رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل السادس والعشرون 26 بقلم مريم غريب
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الجزء السادس والعشرون
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك البارت السادس والعشرون
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الحلقة السادسة والعشرون
الفصل السادس و العشرون _ البداية معك _ :
قبل أربع سنوات …
حي الزمالك / القاهرة
مطلع أمسية قارصة البرودة من شهر تشرين الثاني / نوفمبر 2024
في أحد أفخم المطاعم الشهيرة بالضاحية الراقية العريقة.. يقوم “رامز الأمير” عن الطاولة التي سبق و حجزها قبل يومان.. ما إن رآى حبيبته.. زوجته الرائعة تلج عبر الباب المزدوج برفقة أمها التي تماثلها روعةً ..
كان يرتدي الملابس الرسمية تلبيةً لرغبة “شمس” التي نوّهت عليه حتمية ظهوره في أحسن صورة أمام أمها.. فكما قالت الانطباع الأول يدوم للأبد ..
ابتسم عندما رآها تبتسم له برضا مثنية بنظراتها على اختياره المنمّق.. بذلة أنيقة سوداء.. محلولة الأزرار العلوية لتبرز قلائده الذهبية المميزة.. تصفيفة شعره الطويل أعجبتها.. و قد مشّطه كله للوراء جامعًا إيّاه في رباطٍ مطّاطي داكن ..
الآن كان وجهه الوسيم أكثر وضوحًا.. و عيناه الزرقاوان تذيبانها حتى النخاع …
-أهلًا أهلًا أهلًا ! .. هتف “رامز” باحتفاءً ماضيًا للأمام ليستقبل الأم و ابنتها
توّجه صوب “رحمة” أولًا.. عمد على الفور إلى تلبّس شخصيته اللعوب.. تناول يدها مبقيًا على مسافةٍ بسيطة بينهما.. يشملها بنظرة فاحصة مليئة بالإعجاب و هو يقول :
-أنا عمري ما تخيّلت كده.. الصور ظلمتك حقيقي
أمك طلعت أحلى منك بكتير يا شمس !
و ضحك مشاكسًا و هو ينحني ليقبّل يد “رحمة” برقي ..
ضحكت “رحمة” بدورها و نظرت إلى ابنتها بتفكّه قائلة :
-ميرسي أوي يا رامز.. انت شكلك شاطر فعلًا في المجاملات زي ما قالت لي شمس.
تأملها “رامز” في ثوبها البرّاق القصير متعدد الألوان القاتمة.. و قال :
-انتي ممكن تسألي أي حد في المكان ممكن يخمن علاقتك بشمس.. إستحالة حد يفكر انك أمها.. انتوا اخوات مش اكتر.
أحمرّ خديّ “رحمة” لإطرائه و شكرته ثانيةً.. ليشد لها “رامز” كرسي و يجلسها.. ثم يتحوّل نحو “شمس” ..
يرمقها بنظرات عشقٍ خالصة.. يعجبه إنها تلتزم بأوامره و تحتشم في لباسها.. و لكن حتى في هذا الثوب المغلق المنسوج من القطيفة الزيتوني تبدو فاتنة.. فاتنة جدًا و قد حددت تفاصيل جسمها.. لعل هذا فقط ما أثار حفيظته الآن تجاه اختيارها شيء يظهرها مثيرة أكثر ممّا هي عليه أصلًا ..
لم يشأ “رامز” إفساد الأمسية و ترك أيّ انطباع سيئ لدى أمها.. فتخطّى هذه التفصيلة و مد يده آخذًا بيد “شمس” و هو يقول بتمتمة خفيضة :
-وحشتيني.. يومين بحالهم ماشوفتكيش !
ده انتي ليلتك مش هاتعدي !!
و اقتربت منها ليقبّلها على خدّها.. ضحكت “شمس” بخفوت هامسة في أذنه :
-بس اسكت.. مامي تسمعك.. اصبر شوية و هانتكلم زي ما انت عايز
و بليز خليك هادي و جنتل مان معاها.. عشان خاطري خلّي بالك أكيد هاتختبرك.
تنهد “رامز” و هو يومئ لها بصبرٍ.. شد لها كرسي بالقرب منه.. ثم جلس بمكانه راسمًا ابتسامةٍ واثقة على محيّاه الوسيم و قال مخاطبًا “رحمة” :
-لو كنت شوفتك الأول أكيد كنت وقعت في حبك انتي.. انتي إزاي سنجل أصلًا يا رحمة ؟
تسمحي لي أرفع الألقاب من أولها و أندهلك باسمك ؟
رحمة بابتسامة حلوة :
-ماظنش إنك أكبر مني بكتير يا رامز !
رامز بتسلية : تديني كام سنة ؟
رحمة بتفكير سريع :
-ممم 33.. 34 حاجة في الرينج ده ..
-بالظبط 34.. انتي بقى مادكيش أكتر من 30.
قهقت “رحمة” بأنوثة لم يتعجّب منها “رامز” لأنه سبق و اختبر نسختها مع “شمس” ..
جاوبته من بين ضحكاتها اللطيفة :
-لأ مش أوي كده.. أنا تمّيت 42 سنة الشهر إللي فات.
-لا بجد.. مش باين عليكي خالص
انتي ملكة جمال.
و جاء النادل في هذه اللحظة.. مرر إليهما نسخ من قائمة الطعام و الشراب.. تركت “شمس” اختيار وجبتها و كذا مشروبها لـ”رامز”.. فاختار لكليهما بسرعة :
-أنا و شمس هاناخد سكالوب ناتير.. و جريك سالاد.
و أعاد القائمة إلى النادل الذي بقى ينتظر طلب “رحمة” التي شملت القائمة بنظرات أبية مستخفة و كأنها مضطرة على الاختيار.. ندت عنها نهدة عميقة و قالت في الأخير و هي تطوي القائمة و تناولها للنادل :
-أنا هاخد ستك مشروم صوص ميديام ول.. و ماش بوتيتو.
تساءل النادل بتهذيبٍ جمّ :
-تؤمروا بحاجة تانية ؟
رحمة بلهجةٍ متكاسلة :
-هات لي الأول توفي نت صودا.
هز النادل برأسه آسفًا و قال :
-للأسف يافندم المشروب ده مش موجود عندنا !
رفعت “رحمة” حاجبها مرددة بخيبة منتقصة :
-فعلًا مش موجود ؟
المفروض التقييمات بتاعتكوا عالية.. إزاي مش بتوفروا كل الطلبات !؟
و هزت كتفاها بأناقة مشيحة بوجهها بعيدًا ..
تبادل “رامز” مع “شمس” نظرة مستنكرة و تطلّع إلى النادل قائلًا بلهجة مُلطفة :
-ممكن تجيب عصير تفاح.. مش كده يا شمس بتحبي التفاح ؟
أومأت له “شمس” قائلة :
-أيوة هات لي تفاح.
و انصرف النادل مسرعًا من أمام “رحمة” …
امتقع وجه “رامز” قليلًا و رشق “شمس” بنظرة تكنف شيء من العصبية الدفينة.. استعطفته بنظراتها و توسلته بصمتٍ فتذرع بقليل من الصبر و جرّ “رحمة” إلى الحديث مجددًا :
-على فكرة يا رحمة ده أحسن مطعم في القاهرة كلها.. و زي ما قولتي واخد تقييمات عالية.. صاحب المكان صاحبي أصلًا.. مش قصدهم يقصروا طبعًا بس لو عندك أي ملاحظات قوليلي و أنا بنفسي هاوصلها.
عاودت “رحمة” النظر إليه قائلة بلهجة أكثر مرونة :
-ماعنديش أي ملاحظات يا رامز.. المكان ظريف فعلًا
ممكن بس ناقصه الخبرة لكن هو مميز.
تدخلت “شمس” الآن :
-بس أكيد مش زي مكانك.. أنا قلت لرامز على شغلك و هو عارف إنك صاحبة أكبر مطاعم في لندن.
رامز مبتسمًا : أيوة حصل قالت لي.. بس ماتكلمناش في تفاصيل
أكيد لما أزورك هناك لازم أجي المطعم و أشوفه بنفسي.
-تنور ! .. ثم سألته بغتةً :
-انت شغّال إيه يا رامز ؟
لم يرد عليها فورًا.. نظر بثباتٍ إلى عينيها الماكرتان.. ثم قال بهدوء :
-أنا عندي شركة استيراد و تصدير بمتلكها و بديرها بنفسي.
-و ياترى بتصدر و بتستورد إيه ؟
-أي حاجة تخطر على بالك.. بصدرها.. و بستوردها ! .. و أردف بذات مكر الثعالب :
-و أطمني.. شغلي كله في السليم.. و سمعتي سابقاني
ممكن تسألي عليا لو تحبي.
رحمة بنظرة تقييمية :
-انت شاطر أوي عشان تكون صاحب شركة في السن الصغير ده.. و كمان عربيتك
و البيت.. و المزرعة.. شمس قالت لي ان عندك مزرعة كبيرة.
-آه فعلًا.. عندي مزرعة في سقّارة.. مساحتها 20 فدّان.
-أكيد بتستغلها في شغلك في التصدير صح ؟
-لأ.. المزرعة من متعلّقاتي الشخصية.. ورثتها عن أبويا و مش فاتحها للشغل
إن شاء الله تيجي تزوريها قريب.. أنا واثق إنها هاتعجبك.
و نظر إلى “شمس” المتوترة بطريقة توحي بقرب نفاذ صبره ..
لو لا أن لانت “رحمة” و هي تقول برقة مفرطة :
-أكيد.. إن شاء الله.. انت شخص Unique “فريد” جدًا.
أُخذ “رامز” بالاطراء المفاجئ.. و رمش بأجفانه متمتمًا بابتسامته الجذابة :
-Thank You!
_______________
-إيه رأيك في رامز يا مامي ؟
بقى سؤال “شمس البحيري” معلّقًا في الهواء للحظاتٍ.. بينما كانت أمها.. “رحمة جابر” تقود السيارة المستأجرة طوال مدة مكوثها بالقاهرة ..
ردت عليها بفتورٍ شديد :
-مش بطّال يا شمس.. بس لسا طبعًا ماكونتش نظرتي عنه
صعب تقيّمي شخص من أول مقابلة.. و ده مش أي شخص.. ده عايز يتجوز بنتي.. بنتي الوحيدة.
و حانت منها نظرة خاطفة ذات مغزى نحوها ..
زمت “شمس” فمها و هي تقول بضجر :
-يا مامي رامز مش محتاج تقييم أصلًا.. أديكي شوفتي انه شخص محترم
و عنده البزنس بتاعه و مستواه ممتاز جدًا.. و فوق كل ده.. أنا بحبه !
رحمة بهدوء : طيب فهمت.. عرفت انك بتحبيه و أنا مش معترضة
بس من حقي أطمن عليكي.. انتي مستعجلة ليه ؟
-مش أنا إللي مستعجلة.. رامز من وجهة نظره اننا طوّلنا في فترة التعارف و بصراحة عنده حق.. احنا بقالنا اكتر من سنة و هو على الأقل عايز يخطبني شهر أو شهرين أيًا كانت المدة إللي انتي قاعداها هنا في مصر عشان نتجوز قبل ما تسافري.
-طيب و لما هو عايز يخطبك ماقالش ليه ؟
ما انا كنت قصاده من شوية !
تأففت “شمس” بضيق معقّبة :
-أنا إللي طلبت منه يصبر.. كنت عايزة اول مرة تتقابلوا مانتكلمش في أي حاجة رسمية
أنا غلطانة يعني لما قصدت تتعرفي عليه كويس قبل ما يتكلم معاكي على الجواز !؟
هدأتها “رحمة” بلطفٍ :
-خلاص اهدي يا شمس.. مالك عصبية كده ليه ؟
يا حبيبتي أنا ماليش في الدنيا غيرك.. و سعادتك أهم حاجة في حياتي.. أكيد أنا عايزاكي تحبي و تتجوزي و تعملي عيلة ناجحة و مستقرة و سعيدة.. عشان كده مش مستعجلة زيك.. حبك للراجل ده قالقني عليكي.. ف محتاجة شوية وقت عشان أطمن مش أكتر.
-إيه قلقك منه بس !؟؟
لم تستطع “رحمة” إيجاد وصف دقيق لمشاعرها الغريزية كأم قلقة على صغيرتها.. تنهدت بحيرة كبيرة.. لكنها قالت أخيرًا باستسلام :
-أوكي يا شمس.. أنا موافقة على الخطوبة
خليه يجي يكلمني بكرة.. و إن شاء الله.. يارب يا حبيبتي يكون خير ليكي !
تصايحت “شمس” ضاحكة من شدة الفرحة.. و أخذت تحتضن أمها و تقبّلها بحرصٍ لئلا تفقد السيطرة على المقود ..
ابتسمت “رحمة” مجاملة و من داخلها لا تزال قلقة.. لكنها لن تكسر أبدًا فرحة ابنتها.. و ستعطي هذا الرجل فرصة ..
لعله حقًا جديرًا بها …
**
لمحات ..
ومضاتٍ خاطفة ..
هذا كل ما كانت تراه بكثرة خلال الأيام القليلة الماضية.. و حتى اللحظة.. سواء أكانت نائمة أو واعية ..
رؤى متقطّعة.. من مواقف عاشتها بالماضي القريب.. رؤى مصيرية.. غرامية.. حميمية.. و أخرى كارثية !!!
لم يكن أيٌّ منها مكتمل الأوجه.. لكنها في كل مرة كانت تتأكد من حقيقتها.. حقيقة زواجها من “عثمان البحيري” ..
لقد تزوجته.. أحبته.. أنجبت له طفلين.. و حدثت أشياء كثيرة بينهما لا زال عصيًا عليها تذكرها كلها ..
لكن القليل منها جعل حياتها أكثر سهولة عن السابق.. لدرجة إنها استيقظت اليوم بنشاطٍ و نزلت إلى قسم الخدمات بالقصر.. و ها هي تقف وسط طاقم المطبخ.. تشرف بنفسها على تحضير أطباق الغداء …
-انتي هنا بجد يا سمر !؟
ذبذبات كهربائية مسّت عروقها ما إن صدح صوته الرخيم بالأجواء يعبّر عن دهشته ..
استدارت “سمر” على الفور.. لتراه واقفًا على بُعد خطوتين منها.. وسيمًا.. أنيقًا في ثياب قاتمة عززت لون بشرته الفريد.. و شعره الكستنائي الناعم مصففًا و لامعًا ..
هذا الرجل الذي يكون بالفعل زوجها.. “عثمان البحيري” بذاته.. حضوره مهيب.. نظيف.. كل شعره منه تنطق بالارستقراطية و الرقي ..
-أنا ماصدقتش لما قالولي سمر نزلت المطبخ ! .. استطرد “عثمان” و ذات التعبير غير المصدق على وجهه
اقترب منها الخطوتين ليكون أمامها مباشرةً.. قريبًا إلى حد التلامس لكنهما لا يتلامسا ..
أجفلت “سمر” باضطرابٍ و قد انعقد لسانها.. فما زالت الذكريات الشحيحة نابضة برأسها تربكها و تحيّرها أكثر و أكثر ..
برزت مدبرة القصر في هذه اللحظة قائلة :
-أنا غلبت أقول لمدام سمر تريح نفسها خالص و احنا بنقوم باللازم.. مش كالعادة ماسمعتش كلامي و مصممة تساعدنا كمان في الطبخ.. اتصرف بقى يا عثمان بيه.
نظر “عثمان” نحو السيدة “إيفون” كبيرة الخدم.. و قال بهدوء :
-ما انتي عارفة يا إيفون.. أنا مابقدرش آثر على سمر في الحاجات دي ..
و مال على أذن زوجته مكملًا بهمس :
-بأثر في حاجات تانية !
أطرقت برأسها مستحية من إيحاءاته الجريئة الصحيحة للغاية ..
و حمدت الله أنه أخذ بيدها و شدها متمتمًا :
-تعالي معايا.
لم تضطر إلى موجهة طاقم الخدم و هي على هذه الحال الخجلة ..
سارت ورائه لا ترى سواه.. حتى أفضى بهما السير أخيرًا إلى إحدى الغرف الجانبية بالطابق السفلي.. غرفة صغيرة نوعًا ما.. لكنها مؤثثة بفخامة كدأب كل ركنٍ بهذا القصر.. و أيضًا نظيفة جدًا و كأن أحدهم يسكنها بالفعل ..
شهقت “سمر” حين وجدت نفسها بدون مقدمات فوق السرير الصغير مقيّدة بجسد زوجها.. معتزمًا أمرًا تعرفه جيدًا ..
و قبل أن يتطوّر الأمر الذي تطوّر أسرع ممّا توقعت بالفعل هتفت بصعوبة من بين قبلاته الشغوفة :
-عثمان !!
أبدى إنزعاجًا فوريًا و هو يقول موبخًا إيّاها :
-ششش.. ماسمعش صوتك.. بطلي دلع بقى أنا عارف انك مشتاقة ليا أكتر ما انا مشتاق لك.. انا مش فاهم ازاي بتقدري تبعدي عني بالأيام كده.. مش قادر افهم ازاي ..
كان محق ..
و هي بالفعل تشتاق إليه.. و تشعر بانجذاب أكبر نحوه بالفترة الأخيرة.. لكن لا زال هناك حاجزٌ ما ..
لا تعرف كيف تتخطاه …
-في ضيوف عندنا و معاد الغدا قرب ! .. تعللت “سمر” علّه يتخلّى عن تصميمه
لكنه جاوبها في الحال :
-لسا شوية على معاد الغدا.. و بعدين أنا مش مستني الغدا زيهم
عشان انتي الغدا يا سمر.. انتي و بس !!
و سكتت عن الكلام تحت إصراره ..
الكلام فقط ..
لأن في حضوره.. في هذا الوضع الخاص كل مرة لا يمكنها أن تصمت تمامًا.. و هو أيضًا ..
لا يحبها أن تصمت …
**
صباح مشرق بعد ليلة رهيبة من الكوابيس ..
صباح يوم العرس.. و هي.. “مايا عزام”.. العروس المرتقبة ..
كانت تجلس بغرفتها.. بعد أن أخذت حمام العروس.. تتأمل فستان الزفاف المغلّف و المعلّق قبالتها أمام الخزانة ..
بعد ساعاتٍ قليلة سيتم عقد قرانها على “نبيل الألفي”.. بعد ساعاتٍ قليلة ستنتقل إلى منزله.. ستغدو زوجته.. و سيعاملها على هذا الأساس ..
يقشعّر بدنها من الفكرة بنفس اللحظة ترد منه رسالة جديدة على تطبيق “واتساب”.. الهاتف لا يزال في يدها.. فتضيئ الشاشة لتقرأ السطر التالي : “حمام الهنا يا عروسة.. بس لما أكلمك بعد كده تبقي تردي عليا.. أحسنلك”!
اتسعت عيناها برعب و تصلّب جزعها.. أخذت تتلفت حولها و نظرت نحو الباب الغرفة.. إنه موصد ..
كيف علم بأنها فرغت للتو من الاستحمام !!؟؟؟
لم تكاد تعثر على إجابة.. وردتها رسالةٍ أخرى منه.. ففتحتها بسرعة لتقرأ :”ماتتخضيش أوي كده.. انتي عروسة و طبيعي تاخدي حمام العرايس.. أنا كمان لسا واخد حمام العريس”!
الحقير !!!
كزّت “مايا” على أسنانها بغضبٍ جمّ و هبّت واقفة بغتةً.. أرادت أن ترمي بالهاتف عرض الحائط.. لكنه صدح معلنًا مكالمة واردة ..
جمدت لثوانٍ تحدق باسمه بحقدٍ شديد.. ثم حسمت أمرها و ردت عليه :
-مش مستغربة وساختك !!
انبعث صوته هادئًا متكاسلًا :
-الحال من بعضه يا حياتي.. انا أول ما عرفتك ماكنتيش تقية أوي يعني.
مايا بغلظة : انت مالكش لازمة يا نبيل.. سامعني ؟
و مافيش حاجة ممكن تتم لو أنا مش عايزة.. ببساطة جدًا ممكن أمشي دلوقتي حالًا و محدش فيكوا يقدر يمنعني.
نبيل ببرود : طيب جرّبي كده.. عشان أكسرّلك رجليكي الحلوين يا طاهرة.
طعنها نعته الأخير و استشاطت غضبًا و هي تغمغم من بين أسنانها :
-بكلمة واحدة مني هاهد الليلة كلها على دماغك.. أبويا إللي فرحان بيك أوي
شوف هايعمل فيك إيه لو عرف إللي عملته فيا.. يا حيوان.
لم يبدو عليه أيّ تأثر بتهديها و قال ببساطة :
-مش هايعمل أي حاجة يا مايا.. خصوصا لو قلت له أد إيه انتي شجعتيني
و رميتي نفسك عليا.. لحد ما عرفت بنفسي ان أنا أول راجل في حياتك.. مش وليد !
فارت الدماء بعروقها لوقاحته و مكره الأرعن ..
كيف إنه يُخطط لكل شيء.. كيف إنه رجلٌ وضيع آمنه أبيها على حياته و بيته و عمله !!!
أردف “نبيل” بلهجته العملية المستفزة :
-هكون في نظر حسين راجل بيصلح غلطته.. غلطة بنته في الأصل
بنته إللي لازمها راجل يحكمها كويس و يسيطر عليها.. و انتي ماتعرفيش يا مايا أد إيه أنا متحمس عشان أوصل للحظة دي.. لحظة ما تبقي مراتي رسمي.
ضغطت شفتاها معًا بقوة.. ثم أرختهما على مهلٍ و هي تقول متوّعدة :
-و أنا بوعدك.. هكزن قدرك
الأسود يا نبيل !!
و أغلقت الخط بوجهه مطلقة صرخة غيظٍ ثاقبة ..
لا بد أن جميع من في البيت قد سمعها …
**
-إلى تلميذة !! .. صوتها يتهدّج عندما تتحدث فجأة
و تشعر بالدموع تدفق من مآقيها ..
يهم “عثمان” بسرعة نحوها في السرير.. يلفها في الملاءة و يطلّ فوقها بملامحه المتأججة بوهج الحب.. و شعره الذي شعثّته أصابعها طوال الدقائق الفائتة ..
يحاوط وجهها بكلتا يداه متمتمًا :
-قولتي إيه سمر !؟؟
تتعلّق عيناها الدامعتان بعينيه العابستان بشدة ..
تهز رأسها.. لا تعرف كيف تقولها.. لكنه لا ييأس منها ..
يشجعها و يقنعها بنظراته و ايماءاته المستمرة.. مؤكدًا بأن كل شيء مرهونًا بما ستقوله ..
لتهمس “سمر” و يدها ترتفع لا شعوريًا لتلمس عنقه و صدره العاري :
-قولتهالي.. أول مرة.. لما اتجوزنا
بعد أول مرة !!!
الندم و الإقرار يكسيا ملامحه.. و في نفس الوقت سعادة غامرة.. بينما تستطرد “سمر” بنبرة باكية :
-أنا بفتكر.. بفتكر حاجات.. بس مش بقدر افتكرها كلها !!
يتنهد “عثمان” و هو يجذبها إلى صدره.. يلفها بذراعيه بشدة محتويًا ضعفها الفطري.. ثم قال و هو يقبّلها على شعرها :
-أنا عارف.. أنا عارف يا حبيبتي.. ماتخافيش
أنا جنبك.. أنا هافضل دايمًا جنبك ..
تشبّثت “سمر” به أكثر مختبئة من أهوال لأشباح ذكريات أخرى لا تعرفها.. تجد الراحة و الطمأنينة بين ذراعيه و في حضنه الآمن.. و تسكن تمامًا عندما مضى صوته مرددًا بعذوبة القصيدة التي عنتها :
– مازلت في فن المحبة .. طفلةً
بيني و بينك أبحر و جبال
لم تستطيعي.. بعد.. أن تتفهمي
أن الرجال جميعهم أطفال
إني لأرفض أن أكون مهرجًا
قزمًا.. على كلماته يحتال
فإذا وقفت أمام حسنك صامتًا
فالصمت في حرم الجمال جمال
كلماتنا في الحب.. تقتل حبنا
إن الحروف تموت حين تقال..
قصص الهوى قد أفسدتك.. فكلها
غيبوبة.. و خرافةٌ.. و خيال
الحب ليس روايةً شرقيةً
بختامها يتزوج الأبطال
لكنه الإبحار دون سفينةٍ
و شعورنا ان الوصول محال
هو أن تظل على الأصابع رعشةٌ
و على الشفاه المطبقات سؤال
هو جدول الأحزان في أعماقنا
تنمو كروم حوله.. و غلال..
هو هذه الأزمات تسحقنا معاً ..
فنموت نحن.. و تزهر الآمال
هو أن نثور لأي شيءٍ تافهٍ
هو يأسنا.. هو شكنا القتال
هو هذه الكف التي تغتالنا
و نقبل الكف التي تغتال
لم تكن مجرد كلمات ..
لأنها بالفعل تلميذته.. و هو معلمها.. هو مصدر كل معلوماتها و خبرتها في الحياة ..
و هي ببساطة ضائعة بدونه.. آمنةً معه ..
بداية كل شيء معه هو !
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية كرسي لا يتسع لسلطانك)