رواية لا يليق بك إلا العشق الفصل الثالث والسبعون 73 بقلم سماح نجيب
رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثالث والسبعون
رواية لا يليق بك إلا العشق البارت الثالث والسبعون
رواية لا يليق بك إلا العشق الحلقة الثالثة والسبعون
لم تتأثر بنوبة البكاء والنواح التى اجتاحته ما أن أنتهت من قول عبارتها ، والتى أفادت بأن ذلك الرابط بينهما والذى كانت تحمله بأحشاءها لم يعد له وجود ، وعليه ألا يطمح فى أنها ستكون والدة لأطفال يحملون صفاته وأخلاقه الشيطانية ، حتى ركوعه أمامها وأخذه يديها بين كفيه يتوسلها أن تخبره بأنها تمازحه لم يكن ذا فائدة ، إذ نفضت يديه عنها ولا تعلم ذلك الشعور بلذة الانتصار الذى اجتاح حواسها فجأة وهى تراه هكذا ذليلاً ويرى عالمه يعمه الظلام ، كأنه فقد أغلى ما يملك وليست سوى دماء تجمعت فى رحمها ، ولم تكن تظهر لها معالم التكوين إلا مرحلة البداية
فإن كان أذاقها مرارة العيش بجانبه من حرمانها من أسرتها وحريتها وجعلها أسيرة حبه الجنونى والذى لم تجنى منه سوى ذلك الحال الذى وصلت إليه ، فقد حان الوقت ليذق نتاج أفعاله ، ويشعر كيف يكون فقدان أغلى أمنياته مُرًا ، والعجيب أنها لم تشعر بالندم أو أن ضميرها وخزها لفعلتها تلك ، بل على النقيض سرى فى عروقها شعور بنشوة طاغية من أنها تسمع صوت بكاءه ، كما أبكاها هو أياماً ، فكل دقيقة مرت عليها وهى زوجته ، كأنها قضتها ببؤرة من المفاسد المحرمة ، خاصة أنها تتقاسم منزلاً مع رجل لا يحق له الإقتراب منها إذ لم يكن من دينها ولا عقيدتها حقاً ، سوى صفة أطلقها على ذاته من أجل إكسابها الشرعية اللازمة لإقترانه بها
أخذ ديفيد كفيها ثانية يقبلهما قائلاً برجاء وتوسل جنونى :
– قولى أنك بتضحكى عليا يا ياسمين ، قولى انك زعلانة منى علشان كده قولتى أنك اجهضتى نفسك وموتى ابننا بس ده محصلش ، قوووووولى
صراخه الذى كاد يشعر بأنه سيتلف أحباله الصوتية ، جعلها ترتعد رغماً عنها وتفكر أنه لن يجد مشقة وهو راكعاً أمامها هكذا بأن يرفع قدميها ويلقى بها من على سور الشرفة ويدق عنقها فى الحال ، ولكن كان عليها أن تظل بجمودها وجحودها ليعلم أن الحياة بينهما مستحيلة ، وأنهما لن تلتقى طرقهما أبداً
إنسكبت دمعة دافئة من عينيها اليمنى وهى تنظر أمامها متحدية كل ما تشعر به فى تلك اللحظة من أنها أولاً وأخيراً أنثى ، تغلبها عاطفتها حتى فى أشد الأوقات الحالكة ، فقالت بنبرة باردة جاحدة كجحود عينيها اليسرى التى لم ترغب فى مؤازرة عينيها اليمنى فى أن تبكى على سجينها :
– أنا قولت اللى عندى ومكنش سهل عليا إن اخلص من حتة منى وشيلاها جواها بس ده كان لازم يحصل ، لأن مكنتش هشوف ابنى بيكبر قدام عينى ويبقى زيك ولا إنه يبقى يهودى وتشربوه طباع الغدر والخداع والخيانة بتاعتكم
هب ديفيد واقفاً على قدميه وقبض على كتفيها وهز جسدها بعنف وقسوة وهو يصيح بها :
– مكنش هيبقى زيى علشان أنتى اللى كنتى هتربيه ، ومكانش هيبقى يهودى ، لأن أنا دلوقتى مش يهودى أنا مسلم زيك وأعلنت اسلامى قبل ما اتجوزك ، يعنى اتجوزتك وأنا تميم المسلم مش ديفيد اليهودى
إبتسمت ياسمين وقالت بسخرية رغم إنسكاب عبراتها :
– مسلم ! وفين أفعالك دى اللى تثبت أنك زى ما بتقول أعلنت إسلامك ها ، بتشرب خمرة ، حابس مراتك فى بيتك غصب عنها ومهدد أهلها أنك ممكن تقتلهم لو حاولوا ياخدونى من هنا ، بتاجر فى السلاح ، بتتعامل مع ناس مفيش فى قلوبها شفقة ولا رحمة وعاملين زى السافحين بيقتلوا ناس أبرياء وملهاش ذنب ، أنت كمان شايل ذنب كل الناس اللى بتموت بسبب السلاح اللى أنت بتاجر فيه ، يعنى ايدك دى كل ما أبصلها كأنها بتنقط دم ، ومش قادرة أشوفك غير شيطان مجرد من كل معانى الرحمة والانسانية
رفعت أحد كفيه وهزته ليعى مدلول حديثها من أن له النصيب الأكبر فى تلك الجرائم والآثام التى ترتكب بواسطة إستخدام تلك الأسلحة ، التى يعمل هو على مد هؤلاء المجرمين بها من أجل تنفيذ مجازرهم البشرية
قبض على كفها حتى شعرت بأنه كاد يسحق أطراف أناملها ، إلا أنها أبت أن تبدى له ضعفها ، فهى لن تخسر أكثر مما خسرته ، ولكنه أرخى يده عنها قليلاً وقال محاولاً ضبط أعصابه :
–أنتى ضيعتى الحاجة اللى كنت مستنيها ، قوليلى أعمل فيكى ايه دلوقتى
– طلقنى
نطقت بصوتها الخالى من أى شعور ، رغم أن جسدها إجتاحه دفء نتج عن قربها الشديد منه حد الالتصاق ، وكم رغبت فى تلك اللحظة أن تفر من بين يديه لشعورها بالانزعاج من غريزتها كأنثى تريد البكاء لتخفيف من وطأة الضغوط النفسية التي تشعر بها ولكنها لن تجعل من صدره أو كتفه ملجأ لرأسها ولا مبكى لعينيها المتورمتين وفقدتا صفاءهما منذ علمت حقيقة وضعها من أنها صارت زوجة لشاب يعمل زعيماً لمافيا تجارة الأسلحة والأدهى والأمر من ذلك أنه ينتمى لعائلة يهودية الأصل والمنشأ
– دلوقتى عيزانى أطلقك
إستقام واقفاً بعدما كان منحنياً إليها بجزعه العلوى ، حاسداً ذاته من أنه واتته القوة لأن يقف أمامها ، وهو الذى شعر بالعجز والجزع كأنه لن يعود ويسير على قدميه ثانية ، ولم يكن يظن أن شعوره بفقدان شئ لم يكتب له الوجود سوى داخل أحشاءها سيكون ممزقاً لفؤاده هكذا ، كأنه خسر إبناً جاء للعالم وتربى بكنفه ورآه ينمو يوم عن اخر
عقدت ياسمين ذراعيها لعلها توقف إرتجافها الملحوظ ، فأشاحت بوجهها عنه وقالت ببرود مغلق بقوة واهية:
– أيوة يا ريت تطلقنى وتخلينى أمشى من هنا ، علشان أنا وأنت مننفعش لبعض لا أنا هبقى فى يوم ليك ولا أنت هتشوف اليوم اللى تلاقينى أتقبلت زوج ليا ، لأن أنا اتجوز تميم موسى مش ديفيد دانيال وأنا مستحيل أبقى زوجة ليك
داهم الضعف نبرة صوته وهو يقول بعشق خالص :
– بس أنا بحبك يا ياسمين ، يعنى معقولة مش شايفة فيا أى حاجة كويسة تخليكى تفكرى أنك ممكن يوم تحبينى ، أنا عندى استعداد أتغير علشانك ، أنا مأعلنتش إسلامى إلا علشان خاطرك أنتى
ضمت ياسمين شفتيها ولكن دمعاتها التى مازالت تذرفها كانت خير دليل على أنها حقاً قد وقعت فى شرك غرامه عندما ظنته شخص أخر ، فقالت بصراحة متناهية محاولة أن تخرج كلماتها واضحة دون ذلك الإرتجاف الذى ألم بصوتها :
– وده أكبر غلط أنت عملته ، يعنى أنت اخدت إسلامك وسيلة علشان توصل ليا ، غير كده إنت مفكرتش تعلن إسلامك علشان خاطر نفسك أو علشان خاطر أنك حابب ده ، لو أنت كنت صارحتنى من الأول من قبل ما نتجوز ، صدقنى كنت هساعدك ، لكن إنك توهمنى وتخدعنى وتخلينى أكتشف حقيقتك تانى يوم جوازنا وكمان حبستنى فى البيت وبتحاول تفرض حبك عليا ، ده إسمه هوس وجنون ، وتفكيرك إن بعمايلك دى هحبك تبقى غلطان ، لأن أكيد مش هحب سجانى اللى سجنى جوا بيته ، وحرمنى من أهلى اللى أنا عارفة ومتأكدة أنهم دلوقتى زعلانين ومقهورين عليا ، وخصوصاً بابا الله أعلم حالته إيه ، يعنى أنت بحبك ده مجنتش عليا أنا بس لاء وعلى أهلى كمان
أرتعبت من حملقته بها بعيناه اللتان أضحتا عاصفتان ، كأن هناك عاصفة لن تبقى ولا تذر ، ستمزقها وتحطمها وربما ستقتلها ، إلا أنها تجلدت فلن يحدث لها أكثر مما حدث ، ولكنها فغرت فاها ما أن سمعته يقول بصوت هادئ لا يمت بصلة لصياحه فى وجهها منذ قليل :
– جهزى شنطتك يلا علشان أرجعك بيت باباكى ، خلاص مش هتقعدى هنا تانى ، مش أنتى عايزة ترجعى لأهلك ، أنا هوديكى ليهم
ظنت أنها إستمعت لصوت يهمس لها بأحلامها ،وليس أنه أمامها حقاّ ويخبرها بنيته فى أن يطلق سراحها ويعيدها لمنزل والدها ، ولم تظن أن همساتها الرقيقة قادرة على تحويل مسار أفكاره ، إلا أنها لم تشأ أن تجادله بأنها لا تصدق حديثه ، وأن تطلب منه أن يعيد على مسامعها ما قاله ، فهرولت لداخل الغرفة وراحت تبحث عن حقيبتها كالمجذوبة وكسجينة جاءها أمر بإطلاق سراحها من ذلك السجن الذى أودعها فيه زوجها ، وما أن عثرت على الحقيبة ، فتحتها وظلت تلملم ثيابها وهى تبتسم من بين دموعها التى أغرقت وجهها كالسيل
دمدمت بهمس حامدة شاكرة :
– الحمد لله يارب الحمد لله
وقف ديفيد أمام غرفة الثياب يرمقها بنظرات جوفاء وهى تلملم ثيابها وسعادتها تكاد تصل لعنان السماء من أنها ستتركه وتترك المنزل ، بل أنه سمع عباراتها الهامسة بالحمد والشكر لله على أنها ستتخلص منه وتعود لمنزل والديها ، بل أن سعادتها الطاغية جعلتها لا تنتبه على ما تفعل ، إذ بدأت بتبديل ثيابها المنزلية بثوب ملائم للخروج ، فبدت متلهفة لأن تنتهى ولم تنتبه على تلك النظرات التى أغدقها بها ديفيد ، كونه لم يراها هكذا إلا ليلة واحدة ومن وقتها وهى ترتدى ثياب محتشمة بل لا تخلع حجابها عن رأسها إذا كان موجوداً معها بالغرفة
– معقولة أنتى فرحانة للدرجة دى أنك هتسبينى وتمشى
قالها وهو يقترب بخطواته منها ووقف خلفها إذ كانت توليه ظهرها ، وما أن إستدارت حتى إصطدمت به ولكنه لم يمهلها الوقت الكافى بأن تفر من بين يديه ، إذ إنقض عليها يعانقها بجوع ونهم وحسرة وحزناً على أيامه القادمة الخاوية من وجودها ، فإن كتب له فراقها فليحاول أخذ ذكرى منها قبل ذهابها
أرتبكت ما أن فاجأها بعناقه الشرس ، وكلما حاولت صده ومنعه ، تزداد شراسته حتى كادت تشعر بأنه على وشك تحطيم وتفتيت عظامها ، و ما أن إستطاعت أن تنحى وجهها عنه قليلاً هتفت به برجاء :
– أرجوك كفاية كده وأبعد عنى ، متخلنيش أكره نفسى أكتر من كده
بدا كأنه أصم وأبكم ولم يأخذ بتوسلاتها ورجاءها ، وعاد لعناقها كأنه يريد زهق أنفاسها ، فإن كان سيكتب له الموت ، فلتمت معه ، لاشئ يحركه بتلك اللحظة سوى حقد أسود على نقطة الضعف لديه ، وماهى إلا نقطة ضعفه التى لن يبرأ منها ، عشق مجنون كتب عليه أن يتذوق حلاوته ليلة ويتجرع مرارته أياماً
فصل العناق بينهما قائلاً بجنون :
– ليه مش عايزة تحبينى زى ما بحبك ، ليه مش قادرة تشوفينى بصورة أحسن من اللى فى دماغك ، حتى الحاجة الحلوة اللى كانت هتربطنا ببعض ضيعتيها للدرجة دى بتكرهينى
عاد يقتص منها بالطريقة التى يراها مناسبة ، كونها تشعر بالمقت والإشمئزاز كلما وضع يده عليها ، فليجعلها تشعر بالسوء ، رغم أن الأمر لن يتطرق إلا لعناق مؤذى سيضع به غضبه العارم
دفعته فى صدره لعله يبتعد قبل أن يقضى على أنفاسها ، فصرخت فى وجهه :
– أيوة بكرهك بكرهك يا ديفيد ، علشان إنت خليتنى أحب تميم شوفت أخرت كدبك إيه خلتنى أحب شخصية وهمية ملهاش وجود
أخذ وجهها بين كفيه قائلاً بتوسل :
– أنا تميم يا ياسمين أنا اللى حبتيه ، أنسى خالص ديفيد ده ، أنا راضى أنك تحبينى وأنا تميم بس خليكى معايا ومتبعديش عنى
نفضت يديه عن وجهها وأرتدت بخطواتها للخلف قائلة بنبرة حادة متحشرجة :
– خليك قد كلمتك وسيبنى أرجع بيت بابا ، أعمل حاجة كويسة تخلينى أحترمك شوية ، متزودش كرهى ليك يا ديفيد
عنيدة ويابسة الرأس وصعبة المراس ، ولا وصف أخر يصف حالتها بتلك اللحظة التى تمسكت فيها بقوله من أنه سيتركها تعود لمنزل أبيها ، وما أن يأس من إقناعها بحبه أو أن تتخلى عن إزدراءها له ، أخذها هو ليعيدها إلى أسرتها ، فلو كان قادراً على إخبار حياء بحقيقة زواجه منها لعلها تساعده فى تحسين أوضاعه مع زوجته، لم يكن سيتردد فى فعل ذلك ، إلا أن شقيقته لن تكون رحيمة به هى الأخرى ، إذ لن تكف عن تأنيبه لفعله ذلك دون علمها ، وهو لم يعد لديه متسع من الصبر ليسمع تأنيباً أو تقريعاً من أحد ، بيد أن حياء سافرت مع زوجها لأداء العمرة ، فهو من أخطأ منذ البداية وعليه تحمل نتائج أخطاءه
رغم شعورها بالحرية بعدما خرجت السيارة من ذلك البيت العتيق والذى لم يثير بها سوى الضيق والإنقباض ، إلا أنها ظلت جالسة بهدوء تنظر أمامها كأنها شاردة ولا ترى شيئاً ، وما أن وصلت سيارة زوجها إلى ذلك الحى الذى يقع به منزل والدها ، تتابعت أنفاسها كأنها تستنشق أولى نسمات فجر حريتها بعد ليل آسرها الطويل
صف ديفيد السيارة أمام المنزل ، وقبل أن تترجل منها قبض على ذراعها قائلاً بصدق ونبرة مبهمة :
– هتوحشينى يا ياسمين هتوحشينى أوى خلى بالك من نفسك
رغم شعور السعادة المتغلغل فى أوردتها بتلك اللحظة التى رآت نفسها على بعد خطوات من أن ترى والديها وشقيقها ، إلا أنها لا تعلم سر ذلك الشعور المخيف من أنها لن تراه ثانية ، وكأن عبارته جاءتها وداعاً وموذناً برحيله الدائم عن عالمها ، وقبل أن تفه بكلمة ترك ذراعها وأشار لها بالخروج من السيارة ، كأنها طائر صغير وتم فتح قفصه الذهبى ليطير بعيداً عن مالكه
خرجت ياسمين من السيارة وأخذت حقيبتها ووجدته ينطلق بعد ذلك مخلفاً سحابة ترابية حجبت رؤيتها له وهو يغادر ، ولا تعلم لما تسمرت قدميها مكانها ولم تحاول تحريكها لتلج إلى المنزل ، فيأست من فهم ما اعتراها ، أو لما فعل ذلك وهى من ظنت أنها ما أن تخبره بشأن أنها تخلصت من جنينها ، سيفعل المستحيل ليتأكد من إذا كانت صادقة أم كاذبة ، ولكنه حقاً فاجأها بتقبله الأمر ولم يفعل أكثر من صياحه فى وجهها ومن ثم سكن غضبه وأعادها لمنزل أبيها
ولجت للداخل وضغطت زر الجرس ، ففتحت والدتها الباب وصاحت بسعادة كأنها لا تصدق عيناها بأنها تراها أمامها :
– ياسمين بنتى حبيبتى ونور عيني
طوقتها والدتها بذراعيها كأنها لن تتركها أبداً ، فإحتضنتها ياسمين وظلت تبكى على كتف والدتها وهما واقفتان أمام الباب ، فقالت ياسمين بغصة :
– ماما أنتوا وحشتنونى أوى ، وكنت محتجالكم
ربتت والدتها على ظهرها ، لعلها تكف عن البكاء ، فجذبتها للداخل وأغلقت الباب بعدما جرت حقيبتها إلى منتصف الصالة ، نظرت ياسمين حولها ومن ثم سألت والدتها بإهتمام :
– هو بابا فين يا ماما ؟ هو فى المسجد ؟
نظرت والدتها تلقائياً إلى باب غرفة نومهما ، فزوجها منذ ماحدث لها وهو راقداً فى فراشه ولا يغادره ، فأطرقت برأسها أرضاً وتساقطت عبراتها وهى تجيبها :
– أبوكى جوا فى الأوضة من ساعة اللى حصلك وهو راقد عيان فى سريره
ركضت ياسمين إلى غرفة أبيها ، وما أن فتحت الباب وجدته مستلقياً على فراشه لا حول له ولا قوة ، فأرتمت على صدره وأجهشت بالبكاء قائلة بأنين :
– بابا يا حبيبى مالك ألف سلامة عليك
لم يصدق والدها أنه عاد وسمع صوتها ثانية ، فتهلل وجهه وكأنه برأ من وهنه ومرضه بلمح البصر وضمها إليه قائلاً بلهفة :
– ياسمين أنتى رجعتى يا حبيبتى ، يا حبيبة أبوكى اللى كان هيموت بحسرته عليكى يا نور عيونى
تابعتهما والدتها وهى واقفة أمام باب الغرفة ، فكل منهما مطوقاً الأخر بذراعيه ويبكيان بصوت مسموع ، فزوجها والذى فشل الطبيب فى أن يجعله يبرأ من مرضه الذى لم يصيبه فى المقام الأول إلا بعد شعوره الساحق بالذنب تجاهها من أنه هو من قام بتزويجها من هذا الشاب وكان يظن أنه بذلك سيجعلها بمأمن ومنأى عن دمار وخراب كان من المحتمل أن يلاحقها ، ولكن عوضاً عن أن يأمن لها حياة هادئة ألقاها بين براثن شاب أقل ما يقال عنه أنه أحد أعوان إبليس
إسترد عافيته فجأة وراح يسألها عن أحوالها وما حدث لها بالأيام الماضية :
– قوليلى عمل فيكى ايه ؟ وإيه اللى حصلك منه يا حبيبتى
حاولت ياسمين إجابته قدر إمكانها بهدوء :
– معملش حاجة يا بابا ، بالرغم من أنه كان حبسنى فى البيت إلا أنه متعرضليش بأذى ، فدلوقتى إرتاح ونتكلم بعدين لأن أنا كمان محتاجة أرتاح
لم ترد أن تشق عليه بكثرة الحديث ، فطمأنته أنها عادت ولا حاجة له أن يشعر بالقلق وليأخذ قسط من الراحة على أن تنال منها حاجتها هى الأخرى ، كونها لم تذق للنوم طعماً بصورة منتظمة إلا أوقات متفرقة ، فما أن خرجت من غرفة والدها ورفضت أن تعد لها والدتها الطعام وأخبرتها أنها ستخلد للنوم ، ولجت إلى غرفتها القديمة وجالت ببصرها فى أركانها كافة كأنها تحاول أن تستمد طاقتها وهدوءها المفقودين منذ ما حدث
– ياترى الأيام الجاية هتبقى عاملة إزاى
قالت عبارتها ومن ثم جلست على الفراش تحاول أن تعيد ترتيب أفكارها ، فإن كانت نجحت فى أن تترك منزله ، فكيف لها تنسى تلك الأمانة المتروكة لديها ، والتى حاولت هى إيهامه بأنها لم يعد لها وجود ، وضعت يدها على بطنها وهى تتحسسها برفق ، فحتماً سيأتى اليوم وتنكشف به كذبتها ، وفى الأشهر القادمة سيبدأ بطنها فى الانتفاخ وتظهر علامات ودلائل الحمل عليها واضحة كوضوح الشمس ، ولكن ما جعلها تشعر بالرعب ليس رد فعل والديها من أنها حامل بطفل ربما سيصبح بلا أب وهوية محددة ، ولكن ما جعل الخوف ينخر بقلبها ، أن يعلم ديفيد بأنها مازالت حاملاً فى طفله ويأتى الوقت وينتزعه منها جزاءًا لإقدامها على إفتعال تلك الكذبة التى اخبرته بها بل وأنطلت عليه بكل سهولة ولم تجد مشقة فى أن يصدقها بأنها أجهضت جنينها ، فحتى وإن كانت المعيشة مستحيلة بينهما ، فما تحمله بأحشاءها ليس مذنباً حتى تقدم على قتله دون شفقة أو رحمة
❈-❈-❈
لم يكن أدم أبله حتى لا ينتبه لإزدياد ذلك التغير الجذرى الذى طرأ على صديقه عماد ، إذ لم يعد يلح عليه فى أمر عودتهما لفرنسا ، أو أنه يتأفف من مكوثه معظم يومه داخل المنزل ولا يجد ما يفعله و يجعله يشعر بالحماس لأن يظل مقيم داخل قصر النعمانى ، وربما قضاءه وقتاً أطول بين أروقة مجموعة الشركات المملوكة لعائلته لم يجعله فى البداية يضع تركيزه فى التفكير بتلك الحالة من الإنسجام والراحة التى نشأت بين عماد وساندرا ، إذ أضحى يقضى يومه معها فى حديقة القصر يتحدثان ويتسامران أو يلهو مع طفلها ، الذى بدأ خطواته الأولى فى السير على قدميه ، كأنه أصبح والداً مهتماً بأحواله الصحية والجسدية ، بل أنه يعمل الآن على جعله يسير أسرع من تلك الخطوات البطيئة التى كان معتاد عليها ، ولم يستطع أدم نكران ذلك الشعور بالسعادة من أجل صديقه ، خاصة أنه بعد أن توفت حبيبته قبل زواجهما لم يفكر بشأن الحب والإرتباط ثانية ، بل ظل أعواماً رافضاً أن يجعل أنثى أخرى تسكن قلبه بعد تلك الراحلة والتى كان مغرماً بها منذ نعومة أظافرها ، ولكن يبدو أن ساندرا أفلحت فى أن تجعله يعود ويغرم من جديد
أثار أمر إعتناء عماد بالصغير حب المشاكسة لدى أدم ، إذ اقترب منهما وعماد يأرجح الصغير بين ذراعيه ، فقال بلطافة :
– دا أنت هتبقى أب هايل عماد ، شكله حبك أوى ومش هو بس هو و…
رفع أدم رأسه ونظر لساندرا التى تراقبهم من شرفة غرفتها ، فتتبع عماد إتجاه عينىّ صديقه وما أن وصل لمرمى شرفتها ، وضع الصغير أرضاً ووكز أدم فى كتفه قائلاً:
– بطل رخامة يا أدم علشان عارفك
داعب أدم وجنة الصغير ومن ثم نظر لصديقه قائلاً بصدق :
– صدقنى أنا مش برخم عماد بالعكس مبسوط أنك بعد السنين دى كلها رجعت تحب تانى
أجفل عماد من قول أدم كونه لم ينتبه أن الحب بات ظاهراً على محياه إلى هذا الحد ، فإبتلع لعابه وقال بتلعثم :
– حـ حـب إيه أنت كمان شكلك خرفت ، ولا رجعت تانى تعمل شغل المفتشين والمحققين بتاعك ده
رفع أدم حاجبه قائلاً بدهاء :
– خرفت ! أنت بقيت مفضوح يا ابنى فاضل بس تكتب على وشك بحبك يا ساندرا
قبل أن يعلو صوته بعبارته الأخيرة ، كمم عماد فم أدم بيده ونهره قائلاً بغيظ :
– بس إسكت بصوتك ده هتعملى فضيحة دا أنت صاحب سوء صحيح
أزاح أدم يد صديقه عن فمه ، وحرك حاجبيه كأن بات لديه دليلاً قوياً يستطع به أن يجعله يفعل ما يريده منه دون نقاش ، فحمحم يجلى صوته قائلاً بجدية زائفة :
– خلاص هسكت بس عايز أخرج أشترى هدوم ، هتيجى معايا ولا هتقعد هنا يا بابا عماد
– كاتك بو يا أخى
دمدم عماد بغيظ ، لعلمه أن تلك إحدى حيل أدم لمضايقته ، وإن لم يسايره ،ربما لن يكف عن تلميحاته التى تحمل فى باطنها الحق ولكن هو من يحاول إنكارها ، خشية أن لا تكون المشاعر متبادلة بينه وبينها وأقصى ما تشعر به نحوه هو الإمتنان ليس أكثر
حمل الصغير ورمق أدم قائلاً بإستياء :
– هطلع أوديه لمامته وأغير هدومى وجايلك يا صاحب السوء
ذهب عماد للداخل بينما قرر أدم أن يتجول فى الحديقة لحين عودة صديقه ، فرآى أسفل تلك الكرمة الموجودة بأقصى أطراف الحديقة الشاسعة والده يجلس هو وزوجته الجميلة ، ولكن ليس هذا الذى جعله يقف على مسافة منهما دون أن يشعران بوجوده ، بل ما يفعله أباه لتدليل زوجته ، كإطعامها قطع الفاكهة الموجودة بالطبق الذى يحمله بين يده ، ومن حين لأخر يلح عليها فى أن تأخذ قطعة أخرى إذا أبدت إكتفاءها وأنها ليست فى حاجة للمزيد
أبعدت غزل يد عاصم عن فمها قائلة برفق :
– كفاية بقى أرجوك والله ما بقيت قادرة أكل حاجة تانية يا عاصم
وضع قطعة الفاكهة مكانها فى الطبق ومن ثم وضعه جانباً وهو يقول بتبرم مصطنع :
– كده مش هينفع ، أنتى مش بتاكلى كويس ومجوعة ابنى معاكى
رفعت غزل حاجبها وقالت بتسلية :
– قول كده بقى أنت مهتم بيا وبأكلى علشان خاطر ابنك مش علشان خاطرى
أسند جبينه لجبينها قائلاً بحب :
– هو أنا لسه شوفت إبنى ، أنا إن كنت مستنيه بفارغ الصبر ده علشان هو حتة منك أنتى يا غزل يا حب العمر كله
ما أن شعر أدم بأن الأمر ربما سيتطرق بينهما لما هو أكثر من الحديث ، أبتعد على الفور ، وهو يفكر فى طباع أفراد تلك العائلة ، الذين يبدوا عليهم أنهم عرفوا الحب والحنين فى أقصى درجاته ، فها هو والده مغرم بزوجته ، وراسل وحياء مغرمان ببعضهما البعض ، حتى ميس مدلهة بحب زوجها ، وعمته سوزانا والتى توفى عنها زوجها منذ سنوات طوال مازالت حافظة الود والذكريات التى جمعتهما سوياً ولم ترغب فى أن تكون لأحد غيره بعدما رحل عنها
وقف أدم قريباً من المسبح وتساءل فى قرارة نفسه:
– معقولة هييجى يوم وأحب حد بالشكل ده زي كل الناس دى ؟
أنتفض جسده ما أن شعر بيد عماد تربت على كتفه ، إذ لم ينتبه على قدومه ، فزفر قائلاً وهو يمسح وجهه بكفيه :
– رعبتنى عماد ، مش تتكلم بدل ما أنت عامل زى الشبح كده
رفع عماد حاجبه قائلاً بلطافة :
– وأنت من أمتى بتتخض وبتترعب يا أدم ، كنت بتفكر فى ايه كده وجيت قطعت عليك حبل افكارك
دفعه أدم ليتقدمه فى السير قائلاً بنفاذ صبر:
– يلا بينا ، أحسن ما أفضل أرزل عليك وكل اللى فى البيت يعرفوا حكايتك يا مغرم ساندرا
قبض عماد على عنق أدم وإلتفت حوله ليتأكد أن لا أحد يسمعهما قائلاً بوعيد :
– أنت عارف لو فتحت بوقك بكلمة هحكى على كل ماضيك القذر يا قذر فاهم وتبقى واحدة بواحدة
لم يستطعان الاستمرار فى جديتهما ووعيدهما المزيف ، إذ راحا يضحكان بصوت عالى ، كأن كل منهما لديه الأدلة التى تدين الآخر بالوقوع فى شرك الغرام ، ورغم أن أدم معروف بميله الشديد لبنات حواء ، إلا أن هناك بعض الحوادث اللطيفة التى مرت بحياته ولا يعلم أحد بها سوى عماد
خرجا من البيت بسيارة أدم حتى وصلا لأحد المتاجر الكبرى لبيع الثياب ، وظلا يتجولان لإنتقاء ما يلائم مزاج أدم المتقلب أحياناً فى إختيار ثيابه
رفع عماد أحد القمصان قائلاً بإعجاب :
– القميص ده شكله ولونه جميل أوى ، خد وأدخل شوف مقاسه كويس ولا لاء
أخذ أدم القميص بفتور لا يعلم سببه ، وولج للمكان المخصص لقياس الثياب ، وما أن وضع القميص على جسده ، وهم بإغلاق أزراره ، وجد أحد يقتحم المكان المتواجد به ويغلق الباب خلفه ، وما أن إستدار إليه وجد فتاة تلتقط أنفاسها بسرعة واضعة يدها على صدرها تزفر ببطئ لعلها تعيد تنظيم نبضات قلبها التى يبدو أنها تقفز هلعاً
رفت جفونه عدة مرات ، منتظراً أن تفتح عينيها وتدلى بأسباب إقتحامها للمكان هكذا ، وما أن فتحت عيناها صرخت برعب وهى تقول بهلع :
– أنت مين وبتعمل ايه هنا
وضع أدم يداه بجيبى بنطاله وأجابها بإبتسامة :
– المفروض أنا اللى أسألك أنتى مين ودخلتى ليه هنا
أرهفت سمعها بعد أن سمعت صوت خطوات أقدام تقترب ، فوضعت يدها قريباً من فمه دون محاولة منها فى أن تلمسه وقالت بصوت منخفض :
– هشش إسكت خالص ومطلعش صوت فاهم
رغم أن بإستطاعته إزاحة يدها القريبة من فمه ، إلا أنه حرك رأسه بالايجاب ومازالت عيناه تلوح بهما أثر إبتسامته التى تكاد تخفيها بكفها الناعم ، وما أن تيقنت من أن أصوات الأقدام باتت قريبة من المكان ، تدفق عرقها غزيراً ، ولم تجد حلاً سوى أن تختبئ خلفه ، لعله قادراً على أن يخفيها بجسده الضخم
فرمقته بنظرة وديعة ورجاء وقالت بصوت هامس:
– أرجوك خبينى ، ومتخليش الناس اللى برا دى تاخدنى
نظر أدم حوله ومن ثم رد قائلاً وهو يشير للمكان الضيق :
– أخبيكى فين دى بروفة للهدوم ، اخبيكى جوا جيب القميص يعنى
لم يكن الوقت حليفها لتجيبه على ما قاله ، فما أن رآت الباب يفتح ، وقفت خلفه وسحبت الستار الموجود بجانب المرأة وهى تدعو أن لا ينكشف أمرها ، فوجد أدم نفسه وجهها لوجه مع رجل ضخم الجثة يسأله بصوت خشن :
– مشوفتش بنت جت هنا هى لابسة فستان لونه أصفر ومحجبة
حرك أدم رأسه بعنف دلالة على نفيه لرؤيته فتاة بتلك المواصفات التى قالها الرجل ، فإبتلع لعابه وقال بهدوء قدر الإمكان:
– لاء مشوفتش حد ، وعيب كده تدخل على حد من غير إستئذان
يبدو أن الرجل ليس لديه الوقت ليتلقى منه محاضرة فى السلوك والتهذيب ، إذ رحل يبحث عن الفتاة فى المتجر وما أن يأس من إيجادها خرج ويبدو أنه يتوعدها أشد الوعيد
جذب أدم الستار ، ونظر إليها قائلاً وهو يشير لها بالخروج :
– هو مشى أخرجى بقى
تنفست الفتاة براحة وقالت بإمتنان :
– شكراً لحضرتك أنت بجد أنقذتنى
لم يستطع أدم منع نفسه من سؤالها عن سبب بحث ذلك الرجل عنها ، أو لما هى تحاول الاختباء منه :
– مين الراجل ده ؟ وعايز منك إيه ؟ وليه أنتى بتهربى منه ؟ وأنتى مين وإسمك ايه
عدت الفتاة على أصابع يدها ، فهزت رأسها ونظرت إليه قائلة بإستياء طفيف :
– كل الأسئلة دى مرة واحدة ، هو حضرتك بتشتغل فى النيابة ، على العموم أنا متشكرة لحضرتك سلام بقى
خرجت من مكانها وهى تعدو مسرعة ، كأنها تريد الفرار ، فلمحها عماد الذى يبدو أنه كان يتجول فى المتجر ، ولم ينتبه على ما حدث مع صديقه
وجد أدم يخرج هو الاخر ، فأقترب منه قائلاً بتبرم :
– كنت بتعمل ايه أنت والبنت دى فى البروفة سوا ، هو وصل بيك الحال لكده
ضحك أدم لسوء ظن صديقه به ، فأجابه وعيناه عالقة بباب المتجر الكبير :
– أنت غلطان عماد مفيش حاجة من اللى فى دماغك دى
رفع عماد شفته العليا قائلاً بسخرية:
– لا ياراجل ، طب هى كانت معاك بتعمل ايه بتاخد مقاساتك ، عيب دا أنا عاجنك وخبزك
رد أدم قائلاً بشرود :
– صدقنى محصلش حاجة ، دى كانت عيزانى اساعدها تستخبى من واحد كان بيدور عليها ومعرفش ايه السبب ، على العموم يلا بينا ادفع تمن الهدوم علشان نروح
بعدما أنتهيا من دفع ثمن الثياب ، خرجا من المتجر وهم يتندران ويتفكهان حول ماحدث بالداخل ، ورغم أن أدم قابل الأمر بمزاح ، إلا أنه لا يعلم ذلك الشك الذى ساوره حول تلك الفتاة ، من أنها ربما تواجه مأزق كبير وبحاجة إلى المساعدة ، ولكن كيف سيعثر عليها وهو لا يملك ما يستطيع به أن يستدل على مكانها ، حتى أنها رفضت البوح بإسمها ، ولكن لا يعلم سر ذلك الشعور الذى داهمه من أنه سيراها مرة أخرى ، فكيف سيتم ذلك ؟ هو حقاً لا يعلم ، ولكن شعور نبع بداخله من أن تلك الفتاة ستكون بمثابة مغامرة مثيرة ، ربما تستطيع كسر الملل والفتور ، اللذان حفلت بهما أيامه فى الآونة الأخيرة بعد توقفه عن الغناء وصار يتبع خطى والده فى عالم الأعمال ، فأثناء قيادته للسيارة صارت عيناه تلتفت تلقائياً كأنه سيجدها تسير على أحد الأرصفة ، أو أنها تبتاع شيئاً من المتاجر المزدحمة بالزبائن
فمن تكون ؟
هل هى لصة أو سارقة ولذلك كانت تريد الاختباء ، أم أنها أرتكبت حماقة أوقعتها فى مأزق وحاولت الهرب من ذلك الرجل الذى كان يبحث عنها
يبدو أنه شرد بأفكاره ولولا تحذير صديقه له بأن ينتبه وينظر أمامه ، لصار الأمر كارثى خاصة وهما كانا على وشك الاصطدام بإحدى الحافلات العامة ، فتوقف أدم عن قيادة السيارة وظل يلتقط أنفاسه يلعن ذاته على الانسياق خلف أوهام ربما نبعت من محاولته إيجاد شئ يكسر به حاجز الملل الذى أستولى على نفسه التواقة دائماً لأن تحيا وسط صخب وضجيج الآلات الموسيقية وهتاف الجماهير ، ومغامراته مع الحسناوات ، والتى لم يكتب لواحدة منهن النجاة من تلك الفخاخ التى ينصبها لطرائده سوى حياء والتى منذ إكتشافه أنها زوجة عمه وتحذير عماد وأباه له بأن حتى إعجابه بها لن يصح ، وما علمه أيضاً عن تعلق وحب راسل الشديد لها ، صار لم يعد يفكر مطلقاً فى أن يعترض طريقها أو أن يثير غضب وجنون زوجها
❈-❈-❈
دام إجتماع والد هند مع محاميه الخاص فى غرفة مكتبه وقتاً أكثر من اللازم ، حتى كادت تشعر زوجته بالقلق من انقضاء ساعتين بأكملهما ولم ينتهيان بعد ، فما الذى يتناقشان به جعله يتأخر هكذا عن تناول طعام العشاء معها ، فرغم إنشغاله الدائم بأعباءه السياسية وإدارة أعماله التجارية ، إلا أنه لم يتأخر يوماً عن تناول طعامه برفقتها طوال تلك السنوات التى مضت عليهما وهما زوجين ، لذلك كان من الأدعى أن تشعر بالقلق تخشى أن يكون هناك أمرًا يخفيه عنها ، كذلك الأمر الذى حدث منذ أكثر من عامين و جعله يدعى بأنه مريضاً ولم تعلم الحقيقة إلا بعدما تأكد من حصول إبنتهما على زوجها كرم وأنهما سيظلان متزوجان ولن ينفصلان
ظلت جالسة مكانها وعيناها ترصد باب غرفة المكتب فى إنتظار خروجهما ، ولكن لم يحدث شئ من هذا القبيل ، وما كادت تهم بالذهاب إليهما ، حتى سمعت إحدى الخادمات تناديها لتخبرها بأنها ستذهب بالطعام لهند وكرم فى غرفتهما ، رغم أن كرم أحياناً يتناول الطعام معها هى وزوجها ولكن فى الأغلب لا يترك هند تأكل بمفردها ، فبعد إطمئنانها لوضع الأطباق الشهية التى تحب إبنتها تناولها دائماً منذ أن كانت صغيرة ، أمرت الخادمة بحمل الطعام والذهاب به للسيدة الصغيرة وزوجها
وما أن خرجت من المطبخ لمحت خروج المحامى من باب المنزل ، فهرولت تجاه غرفة مكتب زوجها وولجت إليه وأغلقت الباب خلفها ، فوقفت بجوار المكتب الخشبى الجالس خلفه وتساءلت بإهتمام :
– هو أنت كنت قاعد مع المحامى بتاعك الوقت ده كله ليه ؟
خلع نظارته ورتب الأوراق الموضوعة أمامه ، ومن ثم رمقها باسماً:
– مفيش حاجة متقلقيش بس كنا بنتكلم فى حاجات خاصة بالشغل
لم يكن جوابه كافياً ليجعلها قنوعة بأن إجتماعه الطويل مع محاميه أثمر عن نقاش بعض الأعمال ، فرفعت الأوراق الموضوعة أمامه ، وجالت بعينيها فيها وما أن رآت ما تحمله من صفة عقود بيع وشراء للأملاك ، ضيقت عينيها ونظرت إليه لعله يفسر سبب وجود تلك الأوراق:
– عقود البيع والشرا ده لمين ؟
أخذ منها الأوراق وترك مقعده وأجابها بصدق:
– دى عقود بيع وشرا ليكى أنتى وهند وكرم بأملاكى كلها أنا اتنازلت ليكم عنها بالكامل
إجابته على سؤالها لم تحمل لها إلا وساوس تمنت أن تكون خاطئة ، فلا أحد يقدم على فعل ذلك إلا إذا كان الأمر خطيراً ، فحملقت فى وجهه وتساءلت بخوف حقيقى:
– وليه عملت كده ؟ أنت مخبى عليا حاجة ؟
فطن لظنونها فضحك فجأة لكونها تظن أنه ربما يعانى مرضاً خطيراً سيودى بحياته فى القريب العاجل ، فأجابها بعدما قبض على كتفيها بحنان. :
– متخافيش أنا لا عيان ولا حاسس إن هموت قريب علشان كده بوزع ثروتى عليكم ، ده إجراء قانونى مش أكتر ، وبالنسبة للوقت اللى اتأخرناه، فده بسبب إن أشتريت مدرسة خاصة وكمان كرم هو اللى هيديرها بما إنه مدرس
ضمت شفتيها بتفكير لعلمها أنه من المؤكد أن إبن شقيقتها سيرفض الأمر ، فزفرت قائلة بقلة حيلة:
– بس ممكن كرم ميوافقش على كده ، ده إبن أختى وأنا عرفاه عامل زى أمه اللى يرحمها كانت نفسها عزيزة أوى ومكنتش بترضى تخلينى أساعدها فى حاجة أبداً وكانت دايماً اللى على لسانها الحمد لله إحنا مستورين وعايشين كويسين وجوزى مش مخلينى عايزة حاجة ، وربت كرم على كده ، وتصدق بالرغم من أنه دايما يرفض كل حاجة مننا وعايز هو اللى يصرف على مراته ، إلا أن من جوايا مبسوطة إن بنتى اتجوزت راجل بجد
إبتسم زوجها على ما قالته وأشادت وأثنت به على أخلاق زوج إبنتهما وهذا ما يجعله يمرر له أحياناً تصلبه وتعنته فى رفض كل ما يرغب فى تقديمه لابنته من أجل مستقبل أفضل لها ، إلا أن تلك المرة أصر على أن كرم لابد له من أن يستمع إليه ، فبعد بضعة أشهر سيصير أباً وحتماً سيريد تقديم الأفضل لطفله ولزوجته
أخذ نفساً عميقاً ومن ثم قال بروية :
– أنا كمان معجب جدا بكرم ورجولته وأخلاقه ، بس اظن لازم بقى يبدأ يفكر كويس وخصوصاً إنه خلاص هيبقى أب ، وأنا مش عايز منه أكتر من أن بنتى وولادها يعيشوا كويسين وفى مستوى مادى محترم ، ثم الفلوس اللي عندى دى كلها ماهى فى الاخر هتبقى لهند ، فيتمتعوا بيها من دلوقتى
ربتت زوجته على ذراعه باسمة :
– والله لو قدرت تقنع جوز بنتك بالكلام ده خير وبركة ، حسيت انه مش موافق بلاش تضغط عليه ، لأن مصدقت أشوف بنتى بتحب جوزها واتغيرت زى ما كنت بتمنى ، ماشى
صمتت لبرهة ومن ثم سألته بإهتمام :
– أنت مقولتليش عملت إيه مع الشغالة بعد اللى عرفناه عنها من كرم ومشيت من البيت
جلس على مقعده خلف المكتب ورد قائلاً بهدوء :
– أديتها قرشين تفتح بيهم مشروع ، علشان تبقى تقدر تصرف على نفسها وعلى طفلها اللى جاى فى السكة وسفرتها على بلدهم ، علشان مش عايزين مشاكل ودوشة ، وكمان أنا عندى بنت وحامل ، فمكنتش أقدر أاذيها
زفرت براحة وقالت بإطمئنان :
– طب الحمد لله أنك عملت كده ، ربنا يسترها معانا دايما ، أنا هروح اناديلك كرم وزى ما قولتلك بلاش تضغط عليه
حرك رأسه موافقاً على ما اقترحته ، ورغم وضعه احتمالات لرفض كرم لما سيعرضه عليه ، إلا أنه يأمل تلك المرة أن يكون أقل تصلباً فى رأيه ، فطلب منها أن ترسل إليه إحدى الخادمات ببعض المشروبات المرطبة لشعوره المفاجئ بالعطش
وما كادت تمر بضع دقائق حتى وجد كرم يطرق باب الغرفة ، فأذن له بالدخول ، ولج غرفة مكتب والد زوجته وهو يفكر فى سبب إستدعاءه له ، وما أن جلس حيث أشار له ، نظر إليه متسائلاً بإهتمام :
– خير يا عمى حضرتك كنت عايزنى ليه ؟
إبتسم له والد زوجته كتشجيع له أن النقاش الذى سيدور بينهما سيكون ودياً ولا حاجة له أن يشعر بالقلق ، فقال وهو يمد يده له بعدة أوراق قائلاً بهدوء :
– ده ورق مدرسة خاصة أنا اشترتها يا كرم ، وكنت عايزك أنت تديرها
قبل أن يفتح كرم فمه معترضاً ، إستأنف والد زوجته حديثه :
– ثوانى بس قبل ما ترفض ، أنا عايزك تفكر كويس ،أنت دلوقتى هتبقى أب وعندك أسرة وأكيد عايز توفر لهم الأحسن فى كل حاجة ، وصدقنى يا ابنى أنا مش بقولك كده لاسمح الله علشان حاجة أو إن أنا مثلاً مش عاجبنى المستوى اللى أنت عايش فيه ، لا أبدا أنا بس أب عايز يشوف بنته واحفاده فى أحسن حال وطالما ربنا موسعها علينا وده فى الآخر برضه هيبقى ليها ، فليه متخليهاش تعيش مرتاحة من دلوقتى ، أنت أكيد بتحب هند وعايزها دايما تعيش فى أحسن مستوى ، علشان كده فكر كويس قبل ما تقول لاء أو تقول أه
أخذ كرم الأوراق من يد والد زوجته وهو يفكر فى كل كلمة قالها ويقصد بها فى المقام الأول الحرص على تدليل إبنته وضمان رغد العيش لها ، فنهض قائلاً بإبتسامة هادئة:
– هفكر يا عمى عن إذنك
خرج من غرفة المكتب وصعد الدرج حتى وصل غرفة زوجته ، فولج للداخل وجدها مستلقية على الفراش ، ويبدو أنها تشعر بالنعاس ، وعندما أمعن النظر فى وجهها ، ووجدها مسترخية ويبدو عليها سيمات الراحة النفسية والجسدية ، وأنها بحق لم تخلق إلا لتحيا فى ترف وثراء ، فعاد ونظر للأوراق فى يده وتقاذفته رغبته بين أن يقبل عرض والد زوجته السخى وبين أن يرفض حفاظاً على ألا ينظر إليه أحد بأنه الرجل الذي إستغل ثراء ونفوذ والد زوجته من أجل ضمان مستوى معيشى مترف
تحركت هند فى نومها وفتحت عينيها فجأة وجدت زوجها يقف قريباً من الفراش وينظر لتلك الأوراق التى بين يديه ، فإعتدلت فى جلستها وسألته بجدية :
– مالك يا حبيبى واقف ليه كده وورق ايه اللى معاك ده
جلس كرم قبالتها على الفراش واجابها بصوت هادئ :
– دا ورق مدرسة باباكى إشتراها وعايزنى أنا أديرها
دققت هند النظر في وجهه وسألته بحذر لعلمها بمدى شعوره بالانزعاج إذا تطرق الأمر لمساعدة والدها لهما :
– وأنت قررت إيه ؟
زفر كرم قائلاً بحيرة :
– تصدقى مش عارف أقرر ، مكدبش عليكى إن عايز اخليكى عايشة مرتاحة ومبسوطة ، بس بس ….
لم تدعه يكمل حديثه ، لعلمها بما يشعر به من شعوره المتغاير بين رفضه وقبوله ، فقبضت على كفيه بين راحتيها الناعمتين وإبتسمت فى وجهه وهى تقول بحب وصدق :
– أنا حاسة بالحيرة اللى أنت فيها يا حبيبى وصدقنى حتى لو أنت رفضت أنا مش هزعل أو اضايق ، أنا المهم عندى أنت وبس ومش عايزة حاجة تانية
أدناها منه وضمها إليه ، وأسند وجهه لرأسها ولكنه لم يفكر فى أمر عناقها ، إذ أنه بتلك اللحظة لم يكن يريد سوى أن يشعر بها قريبة منه ويستشعر صدق أقوالها وحديثها ، فحرصها على أن تظهر له مدى حبها الخالى من أى شائبة ، جعله تلك المرة يفكر جدياً فى قبول عرض أبيها ليس لشئ سوى أنه يريدها حقاً أن تظل مدللة ويحرص هو على أن يهبها كل ما تصبو إليه من حب وعشق
زفر أنفاسه بتتابع لعله يتخلص مما اعتراه من حيرة ، فأبعدها عنه قليلاً وإبتسم فى وجهها وهو يعيد ترتيب خصيلات شعرها ، ومن ثم قال وهو يسند جبينه لجبينها:
– صدقينى يا هند أنا لو أطول اجبلك نجوم السما مش هتأخر ، لأن أنتى لازم دايما تعيشى أميرة زى ما كنتى طول عمرك
حقاً هو يرى أنها خُلقت للحب والدلال ، حتى وإن كان من أجلها سيعمل على تقديم بعض التنازلات ، وليحاول التأقلم على وضعه الجديد ، فوجدها تضع رأسها على كتفه بعدما طوقت عنقه وهى تقول بنبرة صوتها المفعمة بمشاعر يصعب وصفها :
– أنا لو هعيش أميرة ، فده علشان أنت أميرى الوسيم ، اللى جه وانقذنى من اللى كنت فيه ، وخليتنى أشوف الدنيا بنظرة تانية عن أن حياتى كلها هى الفسح والسفر والشوبينج ، عرفتى يعنى ايه أكون زوجة وحبيبة ، يعنى إيه معنى إن قلبى ده يدق علشانك ، إن يعنى إيه اللهفة فى أن أشوف صورتى فى عينيك وأنت بتقولى بحبك ، وإن أقعد اعد الدقايق وأنت غايب عنى لحد ما ترجعلى وإن الحاجة البسيطة اللى بتشتريهالى وأنت راجع البيت حتى لو كانت شيكولاتة أغلى عندى من أى حاجة تانية أو إن حد غيرك يجبهالى ، علشان كده أنا عايزة اقولك يا كرم أن أنت أغلى وأعز حبيب حتى لو أنا وأنت هنعيش فى أى مكان وأى مستوى
تركها تتحدث على سجيتها وتخبره بمدى عشقها ولهفتها بأن تظل تحيا معه حتى وإن كان قوتهما سيكون القليل من الخبز والكثير من العشق ، ارادها أن تبوح بكل ما تشعر به ، حتى يأتى دوره هو الآخر فى إظهار نواياه بأنه لن يترك درب ولا سبيل لإسعادها إلا وسيسلكه ، فإن كانت هى تعشقه إلى تلك الدرجة من العشق والهوس ، فلما لا يكون جاداً فى منحها كافة الامتيازات التي ستجعلها تهنئ بمعيشتها من أن تحيا هانئة مطمئنة ويوفر لها كافة سبل الراحة ، لذلك فأمر قبوله لما عرضه عليه أباها صار أمراً حتمياً من أجلها هى فقط ، فيكفى ما يراه من إعتناء تحظى به مما كان له الأثر الحسن عليها
فلا أحد يستطيع نكران أهمية المال فى تذليل بعض مصاعب الحياة ، فما أن ألقى نظرة خاطفة لتلك الأوراق الموضوعة بجوارهما على الفراش ، أخبرها بأنه سيوافق على عرض أبيها وربما سيبدأ فصل جديد فى حياتهما سوياً ، ولكن تعاهد كل منهما أن لا يجعل أى تغير سيطرأ على معيشتهما يجعلهما ينسيان أن حبهما وعشقهما له الأولوية فى تيسير زورق أحلامهما ، فالمال وحده لن يكون كافياً ليجعلها تشعر بالسعادة والطمأنينة ولكن عليه أن يرفق معه دفقات العشق والغرام الذى يغرقها بلجة عميقة من المشاعر والعواطف ، وأن يحافظ على أن يجعل شغفهما بأوج مراحله ، وإلا عندها ستكون الحياة بينهما رتيبة ممللة ، إذا أنغمس فى عمله وتكدست اعباءه التى ستجعله ينسى أن لديه زوجة بحاجة إلى الحب والرعاية والاهتمام أكثر من المال الذى سيجنيه ، فأعطاها كرم وعده بأن عشقهما لن تخمد نيرانه طالما مازال على قيد غرامها
❈-❈-❈
أنتهى طوافها حول البيت الحرام ، ولكنها لم تفكر فى العودة إلى الفندق المقيمة به هى وزوجها ، إذ لم يكن بنيتها ترك تلك الروحانيات التى تعم الأجواء خالقة هدوء تعجز النفس المشتاقة لزيارة بيت الله الحرام عن وصفه ، ودون أن تدرى وجدت نفسها تبكى بكاءًا شديدًا ، جعل زوجها ينتبه عليها ، بل المعتمرين راحوا ينظرون إليها بغرابة وهى تشهق ببكاءها كأن أحدهم ربما تسبب فى إيذاءها أثناء الطواف وهو غير منتبه، ولكن هى جاءت باكية مترجية محملة بأمنيات تعلم أن الخالق سبحانه وتعالى لن يعجز عن تحقيقها بين طرفة عين وإنتباهتها
فثقتها الدائمة من أن قدرة الله تفوق العقل والعلم وكل ما يمكن أن يفترضه بنى البشر من حدوث شئ أو إستحالته ، جعلها تبتهل بدعاءها ، بل لا تمل من طلب أمنيتها وتكرار رجاءها لله بأن يمن عليها بها ، حتى لو إستلزمها الأمر أن تظل الباقى من عمرها تدعو الله بأن يرزقها الذرية الصالحة ،فعم السكون والهدوء بداخلها ما أن أنتهت من دعاءها الخافت الذى جاءت دمعاتها السخية دلالة على مدى لهفتها بأن يحقق الله لها دعاءها ومطلبها ، فبين الكاف والنون تتجلى عظمة الخالق بأن يقول للشئ كن فيكون ، وخزائنه ملئ ومن يدعو بصدق ويتمنى ويفرط فى دعاءه وأحلامه وأمنياته ربما يجيب دعوته فى الحال أو يرجأها إلى وقت يراه مناسباً لأن يغدق على عباده من فيض رحماته
نادها راسل بصوت منخفض :
– حياء يلا بينا نرجع الفندق علشان ترتاحى شوية وكمان تاكلى
حركت حياء رأسها بالرفض القاطع لعودتها إلى الفندق ، فنظرت إليه قائلة برجاء :
– خلينا هنا شوية عايزة أفضل قاعدة فى الحرم ، وأنا مش جعانة دلوقتى ، الصراحة من ساعة ما جيت لا حاسة بجوع ولا عطش عايزة أفضل قاعدة هنا وبس
أشار لمكان يقيها حرارة الشمس الحارقة ، فهتف بها بإبتسامة مشرقة :
– طب تعالى نقعد فى المكان اللى هناك ده علشان الشمس والحر وخليكى قاعدة براحتك
إستمعت لنصيحته ، فرغم أنها لم تريد ترك مكانها من جوار الكعبة ، إلا أن حرارة الجو وأشعة الشمس الساطعة ربما سيتسببان لها فى حالة من الإعياء ، فوجدت مكان حيث جلس بعض المعتمرين ، فجلست هى وراسل على مقربة منهما ، ولم تنتبه إلا بعدما وجدت طفل صغير ربما لم يتخطى عمره العامين يجلس على ساقيها ، بل أنه تمدد كأنه فى حاجة إلى النوم
نظرت حياء فى وجه الطفل ومن ثم رفعت وجهها لزوجها وهى تبتسم على ما فعله الصغير ، ولكن وجدت إمرأة من الجمع القريب من مجلسهما تقترب منهما قائلة بإبتسامة وإعتذار :
– أنا أسفة جدا ، هو سابنى وجرى وبينام على رجل أى حد يقابله
مدت يدها لتأخذه ، فرمقتها حياء باسمة :
– لاء أرجوكى سبيه ، دا عسول خالص ربنا يباركلك فيه يارب
ناشدت حياء والدة الطفل أن تتركه غافياً على ساقيها ، فعادت المرأة لمكانها ويبدو أنها برفقة زوجها وأسرتها ، بينما ظلت حياء تمسد على شعره وتداعب وجنته الملساء وتنظر لزوجها من حين لأخر وهى تبتسم
قالت بتمنى وهى تحدق فى وجه الصغير :
– ربنا يرزقنا بيبى حلو كده زيه يا راسل
ربت راسل على يدها قائلاً بلطف :
– إن شاء الله يا حبيبتى ، ربنا كريم وهيرزقنا باللى بنتمناه
ظلت تهدهد الصغير حتى أخذ غفوته القصيرة وإستيقظ باحثاً عن والدته ، كأنه جاء إليها من أجل زيارة سريعة وحان وقت عودته ، فقبلته قبل أن تأخذه والدته وتنصرف ، بل رفعت يدها وظلت تلوح له حتى أختفى بين الحشود
قفزت على قدميها تشعر بطاقة إيجابية وحماس ونظرت لزوجها قائلة وهى تشير إليه بالنهوض :
– يلا بينا بقى نرجع الفندق ، علشان حسيت بالجوع فجأة وكمان حاسة إن مبسوطة كده من غير سبب
نهض راسل من مكانه وإستقام بوقفته قائلاً بحب:
– إن شاء الله تكونى مبسوطة وفرحانة على طول يا حبيبتى يلا بينا
أخذها وعاد للفندق ، فوجدت نفسها فى اليوم التالى تبحث عن ذلك الطفل الذى جلس على ساقيها ، كأنها تريد رؤيته مرة أخرى قبل رحيلها ، فأيامهما بالأراضى المقدسة أوشكت على الإنتهاء وسيعودان إلى إلاسكندرية ، ولكن لم يحالفها الحظ برؤيته مرة أخرى
عادا إلى المنزل محملان بالأمل والتفاؤل والهدوء النفسي ، وأيضاً بالكثير من الهدايا التى قاما بشراءها من أجل أفراد العائلة ، وكان النصيب الأكبر من تلك الهدايا من نصيب سجود وطفل ساندرا ، التى إبتهجت بما ابتاعته حياء من أجل طفلها ، حتى لم تنسى أن تشترى لها ثوباً كهدية ، ففرحت ساندرا كثيراً بهديتها وشكرتها وعيناها محملة برجاء أن تغفر لها إذا كانت أثقلت كاهلهما بوجودها هى وطفلها
أخذت غزل أحد الأثواب الصغيرة ووضعته على بطنها المنتفخ قائلة بإبتسامة عذبة :
– شكراً يا حياء ده هدوم البيبى شكلها جميل أوى عقبال ما نشترى للبيبى بتاعكم
ردت حياء باسمة :
– إن شاء الله ، وتقومى بالسلامة يا غزل بإذن الله
لم يستطيع راسل أن يحيد بعيناه عن وجهها الذى ملأه بريق أخاذ يكاد يذهب عقله وهى توزع إبتساماتها اللطيفة على كل الجالسين ، فكلما وقعت عينيه عليها ، لا يعلم سر تلك الرجفة التى تصيب قلبه مانعة إياه من أن يلتقط أنفاسه بصورة منتظمة ، ويخشى أن يرى الحاضرين علامات الشوق التى كادت عينيه تفضحه بأنه يختزن منها الكثير
– راسل مالك سرحت فى إيه ؟
سألته بإهتمام ورمقته بعفوية فوجدته يحملق بها باسماً :
– لاء ما سرحتش ولا حاجة أنا معاكم أهو
كأن إبتسامته تضمر لها نوايا لا يعلمها أحد غيره ، فضيقت ما بين حاجبيها وإبتسمت بخجل وسرعان ما أشاحت بعينيها عنه
خرج من تأمله لمرآها الفاتن على صوت والده وهو يقول بدهاء :
– مالك يا دكتور ، أنت مرهق من السفر
حمحم راسل ليجلى صوته ، واجاب والده بهدوءه المعتاد:
– ايوة مرهق شوية وخصوصاً إن منمتش من إمبارح فعن إذنكم بقى علشان عايز أستريح
نظر لزوجته وترك مقعده وخرج من غرفة المعيشة ، وما أن وضع قدميه على الدرج وجدها تأتى خلفه تسأله بإهتمام وجدية :
– مالك يا حبيبى كده زى ما يكون فى حاجة حصلت
إبتسم لها وأدنى برأسه منها هامساً :
– مفيش حاجة يا روحى ، بس بجد مرهق شوية من السفر ، فتعالى نيمينى
قهقهت حياء ووضعت يدها على فمها بعد سماعه يكاد يستجديها أن تجعله يذهب للفراش كطفل صغير ، لعلمها بأن تلك ماهى إلا حجة واهية لأن يجعلها قريبة منه ، حتى وإن كان نائماً
– ماشى يا حبيبى
قالتها وهى تضع يدها بيده الممدودة لها ، فقبض عليها بقوة كأنه يخشى فرارها ، وما أن صعدا الدرج ووصلا لغرفتهما وأغلقت حياء الباب خلفها ، وجدته يرتمى على الفراش مغمغماً بكسل وشعور عارم بالراحة :
– ياااه حاسس إن عايز أنام سنة كاملة
مكثت بجواره على الفراش ونادته بصوتها الرقيق :
– راسل
أجابها مغمغماً وهو مغلق العينين ويده اليمنى تزحف على الفراش لتصل إليها :
– نعم يا روح راسل
– هو أنت ليه مش أديت باباك الهدية اللى أنت اشتريتهاله
سألته حياء فجأة ، ففتح راسل عيناه على الفور ، فمن أين علمت بشأن تلك الهدية التى إبتاعها من أجل والده ؟
إعتدل بجلسته وسألها بحيرة :
– وأنتى عرفتى منين إن أنا اشتريت له هدية ؟
إبتسمت حياء وهى تضم ذراعيها ، فردت قائلة وهى تغمزه بإحدى عينيها :
– عيب دا أنا حياء ، أنا عرفت إنك اشتريت ليه خاتم فضة وطلبت كمان أن يتنقش عليه إسمه
وضع يده خلف عنقها وجذبها إليه ممازحاً:
– هو أنا متجوز المفتش كرومبو
ضحكت حياء على مزحته ومن ثم قالت بجدية :
– بجد ليه بقى مش اديته الخاتم أكيد كان هيفرح أنه هدية منك ، صدقنى باباك بيحبك جدا يا راسل
زفر من أنفه ومن ثم قال وهو يغمض عينيه بيأس :
– مش عارف يا حياء ، كل ما أحس أن عايز أقرب منه أبعد تانى ، بالرغم من أن الأمور بينا قبل ما سافر كانت إلى حد ما كويسة ، بس لما رجعت وابتديت اعمل عمايلى دى علشان الكل ييأس منى قبل ما اسافر تانى ، رجعنا زى الأول وخصوصاً أنه كان بيدافع عنك بإستماتة ، لدرجة إنه سمع كلامك وجاب المأذون علشان نطلق ، مع أن هو عمره ما سمع كلمة لحد ، دا هو اللى دايما يقول والكل يسمعله
نظرت حياء ليديها المضمومتين وقالت وهى تشعر بصدق تلك المحبة من والد زوجها لها وكأنها أضحت حقاً إبنته :
– صدقنى باباك حنين جداً ، والسنتين اللى أنت غبت عني فيهم لولا وقفته هو معايا كان ممكن يحصلى حاجة بسبب حالتى النفسية وقتها ، وعلمنى ازاى اتغلب على حزنى واقف على رجلى وأبقى قوية ، بجد أنا مديونة ليه لأنه ساعدنى
مدت يدها وشدت على معصمه لعله ينتبه لنصيحتها :
– وعلشان كده لازم تحسن تعاملك معاه أو بمعنى أصح مع أهلك كلهم ، حاول تسامح وتنسى ، زى أنا ما سامحت وبحاول أنسى ، ماشى يا حبيبى
أماء برأسه موافقاً وجذبها إليه ، فوضعت رأسها على صدره بعدما إستلقى على الفراش ،و فى البداية حاولت أن تنهى حيرته من التفكير بشأن ما طلبته منه ، وأن يحسم أمره بإتخاذ الغفران مسلكاً للخروج من تلك المتاهة التى ضاع بين دروبها الوعرة حتى لم يعد يرى سبيل للخروج ، وما كاد الأمر يتطرق بينهما لوصال المحبين حتى سمعا طرق على باب الغرفة
تركها راسل ليرى من الطارق ،وما أن فتح الباب وجد ساندرا تقف أمامه تنظر فى هاتفها بتمعن وما أن أنتبهت على وجوده ، قالت دون أى مقدمات كأنها فى عجلة من أمرها :
– راسل لازم أخد إبنى وأسافر من إسكندرية بسرعة
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية لا يليق بك إلا العشق)