رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم مريم غريب
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الجزء السادس والثلاثون
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك البارت السادس والثلاثون
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الحلقة السادسة والثلاثون
العرين2 _ :
كل الأقاويل و التعليقات التي توقعتها.. سمعتها كلها منذ بدء الأمسية في الهمهمات من حولها ..
سيدات الطبقة العليا ربما ظنن أنها لم تسمع.. لكنها سمعت و رأت كل شيء.. في غمزاتهن فور أن رأينها.. في لمزاتهن كلّما أدارت لهن ظهرها ..
“فريال هانم مش باين عليها التعب.. غريبة دي لسا خارجة من المستشفى!”
“طول عمرها قوية و مش بتكبر أبدًا!”
“الله يكون في عونها ازاي قدرت تتقبل بنت يحيى البحيري من ست تانية!؟”
“محدش تخيّل انها تستسلم للأمر الواقع لأ و ترضى تعيش مع دليل الخيانة في مكان واحد!”
“معقول قصة الحب الكبيرة اللي كانت بينها و بين يحيى تبقى اخرتها خيانة!”
سمعت “فريال” كل هذا.. لكنها بقيت مصرّة على التظاهر بأنها لم تسمع.. و تابعت السهرة محافظة على ابتسامتها الرقيقة.. مختالةً بأناقتها و جمالها الآخاذ الذي لا يعرف معنى الهرم …
-مش معقول !!
أدارت “فريال” رأسها لتنظر إلى الصوت الرجولي الذي كان قريبًا منها للغاية ..
ابتسمت له تلقائيًا.. كان رجلًا من نظرة واحدة بوجهه قدّرت عمره.. ربما جاوز أواسط الستينات.. لكنه بدا وسيمًا.. إمارات الثراء واضحة عليه بشدة …
-مساء الخير ! .. قالتها “فريال” بصوتها الرقيقة ملقية عليه التحيّة
ضمّ الرجل كفيّه معًا أمام وجهه معربًا عن تأثره و هو يقول :
-فريال هانم.. فريال هانم المهدي.. انا مش مصدق عنيا.. بعد كل السنين دي بشوفك تاني !
عبست “فريال” و لا زالت مبتسمة و قالت :
-كنا نعرف بعض !؟
هز الأخير رأسه.. إلتمعت عيناه و هو يجاوبها :
-أصغر بنت في الإسكندرية.. قصر المنتزه في حفلة ملكات الجمال سنة 86.. قدّمتك على المسرح و بعد الإعلان عن النتيجة لبّستك التاج بإيدي.. وقتها صورنا مع بعض غرّقت الجرايد.. معقول لسا مش فكراني ؟
أضاء الإدراك تعابير وجهها و هي تصيح بذهولٍ بغتةً :
-حسيـــــن !!!
تصافحا على الفور بحرارةٍ كبيرة.. كان المشهد كفيلًا بجذب أعين الحضور قاطبةً.. بينما تستطرد “فريال” بعدم تصديق :
-أما مفاجأة صحيح.. مش معقول.. حسين عزام.. ده انا انسى أي حد الا انت بجد.. مش الحفلة بس اللي ربطت بينا يا حسين ده انت كنت جارنا ..
أومأ “حسين” قائلًا بحنينٍ إلى زمنٍ خلى و لن يعود :
-و ياريت.. ياريتني فضلت جاركوا يا فريال هانم.. ياريتني ما سيبت الإسكندرية ابدًا.
عقدت حاجبيها مستغربة رنّة الإحباط بصوته و قالت :
-ايه يا حسين قلقتني جرالك ايه ؟
ابتسم “حسين” مبددًا انطباعها عنه و قال :
-و لا حاجة.. كله تمام.. المهم طمنيني عليكي انتي.. كنتي فين طول السنين دي ؟؟
-انت واقف في قصر البحيري.. قصري.
-قصرك !؟
-معقول ماعرفتش إني اتجوزت يحيى البحيري ؟ انت اللي كنت فين طول السنين دي !؟
رفع “حسين” حاجبيه و ردد مدهوشًا و محبطًا في آنٍ :
-يحيى البحيري صحيح.. ده كان دايما ماشي وراكي في أي مكان تروحيه و كان باين اعجابه بيكي.. للأسف انا مشيت و سيبت الإسكندرية بعد ما اتخرجت علطول.. كنت عامل حسابي ارجع.. بس ماحصلش نصيب.
فريال بفضولٍ : روحت فين طيب ؟ اخبارك كلها اتقطعت من وقتها.. الكل نسي حسين عزام.. الا انا طبعًا !
و قهقهت بطريقةٍ أطربت قلبه ..
راقبها لثوانٍ مبتسمًا.. ثم قال :
-انا نزلت القاهرة.. عشان ابدأ اول مشروع ليا بالشراكة مع واحد صاحبي من الجامعة.. بدأته فعلا.. بس و انا شغال فيه و مش عارف ازاي كل ده حصل.. اتجوزت و خلفت 3 عيال.
فريال بابتسامةٍ مشرقة :
-ما شاء الله.. اكيد بقيت جدو يا حسين.
امتلأت عيناه شجنًا و فتح فاهِ ليرد عليها.. و لكن أتى صوتًا مميزًا للغاية و قاطعه :
-فريال هانم بنفسها بترحب بالوجوه الجديدة.. مش جديد عليكي يا ماما !
تطلّعت “فريال” من فوق كتف “حسين”.. لترى ابنها بجواره صديقه “مراد”.. كلاهما بدت عليهما مظاهر الحنق و التوتر ..
و كانت عينيّ “عثمان” معلّقةً بيد أمه الذي لا يزال في راحة الضيف الغريب و قد أطبق عليها بشكلٍ ما برح يستفزه منذ أول وهلةٍ …
-عثمان ! .. هتفت “فريال” بحبورٍ
و نظرت إلى “حسين” مكملة :
-تعالى يا حبيبي اعرفك على ضيفنا حسين بيه عزام.. حسين.. ده ابني.. عثمان البحيري.
الآن يترك “حسين” يدها.. ليستدير صوب “عثمان”.. و يُفاجأ للحظاتٍ ما إن يرى “مراد” معه.. لكنه يبتسم ببساطةٍ و هو يمد يده للمصافحة :
-أهلًا أهلًا.. ما شاء الله.. ابنك راجل ملو هدومه يا فريال.. ده انا كأني واقف قصاد يحيى البحيري.. شبهه أوي !
تشكلت ابتسامة باهتة على ثغر “عثمان”.. مد يده و صافح ضيفه على عجالةٍ.. ثم نظر إلى أمه قائلًا :
-ممكن دقيقة يا فريال هانم ؟
ارتبكت “فريال” من سلوك ابنها.. أحسّت بحرجٍ من معاملته الجافة للضيف.. لكنها أومأت له و اعتذرت من “حسين” قائلة :
-حسين.. بعد اذنك.. شوية و راجعة لك تاني اوعي تمشي قبل ما اشوفك.
طمأنها “حسين” بهدوءٍ :
-أكيد يا فريال.. لازم اشوفك قبل ما امشي.
تجاوزه “عثمان” ماضيًا نحو أمه.. أخذ بيدها و سار بها مبتعدًا ..
ليبقى كلًا من “حسين عزام” و “مراد أبو المجد” وجهًا لوجه.. بعد سنواتٍ طويلة.. حانت ساعة اللقاء …
**
-ممكن اعرف مين الراجل ده ؟ .. تساءل “عثمان” ما إن ابتعد بأمه عن ذاك الغريب بالقدر الكافِ
أبدت “فريال” انزعاجها في هذه اللحظة قائلة :
-عثمان.. ايه الأسلوب الحاد اللي بتتكلم بيه ده ؟
انت احرجتني قصاد الضيف.. ليه عملت كده !؟
كزّ على أسنانه متمالكًا عصبيته بصعوبةٍ و قال بهدوءٍ متكلّف :
-فريال هانم.. جاوبيني من فضلك.. مين الراجل ده و ازاي تسمحيله يمسك إيدك بالشكل ده ؟؟؟
نظرت له بذهولٍ و قالت :
-انا مش مصدقة اللي بسمعه منك.. الراجل ضيفنا.. و كان جاري في بيتي القديم اللي كنت ساكنة فيه مع بابا و ماما قبل ما تجوز ابوك.. بقالي سنين ماشفتوش و كان بيسلّم عليا.. ايه اجرمت ؟ و لا عمرك ما شوفتني بسلّم على حد !؟؟؟
عثمان بحنقٍ : و الله السلام بالإيد بالنسبة لي مش ضروري.. و حتى لو حصل بيكون لثوانٍ.. انا عيني كانت متابعة الموقف من أوله و شوفته ماسك إيدك و مش هاين عليه يسيبها !!
أفلتت منها ضحكة صغيرة مستنكرة.. و ردت عليه :
-عثمان.. انت بتكلمني انا صح ؟ انت عايز تقول ايه انا مش فاهماك !!!
سحب نفسًا عميقًا ليهدأ قليلًا.. ثم قال :
-فريال هانم.. انا راجل.. قدّري موقفي.. الراجل ده كان بيبص لك بطريقة انا فهمتها.. و سبحان اللي صبرني عليه ..
هزت رأسها و هي تقول مجفلة :
-يا حبيبي ماحصلش حاجة.. و الله ما حصل حاجة.. كان بيسلّم عليا و بندردش مش اكتر.. ايه يا عثمان انت مش عارف امك ؟
انحسر غضبه كله في لحظةٍ عندما رمقته بنظرةٍ دلّت على خيبة أملها فيه.. تنهد بحرارةٍ و اقترب منها ممسكًا بيديها و هو يقول بلطفٍ :
-ماما.. انا كنت بغير عليكي من بابا.. و مش بستحمل اشوف حد يبص لك.. عندك حق دي مش اول مرة تتعاملي مع رجالة.. بس صدقيني لما اقولك نظرة الراجل ده ليكي مش تمام.. صدقيني.
ابتسمت بخفةٍ.. مسّدت باطن كفّه بإبهامها قائلة :
-اوكي مصدقاك طبعًا.. بس المهم ثقتك فيا انا.. و انك تكون متأكد ان من بعد ابوك مافيش راجل يقدر يوصل لقلبي.. و لا حتى يطلع لمستوى الاعجاب.. خلاص يا عثمان أصلا مابقاش ينفع.. الحقيقة دي كانت لازم تهدّيك !
عثمان بجدية : حقيقة ايه ؟ انتي اللي لازم تعرفي اني طول الوقت بصد عنك بلاوي.. طبعًا محدش يقدر يقف قدامي و يجيب سيرتك بس الكلام بيوصلني.. انتي لسا حلم أي راجل يا فريال هانم.. بس كلهم عارفين.. انتي بتاعتي انا.. بتاعتي.. انا !!
وافقته “فريال” متمتمة :
-طبعًا.. انا مش عايشة غير عشانك انت اصلًا.. ربنا يخليك ليا يا حبيبي.
حنى رأسه ليقبّل يديها.. ثم نظر لها من جديد و تساءل بخفوتٍ :
-بس قوليلي.. انتي اللي عزمتي الراجل ده على الحفلة ؟
تنهدت “فريال” بنفاذ صبرٍ و أجابت :
-لأ.. مش انا اللي عزمته يا عثمان ارتحت ؟
_______________
القاعة المفتوحة فاخرة للغاية ..
هذا كل ما طرأ على خاطر “رحمة جابر” ما إن عبرت أبواب قصر عائلة “البحيري” متأبطة ذراع خطيبها.. و حارسها الشخصي في آنٍ “إبراهيم النشار” ..
خوفها و هاجسها يتحقق الآن.. ترى مع كل خطوة تخطوها.. أنوار خافتة مرافقة لموسيقى هادئة.. الحضور من الطبقة الأرستقراطية.. أفراد لامعة من الجنسين.. يتنقلون بين المجموعات و يتبادلون الأحاديث ..
و فجأة تلتفت أنظارهم إليها.. و كأنها نجمةً ساطعة أضاءت المكان بنورٍ مُبهر ..
تظهر “رحمة” أمامهم أكثر.. امرأة في أوائل الأربعينيات.. جمالها يتحدث عن نفسه.. تحمل ملامح نضج و ثقة تامّة في مظهرها.. ترتدي فستانًا طويلًا من الحرير الأسود اللامع.. يلتف حول جسدها بانسيابيةٍ تامة.. مُصمّم بأناقة ملفتة للأنظار.. الفستان يحتوي على تطريز ناعم عند الياقة و الأكمام.. و كأنها اختارت أن تكون باذخة دون أن تبالغ.. شعرها المربوط بتسريحة بسيطة يضيف إلى جمالها هالة من الرقي.. بينما أحمر شفاهها الصارخ يعكس شخصيتها الجذّابة ..
بجانبها.. يمشي إبراهيم.. في أواخر الثلاثينيات.. طويل القامة.. ذو ملامح حادة و وجه عابسٌ قليلاً.. يرتدي بذلة أنيقة باللون الأزرق الداكن تبرز معالم جسمه الرياضي.. يبدو واثقًا للغاية.. عيناه لم تترك نظرة واحدة عن أي شخص في القاعة.. كأنّه يقيس درجة أمان المكان بحكم وظيفته.. و لكنه انبهر بمستوى الآمان المحيط به.. كل شيء مثالي هنا.. كل شيء حرفيًا ..
-ماتقلقيش.. كله هايعدي !
قالها “إبراهيم” و هو يمشي بثقةٍ.. صوته هادئ لكن معبر.. و أكمل :
-احنا جايين نكون جنب شمس و جزء من عيلتها.. مش مجرد مشاهدين.
ردت “رحمة” بابتسامة شبه هادئة.. لكنها تُخفِي الكثير من الأفكار :
-الأهم من ده كله.. اننا نكون هاديين قدام الناس دي و مانخليش أي حاجة تخرج عن سيطرتنا.
مع كل خطوة.. تبدو الأعين تلتفت نحوهما.. خاصةً عندما يصطدمان بنظرات الحضور المشحونة بالمشاعر.. الجميع يراقب.. و لكن لا أحد يجرؤ على الاقتراب.. نظرات الحضور بين الفضول والدهشة ..
يستطرد “إبراهيم” بلغة جسده الواثقة.. لا يبدل من تعبير وجهه.. يحرك رأسه بعناية لـ”رحمة” :
-خليكي معايا.. في حفلة زي دي.. الحاجة الوحيدة اللي تهم هي انك تبقي مطمّنة للي حواليكي.
تبتسم “رحمة” بارتياحٍ.. لكن ما بداخلها شيءٌ آخر.. فهي تعرف أن حضورها هنا ليس مجرد احتفالية.. بل إعادة ترتيب للأوراق العائلية ..
تقول “رحمة” في نبرة ساخرة.. لكنها مستمتعة بما يحدث :
-مش جاي في بالي دلوقتي غير اللي بيدور في أفكار الناس دي عني.. تخيّل معايا.. اخيرًا شافوا الست اللي خطفت يحيى البحيري من مراته الجميلة بنت الحسب و النسب !
إبراهيم بنظرة جادة الآن :
-خلينا نكون فوق المستوى ده.. احنا هنا علشان نثبت وجودنا.. مش علشان ندور على مشاكل. و دي بداية جديدة.. لينا كلنا.
بينما يتحركان نحو مكان مخصص لهم وسط الحضور.. يتلاقى نظر “رحمة” مع “فريال هانم” التي تلاحظها و تنظر إليها بنظرةٍ باردة.. تبدو متأملة.. و كأنها تحاول تحديد نواياها ..
تبتسم “رحمة” ابتسامة مصطنعة.. لكنها مشحونة بالمشاعر و تلقي التحيّة على “فريال” حيث وقفت على مقربةٍ منها :
-مساء الخير يا فريال هانم.. شوية و هاجي اكون معاكي.
رمقتها “فريال” بنظرة شديدة البرود.. محاولة إخفاء مشاعرها :
-أكيد.. رحمة.. نورتي !
و لم ترمق مرافقها مطلقًا.. عادت لتستكمل حديثها العالق من إحدى ضيوفها.. بينما تتنفس “رحمة” الصعداء.. ثم تسمح لخطيبها بإلهائها عن كل ما يدور حولهما ..
رغم إن المشهد ينقل مشاعر التوتر المتبادلة بين الشخصيات.. فكل نظرة.. وكل كلمة.. تحمل وراءها طبقات من الصراع العائلي و المشاعر المخبأة.. حضور رحمة و خطيبها يفتح الباب لتساؤلات كثيرة.. و كل فرد في القاعة يبدو كأنه يتساءل عما سيحدث بعد ذلك …
_____________
وصل الضيف المنتظر.. الذي كان “عثمان البحيري” بنفسه يترقب وصوله ..
رحبّ به بشدة و أخذه إلى طاولته المخصوصة.. جلسا معًا و ضايفه بسخائه الشهير مرددًا مرحٍ :
-فارس الزيني شرّف.. الإسكندرية اليوم في عيد !
ضحك “فارس الزيني” بانطلاقٍ و رد متناولًا كأس شرابه البريئ :
-و الله واحشني يا عثمان.. ده بقالنا اد ايه ماشوفناش بعض ؟
-لا بقالنا كتير يا بيه.. انت حتى اجتماعات النقابة بطلت تحضرها.. ده انا مستحلف لك.
-صدقني غصب عني.. انت ماتعرفش ظروف عيلتنا في الفترة الأخيرة.
تنهد “عثمان” و هو يومئ له بتفهمٍ متضامن :
-سمعت.. سمعت يا فارس.. و لا يهمك.. كله هايعدي.
و يلاحظ “عثمان” شقيقته في هذه اللحظة.. فكأنها مساعدات قدرية.. يشير لها بيده لتأتي ..
يتتبع “فارس” اشارته.. ليراها قادمة.. امرأة تبدو في منتصف الثلاثينات.. جميلة جدًا بملامحها الجذابة.. شعرها الكستنائي قصيرٌ جدًا قد أحاط بوجهها تمامًا.. و فستانها البسيط لكن الأنيق يعزّز جاذبيتها ..
تصل الآن و تقف بجوار شقيقها.. يبتسم “عثمان” ابتسامة خفيفة.. ثم يتوجه حديثه لـ”فارس” :
-فارس.. اكيد سمعت عنها.. دي أختي صافي.. صافي.. ده فارس الزيني.. الراجل اللي زي ما تقولي.. مافيش حاجة في السوق ما يعرفهاش.
نظر “فارس” إلى “صفيّة” مادًا لها يده للمصافحة.. و علّق و هو يشملها بنظراتٍ متفحصة.. مشدوهة و لا يزال مبقيًا على يدها الصغيرة بكفّه الكبير :
-إزاي الجمال ده كله ماكنتش تعرف بيه طول السنين دي يا عثمان !؟
رفع “عثمان” حاجبيه مرددًا بتفكّه :
-لأ انت إللي حياتك كلها كانت عبارة عن شغل و بس عشان كده ماكنتش فاضي و لا شوفت غير وشوش رجالة و بس.. دي أختي صفيّة يا فارس.. شمس لسا نازلة هناك أهيه !
لم يعير “فارس الزيني” ظهور نجمة الأمسية أيّ انتباه.. فقد استحوذت “صفيّة البحيري” على جلّ اهتمامه ..
ليستطرد متمتمًا و هو يرفع يدها ليطبع قبلةً رقيقة فوق بشرتها الناعمة :
-لما كنت ولد صغير شوفت أجمل ست في حياتي كلها في حفلة زي دي في البيت ده.. الست دي كانت فريال هانم
الليلة دي أنا بشوفها تاني قصاد عيني.. أصغر و أجمل و أنعم بكتير !!
أجفلت “صفيّة” مرتبكة قليلًا لسماع اطراؤه.. و خاصةً لمجيئ الاطراء من شخصٌ مثله هو.. فكما ترى.. إنه رجل… جذّاب !
“فارس الزيني”.. يمتلك وجهًا رجوليًا بملامح حادة.. ممّا يمنحه هيبة و قوة غير ظاهرة.. عيناه داكنتان كأنهما عميقتان.. مليئتان بالحكمة و التجارب الحياتية.. ويُشعر من يراه أنه يراقب كل شيء حوله بعناية.. بشرته داكنة قليلاً.. متناسقة بشكلٍ جميل مع ملامحه.. و فمه مُرَكَّب بشكلٍ دقيق كأن هناك دائمًا ابتسامة خفيّة على وشك الظهور.. حين يبتسم.. يظهر بريق خفيف في عينيه يوحي بثقة كبيرة.. شعره أسود داكن.. قصير و مُمشط بعنايةٍ ليعكس أسلوبه الفاخر و المُرتَّب.. مع لمسةٍ من العصرية التي تبرز تفرده ..
جسده متناسق.. قامته ربما تتجاوة الـ180 سم.. له بنية عضلية خفيفة تُظهر القوة و اللياقة البدنية التي يتمتع بها.. لكنه لا يبدو مبالغًا فيه.. يتحكم في انطباعه و يعكس الثقة في نفسه ..
يرتدي بذلة فاخرة.. مُصممة بأحدث الموضات و أعلى الخامات.. داكنة السواد.. ممّا يبرز هيبته.. و جاءت مقاساتها متقنة لتظهر جسده بشكلٍ مناسب دون أن تكون ضيّقة أو فضفاضة.. مع قماش ناعم أسود يتناغم مع لون بشرته.. أما القميص الأبيض النقي فهو مفتوح عند الرقبة قليلاً ليُظهر جزءًا من أناقته البسيطة.. لا يوجد رباط عنقٍ.. مما يضيف لمسة من الراحة والعصرية على مظهره.. و على معصمه يُمكن رؤية ساعة فاخرة تُظهر ذوقه الرفيع …
يستطرد “فارس” بنبرةٍ محترمة و مهذبة.. مع ابتسامة دافئة موجهة لـ”صفيّة” :
-اتشرفت بيكي يا صافي.. و فعلًا سمعت كتير عنك.. لكن مش هو ده اللي هايرد على الصورة اللي سمعتها.. أكيد كلنا عندنا شخصيات تانية بنخبيها.
يُظهر لها اهتمامًا واضحًا.. ولكنه يتحدث إليها بلطفٍ شديد ..
تبتسم “صفيّة” بهدوء.. لكنها تشعر ببعض التوتر.. لاسيما أن الحديث يدور حولها منذ انضمّت لهما :
-شكرًا.. فارس.. بس أكيد أنا مش زي ما سمعت.. يمكن أقرب لكوني شخص عادي زي أي حد تاني.
ينقل “عثمان” ناظريه بينهما مراقبًا الأجواء.. و يقول بغتةً و هو يحاول تبديد شيء من التوتر الملحوظ :
-فارس صريح اوي يا صافي.. و ذكي جدًا أي حد بيبقى مستمتع بالحوار معاه.. زي ما بنقول عنه هو عقل السوق.. عشان كده تلاقيه دايمًا عملي في كلامه عامةً.
يلوح “فارس” بيده ضاحكًا.. و كأنّ كلمات عثمان موجهة للجميع بشكل غير مباشر و لكنها في الحقيقة تدور حوله هو :
-ممكن تتكلم عني بصراحة يا عثمان و لا يهمك.. انا مش قصدي أكون جد اوي.. أنا بس بحاول أكون واقعي.. مافيش حاجة أهم من الحقيقة.. بس الحقيقة دي بتختلف من شخص للتاني.. يعني كل واحد عنده زاويته الخاصة.
بنظرة هادئة.. تُلاحظ “صفيّة” كيف يُسلط “فارس” كل انتباهه عليها.. و قالت :
-ده ممكن يكون صحيح.. بس تعتقدوا ان الناس بتقدر دايمًا تشوف الصورة الحقيقية ؟ يمكن في حاجات مش بتبان من أول وهلة.
يبتسم “فارس” ابتسامة مُعجَبة.. و تزداد لهجته لباقة :
-أكيد.. في كتير مننا بيخبي جوانب في شخصيته عشان الدنيا مش دايمًا بتسمح بالحقيقة المطلقة.. لكن لما تلاقي حد ممكن يفهمك بدون ما تتكلم.. ده بيكون شيء نادر.
تتغيّر نظرة “عثمان” قليلاً.. يتابع الحوار و لكن يبدو في ذهنه شيء آخر.. ثم يقول بصوته الهادئ :
-عندك حق يا فارس.. بس الصراحة.. انا متأكد ان صافي شخص واضح جدًا.. يعني لو هي قررت حاجة مش هتغير رأيها بسهولة.
و كأنه يرمي كلامًا يهدف لشيئًا ما ..
انتبهت “صفيّة” لذلك.. لكنها عمدت إلى صدّ محاولات أخيها فورا.. ضحكت بخفّة بخفّة قائلة :
-أظن ده صحيح يا عثمان.. بس مش دايمًا الواحد بيحب يقول رأيه بصراحة قدام الكل.. أحيانًا ممكن يكون أحسن لو الواحد بيسكت شوية.
يلاحظ “فارس” التوتر البسيط في كلام صافي.. و تبدأ ملامحه تبرز قليلاً من وراء ابتسامته :
-في الحقيقة.. السكوت مش دايمًا حل.. يمكن أوقات بيكون مفتاح للكلام الصحيح.
أحسّ “عثمان” بتوتر قليل.. يعيد ضبط جلسته الآن و يغير الموضوع بتهذيبٍ :
-على العموم.. أنا سعيد انكم قابلتوا بعض.. فارس مش بس رجل أعمال يا صافي.. ده كمان شخص يعرف يقرا الناس بشكل رهيب.
هزت “صفيّة” كتفيها قائلة :
-يمكن.. بس في ناس ممكن يتسرعوا في الحكم على الآخرين.. يمكن احسن ما نعرفش كل شيء عشان نقدر نقرا الناس بشكل دقيق من نفسنا.
بتعبير مختلف الآن.. يُظهر “فارس” اهتمامًا أعمق بها و هو يقول :
-انتي عندك نظرة حادة يا صفيّة.. ده شيء نادر.. بس زي ما قلت.. الناس مش دايمًا بتشوف الصورة زي ما هي !
بدا “عثمان” و كأنه يشعر بتفاقم التوتر في الجو بينهما.. فيحاول قطع الحديث بهدوء :
-تمام.. تمام.. النقاش ده كان ممتع جدًا.. و لكن عايز أعرف رأيك يا فارس في المشاريع الجديدة اللي بنشتغل عليها.. ممكن تكون فرصة كويسة لينا.
تنهد “فارس” متحولًا بتركيزه إلى عثمان.. وكأنه يودّ توجيه الموضوع بعيدًا عن الحديث عن “صفيّة” :
-موافق طبعًا.. خليني أسمع أكثر عن مشاريعك.. وفي النهاية نقدر نحط خططنا سوا.
و ينتهي الحوار المتأجج إلى هنا بالفعل.. بينما يظل التوتر بين “صفيّة” و “فارس” واضحًا.. رغم محاولة عثمان تهدئة الأجواء.. “صفيّة” تلاحظ نوعًا من الاهتمام الذي يوجهه “فارس” تجاهها.. و هذا يشعرها بالحذر.. في حين أن “فارس” يبدأ في التأثر بشخصيتها دون أن يظهر ذلك بشكل صريح ..
_____________
الساعة تقترب من منتصف الليل.. الضيوف بدأوا في التوافد أكثر.. و كل الأنظار على شمس.. التي خطفت القلوب بجمالها.. يبدو كأنها ملكة في وسط القاعة ..
كانت تشعر بمزيج من التوتر والانبهار.. فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها أمام الجميع بهذه الطريقة.. و هي في قلب القصر الذي أصبح الآن ملكًا لأخيها بعد وفاة والدها و بعد أن حرمها “يحيى البحيري” الإرث فيه.. و قد دفع “عثمان” بقيّة العائلة للتنازل عن نصيبهم لقاء مبالغٌ طائلة.. هذا ليوّرثه لأولاده خالصًا لأجلهم ..
وقفت “شمس” بين أمها و زوجها المستقبلي.. رغم الضوء و الابتسامات.. كان في قلبها شيء يثقلها ..
كانت تحس بأن “رامز” معها.. إحساس غريب.. حدس يُلح عليها بأنه قريبٌ جدًا مع إنها تعلم يقينًا بأن هذا مستحيل.. لأن أخيها قد احطاط كثيرًا و بالغ بتدجيج القصر بالحراسة المشدّدة ..
حبيبها.. ربما زوجها.. “رامز الأمير” دائمًا ما يثير فيها مشاعر التمرد.. و يجذبها نحو عالمه المظلم.. لكن هذه المرة كان الوضع مختلفًا ..
إنها خائفة ..
لاحظتها “رحمة” التي كانت تضحك على دعابة همس بها “إبراهيم” في أذنها.. تلاشى مرحها قليلًا عندما رأت ابنتها تنظر حولها.. و كأنها تشعر بشيء غير مريح في الأجواء …
-مالك يا شمس ؟
إلتفتت “شمس” إلى سؤال أمها.. رمشت بأجفانها قائلة بصوتٍ مرتبك :
-مافيش.. أنا كويسة يا مامي.
رحمة بشكٍ : Sure ?
أومأت “شمس” : Sure !
ثم سحبت نفسًا عميقًا.. و قالت :
-انا بس محتاجة ابعد عن الدوشة.. راسي وجعتني.
عبست “رحمة” بجزعٍ قائلة :
-طيب يا حبيبتي.. ماتجيش على نفسك.. ادخلي جوا ريّحي شوية.. تحبي اجي معاكي ؟
هزت “شمس” رأسها :
-لا لأ.. انا هادخل شوية و راجعة تاني.. شوية بس مش هتأخر.
و هبطت عن المقعد الطويل.. استدارت متوجهة إلى المنزل.. حقًا تشعر بالتعب ..
و لكن يأتي أخيها فجأة من العدم.. يستوقفها واقفًا بوجهها :
-على فين يا شمس ؟
أجفلت “شمس” مجيبة في الحال :
-تعبت شوية.. قلت ادخل ارتاح.. و كنت هاخرج تاني !
همهم متفهمًا و هو لا ينفك يشملها بنظراتٍ مدققة.. ثم قال فجأة :
-ايه رأيك في الحفلة ؟ كله تمام ؟
تبتسم “شمس”.. لكن هناك قلق في عينيها :
-الحفلة جميلة.. شكرًا يا عثمان.. بس مش عارفة ليه حاسة ان في حاجة مش مظبوطة.
تنظر حولها بحذر ..
يعقد “عثمان” حاجبيه معقّبًا على كلماتها بصوته القوي :
-مفيش حاجة.. كل حاجة تحت السيطرة.. انتي قلقانة من حاجة معيّنة ؟
هزت رأسها نفيًا و هي تقول بتوتر :
-لأ.. مافيش حاجة معيّنة.. يمكن عشان الأجواء دي جديدة عليا.. أو مخضوضة من نظرات الناس !
عثمان بوجوم : يمكن.
ابتسمت له ابتسامة مرتجفة.. ثم اعتذرت منه و استأنفت سيرها تجاه المنزل.. و لكنها شعرت بنظراته تتبعها طوال الوقت.. حتى اختفت تمامًا عن ناظريه ..
في هذه الأثناء.. كان قد دخل بالفعل محتالًا على إحداهنّ.. لم يكن مدعوًّا.. و لكن هناك الكثيرات ممن يردن مرافقته إلى حفلةٍ كهذه.. و هو ما استغله بمنتهى السهولة ..
أيّ من كانت رفيقته فقد تركها منذ دقائق.. لم يره أحد.. بينما كان يقف ليراقبها من على بُعدٍ.. كانت تستمتع بلحظتها.. و لم تغفل عنها عيناه لحظةً.. يرى كيف أن المهرجان حولها يزداد صخبًا.. لكنه كان يعلم أن الوقت قد حان ليأخذها بعيدًا عن الجميع.. الليلة.. الآن.. عندما تحرّكت شاقة طريقًا للعودة داخل المنزل ..
يردد بهمساتٍ لنفسه :
-“دلوقتي.. أنا لازم اخذها.. مش هاينفع أستنى أكتر!”.
و وسط الحشد.. كان القصر يعج بالضيوف.. و كان الصخب يصعَّب على الجميع الانتباه للأشياء التي تحدث في الزوايا المظلمة.. هذه و لا ريب فرصته …
____________
يزداد شعور “شمس” بالتعب ..
مع الإحساس الحاد بشيء غريب.. تتمشى بجانب الممرات الداخلية للقصر..
وفجأة.. بينما كانت تسير في الممر الهادئ المُفضي إلى البهو الشاسع.. شعرت بشيء ثقيل يضغط على قلبها.. كاتن هناك ظلال تتحرك خلفها.. و قبل أن تستطيع التصرّف.. شعرت بأيدٍ قوية تمتد إليها من الخلف.. وتمسك بذراعها بشدة ..
تأهبت لتصرخ ملء حنجرتها.. إلا إن كفٌ غليظة أطبقت على فمها.. و فمٌ مألوف إلتصق بأذنها قائلًا بصوتٍ خافت و غاضب :
-هاتيجي معايا.. دلوقتي !!!
الإدراك ..
إنه هو.. إنه هو “رامز”.. “رامز الأمير” …
تحاول “شمس” أن تسحب يدها بعنفٍ.. و لكن يد “رامز” كانت أقوى بكثير.. و بالكاد رفع كفّه قليلًا عنه فمها ليسمع ماذا أرادت أن تقول.. لكنه كان شديد الحرص في آنٍ :
-رامز ! مش معقول.. انت هنا بجد !؟؟
و ملأت الدموع عيناها ..
لولاها ما رقت قلبه لها …
لم يتركها.. لكنه سمح لها بالالتفات و ضمّه بقوةٍ و هي تبكي مغمغمة :
-آااااه.. وحشتني.. انا.. انا كنت بموت.. كل يوم منغيرك.. انا مش قادرة ابعد عنك اكتر من كده.. وحشتني.. حبيبي ..
يغمض “رامز” عينيه بشدة.. يلف ذراعه حولها و يجذبها إلى أحضانه في عناقٍ قويًا.. و يهمس :
-شوفتي وصلنا لفين ؟ شوفتي لما سمعت كلامك ايه اللي حصل ؟
و انتي عارفة اني مقدرتش و لا قادر أعيش منغيرك !!
ترفع “شمس” رأسها لتنظر إليه.. تبتسم.. عيناها تتلألأ بدموع الحب :
-أنا كمان.. مش قادرة أعيش منغيرك.. بس خايفة من أخويا.. خايفة عليك.. خايفة من كل حاجة ..
يسحبها “رامز” نحوه بقوة.. يدها في يده.. و كأن الدنيا توقفت للحظةٍ :
-انتي هاتيجي معايا.. دلوقتي.. مش هاتكوني ملك لغيري.
تهتز “شمس”.. لكنها تستعيد قوتها و تبتعد خطوة :
-لا يا رامز.. مافيش حاجة هاتغير من الواقع.. عثمان مش هايسكت لك.
و لكن قبل أن تتمكن من الرد أو الابتعاد.. بدأ “رامز” يُظهر غضبه.. كانت عينيه تشتعل.. و هو يضغط أكثر على يدها و كأن لا مفر من خطته …
-إنتِ ملكي ! .. قالها بصوتٍ منخفض حاد.. و تابع :
-شمس.. مافيش حاجة هاتمنعني.. و أنا هاخدك معايا و دلوقتي.. حتى لو غصب عنك.
تتّسع أعين “شمس” و تتجمد في مكانها و هي تصرخ بقلقٍ :
-رامز.. لا.. مش هاروح معاك.. مش هاتعمل كده !!!
لكنه كان قد قرر بالفعل و منذ فترةٍ ..
في لحظة اندفاعٍ.. قام بسحبها بعنفٍ نحو باب القصر الخلفي.. غير مهتم بأيّ شيء آخر ..
______________
في تلك اللحظات.. كان “عثمان” قد لاحظ تحرّكات “رامز” منذ البداية.. و كان يقف في زاوية القاعة يراقب عن كثب.. و عيناه على أخته شمس.. بمجرد أن شعر بحركة غير طبيعية و توجه رامز نحوها.. شعر بشيء سيئ في قلبه.. كان يعرف تمامًا نوايا “رامز” ..
تركه يتسلل إليها.. و بقى يراقب ما يجري بينهما من الخارج و لكن بطريقة تتيح له سماع كل كلمةٍ دارت بينهما.. حتى احتد الحوار و تأكد من شكوكه حول نوايا صديقه الغادر ..
قرر “عثمان” التحرك بسرعة.. أخرج هاتفه مستدعيًا طاقم الحراسة و عينيه مليئة بالغضب ..
___________
-راااامز.. عشان خاطري.. بلاش.. ده مش صح.. ده مش صح !!!
لا يرد “رامز” أبدًا على أيّ من توسلات “شمس” ..
فقط يربط يديها خلف ظهرها بسرعة و يضغط على صدرها.. بينما يجرّها للخارج عبر الممرات الخلفية للقصر.. رغم مقاومتها.. كانت تحاول التحرر و لكن كان من الصعب عليها الهروب.. إذ كانت أيدي رامز كالحديد ..
سحبها عبر الزوايا المظلمة للقصر الذي يحفظه جيدًا.. في قلبها خيبة أمل.. لكن في نفس الوقت كانت هناك رغبة لا يمكن إخفاؤها من داخلها.. رغبة غريبة جعلتها تتحمل ما يحدث.. كأنها أسيرة لعواطفها ..
تمتمت “شمس” بحزنٍ.. و بصوتٍ منخفض :
-ليه يا رامز ؟ ليه كل ده ؟
و كأنها تطرح السؤال على نفسها حقيقةً.. تتنفس بصعوبة.. تشعر بشيء ثقيل في قلبها ..
تنبلج ابتسامة قاسية على وجه “رامز” و هو يلقي نظرةً عليها ثم يهمس بحذر :
-عشان احنا مخلوقين لبعض.. مش هاتهربي مني أبدًا ..
-اقف عندك يا رامز.. مكانك. مش هاتخرج بيها !!!
هكذا قبل أن يقتربا تمامًا من البوابة الضخمة المواربة ..
كان واضحًا.. صوت “عثمان” منخفضًا و حازمًا بنفس الوقت ..
يتوقف “رامز” لحظة سماع صوته.. ثم يلتفت له بابتسامةٍ ساخرة.. يقول و هو ينظر إليه بتحدٍ :
-أنت مش هتقدر توقفني يا عثمان.. شمس دي ملكي.. و محدش هايقدر يمنعني اخدها.
يصوّب “عثمان” إليه نظرةً مليئة بالغضب و العزم.. يقترب أكثر قائلًا :
-انت جذورك مقطوعة.. و مالكش عزيز.. عشان كده ماتعرفش يعني ايه اخ يحمي اخته.. هاتوقف كل ده هنا يا رامز.. و هاتدفع التمن لو حاولت تعصى كلامي.
يضحك “رامز” بسخرية وهو يضغط على يد “شمس”.. وجهه مليء بالغضب و هو يقول :
-أنت فاكر انك هاتوقفني صحيح ؟ انا اخدت شمس من قبل كده.. ومحدش قدر يوقفني..و لا أنت.. و لا أي حد تاني.
يقترب “عثمان” أكثر مقتحمًا المسافة بينه و بين “رامز”.. و يتحدث بنبرةٍ صارمة :
-انت مش هاتخرج من هنا بيها يا رامز.. و اعتبر ان دي اخر مرة هاسمح لك تتخطى حدودك مع اختي.. مش هاسمح لك تجرّها معاك في حياة كلها ضلمة و قذارة.
يقوم “رامز” بسحب “شمس” إليه.. يهمس في أذنها بقوة :
-هانخرج مع بعض.. شمس.. ده وقتنا.. دي حياتنا و هانعيش مع بعض زي ما احنا عايزين !
في تلك اللحظة.. تشعر “شمس” بأن قلبها يتقطّع بين الولاء لأخيها و حبها لـ”رامز”.. كان كل شيء يدور في ذهنها بسرعة.. و كل خطوة نحو مصيرها المحتوم تشعرها بمرارة أكبر ..
تبدأ “شمس” في البكاء.. صوتها يكاد يكون غير مسموع من شدة الخوف و الضغط الداخلي :
-رامز.. اخويا.. ارجوك.. مش عايزة اخسره.. مش هقدر اكون معاك و اخسر عيلتي.. مش هقدر اكون كده.
و هي تمسك بيدها على قلبها.. محاولة أن تمنع نفسها من الانهيار ..
يشد “رامز” يدها بقوة.. محاولًا أن يبتسم ليطمئنها.. و لكن هناك غضب يتصاعد في عينيه :
-انتي ملكي.. مش هقدر أعيش منغيرك.. مش هاتسبيني يا شمس.
يحاول “عثمان” أن يظل ثابتًا.. و عينيه تتوهجان بالتصميم و القوة و هو يهتف بصرامةٍ :
-انسى.. مالكش أي فرصة معاها.. أنا هنا عشان أوقفك.
بحركة مفاجئة.. يدفع “رامز” بـ”عثمان” و يعصر يده على معصم شمس مزمجرًا :
-هاخدها.. و ده أخر كلامي.
بغضب شديد يثبّت “عثمان” نفسه.. ثم يهجم عليه بكل قوته صائحًا :
-يبقى ده فعلًا هايكون اخر كلامك !!
ثم حدث ما لم يتوقعه رامز.. “عثمان” بكل قوته.. دفعه بعيدًا عن “شمس” ..
كانت ضربة حاسمة.. و كان “رامز” غير قادر على المقاومة.. سقط على الأرض بشكلٍ عنيف.. بينما كانت شمس تقف متجمدة في مكانها.. نظراتها مليئة بالدهشة والخوف ..
يظهر طاقم الحراسة في هذه اللحظة.. عشرة أفراد.. اندفع نصفهم ليكبّلوا “رامز” إلى الأرض.. و النصف الآخر أحاط بجانبيّ “عثمان” الذي بدا وسطهم كملكًا لا يُمس ..
تدخل “شمس” في حالة من الهلع.. و بينما كانت لا تستطيع أن تجد حلًا.. اندفعت فجأة نحو “عثمان” و حاولت أن تقف بينه و بين “رامز”.. يديها ترتجفان و هي تستجديه :
-أرجوك يا عثمان.. ماتعملش فينا كده.. انت مش عارف ايه اللي في قلبي.. انا بحب رامز.. مش عايزة اعيش منغيره.. هو مش زي ما انت فاكر.. انا مش عايزة اخسره !
و تسقط على ركبتيها.. عينيها مليئة بالدموع و الرجاء ..
ينظر “عثمان” إليها.. و يشعر بدموعها و هي تنهار.. لكن قلبه مليء بالتصميم و الحماية لها.. يضع يده على كتفها بقوة قائلًا بحزمٍ :
-شمس.. بكرة هاتشكريني لما تفهمي.. مش رامز الأمير اللي تستأمنيه على نفسك.. مش ده الراجل اللي اسمح له يعيشك في أي مكان ملكه.. انتي ماتعرفيهوش.. انا عارفه كويس.. مش هاتروحي معاه.. و انا هاحميكي حتى من نفسك.. المهم عندي دلوقتي حياتك و أمانك.. مش حاجة تانية.. أنا هنا عشانك.. لازم تصدقي ده و تثقي فيا.
تنهار “شمس” تمامًا.. تسقط على الأرض في حالة من الانهيار التام.. تبكي بشدة.. تتنفس بصعوبة و هي بالكاد تقول :
-مش قادرة يا عثمان.. مش قادرة اعيش كده.. بينكم أنا في وسط حرب.. مش هقدر اكمل كده.. مش هقدر !!
في تلك اللحظة.. “رامز” ينظر إليها بحزنٍ.. ثم ينظر إلى “عثمان” بغضبٍ مكبوت ..
يحاول التخلص من قبضات أفراد الحراسة.. لكنهم سرعان ما سيطروا عليه في لحظةٍ ..
ينظر “عثمان” إلى “رامز”.. و يقول بصرامةٍ :
-خلاص يا رامز.. لعبتك انتهت الليلة دي.. مش هتقدر تضرها تاني.. لو حاولت.. مش هتعيش تشوف تاني يوم.
يشعر “رامز” بالغضب.. يحاول أن ينهض لكنه لا يستطيع.. فيهسّ من بين أنفاسه :
-هاتشوف.. هاتشوف مين اللي هايتنهي يا عثمان.. مش هاسيب شمس طول ما انا بتنفس.. و مش هاتقدر تبعدها عني.
تعلو زاوية فم “عثمان” بابتسامةٍ ساخرة مستخفّة.. و يُخاطب “شمس” دون أن يحيد بناظريه عن صديقه :
-خلاص يا شمس.. انتي في أمان دلوقتي.. مش هاخليكي تروحي معاه.. ده كان اخر تهديد.. و لو اتكرر تاني كل اللي حصل هنا متسجل صوت و صورة.. يعني دافع القتل له مبررات جاهزة فعلًا.. المرة الجاية مش هاتردد و انا بحط سلاحي في قلبك !
و زحفت يده ليتحسس موضع سلاحه أعلى خاصرته.. لكنه لم يجد شيئًا ..
اختفى !!!
اتسعت عينيّ “عثمان” حين سمع صوت صمام سلاحه.. و استدار بلحظةٍ.. ليرى أخته تمسك به و قد وقفت على قدميها ..
تصوّب فوّهته إلى صدرها ممسكة به بكلتا يديها …
-شمس ! .. ناداها “عثمان” بتحذيرٍ دون أن يحرّك ساكنًا
تكهربت الأجواء في ثوانٍ.. و انتفض “رامز” مذعورًا ممّا يحدث.. لكنه أحس بالخرس ..
انسكبت دموع “شمس” بغزارةٍ و هي تحدق بأخيها قائلة :
-يارتني ما جيت.. يارتني سمعت كلام بابي.. يارتني ما اتلهفت عليك أوي كده يا عثمان.. شوفت ؟ انا اللي دمرت حياة الكل من ساعة ما ظهرت.. لازم احط حد لحياتي !
هتف بها “عثمان” بعنفٍ :
-إيـاااااكي.. سامعـة ؟ إيـاكي يا شمس.. حياتك مش ملكك عشان تحطي حد ليها !!!
شمس بسخريةٍ مريرة :
-أيوة.. حياتي ملكك انت صح ؟ انا اللي عملت في نفسي كده.. و لا تفتكر بابي هو السبب ؟ انا ماكنش ينفع اتولد أصلا.. انا جيت ضد إرادة الكل.. انا عبئ عليكوا يا عثمان.
هز رأسه قائلًا :
-مش صح.. انتي اختي.. انتي مهما حصل من دمي و انا بحبك.. حتى لو ماعشتيش معايا العمر اللي فات.. انتي حتة مني.. سيبي السلاح من ايدك.. أي مشكلة ممكن نحلها.. انا موجود في حياتك عشان كده.
تنظر له “شمس” و هي تبتسم ابتسامة باهتة و تعلّق :
-مشكلة !؟ المشكلة انك بتتعمد تضيع حياتي.. انت ضد الشيء الوحيد اللي اتمنيته في حياتي.. رامز كان كل حاجة بالنسبة لي.. و كان عندي امل في الحياة عشانه.. لكن انت.. انت حطيت حد لكل حاجة.
برر “عثمان” بتصميمٍ :
-شمس.. انا عايز ليكي الأفضل.. رامز مش الشخص الصح ليكي.. و انا مش عايزك تتوجعي اكتر من كده .. انتي أصلا موجوعة منه انا عارف.
انفجرت “شمس” بانهيارٍ :
-و انت كنت ايه في حياتي عشان تقرر مين الصح و مين الغلط ؟ انا اللي جيت لحد عندك.. و من قبل ما تعرفني كان معايا رامز.. ماكنتش حاسة اني لوحدي.. لأول مرة بعد ما اختفى بابي من حياتي.. انت و رامز في حياتي كنتوا بتكملوا بعض.. لحد ما بعدتني عنه.. دلوقتي منغير واحد فيكوا انا لوحدي.. مش عارفة اعمل ايه !
يقول “عثمان” باصرارٍ.. بحاول أن يمسك بخيوط قلبها و التأثير عليها :
-انا هنا عشانك.. مش عايزك تضيّعي حياتك.. الحب مش كل حاجة يا شمس.. في حاجات تانية في الحياة لازم نبص ليها.. يمكن انا و انتي لسا مش فاهمين بعض.. لكن انا هاكون جنبك.. انا عمري ما هاتخلّى عنك.
تدمع عيناها قليلًا.. و تردد بصوتٍ ملؤه الأنين :
-انت عمرك ما هاتكون جنبي.. و انت ضد الحاجة اللي بتسعدني.. رامز بيحبني.. ليه كان لازم تفرّقنا ؟ ليه ماخلتنيش أعيش حياتي زي ما انا عايزة !؟
يحاول “عثمان” التحدث بصوت أكثر هدوءًا :
-انا مش ضد حبك يا شمس.. افهميني.. انا خايف عليكي.. مش عايزك تتوّرطي في علاقة هاتجرّك لمشاكل اكبر.. رامز مابيعرفش يحب.. رامز هايئذيكي بس.
تكف “شمس” عن البكاء في هذه اللحظة.. تنظر مطوّلًا إلى أخيها.. ثم تقول بجفافٍ :
-خلاص يا عثمان.. مابقاش حد هايقدر يئذيني بعد انهاردة !
___________
في الجهة الأخرى من القصر.. الحفل في أوج تألقه.. و المكان مُضيء بالأضواء الذهبية و الفضيّة ..
الموسيقى تنساب في الخلفية.. و الضيوف يتنقلون بين المجموعات يتبادلون الأحاديث.. و لكن هناك.. كانت “رحمة” تشعر بشيء غريب.. و كأن شيئًا ما ليس في مكانه.. تراقب الأجواء حولها.. و عيناها تتنقلان بين الحضور بشكل غير مريح.. بجانبها.. “إبراهيم” يتحدث مع بعض المدعوين في إحدى المجموعات.. لكن ملامح “رحمة” تعكس قلقًا واضحًا و لا تشارك بأيّ كلمة ..
تحاول إخفاء قلقها.. لكنها تتحدث مع “إبراهيم” في همس :
-إبراهيم.. في حاجة مش مظبوطة هنا.. حاسة انه في حاجة غلط.. مش مرتاحة خالص.
يحدجها “إبراهيم” بابتسامةٍ خفيفة.. لكنه يلاحظ عليها قلق حقيقي.. فيحاول تهدئتها :
-مافيش حاجة يا حبيبتي.. الحفلة تمام.. و الجو ممتاز.. يمكن بس كنتي مرهقة أو مش قادرة تندمجي مع الناس.
تنظر “رحمة” حولها بتوترٍ.. وتحاول أن تتفحص الحضور بعيون مشوشة :
-لأ.. الموضوع مش كده.. في حاجة في الجو نفسه.. في حالة توتر مش طبيعية.. و شمس مش كويسة.. لسا ماظهرتش لحد دلوقتي.. أنا حاسة إن في حاجة.
يقترب “إبراهيم” منها قليلًا.. ثم يضع يده على كتفها ليشعرها بالطمأنينة :
-أنا فاهمك.. بس مش ممكن كل حاجة هاتحسي بيها هاتكون مرتبطة بحاجة وحشة.. يمكن شمس مش في أفضل حالاتها.. بس مش لازم نبالغ في التفسير.. خليكي مرتاحة.
تنظر إليه بتساؤلٍ.. لكنها تظل غير مرتاحة ..
تقف في مكانها مرةً واحدة.. تتنفس بصعوبة.. ثم فجأة يُسمع صوت طلقة رصاص مدوي ينفجر في أرجاء القصر.. كأنه قادم من الحديقة الخلفية …
-إبراهيم! سمعت الصوت ده؟ كان صوت رصاصة!؟؟؟
تتجمد في مكانها.. قلبها يتسارع بدقاته ..
ينتبه كل من بالحفل الآن و تتباطأ الموسيقى.. بينما يشعر “إبراهيم” بالصدمة.. و يشحب وجهه.. لكنه يحاول الحفاظ على هدوئه :
-إيه ده ؟ مستحيل يكون رصاص.. ممكن يكون صوت حاجة تانية.. مثلاً حاجة وقعت أو حد في الحفلة عمل حاجة !
لم تعد “رحمة” تنصت إليه.. دفعتها غريزتها في الحال.. بدأت في التحرك سريعًا نحو الباب المؤدي إلى الحديقة الخلفية و عيونها مليئة بالخوف.. و لا تستطيع أن تخفي قلقها و هلعها.. كانت تشعر بها ..
كانت تشعر بابنتها.. صغيرتها “شمس”.. طفلتها الوحيدة ! ………………………………………………….
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية كرسي لا يتسع لسلطانك)