رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم مريم غريب
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الجزء الثاني والثلاثون
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك البارت الثاني والثلاثون
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الحلقة الثانية والثلاثون
الفصل الثاني و الثلاثون _ حرّة _ :
لم يحدث شيء ..
لأول مرة لا يحدث شيء.. لا تشعر بأيّ ألم.. تلك القبضة التي اعتصرت حلقها منذ بداية الحدث الأخير الذي خرب ماضيها كله و حاضرها في آنٍ.. لقد اختفت ..
عجبًا !
ترى ماذا حدث ؟ .. ما هو آخر شيء عهدته ؟
هذا غريب.. إنها لا تتذكر شيئًا.. أين كانت أخر مرة ؟ .. ماذا فعلت ؟ .. ما هو أخر شيء رأته عيناها قبل أن تفقد الوعي ..
هل فقدت وعيها حقًا !؟
لا تظن ذلك ..
فهي تعي.. فعليًا تعي.. إنها تستشعر برودة من حولها.. و لكنها برودة غير مؤذية ..
ثقلها كأنه مُحمّل فوق بساطٍ حريري.. بل كأنها صارت في وزن ريشةٍ.. خفيفةً للغاية ..
أين هي ؟
أين ؟
-فريـال !
هذا الصوت.. لم تكن المرة الأولى التي يناديها.. منذ رحيله لم يتركها يومًا ..
تركها منذ فترةً قصيرة فقط.. كأنما يخشى.. أو يخجل بالأحرى من مجرد طرق أذنها بهتافاته المعتادة ..
-فريـال.. حبيبتي !
مهلًا ..
هذا ليس مجرد هِتاف.. إنه.. بطريقةٍ ما.. يبدو حقيقيًا ..
رباه !
لا يمكن.. لا يمكن أن يكون حقيقيًا ..
انفتح جفناها بغتةً.. فإذا بها تقف بأخر مكان توقعت التواجد به ..
غرفة المكتب.. بقصر “البحيري”.. ببيت الزوجية الذي قضت فيه عمرها كله تقريبًا.. قصرها ..
و لكن الذي يقف أمامها.. زوجها.. “يحيى البحيري” بشحمه و لحمه.. يبدو كأخر مرة رأته.. بعمر الـ51.. لم يصغر و لم يكبر يومًا واحدًا …
-يحيى ! .. نطقت “فريال” مشدوهةً
لا تصدق ما تراه.. إنه هنا.. عاد.. لقد عاد !!!
-انت.. انت.. انت رجعت ؟؟؟؟
ربما توشك على فقدان عقلها.. ربما تناست كل ما حدث طوال الفترة الماضية.. ربما تغفر له كل شيء.. فقط لو أنه قد عاد حقًا ..
يكفي أن يعود.. يكفي أن تستعيده مرةً أخرى.. هذا كل ما تريده.. إنها تريده.. إنها تعشقه حد الجنون.. هذا زوجها و حبيبها ..
إنه هو.. هو ..
كان يرتدي حلّته السوداء.. ذات القميص السماوي المطابق للون عينيه.. كان شعره المثالي الناعم مُصفف كالعادة.. كان نظيفًا و لامعًا كدأبه و كما عهدته طوال حياتها معه ..
و الآن.. كان يبتسم لها.. تلك الابتسامة الملائكية خاصته.. و التي لا تلائم سواه ..
لم تستطع الإحادة عنه طرفة عينٍ.. إن كان حلمًا فلا تود أن تغادره.. لن تستيقظ.. لن تفعل و هي قادرة على ذلك.. ليس بعد أن وجدته …
-إزيك يا فريال ؟
أقشعرّت لسماع صوته و رؤيته في نفس اللحظة.. كم يبدو هذا حقيقيًا.. بل واقعيًا إلى أقصى حد ..
تنفست بصعوبةٍ و هي تدفع بجسدها للأمام.. و كأنها تنجو من براثن وحلٍ مميت ..
نجحت بطريقةٍ ما و وجدت ساقيها القوة للتحرك و السير تجاهه ببطءٍ.. بينما تقول بلهجةٍ مرتعشة :
-انت حقيقي.. انت رجعت بجد يا يحيى ؟ .. سيبتني ليه ؟
تلّبدت نظراته بغشاوةٍ رقيقةٍ من الدموع في هذه اللحظة.. ربما لم تتوقع هذا.. لكنه مد يده نحوها.. فمدت يدها ليأخذها.. ثم و كان المسافة بينهما قد تلاشت ..
شدّها إليه برفقٍ.. لتغمرها رائحته المألوفة.. فتوقن بأن كل هذا لا يمكن أن يكون مجرد حلمًا.. إنها تشعر به.. تشعر بلمساته على جسدها.. تشم ريحه ..
كيف لكل هذا أن يكون حلمًا ؟
كانت لتعرف.. لقد سبق و حلمت به منذ رحيله آلاف المرات.. هذا لا يشبه البتّة أحلامها و رؤياها به.. هذا أكثر حسيّة من أن يكون.. هذا واقعها ..
هذا هو الواقع الذي فقدته و قد عثرت عليه أخيرًا.. و لربما ما فات كله كان كابوسًا و الآن استفاقت منه.. أجل ..
هذه هي الحقيقة.. زوجها لم يمت.. و كل ما عاشته طوال أربعة عشر عامًا كان محض أكذوبة.. كابوسٌ مزعج.. أجل …
-كان حقيقي يا فريال !
نظرت إليه بتيهٍ.. بالكاد فهمت ما قاله.. فسألته على الفور دون أن تكف عن التشبّث به ملأ قبضتيها :
-انت سمعتني إزاي ؟ .. انا فكرت بصوت عالي ؟؟
جاش الحنين بأعماقها حين مسح بكفّه على رأسها قائلًا بلطفه المعهود :
-انتي مش محتاجة تتكلمي عشان اسمعك.. افتكري.. مش انا وعدتك ؟
تلقائيًا رنّت بأذنيها تلك العبارة التي قالها عندما ضمّها إلى صدرها مودّعًا في هذا اليوم المشؤوم : “بحبك.. خليكي فاكرة إني جنبك دايمًا.. و بحبك دايمًا!”.
يستطرد “يحيى البحيري” ممسّدًا خدّها بحنوٍ :
-أنا كنت معاكي.. كنت موجود يا فريال حتى لو انتي مش شايفاني.. أنا كنت حواليكي.
أغرورقت عيناها بالدموع و هي تكرر سؤالها :
-سيبتني ليه يا يحيى ؟
إلتزم الصمت الآن.. فمه مطبقًا بأسفٍ و كأن الإجابة لا يمكن معرفتها.. أو بمعنى أصح لا يمكنها هي أن تعرفها ..
انفعلت مشاعر “فريال” و هي تستنطقه باكية بحرقةٍ :
-رد عليا يا يحيى.. أنا تعبت.. انت كسرتني و كسرت قلبي.. قلبي إللي ماحبش غيرك
أنا عملت فيك إيه عشان تعمل فيا كل ده ؟ .. أنا حبيبتك.. أنا جبت لك عثمان و صفيّة.. خونتني ليه ؟ .. هنت عليك ليه يحيى رد.. رد عشان خاطري و ريّحني !!!
تابعت عيناه الدمعة المنحدرة على وجنتها.. رفع يده إلى وجهها على الفور و مسح دموعها متمتمًا :
-أنا آسف.. أنا آسف على كل حاجة.. على أي حاجة.. لو يرجع الزمن بيا يا فريال.. صدقيني ماكنتش أكررها تاني.. ماكنتش أجرحك أبدًا.. لأخر يوم في عمري.. كنت مصمم ماجرحكيش.. و لا تعرفي أي حاجة ..
كانت تقترب منه أكثر أثناء حديثه إليها.. تريح رأسها على صدرها و تستمع إلى نبضات قلبه الرتيبة ..
رباه !
كيف لكل هذا ألا يكون حقيقيًا !!؟؟؟
تبلل قميصه الناعم بدموعها.. لم تستطع السيطرة على بكائها البتّة.. بينما يكمل :
-انتي اتعذّبتي كتير.. أنا عرفت و شفت كل حاجة.. و ده كان عقابي يا فريال
صدقيني ده كان عقابي.. ماتفكريش إني مرتاح !
رفعت رأسها و نظرت إليه.. عيناها حمراوين و دامعتين.. ترى في نظرته الإدراك ..
إنه يعرف إذن !!
يعرف ماذا صار لها في بيته.. من شقيقه.. من الجميع …
-أنا آسف ! .. قالها و قد دمعت عيناه بدوره
نظرت له بارتباكٍ.. بينما يقول :
-أنا آسف لأني كنت السبب.. أنا آسف يا فريال و مش هقدر أقولك سامحيني.. مش عايزك تسماحيني.
ردت بصعوبةٍ من تحت وطأة غصّتها :
-هسامحك لو رجعت لي.. أنا مش قادرة أعيش منغيرك.. أرجع لي يا يحيى !
تقلّصت تعابير وجهه بألمٍ شديد.. ألم فعلي و قال :
-ياريت.. ياريت أقدر !!
أمسك بمعصميّها الآن.. يحاول إبعادها عنه.. لكنها تتشبّث بقميصه أكثر.. تزداد ارتباكًا و هلعًا من فكرة فقدانه.. فيقول بهدوءٍ :
-لازم تسيبيني يا فريال.
هزّت رأسها بقوةٍ مغمغمة :
-لأ.. أنا ماليش حاجة من بعدك.. ماتسبنيش تاني ..
لو بتحبني يا يحيى ماتسبنيش.. لو بتحبني خدني معاك.. خدني معاك أنا مش قادرة أكمل منغيرك !
أحاط وجهها بكفّيه نظر بعينيها قائلًا :
-انتي ليكي حاجات كتير أوي لازم ترجعي عشانها.. لسا يا فريال.. لسا وقتك مجاش.. لازم ترجعي.
أنّت من شدة البكاء و هي ترد عليه :
-مش عايزة أرجع.. أنا هنا مرتاحة.. لو رجعت هاتعب أكتر و أنا خلاص مابقتش قادرة يا يحيى.. مش عايزة أرجع !!
همس و هو يمرر يده برفقٍ على خدّها :
-ماتستعجليش.. أنا مستنيكي.. بس مش دلوقتي ..
مش دلوقتي يا فريال.. عثمان.. صفيّة.. و شمس.. لازم ترجعي عشانهم.. لازم ترجعيلهم.. لسا وقتك مجاش !
و أغمض عينيه مقرّبًا رأسها إليه.. ثم لثم جبينها بقوةٍ في لحظاتٍ مطوّلة ..
تركها مبعدًا يديها عنه بحزمٍ.. فكان كأنما يسلخ الشوك عن الحرير.. و قال بصوته القوي و هو يبتعد نحو الضوء المُبهر :
-ارجعي يا فريال.. ارجعي و ماتخافيش.. أنا جنبك.. دايمًا جنبك !
كانت تحدق فيه بقوةٍ حتى كاد الضوء يعميها ..
لم تشأ مراقبته يرحل ثانيةً.. لكنه قدر رحل بالفعل.. رحل و كان هذا أخر شيء رأته …
**
بالكاد انتهت منها خبيرة التجميل.. بالكاد رآها بعد أن غيّرت من مظهرها.. كانت تتأهب لسماع ردّه بعد أن رأت الاعجاب الشديد بعينيه ..
أتاه ذاك الاتصال الذي قلب حاله رأسًا على عقب.. و أحال تعبيره المرح إلى التجهّم التام.. لقد شحب لونه كليًا في لحظاتٍ ..
و ما لبث أن أغلق الخط و أمرها باتباعه في الحال.. فعلت بدون أن تتسنّى لها أيّ فرصة للاستفسار.. ارتدت حجابها على عجالةٍ و تبعته مهرولة إلى الخارج ..
استقلّت السيارة بجواره.. فانطلق فورًا بشكلٍ أرعبها.. لتجرؤ الآن على سؤاله و قد خشيت أن مكروهًا قد أصاب صغيريها :
-في إيه يا عثمان ؟ .. قولّي إيه إللي حصل و إلا هايجرالي حاجة !!
لم يكن بحاجة ليستدير نحوها حتى ترى انقبضات وجهه.. يكفي الغصّة التي اعترضت حلقه و هو يجاوبها باقتضابٍ :
-فريال هانم.. وقعت و نقلوها المستشفى ..
أمي.. أمي بتروح مني يا سمر !!!
**
-هاتفضلي ساكتة يا شمس ؟
لم تلتفت “شمس البحيري” إلى سؤال أمها.. بقيت تلتزم الصمت مكتفية بالنظر و التأمل في حديقة القصر الغنّاء من حيث تجلس بشرفة جناحها الأنيقة ..
تنهدت “رحمة” بيأسٍ واضعة فنجان القهوة من يدها فوق الطاولة التي تفصل بينها و بين ابنتها.. ساءها للغاية أن تراها حزينة إلى هذا الحد.. لم يسبق أن وصلت بها المواصيل إلى ما تراها عليه الآن ..
ألم تود طوال حياتها المجيئ إلى هنا و التعرّف إلى عائلتها ؟ .. لقد فعلت.. لقد علم بها أخيها و صارت في كنفه ..
لماذا هي حزينة إذن ؟
لا تصدق أن هذا الرجل الذي تمكن من الإيقاع بقلبها استطاع أن يفعل بها كل ذلك.. حتى و هو بعيدًا عنها.. يفرض سيطرته عليها.. و لا يمكنها أن تكون هي.. هذه التي تجلس أمامها ليست “شمس” ذاتها التي تعرفها ..
إنها حاضرة بجسدها فقط.. و لكن وجدانها و قلبها معه هو.. هو لا غيره …
-يا شمس ماتوجعيش قلبي ! .. رددت “رحمة” بأسى
تحدّثت إليها رغم عدم ردها :
-يا بنتي.. أنا ماليش في الدنيا غيرك.. و انتي عارفة.. مش عايزة من حياتي كلها حاجة غير إني اشوفك مبسوطة و سعيدة في حياتك.. أنا عايشة على الأمل ده.. انتي فكراني مبسوطة بحالتك دي ؟ .. يا شمس فوقي.. فوقي و عيشي حياتك.. الدنيا مش واقفة على حد.. بكرة تلاقي 1000 راجل يتمناكي.. و ده مش كلام.. انتي عارفة و شوفتي بنفسك لما كنا في لندن أي حد كان يشوفك سواء راجل ألاقيه تاني يوم على باب مكتبي بيطلبك مني أو حتى ست بتجيلي تطلبك لابنها أو أخوها.. مش فاكرة مدام ناهد صفوان ؟ .. إللي جت لي عشان تطلبك لأخوها السفير.. و غيرهم ناس محترمة و مراكز كبيرة.. يا حبيبة قلبي انتي حلم أي راجل و كل راجل.. بس مش أي حد يا شمس يستاهلك.. انتي مش عايزة تفهمي كده !!
لم تحصل منها على أيّ رد و لا زالت تؤثر الصمت ..
فأضافت “رحمة” متمسكة بموقفها :
-عمومًا أنا ضميري مرتاح.. و قلبي كمان مطمن لأنك تحت رعاية أخوكي.. أنا مش هاسيبك يا شمس.. مقدرش أسيبك.. بس مش هقدر أطالب بيكي حاليًا و لا هقدر أعيش معاكي هنا.. كل إللي أقدر أعمله إني أجي أزورك.. انتي عارفة وضعي حسّاس أكتر منك و خصوصًا لما فريال هانم ترجع.
تدير “شمس” رأسها في هذه اللحظة.. تنظر إلى أمها نظرة جوفاء مطوّلة.. ثم تقول بجفافٍ :
-تيجي تزوريني ؟ .. عشان ده بقى سجن صح ؟
أنا بقيت مسجونة في القصر ده !
رحمة بحزمٍ : مش كده.. احنا بنحميكي.. و أخوكي أدرى بمصلحتك
أنا مش خايفة عليكي و انتي معاه يا شمس.. لأول مرة في حياتي مطمنة عليكي و حاسة بالأمان.
طفرت الدموع من عينيّ “شمس” و أطبقت شفتاها ببعضٍ غير قادرة على النطق بكلمةٍ أخرى.. أشاحت بوجهها عن والدتها ثانيةً ..
سحبت “رحمة” نفسًا عميقًا لتُسكّن جزع غريزة الأمومة بداخلها التي تقوم ابنتها بابتزازها.. لن تغيّر موقفها مهما حدث.. لن تدع فرصة لهذا الرجل بأن يفسد حياة ابنتها و يستنزفها كما سبق و حدث لها هي مع في حياتها مع زوجها الراحل ..
لن تعيش “شمس” ما عاشته “رحمة”.. لن تفعل أبدًا ..
أخذت تجمع متعلّقاتها من فوق الطاولة بحقيبة يدها و هي تقول :
-أنا لازم أمشي دلوقتي.. بس بكرة هاجيلك و هاجيب معايا فستان الحفلة بتاعتك.. الأوردر هايوصل على الأوتيل بكرة الصبح.. و مانستش أوصي لك على البيرفيوم المخصوص بتاعك.. أنا عارفة إنه Special Order و بيتعمل بالطلب.. قوليلي لو ناقصك حاجة تانية ؟
تطلّعت إليها.. لتجدها تشرأب بعنقها.. و تنظر بقوة و اهتمام شديدين نحو نقطةٍ ما ..
تبعت نظراتها.. فرأت بالأسفل.. “صفيّة البحير” تحمل صغيرتها مهرولة نحو إحدى السيارات بالجراج المكشوف.. يتبعها كلًا من الصبي “يحيى” و شقيقته الصغرى “فريدة” ..
استقلّوا أربعتهم السيارة.. و لحق بهم السائق الخاص في الحال.. كانت الطريقة التي غادروا بها مثيرة للريبة كثيرًا ..
ما دفع “شمس” للقول لا شعوريًا :
-يا ترى إيه إللي بيحصل !؟
**
خبر زواجه كان حدثًا نادر الحدوث.. و لم يكتفي أصدقائه و معارفه بالمباركة خلال حفل زفافه.. حتى الآن لا زالت التهنئات تصله في مكالماتٍ هاتفية و هدايا و باقات أزهار تطرق بابه كل ساعةٍ تقريبًا ..
اليوم يوم رابع أيام زواجهما.. بعد زيارة أبيها لم يتصادفا وجهًا لوجه.. إذ كانت تجتنبه كما هو واضحٌ ..
كان يسمع تحركاتها بالشقة فور أن يلج إلى غرفته الخاصّة و يغلق عليه الباب.. لم يضغط عليها بأيّ شكلٍ و ترك لها مساحتها قدر استطاعته ..
لكنه لم يشعر بها منذ يومان !
لقد مكث بغرفة المعيشة هادئًا من بكرة الصباح.. يتحيّن أيّ ظهور لها.. لكنها لم تظهر.. و قد ساوره القلق حقًا ..
واتته الفكرة بأن يحضّر قدحيّ قهوة و يذهب إليها.. و إن كانت بادرة يعلم عاقبتها.. لكنه سيفعلها لأنه حقًا يشعر بالقلق عليها ..
خرج “نبيل الألفي” من غرفته بعد أن أخذ حمامًا سريعًا و ارتدى ثيابه شبابية الطراز المؤلفة من سروالًا قصير عاجي اللون.. و كنزة سوداء ضيّقة أبرزت عضلات ذراعيه المفتوليتين ..
قام بتحضير القهوة الزكية التي اكتسب خبرة بعملها على مدى سنواتٍ.. ثم حمل فنجانين فوق صينية صغيرة و توجّه نحو الغرفة الرئيسية.. غرفتها ..
توقف أمام الباب و قرع عليه مرتان.. لم يأتي رد.. فقرع مرتان أخريتان ..
و عندما لم ترد من جديد.. مد يده و أدار المقبض ليلج بلا ترددٍ ..
لم تكن بالفراش حيث توقع.. إنما رآها بالأريكة المقابلة للحائط الذي تحتلّه شاشة التلفاز الضخمة.. كانت ممددة هناك.. ربما غافية.. و لعلها كانت تشاهد فيلمًا لم ترى آخره لأنه تقريبًا انتهى و الشاشة تعرض شارة النهاية ..
سار “نبيل” للداخل مغلقًا الباب من خلفه.. و اقترب منها بتوأدة و هو يشملها بنظراتٍ متفحصة.. إنها تغفو بالفعل.. تغفو بشكلٍ مثالي و هي لا ترتدي سوى منامةٍ بيضاء شفّافة.. بالكاد تغطي فخذيها.. و شعرها المجعّد عادةً مفرودًا على حافة كتفها حتى لامس الأرض ..
ازدرد “نبيل” ريقه بتوترٍ و هو يتوقف فوق رأسها مباشرةً.. لا يقدر إلا أن يحدق فيها و الرغبة بها تستعر مجددًا بصدره ..
يمنعه صوتًا بداخله.. توقف.. توقف عن التفكير بهذه الطريقة يا “نبيل” !!
تنفس بعمقٍ و استدار ليضع الصينية فوق الطاولة المجانبة للأريكة.. ثم عاد إليها.. أمال جزعه نحوها قليلًا و مد يده يلامس كتفها العاري هاتفًا بلطفٍ :
-مايـا… مايـا ..
فتحت عيناها من المرة الثانية.. فما إن رأته حتى انتفضت و تخبّطت بمكانها ممسكة بظهر الأريكة ..
ابتعد عنها “نبيل” بهدوء.. لتسحب ساقيها في الحال متهافتة لتنزلهما على الأرض و هي تشد طرف المنامة لتخفي مفاتنها عن عينيه عبثًا …
-عايز إيه ؟ .. قالتها بحدةٍ
و أخذت تسوّي مظهرها و شعرها بيدين نزقتين ..
نظر إليها بتكاسلٍ و قال بفتور :
-جه على بالي اشرب فنجان قهوة.. عملت حسابك.. غلطان ؟
لوّحت بيدها قائلة بجمودٍ :
-أنا مأكلتش حاجة عشان أشرب قهوة.
عبس “نبيل” متسائلًا :
-و مأكلتيش ليه ؟ .. التلاجة برا مليانة أكل و شرب ..
و المطاعم كلها حوالينا لو مش عايزة تاكلي من البيت ماعملتيش أوردر من برا ليه ؟
أشاحت بوجهها بعيدًا عنه.. و قالت :
-ماليش نِفس !
ازداد عبوسه و هو يتأكد من صوتها بوجود خطبًا ما ..
انحنى صوبها في طرفة عينٍ و جسّ جبينها بكفّه.. ارتعدت محاولة الابتعاد عنه.. لكنه أمسك بها صائحًا :
-يا خبر.. انتي سخنة مولّعة !!!
بذلت قصارى جهدها حتى أفلتت منه و هي تهتف بشقّ الأنفس :
-أنا كويسة.. بس تبعد عني.. سيبني في حالي أنا ماشتكتش.
احتد صوت “نبيل” الآن :
-يعني قصدك بتنتحري ؟ .. اسمعي يا بنت عزام.. أنا خُلقي ضيّق.. مش هاصبر عليكي كتير !!
مايا بغيظٍ شديد :
-طيب انت عايز مني إيه دلوقتي ؟ .. أنا مش قادرة لك بجد ..
رمقها بقساوةٍ و طرد زفيرًا حادًا.. لم يرد عليها و أستلّ من جيب سرواله هاتفه الخاص.. قام و خطى خطوتين بعيدًا عنها.. أجرى اتصالًا بصديقًا له يعمل بمجال الطب ..
قدّم له وصفًا عن حالتها.. و تلقّى منه بعض التعليمات و الأدوية التي دوّن اسمها بورقةٍ.. أغلق معه و اتصل بإحدى الصيدليات المجاورة ليطلب العلاج من أجلها ..
أغلق الخط أخيرًا و نظر لها.. كانت تراقبه كل هذا الوقت و الانزعاج يبدو عليها.. رأته يمسك بجهاز التحكم الصغير ليغلق المكيّف و هو يقول :
-طبعًا سيادتك نايمالي عريانة و معليّة التكييف لازم تبردي.. ماشوفتش استهتار زي كده بصراحة !
لم تعلّق على كلماته.. بينما سار نحو خزانتها.. أخرج لها ملابس قطنية فضفاضة و سميكة.. ألقاهم فوق السرير و عاد إليها ..
-قومي يلا ! .. قالها و هو يقبض على رسغها و يشدّها لتقف
ترنّحت في الحال مغمغمة بانفعالٍ :
-أقوم على فين ؟ .. سيب إيدي ..
لم يكن يمسك بيدها فقط الآن.. كانت لتسقط لو لم يحاوط خصرها بذراعه ..
رد عليها ساخرًا :
-أسيب إيدك !
انت لازم تشكريني عشان هاشيلك و أدخّلك الحمام بنفسي ..
و قبل أن تستوعب ما قاله.. صرخت ما إن حملها على ذراعيه بخفةٍ.. رغم إن وزنها كان ثقيلًا بعض الشيء و لم يستطع إلا أن يعلّق :
-ما شاء الله.. تصدقي أول مرة أخد بالي إنك مليانة كده.. مع إني مش أول مرة أشيلك !
صرخت فيه بضعفٍ جمّ :
-نزّلني.. انت عايز مني إيه ؟ .. سيبني في حالي بقى انت مابتفهمش ؟
انت عايز تموّتني.. موّتني و ريّحني !!!
نبيل بهدوء : بالعكس يا قلبي.. أنا عايز أساعدك.. بكرة تشكريني.
و تجاهل صرخاتها التالية التي لم تدم طويلًا.. و انقطعت بمجرد ولوجه بها داخل قاعة الحمام الكبيرة.. أنزلها هناك و أجلسها على حافة الحوض البيضوي و قال آمرًا :
-يلا اقلعي !
نظرت له بذعرٍ.. ليرد بضجرٍ :
-ماتبصليش كده.. مش على أساس ميت عشان أشوف جسمك يعني
الدكتور قال لازم تنزلي تحت دُش بارد.. أكيد مش هاتنزلي بهدومك.. ها.. هاتقلعي و لا أساعدك بطريقتي ؟
و رفع يداه نحوها مهددًا ..
استوقفته صارخة : إيـاك تلمسني !!
لكنه لم يتقهقر عن موقفه.. فسالت دموعها و هي تردد باكيةً بحرقة بينما تخفي وجهها بالعارضة الرخامية بالجوار :
-مش هقدر.. مش هقدر أعمل حاجة من دي.. أنا مش قادرة أقف على رجلي !
لقد تعلّم مرة بحياته ألا ينخدع بدموع النساء.. فما بال دموعها تنفذ كسهمٍ موخزٍ إلى قلبه ؟
ربما لأنه يعلم بأنها ليست بموقف يخوّلها خداعه.. هي لا تكذب الآن و لا تدّعي أيّ شيء.. إنها في أقصى مراحل ضعفها مطلقًا ..
لكنه لا ينوي تركها دون أن يعالجها كما تريده ..
أمسك “نبيل” بكتفيها و اجتذبها بقوةٍ غير مؤلمة.. استسلمت لكنها لم تتوقف عن البكاء.. فقال بخفوتٍ :
-لازم أعالجك يا مايا.. أنا آسف.. عارف إنك مش طايقاني و لا حابة إني ألمسك بأي طريقة.. بس ده كله مش هايمنعني أعالجك.. أنا آسف !
و بالفعل.. لم تؤثر فيه دموعها باللحظات التالية.. بكائها و أنينها المكلوم بينما ينتزع ملابسها القليلة بيد صارمة ..
لتكون عارية تمامًا بين يديه في غضون ثوانٍ ..
حملها داخل المغطس و فتح الدش البارد فوق رأسها.. لتشهق بقوةٍ و تصرخ في الحال مطالبة بالخروج حالًا ..
لكنه أبقى عليها محتضنًا إيّاها من الخلف بشدة.. تبلل معها عن طيب خاطرٍ و أخذ يهدهدها بلطفٍ جمّ :
-ششششش.. بس.. إهدي.. ماحصلش حاجة.. هاتبقي كويسة.. هاتبقي كويسة !
لم تعد تصرخ.. تلهج بأنفاسها فقط.. بتشنّج جسمها و ينتفض من لحظة لأخرى بين ذراعيه ..
الحمى تغادرها شيئًا فشيء.. فيتراخى جسدها و تلقي برأسها لا إراديًا فوق كتفه ..
و ما أن أحصى “نبيل” الدقيقة الثالثة كما أوصاه صديقه الطبيب.. حتى أغلق الدش أخيرًا !
**
لم تترك يده ..
منذ دخولهما المشفى التخصصي الكبرى التي نُقلت إليها السيدة “فريال”.. وفقًا لأوامره عندما هاتفه الحارس الذي عيّنه ليتقفى آثار أمه ..
سمعت الحارس و هو يخبره فور وصوله : “أنا كنت واقف بعربيتي عند البيت إللي دخلت فيه الهانم.. قعدت جوا 10 دقايق بالظبط.. و لما خرجت كان باين عليها التعب جدًا.. و قبل ما تركب عربيتها شوفتها بتقع من طولها ف جريت عليها فورًا و كلمتك يا باشا!” ..
مكثت “فريال” بداخل “غرفة العناية الفائقة” لما يزيد عن ثلث ساعةٍ.. و ها هي “صفيّة البحيري” قد جاءت قبل أن يعلم “عثمان البحيري” خبرًا عن أمه …
-عثمــان !!
إلتفت “عثمان” نحو هتاف شقيقته.. أقبلت عليه منهارة في البكاء.. الصغيرتان “فريدة” و “ديالا” وضعهما لا يقل سوءًا عن وضع “صفيّة”.. ما عدا “يحيى” الصغير ..
كان وضعه مطابقًا لوضع أبيه تقريبًا.. يتخذ الوجوم التام قناعًا يخفي ورائه كل انفعالاته و مشاعره ..
ترتمي “صفيّة” بين ذراعيّ أخيها.. يترك “عثمان” يد زوجته و يضم أخته بشدة مرددًا بجلد :
-ماتخافيش يا صافي.. ماتخافيش.. فريال هانم هاترجع.. هاترجعلنا !
غمغمت “صفيّة” من بين دموعها الغزيرة :
-ماكنش لازم أسيبها.. أنا السبب.. مامشيتش معاها.. كان لازم أفضل جنبها.. أنا السبب يا عثمان كان لازم أفضل جنبها !!
رد “عثمان” بصرامةٍ :
-مش انتي السبب يا صفيّة.. سامعة ؟ .. مش انتي السبب.. ماتخافيش قلت لك ..
فريال هانم هاترجع.. لازم ترجع.
وصل “مراد أبو المجد” في هذه اللحظة.. معه زوجته “إيمان عمران” ..
ترك “عثمان” شقيقته لزوجته و زوجة صديقه لتواسياها.. بينما يؤازر “مراد” صديق عمره و أخيه ممسكًا بكتفه :
-ماتقلقش يا عثمان.. خير ان شاء الله.
نظر “عثمان” إليه بذات التعبير الواجم.. لا يستطيع إنكار ذلك الشعور المقبض بداخله.. و الذي استشفه “مراد” من نظراته ليؤكد له مرةً أخرى :
-ربنا مش هايسبنا.. هايسمع دعواتنا يا عثمان و فريال هانم هاتبقى كويسة.. ماتقلقش.
لأول مرة لا يستطيع “عثمان” موافقته.. رغم إنه لا يكف عن ترديد هذا التأكيد على نفسه و على شقيقته.. لكنه من نقطةٍ ما بداخله ..
يشعر بأنه فقدها بالفعل.. و لا يمكنه تخيّل ما الذي قد يحدث لو إنه فقدها حقًا …
-عثمان بيه !
استدار “عثمان البحيري” في الحال نحو صوت الطبيب و رئيس المشفى الأشهر.. اتجه إليه من فوره و هو يقول مباشرةً :
-قولّي إنها كويسة يا دكتور.. من فضلك قولّي إنها كويسة !!
مطّ الطبيب فمه بأسفٍ قائلًا :
-أنا آسف يا عثمان بيه.. البقاء لله ! ………………………………………………………………
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية كرسي لا يتسع لسلطانك)