رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل السابع والعشرون 27 بقلم مريم غريب
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الجزء السابع والعشرون
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك البارت السابع والعشرون
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الحلقة السابعة والعشرون
الفصل السابع و العشرون _ لتنقذني _ :
قبل ثلاثة سنوات …
العاشرة صباحًا.. في مزرعة “الأمير” ..
كان “رامز الأمير” يغسل شعر “شمس البحيري” بشامبو رائحة اللافندر و هو نوعها المفضل.. كانا يجلسان معًا بحوض الاستحمام البيضوي أسفل الدش.. ضوء النهار يغمر قاعة الحمام المترف عبر النوافذ المائلة قرب السقيفة الهرمية ..
تسترخي “شمس” مريحة ظهرها أكثر إلى صدر “رامز” و هي تتنهد بقوة.. ممتنة للدقائق.. الثوانِ و اللحظات التي تقضيها بقربه ..
يشطف “رامز” شعرها من الرغوة و ينظفه جيدًا.. ثم يغلق الصنبور و يحيط خصرها بساعِديه القويين ملصقًا إيّاها به إلى أقصى حد.. يكاد يعتصرها من في هذا العناق المحكم …
-أوتش ! .. تصيح “شمس” ضاحكة و منبهة إيّاه في نفس الوقت بأنه يؤلمها
خفف “رامز” إطباقه عليها معتذرًا في الحال :
-آسف يا روحي.
و طبع قبلة على مؤخرة رأسها.. سند خده على خدها.. بينما يمرر يده لأعلى و أسفل ذراعها بتناغمٍ مع حركة ساقها التي تحتك بساقه أسفل المياه المزبّدة بصابون الاستحمام ..
ضحكا معًا إثر المداعبات اللطيفة.. و رفعت “شمس” يدها اليمنى تحديدًا لتتأمل خاتم الخطبة الذي يزيّن بنصرها ..
علّق “رامز” بنبرة سخرية على فكرتها الصامتة :
-ماتبصيش عليه و تتأملي أوي كده.. بصي أحسن لوضعنا إللي غايظني و قرب يجيب أخري !!
تنفست “شمس” بعمقٍ.. و استدارت قليلًا صوبه ملقية برأسها على حافة كتفه لتنظر إليه.. ثم قالت مداعبة ذقنه النامية بأناملها الناعمة :
-خلاص يا حبيبي.. فات كتير.. و مابقاش فاضل أكتر عشان نكون مع بعض
زي ما انت عاوز.
تنقبض عضلات فك “رامز” مرارًا و هو يقول بخشونةٍ :
-أنا مش مصدق انك مراتي و لسا يدوب مخطوبين.. انتي مراتي يا شمس و مش عارف ألمسك.. قوليلي و فهميني إيه المانع ؟
أنا مش مقتنع بمرراتك بصراحة.
شمس بصبر : المانع يا حبيبي هو وعدي لمامي.. جايز انت معاك حق.. ممكن وجهة نظرك تكون أصح.. بس أنا وعدت مامي.. و إلتزامي بالوعد ده أقل شكر و تقدير مني على سنين شبابها و كل التضحيات إللي عملتها عشاني.. انت ماتعرفش مامي اتنازلت عن إيه عشان تفضل جنبي.
أمسك “رامز” بيدها التي تلامس وجهه و عصرها بقبضته برفقٍ متمتمًا :
-شمس.. أنا مايهمنيش كل ده.. أنا عايزك انتي
انتي مش فاهمة أنا جوايا إيه.. أنا نفسي مش فاهم.. في الأول كنت مفكر إن علاقتنا هاتاخد وقتها و تنتهي.. بس كل ما الوقت كان بيعدي و أنا معاكي.. بتعلّق بيكي أكتر
أنا بحبك.. عمري ما قلتها لواحدة قبلك.. و لا هاتتقال بعدك.. انتي حب عمري يا شمس ..
بدت العاطفة مصحوبة بالحيرة تربك نظرات عينيها و هي تحدق بمحيط عينيه الأهوج.. و قالت بأسى واضح :
-أنا كمان بحبك.. و انت عارف.. و إلا ماكنتش وافقتك على كل ده
ماكنتش مضيت على الورقة دي.. أنا نفسي أكون ليك أكتر منك.. بس الصبر يا حبيبي.. أصبر شوية كمان عشان خاطري !
كان لينفجر غيظًا.. لكنه تمالك أعصابه بأخر لحظةٍ.. و سألها بهدوء متكلّف :
-طيب أصبر لحد امتى يا شمس ؟
أمك ست لطيفة.. بس متعلقة بيكي بشكل مرضي.. و ده محسسني انها متعمدة تطوّل فترة الخطوبة.. أنا كل ما اكلمها على الفرح تتوّه.. قوليلي إيه الحل !؟
شمس بثقة : أنا هاكلمها إنهاردة.. أوعدك مش هاتعدي الليلة دي غير و أنا بكلمك و بنحدد سوا معاد الفرح.. أوعدك.
و ابتسمت له..فابتسم تلقائيًا و حنى رأسه ليقبّلها على شفتيها بعمقٍ.. بتر القبلة بعد لحظاتٍ هامسًا :
-ان كان عليا.. نفسي يكون فرحنا امبارح
سنتين يا شمس.. سنتين مستني اللحظة دي.. ياااه.. أنا مستحمل كل ده إزاي ؟
أجابته بخفوتٍ و عيناها ترف بفتنةٍ :
-عشان بتحبني.
أومأ لها قائلًا :
-صح.. عشان بحبك.. و هو ده السبب الوحيد يا شمس.
-و هو بردو إللي خلاني واثقة فيك يا رامز.. و مسلّماك نفسي و أنا مطمنة ..
تألقت عيناه بلمعةٍ حماسية.. مغتبطًا باعترافاتها و ثقتها العمياء به ..
غاصت يده بمياه الحوض لينتزع السدّادة المطاطية.. صرخت “شمس” بغتةً حين حملها بين أحضانه ليضعها بمكانه بلحظةٍ.. إستحالت صرختها إلى ضحكة مجلجلة.. بينما يضغط “رامز” جسده فوق جسدها ..
انحسرت المياه تدريجيًا بشكلٍ متسارع.. أجفلت “شمس” عندما لفحت أنفاس “رامز” الساخنة وجهها و هو يتمتم أمام شفتيها :
-طيب سلّميني نفسك دلوقتي بقى.. و مش هاتندمي !
ابتسمت “شمس” بشدة مرددة :
-Gladly!
**
هي إحدى عاداتها السيئة.. احتساء القهوة في بعض الليالي متأخرًا ..
و قد دق منتصف الليل منذ دقائق.. لا تزال تجلس ببهو الشقة المستأجرة على طرازٍ فخم.. تنتظر عودة ابنتها التي خابرتها قبل ساعتين و أخبرتها بأنها في طريقها إلى البيت ..
لكنها لم تفي بكلمتها كالمعتاد.. و لتريح رأسها على الأخير أغلقت هاتفها ..
هذا التمرد و التهور كله بسبب ذلك المتلاعب الماكر.. خطيب ابنتها التي تضطر قسرًا عنها لتقبّله.. لأن و للأسف.. ابنتها تحبه كثيرًا ..
و لكن هي.. لم يعجبها اطلاقًا.. و من النظرة الأولى كان رأيها فيه محسومًا.. لو لا مشاعر ابنتها.. و قلبها المتعلّق به.. لم تستطع الاعتراض أو الحؤول دون إتمام الخطبة ..
وافقت عليه مجبرة.. و لا زالت تضعه تحت التقييم.. تتحيّن أقل خطأ قد يرتكبه بحق صغيرتها.. لتقتلعه تمامًا من حياتها و تأخذها من هنا و تعود بها إلى المكان الذي ألفتاه ..
حتمًا سيخطئ.. عاجلًا ام آجلًا.. و حينها !!!
-حمدلله على السلامة !
هتفت “رحمة” بصلابةٍ ما إن دلفت “شمس” من باب المنزل ..
شهقت “شمس” من المفاجأة.. و استدارت فورًا ناظرة نحو أمها …
-مامي ! .. تمتمت “شمس” بفتورٍ و هي تتنفس الصعداء :
-انتي لسا صاحية ؟
رحمة بجمودٍ : و أنا هايجيلي نوم و انتي لسا برا ؟
مع خطيبك الصايع ده !!
احتقن وجه “شمس” في الحال و هي ترد عليها محتدة :
-مامي لو سمحتي.. ماتقوليش على رامز صايع
ده خطيبي و قريب هايكون جوزي.
تترك “رحمة” فنجان القهوة جانبًا.. تنهض عن المقعد الوثير و تمشي بتوأدة نحو ابنتها و هي تقول بهدوء :
-و الله يا شمس.. أخر حاجة كنت اتمناها اني اكسر قلبك
بس شكلك كده مش هاتحققي مرادك ده.
عبست الأخيرة متسائلة :
-يعني إيه !؟
رحمة بصرامة : الراجل ده ماينفعكيش يا شمس.. ده كأنه عملك غسيل مخ.. ماشية وراه عمياني.. لازم تسيبيه !
-لأ !!! .. صاحت “شمس” بقوة
اعترى جسدها انتفاضات قصيرة و هي تستطرد بعدائية مفاجئة :
-انتي أمي.. و أنا بحترمك و بحبك.. بس مستحيل.. من رابع المستحيلات اسمع كلامك
رامز حبيبي.. و مافيش حاجة ممكن تخليني أسيبه حتى لو انتي.
رمقتها “رحمة” بذهولٍ و قالت :
-للدرجة دي يا شمس.. للدرجة دي الراجل ده ماثر عليكي
و خلاكي تقفي قصادي !!
زفرت “شمس” بضيقٍ قائلة :
-محدش مأثر عليا.. انتي إللي مش بتحبيه و مش قادرة تفهمي ان المهم انا احبه
انا بس مش انتي.. انتي مش عايزاني أكون مبسوطة ؟
انا مش هاكون مبسوطة إلا مع رامز.
ارتسمت مرارة عميقة بعينيّ “رحمة” و هي تنظر إلى ابنتها الوحيدة بخيبةٍ أملٍ.. و قالت بيأسٍ :
-يا شمس.. يا حبيبتي.. أنا عايزة مصلحتك.. صدقيني الراجل ده ماينفعكيش
انتي سمعاني بقول إيه ؟
يابنتي ده كبير عليكي.. الفرق في السن بينكوا أكتر من 10 سنين و ..
قاطعتها “شمس” بامتعاضٍ :
-بتكلميني عن فرق السن ؟
بابي كان أكبر منك بـ16 سنة.. و انتي كنتي بتحبيه.. انتي قولتيلي كده.
-أنا و باباكي حالة خاصة.. ماينفعش تقارني وضعك بوضعي أصلًا
أنا عايشة حياتي على أمل.. لأ مصممة اشوفك احسن مني.. و محققة كل إللي ماعرفتش احققه.. ليه عايزة تحرميني من حلمي الوحيد ؟؟
و قبل أن ترد عليها أردفت مسرعة :
-انتي مش قليلة.. انتي بنت يحيى البحيري.. حتى لو محدش يعرف
انتي قيمتك كبيرة أوي.. تستاهلي راجل أحسن من ده.. انا عمري ما هارتاح و انتي معاه و هفضل قلقانة عليكي.
شمس بتعجب شديد :
-لو تقوليلي سبب واحد مقنع لقلقك ده !!
هزت “رحمة” رأسها قائلة بشيء من العصبية :
-مش سبب واحد.. عندي أكتر من سبب.. أهمهم انه بيفكرني بأبوكي
و أنا إستحالة أسلّمك بإيدي لراجل من نوعية يحيى البحيري.. انتي سمعاني يا شمس.. مش هايحصل !!!!
بُهتت “شمس” عندما قالت أمها ذلك ..
خرست تمامًا.. بينما تحملق “رحمة” فيها بقوة و هي تتنفس بعنفٍ ..
و بعد لحظاتٍ طويلة.. طويلة جدًا.. نطقت “شمس” بصوتٍ خفيض :
-للأسف يا مامي.. كلامك عمره ما هايجيب نتيجة.. لا من قبل جوازي من رامز.. و لا حتى بعده !
عبست “رحمة” مستوضحة :
-قصدك إيه !؟؟
تنامى بينهما صمتٍ قصير.. لتقول “شمس” بغتةً :
-أنا و رامز متجوزين بقالنا اكتر من سنة.. متجوزين عرفي !
جمدت “رحمة” من هول ما تفوّهت به ابنتها ..
لوهلةٍ خشيت “شمس” عليها عندما لم تبدي أيّ ردة فعلٍ.. حتى قالت فجأة بصوتٍ بالكاد بلغ حلقها :
-يعني إيه ؟.. يعني إيه متجوزين ؟
ترقرقت الدموع بعينيّ “شمس” و هي تخبرها :
-اتجوزته.. مضيت على عقد عرفي و اتجوزته.. بس انا شرطت عليه
مش هايكون جواز حقيقي إلا في وجودك.. و عند مأذون زي ما فهمتيني ..
أجفلت “شمس” حين شهقت “رحمة” فجأة.. و ذعرت و هي تراها تتشنّج و تزداد شهقاتها.. ساقاها تضعفان و تترنّح بمكانها …
-مـامــي !!! .. صرخت “شمس” برعبٍ لحظة سقوط “رحمة” مغشيًا عليها
جثت أمامها فوق الأرض و حاولت إفاقتها بشتّى الطرق.. قامت لتجلب كأس مياه.. نثرت القليل على وجهها و هي تهتف باكية :
-يا مامي.. بليز ردي عليا.. أنا آسفة و الله
أنا عارفة انك زعلتي مني.. مقصدش أزعلك بليز قومي.. مامي ماتعمليش فيا كده حرام عليكي فتّحي عنيكي !!
بمرور الثوانِ.. بدأت وعي “رحمة” يستجيب لمحاولات “شمس” التي صاحت بتلهفٍ و هي تسند رأسها على فخذها :
-مامي.. انتي سمعاني صح ؟
عشان خاطري ردي عليا.. هموت لو حصلك حاجة بسببي.. عشان خاطري كلميني !!
تحدثت “رحمة” بلسانٍ ثقيل و هي تربت على يد ابنتها :
-ماتخافيش يا شمس.. أنا كويسة !
هزت “شمس” رأسها و دموعها تتساقط.. تعرف يقينًا بأنها ليست على ما يرام.. فهذه بعينها كانت الحالة التي ألمّت بها لحظة علمها بخبر موت “يحيى البحيري”.. انهارت “رحمة” كما لم تنهار من قبل.. كما هي الآن …
-تعالي نروح المستشفى.. أطلب اسعاف ؟
رحمة بضعفٍ : انا مش محتاجة مستشفى.. انتي عارفة انا محتاجة إيه.
شمس ببكاء : قوليلي.. أنا هاعملك إللي انتي عايزاه.. بس تكوني كويسة.
شدت “رحمة” على يد ابنتها قائلة :
-لو عايزاني أكون كويسة بجد.. لو مش عايزة تموتيني بالحيا
اقطعي علاقتك بالراجل ده.. ابوس ايدك يا شمس.. لو بتحبي أمك.. لو مش عايزاني اموت بحسرتي خسرانة كل حاجة في حياتي !
تسرّب أنين البكاء من بين شفتيّ “شمس” و هي تغمض عيناها بشدة لتنهمر دموعها ..
لقد حوصرت الآن.. و قد نجحت “رحمة” بمسعاها.. وقعت “شمس” بين خياران.. و في اللحظة الحتمية.. نطق لسانها عاصيًا نداء و صراخ قلبها :
-حاضر يا مامي.. انا هاقطع علاقتي برامز
هاسيبه.. هاسيبه عشانك.. هاسيب رامز !!!
**
بعد ساعتان ..
تضع “رحمة” حقيبتيّ سفرها هي و ابنتها فوق سير نقل الأمتعة للطائرة التي ستقلع بعد دقائق إلى العاصمة الإنجليزية.. “لندن” ..
نظرت خلفها نحو ابنتها.. لتراها شاردة.. تحمل هاتفها بيدها و كأنها تائهة.. لا تدري حتى ماذا تفعل أو إلى هي ذاهبة …
-شمس !
أخرجها نداء أمها من شرودها.. و نظرت إليها قائلة :
-هاعمل مكالمة.. مش هابعد ماتقلقيش.
أومأت لها “رحمة” دون أن تختفي نظرة القلق من عينيها ..
بينما ابتعدت “شمس” بضعة أمتار حتى توقف وسط صالة الانتظار المتخمة بالمسافرين.. حسمت ترددها و ضغطت زر الاتصال بالرقم الذي يتصدّر قوائم مكالماتها ..
و جاء الرد بمجرد أن وضعت الهاتف فوق أذنها :
-شمس !
إيه كل ده ؟.. كنتي فين و مابترديش على تلفونك ليه ؟
قلقتيني عليكي.. شمس !!
كانت تكتم صوت نحيبها بكفها و هي تستمع إلى صوته.. و اضطرت في الأخير للرد عليه.. فأجابت بصوتٍ متحشرج :
-رامز.. أنا آسفة.. مش عارفة بجد
مش عارفة أقولك أنا آسفة أد إيه !
-في إيه يا شمس مال صوتك ؟
انتي معيّطة ؟ .. ردي عليا.. انتي فين و إيه الدوشة إللي حواليكي دي !!؟؟
-أنا في المطار.. راجعة لندن مع مامي.. الطيارة باقي عليها نص ساعة.
-انتي بتقولي إيه ؟
مسافرة إزاي و ليه ؟ .. إيه إللي حصل يا شمس ؟؟؟
أفلت من حنجرتها نشيجًل مريرًا و هي ترد عليه متألمة كأنما قبضةٍ تعتصر قلبها :
-بحبك يا رامز.. بحبك أكتر من روحي
بس خلاص.. لازم أمشي.. و انت لازم تنساني.. علاقتنا انتهت.. أنا آسفة ..
-إيه إللي بتقوليه ده ؟ .. انتي اتجننتي ؟
علاقة مين إللي انتهت.. انتي مراتي يا شمس.. مراااتي مش صاحبتي
و مافيش سفر.. أنا جايلك حالًا.
-هاتيجي مش هاتلاقيني.. أنا مسافرة يا رامز.
-إياكي تتحركي من مكانك.. انتي سمعاني ؟
إيااااكي ..
سمعت جلبة من طرفه.. فعرفت بأنه يتحرك بالفعل.. فسارعت منهية المكالمة بصعوبةٍ :
-مع السلامة يا رامز.. انا عمري ما هانساك.. و هاتفضل الراجل الوحيد إللي معاه قلبي.. عمري ما هاحب حد غيرك.. مع السلامة ..
-شمـس.. شـمـــــ …
و أغلقت الخط مجهشة ببكاءٍ مرير ..
استقطبت نظرات المارّة و الجالسين.. سرعان ما أحسّت بذراعيّ أمها تحيطان بها.. ضمّتها “رحمة” إلى صدرها ممسدة على شعرها بحنوٍ متمتمة :
-بس يا حبيبتي.. إهدي.. خلاص كل حاجة هاتبقى كويسة
أنا جنبك.. أنا عمري ما هاسيبك !
و سارت بها نحو أكشاك المرور و التفتيش وصولًا إلى الطائرة.. دون أن تتوقف لحظةً عن مواساتها ..
**
وصل “رامز الأمير” إلى ساحة مطار “القاهـرة” في زمنٍ قياسي.. قبل انتهاء النصف ساعة بخمس دقائق ..
صطف سيارته بإهمالٍ بالخارج غير عابئًا بتلقي أيّ مخالفات ..
كان يركض مسابقًا الزمن.. لم يتوقف لحظة للراحة.. رئتاه تكادان تنفجران من قلّة الأكسجين ..
تقافز بين النوافذ.. استعلامات.. جوازات.. وصولًا إلى الطائرة التي أغلقت أبوابها.. اعترضا طريقه فرديّ أمن فتوسلهما منقطع الأنفاس :
-من فضلك.. مراتي على الطيارة.. ماينفعش تسافر
لازم أطلع أجيبها.. دقيقة واحدة بس.. أرجوك !!!
رد أحدهما بحزمٍ :
-ماينفعش يافندم بوابة الطيارة قفلت خلاص.. هاتطلع في أي لحظة دلوقتي
مستحيل تتفتح.
و قبل أن يحاول “رامز” مرةً أخرى.. رآى الطائرة تتحرك بالفعل عبر الواجهة الزجاجية ..
سار نحوها معلّقًا بصره بها.. توقف قبالة الزجاج.. بسط كفّيه فوقه مراقبًا رحيل زوجته.. حبيبته ..
أقلعت الطائرة.. غادرت خط الميناء الجوي.. و بمغادرتها سقطت دمعة واحدة من عينه ..
دمعة دمغت وثيقة هزيمته و فقدان أثمن شيء بحياته ..
حبّه.. لقد فقد حبيبته ..
لقد ذهبت “شمس”.. تركته !
___________________________
منذ فترة طويلة لم تكن في قمة أناقتها الأنثوية المغوية ..
وقفت “هالة البحيري” أمام مرآتها الكبيرة.. تستعرض ثوبًا من الحرير الأزرق.. طويل بقصّة ضيّقة.. و أكمام شفّافة.. مطرّزًا بفصوص برّاقة على الصدر و الذيل ..
كانت قد صففت شعرها الطويل و جعلته في استواءٍ واحد للخلف.. و زينة وجهها هادئة للغاية.. ما عدا حمرة شفاهها الفاقعة.. تعمّدت ابرازها ..
جلست على طرف الأريكة الوحيدة بغرفة الملابس تنتعل حذاء عالى الكعبين.. دون أن يتوقف توترها المتصاعد بمرور الوقت ..
لقد عاندت إرادة زوجها و أصرت على الذهاب إلى زفاف خالها.. حتى اللحظة لم تأخذ موافقته.. و تحمل عبء مواجهته بعد عودتها.. و ما الذي سيفعله بها لاحقًا ..
لكن رغم كل مخاوفها.. لا زالت على إصرارها.. لا مزيد من التظاهر بمقاطعة خالها.. “نبيل الألفي” هو عائلتها.. الشخص الوحيد الذي يشعرها بالاحتواء الأبوي بعد رحيل والدها ..
لن تخسره بعد الآن.. حتى لو كان الثمن خسارة “فادي حفظي”.. زوجها و الرجل الذي قهر غرورها و كبريائها و جعلها تقع في غرامه.. لم يمنعها من عشقه شيء و لا حتى إعاقته ..
لم تشعر يومًا بأيّ نقصانٍ يه.. كان و لا يزال أكثر جاذبية و رجولة من أيّ شخص قابلته في حياتها ..
لعله لا يملك كاريزما “عثمان البحيري” ابن عمها.. و لا وسامة “مراد أبو المجد” زوجها السابق.. و لكنه متفردًا بذاته ..
الشيء و نقيضه.. يجمع كل الصفّات التي تؤهله لكسب قلب أجمل و أرقى امرأة.. و قد هوت بالفعل من برجها العالي و توسلت حبّه ذات يومٍ.. و حتى اليوم تريده و تحبّه بنفس الدرجة …
-هالة !
انتبهت “هالة” إلى صوت شقيقة زوجها الصغرى ..
رفعت رأسها متطلعة نحوها.. و دهشت عندما رأتها ترتدي ثوب سهرة يماثل أناقة خاصتها تقريبًا.. سألتها مباشرةً :
-انتي لابسة كده ليه يا ملك ؟
نظرت “ملك” إلى ثوبها.. ثم نظرت إليها قائلة :
-فادي قال اني رايحة معاكي فرح خالك.. أنا جهزت
انتي جاهزة ؟ .. هانمشي امتى ؟
حدقت فيها “هالة” بدهشةٍ أكبر.. لم تصدق أذنيها.. “فادي” وافق أخيرًا على ذهابها إلى الزفاف ..
و أيضًا يرسل معها شقيقته !!!
-فين فادي ؟ .. تساءلت “هالة” على الفور
جاوبتها “ملك” منشغلة بتفحص حقيبة يدها الصغيرة :
-فادي أخد سليم و نزل.. بيقول هايفسحه في المول لحد ما نرجع
ها هانمشي دلوقتي و لا لسا شوية ؟
الساعة بقت 8 ..
تمتمت “هالة” شاردة ببصرها في جهةٍ أخرى :
-هانمشي.. دلوقتي !
**
استقرت “إيمان عمران” أخيرًا ..
أفرغت حقائبها و حقائب زوجها و طفليها بنفسها رافضة مساعدة خدم القصر.. عادت إلى الجناح المخصص لها و لزوجها بعد أن اطمأنت على الصغيران بغرفتهما الخاصّة ..
كان “مراد” قد عاد الآن.. و ابتهجت “إيمان” حين رأته مسترخيًا فوق السرير على ظهره.. حتى لم يخلع حذائه ..
أقفلت باب الغرفة ورائها و سارت إليه …
-أخيرًا رجعت ! .. همست و هي تقبّله قرب فمه
لم يفتح عينيه و هو يرد عليها بلهجةٍ متعبة :
-أنا مش قادر اتقلّب مكاني حتى.. معلش هاخرج عن القانون بتاعك المرة دي و مش هقوم أخد دش السفر.. لأني فعلًا هموت و أنام.
ضحكت “إيمان” و هي تجلس على طرف السرير عند قدمه.. تخلع له الحذاء من قدميه معقّبة :
-و لا يهمك يا حياتي.. نام و ريّح خالص و لما تصحى أنا بنفسي هاجهز لك أحلى دش.
لم يرد عليها ..
فقامت لتنزع عنه سترته.. طاوعها بنصف جهد.. و حلّت أزرار قميصه دون أن تجرّده منه.. بسطت فوقه غطاء خفيف.. ثم فكّت حجابها و خلعت ادناءها.. لتندس بجواره في السرير ..
توّسدت صدره و ضمّته بشدة مستشعرة دفئه و متنعمة بقربه.. و مرةً أخرى تجدد شعور عدم الراحة مِمّا جرى بينهما بالآونة الأخيرة.. فلم تستطع الامتناع و هي تناديه برفقٍ :
-مراد.. مرااد !
-ممممم ..
-حبيبي ممكن تسمعني شوية ؟
مراد بنعاس : عايزة إيه يا إيمان انا مش فايق لك نهائي.
-مش هاطوّل عليك.. انا بس عايزة اقولك و الله ما حبيت أضايقك باتصال جد لمى.. انا عارفة انك بتقف لينا في الموضوع ده بالأخص و بتوقف حسين عزام عند حده.. المرة دي ماحبتش أحطك في نفس الموقف لأني عارفة انه بيظهر بس عشان يضايقنا.. ف اتعاملت معاه بنفسي.. انا عمري ما بعمل حاجة من وراك و انت عارف !
كان ينصت لها باهتمام.. حتى فرغت.. انتظر هنيهةٍ ثم قال :
-طيب انا مش فايق زي ما قلت لك.. لما اصحى ان شاء الله نبقى نتكلم في الموضوع ده
و اعملي حسابك هانفطر الصبح مع عثمان و عيلته لاني اعتذرت عن الغدا انهاردة.. هاتصحي بدري و تجهزي انتي و الولاد.. تصبحي على خير.
و أبعدها عنه بلطفٍ شديد.. لينقلب على وجهه _ وضعيته المفضلة _ مستغرقًا بالنوم في الحال ..
تنهدت “إيمان” بأسى و هي ترنو إليه عاجزة ..
تعلم إنه صعب الإرضاء.. لن يكون رضاؤه سهلًا على الاطلاق و خاصةً هذه المرة.. فالأمر يتعلّق بـ”لمى”.. صغيرتها.. و ابنته التي لم ينجبها.. لكن روحه متعلّقة بها إلى أقصى الحدود ..
استسلمت “إيمان” لكلمته في الأخير.. أغلقت ضوء الأباجورة المحاذية للسرير.. ثم استلقت بجواره في هدوءٍ حتى غطت مثله في نومٍ عميق …
______________
كان “عثمان البحيري” يجلس بصالون جناحه.. يتفحص باهتمامٍ بالغ عبر هاتفه التقرير المفصّل عن خطوات أمه و خط سيرها منذ مغادرتها القصر ..
عندما دوت صرخة “سمر” فجأة من جهة الحمام ..
قفز “عثمان” بطرفةٍ عينٍ و دفع باب الحمام صائحًا بلهفةٍ :
-سمر انتي كويسة ؟
دلف فوجدها جالسة على الأرض.. شعرها يغطي وجهها و في يدها انبوبة بيضاء ..
تطلّعت إليه مغمغمة بنبرةٍ باكية :
-أزرق !!
عبس “عثمان” و نظر حوله.. ليجد أكثر من خمسة أنابيب مثل تلك في يدها ملقاة بجوارها فوق الأرض ..
ركع قبالتها ملتقطًا واحدًا من الأنابيب.. من نظرة فاحصة واحدة.. أدرك الأمر.. و انبلجت ابتسامة ذاهلة على محيّاه ..
نظر إليها.. من خلال شعرها المتشابك فوق وجهها و عيناها الحمروان من أثر البكاء.. ردد غير مصدقًا :
-حامل !
حامل يا سمر !!!
أومأت له و كانت لا تزال تبكي.. بينما يبتسم بشدة.. و لا يريد إلا أن يبتسم !
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية كرسي لا يتسع لسلطانك)