روايات

رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم مريم غريب

موقع كتابك في سطور

رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم مريم غريب

رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الجزء الحادي والثلاثون

رواية كرسي لا يتسع لسلطانك البارت الحادي والثلاثون

كرسي لا يتسع لسلطانك
كرسي لا يتسع لسلطانك

رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الحلقة الحادية والثلاثون

الفصل الحادي و الثلاثون _ لا يمضي _ :
فوق فراشها الزهري الأنيق.. جلست أمام حاسوبها الذكي.. تستعرض بغنجٍ لا يخلو من الخجل جمالها الآخاذ ..
في تسريحة شعرها المنسابة حول وجهها و كتفيّها.. و جزعها شبه العاري.. إذ كانت ترتدي كنزة ورديّة خفيفة بلا أكمامٍ.. و لا تضع نقطة مكياج على وجهها.. متباهية بحسنها النقيّ.. الذي جذبه إليها في المقام الأول …
-باربي !
ملأ وجه “ملك حفظي” عبوسًا مباغت و هي تكرر الكلمة بغرابةٍ :
-باربي.. مين باربي !؟
جاوبها “مالك عزام” على الطرف الآخر من الكاميرا المفّعلة :
-انتي يا ملّوكة.. أنا أول ما شوفتك قلت لك إيه ؟
ابتسمت “ملك” تلقائيًا و هي تشرد مباشرةً في ذكرى إلتقائها به.. ليلة زفاف خال زوجة أخيها ..
___________
نوعًا ما كان حفل مملًا.. بالرغم من أن مظاهر الاحتفال و قاعة العرس نفسها من أفخم ما يكون ..
لكنها لم تحقق الاستمتاع المنشود.. لأنها تفتقد مشاعر و أشخاص اتضح لها إنها لم تسعد في حياتها بدون أيّ منهم.. أبرز من تشتاقه هو زوج شقيقها بالطبع.. أبيها الروحي.. “عثمان البحيري” ..
بعد أن تركته.. بل بعد أن دفعته لطردها من بيته و حياته.. أدركت فداحة ما أقدمت على فعله.. هنا في هذا المنفى المقيت برفقة شقيقها و أسرته الصغيرة ..
لم يمر يوم إلا و ندمت على ما قالته سلفًا.. على ما كادت أن تفعله.. كانت لتكون في كنفه الآن.. ما كانت لتخرج من بيته بهذه الطريقة أبدًا ..
كيف استطاعت أن تفكر فيه هكذا ؟
الرجل الذي آواها.. تكفّل بها و ربّاها و كأنها ابنته من دمه.. و هي التي أحبّته أكثر من غيره.. أكثر حتى من أخويها ..
لا ريب إن صدمته فيها كانت بالقوة الكافية التي جعلته ينفر منها بهذا الشكل.. و يقتلعها من حياته نهائيًا.. إنه حتى لم يهاتفها مرةً واحدة منذ وصولها إلى هذه البلاد الغريبة ..
حتى لم تسمع إذا كان قد اتصل بشقيقها بغيّة الاطمئنان عليها و التساؤل عن أحوالها.. لم يفعل أيّ شيء.. و كأنها باتت لا شيء بالنسبة إليه ..
هذا أكثر إيلامًا من بُعدها عنه.. أكثر بكثير ..
كادت الأفكار أن تدفعها للبكاء مجددًا.. و كانت لتستجيب منتهزة فرصة كثرة الضيوف و إنشغال بعضهم ببعض.. حيث لا يمكن أن يلاحظها أحد و هي تجلس مطرقة و متظاهرة بتصفح هاتفها ..
و لكن …
-مساء الخير !
رفعت “ملك” رأسها مجفلة.. لترى رجلٌ فارع الطويل.. وسيمٌ.. و.. ينطق بالخطر.. تلك الندبة البارزة أسفل عينه اليُسرى.. بدا بها و كأنه قرصان كاريبي عديم الشفقة.. و شديد الإثارة في آنٍ …
-أهلًا !
أجفلت “ملك” للمرة الثانية عندما تتداخل صوت “هالة البحيري”.. زوجة أخيها ..
نظرت إليها لتجدها تولي انتباهها لذاك الغريب.. و يخاطبها الأخير بكياسةٍ :
-أنا مالك عزام.. أخو العروسة.. منورين الفرح.
أومأت “هالة” بعينيها و هي تقول بابتسامتها الرقيقة :
-أهلًا يا مالك.. أنا هالة البحيري.. بنت أخت العريس.
مالك بدهشة : فعلًا ! نبيل الألفي خالك بجد ؟
-أيوة مستغرب ليه !؟
-لا أبدًا مش استغراب.. بس افتكرتك أخته مثلًا.. البرنسيس إللي معاكي دي ممكن أصدق إنها بنت أخته عادي !
نظرت “هالة” صوب “ملك” قائلة :
-لأ معلش هاخيّب ظنّك.. البرنسيس دي تبقى أخت جوزي فادي حفظي ..
و أشارت نحوها معرّفة إيّاها :
-ملك حفظي.
عاود “مالك” النظر إليها قائلًا بلطفٍ :
-ملاك.. فعلًا ملاك ما شاء الله عليها.. بس باين مش مبسوطة
إيه يا قمر الفرح مش عاجبك و لا إيه ؟
رفرفت “ملك” بأجفانها منظّفة حنجرتها.. ثم قالت بخفوتٍ بالكاد سمعه :
-لأ.. مبسوطة.
مالك بابتسامته الجذّابة :
-متأكدة ؟ طيب إيه رأيك نغيّر المود شوية What Ever
تسمحيلي بالرقصة دي ؟
و بسط يده داعيًا إيّاها لأداء الرقصة البطيئة التي صدحت قبل لحظاتٍ ..
تفاجأت “ملك” بطلبه.. و نظرت إلى “هالة” التي هزت كتفيها قائلة :
-As You Like يا لوكا.. لو حابة ترقصي قومي !
ما كان شقيقها ليقبل بذلك بالتأكيد.. و لكنه ليس هنا.. زوجته فقط.. و زوجته أكثر مرونةً منه بكثير …
-أوكي ! .. قالتها “ملك” مودعة يدها الصغيرة بكفّه الكبير
قامت بسلاسةٍ و سارت معه إلى الحلبة المزدحمة مختالة بثوبها الأنيق الذي يبرز مفاتنها البِكر.. كانت عديمة الخبرة بلا أدنى شكٍ و كان يثق من هذا.. فأخذها على مهلٍ ..
احتضن يدها برفقٍ.. و أمسك بخاصرتها باليد الأخرى مقرّبًا إيّاها منه بشدة.. حتى تلامسا مباشرةً ..
ازدردت “ملك” ريقها بتوترٍ و هي ترنو إليه مبلبلة الأفكار.. لا تستطيع التركيز على أيّ شيء بسبب الوضع الغريب برمته.. فهي تخوض شيء غير معتاد لأول مرة بحياتها ..
شيء يتعلّق بالمشاعر و الحسيّة التي لا تفقها …
-باربي ! .. تمتم “مالك” بصوتٍ خفيض و هو يراقصها بمهارةٍ
عبست “ملك” و لم تفهم الكلمة بسبب زخم أفكارها المتضاربة.. فاستطرد “مالك” متفرّسًا بملامحها مثالية الجمال :
-انتي إيه يا ملاك.. انتي ملاك حقيقي و مخبيّة حقيقتك ؟
عمرك أد إيه ؟
ملك بارتباكٍ طفيف :
-بعد شهرين هاتم 16 سنة !
ابتسم “مالك” بانتشاءٍ.. لا يعرف كيف لمعرفة صغر عمرها أن يتسبب له في هذا الكمّ من المتعة.. متعة حقيقة أن فتاة مثلها بين ذراعيه.. يراقصها هي بالذات ..
منذ متى كان مهووسًا بالصغيرات !؟
هو ليس عجوزًا على أيّة حال …
-يعني لسا بتروحي المدرسة ؟
أحسّت “ملك” بانتقاصٍ يغلّف كلماته التي نطقها بصيغة عادية.. فقالت بشيء من العداء :
-أيوة بروح المدرسة.. عايز تقول إني طفلة يعني ؟
على فكرة أنا مابقتش طفلة !!
رفع “مالك” حاجبه مرددًا :
-طفلة.. أنا قلت طفلة ؟
أنا مش شايفك طفلة خالص يا ملاك.. بالعكس.. ده انتي.. مزّة.. جامدة جدًا !
أربكها مرةً أخرى بغزله الصريح.. و ابتسم من جديد و هو يرى الحمرة تكسو وجهها و قال مداعبًا :
-أنا مانزّلتش عيني من عليكي من أول ما دخلتي القاعة.. من أول نظرة فكرتك عروسة لعبة ماشية على الأرض.. من كتر ما جمالك مش طبيعي.. أنا سألتك بتروحي المدرسة عشان أعرف بتدرسي فين.
ملك بذات الاضطراب :
-و انت عايز تعرف ليه ؟
-عشان مش عايز دي تكون أخر مرة أشوفك.. و لا انتي مش حابة تشوفيني تاني ؟
رمشت عدة مراتٍ و كانت حالتها مزرية.. إنه يطالبها بردٍ و هي عاجزة عن قول أيّ شيء.. و كأن الأبجدية قد محيت من ذهنها ..
-أنا هاسهّلها عليكي ! .. تمتم و هو يستلّ بخفةٍ يد هاتفه من جيب سترته
و سألها على عجالة :
-رقم موبايلك كام ؟
بلا إرادةٍ منها.. وجدت لسانها يمضي مجاوبًا سؤاله بالضبط ..
سجل “مالك” رقمها و أعاد الهاتف إلى جيبه ثانيةً و هو يقول بغبطةٍ :
-لو لاقيتي رقم غريب بيكلمك في نص الليل لما قبل تنامي.. ردي.. غالبًا هايكون أنا
مش هاعوز حاجة.. بس أقولك تصبحي على خير !
و انتهت الرقصة.. في هذه اللحظة تمامًا ..
ليبتعد “مالك” عنها خطوةً.. فتخال لوهلةٍ بأن توازنها قد اختلّ.. لو لا إنه يمسك بيدها ..
أعادها إلى الطاولة حيث تجلس زوجة أخيها بانتظارها.. شكر كلتاهما.. ثم ولّى مختفيًا بين الحشود تاركًا عيناها تلاحقانه بلا أملٍ …
_________
أفاقت “ملك” من شرودها على صوته الذي يناديها …
-سرحتي مني فين ؟
ابتسمت “ملك” بحلاوةٍ و هي تنظر إليه قائلة :
-و لا حاجة.. سرحت فيك طبعًا.
-لا يا شيخة.. اوعي يكون في واد كده و لا كده شاغلك.. هي المدرسة إللي انتي فيها دي مش بنات بس ؟
-لأ طبعًا.. معانا ولاد.
مالك بخشونة : و بتقوليها في وشي !!
ضحكت على عصبيته المحببة و قالت :
-في ولاد.. بس مجرد صحاب.. محدش شاغلني و لا حاجة من إللي قولتها دي.. أنا أصلًا مابحبش الولاد.
-إيه !؟
-قصدي يعني لما أفكر في الارتباط لازم يكون حد كبير.. راجل يعني مش ولد من سنّي.
ابتسم “مالك” بإدراكٍ و قال :
-اممم.. فهمتك.. طيب يا ترى أنا في نظرك مرشح كويس لقصة الارتباط دي ؟
ردت عليه بصعوبة من شدة الخجل :
-لو مش كويس ماكنتش واقفت أتكلم معاك !
تغيّرت تعابير “مالك” بسرعة الآن بشكلٍ أثار قلقها.. فسألته و قد تلاشى مزاجها السلس :
-إيه ساكت ليه ؟ أنا قلت حاجة زعلتك !؟
مالك بثباتٍ : لأ.. ماقولتيش.. هو أنا مش هشوفك بقى يا ملك ؟
بقالنا كام يوم بنتكلم.. و انتي لسا مش عايزاني حتى أجيلك عند المدرسة !
-عشان بروح مع سليم و برجع معاه في الباص.. مش هاعرف أشوفك ..
-طيب إيه الحل ؟ أنا زهقت بصراحة مش بحب جو المكالمات و الكلام عن بُعد ده.. عايز أشوفك ..
غزاها جزع شديد من فكرة ابتعاده عنها.. أو سأمه منها كما أوضح.. لترد بأسى محاولة كسب بعض الوقت :
-طيب حاضر.. خلاص أنا هاتصرف.. إديني يومين بس و هقولك هانتقابل إزاي ..
تنهد “مالك” بنفاذ صبرٍ.. و قال :
-أوكي يا ملك.. نصبر يومين !
**
انتهت الجلسة بكلمةً من الطبيبة الأربعينية المخضرمة ..
دعت مريضتها إلى اللحاق بها إلى قسم الصالون بمنتصف المكتب.. و قد استدعت الطبيبة الزوج من الخارج حيث يجلس بانتظار زوجته ..
أتى “عثمان البحيري” قبل أن تجلس “سمر” تمامًا فوق مقعدها.. رف قلبها لوهلةٍ لدى ظهوره.. فإن كان هناك تجسيدًا للهيبة و الجاذبية على الأرض فهو حتمًا “عثمان البحيري”.. زوجها هي.. والد طفلّيها.. و ذاك الجنين الذي ينمو بأحشائها …
-إيه الأخبار يا دكتور ! .. هتف “عثمان” متسائلًا و هو يجلس في مقعد مجاور لزوجته
مد يده ممسكًا إحدى يديها بعفويةٍ.. لكنها ارتبكت على إثرها.. ارتباك لطيف.. لا يضايقها البتّة.. لأنها مؤخرًا لا ترى لحياتها معنى بدونه.. لا معنى لأيّ شيء بدونه بكل المقاييس ..
جلست الطبيبة في الأريكة المقابلة للزوجين.. و استهلّت حديثها بلباقتها المعهودة :
-أطمن خالص يا عثمان بيه.. مراتك مافيهاش أي حاجة و الجلسة كانت لطيفة.. احنا دردشنا شوية و كل حاجة كانت عال.. مش كده يا مدام سمر ؟
أومأت لها “سمر” مفضلة ألا تتكلم بعد كل ما أدلت به للطبيبة.. أو الأحرى كل ما أفصحت عنه من مشاعر تحديدًا تحت الضغط من قِبل الطبيبة ..
نزعت الطبيبة عويناتها الطبيّة و مضت تخاطب “عثمان” مباشرةً :
-شوف يا عثمان بيه.. زي ما كل الدكاترة إللي قابلي قالولك.. مدام سمر مش مصابة عضويًا بأي شكل من الأشكال.
عثمان عاقدًا حاجبيه :
-طيب تفسري فقدان الذاكرة ده بإيه يا دكتور ؟
-مدام سمر مش ناسية حاجة.. ذاكرتها موجودة بالفعل.
ارتفع حاجبيّ “عثمان” ذهولًا و هو يلقي نظرة مطوّلة نحو زوجته.. ثم ينظر إلى الطبيبة ثانيةً و يسألها :
-ذاكرتها موجودة ؟ أومال ناسياني و ناسية ولادها إزاي ؟؟
توجست “سمر” عقب نطقه الحاد لآخر كلماته.. أرادت أن تسحب يدها من قبضته.. لكنه شدد عليها ما إن حاولت.. فرضخت له …
-موجودة بس مش بالمعنى الحرفي ! .. ردت الطبيبة بصوتٍ هادئ
عبس “عثمان” بشدة و قد أحس بدنو الغضب إلى أعصابه ..
سارعت الطبيبة تشرح له أكثر :
-وضعها ببساطة نفسي.. زي ما حضرتك قررت إن لازمها علاج نفسي ده كان صح.. و لما جبتها عندي ده أكبر صح و هايقلل فترة العلاج.. المشكلة الأساسية هي لعبة بيمارسها عقلها الباطن.. عقلها الباطن مخزن ذكرياتها من أول ما عرفتك تحديدًا لحد يوم الحادثة.. لو كان فقدان ذاكرة عضوي كانت ذاكرتها كلها اتمسحت أصلًا.. لكن هي لسا فاكرة حياتها من قبلك.. و كمان بدأت تفتكر لمحات من حياتها معاك.
عثمان باهتمام : طيب هي امتى هاتستعيد كل ذكرياتها معايا يا دكتور ؟ أو إيه إللي ممكن أعمله عشان أساعدها تفتكر ؟
-هي مش هاتفتكر بأي طريقة ممنهجة.
-يعني إيه !؟
-يعني زي ما بيحصل.. العلاج تدريجي.. مدام سمر مرّت بصدمات كتير في حياتها.. الصدمات دي لسا مأثرة عليها نفسيًا لحد دلوقتي.. و كانت الحادثة و فقدان الذاكرة هي المحطة الأخيرة في سكة الصدمات دي.. العلاج منها المرة دي هايكون نهائي و لما ترجع و تفتكر كل حاجة مش هايحصل لها أي انتكاسات أو حتى تقلّبات.. لأنها هاتكون اتحررت من عقدها كلها و اختارت ترجع لحياتها.. و تكمل معاك للأبد.. هي بس كل إللي محتاجاه منك تشجيع و مساندة.. و ماتقلقش.. مش هاطوّل.. و كل الذكريات المحجوبة ورا عقلها الباطن هاترجع.. قريب أوي إن شاء الله.
استقرت كلمات الطبيبة بعقل “عثمان” كلمةً كلمة.. و أدار رأسه نحو زوجته ما إن فرغت.. نظر لها مليًّا ..
بينما كانت تتحاشى النظر إليه قدر استطاعتها.. لكنها لم تصمد طويلًا و تواصلت معه بالعين ..
لمح إلتماعٍ طفيفٍ للدموع بعينيها.. فشدد على يدها في قبضته بلطفٍ.. و لكن دون أن يتغيّر تعبير وجهه المتجهم مطلقًا …
**
السير ورائها في وسط النهار.. و حمل حقائب التسوّق خاصتها كان من أحب الأشياء إلى قلبه.. على الرغم من إنه ما كان ليطيق أن يؤدي مثل هذا الدور مع أيّ امرأة أخرى غيرها ..
حتى أم طفله.. التي طلّقها لأنه لم يستطع نسيان المرأة التي يحب.. و أدرك بأنه حقًا فعل الصواب.. ها هي الفرصة سنحت لهما ليكونا معًا.. ها هي حبيبته معه.. صارت خطيبته.. و خلال فترة قصيرة ستكون زوجته ..
إلى الأبد …
-ماجعتيش يا حبيبتي ؟
إلتفتت “رحمة جابر” إلى سؤال خطيبها قائلة على الفور :
-قول ان انت إللي تعبت من اللف يا حبيبي.. عمومًا خلاص هانت.. ألاقي بس الـShoes المناسب هو ده إللي ناقص و بعدين نروح للمكان إللي انت عايزه.
قبض “إبراهيم النشار” على رسغها بلطفٍ حازم ليستوقفها قائلًا :
-أنا ماورايش حاجة و لا حد غيرك يا حبيبتي.. أنا ألف وراكي للصبح.. بس انتي إللي تاعبة نفسك بقالك فترة و مش بتقفي ترتاحي حتى.. مش ملاحظة ده ؟
نظرت له “رحمة” عاجزة عن إنكار حقيقة ملاحظاته.. فابتسم لها و قال :
-تعالي ننزل الـFood Court نشوف أي مطعم حلو يعجبك.. نقعد نتغدا و بعدين نرجع نلف زي ما تحبي.. بس تفصلي شوية و تاكلي حاجة.. يلا يا حبيبتي.
عندما يطلب منها أيّ شيء بهذه الطريقة فإنها لا تقدر إلا أن تمنحه كل ما يريد ..
يأسرها أن رجلًا بقوته و الضخامة التي نشأ عليه جسده.. يبدو في أعين الناس كوحشٍ كاسرٍ.. لكنه معها هي أرق من الحمل الوديع ..
هذا الرجل لا يمكنها أن تراه إلا معجزة هبطت عليها من السماء.. أتى ليعوّضها سنوات العذاب و الإذلال التي عاشتها و تحمّلتها فقط لأجل صغيرتها.. “إبراهيم”.. هو هدية صبرها و صمودها كل هذا الوقت الذي يُشكّل نصف عمرها …
-مش هاتقوليلي اتكلمتي مع الست دي في إيه ؟ .. تساءل “إبراهيم” بمواربة و هو يرتشف مشروب الصودا من القشّة مباشرةً
توقفت “رحمة” عن قضم شريحة البيتزا خاصتها.. نظرت إليه و هي تقول بفتورٍ :
-المواجهة إللي حصلت بيني و بين فريال المهدي كانت لازم تحصل من زمان.. و إللي إتقال فيها يا إبراهيم مايخصش حد غيري و أنا و هي.. أنا آسفة بس مش هجاوب عن أي سؤال منك بخصوص إللي بيني و بين عيلة البحيري.
و قضمت قضمة كبيرة من الشريحة الساخنة ..
غضّن “إبراهيم” جبينه مرددًا :
-إيه سبب رفضك لأي كلام عن حياتك إللي فاتت خصوصا حياتك مع أبو بنتك ؟
رحمة بفكرك إني عرفتك عن طريقه أصلًا.. هو إللي كلّفني بمراقبتك لسنين.. و انتي ماكنتيش تعرفي و لا حاسة بوجودي وراكي في كل وقت و أي مكان تروحيه !
زفرت “رحمة” بضيقٍ.. تركت طعامها نهائيًا و تراجعت في كرسيها.. ثم قالت بعد تمالكت رباطة جأشها ثانيةً :
-اسمع يا إبراهيم.. أنا الدنيا لطّشت فيها جامد.. يعني ماتفكرش عشان كنت مرات يحيى البحيري.. و عايّشني في مستوى ماكنتش أحلم بيه و كتب لي مطعم و بيت و عربية و رصيد في البنك.. إني كنت مرتاحة في حياتي معاه.. أنا قلت لك إني كنت بحبه.. و على فكرة لسا بحبه.. لأني واثقة إنه على أد كل المعاناة إللي عايّشني فيها.. كان بيحبني و بيهتم بيا.. و كمان.. هو كان أول راجل في حياتي.. و أبو بنتي و عشت معاه سنين.. مقدرش أنسى عمر بحاله مع الراجل ده يا إبراهيم.. و في نفس الوقت حاليًا.. مستحيل أحكي عنه لحد.. و لا حتى انت.. مش ممكن أحكي لك تفاصيل حياتي معاه.. و لا تفاصيل حياتي قبله.
إبراهيم بدهشةٍ حقيقية :
-ليه يا رحمة ؟ انتي مش بثقي فيا ؟
ده أنا شوية و هبقى جوزك.. و فوق ده أنا و انتي بنحب بعض.
ابتسمت “رحمة” بمرارةٍ و قالت :
-أنا و يحيى كنا بنحب بعض.. بس الحب مامنعشوش عن أي حاجة عملها فيا
إبراهيم.. الانسان إللي مابيتعلّمش من أخطاؤه يبقى غبي.. و أنا اتعلّمت.. اتعلّمت ماحكيش إللي بيوجعني لأي حد.. مهما كنت بحبه و بثق فيه.. لأنه حتى لو بيحبني.. هايدوس على وجعي بالتحديد عشان يوصل لهدفه معايا بأي طريقة.. أنا تربية يحيى البحيري.. و كنت تلميذة ضعيفة و خاضعة قدامه طول حياتي معاه.. لكن من جهة تانية قوّاني.. خلّاني واحدة قوية.. تقدر تعيش منغيره و تتعامل مع البشر بنفس قوته و جبروته.. دي حاجة من ضمن حاجات قليلة عملها معايا و بشكره عليها ..
و سكتت “رحمة” فجأة.. بقيت تتبادل النظرات معه.. بينما يرمقها بنظراتٍ ملؤها الشفقة ..
لا ريب إنها تعذّبت.. و تعانى من أزمة ثقة كان لزوجها السابق الفضل الأكبر بها.. لكن ماذا ستكون فائدته بحياتها لو لم يثبت لها إنه أهلًا لثقتها !؟
ربما أحبّها “يحيى البحيري”.. لكنه قطعًا لم يقدّرها حق قدرها.. لم يمنحها المكانة التي تستحق.. و لم يحترمها طوال حياته معها ..
إنما هو.. “إبراهيم”.. يتوق لإثبات كم هي أهم و أثمن شيء بحياته.. و عليها أن ترى ذلك.. و تصدقه.. عاجلًا أو آجلًا.. أمامهما العمر بأكمله ليحصلا عليه ..
امتدت يد “إبراهيم” عبر الطاولة.. شبك يده بيد “رحمة” و شدد عليها و هو يقول ناظرًا في عينيها بقوةٍ :
-و أنا حاليًا.. مش هسألك تاني.. و لا عايز أعرف تفاصيل حياتك قبلي
أنا عايز أعيش حياتك إللي جايّة.. عايزك.. عايزك انتي يا رحمة !
**
في أحد أكبر مراكز التجميل المخصصة لروّاد الطبقة المخملية ..
جلست “سمر” تحت يديّ خبيرة التجميل الأشهر بالمدينة.. تحدق في المرآة المقابلة لها.. بالتحديد تحدق إلى إنعكاس زوجها الذي جلس على مقربة منها واضعًا ساق فوق الأخرى.. يراقب في هدوءٍ ..
أزالت المرأة الشابة حجاب “سمر”.. فكّت عقدة شعرها و فركته مبدية إعجابها بكثافته و نعومته و طوله :
-ما شاء الله.. شعرك جميل أوي.. مش حاسة إنك محتاجة تغيّري فيه أي حاجة.. بس الأكيد ان أي حاجة هاتليق عليكي لأن وشك مايقلّش جمال عن شعرك !
-“قل أعوذ برب الفلق” ! .. تمتمت “سمر” في سرّها
بينما تلتفت الأخيرة نحو “عثمان” قائلة :
-تحب نعمل لوك معيّن يا عثمان بيه ؟
رد “عثمان” بهدوء :
-مش أنا.. إللي تحبه سمر أعمليه يا مس كندا.
أدارت “كندا” رأسها لتنظر إلى “سمر” متسائلة :
-مدام سمر.. تحبي نعمل إيه ؟
نبدأ بقصّة شعر و لا أجيب لك كتالوج الـHair Dye تختاري لون ؟
لا زالت “سمر” تنظر إلى إنعكاس زوجها في المرآة.. تشعر بعظم الامتنان نحوه.. إنه فعليًا يبذل ما بوسعه ليساندها.. ليسعدها.. و ليكتسب ثقتها من جديد ..
إنه يحبّها حقًا.. حب غير مشروط و قد باتت متأكدة من هذا.. ما أصبره عليها سوى عشقه لها ؟
فهل يمكنها ألا تحبه ؟
بلى إنها تحبه.. دائمًا ما كانت تحبه.. و لا تقايضه بأيّ شيء في الحياة.. لأنه ببساطة أغلى ما تمتلك …
-عايزة أقص شعري الأول ! .. قالتها “سمر” و هي تشعر بخفقان قلبها
رأت لمعة الإغراء تشعّ من عينيه.. فعلًا تمكنت من رؤيتها.. و مضت الدقائق التالية و هما لا يكفّان عن النظر لبعضهما ..
و كان “عثمان” محطّ أنظار السيدات و الفتيات من حوله.. صحيح إنه اختار مكانٍ قصيًّا بالصالون حيث يكون و زوجته بمعزلٍ عن محيط الأخريات.. إلا إن “سمر” استطاعت أن ترى تلصصهن عليه بالذات ..
و من حينٍ لآخر كانت الهمسات تصل لمسامعها مضرمة بصدرها نيران الغيرة ..
اللعنة عليهن فهذا زوجها هي.. لماذا يرمقنه و يتهامسن عليه ؟؟؟؟
أتمّت الخبيرة قصّة الشعر المطلوبة.. تمامًا كما اختارتها “سمر” و كما يحبّها “عثمان” ..
ما إن أتمّتها حتى نادت “سمر” زوجها على عجالةٍ :
-حبيبي.. ممكن تيجي عندي شوية لو سمحت ؟
قام “عثمان” ليلبّي رغبتها شاعرًا ببعض الغرابة.. لكنه مضى إليها بالطبع لأنه تريده.. بالتأكيد سيفعل لها أيّ ما تريده.. فدائمًا ما كان يفعل …
أتى من خلفها ملامسًا طرف كتفها براحته.. بينما ترفع صوبه كتالوج الصبغة قائلة :
-اختار لي لون !
أخذ “عثمان” الكتالوج من يديها و راح يتصفّحه باهتمامٍ.. بينما تضع “سمر” يدها على رسغه مشرأبة بعنقها.. ترمق السيدات من مكانها بنظرات الزهو و الانتصار.. فهي قد أثبتت للتو ملكيتها له ..
زوجها.. “عثمان البحيري”.. لها.. لها هي فقط …
-ده هايبقى تحفة عليكي ! .. قالها “عثمان” مشيرًا بسبابته إلى خصلة بمنتصف الكتالوج
تبعت “سمر” إشارته.. لترى اللون الفريد الذي انتقاه.. و تسمعه في اللحظة يتمتم كأنما يغازلها :
-عنّابي !
تطلّعت إليه شابكة ناظريها بناظريه.. تأسرها عيناه.. تسحبانها من العالم المادي الذي تعرفه لتأخذاه إلى عالمه هو.. العالم الذي ذاقت حلاوة العيش فيه.. و لا تود مغادرته مطلقًا ..
ما كانت لهذه اللحظة الطويلة أن تنتهي بسرعة.. لو لا أن نظّفت الخبيرة حنجرتها من خلفهما ..
حررها “عثمان” من نظراته مخاطبًا الأخيرة :
-اختارنا اللون ده يا مس كندا.
و ناولها الكتالوج ..
أومأت له “كندا” و دعته للجلوس بالقرب.. ثم بدأت عملها فورًا ..
جلس مرةً أخرى يراقب ما يجري أمام عينيه.. كانت تجربة من شأنها أن تضجره.. إلا إن أيّ شيء يتعلّق بـ”سمر حفظي” لا يمكن أن يضجره ..
يشعر “عثمان” باهتزاز هاتفه بجيب سترته.. فيخرجه في الحال و يرد على اتصال التابع الذي كلّفه بملازمة “فريال” …
-قول يا ريمون !
-عثمان باشا.. فريال هانم خرجت من الفندق.. توّهتني وراها سعاتك شكلها لاحظت إني مراقبها.
انتفض “عثمان” من الغضب مغمغمًا و هو يخفض صوته قدر استطاعته :
-توّهتك !!!
يعني إيه توّهتك.. أنا قلت لك إياك تتوارب عن عينك يا ريمون إزاي تتوه منك !!؟؟؟؟
-ماتقلقش يا باشا هي توّهتني بس أنا جبتها و ماشي وراها دلوقتي حالًا.. أنا لسا براقبها منغير ما تاخد بالها.
زفر “عثمان” بقوة مغمضًا عينيه و صمت لهنيهةٍ.. ثم قال :
-اوعى تغيب عينك يا ريمون.. خليك وراها فين ما تروح
و بلّغني بالجديد أول بأول.. سامعني ؟
-أوامر يا باشا.
و أغلق “عثمان” معه ..
شرد لثوانٍ متسائلًا أين قد تذهب أمه يا ترى !؟
إن القلق المستمر الذي يشعر به حيالها يعيق حياته بأن تسير بشكلٍ طبيعي.. متى تعود إليه.. متى تسمح له بأن يداوي كل جروحها و آلامها ..
متى !!؟؟
**
كان من السهل عليها الإتيان بعنوان وصيفتها السابقة.. فهي لم تكن فقط مجرد وصيفة.. بل كانت بمثابة فرد من أفراد العائلة ..
فهي قد ولدت بالقصر فعليًا.. والديها كانا يعملا معًا هناك.. تزوجا و أنجباها في القصر.. عاشت نصف عمرها به.. و بعد وفاة والدتها اتخذت مكانها بالعمل..و لم يمر وقت طويل و رحل أبيها عن الدنيا بدوره ..
لتبقى هي فقط بالقصر.. و تلتقي بزوجة الإبن الأصغر للعائلة و تغدو وصيفتها الخاصّة.. و المؤتمنة على أسرار غرفتها الخاصة.. المخوّلة رسميًا بتولّي شؤن السيدة الصغيرة ..
الوصيفة السابقة.. “حنان عرفة”.. التي اتخذتها صديقةً يومًا ما.. حتمًا لديها أجوبة على كل التساؤلات التي تدور برأسها.. حتمًا ..
صطفت “فريال المهدي” سيارتها الفارهة هنا.. أمام مبنى من طابقٍ واحد داخل هذه الحارة الفقيرة.. ترجلت من خلف المقود و أغلقتها تمامًا بضغطة زر ..
نظرت إلى البوابة المتهالكة مطوّلًا.. ثم حسمت ترددها.. و اتجهت بخطوات ثابتة إليها ..
استوقفتها قبل أن تجتاز البوابة فتاة صغيرة.. ربما في العاشرة من عمرها.. ثيابها قذرة و تسير حافية القدمين :
-رايحة فين يا ست ؟
أجفلت “فريال” قائلة بصوتها اللطيف عادةً :
-مش ده بيت حنان عرفة يا قمر ؟
أجابت الفتاة و هي تحك فروة رأسها بأناملها الخمس :
-آه حنان دي ستي.. أنا بنت ابنها.. انتي عايزة ستي في حاجة ؟
أومأت لها “فريال” و قالت :
-أيوة عايزاها.. هي جوا و لا ليها عنوان تاني ؟
-لأ جوا.. تعالي ورايا.
سارت “فريال” وراء الفتاة بحذرٍ.. تخطو فوق الأرض الطينية الجافة و تتحاشى المرور بالحصى و القمامة المتناثرة بكل مكانٍ ..
كان مدخل البيت شديد الرطوبة.. تملأه رائحة العفن ..
صعدت أربعة درجات تؤدي إلى فسحةٍ ربما تكون صالة للجلوس.. و لكن ليس هناك شيء ليجلس عليه أيّ أحد.. هناك بالواجهة فقط دراجة معطوبة مركونة إلى الجدار الحجري ..
و على شمالها بوابتين إحداهما مفتوحة.. يطلّ منها نطاق محدود أشبه بالمطبخ ..
كان هذا مبدئيًا لا يحتمل بتاتًا.. هذا البيت.. ليس به أيّ مظهر من مظاهر الحياة الآدمية.. فكيف به أُناس يعيشون به !؟
-ستــي !
انتبهت “فريال” لصياح الفتاة التي سارت نحو البوابة المغلقة.. قرعت عليها مرتين.. ثم فتحت و أطلّت برأسها هاتفة :
-في واحدة ست عايزاكي.
-مين ؟
اقشعّر بدن “فريال” لوهلةٍ ما إن سمعت صوتها.. صوت “حنان” بذاتها.. لا يمكنها أن تنسى صوتها مهما مرّت من سنين ..
-ماعرفهاش يا ستي.. دي شكلها نضيفة أوي باينها مش مصرية أصلًا.. دي هانم.
-دخّليها.
بهذه البساطة.. تسمح لها “حنان” بالدخول ..
استدارت الفتاة داعية “فريال” للدخول :
-اتفضلي خشي.
و تنحت لها.. بل خرجت من البيت مرةً أخرى ..
ازدردت “فريال” ريقها بشيء من التوتر.. لكنها تجلّدت بمزيدًا من القوة و الإصرار.. عليها أن تكمل ما بدأته.. عليها تنهي هذا مهما كلّفها الأمر ..
مضت رأسًا نحو الباب الموارب.. دفعته ببطءٍ و دلفت مجيلة بصرها أرجاء الغرفة.. كانت غرفة صغيرة ..
بها أريكتين متقابلتين.. نافذة مسيّجة.. و سرير في الواجهة مباشرةً.. فوقه تلفاز قديم الطراز مثبت بالجدار ..
و.. “حنان” ..
ها هي.. ترقد نصف جالسة فوق الفراش النحاس ذي الشراشف المهترئة.. لقد بدت عجوز.. عجوزٌ للغاية.. رغم إنها لا تكبر “فريال” إلا بخمس سنواتٍ فقط ..
لقد هرمت بشدة.. و اشتعل رأسها شيبًا ..
نظرت إلى “فريال” بابتسامةٍ ذات مغزى و قالت :
-أهلًا يا هانم.. خطوة عزيزة.. اتأخرتي ليه ؟
نظرت لها “فريال” باستغرابٍ شديد.. فأردفت بنفس الطريقة :
-أنا كنت عارفة إنك جايّة.. اتفضلي اقعدي واقفة ليه ؟
معلش لو كان بيتي مش أد المقام.. ما أصل ماعرفتش أعمل بيت عليه قيمة.. يحيى بيه الله يرحمه بقى كان واعدني إني مش هالاقي لقمة عيش في البلد كلها.. و بر بوعده و فضلت طول عمري قاعدة منغير شغل.. بشحت اللقمة و الهِدمة !
تخطّت “فريال” ما قالته “حنان” و ما تعرفه هي سلفًا ..
رأت كرسي من الخشب بالجوار.. فسحبته و جلست بمنتصف الغرفة.. نظرت إلى الشخصية التي عرفتها يومًا ما.. ثم قالت أخيرًا :
-حنان.. أنا جايّة أسألك سؤال واحد بس.. و مستعدة أديكي مقابل الإجابة عليه مبلغ يعيّشك الباقي من عمرك مرتاحة.. و مبسوطة كمان.
و لتبرهن على كلامها.. فتحت سحاب حقيبتها و أستلّت دفتر الشيكات.. عثرت على قلمها و خطّت رقمًا ثم وضعت امضتها.. قطعت الورقة من الدفتر و أشهرتها بوجه “حنان” قائلة :
-ده شيك بـ 10 مليون.. و لو عايزة أكتر هاديلك.. بس تجاوبيني على سؤالي.
نقلت “حنان” بصرها بين سيدتها و بين الشيك.. و قالت بهدوء :
-عايزة تعرفي إيه بالظبط ؟
إيه إللي عرفتيه.. و جاية تسأليني عنه ؟
فريال بثباتٍ : انتي كنتي خدّامتي.. كنتي الوحيدة في القصر المسموح لها تدخل جناحي في أي وقت.. و كنت المسؤولة عن أكلي و شربي.. تحديدًا ..
-فنجان شاي قبل النوم ! .. قاطعتها “حنان” مكملة الجملة عنها
صمتت “فريال” لثوانٍ.. ثم سألتها بصوتٍ أبح :
-احكيلي.. أرجوكي.. احكيلي إللي كان بيحصل !!
تنهدت “حنان” بثقلٍ و جاوبتها بمنتهى البساطة :
-مافيش حاجة تخليني أخبي عنك يا فريال هانم.. يحيى بيه و أخوه رفعت بيه ماتوا.. صوباعي مش تحت ضرس حد.. و أنا أصلًا مابقتش باقية على الدنيا ف أسمعي كويس بقى.. رفعت بيه البحيري هو إللي وزّني أحط لك حبوب في الأكل عشان تسقّطك.. و وعدني إن محدش هايكشفني و بعدها يديني مبلغ كبير يغنيني عن الخدمة في البيوت.. رفعت بيه هو إللي سقّطك.. أنا كنت مجرد آداة في إيده مش أكتر.
اعتصر قلب “فريال” من شدة الألم الذي حلّ بها.. لكنها تحمّلته.. قليلًا فقط.. قليلًا ..
تابعت سؤالها : و الشاي ؟
-الشاي بردو كان بيخلّيني أحط لك في حبوب.. ماعرفتش دي حبوب إيه غير لما جربت أحطها في أكل الكلب و نام بعدها.. عرفت إنها حبوب منوّمة.. و في مرة بعد ما طلعت لك الشاي استنيت في الطرقة ساعة بحالها.. لاقيت رفعت بيه بيدخل أوضتك.. طبعًا يحيى بيه كل مرة ماكنش بيبقى موجود لما رفعت بيه بيطلب مني أحط لك الحبوب في الشاي.. ليلتها عرفت كان بيعمل إيه.. عرفت إنه كان بيخدّرك.. عشان ماتوعيش و هو بيعمل فيكي إللي انتي عارفاه و جاية إنهاردة تسأليني عليه.. رفعت بيه عمل عملته فيكي.. و حملتي منه يا فريال هانم عشان كده سقّطك.. و لما يحيى بيه رماني في السجن جالي رفعت بيه و هددني.. لو فتحت بؤي مش بس هايحبسني.. هايّشرد عيالي و لما هاطلع مش هاعرف لهم طريق جرّة ..
و صمتت عند هذا الحد لتلقط أنفاسها.. ثم قالت برنّة سخرية :
-بس أهو مات هو أخوه.. و ماعادش حد يهمني أصلًا.. أديكي عرفتي إللي جرا
ارتاحتي ؟ يارب تكوني ارتاحتي يا هانم.
يضيق صدر “فريال” بغتةً.. تجد صعوبة بالغة في التنفس.. فتنهض بسرعة و هي تقذف الشيك بوجه “حنان”.. ثم تركض خارجة من البيت ..
هرعت إلى سيارتها.. استندت إلى مقدمتها محاولة تعبئة الهواء إلى رئتيها عبثًا.. أخذت تشهق بقوة.. و كأنها بالنزع الأخير ..
صدح الطنين بأذنيها.. و بدأت الرؤية تتلاشى في عينيها ..
أخر ما سمعته كان مجموعة أصوات متداخلة.. ثم لم تعد تسمع و لا ترى شيء !

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية كرسي لا يتسع لسلطانك)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى