فى شعوره بالحنق والنزق ، إلا أنه سمعه يقول بهدوء مغلف بالبرود :
– ستظل كما أنت يا راسل ، فمنذ معرفتى بك وأنت هكذا ، اذا لم تسمع منى ما يرضيك تشعر سريعاً بالسخط ، ولكنك تعلم أننى لن أكون مثل الاخرين وأتملقك ، وإن لم تكف عن شتمى ، سأسمعك أنا أيضاً ما لا يرضيك
صمت لبرهة ومن ثم عاد مستطرداً:
– دعنا من هذا الآن ، واخبرنى كيف تجرى الأمور ، يبدو أن زوجتك بدأت فى أخذ حق هذان العامان على أكمل وجه ، وإلا لما كنت عصبى المزاج هكذا ، فهل أنت مازلت مصراً على تطليقها ؟
صرخ راسل قائلاً برفض قاطع :
– لا لن أطلقها ما دمت على قيد الحياة ، فحتى وإن كنت فكرت فى هذا بوقت سابق ، فالأن لن أفعلها لن أفعلها ، أفهمت لن أترك زوجتى تصير ملك لرجل أخر إلا بموتى
– إهدأ راسل فالصراخ لن يفيدك بشئ ، وعوضاً عن أن تصرخ فى أذنى المسكينة هكذا ، أذهب وأخبرها هى بذلك ، كان الله فى عونها ، فأنا حقاً أشفق عليها كونها زوجة لك
ما أن أنتهى من قوله ، ضحك بخفوت وهذا ما زاد فى جنون راسل وسرعان ما أجابه بعدما هدأ قليلاً :
– أصبحت لا تترك لى مجال للحديث معها ، ودائماً ما تهرب من بين يديى كالحلم ، فلا أعلم كيف كنت أتصور أن بإمكانى أن أحيا بدونها ففراقها كالموت تماماً بالنسبة لى ، فأنا حائر تائه وكأننى سأظل غريقاً ولن أصل لشاطئ أمن أبداً ، أاخبرك بشئ هيا أغلق الهاتف فأنا قد سئمت منك أنت الآخر
لم يدع له مجال للرد ، إذ أسرع بإغلاق الهاتف ، ويعلم أنه سيعاود الأتصال به فى وقت قريب ، فلا شئ يؤثر بعلاقتهما ، على الرغم من الصراع اللفظى بها ، إلا أنهما معتادان على هذا منذ دراستهما سوياً فى إنجلترا ، وعادت أواصر الصداقة بينهما عندما عادا وإلتقيا مرة أخرى فى كندا
فى الداخل…أنفض مجلسهم فى غرفة المعيشة فمنهم من ذهب لغرفته ومنهم من فضل الخروج للحديقة كحياء التى رآت أن الوقت مازال مبكراً على خلودها للنوم ، أو إذا صح القول والتعبير مازال لديها الليل بأكمله لأن تشكو دمعاتها الفياضة لوسادتها عما لاقته فى يومها من جهد مبذول لأن تحاول إرضاء كبرياءها
وافها أدم عند الباب متسائلاً بوجه باسم :
– أنتى راحة فين حياء دلوقتى
إلتفتت إليه حياء برأسها وردت قائلة بهدوء:
– كنت هخرج أشم شوية هوا فى الجنينة قبل ما أنام
سكتت لهنيهة وسرعان ما عقبت :
– كنت عايز منى حاجة
وضع أدم يديه بجيبى بنطاله وخفض نظراته أرضاً ، كأن هناك شعور خفى لن يستطع البوح به لأحد غيرها ، فغمغم قائلاً بصوت خفيض :
– كنت عايز أتكلم معاكى حياء ، حاسس إن أنا تايه ، حاجات كتير جوايا مش فاهمها
تفهمت هى حالته لكونها سبقته فى ذلك الأمر عندما وجدت ذاتها وجهاً لوجه مع عائلتها التى لم تكن تعلم عنهم شيئاً ، وتعلم أيضاً كيفية الشعور بالغربة وسط إناس لم يجمعها بهم فى البداية سوى رابط الدم فقط ، دون وجود أى مشاعر وعواطف أخرى
أشارت بيدها لأن يسبقها فى الخروج من الباب وهى تقول بتفهم :
– فهماك يا أدم تعال نقعد فى الجنينة وقول عايز تقول إيه
خرجا للحديقة حتى وصلا لذلك المجلس القريب من حظيرة الخيول ، والذى اعتاد مالك ذلك القصر الجلوس به دائماً ، وهناك العديد من الرجال المنتشرين فى الحديقة وقريباً من الحظيرة ، لذلك لن يكونا بخلوة وحدهما وهذا الذى لن تقبل به يوماً سواء معه أو مع أحد غيره ، فالوحيد الأحق بخلوتها أو أن يقتحمها وقتما يشاء هو زوجها فقط ، حتى وإن كانت الأمور بينهما الآن تجرى على نحو سيئ
جلست قبالته على مقعد يفصل بينهما منضدة عريضة ، وشبكت يديها ووضعتهما على ساقيها قائلة وهى تنظر لذلك الجواد الأبيض الذى أعتادت على أن تمتطيه عندما تشعر بالضيق :
– أتفضل قول يا أدم مالك فى إيه سمعاك
أسند أدم ظهره لمقعده وحدق فى النجوم المتلألئة بالسماء ، وصدرت عنه آهة تعبر عن لوعة نفسه من شعوره بالحيرة والتخبط :
– بالرغم من أن كنت فرحان جدا أن جيت هنا وهشوف بابا ويعرف إن أنا إبنه إلا أنا دلوقتى حاسس أن هتسبب فى خلافات بينه وبين مراته أو أن وجودى فى قصر النعمانى مش هيبقى قرار صائب ، تفتكرى أرجع فرنسا تانى وأبقى أجى أزوره أو هو يزورنى ، لأن لاحظت أن فى حاجة مش مفهومة بين الكل ، هو ده كله بسببى ؟
عند سؤاله الذى ختم به حديثه ، نظرت إليه حياء نظرة خاطفة ومالبثت أن قالت بإبتسامة أليمة :
– لاء يا أدم اللى هم فيه مش بسببك ولا حاجة ، دى مشاكل موجودة من زمان بس زى ما تقول لسه كلنا عايشين فى وجعها ، فمتشغلش بالك وصدقنى وجودك مش هو السبب ، بكرة تعرف الكل على حقيقته سواء عمتك سوزانا أو غزل أو ميس بس عايز فعلاً تعيش فى البيت ده مرتاح ، يبقى أكتر واحد تبقى قريب منه غير باباك هو عمى رياض ، وهتعرف قد ايه هو راجل ذكى وحكيم فى تصرفاته
أنحنى أدم قليلاً للأمام ، وألتصق كفيه ببعضهما ووضعهما قريباً من فمه ، تأملها ملياً لبضع لحظات ، كأنه يحاول إيجاد صيغة ملائمة ليصيغ بها كلماته والتى يعلم أنها ربما ستثير إستياءها قليلاً ، ولكن ما لبث أن سألها بحذر :
– بس ليه مذكرتيش إسم جوزك حياء ، عمى راسل ؟
زمت حياء شفتيها ، بل حاولت أن تمطهما لعلها تبرر عدم ذكر إسم زوجها وأن ذلك جاء سهواً منها ، ولكن ما أن حاولت فتح فمها لتتحدث ، سمعت صوت حوافر أحد الجياد وهى تضرب الأرض ركضاً ، فإستدرات برأسها للخلف وجدت زوجها قادماً يمتطى جواد أسود لم يكن يلائم أحد غيره بمزاجه المتقلب والكئيب معظم أوقاته
أقترب راسل منهما بجواده متسائلاً بشئ من الإلحاح :
– أنتوا قاعدين هنا بتعملوا إيه ؟
مازال كما هو يأسرها بجاذبيته القاتلة والتى دلت عليها بتلك اللحظة هندامه المبعثر قليلاً من ضرب نسمات الهواء له مسببة بذلك بعثرة خصيلاته الفحمية وقميصه المفتوح مبرزاً عنقه الطويل وجزء من صدره بعدما ترك أزرار قميصه الأولى مفتوحة كأنه كان يشعر بالإختناق
أجابته حياء ببرود :
– مبنعملش حاجة قاعدين بنتكلم عادى ، وكنت بعرف أدم حقيقة اللى عايشين فى البيت علشان يعرف يتعامل معاهم
أشاحت بوجهها عنه وأعادت رآسها الملتف للخلف لوضعه الطبيعى ، بعدما غمرها ذلك الدفء المفاجئ من تفرسها به ، لعلها تجد مبرر لذلك الضعف الذى يغزو أوصالها كلما كان قريباً أو سمعت صوته
قفز راسل من على جواده وإستقرت قدميه على الأرض ، وأشار بيده لذلك الرجل الذى يعتنى بالخيول بأن يأتى ويأخذ الجواد للحظيرة ، وبعد ذهاب الرجل جلس على المقعد المجاور لها ، ليستطيع مراقبتها عن كثب ، فبعد سأمه من توزيع نظراته بينهما ، حدق بأدم قائلاً بفظاظة :
– أنا بتهيألى أنك محتاج تطلع تنام وترتاح شوية ومتخافش إحنا مش هنهرب وقاعدين معاك وهتعرفنا لوحدك كويس
بدت طريقة صرفه له تحمل طابع العداء منذ البداية ، إلا أن أدم لم يكن ذلك الشاب الذى يبادر أحد برد سلوكه المهين له ، بل ربما طباعه الأوروبية الباردة تساهم بجعله متحفظاً فى إظهار مشاعره من جانب الرجال فقط خلافاً لتعامله مع بنات حواء
إبتسم أدم إبتسامة سمجة أراد منها أن يعلم راسل إنه قادراً مثله على إزعاجه وقتما يريد ، وقال بنبرة صوت غلب عليها طابع التسلية :
– بس أنا مش بنام بدرى ، زى ما تقول مليش وقت محدد للنوم ، يعنى ممكن أفضل أتكلم كده للصبح من غير ما تعب أو أزهق
لم يجادله راسل كثيراً إذ هب واقفاً وجذب حياء من مرفقها حتى جعلها تترك مقعدها رغماً عنها ، ولم يأبه لمحاولتها المتكررة بجذب ذراعها من بين كفه القابض عليه كالسوار ، بل أنه زاد فى الأمر وسار بخطوات واسعة وسريعة مما جعلها تهرول بخطواتها حتى تستطيع اللحاق به وأن تجارى مشيته
صاحت به بنزق لعله يفلت ذراعها :
– هو فى إيه أنت ساحبنى وراك كده ليه
لم يختلف الأمر كثيراً عندما وصلا للدرج ،حتى أنه تلك المرة لم يكلف نفسه عناء جرها خلفه ، بل حملها بين ذراعيه وصعد درجات السلم حتى وصل لغرفتها ، وهى مازالت مشدوهة من تصرفاته ، وكأن صار أمر حمله لها كلما إشتد النقاش بينهما أمراً حتمياً
وصل بها لغرفتها وخلافاً لتلك المرة التى حملها بها وظلت تضربه على ظهره ، كانت هادئة بشكل يثير الريبة ، بل أنها عملت على تطويق عنقه لتأمن عدم إنزلاقها من بين ساعديه ويتسبب ذلك فى ضرر لها
حدقت فى وجهه ببرود وقالت ما أن صارا فى منتصف الغرفة وأغلق الباب خلفه بقدمه :
– خلاص خلصت جنانك نزلنى بقى ، أنت إيه حكايتك كل شوية تشيلنى وأنا قولتلك متلمسنيش
– نفسى أعرف إيه حكاية اللى إسمه أدم ده بالظبط وسألتك قبل كده تعرفيه منين
أتسمت ملامح وجهه بالعنف والوحشية ، وتنازعت قلبها مشاعر مضادة ومتناقضة ، من جهة شعرت بالضيق من محاولاته الهجومية عليها وكأنه الوحيد الذى لديه الحق بأن يعاتبها ، ومن جهة أخرى كانت مسرورة لأنه بات يتلظى بنيران الغيرة والتى ربما تلك هى المرة الأولى التى تختبرها معه ، فدائماً كانت حكراً عليها من رؤيتها له مع أى أنثى غيرها ، ولكن ربما حان الوقت لتذيقه كيف يكون الشعور بالغيرة مُرًا بل ويتسبب فى إحراق خفقات القلب الملتاعة
ضمها إليه بقوة بعدما رآها تتململ بين ساعديه مرسلة له شارات الإنتباه من إنها تريده أن يفلتها من سجن ذراعيه ، فدفن وجهه فى عنقها وسمعته يتمتم قائلاً بلوعة :
– أنتى ليه دايما بتبقى مصرة تجننينى ومش بتريحينى فى أى سؤال اسألهولك سواء كان زمان أو دلوقتى ، وجايز عنادك ده اللى وصلنا للحالة اللى إحنا فيها دلوقتى
ظهر الغضب فى صوتها المتألم عندما سألته بحدة :
– وأنت ليه هربت أول ما جاتلك الفرصة ؟ قولى هربت ليه وسبتنى ولا كنت بتردهالى لما سبتك أنا أول مرة ، فجاوبنى أنت يا راسل هربت ليه ليييييه ؟ قولى سبب مقنع للى عملته
صياحها فى وجهه جعله يحدثها بعنف شرس فى حين أنه كان يحملها برقة وحنان :
– متعليش صوتك كده تانى أنتى فاهمة ، ومش عايز أشوفك قاعدة مع اللى إسمه أدم ده حتى لو كان بقى واحد من العيلة مش عايز أسمع إسمه على لسانك وإلا هنسيب البيت ده ونرجع بيتنا القديم
لبطت الهواء بقدميها حتى أفلتها من بين ذراعيه ، فهى سأمت كون أنه يظنها دميته التى ما عليه سوى أن يقوم بنقلها من مكان لأخر دون أن تبدى إعتراضاً ، وما أن وطأت الأرض بقدميها دفعته فى صدره وهتفت به بشراسة :
– أنت مفكرنى إيه لعبتك ، تقولى أعملى ده هقولك حاضر ومش هفتح بوقى ولا أتكلم ، أنا إزاى كنت عمية وحبيت وعشقت واحد زيك أنانى ومبيهموش غير نفسه وبس وعايز الكل يمشى على مزاجه ، أنت ….
أغرق بقية كلماتها فى عناق حنون ، لم تكن تعلم ما الداعى له بذلك الوقت وهما يتشاجران كعادتهما بالأونة الأخيرة ، كانت تعرف تماماً أنها لن تقدر على مقاومة راسل إذا بلغت منه عواطفه حدًا ينسيه غضبه وإستياءه ، فأسدلت جفنيها ونعمت بشعور القرب منه وسمعته يتمتم قرب أذنها :
– إن كان حبى وعشقى ليكى وغيرتى عليكى بقوا أنانية فأنا أنانى بشكل متتخيلهوش يا حياء
تلك المقولة التى قرآتها مرة بطريقة عابرة وهى إن لم يدفعك الحب للجنون فذلك لم يكن حباً حقيقياً ، ها هى ترى تطبيقها على واقعها المرير من جنون زوجها الذى لديه قدرة عجيبة وفائقة لتغيير مجرى الحديث بينهما لصالحه كالعادة
تعثرت قدماها كأنها ضعفت فجأة أمام حملها ، فأمسكها بيدين قويتين بدتا وكأنهما ترفعانها عن الأرض . وقفت مذهولة بين ذراعيه خشية إقدامه على عناقها مرة أخرى وبذلك يقضى على ما تبقى لديها من قوة وصمود لمجابهته حتى يستطيع الإقرار بخطأه وفداحة أفعاله فى حقها
مرر إبهامه على وجنتها قائلاً بثقة لم يشوبها الشك أو الريبة :
– إن كان على موضوع طلاقنا فإنسيه يا حياء أنا مستحيل أسيبك مستحيل ، وأنا عارف إنك دلوقتى عرفتى إن أنا مش متجوز ولا إن ساجد إبنى ، أنا قلبى ليكى أنتى ، أنا كلى ليكى مش قلبى بس ، أنتى روحى وحبيبتي ، ومقدرش أعيش من غيرك
تأمل وجهها بعناية ودقة بالغة، وكأن قرارته السابقة والتى أخذها بحقها من أن ينفصلان بهدوء ، لم يعد لها وجود ، بل ملأ أوردته شعور طاغى بالتملك والأنانية من أنه لن يتركها مهما بلغت الأمور بينهما سوءاً، فهو علم الآن أن التفكير فى أمر الطلاق سهلاً ولكن التنفيذ بالغ الصعوبة بل يندرج تحت بند المستحيل
فماذا كان يظن ؟ هل ظن أن بإمكانه أن يراها أمامه ولم يعد يملك حقاً بها وأنها لن تحمل إسمه كزوجة له ، وأن يأتى اليوم ويراها زوجة لرجل غيره ، فالموت دون أدنى شك راحة له قبل أن يرى كل هذا ، حتى وإن كان ظن لوهلة فى السابق أنه بإمكانه تحمل ألم فراقها من أجل سعادتها ، ولكن مع إحتمال ظهور أول غريم لم يضعه بباله يوماً ، أنقلبت كافة موازين أفكاره ، وخلال بضعة أيام فقط ، إستطاع محو فكرة الإنفصال عنها ، فما باله إذا إستمر الحال على هذا المنوال وقتاً طويلاً، فربما سيفقد صوابه
أفاقت على حالها وأنسلت من بين ذراعيه وقالت وهى تشير للباب :
– روح على أوضتك يا راسل وسيبنى أنام ، حتى لو كنت عرفتك أنك مش متجوز ، وأن عمى رياض عرف من جوازات السفر والأوراق أن ساندرا مش مراتك ولا إبنها يبقى إبنك ، فده برضه ميغفرش أنك فكرت فى وقت من الأوقات تكسر قلبى بكدبتك دى ، علشان أنت عارف ومتأكد من حبى وغيرتى عليك ، كأنك أخدت الغيرة سلاحك اللى دايما تعرف توجعنى بيه ، يعنى الأول كانت إيلين ودلوقتى ساندرا ، كأنك بتبقى مبسوط بحرقة قلبى ، حتى مش قادرة أفهم ايه طبيعة العلاقة بينك وبينها وايه السر اللى بينكم ، على الرغم من إن باباك عرض عليا إن طالما عرف انت كنت فين يدور وراك ووراها ويعرف ايه الحكاية ، بس أنا اللى قولتله لاء ، مش عايزة أعرف ، وطالما أنا هنت عليك ، ومكنش هامك وجعى ، يبقى أنت كمان هتهون عليا ، ومش هيهمنى تعيش موجوع ولا لاء ، خليك تجرب وجع القلب وحرقته ، علشان تعرف أنت عملت فيا إيه ووصلتنى لإيه ، أتفضل بقى أخرج وحتى لو أنت رجعت فى كلامك ومش هتطلقنى ، فأنا مرجعتش فى كلامى خلاص أنا دلوقتى اللى مش عيزاك ، لأن مش هفضل عايشة مع واحد مزاجه متقلب والمفروض إن أنا أسكت وأتقبل عمايلك
أنهت حديثها بنبرة مفعمة بالبرود ، فى حين أن قلبها كان يخفق بقوة وكأنه يريد الإفلات من جسمها وأن يلتحم بقلبه لتعاتب الخفقات بعضها البعض بصمت دون تدخل منهما
أخذ وجهها بين راحتيه وحدق فى عينيها قائلة بنبرة لا تخلو من الألم :
– لو مفكرة إن كنت سعيد وأنا بعيد عنك تبقى غلطانة ، أنا كنت عايش زى الأموات ، ومكنتش صورتك بتفارقنى ، أنه والله موجوع زيك يا حياء ويمكن أكتر كمان
ما أن شعرت بتلك الموجة من الضعف التى ستنسيها ما كان من أمره بحقها ، حتى إرتدت بخطواتها للخلف وعادت تشير له بالخروج ، ولكنه لم يقبل صرفها له بتلك الطريقة ، فظل يخطو بخطواته تجاهها حتى وجدت نفسها تلتصق بالجدار ، ورغم من أنه لم يعاود عناقها بل أكتفى بالتحديق فى وجهها ، إلا أنه قرآت رغبته فى عينيه القاسيتين واللامعتين ببريق متوحش ، الأمر الذى جعلها تزدرد لعابها مراراً خشية أن يتطرق الأمر بينهما لما هو أكثر من العناق ، كذلك الوصال الذى كان آخره بتلك الليلة التى مر عليها أكثر من عامين ، فكل ذرة بكيانها مازالت متذكرة ما حدث بيومها وما تلاه من لوعات ودمعات لم تجف من مجراهما إلا عندما تتصنع الثبات والقوة ، اغمضت عينيها وأشاحت بوجهها جانباً مطبقة على شفتيها بقوة كادت تدميهما ، فما كان منه سوى أن إبتسم على فعلتها وقبلها على وجنتها وهمس لها بأمنيته بأن تنعم بنوم هادئ وأحلام سعيدة وخرج من الغرفة ، ولم تتجرأ على فتح عينيها إلا بعدما سمعت صوت الباب يفتح ويغلق ، فبعد تأكدها من ذهابه ، رفعت كفها الناعم وتلمست وجنتها حيث ترك قبلته الرقيقة والتى لم تحمل إليها سوى أنه كان سليم النوايا ولم يكن يريد إستغلال الوضع القائم بينهما
❈-❈-❈
زاد فضولها بأن تذهب وترى زوجها فى مقر عمله بتلك الشركة التى يعمل بها ، ففكرت فى أن تخرج تتنزه وتعرج عليه لتراه على عجالة قبل أن تعود للبيت ، فمنذ عودتهما للأقصر ، وباتت أمورهما أخذة بالتحسن أكثر من ذى قبل ، بعدما صرح لها كرم بكل ما يعتمل بقلبه ، وإستطاعت هى إحتواءه وإحتواء الموقف ، وهما بصدد التيقن من أن ثمرة عشقهما ربما نبتت فى أحشاءها ، والتى تأمل بأن تتيقن من وجودها فى القريب العاجل ، وأن تخبر والديها بأنهما سيصبحان أجداد لحفيدهما الأول بحياتهما
أنتهت من تمشيط شعرها وأرتدت ثوب محتشم بأكمام طويلة ويصل طرفه لكاحليها ، فهى تخلت عن إرتداء الثياب القصيرة منذ أن جاءت للأقصر برفقة زوجها ، ولكن الخطوة التى لم تجرأ على إتخاذها حتى الآن هى إرتداءها الحجاب ، ولم يتعنت معها كرم بذلك الشأن ولم يفرض رآيه عليها ، حباً بأن تتخذ تلك الخطوة بنفسها وعن إقتناع تام حتى لا ترتديه وتعود وتتخلى عنه
أخذت حقيبتها وخرجت من البيت وذهبت للمنزل المجاور الخاص بالحاج سويلم ، فطرقت الباب وفتحت والدة سويلم الباب وإبتسمت لها قائلة بترحيب :
– أهلا يا هند أدخلى واقفة عندك ليه اتفضلى
رفضت هند دعوتها بتهذيب وردت قائلة بإبتسامة صافية:
– تسلمى أنا بس كنت جاية أخد سويلم الصغير نتمشى سوا شوية لو معندكيش مانع
كأن جاءها الخلاص متمثلاً بهند ، إذ هتفت بها ممتنة وإبتسامة عريضة تملأ وجهها من أنها ربما تتخلص من إزعاج سويلم لشقيقته الصغرى :
– بس كده دا أنتى هتعملى فيه معروف دا مش ساكت وعايز يأكل أخته بالعافية
ضحكت هند بصوت عالى لعلمها بتلك المعاناة التى تعانيها والدة سويلم من أفعاله الجنونية بحق شقيقته الصغرى والتى لم يتعدى عمرها بضعة أشهر ، ودائماً ما تتطوع هى بأخذه لتمنح والدته بعض الراحة مما يفعله بها وبشقيقته
لم تدوم ثوان معدودة حتى وجدت والدة سويلم تنطلق للداخل تنادى صغيرها بإلحاح من أن يخرج ليرى هند بل وأنه سيذهب معها فى نزهة كالعادة ، فطار الصغير فرحاً بعد سماع ما أخبرته به والدته ، لعلمه أنه سيحصل من تلك النزهة على بعض الحلوى التى تبتاعها له هند بسخاء رغم تحذير والدته لها من أن لا يكثر من تناولها ، ولكن هند دائماً ما تضعف أمام إلحاح الصغير ورجاءه ، وتيقنت من أنها عندما تنجب لن تستطيع رفض مطلباً لأبناءها إذا كانوا يتمتعون بتلك اللطافة والجمال اللذان جذباها لسويلم الصغير وشقيقته
وصل الصغير عند باب المنزل وهو يقفز ويصيح بسعادة :
– يلا يا طنط هند علشان نتفسح
وضع يده بيد هند وسرعان ما لوح بيده الأخرى لوالدته وهو لا يطيق صبراً لأن يتجول مع من يراها بمثابة جنية أمنياته التى تكون محرمة عليه بعض الأوقات من والدته شديدة العناية به وبصحته كونها بالأساس طبيبة أطفال وتعلم ما يضره ويفيده من المأكل والمشرب
لم يكد يمر خمسة عشر دقيقة حتى كان الصغير يلعق المثلجات التى إبتاعتها هند من أجله وأجلها ،فرمقته هند بإبتسامة قائلة بتحذير للمرة العاشرة تقريباً قبل أن يدلفان لمبنى تلك الشركة التى يعمل بها كرم :
– سويلم أنت مش هتقول لمامتك إن إحنا أكلنا أيس كريم صح يا حبيبى
هز الصغير رأسه مؤكداً:
– حاضر يا طنط هند مش هقولها ، أنا هقولها إحنا ما أكلناش أيس كريم يا ماما ومعملناش حاجة
شهقت هند بعد إنتهاءه من حديثه ، والذى إن تفوه به بعفويته تلك فهو دليل على أنهما فعلا ما تم تحذيرهما منه ، فجلست القرفصاء أمامه ومسدت على ذراعيه قائلة بدعابة :
– أنت كده يا سويلم بتسلمنا تسليم أهالى يا حبيبى أنا عيزاك….
داهمها دوار قوى ، فوضعت يدها على جبهتها لعل ذلك الدوار يرحل عنها وتستطيع أن توازن جسدها الذى بدأت تشعر بإرتخاءه ، ولكن لم يدم الأمر طويلاً ، إذ سقطت مغشياً عليها أمام مبنى شركة السياحة ، فأسرع أحد أفراد الأمن بالإقتراب منهما بعدما رآى هند تفقد وعيها والصغير جاثياً بجوارها يحاول تحريك جسدها وهو يبكى ويناديها :
– طنط هند إصحى
ولكن لم يكن فرد الأمن بمفرده من أقترب منهما إذ أنضم إليه رجل كهل أخر ما أن رآه حتى أبدى إحترامه له فيبدو عليه أنه رب عمله ومالك تلك الشركة ، الذى راح يتفرس بوجه هند لعله يعلم إذا كانت إحدى العاملات فى الشركة أم أنها إمرأة أجنبية جاءت مع أحد الأفواج السياحية ، فنظر للعامل متسائلاً:
– هى مين دى تعرفها أو شوفتها قبل كده ؟
حرك العامل رأسه نفياً ، وذهب لإحضار زجاجة مياة ، فبعد أن رشقها بقطرات الماء على وجهها ، حركت هند رأسها وبدأت بإستعادة وعيها المسلوب نتاج إغماءها ، ولكن ما أن رآت هذان الوجهان المطلان عليها حتى إنتفضت جالسة مكانها وحاولت أن تستقيم بوقفتها فلم تسعفها قدميها بحملها وبعفوية ودون قصد منها إستندت بكفها على ذراع ذلك الرجل القريب منها ، الذى لم يبدى أعتراضاً لمساندة تلك الفتاة الجميلة والتى أنتابه الفضول لمعرفة من تكون وماذا تفعل هنا أمام مبنى شركته ؟
ولكن ما أن أنتبهت هند لما فعلته سحبت يدها سريعاً وأخذت الصغير وأنصرفت على الفور تخشى أن تخوناها ساقيها وتسقط مرة أخرى ، لم تلتفت خلفها بل إنها أشارت لسيارة أجرة لتقلهما للمنزل ، ورغم شوقها لرؤية زوجها ، إلا أنها صرفت تفكيرها عن الأمر وفضلت العودة للبيت ، ولا تعلم ما الذى دهاها اليوم فهل هذا إحدى علامات ودلائل حملها ، أم أنها تعانى من وعكة صحية ؟
ما أن صعدت للسيارة وجلس الصغير بجوارها ، هتفت بالسائق أن ينطلق بسرعة لعلها تتخلص من ذلك الشعور القوى بالإحراج والذى تسبب فى جعلها أن تشعر بحبات العرق الباردة تكسو جبينها كلما تذكرت ما حدث لها
عادت للمنزل وقامت بتوصيل الصغير لوالدته ، التى تعجبت من عودتهما سريعاً من تلك النزهة التى ظنت أنها ستستغرق وقتاً أطول ، ولكنها أنتبهت على شحوب وجه هند ، فحدقت بها وتساءلت بإهتمام :
– مالك يا هند وشك أصفر ليه كده حصل حاجة
زفرت هند زفرة عميقة وردت قائلة وهى تدلك جبهتها :
– أغمى عليا فى الشارع وحاسة بصداع جامد دا غير أن كل ما أفتكر أن وقعت على الأرض قدام حد بحس بإحراج كأن نفسى الأرض تنشق وتبلعنى
ركزت والدة سويلم إهتمامها على ما أخبرتها به بشأن إغماءها ، فإبتسمت وهى تقول رابتة على وجنتها بلطافة :
– إيه هنقول مبروك قريب يا ماما ولا إيه
أنتفض كل عرق بها وهى تتذوق حلاوة أنها من الممكن أن تصبح أم فى القريب العاجل ، فردت قائلة بتمنى :
– يارب يكون ده فعلاً من الحمل على العموم هعرف إذا كان حمل ولا لاء هدخل البيت أرتاح شوية على كرم ما يرجع من الشغل عن إذنك
ذهبت هند ورافقتها دعوات والدة سويلم بأن يمن الله عليها بالذرية الصالحة ، وما أن ولجت للمنزل أتجهت لغرفة نومها وخلعت عنها ثوبها وأرتدت منامة وذهبت لفراشها على الفور ، قبل أن يعاودها الدوار الذى بدأت تشعر به يعيث برأسها تأرجحاً خفيفاً تمهيداً أنه من الممكن أن يزورها مرة أخرى ، أرتمت على الفراش وأعتصرت جفنيها بقوة حتى تمر تلك اللحظات من الألم الذى بدأ يفتك برأسها ، ولكنها كانت سعيدة الحظ إنها لن تكون بمفردها إذا أغشى عليها ، إذ سمعت صوت زوجها يناديها من الصالة بعد عودته مبكرًا من عمله
ولكن صوتها لم يسعفها بأن تجيبه على نداءه ، فوجدته يلج الغرفة متسائلاً بإبتسامة وحب :
– حبيبتى مالك مش بتردى عليا ليه ؟
رفعت هند يدها تشير إليه بالإقتراب ، فشحب وجهه وهو يرى يديها تسقط بجوارها كأنها أصيبت بمرض مفاجئ جعلها منهكة القوى وغير قادرة على الحركة
ساقته قدميه إليها وجثى بجوارها واخذت كفها بين يديه يدلكهما برفق متسائلاً بخوف :
– فى إيه يا هند مالك ، أنتى تعبانة ولا إيه ؟
إبتسمت هند بوهن وهى ترى بوادر الخوف التى ملأت قسمات وجهه المليح ، فأجابته بصوتها العذب:
– متخافش يا حبيبتى أنا بس حاسة بصداع ودماغى لفت شوية بس متقلقش هبقى كويسة دلوقتى ، الظاهر كده إن أنا وأنت هنبقى بابى ومامى قريب بس أتأكد الأول
مررت يدها بلطف على بطنها ، والأمل يحدوها أن تكون محقة بظنونها ، فزادت إبتسامة كرم إتساعاً بل أنه انحنى برأسه واضعاً قبلة محبة على جبينها ، وسرعان ما قال بهمس:
– دا أنتى هتبقى أحلى مامى فى الدنيا كلها ، طب يلا نروح لدكتورة وتطمنا
إستطاعت إقناعه بأن يذهبان للطبيبة فى المساء ، على أن تنال الآن قسط من الراحة ، لعلها عندما تفيق من نومها تكون شعرت بالتحسن ، فهى لا تضمن خروجها معه الآن دون أن يحدث ما حدث لها أمام الشركة ، حتى أنها لم تخبره بما حدث لكونها لاترى داعى أن تثير قلقه أو إمتعاضه من أنها كانت فى طريقها لرؤيته بمكان عمله ، وهذا ما حذرها منه سابقاً ، كأنه يخشى أن يراها أحد من زملاءه فى العمل ، وأن تبدأ أحاديثهم السخيفة عن إمتلاكه زوجة بمثل فتنتها ، وأنها تنافس بجمالها هؤلاء السائحات اللواتى تتوافدن على الأماكن السياحية ، والتى توجد بكثرة بتلك المدينة الآثرية ، فكم من مرة أخبرها بأحاديثهم المتبجحة من أن كل منهم يتمنى قضاء وقتاً لطيفاً مع إحدى الفتيات اللواتى جئن بمفردهن وكأنهن طرائد يتنافس كل منهم فى الحصول عليها
أراد لها أن تأخذ غفوتها بهدوء لحين موعد ذهابهما للطبيبة ، فخرج من الغرفة وفكر فى الجلوس فى الصالة ومشاهدة التلفاز لحين إستيقاظها ، ولكن قبل أن يستلقى على الأريكة سمع صوت طرقات على باب المنزل ، فأقترب من الباب ووجد الصغير الذى راح يرمقه بإبتسامة وبراءة
فأنحنى إليه كرم قائلاً بإبتسامة بعدما قبل وجنته :
– أستاذ سويلم بذات نفسه جاى يزورنا
تغضن جبين الصغير ورد قائلاً بتأثر :
– أنا جاى أزور طنط هند علشان كانت تعبانة ووقعت فى الشارع بعد ما كلنا الأيس كريم وكنا رايحين نشوفك فى الشغل بتاعك ياعمو كرم
تجمدت يداه التى كانت تمسد على ذراعىّ الصغير ، فما معنى حديثه هذا ؟ ولكنه لم يفعل شئ سوى أن أعطاه بعض الحلوى وأخبره بأن زوجته نائمة ، وما أن أنصرف الصغير ، ولج كرم غرفته كالعاصفة ، ولكن رق قلبه لها ما أن رآها غافية ، وانتظر أن تستيقظ من نومها ليسألها عما سمعه من سويلم ، ولكن من داخله استشاط غضباً ، فهل هى خالفت أمره لها بألا تفكر بزيارته فى مقر عمله ؟ ولو صح ذلك لن يمرر لها الأمر مرور الكرام
بعد ساعتين تقريباً نهضت هند من فراشها ولكنها شهقت بخفوت ما أن رآت زوجها الجالس فى الظلام ، ولكن ضوء شحيح قادم من الخارج سقط على رماديتيه مما جعلهما تلتمعان كعينىّ الهررة
مسحت وجهها وقالت بصوت ناعس :
– الله يسامحك يا كرم رعبتنى أنت قاعد فى الضلمة ليه كده
ضغط كرم على زر الإنارة وبدأ هجومه عليها مبكراً ، إذ أقترب منها وقبض على ذراعها وهو يقول بنبرة تفيض بالغضب :
– هند أنتى فعلاً كنتى جاية ليا الشغل النهاردة ؟ أنا مش محذرك متفكريش تعملى كده ، قولت ولا مقولتش
هز ذراعها قليلاً كتأديب لها على مخالفتها لأمره ، فنفضت يده عنها وهتفت بصوتها الغضوب :
– فى إيه يا كرم لده كله عجبك كده صوابعك علمت على دراعى
أشارت لأثار أصابعه التى تركها على بشرتها الغضة الملساء ، ولكنه لم يرى أن هذا سيشفع لها عنده ، ولكن أراد إكمال دوره فى تأنيبها للنهاية إذ أنحنى إليها بجزعه العلوى صائحاً :
– هند أنا بسألك فتردى عليا ، أنتى عملتى كده فعلاً
أسندت ظهرها للوسائد وردت قائلة بصراحة :
– أه يا كرم كنت جيالك الشغل علشان أشوفك ، كنت عايزة أشوف المكان اللى بتشتغل فيه عادى يعنى مش قضية هى علشان تعمل كل ده
أهتاج أكثر من ردها العفوى ، فرفع سبابته فى وجهها محذراً:
– اللى حصل ده ميتكررش تانى أنتى أصلاً مشوفتيش الرجالة اللى بتشتغل فى الشركة دى أخلاقهم عاملة إزاى علشان كده بحذرك يا هند ، مش عايز حد يتطاول عليكى أو يبصلك حتى مفهوم ، أنا بغير عليكى ، مش بطيق حد غريب عينه تيجى عليكى ، لولا إن مش عايز أفرض عليكى حاجة كنت خليتك أتنقبتى علشان أترحم من نار الغيرة
لم يكن يجب أن تتعامى وتتغاضى عن أن غيرته كرجل مغرم بها تجعله يفكر بأن يجعلها بمنأى عن أعين الرجال ، جلست فى الفراش على ركبتيها ووضعت يدها على صدره لتهدأ من ثورته وقالت بوداعة مألوفة لديها :
– حبيب قلبى الغيور أوى واللى بموت فى غيرته ، خلاص مش هعمل كده تانى يا كرم ، بس متزعقليش ، أنا لو حامل هتخض البيبى اللى جوا كده ، ويقولى بابى صوته عالى يا مامى مش عارف أنام فى هدوء
ضحك كرم رغماً عنه ، فمهارتها فى سلبه كل دفاعته أخذة فى الإزدياد . إستقرت أنامله بين طيات شعرها الأسود وشفتاه تتمتم لها معربة عن أن شعور الغيرة ما أن يتملك من حواسه يجعله عاجزاً عن التفكير إلا بشئ واحد وهو أنه يريد أن يضعها بمنآى عن أعين المتطفلين ، فإستمعت لحديثه وكل كلمة تعزز ثقتها بنفسها وبجمالها ، علاوة على شعورها المتزايد بالفخر من هوسه وعشقه بها ، ذلك العشق الذى تمنته منه فى وقت سابق ، فعلى الرغم من ذلك لم يكن كرم ذلك الرجل الذى يضيق عليها الخناق بغيرته العمياء والزائدة عن الحد المطلوب بين الزوجين ، ولكن دائماً ما يثير عتابه الغيور بنفسها رغبتها فى أن تعانقه ، تأوه قلبها شوقاً إليه ، فراحت تغمره بعناقها الدافئ ، وذراعيها الناعمين مطوقان عنقه كأنها لن تفلته أبداً ، ولكن رغم ذلك حاول كرم أخذ حذره من إغراقها بفيضان عشقه ، فربما هى حقاً حامل بوقتها الحالى ولا يريد التسبب لها بضرر ، وما أن وضع حداً لعناقهما الشغوف ظنت أنه مازال مستاءاً منها ، ولم يعلم كرم سر رغبته فى أن يتركها على معتقدها لينعم بالقليل من دلالها له ، تلك الفاتنة الآسرة التى لم تكتفى بسلب قلبه وعقله بل تتفنن الأن بسلبه أنفاسه ، فكم من مرة عندما كان شاب أعزب حلم بتلك اللحظة التى تكون بين يديه وينهل من نهر عشقها الممزوج بخمر فتنتها التى تسكره حد الثمالة
❈-❈-❈
منذ ذلك اليوم الذى تسببت به فى فضيحة له ، وهو لا يشعر بالهدوء والراحة ، بل كأنها أطلقت قوة وحش ثائر ، كان متوارياً خلف جدران البرود وعدم الإكتراث ، فأسرته الصغيرة لا تكف عن تأنيبه وتقريعه على ما فعله من زواجه العرفى بفتاة من عقيدة أخرى ، ربما من يعلم حقيقتها سيشعر بالخوف وعدم الإطمئنان ، لما ورد عن أتباع هؤلاء العقيدة منذ قديم الأزل ، وكلما حاول إفهامهم أن كل هذا إفتراء منها عليه ، وأنه لم يمس فتاة فى حياته ، ورغم إقتناع شقيقته وزوجها بحديثه ، ونبع ذلك من رغبتهما فى عدم إقتحام تلك الفتاة حياته ، وربما سيكون ذلك ذو مردود سلبى على عبد الرحمن ، إلا أن عمه كان أكثر حكمة منهما ، ورغم إقتناعه الظاهرى ببراءة إبن شقيقه من تلك التهمة المشينة ، إلا أنه علم مدى حب بيرى له ، وإلا ما كانت أقدمت على إختلاق فضيحة كهذه من أجل أن تحصل عليه ، على الرغم من أنه لم يستحب الطريقة ، إلا أنه يعلم كيف أن الحب أحياناً يجعل المرء يفقد صوابه ولا يحسن التفكير بأى شئ سوى الحصول على قلب المحبوب ، ولم يفته تلك النظرة التى رآها بعينىّ عبد الرحمن فى وقتها ، عندما كان يتحدث هو وبيرى بصوت منخفض وتلا ذلك إحتضانها لوجهه كأنها تحاول إفهامه أمراً صعباً ، فرآى تلك النظرة العاشقة المتوارية خلف سحابة الغضب والسخط التى ملأت عيناه ، لذلك أراده أن يخمد لهيب قلبه ، الذى جعله يتركهم ويترك منزله سنوات طوال قضاها مغترباً فى بلد أخر
حملق عبد الرحمن فى وجه عمه وشقيقته وزوجها ومن ثم قال بتبرم :
– على فكرة أنا مش هتجوز بيرى يا عمى ، أنا برئ ومعملتش حاجة وهى بتتبلى عليا
أسرعت شقيقته فى الرد قائلة بتأييد لقراره :
– ده عين العقل ، يهودية مين دى اللى تتجوزها كمان من قلة البنات يعنى وإن كان على العروسة ، فأنا هجبلك ست ستها يا حبيبى ولا يهمك
أشار لها عمها بإلتزام الصمت وهو يقول بإستياء طفيف :
– اسكتى أنتى ، أقولك على حاجة يلا خدى جوزك وروحى على شقتك شوفى إبنك زمانه صحى من النوم
مطت شفتيها بتبرم ولكنها لم ترد كلمة عمها ، وأشارت لزوجها بالنهوض للذهاب إلى شقتهما الواقعة بالطابق الثالث بذلك المبنى الذى يعود لعائلتها ، وكل منهم يسكن به ، فعمها يقيم بالطابق الثانى وعبد الرحمن فى الرابع ، فى حين أن الطابق الأرضى ، به ثلاث متاجر ، يدرون دخلاً لا بأس به
بعد ذهاب شقيقته وزوجها ، نظر إليه عمه ملياً ومن ثم قال برجاحة عقل :
– بص يا عبد الرحمن ، أنا عارف ومتأكد أنك معملتش حاجة أنت برضه تربية إيدى واخلاقك يحلف بيها الصغير والكبير ، بس أنا عرفت واتأكدت أنك برضه بتحبها ومن جواك نفسك فعلاً أنها تكون مراتك وأنك مقدرتش تنساها ولا تنسى حبك ليها
– مش صحيح ، أنا خلاص مبقتش أحبها
قال عبد الرحمن بإصرار ضعيف ، وتلك الغمغمة ذات الوقع الغير مؤثر فى أذن المستمع له ، تجعله يجزم أنه كاذباً فى إدعاءه
إبتسم عمه بخفوت وربت على ساقه ، ومن ثم قال وهو يتذكر ماضيه :
– أنت عمرك ما سألت نفسك يا عبد الرحمن أنا ليه فضلت طول عمرى من غير جواز ومتجوزتش أبدا ، طبعاً الكل عارف أن بعد موت ابويا وأمى كان لازم اخد بالى من اخواتى الاتنين الله يرحمهم اللى هم ابوك وعمك اللى يبقى ابو جوز أختك ، بس ده مكنش السبب بس ، لاء علشان أنا حبيت مرة ومقدرتش أحب تانى بعدها ، مكنش ليا حظ فى الحب ، بس أنت الفرصة قدامك متبقاش نسخة تانية منى يا إبن أخويا
حتى وإن لم يجرأ عبد الرحمن يوماً على سؤال عمه عن سبب عزوفه عن الزواج طوال حياته حتى أدركه المشيب ، إلا أنه كان يشعر بأن الأمر ربما يعود لعشق مستحيل أنتهى نهاية غير مرضية للحبيبان
خرج من شقة عمه بعدما قدم له النُصح بشأن عدم تركه لحبه ، ولكنه لم يصعد لشقته ، بل فكر فى الذهاب إلى بيرى بعدما علم أين يقع مكتبها الخاص بتنظيم حفلات الأعراس وماشابه
وصل لمكتبها فأقتحمه دون إستئذان ، فأرتعدت بيرى من دخوله المفاجئ كالعاصفة ، فقطبت حاجبيها وقالت بإبتسامة ماكرة:
– فى حد يدخل على حد كده من غير إستئذان يا حبيبى
تركت مقعدها ودارت حول المكتب الخشبى الأنيق وأقتربت منه وطوقت عنقه بذراعيها وأضافت :
– بس ولا يهمك يا جوزى يا حبيبى ، أنت تيجى فى أى وقت
نفض عبد الرحمن إحدى ذراعيها عنه وهو يصيح فى وجهها :
– أنا عايز أعرف بقى إيه اللى عملتيه ده ، وليه تعملى كده ؟
كسا الحزن عينيها الجميلتين وأجابته بشجن :
– لسه بتسأل يا عبد الرحمن ، سنين الفراق دى كلها موجعتش قلبك زى ما وجعت قلبى ، أنا قولت أنك جاى دلوقتى علشان تقولى أنك هتيجى فى أقرب وقت علشان تاخدنى على بيتك ، وأنك هتحاول تعوض السنين اللى ضاعت مننا واحنا بعاد عن بعض
تأثر بحديثها ورنة صوتها المشبعة بالحزن والأمل ، أزدرد لعابه لعله يصد ذلك التوق الذى تقافز بصدره ، إلا أنه نجح بمهارة فى أن يظل ثابتاً وعيناه ترسل لها تعبيرات الغضب مما فعلته وأن قلبه لم يعد لها مكان به ، فقال محاولاً الظهور بمظهر القوة وأن يضفى على حديثه بعض التهديد لعلها تتخلى عن تصميمها فى إتمام زواجهما :
– يعنى أنتى مصرة يا بيرى أن إحنا نتجوز ، يبقى استحملى اللى هيجرالك منى ، لأن اللى عمله فيا أبوكى هاخد حقه منك وأنتى اللى جبتيه لنفسك ، أنا قولتلك ابعدى عنى وأنتى اللى اختارتى ، يبقى تستحملى نتيجة إختيارك
إبتعدت بيرى عنه قليلاً وجلست على حافة مكتبها قائلة بإبتسامة غير مكترثة بتهديده :
– أممم ، أنت شكلك بتحاول تخوفنى منك ، بس شكلك نسيت حاجة مهمة يا حبيبى ، إن أنا عارفاك أكتر ما أنت تعرف نفسك كمان ، ولو شايف أنك لما تاخد حقك منى ده هيبرد نارك ويريح قلبك ، أنا قدامك أهو يا عبد الرحمن ، ومستعدة لكل اللى هتعمله سواء حلو أو وحش ، خلينا نتجوز وأعمل اللى تعمله ، ولو إن عارفة أنك مش هتعمل فيا حاجة وحشة
رفع شفته قائلاً بسخرية ووعيد :
– واثقة من نفسك أوى يا بيرى ، عايزانا نتجوز ، تمام هاجى أنا وأهلى وهخطبك ونتجوز ، بس مترجعيش تندمى
ما أن رآها تهم بترك مكانها ، لتقترب منه من جديد، إرتد بخطواته للخلف ، ورفع يده السليمة ليحذرها من مغبة الاستمرار فى عنادها ، إلا أنه لم يستطع أن يفه بكلمة بعدما مدت يدها وشبكت أصابعها بأصابعه ، وكلما حاول فك تشابكهما تعود وتقبض على ظاهر يده بقبضة فولاذية ، فكم بدت عنيدة ذات إرادة قوية فى أن تحصل على مبتغاها ، سواء كان ذلك سيتم برضاه أو رغماً عنه ، ولكى تأمن هدوءه ، عادت لتهتف بإسمه برنة جذابة رقيقة لطالما أشاد بها وهى تنطق به ، وكلما رآت تحرك عظمة نحره صعوداً وهبوطاً ، تعلم أنه يبتلع لعابه محاولاً السيطرة والحد من تلك المشاعر ، التى عادت من جديد تتدفق بأوردة فؤاده
للأحق أنه لم ينسى مشاعره وعواطفه تجاهها يوماً ، بل كان يطفو على سطحها شعوره بالغضب والسخط على ما فعله به أبيها ، فحتى وإن حاول الآن أن يضفى على رغبته في أن يتزوجها طابع الإنتقام ، إلا أنه من داخله يعلم أنه لن يسطع أن يمسها بسوء ، وربما هى على علم بذلك ، لذلك تتصرف على هذا النحو الغير مبالى بتهديداته وتحذيراته ، وما أن علم أن قلبه فى طريقه أن يعلن راية الهزيمة ، كان حازماً فى إبعادها عنه ، بل شعر بالندم ما أن دفعها عنه وإصطدمت بحافة المكتب متأوهة من خشونته فى رد فعله ، ولكن ظلت قسمات وجهه جامدة ، كأنه ينبأها أن الحياة فى قربه لن تجنى منها سوى الجفاء والألم
❈-❈-❈
خرجت كالمعتاد من كليتها بعدما أنهت أختبارها لليوم ، فوجدت سيارته أمام مبنى الكلية ، وخلافاً لتلك المرات التى كانت تراه بها وتسرع بإبداء إستياءها من رؤيته ، إبتسمت إبتسامة خجولة وهى تراه يقف مائلاً قليلاً يستند على أحد جانبى سيارته الفارهة ، وكأنها تعاود إكتشافه من جديد ، فبعد تلك المكالمة الهاتفية التى أجريت بينهما ووصلا بها لإتفاق أن تمهله الفرصة لأن تعرفه جيداً ، وهى صارت هادئة نوعاً ما ، ولم تحاول أن تجعله يشعر باليأس والإحباط من عدم حصوله على رضاها ، بل أن مكالمتهما الهاتفية والتى كثرت بالأونة الأخيرة تحت إطار أن يكون التفاهم بينهما قائماً فى الحدود المتعارف عليها وكأنهما صديقان يحاول كل منهما إكتشاف ميول وهوايات الأخر ، إستطاعت إكتشاف إنه متحدث لبق ، وبإمكانه كسب ودها بجهد لا يذكر ، ولكنها لن تكون متسرعة فى أخذ قرارها النهائى بشأنه من عدة مكالمات هاتفية يحاول كل طرف فيها يظهر لباقته ولطافته فى الحديث
ما أن لمحها قادمة إستقام بوقفته وهو يبتسم ملأ فاه بعدما وقعت عيناه على يدها اليمنى ووجد خاتم خطبتها يزين بنصرها
ولكن قبل أن تصل إليه أعترض طريقها ذلك الشاب الذى رآه عمرو فى المرة الأولى التى جاء بها لهنا
فسألها الشاب بإهتمام :
– عملتى إيه فى الإمتحان النهاردة يا دكتورة سهى
أجابته سهى بإبتسامة بشوشة كتلك التى توزعها على أصدقاءها من باب الإبتسام فى وجه أخيك صدقة :
– الحمد لله كان الإمتحان كويس وعدى على خير وشكراً على المحاضرات اللى أنت أديتهالى وكانت شاملة المنهج فعلاً إستفدت منها جداً
لمس الشاب إطار نظارته وبادلها إبتسامتها بإبتسامة خجولة ، ولكن أختفت إبتسامته ما أن وقع بصره على يدها اليمنى ووجدها بها خاتم الخطبة والذى لم يراه قبل الآن ، فرفع عيناه عن التحديق بيدها ونظر إليها متسائلاً بدهشة:
– هو أنتى أتخطبتى يا دكتورة سهى ؟
حركت سهى رآسها وردت قائلة بعفوية :
– أنا مخطوبة من أكتر من سنتين وكمان هتجوز بعد الإمتحانات ما تخلص عقبالك إن شاء الله
تأسف الشاب على وقته الذى ذهب سدى وهو يحاول إستمالتها ، فتجلت إبتسامة متوترة على وجهه وهو يقدم تهنئته لها وما لبث أن أنصرف من أمامها وهو يسب ويلعن فى خاطره على فشله فى جذب أول فتاة وقعت عليها عيناه منذ بدء دراسته فى الكلية
لم تنتبه سهى لذلك الذى إستشاط غضباً من رؤيتها وهى تتحدث مع ذلك الشاب الذى لم ينسى وجهه حتى الآن، ولم ينسى تصريحها الغبى فى وقتها من أنها ربما تفكر فى الارتباط به والزواج منه بعد إنتهاء تحصيلهما الدراسى بالجامعة
وكأن لم يكن قرارها بالإقتراب منه بتلك اللحظة قراراً حكيماً ، إذ أن ما وصلت إليه سمعته يهتف بها بنبرة حادة:
– كان بيقولك إيه الواد ده
وضعت سهى يدها على فمها تحركها دلالة على أن يخفض صوته أثناء حديثه :
– بس وطى صوتك شوية أنت هتلم عليا الطلبة ولا إيه ، ثم فى إيه ده كان بيسألنى عملت إيه فى الإمتحان مش أكتر ، هو أنت هتعملى فيها غيران من أولها
كز عمرو على أسنانه قائلاً بغيظ :
– أركبى يا سهى العربية
عقدت ذراعيها أمام صدرها وهى تقول برفض :
– مش راكبة ، وأركب معاك العربية لوحدنا ليه إن شاء الله هو أنت جوزى حتى لو كنت خطيبى مش هيجمعنى بيك مكان واحد لوحدنا ريح دماغك
رغم أن نواياه لم تضمر لها شرًا ، إلا أن إعجابه بها يزداد كلما تمنعت عن إجابته لأى شئ يريده وتراه هى لا يصح قبل أن تصير له زوجة
وضع يداه فى جيبىّ بنطاله الضيق قائلاً بنبرة عابثة رغبة منه فى إثارة أعصابها :
– طب هنقعد نتكلم فين يا حرمى المصون المستقبلية
أجابته وهى تمر من جواره :
– أظن ليا بيت ممكن تيجى تزورنا وتتكلم يا عمرو باشا براحتك
– خلاص هجى أزورك النهاردة بالليل يا قمرى ومجننانى أنتى
قالها وهو حريص على أن تصل لمسامعها وحقق مراده بعدما رآها تخفض رآسها بعدما إصطبغ وجهها بحمرة الخجل ، ولكنها لم تلتفت إليه لتجعله يرى تأثير عبارته على نفسها التواقة لأن تحيا قصة حب كقصص الحب التى قرآت عنها أو شاهدتها فى الأفلام الرومانسية المفضلة لديها دائماً
بعد إطمئانه من وصولها لمنزلها بآمان عاد لمنزله بعدما تذكر موعد طبيبه النفسى والذى ألح عليه فى مقابلته لإمتناعه عن حضور جلستين ، وربما ذلك سيكون له مردود سلبى على التقدم الملحوظ الذي بدأ يشعر به ، ولكن إنشغاله بتحسين أحواله مع سهى ووالدها ورغبته القوية فى أن تمنحه الفرصة بأن يتقرب منها ، جعله يرجئ أمر زيارة طبيبه له معللاً ذلك بأنه منغمساً فى أعماله ، ولكنه قرر أن اليوم سيخبر الطبيب بشأن زواجه المرتقب
ما أن وصل لمنزله ولم يكد يمر خمس دقائق حتى أعلن حارسه المخلص بأن الطبيب ينتظره كالعادة فى غرفة المكتب ، فولج عمرو الغرفة مرحباً بطبيبه
أرتدى الطبيب نظارته قائلاً بوجه بشوش :
– أخبارك إيه يا عمرو دلوقتى ، إيه اللى كان شاغلك عن جلسات العلاج مع أنك فى الوقت ده محتاجهم جداً
حك عمرو ذقنه وأجابه بهدوء :
– كانت مشاغل يا دكتور بس دلوقتى أنا تحت أمرك أتفضل إبدأ
بدأت الحديث بينهما هادئاً قائماً على السؤال من جانب الطبيب والجواب من جانب عمرو حتى تطرق إلى موضوع خطبته المزيفة والتى أعلمه بها فى وقت سابق
نقر الطبيب بالقلم نقرة خفيفة على دفتره متسائلاً:
– إحكيلى بقى عن خطوبتك المزيفة وإيه اللى دفعك من الأول أنك تساعدها مع أنك قولتلى إن أول مرة قابلتها فيها أتخانقتوا وكل مرة كانت تقريباً عدائية معاك فى الكلام
أغمض عمرو عينيه وأخذ نفساً عميقاً زفره على عدة مرات وما لبث أن قال بإبتسامة نبتت على شفتيه ما أن طاف وجه سهى فى عقله :
– يمكن لسانها الطويل ده هو اللى جذبنى إن أساعدها ، علشان بالرغم من أنها تبان قوية ومبتخافش ، بس حاسس أنها من جواها طفلة بتخاف وبتدارى خوفها وضعفها ورا لسانها وكلامها
– يعنى كان عندك إحساس بالمسئولية من ناحيتها ؟
هتف بها الطبيب متسائلاً ، فما كان من عمرو سوى أنه أماء برأسه مؤكداً لقوله
فضم كفيه وأنحنى قليلاً للأمام قائلاً بحماس لا محدود :
– ومش بس إحساسى بالمسئولية ناحيتها لاء دا كمان حاسس إن أنا بحبها وهنتجوز كمان قريب يا دكتور ، وهى موافقة كمان على الجواز
ترك الطبيب القلم من يده وحدق به متسائلاً بشئ من الجرأة :
– وأنت شايف نفسك مستعد أنك تتجوزها يا عمرو ، لأن الجواز مش لعبة تفرح بيها يومين وخلاص فاهمنى
أنتفض عمرو من مقعده وصاح بصوته منفعلاً :
– تقصد إيه بكلامك ده يا دكتور وفيها إيه يعنى لو أتجوزتها دلوقتى حرام يعنى
أشار إليه الطبيب بالجلوس وهو يقول بصوته الرصين :
– أقعد يا عمرو وبطل إنفعالك ده اللى ملوش لزوم ، مش دايما التسرع فى الأمور دى بيدعم حالتك ويبينلك أنك خلاص بقيت تمام ، لاء ده ممكن يعملك إنتكاسة أنت فى غنى عنها فى الوقت الحالى ، ثم أنا حاسس أن لسه جواك أسرار معرفش عنها حاجة أو إنت اللى مصر تخبيها وده مش كويس علشانك ، لأن لو أنت عايز تتعالج صح لازم تقول كل اللى جواك و أعرف اللى أنت مخبيه
عقد عمرو ذراعيه ورد قائلاً بشموخ وتحدى :
– أنا قولتلك كل حاجة وأنا مش مخبى عنك أسرار وإن كان على جوازى فهو هيتم فى ميعاده وأنت معزوم يا دكتور
نهض الطبيب عن مقعده وخلع نظارته قائلاً بمهنية :
– وأنا يأسفنى أن أقولك إن جوازتك دى مش لازم تتم فى الوقت الحالى يا عمرو
❈-❈-❈

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية لا يليق بك إلا العشق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى