رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الثامن والأربعون 48 بقلم سماح نجيب
رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثامن والأربعون
رواية لا يليق بك إلا العشق البارت الثامن والأربعون
رواية لا يليق بك إلا العشق الحلقة الثامنة والأربعون
ج٢-٢-” لن اغفر لك ”
نفضت وفاء رأسها عدة مرات ، ظناً منها إنها إستمعت لشئ خاطئ من راسل ، أو لعل تلك الساعات الطويلة ، التى قضتها بالترحال من مكان لأخر ، جعل الإرهاق يأخذ من عقلها وجسدها كل مأخذ ، لذلك توهمت أن راسل صرح بأنه لو ظل مقيماً بالإسكندرية كان سيقدم على قـ ـتل زو جته حياء ، فهى خير من تعلم مدى حبه وعشقه لزو جته ، وأنه لن يفكر بيوم أن يأذيها أو يستطيع المساس بها ، فتلك الحالة الفريدة من عشقه لحياء ، لم تراها تزوره بيوم من الأيام ، على الرغم أنه منذ أن كان طفلاً لم تخلو حياته من وقوعه بحب الطفولة لإيلين ، وعندما صار شاباً وقع أسير فتنة زو جته الأولى
ولكن كأن كل تلك المشاعر ماهى إلا عواطف وليدة اللحظة وما أن مرت الأيام صارت بطى النسيان ، إلا زو جته حياء ، فتلك الحالة التى أصابته بعد تركها له بالمرة الأولى ، شهدت على إنهياره ، وكيف كان قاب قوسين أو أدنى من أن يصاب بالجنون من إبتعادها عنه ، فلما الآن صار يفكر بذلك المنطق ؟ وكيف ملأت تلك الأفكار الإنتـ ـقامية قلبه وعقله ؟
تلاحما حاجبى وفاء وفتحت عينيها على إتساعهما ورددت بذهول:
– كنت قتـ ـلت حياء ! أنت يا راسل اللى بتقول كده وعلى مين على مراتك وحبيبتك اللى أنا أكتر واحدة عارفة أنت بتحبها قد إيه ، ليه ده كله إيه اللى حصل خلاك تقول كده
نهض راسل من مكانه كالملدوغ ، فتعالت صيحته محاولاً إنهاء النقاش بينهما :
– ماما أنا طالع أنام ، أنا تعبان وعايز أرتاح ، وأكيد أنتى كمان تعبانة ، فأتفضلى أرتاحى وأنا مش عايزة أتكلم فى حاجة دلوقتى ، لما أبقى قادر على أن أتكلم أكيد هقولك ، بس الفترة دى أرجوكى متسألنيش على حاجة عن إذنك
صعد الدرج بخطوات سريعة ، حتى وصل لتلك الغرفة التى سيسكنها ، فتح الباب بعـ ـنف ، فأرتطم بالجدار ، وما أن وطأ الغرفة بقدميه ، أغلق الباب خلفه بحدة ، كأنه لم يجد شئ يفرغ به غضبه سوى باب الغرفة ، دار حول نفسه ، كأنه يبحث عن شئ مفقود ولكنه عزز الأمر بأنه يبحث عن حقيبته ، على الرغم من أنه يراها بوضوح وهى موضوعة على طرف الفراش ، ولكنه حائرًا شاردًا ، وتم إيقاف عقله عن التفكير بمنطق سليم ، فإتخاذه ذلك القرار المصيرى ، كان وليد اللحظة الطارئة ، ولكن على الرغم من شعوره بأنه زاد بالأمر ، إلا أن ما إتضحت الصورة أمامه وعلم حقيقة عودة حياء له مثلما سمع من تنصته على حديث أدريانو وديفيد ، لم يستطع بوقتها أن يستجلب الرشد والحلم والتروى للتفكير بالأمر ، فأندفعت نفسه اليائسة والساخطة على إتخاذ القرار بالإبتعاد عن كل ما رآه كان السبب فى إلقاءه بالسجن بتهمة قتل الممرض وسلبه مهنته ومشفاه وتسبب له بفضيحة ظل أثرها بنفسه حتى الآن ، بل الأمر لم يقتصر على ذلك ، فهو كان على وشك خسارة إبنته ، مثلما علم بذلك المخطط الموضوع لقتلها ، لعلمهم بمدى أهميتها وعشقه لها
زفر من أنفه وقال بنبرة ساخطة يجادل قلبه وعقله :
– أنا مش غلطان إن سيبتها وبعدت عنها ، هى ضحكت عليا وخبيت عليا كل حاجة مكنتش حابة أعرف حقيقتها وحقيقة أهلها ، وأنها رجعتلى علشان تنتقم منى ومن بنتى علشان خاطر أهلها اللى ماتوا ، بس كله إلا سجود بنتى ، دى لو كان جرالها حاجة ، مكنش هيكفينى أصفى دمهم نقطة نقطة
فهتف به صوت القلب العاشق :
– بس أنت مشوفتش منها حاجة وحشة ، بالعكس دى كانت بتحبك وبتحب بنتك وبتخاف عليكم
فعاد يغمغم بإستنكار:
– خايفة علينا ! تقوم تعمل كل اللى عملته ده ، حتى كمان شوفتها لما خرجت من البيت علشان تقابل راجل غريب ، وألاقيه الظابط اللى قبض عليا بتهمة قتل سعيد الممرض، ليه محاولتش تقولى وتفهمنى اللى بيحصل ، ليه خبيت عليا وخلتنى مش فاهم ولا عارف حاجة عن أسباب تصرفاتها ، لكن تسيبنى مغفل ومش عارف اللى بتخططله ، وكمان أعرف أن رياض النعمانى ، كان عارف أن البنت اللى معانا في البيت مش إيلين وسابها تضحك عليا هى كمان ، فده اللى مش هسامحهم عليه ، ولا أنهم لعبوا بيا وبأعصابى ، أنا مش هسامح حد فيهم
قبل أن يصرخ به قلبه ثانية ، كان مغلقاً باب النقاش والجدل ، الذى لن يزيده سوى الشعور بالتخبط والحيرة ، فظل يمسح وجهه بكفيه بشئ من القـ ـسوة والعـ ـنف ، كأنه يريد محو تلك الملامح من الضعف ، التى كست وجهه ، فتلك ليست مهمة سهلة أن يحيا بعيداً عنها ، ولكن ربما هذا أفضل لكليهما ، فإن كان تركها ورحل عنها ، فهذا أفضل من أن يقدم على إيذاءها ، إذا نظر بوجهها وعاد يتذكر ما علمه عنها وعن عائلتها
أغمض عينيه و همس قائلاً بيأس :
– أحسنلك بقى تنام وتبطل تفكير
خلع سترته وألقاها من يـ ـده ، ولكن سمع صوت إرتطام خاتم زواجه الفضى بالأرضية ، بعدما أنزلق من جيب السترة ، فأنحنى ملتقطًا إياه من على الأرض ورفعه أمام وجهه ينظر له بتمعن ، فإجتاحته رجفة وقشعريرة مفاجئة ، عندما تذكر ملمس أنامل حياء عندما وضعت ذلك الخاتم ببنصره بحفل زفافهما ، فتوالت وأنهالت عليه الذكريات بداية من عقد قرانهما ، حتى تلك الليلة التى قضاها معها قبل رحيله ، يدفعه يأسه بأن يحاول أن يشبع قلبه وعيناه منها قبل فراقها ، فهو لم ينسى دهشتها ، عندما سألته عن أسباب إلحاحه لها بأن لا تغفو بنومها وأن تظل تحدثه وقتاً طويلاً ، فكلما كانت تغفو عينيها ، يعود ويجعلها تستيقظ ، حتى إستسلم بالأخير وجعلها تنام قبيل الفجر ، ومن ثم خرج من القصر بغير عودة
ففى اليوم التالى ، أقترب الوقت من الظهيرة وكان مازال نائمًا ، فهو قضى ليله بأكمله يعاتب ويأنب ذاته ، ليعود وينهرها عن الإنجراف خلف وساوسها ، شعر بالفراش يهتز أسفله ، ففتح عيناه على الفور ، وجد صغيرته تقفز على الفراش كعادتها وتصفق بيـ ـدها ، وما أن رآته يفتح عيناه ، أرتمت على صـ ـدره وهى تضحك بصوت عالى
فراحت تقـ ـبله على وجهه وهى تقول برجاء :
– بابى يلا أصحى علشان نروح لمامى
أزاح يـ ـديه التى كان يفرك بها عينيه ، وحدق بوجه إبنته ، فكيف غفل عن أن سجود لن تكف عن السؤال عن حياء ، فإن كان يأمل بشئ من الراحة والهدوء ، فسجود لن تدعه ينالهما ، وهى التى تعلقت بوجود حياء لإعتقادها أنها والدتها ، وهو لن يستطيع تصحيح مفهومها
فأعتدل بجلسته ووضع صغيرته على ساقه قائلاً بإبتسامة ناعسة :
– حبيبة بابى إحنا مش هنقدر نروح لماما علشان عندى شغل وهنقعد هنا شوية ، فمش عايزك كل شوية تقوليلى عايزة مامى ، لما ييجى الوقت المناسب إحنا هنروحلها ، فعايزك تبقى شطورة وتسمعى كلامى وأنا هفسحك وهوديكى الملاهى وكمان هتروحى مدرسة حلوة وهنعيش مبسوطين مع تيتة وفاء
فمن يحاول أن يقنع بحديثه هذا إبنته أم ذاته التى تعلم أنه واهم لا أكثر ؟
قطبت سجود حاجبيها ، وأنكمشت ملامح وجهها بعبوس طفولى ، فهى لم تفهم شئ من حديثه ، سوى أنها لن ترى والدتها الآن ، وربما سيستمر الأمر لفترة من الزمن ، فهل ستعود مرة أخرى بدون أم مثلما كانت قبل مجئ حياء ، تململت بين ذراعيه وهى تضم ذراعيها أمام صـ ـدرها ، ومطت شـ ـفتيها تمهيداً لعاصفة جديدة من البكاء ، فضمها راسل إليه وقبل رأسها بحنان
رفع وجهها إليه ينهرها عن البكاء بلطف :
– حبيبة قلبي متعيطيش ، بابا تعبان يا سجود وصدقينى مش قادر أشوف دموعك ، فعلشان خاطر بابى إسمعى كلامى يا حبيبتى مش أنتى بتحبينى
هزت سجود رأسها بالإيجاب ، ووضعت رأسها على صـ ـدره وهى تقول بصدق :
– بحبك أوى يا بابى بس كمان بحب مامى ، هو ليه كل شوية تسافر
أسند راسل ذقنه على رأس سجود قائلاً بصوت هامس :
– المرة دى إحنا اللى سافرنا ، وعارف أنها مش مهمة سهلة إن أنا وأنتى نقدر ننساها بس هنحاول
أنتهى النقاش والحوار بينهما بدخول وفاء ، فهى إستمعت لكل ما دار بينهما ، ولكنها ظلت صامتة ، وعيناها معبأة بالأ لم ، لعلمها بما سيعانيه هو وصغيرته ، فرأسه اليابس يوهمه بأنه سيستطيع نسيان حياء بسهولة ، ولكن من داخلها كان لديها التصميم والعزم الكافى ، لإقناع راسل بالعودة إلى الإسكندرية
إبتسمت لهما وهى تقول بحنان :
– يلا علشان نفطر أنا جهزت الفطار من بدرى بس شكل النوم عجبك ومكنتش عايز تقوم من النوم
تركته سجود وأقتربت من وفاء التى أسرعت بحملها بين ذراعيها ، فرد راسل قائلاً وهو يزيح عنه أغطية الفراش :
– مكنتش عارف أنام بليل وتقريباً نمت الفجر علشان كده أتأخرت فى النوم ، جايز ساعات السفر الطويلة جبتلى أرق ومعرفتش أنام بسرعة
إنكاره لأسباب سهاده الحقيقية ، جعلها أكثر تصميماً على أن يتحدثان سويًا ، ولكن فضلت أن لا تتحدث معه بهذا الشأن الآن ، فربما سيزيد من عناده وتصلبه برأيه ، لذلك قررت تركه يوم أو يومان ، وتعود لتتحدث معه بهدوء وروية ، فهى خير من تعلم طباعه ، ولما لا وهى من قامت بتربيته منذ أن كان صغيراً حتى قبل وفاة شقيقتها ، فمعظم أوقاتهما كانا يقضيانها برفقتها هرباً من جفاء قاطنى قصر النعمانى ، ومنذ ذلك الوقت أخذت على عاتقها تدليل راسل لعلمها أنها لن تستطيع الإنجاب ، فأتخذته ولدًا لها ، وأغدقته بحبها وحنانها ، حتى باتت تشعر أنها هى من أنجبته وساهم بذلك تعلق راسل بها بعد وفاة والدته وهو بسن صغير ، فتلك الملامح الشبيه بملامح شقيقتها التؤام جعلت راسل لا يشعر بفقدان أمه ، فهو وجد أم بديلة تمثلت بخالته التى لا يفرق بينها وبين أمه سوى الإسم وشامة صغيرة كانت بوجه والدته الراحلة
__________
أنهى ديفيد قنينة كاملة من الخمر ، ومازال واعياً كأنه لم يحتسى منها شيئًا ، فهل ذلك عائد لأنه يعاقر الخمر منذ وقت طويل ، ولم يعد ذلك يؤثر به ، أم أن غليان دماءه وإحتراق قلبه بلوعة ذلك العشق الوليد ، هما من يجعلانه لا يفقد إدراكه ولا يزال واعيًا أن تلك الفتاة ، التى وقع صريعاً بعشقها ، ستعقد خطبتها اليوم ، فتلك الحرارة التى نشبت بجـ ـسده من إحتساءه الخمر ، لا تقارن بتلك النيران التى تسرى بعروقه وأوردته ، كلما مر طيف ياسمين أمام عينيه ، ويعلم أن شاب أخر سيصير زو جاً لها ، شاب ربما أفضل منه وعقيدته كعقيدتها ، وليس مثله هو الذى يعتنق عقيدة ودين أخر ، ولكن هذا ليس كافياً ليردعه عنها ، فإن كانت تريد زو جًا مسلماً مثلها ، فلما لا يقدمه لها بإعتناقه دين الإسلام ، فربما هذا هو الحل الوحيد ، الذى سيمكنه من الوصول إليها ، وربما الحظ سيحالفه ، كونها لا تعلم من يكون هو بالحقيقة ، فهى لا تعلم سوى أن إسمه ” تميم موسى ” ، فربما حان الوقت لإخفاء حقيقة ” ديفيد دانيال إسكندر ” ليحيا ” تميم موسى ” برفقة معشوقته ” ياسمين ”
ولكن عليه أن يتخلص من خطبتها لهذا الشاب أولاً ، فما أن أكتمل تخطيطه للأمر ، ترك مكانه وأخرج من جيب بنطاله نقودًا وألقاها للنادل ، وعندما وصل للخارج ، وجد تلك السيارة الخاصة بحرس عمه أدريانو
فأقترب منه أحد الرجال قائلاً بإحترام وهو ينحنى قليلاً بجـ ـسده الضخم :
– ديفيد بيه ، عمك عايزك ضرورى وكان بيرن عليك بس أنت مردتش فبعتنا ندور عليك
نفخ ديفيد بضيق ، فهو لديه الآن ما يشغله ، ولكن من الواضح أن عمه سيحبط مخططه ، فلو علم أدريانو بما ينوى فعله ، فلن يكتفى بتعذيبه ، بل ربما سيفصل رأسه عن جـ ـسده ، بدون أن يرف له جفن
إلا أنه مد يده بجيبه ، وأخرج مفتاح سيارته وألقاها للرجل قائلاً بصوت مثقل من أثر الخمر :
– تعال سوق عربيتى علشان أنا مش شايف قدامى
ألتقط الرجل مفتاح السيارة ، وأخذ مكانه خلف المقود ، بينما إستلقى ديفيد على المقعد الخلفى ، راغباً فى أن يدركه النعاس والثمالة قبل أن يصل لمنزل عمه ويسمع توبيخه له ، فهو كان يصر عليه بحضور ذلك الإجتماع ، الذى إجتمع به كل الرجال المتواطئين بتلك الأعمال الغير مشروعة ، رغبة منه فى أن يتولى هو زمام الأمور ممهدًا بذلك لتوليه زعامة المافيا خلفاً له ، فهو أرجئ الأمر كثيراً محاولاً أن يجعل عمه يفهم كونه أنه لا يريد أن يصبح زعيماً للمافيا ، ولكن أدريانو لديه النية والعزم على رضوخه لأوامره سواء شاء بذلك أم آبى
– ديفيد بيه إحنا وصلنا البيت
أطلق الحارس صوت زمور السيارة ، ليجعل سيده الصغير ، الغافى بالمقعد الخلفى ، يستيقظ ويعلم أنهما الآن داخل المنزل وأمام الباب الداخلى ، ففتح ديفيد عينيه بصعوبة ، فربما آثر الخمر الذى إحتساءه بدأ مفعوله أخيرًا ، فترجل من السيارة بخطوات مترنحة ، وأسرع الحارس بإسناده حتى وصلا للداخل وأمام تلك الغرفة المجتمع بها عمه برجاله
سمع أدريانو صيحة ديفيد ، فترك مكانه وقبل أن يعبر من باب الغرفة وجد ديفيد يلج يصيح برعونة :
– أنا جيت أهو يا عمى مساء الخير عليكم ، معلش أتأخرت على الإجتماع يا رجالة ، بس أصل القاعدة فى البار خدتنى ونسيت الميعاد ، بس قلبكم أبيض بقى ، هو إحنا يعنى كنا هناقش قرارات الأمم المتحدة
ظل ديفيد يضحك ببلاهة ويشهق بصوت متقطع ، يصدر أصواتاً تدل على أنه كان منغمساً ببئر من الخمر ، فقبض أدريانو على ذراعه وكز على أسنانه قائلاً بغيظ :
– وكمان جاى سكران يا ديفيد ، مش مكفيك أنك كنت بتحاول تهرب من الإجتماع جاى دلوقتى كمان سكران
شعر ديفيد بثقل جفنيه ورد قائلاً بحنق :
– يوووه بقى أنا قولتلك أن لا عايز أبقى زعيم مافيا ولا نيلة مش عايز أنا الشغل ده يا عمى
نظر الرجال الجالسين لبعضهم البعض ، وأمتعضوا من أسلوب ذلك الشاب ، الذى لم يكتفى بأن يتركهم مجتمعين لمقابلته منذ قرابة الساعة ، ليأتى الآن ويفعل ما يفعله ، فنهضوا جميعهم وأقتربوا من أدريانو ، فهتف أحدهم بأدريانو قائلاً بإمتعاض :
– الظاهر كده إبن أخوك يا أدريانو عايز يتعلم يحترم مواعيده ويحترم قوانين شغلنا ، إحنا هنمشى ولما تفوقه وتعقله أبقى بلغنا
خرجوا جميعهم من غرفة المعيشة ، تاركين ديفيد بعهدة عمه الغاضب والمستاء من فظاظته ، فما أن أصبحا بمفردهما ، أطاح أدريانو بوجه ديفيد بصفعة قوية ، خلفت وراءها أثار أصابعه الواحد تلو الأخر على وجنته ، ولم يكتفى بذلك بل قبض على سترته وهزه بعـ ـنف وهو يصرخ بوجهه قائلاً بنزق :
– إيه اللى أنت عملته ده ها، أنت شارب زفت إيه على دماغك ، غبى غبى
ظل أدريانو يردد تلك الكلمة وهو يصفعه على وجهه مراراً ، لعله يفيق من تلك الحالة من البلادة ، ولكن ديفيد رغم ما يشعر به من الأ لم جراء صفع عمه له ، لم يتفوه بكلمة أو يبدى إعتراضاً على ما يحدث
بل أنه سقط على الأرض جاثياً على ركبتيه أمام عمه قائلاً بنهنهة كأنه على وشك البكاء :
– أنا مش عايز فلوس ومش عايز زعامة المافيا ولا عايز أى حاجة فى الدنيا غيرها هى وبس يا عمى ، أنا عايزها تبقى معايا
ظن أدريانو أن حديث ديفيد الملتاع يخص به شقيقته حياء ، فهو رآى تأثيرها عليه وعلى إبنته بيرى ، ولكن لما يتحدث هكذا كأنه عاشق وفقد معشوقته ، فرمقه بنظرة متفحصة متسائلاً بجدية:
– معقول كل اللى أنت فيه ده علشان أختك حياء ولا فى حاجة تانية معرفهاش ؟
لم يرد جواباً على سؤاله ، بل أنه سقط بكامل جـ ـسده على الأرض متسطحاً كالجثة الهامدة ، فأشار أدريانو لرجاله ليحملوه ويذهبوا به لغرفته ، فأمتثلوا لأمره وحملوا جـ ـسد ديفيد المتراخى حتى وصلوا للغرفة الخاصة به ووضعوه بفراشه ، فأشار إليهم أدريانو بالخروج
فجلس بجوار ديفيد على طرف الفراش محاولاً أن يتحدث بهدوء قدر إمكانه ، فصفع وجه ديفيد بخفة ليجعله ينتبه على حديثه :
– ديفيد إصحى كده وفوق وفهمنى تقصد مين بكلامك قول
لم يكن رد ديفيد سوى همسات خرجت بصوت ملتاع :
– ياسمين هتروح منى ، واحد تانى هياخدها
لم يسمع أدريانو من حديثه سوى الشق الأخير من عبارته ، فعاد يلح بسؤاله عن من تلك التى يقصدها ، فصاح ديفيد وهو غير واعياً :
– يووووه ياسمين حبيبتى ياسمين
كمن لدغته حية وبات سمها الزعاف يسير بأوردته ، كان ذلك حال أدريانو بعد سماع ذلك الإسم من إبن شقيقه ، فهو لم ينسى حديث خالته مارجريت عن زهر الياسمين الذى سينبت بقلب وريثه ، فهذا هو الضلع الثالث من مثلث هلاكه ، كما تتوعده هى دائمًا ، ولكن كيف حدث كل هذا بغفلة منه ؟ ومن تكون تلك الفتاة المسماة ياسمين ؟ فهو لن يجعل شئ يحول بينه وبين أن يجعل ديفيد وريثه بأعماله ، حتى لو وصل به الأمر ، لإتباع تلك الوسيلة التى يتبعها لأن يتخلص مما يزعجه أو يؤرقه ألا وهى القتل ، فعندما حاول مرة أخرى أن يجعل ديفيد يصرح عن هوية تلك الفتاة ، لم يحالفه الحظ ، إذ غط ديفيد بنوم عميق ، بعد أن ظل يردد إسم ياسمين ، فلعن أدريانو حظه بأن خيوط اللعبة بدأت تنسل الواحد تلو الأخر من بين أصابعه ، وربما ستكون تلك الشمطاء مارجريت ، سعيدة بأنه سيعانى تبعات ذلك العشق الذى نبت بقلوب أحفاد ” إسكندر شمعون ” وكل الأطراف فى تلك الدائرة لا يمكن أن تجتمع سوياً دون حدوث إعصار وفيضان سيقضيان عليه حتى الرمق الأخير
____________
كاد الفضول يقـ ـتلها لتعلم ما حدث بين أبيها وعمرو بالشركة ، بعدما أعطاها وعده بأن يحاول حل الأمر مع والدها ، ولكنها حتى الآن لم ترى بوادر لذلك الوعد ، فوالدها مازال على حاله من حديثه المقتضب معها ، ولكن لم يذكر أمر خطبتها وزواجها من إبن شقيقه ، عندما أطلت برأسها من فتحة باب غرفتها ، وجدت الصالة خالية ، فشقيقيها نائمان منذ وقت مبكر ، وربما أبيها وزو جته بغرفتهما الآن ، زفرت بإحباط وكادت تغلق باب غرفتها ، إلا أنها سمعت صوت والدها وهو يخرج من الغرفة تتبعه زو جته ، فتركت سهى الباب موارباً ، لتعلم بأى شأن هما يتحدثان ويتجادلان ، فأرهفت سمعها وألصقت أذنها بالباب
فسمعت زو جة أبيها وهى تقول بهدوء :
– طب أنت مش موافق ليه بس
رد قائلاً وهو يجلس على الأريكة ، واضعاً رأسه بين يـ ـديه:
– طب وإبن أخويا أقوله إيه هو وأخويا ، أقولهم أن فى عريس تانى عايز يتجوز سهى ، عايزة أخويا يقاطعنى العمر كله
فغرت سهى فاها وهى مقطبة الجبين ، فعن أى عريس أخر يتحدث أبيها ، إلا أنها تمنت أن يستمر الحديث بينهما لتعلم أكثر عن ذلك الأمر ، وهذا ما كان ، فزو جة أبيها عادت لتقول بصوتها الهادئ كالعادة :
– ويقاطعك ليه كفى الله الشر ، دا الجو از قسمة ونصيب ، ثم يعنى دى فرصة متتعوضش ، دى بنتك هتتجـ ـوز صاحب الشركة اللى أنت شغال فيها ، يعنى هتعيش مرتاحة ومبسوطة ، ومتزعلش منى ومتقولش إن أنا مش حابة جو از سهى من إبن أخوك بس الصراحة أمه يتفات ليها بلاد ، وبنتك هتطلع عينيها معاها ، وبنتك مش هتقدر تعيش فى الأرياف ، فدى فرصة كويسة وتفضل جمبك هنا فى إسكندرية ، يعنى تتجـ ـوز إبن أخوك وتحصل مشاكل وتزعلوا من بعض ، ولا تفضلوا كده حبايب ، هو أه ممكن يزعل شوية ، بس أهون ما تزعلوا من بعض بعدين ، والنسب زى اللبن لو أتعكر مش بيصفى تانى
ماسمعته سهى كان كافياً لأن يجعل الصدمة تشل أطرافها ، فهل هذا هو الوعد والحل الذى إهتدى إليه عمرو ؟ أن يتزوجها هو عوضاً عن إبن عمها ، فما يحدث ليس له تفسير ، سوى أنها ستنجو من زواج إبن عمها ، لتقع بفخ أخر ، وليس أى فخ ، بل كارثة ستحل على رأسها ، لعلمها أن عمرو حتى وإن كان شاباً ثرياً ، فهو مدمن ويتعاطى المخدرات ، وما خفى كان أعظم
لطمت سهى خد يها وهى تقول بفزع :
– يا مصيبتى يا مصيبتى يعنى علشان ألاقى حل متجوزش إبن عمى وأكمل تعليمى ، أتجوز مدمن مخدرات ، يا لهوى هو أنا عملت إيه إسود فى حياتى يا ربى علشان أطلع من مصيبة أقع فى مصيبة أكبر
دارت حول نفسها ومازالت تلطم وجنتيها ، ولكنها عادت لتقف مكانها لتسمع باقى حديث أبيها وزو جته بعد صمتهما الذى دام لمدة دقيقتين ، وكأن والدها يزن حديث زو جته ، فهو يعلم بطباع زو جة شقيقه القاسية ، ولم ينسى أفعالها مع زو جته الأولى من أمور الخصام والشجار ، كلما كان يذهب لزيارة بيت والده الذى يسكنه حالياً شقيقه الأكبر وأبناءه
فسمعته وهو يقول بحيرة :
– مش عارف أقولك إيه ، كلامك صح ، بس فى نفس الوقت مش حابب أزعل أخويا الكبير منى، بمعنى أصح مش عارف أخد قرار ودى حياة بنتى برضه
ربتت زو جته على ساقه وهى تقول بإبتسامة :
– خد وقتك بالتفكير ، هو يعنى العريس التانى ده مطلبش رأيك على طول ، فحاول كده تفكر بهدوء ، وزى ما قولتلك خلى مصلحة بنتك قدام عينيك ، قوم دلوقتى نام وإرتاح وإن شاء الله ربنا هيدلك على الخير
نهض أبيها هو وزو جته ودلفا لغرفة نومهما ، فأغلقت سهى الباب وبحثت عن هاتفها كالمجذوبة ، لإخبار صديقتها بما علمته ، فهى الوحيدة التى يمكن أن تتحدث معها ، بشأن تلك الكارثة التى تلوح لها بالأفق ، وعلى وشك السقوط على رأسها ، إذا أقتنع أبيها بحديث زو جته ، والذى قالته بعفوية من باب حرصها على مصلحة سهى ، وأنها تريد لها زو جًا بإمكانه أن يجعلها تعيش برخاء وثراء
وجدت الهاتف وبعدما بحثت عن رقم هاتف صديقتها وضغط زر الإتصال ، انتظرت حتى جاءها الرد على الطرف الآخر ، فبكت سهى وقالت بصوت متحشرج :
– ألحقينى أنا فى مصيبة
فزعت صديقتها من قولها ، فردت قائلة بإهتمام :
– مالك يا بنتى فى إيه مصيبة إيه دى كفى الله الشر ، إهدى بس وفهمينى اللى حصل وبطلى عياط علشان أفهم بتقولى إيه
مسحت سهى دموعها ، وحاولت أن يخرج صوتها دون تلك الغصة العالقة بحلقها ، فراحت تقص على صديقتها بكل ما لديها من أخبار سيئة علمتها للتو ، فختمت حديثها وهى تقول بنهنهة :
– شوفتى المصيبة اللى أنا فيها ، أعمل إيه أنا دلوقتى
أجابتها صديقتها بهدوء :
– إهدى يا سهى ومتسبقيش الأحداث اللى فهمته منك أن باباكى شكله متردد ، يعنى موافقش وقاله خلاص تعال أتجو زها
قالت سهى وهى تضع يدها على جبهتها كأنها تشعر بآلام شديدة بها :
– طب لو بابا أقتنع ووافق هعمل إيه قوليلى ، ولو قولتله الحقيقة ، هيصمم المرة دى يجوزنى لإبن عمى
حاولت صديقتها بشتى الطرق أن تجعلها تهدأ وتكف عن بكاءها ونحيبها ، ولكن ما أن أنتهت المحادثة بينهما ، حتى عادت سهى تبكى ثانية ، فحتى وإن كان عمرو شاباً كل من سيراه سيحسدها على زو اجها من ذلك الشاب الوسيم والثرى ، ولكن لا أحد منهم يعلم ما يخفيه خلف تلك الوسامة والثراء من تورطه بأعمال غير مشروعة كتلك التى إستطاع إنقاذها منها أثناء إختطافها
فبعد أن يأست من البكاء وقضم أظافرها ، طرأ على رأسها فكرة فقالت وهى تحسم أمرها :
– مفيش قدامى حل غير إن أقابل اللى إسمه عمرو ده اللى هيودينى فى داهية ومصيبة بأفكاره ، أنا لو أعرف أنه هيقترح الحل المهبب ده ، مكنتش صدقت كلامه ومشيت وأنا فاكرة أنه هيساعدنى
فكرت بالذهاب لعمرو بالشركة ، وتجعله يفض أمر تلك الزيـ ـجة ، فهى لن تتركه يتخذ الأمر جديًا ، وتجد نفسها بالأخير خطيبة أو زو جة لذلك الشاب الأرعن ، فأندست بين طيات أغطية الفراش وهى عاقدة العزم على أن تذهب لرؤية عمرو بالقريب العاجل ، ولكن كأن كثرة تفكيرها بالأمر ، جعلت من العسير عليها أن تنام براحة ، فظلت تتقلب بفراشها ، وهى تنفخ وتزفر بحنق ، حتى أدركها النوم بعد عدة ساعات قضتها بأرق أصاب أعصابها بالإنهاك والإرهاق ، ولكن لم يخلو نومها من إستيقاظها بنوبات فزع ، كلما رآت تلك الأحلام وهى مقيدة ولا تجد سبيل للفكاك من قيودها ، حمدت الله على أن شقيقيها جعلاها تفيق من نومها ، بعدما كانت تشعر بزهق أنفاسها من ذلك الشئ الذى جثم على صدرها ومنعها أن تتنفس براحة أثناء نومها ، فضوء الشمس الذى ملأ الغرفة ، جعلها تدرك أن الصباح أنبلج منذ وقت طويل ، ومازالت هى تتصارع مع أفكارها وحيرتها وأحلامها المزعجة
_____________
جالسة على المقعد بشرفة الغرفة ، منكمشة على ذاتها وتضم ركبتيها لصـ ـدرها ، تلف حولها وشاح من الصوف ، فمن يراها من مكان بعيد ، يظن أنها تمثال من الشمع لا حياة به ولا روح ، فلا شئ يتحرك بها سوى بؤبؤ عينيها ورفرفة أهدابها ، كلما ضربت وجهها نسمة هواء قادمة من بعيد ، فإلى أى مدى وصلت عيناها ؟ للبحر الذى إستطاعت رؤيته من مكانها ، والشمس كادت تغطس بين أمواجه وهى تهم بالرحيل ، تاركة مكانها لأن يأتى الليل يرافقه القمر ، ليصطحبها هى بليلة جديدة من ليالى الشجن والحنين ، أنتقلت ببصرها من مراقبة غروب الشمس ، إلى تلك المنضدة الصغيرة الموضوعة أمامها ، فضرب الهواء أطراف تلك الرسالة الورقية ، الموضوعة على المنضدة ، والتى تم تثبيت أحد أطرافها بالهاتف الملقى بجانبها ، ولكن مع هبوب تلك الرياح الخفيفة ، إستطاعت إقتلاع طرف الرسالة من أسفل الهاتف ، فطارت حتى سقطت من المنضدة ، وإستقرت بجوار الباب الزجاجى للشرفة ، فزفرت حياء زفرة حارة ، وأسرعت بمسح تلك الدمعة التى إنسكبت من عينيها ، ولكن قبل أن تنخرط ببكاءها ، سمعت صوت طرق على باب الغرفة
فردت قائلة بغصة مريرة:
– أدخل
ظنت أن القادم سوزانا أو غزل ، ولكن تلك التى ولجت الغرفة ، لم تكن سوى بيرى إبنة عمها ، والتى ما أن رآتها حياء ، حتى نهضت وتركت مكانها ، فأسرعت كل منهما نحو الأخرى ، فأرتمت حياء بين ذراعيها وهى تبكى بقهر ، فراحت بيرى تربت عليها لعلها تهدأ وتخبرها بما حدث ؟ فتلك الرسالة النصية التى أرسلتها لها عبر الهاتف من ضرورة مجيئها ، جعل الخوف يسكنها
أبعدتها بيرى عنها قليلاً وقالت وهى تتفرس بوجهها :
– حياء فى إيه ؟ أنتى قلقتينى عليكى بالرسالة اللى بعتهالى
ردت حياء قائلة بنهنهة وصوت متحشرج من أثر بكاءها:
– راسل أخد سجود ومامته وساب البلد كلها يا بيرى ، سابنى ومشى ومش عارفة عمل ليه كده ، أنا هتجنن من ساعة ما عرفت
وضعت يديها على فمها لتكتم تلك الشهقات ، التى سيبدأ صوتها يعلو رويداً رويداً ، وكأنها ستظل تبكى لما تبقى من عمرها ، فمنذ ذلك اليوم الذى تلقت به خبر موت عرفان ومديحة ،وهى باتت الدموع حليفتها ، فما إستطاعت إقتناصه من الزمن وتمثل بأوقات عشقها لزو جها ، لم يخلو الأمر من العثرات وحدوث خلافات بينهما تارة تهجره وتارة يهجرها ، وكأنهما لن يلتقيان بطريق واحد ويستمر الأمر على النحو الذى يريدانه ، بل دائمًا سيكون بينهما حالة من الشد والجذب ، التى لن تنتهى إلا بموت أحدهما
أخذت بيرى وقتاً كافياً لتعى مدلول قول حياء ، فما رآته من راسل أثناء إقامته بمنزل أبيها وما قصته عليها حياء ، يجعلها تجزم أنه يعشقها حد النخاع ، فرمشت بعينيها وتساءلت بشئ من البلاهة :
– سافر إزاى يعنى ، أنا مش فاهمة حاجة
لم تكن حياء بوضع يخولها أن تجادلها بشأن ما أعتراها من ذهول ، فأخذت الرسالة الورقية ووضعتها بيدها ، لعلها عندما تقرأها ستعى مدلول حديثها معها ، فقالت بصوت خافت :
– أقرى الرسالة دى جايز تفهمى
وضعت بيرى الرسالة الورقية نصب عينيها وبدأت تطوف بين سطورها ، فما أن ختمت قراءة الرسالة ، ازاحتها من أمام وجهها ونظرت لحياء وهى تقول بذهول وعفوية:
– معقول جو زك طفش من البلد بحالها
لو كانت حياء بوقت أخر ، وسمعت تلك العبارة منها ، لربما ضحكت بصوت صاخب ، ولكن لم يكن الوضع يسمح لها بأن تفعل ذلك ، حتى وإن كانت إبنة عمها قالت عبارتها بعفوية وتلقائية
أنتبهت بيرى على ما أعترى وجه حياء من وجوم ، فمسدت على ذراعيها وهى تقول بندم :
– أنا بجد أسفة يا حياء مش قصدى حاجة ، الكلام طلع منى من غير ما أقصد ، بس هو ليه عمل كده معقول يكون عرف حاجة عن بابا أو ديفيد
تجعد جبين حياء ، بعدما أصابتها الدهشة من تخمين بيرى لرحيل راسل ، وبدت تلك الخطوط التى تكونت على جبهتها دليلاً واضحاً على أنها تفكر بجدية بما قالته
فردت حياء بنبرة مفعمة بالحيرة والخوف :
– تفتكرى دى يكون السبب ، بس ليه مواجهنيش وقالى أنه عرف حاجة بخصوص باباكى أو ديفيد ، دا حتى أخر ليلة لينا مع بعض ، كان راسل كويس أوى معايا ، بمعنى أصح كانت ليلة ولا ألف ليلة وليلة ، وصحيت أكتشفت المصيبة ، يعنى كان بيودعنى وأنا مش عارفة ، وأفتكرت أنه كان مشتاقلى علشان كده كان بيتصرف برومانسية ، لأن من ساعة ما رجعنا من بيت باباكى وهو كان متغير ولما كنت أسأله كان بيقولى مفيش حاجة وأفتكرت أخر ليلة دى أعتذار منه ، طلع أنه كان عايز يأخد ذكرى معاه لما يسبنى
رفعت وجهها لبيرى وأستأنفت حديثها بمرارة :
– هو أنا هفضل طول عمرى فى العذاب ده ، ومش مكتوبلى أفرح ، مرة أنا أسيبه ودلوقتى هو يسيبنى ، وده كله هيبقى برضه بسببهم ، أمتى بقى أخلص من الكابوس ده أمتى أمتى
جثت حياء على ركبتيها وهى تصرخ بشق عبارتها الأخير ، وأنحنت بجزعها العلوى ، حتى كادت رأسها تلمس الأرض ، فأشفقت بيرى على حالها وجلست بجوارها وأخذتها بين ذراعيها فراحت تربت على ظهرها تارة وتمسد على ذراعها تارة أخرى ، لعلها تهدأ قليلاً ، ولكن كأن عدوى البكاء أنتقلت إليها ، فأنخرطت بالبكاء هى الأخرى ، عندما جال بخاطرها صورة معشوقها الغائب
فقالت بحنان وهى تمسح دموعها:
– إهدى يا حياء ، أكيد باباه هيدور عليه ويعرف مكانه وساعتها أبقى روحيله وفهميه كل حاجة ، وهو أكيد بيحبك فهيسمعلك ويفهم كلامك ، دا على فرض أنه عرف حاجة بخصوص شغل بابا أو أن ديفيد هو اللى عذبه لما كان فى السجن فى إيطاليا ، وأنتى قولتيلى أن سيرة الموضوع ده بتعصبه ومبتخليهوش يعرف يفكر ، يعنى ممكن يكون عمل كده فى لحظة غضب وتهور ، ولما يهدى هيفهم إنك ملكيش ذنب فى حياة أهلك ، اللى أنتى أساساً لسه عرفاهم من وقت قريب
إجتاح حياء شعور بالراحة والأمل من حديث بيرى ، فربما هى محقة بكل ما تفوهت به ، إبتعدت برأسها قليلاً ونظرت إليها قائلة بأمل يحدوها بجلاء سوء الفهم بينها وبين زو جها :
– بجد ممكن ده يحصل يا بيرى ، ممكن نعرف هو سافر فين ، وساعتها يعرف ويفهم أن أنا بحبه وكنت خايفة عليه ، وأن أنا مليش ذنب فى حاجة
خشيت بيرى أن تهدم أمالها ، خاصة وهى تتحدث بتلك النبرة المفعمة بالأمل كطفلة ستحصل على أمنية راودتها طويلاً ، فإبتسمت بوجهها وحركت رأسها بالإيجاب وهى تقول بهدوء :
– أيوة يا حبيبتى ، أبو جو زك راجل واصل وله نفوذ يعنى ممكن يلاقيه بسهولة جدا ، المهم دلوقتى قومى إغسلى وشك وغيرى هدومك وتعالى ننزل نقعد فى الجنينة تحت شوية قبل ما أروح ، غيرى جو الأوضة الخنيق ده واللى ريحته زى ريحة المستشفى
إبتسمت بيرى بأخر عبارتها لتضفى قليلاً من المرح على جلستهما الكئيبة ، فأمتثلت حياء لأمرها وأخذت ثياب نظيفة وولجت للمرحاض ، بينما ذهبت بيرى للشرفة وأسندت كفيها على السور وظلت تنظر لتلك المناظر الطبيعية الخلابة المتمثلة بالحديقة ورؤيتها للبحر ، فما أشبه الليلة بالبارحة ، عندما أصابتها تلك الحالة الصحية السيئة بعد رؤيتها لعبد الرحمن ومجئ حياء لمواساتها ، واليوم هى هنا من أجل مواساة حياء ، فكأن كل الأدوار تنعكس بصورة أو بأخرى ، وكأن الجميع يدور بدائرة مفرغة لا يعلمون أين بدايتها ولا كيف سيخرجون منها ؟
بعد خروج حياء من المرحاض تأهبت للخروج من الغرفة برفقة بيرى ، فتأبطت ذراعها وخرجتا من غرفتها ، هبطا الدرج بتأنى حتى وصلا للحديقة ، فأنضم إليهما سوزانا وغزل ، وظللن يتحدثن وقتاً طويلاً ، حتى أعلنت بيرى عن ضرورة عودتها للمنزل ، فودعتها حياء حتى أخذت سيارتها وخرجت من قصر النعمانى
أرادت حياء رؤية والد زو جها قبل عودتها لغرفتها ، فدلفت للداخل حتى وصلت لغرفة المعيشة الكبيرة ولكن قبل أن تلج الغرفة سمعت الحديث الدائر بين رياض وعاصم ، وما أن سمعت إسم راسل زو جها تسمرت قدميها وتوقفت عن التقدم لباب الغرفة
فسمعت صوت رياض وهو يصيح بغضب :
– يعنى إيه يا عاصم مش موجود فى لندن ، مش قولت أن تذاكر الطيران أتحجزت من هنا على لندن ، طب راسل راح فين
رد عاصم قائلاً بإرهاق :
– والله يا عمى أنا عملت كل جهدى فى أن ألاقيه ، بس اللى لقيته أنه سافر على لندن ، وطبعاً كل حبايبنا اللى فى السفارة هناك كلمتهم علشان يعرفوا هو مقيم فين بالظبط ، قالولى أنه مقعدش فى لندن غير كام ساعة بس وبعدين أختفى حتى مش لاقين ليه أى حجوزات لفنادق أو حتى تذاكر طيران لبلد تانية ، أنا أصلاً مش عارف خرج من لندن راح فين وإزاى ، شكله واخد كل إحتياطاته زى ما قال علشان محدش يعرف يوصله ولا يرجع هنا تانى ، بس متقلقش يا عمى إن شاء الله هنلاقيه قريب بس عايزك ترتاح ومتجهدش نفسك ، وأنا هعمل كل جهدى وهلاقيه بإذن الله
دب رياض الأرض بعصاه وقال بحنق من أفعال ولده :
– أنت لازم تجبهولى من تحت الأرض يا عاصم وبأى شكل ، حتى لو دورت عليه فى مشارق الأرض ومغاربها ، أنا عايزه يرجع هو وبنته ، أنا عارف أبو دماغ ناشفة ده مش هيسكت إلا لما يقضى عليا ويموتنى بس مش هكون المرة دى لوحدى ، دا كمان هيموت مراته من قهرتها عليهم ، هو فعلاً غلطة عمرى اللى عمرها ما هتتصلح أبدًا
أرتمى رياض على الأريكة ، يشعر بتخاذل قدميه عن حمل جـ ـسده ، بعدما أكتسحها ذلك الشعور بالضعف ، الناتج عن إشتياقه لولده وحفيدته الصغيرة ، التى لم تسنح له الظروف إلا بقضاء وقت قليل برفقتها
فما أن أنتهى حديث رياض وعاصم ، ركضت حياء من أمام غرفة المعيشة وصعدت الدرج ، متفادية سقوطها الذى بدا حتميًا ، لتجمع العبرات بمقلتيها ، ورؤيتها المشوشة لكل شئ يقابلها ، فما أن وصلت للغرفة ، أسرعت بفتح الباب وولجت للداخل ، فهو أبر بوعده ورحل عنها ، وجعل والده يفشل بإيجاده ، ولكن هل بإمكانه أن يحيا بدونها ؟ ألن يشعر بوخز قلبه له من إشتياقه لها ويجعله يعود إليها ، فهى كانت مجبرة ومكرهة على تركها له بالمرة الأولى ، ولكن هو لم يجبره أحد على الرحيل ، بل أتخذ ذلك القرار بملأ إرادته الحرة ، فوقفت أمام المرآة لعلها تجد إجابة لتلك الأسئلة التى تكثفت بعقلها ، وما أن رآت وجهها الشاحب بالمرآة ، قذفت زجاجها بقنينة عطره دون أن تدرى ، فتهشم زجاج المرآة وتحطمت قنينة العطر ، وفاح أريجها بالغرفة ، تنبأها بأنها أيامها القادمة ستكون أيامها العجاف ، والتى لن يزهر بها ربيعها وتغاث روحها التى سيعتصرها الشوق ، إلا بعودة صاحب العطر
_______________
بعد مرور ثلاثة أيام
أنتهى راسل من رى الأشجار والزهور بحديقة المنزل الصغيرة ، فإلتفت برأسه للخلف وجد صغيرته تركض خلف هرة صغيرة إبتاعها لها تشبه تلك الهرة التى كانت تملكها بقصر النعمانى ، لعلها تلهيها عن سؤالها المتكرر عن حياء ، وربما أفادته حيلته قليلاً ، ولكن ليس لمعظم الوقت ، فما أن تأوى سجود لفراشها تظل تسأل عن والدتها ، ومتى ستأتى لتقص عليها حكايات قبل النوم ، ليستمر هو فى إخبارها بتلك الكذبة ، التى كان دائماً ما يخبرها بها ، حتى قبل رؤيته لزو جته حياء ، وهى أن والدتها سافرت من أجل أمر هام وستعود بالقريب العاجل
– سيجو تعالى هنا متخرجيش برا
قالها راسل وهو يرى إبنته تكاد تقترب من الباب الخارجى من المنزل ، فترك ما بيده وأقترب منها ليلهو معها ، ركض خلفها فظلت تصيح هى بسعادة خشية أن يمسك بها ، وبذلك تخسر اللعبة ، ولكن أثار إنتباهه ظل شخص يقف قريباً من السياج المعدنى للحديقة ، ويبدو أنه ينظر لهما بتمعن وتركيز ، ولكن لم يستبين راسل ملامح وجهه ، فهو ملثماً ، ويغطى رأسه بغطاء تلك الكنزة التى يرتديها
فأقترب راسل من السياج وهو يقول بإهتمام :
– من أنت ؟ ولماذا تقف هنا؟ ماذا تريد ؟
ما أن إستمع ذلك المجهول لصوت راسل ، ورآى إقترابه من السياج ، فر هارباً على الفور قبل أن يصل إليه ، فتعجب راسل من فعلته ، ولكن شب القلق بداخله ، فهل من الممكن أن يكون هذا الملثم له صلة بوالده ؟ على الفور أقترب من صغيرته وحملها بين ذراعيه وولج للداخل ، فتعجبت وفاء من ملامح وجهه التى شابها الإصفرار ، كأنه رآى شبحًا
حدقت به وفاء وتساءلت بلهفة :
– مالك يا راسل فى إيه وشك مصفر ليه كده
وضع راسل سجود أرضاً ، ونظر لوفاء وقال بشعور مبهم :
– مش عارف يا ماما شوفت حد واقف جمب سور الجنينة ولما قربت منه خاف وجرى ، تفتكرى يكون من طرف رياض النعمانى وعرفوا إحنا فين ، لو كده لازم نمشى من هنا
زفرت وفاء زفرات حارة وردت قائلة بهدوء :
– هو إحنا هنقضى حياتنا هروب ، وأنت بتهرب من إيه أصلاً ، بتهرب من حبك وقدرك ، ولا بتهرب من إيه قولى ، هو أنت فاكر أن الهروب حل ، دا هيعقد الأمور أكتر ويخلى سوء التفاهم بينك وبين مراتك يزيد وأنت مش عايز تقولى وتفهمنى إيه اللى حصل بينكم
ما أن تبدأ وفاء بإلحاحها لمعرفة ما حدث جعله يأخذ قراره بالرحيل ، تكسو ملامح وجهه الضيق والوحشية ، ففضل أن يصمت حتى لا يتسبب بحزنها ، إذا خرج صوته حاداً أو غليظًا ، أو أن يسئ إليها بنوبة غصبه وهو لا يعى ما يفعل أو يقول ، فتركها وصعد لغرفته ، وقضى يومه بها يعبث بهاتفه تارة ، ويقرأ و يدلل صغيرته تارة أخرى ، فلم تفارقه سجود إلا بعدما أدركها النعاس ووضعها بفراشها
فعندما سأم من محاولاته الفاشلة واليائسة فى جلب النوم لعينيه ، ترك الفراش ووقف أمام النافذة وأزاح ستائرها ، فالليل قد إنتصف منذ ما يقرب من الساعتين ،ومازال هو مسهدًا ولم يغفو كإبنته ووفاء ، ولكنه لم يتعجب من حاله ، فهو منذ مجيئه لهنا وهو لم يحسن أن ينام بهدوء ، وكلما أغمض عينيه يمر طيف حياء بخياله وأحلامه
تنهد بعمق وهو يغمض عينيه متذكرًا أوقاتهما الحالمة معاً ، فخدش زجاج النافذة بأظافره بغيظ ، من كون تلك الذكريات لا تتركه وشأنه ، بل تصيب قلبه باللوعة والإشتياق ، فأن تكون بين يديه كالحلم الجميل ، ويستيقظ على كابوس أخر من تلك الكوابيس ، التى حفلت حياته بهم ، فذلك أدعى لأن يشعر بالسخط على قلبه ونفسه الملتاعة والمشتاقة إليها ، ولكن كل هذا النقم والسخط على أفكاره ، لم يمنعانه من مناداة إسمها بهمس مراراً وتكراراً ، كأنه تعويذة سحرية وما أن يظل يردد الإسم ، سيجدها أمامه
– حياء حياء حياء
ولكن إنتشله من تفكيره ، رؤيته لشبح يتحرك بحديقة المنزل الصغيرة ، يتجه صوب ذلك الجانب المطل على المطبخ بالطابق الأرضي ، ففتح عيناه وهو يقول بدهشة :
– إيه ده ، دا حرامى ده ولا إيه
على الفور ترك مكانه ، وبحث عن سلاحه النارى الخاص ، وما أن وجده ، خرج من غرفته بحرص وحذر ، يخشى أن يكون المتسلل للمنزل لصاً محترفاً وتتأذى صغيرته أو خالته ، لم ينتعل بقدميه حذاءًا ، حتى لا يصدر صوتاً وهو يهبط الدرج بخفة ، رافعاً سلاحه النارى بوضع الإستعداد لإطلاق الرصاص ، وصل للطابق الأرضى ، وجد ذلك المتسلل بالمطبخ المفتوح على الصالة ، ففى ضوء الإنارة الخافتة إستطاع رؤية ذلك اللص وهو يرتدى كنزة سوداء بغطاء للرأس يخفى رأسه ووجهه
ضغط راسل على زر المصباح الكهربائي الخاص بالمطبخ ، فأنتشر الضوء ورفع سلاحه قائلاً بتهديد :
– فقط قف مكانك ولا تتحرك ، خطوة أخرى وسأطلق عليك النار
رفع ذلك اللص يديه بإستسلام وهو مازال يولى راسل ظهره ، فعاد راسل مكملاً لحديثه:
– تعال ، استدر وأرني وجهك
ظل اللص مكانه ولم يمتثل لأمره ، فأقترب راسل منه أكثر ، وما كاد يضع يـ ـده على كتفه ، لكمه ذلك اللص بمرفقه فى منتصف بطنه وحاول الفرار ، فتأوه راسل بخفوت ، إلا أنه إستطاع أن يعرقل حركته ، بأن جذب راسل بقدمه ذلك المقعد البلاستيكى الصغير ، وألقاه على ظهر ذلك اللص ، فأختل توازنه وسقط أرضاً ، فأنحنى إليه راسل وهو يرغب بنزع غطاء رأسه ، ليعلم من يكون هذا المتسلل ، والذى يجزم أنه هو بذاته من رآه صباح اليوم يتلصص عليه هو وإبنته ، ولكن قبل أن يضع يـ ـده عليه ، كان ذلك الشخص واقفاً محاولاً الفرار ، فجذب راسل ذراعه قبل أن يبتعد ، فركله ذلك الملثم بساقه ، ولكن لم تكن الركلة بالقوة التى تجعل راسل يتركه
فإهتاج راسل أكثر من تصميم ذلك الملثم على الفرار منه فصرخ به :
– لن أتركك ما لم أعرف من أنت ؟ وماذا تريد مني ؟
ظل الشد والجذب بينهما قائماً ، وإستطاع ذلك الملثم تمزيق الجزء العلوى من ثياب راسل ، بينما سدد له راسل عدة لكمات بوجهه ، فتمنى ألا تفزع صغيرته ووفاء مما يحدث ، فالعراك بينهما أسفر عن تحطيم وتكسير بعض الأوانى بالمطبخ القريب من الصالة ، التى لم تخلو من الفوضى
بالأخير إستطاع راسل إحكام ذراعه حول عنقه ، حتى كاد يخنقه ، ولكن رفع ذلك الملثم يـ ـديه دليلاً على إستسلامه للأمر ، وأن يتركه قبل أن يختنق ، ولكن راسل لم يكن يأمن جانبه ، لذلك عمل على طرحه أرضاً ، ولكن قبل أن يجثم على صـ ـدره ، ليكبل حركته ، طاح غطاء الرأس واللثام عن وجهه ، فبتلك اللحظة سرت رجفة قوية بأوصال راسل ، وتجمدت أطرافه تزامناً مع جحوظ عينيه وهو يرى تلك التى تنظر إليه من مكانها وهى تأخذ أنفاسها بوتيرة سريعة والدماء تسيل من أحد جانبى فمها ، فهو بإمكانه رؤية أثار يـ ـديه التى تركها على وجهها ، وليس هذا فقط فهو كان على وشك تحطيم عظام فكها أيضاً
وضع راسل يده بالقرب من فمه ، معربًا عن دهشته بعد رؤيتها. فنظر إليها وقال بدهشة ممزوجة بصدمته:
– أنتِ
_____________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية لا يليق بك إلا العشق)