رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل الثامن والثلاثون 38 بقلم مريم غريب
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الجزء الثامن والثلاثون
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك البارت الثامن والثلاثون
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الحلقة الثامنة والثلاثون
الفصل الثامن و الثلاثون _ حياتي لكِ _ :
يحمل “عثمان البحيري” أخته “شمس” بين ذراعيه شاكرًا طاقم الإسعاف الذين أقلّوها في السيارة المخصّصة لتعود معه إلى المنزل بناءً على رغبته.. كانت في دِثارٍ خفيف هو يخطو بها نحو القصر ..
وجهه يعكس القلق و العبء الذي يشعر به.. “شمس” فاقدة الوعي تمامًا بسبب جرعة المهدئ التي أعطاها لها الطبيب في المستشفى لتساعدها على الهدوء بعد محاولتها الانتحار.. عيون “عثمان” تلمع بالقلق الشديد على حال أخته.. و صوت تنفسه ثقيل مع كل خطوة يخطوها.. ترافقه “رحمة” ساعية خلفه.. و خطيبها “إبراهيم” الذي يظل صامتًا.. يتابع المشهد بهدوء.. لكنه يشعر بتوتر غير مُعلن.. يبدو أنه يفكر في شيء آخر.. يراقب الوضع عن كثب دون أن يتدخل ..
يخطو “عثمان” بخطوات سريعة داخل القصر.. عينيه تركزان على “شمس” بين ذراعيه.. و هو يحاول أن يحافظ على توازنها بينما يرتقي بها إلى المصعد الكهربائي برفقٍ.. “رحمة” تستقلّ معه تاركة “إبراهيم” ينتظرها بالأسفل.. على وجهها تعبيرٌ من القلق العميق ..
يرفع “عثمان” عينيه نحو “رحمة”.. و لكن عينيه تعكسان مشاعر الإرهاق و التوتر.. يعترف في نفسه أنه ليس فقط قلقًا على “شمس” لكن أيضًا على كل ما يحدث من حوله.. شقيقته الأخرى.. و أمه.. لا يزال أمرها عالقًا و لم يبت فيه بعد ..
يتابع خطواته خروجًا من المصعد إلى الطابق الثاني حيث غرفة “شمس”.. لحظة دخولهم إلى الغرفة.. يضعها على السرير برفقٍ ..
يهمس لأخته و هو يشدّ الغطاء على جسدها :
-انتي هاتكوني بخير يا شمس.. مافيش حاجة تانية تهم دلوقتي !
ثم يرفع رأسه و ينظر إلى “رحمة” التي تراقب الموقف بتأثر.. قبل أن يوجّه كلامه إليها بجدية :
-خلّي بالك منها يا رحمة.. لو احتاجت أي حاجة.. خليكي جنبها طول الوقت.. هاتحتاج راحة و مراقبة لحد ما ترجع لوعيها و نطمن عليها.
تدمع عينيّ “رحمة” و هي تقترب من السرير لتجلس بجوار ابنتها.. تمسح على شعرها متمتمة بهدوء :
-ماتقلقش يا عثمان.. دي كانت مسؤوليتي لوحدي سنين طويلة قبل ما تكون مسؤوليتك دلوقتي.. انا مش هاسيبها لحظة.. هكون هنا لحد ما تقوم.
يستمع “عثمان” إلى كلماتها.. بينما يطيل النظر في “شمس”.. متأكدًا من أنها في أيدٍ أمينة هنا معه.. تحت سقف بيته.. لم يقلقه “رامز” الآن و لا من قبل.. فهو كان واثقًا من انه سيأتي الليلة و تركه يلج إلى قصره لينهي هذه القضيّة مرةً واحدة و إلى الأبد ..
و لكن كان لأخته رأيًا آخر.. أخته التي توّرطت بمشاعرها مع صديقه إلى أقصى الحدود فعلًا.. يشعر بحزنٍ عميق و هو يراها فاقدة الوعي.. و يدرك أنه رغم محاولاته لحمايتها.. فقد وصلت إلى هذه النقطة الصعبة من حياتها لأنها لا تساعده.. لا تقتنع بأنه لا يريد سوى مصلحتها.. لا تفهم بأنها الآن أولويته الأولى لأن أبيه تركها في رقبته ..
لا يمكنه السماح لها بالانحدار إلى مستوى “رامز الأمير”.. “رامز” لا يناسبها من وجهة نظره.. هو بامكانه أن يجد لها الأفضل.. لكنها لا ترى إلا “رامز”.. إن كانت “صفيّة” بمكانها لربما تركها تخوض التجربة و تتحمّل تبعيات اختيارها ..
و لكن “شمس” قضية مختلفة.. “شمس” وصيّة أبيه.. مسؤوليته.. الاختبار الأخير الذي فرضه عليه “يحيى البحيري”.. لن يخفق فيه ..
يتنهد “عثمان” مطوّلًا.. و يقرر أن يكون قويًا كما كان دائمًا لأجل عائلته ..
يقول بصوتٍ ثقيل و عينيه على “شمس” :
-خلّي بالك منها.. هاتحتاج راحة تامّة.. و ماتقلقيش.. كل حاجة هاترجع لطبيعتها قريب إن شاء الله.
تومئ له “رحمة”.. فيشعر “عثمان” بحاجة لترك المكان الآن.. لكن قلبه لا يزال مع “شمس” في تلك الغرفة ..
قبل أن يخرج من الغرفة.. يلتفت مرةً أخرى إلى “شمس” و هو يتنهد بعمقٍ.. ثم يخرج ببطءٍ نحو الحفل.. و لكنه في ذهنه و قلبه لا يفكر في شيءٍ آخر سوى أخته …
**
الليل قد بدأ يلقي بظلاله الهادئة على العقار الشاهق المُحاط بالنوافذ الزجاجية الكبيرة.. في غرفة المعيشة.. “مايا عزام” جالسة على الأريكة.. و لكن عينيها لا تركزان في التلفاز.. أفكارها مشوشة.. تنقلها بين مشاعر الخوف و الاحتقار التي تحملها تجاه “نبيل الألفي”.. و بين الإعجاب الذي لا تستطيع إخفاءه.. على الرغم من محاولاتها المتكررة.. أحيانًا.. تلتقط تفاصيل صغيرة في ملامحه.. نظرة حادة.. حركة يده.. صوته العميق.. الذي يُعيد كل شيء إلى توازنه.. لكن هي تحاول جاهدة أن تتجاهل كل هذا ..
الباب ينفتح فجأة.. و يظهر “نبيل” و هو يدخل المنزل.. خطواته الواثقة تقطع الصمت.. نظراته حادة.. و شخصيته الطاغية تملأ المكان.. يخلع معطفه بسرعة.. و يلقيه على الكرسي القريب.. “مايا” تراقب حركاته في صمتٍ.. تحاول أن تبقى غير متأثرة.. رغم إنها تدرك تمامًا أن تأثيره عليها أكبر ممّا تود الاعتراف به …
-هاي مايا.. اخبار يومك ايه انهاردة ! .. يتحدث إليها بهدوءٍ
ترد “مايا” ببرودٍ و هي تلتفت للنظر إليه :
-كالعادة.. مافيش جديد.
يلاحظ “نبيل” البرود في ردها.. لكنه يتجاهل ذلك و يتجه إلى المطبخ ليشرب كأسًا من الماء.. عينيه تظل تراقبها في زاوية نظره.. الجو في الغرفة مشحون.. هناك حاجز بينهما لم يستطيعان تجاوزه حتى الآن ..
يتوجه “نبيل” نحوها.. يقف أمامها للحظة.. يراقبها بنظراتٍ فاحصة.. هو لا يتوقع أن يجد سعادتها في عينيها.. و لكنه يلحظ شيئًا غريبًا.. شيء يتسرّب في أعماقها لدرجة أنه يطغى على لغة جسدها المتوترة دون أن تشعر.. لكنه لا يستطيع تحديده بعد ..
بجلس “نبيل” بجوارها فوق الأريكة.. يقترب منها أكثر.. وعينيه تلتقط كل حركة فيها ..
-الوضع ده هايستمر كتير يا مايا ؟
تحاشت النظر إليه و هو يطرح عليها هذا السؤال.. لكنها ردت بجمودٍ :
-مش فاهمة.. عايز تقول ايه !؟
تنهد “نبيل” بحدة قائلًا :
-انا مش واقف هنا عشان اسأل عن يومك صحيح.. امتى هاتفوقي ؟ احنا متجوزين خلاص ده بقى امر واقع.. في حاجات بينّا لازم تتحل يا مايا !
تحاول “مايا” أن تبقى ثابتة.. و لكن قلبها ينبض بسرعة أكبر كلّما اقترب منها.. هي تحاول أن تركز في كلماتها.. لكن “نبيل” يتسلّل إلى أفكارها.. و في كل كلمةٍ ينطقها يشعرها بشيءٍ غريب يصعب عليها تفسيره ..
تمتمت “مايا” بصوتٍ منخفض.. لكنه حازم :
-انا مش فاهمة بجد.. ايه اللي عايز تقوله !!
يبتسم “نبيل” ابتسامة باردة.. يدرك أنها تخفي شيئًا.. يلاحظ كيف تتجنّب عينيه.. كما تتجنّب لمساته.. و كل هذا يُظهر له شيئًا ما عن نفسها تحاول إخفاءه.. هو يحب هذا النوع من القوة الواهية.. و هذا التحدّي ..
بثقةٍ.. يقرّب “نبيل” وجهه منها قليلًا و هو يقول :
-انتي مش مضطرة تتجاهلي الحقيقة.. انا شايفك كويس.. شايف اكتر من اللي بتظهريه !
ترتبك “مايا”.. تشعر بشيء غريب في صدرها.. مزيج من الإعجاب و الرفض.. هي تعرف أن ما يعبر عنه “نبيل” هو ليس مجرد رغبة في السيطرة.. بل هو رؤية حقيقية لضعفها و إن كانت تناضل لإظهار العكس.. و مع ذلك.. فإن الإعجاب بشخصيته الطاغية يدفعها لأن تنظر إليه رغم محاولاتها المستميتة لتجاهله ..
اشتبكت نظراتهما الآن.. بينما تقول بصوتٍ منخفض مليئ بالحنق :
-ماتمثلش ان العلاقة دي كانت بيرفكت من الأول يا نبيل.. مش كل شيء بينا لازم يكون واضح.. مش معنى انك شخص متسلّط و مسيطر على حياتي يبقى تقدر تتحكم في مشاعري كمان.
يقترب “نبيل” منها أكثر.. عينيه تلمعان بالثقة.. يلاحظ ارتباكها.. و لكن في نفس الوقت يراه تحدّيًا.. هو يعلم أنه إذا استمر في الضغط عليها.. ستنهار حواجزها.. و ستعترف بما تخفيه.. ينخفض صوته أكثر.. ليصبح أقرب إلى همساتٍ تداعب مشاعرها بشكلٍ غير مباشر :
-انتي مش قادرة تخفي مشاعرك ! .. صوته ناعم و قوي في الوقت ذاته :
-و كل كلمة بتقوليها بتأكد لي انك محتاجة لوجودي في حياتك.
تشعر “مايا” بطنين في أذنيها من توتر الموقف.. هي تحاول أن تبقى على حذر.. لكنها تدرك أنها بدأت تفقد السيطرة على مشاعرها.. يحاول “نبيل” أن يسيطر عليها بكلماته.. لكن هذا الاندفاع بداخله يضفي شيئًا غير متوقع ..
هي لا تستطيع إخفاء الإعجاب الذي بدأت تشعر به حيال شخصيته.. رغم إنها ترفضه بشدة …
-انت واهم ! .. تمتمت “مايا” و هي تمسك بأنفاسها بصعوبةٍ :
-ماتفكرش انك تقدر تأثر عليا بسهولة !!
يبتسم “نبيل” ابتسامة باردة.. لكنه يظل قريبًا منها.. يحاول استغلال ضعفها الذي بدأ يظهر شيئًا فشيئًا ..
يهمس بثقةٍ.. يضغط عليها أكثر :
-مايا.. لو كنتي فاكرة انك هاتقدري تهربي من مشاعرك.. تبقي غلطانة.. في حاجات بينّا مش هاتقدري تهربي منها.
تحاول “مايا” أن تبعد نظرها عن عينيه.. و لكن قلبها ينبض بسرعة.. هي لا تريده أن يعرف.. و لا تريد أن يكتشف هذا الإعجاب الذي يخالجها.. و لكن تلميحاته بالكلمات تزيد من تعقيد الموقف ..
هتفت بصوتٍ عصبيّ.. و هي تحاول أن تتماسك قدر استطاعتها :
-مافيش حاجة بينّا.. و انت مش من حقك تقرر مشاعري !!!
يتراجع “نبيل” عن إصراره خطوة إلى الوراء.. لكنه يظل يراقبها بنظرةٍ ساخرة و مليئة بالثقة.. هو يعلم جيدًا أن الأمر لم ينتهِ بعد.. و إنه سيظل يضغط عليها حتى تنهار ..
يقوم أخيرًا من مكانه بجوارها.. يقول ببرودٍ و هو يلتفت ليغادر الغرفة :
-خلصنا كلام انهاردة.. بس مش هاتبقي دايمًا في الأمان يا مايا.. في حاجات بينّا هاتظهر قريب.. و مش هاتقدري تسيطري عليها.. تصبحي على خير.
أطبق الصمت عليها.. بقيت جالسة تراقب خطواته.. مشاعرها مختلطة.. هي تعرف أنه سيعود.. و أنه لن يتركها في حالها.. لكن رغم ذلك.. يوجد شيء في أعماقها يجعلها لا تستطيع إنكار ذلك الإعجاب العميق الذي بدأ يترسّخ في قلبها ..
لقد استسلمت إلى جلّادها.. حتى و إن رفضت الاعتراف بذلك …
**
يعود “عثمان البحيري” إلى الحفل.. لكنه يشعر بأن كل شيء حوله بعيد.. الأصوات و الضحك في القاعة لا يلمس قلبه.. كل ما يهمّه الآن هو حالة “شمس” و كيف تركها في الغرفة ..
أجبر نفسه على تحمّل الليلة.. و سار بين الحشود مبتسمًا بأريحية متكلّفة.. كان يراعي أن يكون حضوره ملحوظًا.. لكنه يشعر بأن قلبه خارج المكان.. كل شيء يبدو غير مهم الآن.. و بالكاد يستطيع التركيز على التفاصيل الصغيرة التي تحيط به ..
عيناه تبحثان “سمر”.. لأنها هي الوحيدة التي بإمكانها تخفيف وطأة كل ذلك عنه.. لكنه لا يجدها ..
و الأمر يزداد سوءًا بمرور الوقت.. لا يستطيع أن يتجاهل قلقه العميق على أخته.. و من داخله يعلم بأن الحفل ليس إلا واجهة.. بينما همّه الأكبر هو راحة شمس وشفاءها ..
يلمح “عثمان” أمه.. فيرتاح قلبه قليلًا.. يقترب منها و الابتسامة تتشكّل على ثغره بدون مجهود.. يطمئنها على حالة “شمس” بلهجةٍ فاترة :
-الحمد لله.. شمس دلوقتي في امان.. إن شاء الله هاتتعافى. الدكتورطمّني و قال ان حالتها مستقرة.. بس محتاجين شوية وقت.
-الحمدلله ! .. تمتمت “فريال” بنهدة عميقة.. و أكملت و هي تنظر لابنها بعينين مشبّعتين بالهمّ :
-انت متأكد ان الموضوع مش اكبر من كده يا عثمان ؟ ده مش وقت الاحتفال.. ممكن ننهي الحفلة دلوقتي.. في حاجات لازم نحطها في أولوياتنا !
يتنهد “عثمان”.. و لكن يحاول أن يظهر لها الوضع طبيعيًا :
-الحفلة لازم تكمل يا فريال هانم.. لازم نبقى طبيعيين قدام الناس.. كله تمام ماتقلقيش.
يترك “عثمان” والدته و يعود للضيوف.. مستمرًا في محاولة الظهور بمظهر الأريحية و الدعابة.. يحاول أن يفرض جوًا من الفكاهة.. لكنه في داخله يواجه معركة مع نفسه ..
و بينما الحفل مستمر.. يُفاجأ الجميع بالحضور المدهش لها ..
هي بنفسها بعد سنواتٍ من الاختفاء.. “شاهيناز الكُردي”.. المرأة التي كانت جزءًا من حياة “عثمان البحيري” في مطلع شبابه ..
دخلت على غير توقع.. و كأن الزمن لم يمر.. كانت بينهما علاقة معقّدة بدأت بحب و انتهت بنهايةٍ صادمة حين اكتشفها خطيبها “نبيل الألفي” و دبّت الخصومة بينه و بين ابن عائلة “البحيري” البِكر ..
لكن مع مرور السنوات أصبحت بينهما صداقة غير تقليدية.. مبنية على احترامٍ و حوار ناضج كلّما تقابلا ..
إلا إنهما لم يلتقيا منذ ما يربو عن خمسة عشر عامًا.. و الآن هي أمامه.. يتبادلان النظرات.. و يبتسم كلٌ منهما للآخر ابتسامة لا تخلو من الدهشة.. الحنين إلى سنواتٍ خلت.. و التفهّم لما آلت إليه ..
تجاذبت خطواتهما.. حتى صارا قبالة بعضٍ.. ليقول “عثمان” بابتسامةٍ هادئة و هو ينظر إليها بحذرٍ :
-شاهيناز.. انتي هنا !؟
بابتسامة رقيقة.. ردت “شاهيناز” و في عينيها لمحة من ذكرياتٍ بعيدة :
-انت عارف ان مهما كانت الظروف.. مش هقدر أعدي عنك بسهولة طالما زرت الاسكندرية.. الزمن مابينسيش الحاجات الحلوة.
يتنهد “عثمان” مظهرًا شعورًا من السلام و هو يقول :
-عندك حق.. حاجات كتير كانت حلوة.. بس خلّيني أكون صريح معاكي.. كنت شاب و مليان بأفكار غريبة.. اختيارات صعبة.
تبتسم “شاهيناز” و هي تؤيده قائلة :
-كلنا كنا شباب.. و كلنا كنا فاكرين اننا نعرف ازاي نعيش حياتنا.. لكن لو كنت عرفت وقتها انك هاتسيبني بالطريقة دي.. كنت هكون قادرة استعد للألم بشكل افضل.
يرمقها “عثمان” بنظرةٍ عميقة.. يحمل فيها شجاعة الندم.. و قال :
-مافيش كلام يعبّر عن اسفي ليكي يا شاهي.. وقتها كنت شايف ان الحياة لازم تمشي بالطريقة اللي انا قررتها… و ماكنتش شايف ان في ناس ممكن تضّر.
بصوتٍ هادئ.. قالت “شاهيناز” و الحزن يكاد يراود صوتها :
-اللي حصل بينّا كان قاسي.. بس ماتوقعتش ننك هاتسحب نفسك كده بعد كل اللي كان بينّا.. انا مش زعلانة دلوقتي.. انا بس اتعلمت… انك لازم تعرف امتى تترك اللي يحبك عشان تكمل في حياتك.. انت علّمتني ده كويس يا عثمان !
شاهدا لحظاتٍ من الصمت بينهما.. ثم تكمل “شاهيناز” حديثها و تفتح موضوعًا حساسًا للغاية :
-لكن Anyways.. انا مش جاية عشان نتكلم عن اللي فات.. ده مش السبب اللي خلاّني اجي انهاردة.. الموضوع اكبر مننا.. انت فاكر جيجي؟
بدا على “عثمان” الاهتمام و التجهّم في آنٍ.. و قال بصلابةٍ :
-فاكرها ؟ أكيد.. ازاي انساها ؟ حياتي اتغيّرت 180 درجة بعدها.. و بيوم واحد بدون مبالغة.. لكن دلوقتي كل واحد له طريقه.
تتنفس “شاهيناز” بعمقٍ.. ثم تتوجه إليه بنظرة مركزة.. و تردد همسًا غريبًا :
-لكن اللي خلاّني اتكلم هي نانسي.. انت فاكرها ؟ هي ضحية حربك مع جيجي.. هي لسا ضحية سُمعة اختها و ابوها.. بسبب اللي حصل بينها و بينك.. و انت روحت بعيد في الانتقام منها هي اكتر من اختها يا عثمان.
رمقها “عثمان” بنظرةٍ جانبية.. و قال بجفافٍ :
-واضح انكوا بتتقابلوا كتير.. انتي و نانسي.. يا ترى قالت لك عني ايه كمان ؟
شاهيناز بحزنٍ : ماكنتش مفكراك قاسي بالشكل ده يا عثمان.. نانسي اتظلمت مع اهلها و انت كمّلت عليها.
عثمان باقتضابٍ : هي اللي بدأت.. طالما ماتعرفيش الحقيقة كاملة ماتحكميش يا شاهي.
هزّت رأسها قائلة :
-عارفة يا عثمان.. نانسي حكت ليا كل حاجة.. قصتها مع عمك.. و جوازكوا المزيّف ..
عثمان بتهكمٍ : و حكت لك عملت ايه قبل ما تسافر ؟ البريئة دي بعتت ورايا بلطجية عشان تنتقم مني.. تنتقم على تصرفات كانت رد فعل على اللي جت تعمله فيا و في عيلتي.
أومأ “شاهيناز” و قالت :
-بس انت ماقصرّتش.. و عرفت انك اخدت حقك و زيادة منها و من اللي بعتتهم وراك كمان.. بس ليه ؟ ليه لحد دلوقتي حاطتها تحت عينك ؟ و لسا عاوز تدمرها اكتر.. البنت مش لاقية فرصة عشان تعيش يا عثمان.. مش بتشتغل في مكان محترم.. مش عارفة تكمل حياتها زي ما انت عملت.
ينظر “عثمان” إليها لحظة.. يصمت لثوانٍ.. ثم يقول :
-ماكنتش عارف انها وصلت لده… كنت شايف ان عندي حق.. يمكن كنت اعمى في انتقامي.. و عندي غضب بدافع اللي اتعمل معايا ..
يشعر “عثمان” بشيءٍ من الندم يتسلل إلى قلبه.. لكنها تواصل.. و يبدو أن الكلمات تؤثر فيه أكثر ممّا يتوقع :
-لكن بعد كل السنين دي يا عثمان.. مش حاسس انك ضيّعت جيل ؟ نانسي كانت طفلة وقت ما دخلت بيتهم.. و كانت شابة طايشة لما حبت تفرّغ غضبها من اللي حصل لأختها و ابوها عليك.. بس هي دلوقتي حياتها مسلوبة منها بسبب سمعة العيلة.. و بسبب طريقتك في الانتقام منها هي بالذات.
يرد بصوتٍ منخفض.. ملييء بالأسف :
-ماكنتش أتصوّر… كنت شايف الانتقام خلاص هو الحل النهائي عشان توقف عند حدّها.. لكن أنا دلوقتي شايف الأمور بمنظور مختلف.. يمكن بعد فوات الأوان !
بإحساس عميق من الحزن و التفهم.. تنظر إليه “شاهيناز” قائلة :
-انا مش هنا عشان ألومك يا عثمان.. انا هنا عشان اقولك اننا كلنا وقعنا في فخ الانتقام.. و في الآخر دايمًا فيه ناس تانية بتدفع التمن.. مش بس نانسي.. في ناس تانية مش شايفين العواقب !!
لحظة صمت طويلة.. و كأن كلماتها أشاعت بداخله اضطرابات عنيفة من المشاعر.. و كأنها مضبوطة بالشعرة لتلائم كل الأحداث التي وقعت عليه مؤخرًا ..
يتنهد “عثمان” بقوة.. و يعترف بخفوتٍ :
-شكلك جيتي في وقتك يا شاهي.. انا دلوقتي و حالًا.. اتأكدت ان ظهورك قدامي الليلة دي.. مش صدفة ابدًا !
بابتسامةٍ صادقة.. تقول “شاهيناز” مُرفرفة بأجفانها :
-عثمان.. مافيش حاجة بينّا كانت صدفة.. و لا هايكون.
يكفّا عن الكلام في هذه اللحظة.. مع الاكتفاء بشعور من التفاهم العميق بينهما.. الصداقة التي ظهرت من بين غبار الماضي.. جاءت لتنقذه الآن …
____________
لا يزال “عثمان” يقف مع “شاهيناز”.. يتبادلان الحديث حول ذكرياتهما المرحة.. لكن الجو فجأة صار مشحونًا.. “سمر حفظي”.. زوجة “عثمان” و حبيبته !!!
تلاحظ المشهد من بعيد.. رغم أنها لا تعرف “شاهيناز” جيدًا.. فقط بعض المعلومات المختصرة التقطتها أذنها و هي تمر بين الضيوف.. تبدو امرأة في أواسط الثلاثينات.. إلا إن جمالها و حضورها يثيران غيرة “سمر” بشكلٍ غير متوقع.. نظرات “سمر” تراقب المشهد بغضبٍ ملحوظ.. و فور أن تلتقي عينيها بعينيّ “عثمان”.. يظهر عليها التوتر بدلًا من ذلك ..
لكنها ترمقهما بنظرة غيظٍ.. ثم تميل رأسها قليلًا.. تحاول أن تخفي غيرتها ..
تشعر الآن بخطواته تجاهها.. يبدو أنه قد ترك رفيقته أخيرًا.. لكنها أبدت عدم اكتراثها و كأنها لا تلاحظه ..
حتى أتى و صار واقفًا قبالتها :
-ايه يا سمر.. واقفة لوحدك ليه ؟
ردت عليه بصوتٍ مكتوم :
-مبسوطة انك لسا مشغول في الحوار مع… صاحبتك القديمة.. الناس مش مبطلين كلام عن الحكاية القديمة اللي كانت بينك و بينها !
يلاحظ “عثمان” توتر زوجته على الفور.. و ابتسامته بدأت تتلاشى حين يراها مضطربة و قلقة إلى هذا الحد.. يعرف بأنها ليست على ما يرام.. لكنه يحاول أن يهدئ الوضع بسرعة ..
يرتسم على وجهه ابتسامة خفيفة.. و هو يقول محاولًا أن يكون لطيفًا :
-سمر.. مافيش حاجة بيني و بين شاهيناز.. كانت مجرد دردشة عن ايام زمان.. مش أكتر.. و بعدين دي ضيفة.
بصوتٍ باردٍ كلجيد.. و لكنه ملييء بالغيرة :
-ايام زمان ؟ يعني هي لسا فاكرة ايام زمان ؟ و انت مش لاقي غيرها تحكي معاه عن الماضي ؟
يشعر “عثمان” بتوترها يزداد.. و يعرف بأن هذا ليس مجرد حديثٍ عادي.. لكنه يقول محاولًا تهدئتها :
-سمر.. في ايه ؟ مش لازم تكوني متوترة كده.. انتي عارفة اني بحب غيرتك.. بس ماتوصلش انك تحسي بالمشاعر اللي شايفها في عنيكي دي !!
ترد “سمر” بتجهمٍ.. و لكن صوتها ينم عن التوتر :
-انا مش غيرانة يا عثمان.. بس مش فاهمة ليه كل ما تلاقي واحدة جميلة بتقعد تتكلم معاها و كأن مافيش حاجة تانية في الدنيا غيرها !؟؟
يبتسم لها “عثمان” بحنانٍ.. يحاول أن يطمئنها.. و يأخذ بيدها بلطفٍ ليقودها بعيدًا عن الحفل ..
-تعالي معايا ! .. يهمس في أذنها برقةٍ :
-هانتكلم جوا.. هافهمك كل حاجة.
و يأخذها إلى غرفة المكتب بعيدًاعن الأنظار.. حيث يعمّ الصمت أيضًا و الخصوصية داخل الغرفة ..
يغلق الباب خلفه برفقٍ و يلحق بها.. يجلس بجانبها على الأريكة الواسعة محاولًا أن يكون هادئًا و صبورًا ..
يقول بنبرةٍ هادئة.. مع لمسةٍ من التفاهم :
-سمر.. انتي عارفة كويس اد ايه بحبك.. مافيش حد غيرك في حياتي.. شاهيناز مجرد ذكرى من الماضي.. وقتها انتهى.
تبتعد “سمر” عنه قليلاً.. نظراتها تحمل شرارات الغيرة و هي تقول :
-انا مش عارفة ليه حسيت انك مش هنا معايا.. طول الحفلة.. كنت بتختفي من قدامي كل شوية.. انا خوفت و قلقت جدًا.. انا مش عايزة تكون في حياتك اي واحدة تانية.. عايزاك تكون ليا انا و بس.
يحاول “عثمان” أن يكون حريصًا في حديثه.. يبتسم بحنانٍ ثم يلمس يديها بلطفٍ في محاولة لتهدئتها ..
-انا فعلًا ليكي انتي و بس يا سمر ! .. قالها بصوتٍ هادئ و هو يلمس خدّها برفقٍ :
-و انتي كل حاجة ليا.. ماتزعليش.. الموضوع ده ملوش اي اهمية.. شاهيناز بالنسبة لي كانت مجرد صديقة قديمة.. لكن بيني و بينك انتي كل الدنيا.. مافيش حد تاني.
ترمقه بحزنٍ.. و تقول بنبرةٍ ضعيفة :
-انا مش عايزة اكون ضعيفة و اشكك فيك.. بس ساعات بحس ان فيه حاجات بتتغير… انك بقيت تهتم بأمور تانية مش بس انا.
يتقرّب “عثمان” منها.. و يحاول أن يُعيد شعور الأمان و الراحة بينهما.. يقترب أكثر.. يحاوط كتفيها بذراعه.. ثم يضع يده على و جهها برفقٍ.. يمسح بهدوء دمعة كانت تسقط على خدها بلا شعورٍ منها ..
ثم يقول بصوتٍ رقيق.. بحبٍ صادق :
-انتي الأهم يا سمر.. و اي حاجة تانية مش هاتفرق لو انتي مش جنبي.. الحاجات دي كلها.. كل الاحداث اللي بتحصل معايا يوميًا زي الرياح.. بتيجي و تمشي.. لكن انتي ثابتة في حياتي.
تلتقط “سمر” نفسًا عميقًا.. و تبدأ في الهدوء تدريجيًا.. قلبها يطمئن بوجوده.. و تبدأ في الاستجابة له بشكلٍ أكثر مرونة.. تلتفت إليه بنظرةٍ هادئة.. و تبتسم قليلاً مرددة :
-مافيش حاجة بتهزّني غير لما تبعد عني… لما بتحسسني انك بعيد.. بس دلوقتي.. حسيت انك رجعت تاني ليا.
تشعّ ابتسامة دافئة في وجهه.. يقترب منها أكثر حد اللصوق هامسًا :
-انا مش بعيد ابدًا يا سمر.. انا هنا جنبك.. و مش هاخلّي أي حاجة في الدنيا تفرقنا ..
ثم يأخذ يدها و يقبّلها برقةٍ.. ثم يهمس لها برومانسية شديدة :
-انتي كل حاجة ليا.. و ده كان يوم مرهق ماحبش اعيشه تاني.. خليني بس أعيش اللحظة دي معاكي.. و ننسى كل حاجة تانية.. اتفقنا ؟
تظهر الإجابة في عينيّ “سمر” و هي ترنو له بلطفٍ.. و تلتقي أعينهم في لحظةٍ حميمية.. يشعران بأن الدنيا توقفت لحظة من أجلهما.. تتبدد كل الضغوط و المشاعر الصعبة.. و تبقى اللحظة فقط بينهما
يقترب منها “عثمان” دافعًا بها تحت ثقل جسده لتستلقي فوق الأريكة.. يزيل حجابها و يجوس بأصابعه بين خصلات شعرها و يهمس في أذنها.. بينما يغمرها بكل ما يمكنه من حب و اهتمام :
-انا لسا بحبك.. زي اول مرة.. و اكتر.
في تلك اللحظة.. يتلاشى كل شيء آخر بينهما.. تصمت كل الأصوات.. ليعلو فقط صوت الحب …
**
برغم وجوده.. صار البيت أكثر هدوءً.. و الجو ثقيلٌ.. “مايا” تمرّ أمام الحمام في الرواق الطويل.. حيث يمكنها سماع صوت رذاذ الماء المتساقط من الدش ..
نظراتها تتشتت بين القلق و الانجذاب تجاه “نبيل”.. الرجل الذي لا تستطيع أن تفهمه تمامًا.. و لا تعرف كيف تتعامل مع مشاعرها تجاهه.. هي تقف للحظة أمام الباب الموارب للحمام.. عينيها تلاحق كل حركة داخل الغرفة من خلال الفتحة الضيّقة.. الصوت المغري للماء المتساقط يملأ أذنيها ..
لكنها لا تجرؤ على الاقتراب.. فكرتها الوحيدة هي أنه رغم جفاءه.. هناك شيء غريب في هذا الرجل يجذبها إليه.. شيء يجعل قلبها ينبض بسرعة كلّما اقترب منها ..
بعد لحظة من التردد.. تلتقط نفسها و تخطو عدة خطواتٍ إلى الأمام.. ثم تتوقف فجأة عند باب غرفته الموارب.. يظل ذهنها مشغولًا.. يتردد بين مشاعرها المتناقضة ..
خلط بين الخوف منه.. من طبيعته المتسلّطة.. و بين الإعجاب الذي لا تستطيع إخفاءه.. تتخيّل كيف كان ليكون الأمر لو إنها قابلته في ظروفٍ أخرى ؟ لو إنهما متحابّان حقًا ؟ و هذه الفترة من المفترض أن تكون شهر العسل لهما معًا !!
إنه يمتلك شيء يجعلها غير قادرة على الابتعاد عنه.. و لكن كلّما اقتربت منه.. شعرت برغبة في الهروب ..
و أثناء تأملها و استرسالها في أفكارها.. يخرج “نبيل” من الحمام دون أن يصدق بأنه خرج ليجدها أمامه.. إذ كان لا ينفك عن التفكير فيها طوال مدة مكوثه بالحمام ..
يقترب منها ببطءٍ.. و جسده العاري أسفل رداء الاستحمام يلمع من قطرات الماء التي ما زالت تتساقط من شعره.. عينيه لا تتركها.. مليئة بالشغف و التصميم.. هو يلاحظ ارتباكها.. لكنه لم يكن مستعدًا لرؤيتها تقف بهذه الطريقة.. تحدق في غرفته.. و كأنها تنتظره.. بهذا الثوب القطني الذي لم يكن به ما يدعو للإثارة.. و لكن مجرد أنها ترتديه.. جسدها الممتلئ بتناسق يجعله يبدو عليها ككارثة بحاجة للتعامل الفوري معها ..
يبتسم “نبيل” و هو يقترب خطوة أخرى منها.. يدرك جيدًا تأثيره عليها.. تلاحظه “مايا” الآن.. فترتجف من الخوف.. عينيها تبتعد عن عينيه.. و كأنها تريد أن تنفي نفسها من المكان.. لكن جسدها يبقى ثابتًا في مكانه.. رغم ترددها الشديد ..
يقترب “نبيل” منها أكثر.. حتى دفعها للتراجع و الاصطدام بالجدار البارد من خلفها.. حاصرها هناك بين ذراعيه.. لا يترك لها مجالًا للتنفس.. يرى الخوف في عينيها.. و يرغب في السيطرة على تلك الهالة التي تملأ الفراغ بينهما.. يفكر للحظة.. ثم يتكلم بصوتٍ منخفض.. حاول أن يكون لطيفًا لكن بنبرةٍ قاسية في نفس الوقت :
-مش كبرنا على لعبة الاستغماية… حتى لو ينفع نلعبها.. انتي طلعتي فاشلة أوي فيها.. ايه يا مايا.. لسا خايفة مني ؟ مش هأذيكي.. و لو انك لو كنتي خايفة مني صحيح ماكنتيش بقيتي واقفة هنا.
تشعر “مايا” بشيءٍ ثقيل يثقل صدرها.. تحاول أن تنأى بنفسها عنه.. لكن عينيه تلاحقها مثل الثقل الذي لا يمكنها دفعه.. هي تحاول أن تظهر ثباتها.. و لكن كلمات نبيل تُشعل مشاعرها المختلطة ..
-انت… انت مش فاهم… انا مش قادرة اكون معاك !
تتحدث “مايا” بصوتٍ مرتعش.. تحاول الابتعاد عبثًا ..
يبتسم “نبيل” ابتسامة مائلة.. يعلم تمامًا ما يدور في ذهنها.. هو يرى صراعها.. و هذا الصراع هو ما يجذب انتباهه أكثر.. هو ليس بحاجة لأن يراها خائفة أو مترددة.. بل يريد أن يراها ضعيفة أمامه.. يريد أن يستولي على كل شيء فيها.. حتى مشاعرها المعقّدة ..
-انتي فاكرة اني مش شايفك ؟ .. تمتم بهدوء مقتربًا منها أكثر.. و تابع :
-شايفك كويس يا مايا.. مش الخوف هو اللي هايسيطر عليكي.. انتي اللي هاتسمحي لنفسك.. انتي اللي هاترمي كل حاجة وراكي و تلتفتي ليا انا.
أصابها اضطرابٍ شديد.. بينما تلاحظ كيف يقترب منها أكثر.. حتى أصبحت المسافة بينهما ضئيلة جدًا.. “نبيل” يلمس جانب وجهها برقةٍ.. رغم إنها لا تظهر أيّ علامة تدل على الاستجابة.. إلا إنه يتقرب منها حتى يصبح جسده قريبًا جدًا من جسدها و تشعر بحرارته.. كما تشعر بالتوتر يزداد في الجو ..
يردد “نبيل” بصوتٍ ناعم.. مع لمسة خفيفة من أنمله على خدّها :
-مايا… خليكي شجاعة.. مش لازم تقاومي طول الوقت.. مش هاتقدري تفضلي كده.
تشعر “مايا” بدنو انهيارها في هذا الموقف.. و رغم خوفها.. هي لا تستطيع منع نفسها من الانجذاب إليه أكثر.. نظرته تذيب مقاومتها شيئًا فشيئًا.. لكن هل ستستطيع أن تظل متماسكة أمامه ؟ هل ستخضع أخيرًا لهذا التحدّي الذي يطرحه عليها ؟
تختلج أنفاسها الآن.. بينما يداعب شعرها بحركةٍ رقيقة لكنها حاسمة.. و تبدأ “مايا” تدريجيًا في الاستسلام لتلك اللحظة التي طالما حاولت الهروب منها.. “نبيل” يراقب تعابير وجهها.. يشعر بأنه على وشك كسر حاجز آخر بينها و بين نفسها ..
يهمس “نبيل” في أذنها :
-انا مش هاسيبك تهربيي مني اكتر من كده يا مايا.. انتي من اللحظة دي ملكي انا.
تنهدت “مايا” بصوتٍ خافتٍ.. ثم في لحظة.. تغلق عينيها و تترك نفسها تمامًا له ..
هي لا تعرف إذا كانت ستندم أم لا.. لكنها تعلم أن ما سيحدث الآن سيكون خارج قدرتها على التحكم …
**
غرفة المكتب هادئة بشكلٍ يعكس الراحة التي يسعى إليها كلٌ منهما.. الأضواء الخافتة لا تزال تملأ المكان.. بينما تتساقط خيوط من الضوء العسلي البرّاق على الأريكة الفاخرة التي تمددا فوقها “عثمان” و “سمر” معًا.. بعثت احساسًا بالراحة لأول مرة يكتشف “عثمان” مدى فعاليتها ..
كان يفرش لها صدره لتتوّسده.. و هي تحاوط خصره بذراعيها بشدة.. الأجواء توحي بالسكينة.. كل شيء حولهما أصبح ضبابيًا باستثناءهما.. بعد أن مرّا بلحظاتٍ عميقة كانت أكثر من مجرد لحظاتٍ جسدية.. كانت لحظاتٍ أعمق.. لحظات حديث قلبي لم تجرؤ الكلمات على التعبير عنها بشكلٍ كامل ..
“عثمان” الذي كان غارقًا في أفكاره بعد تلك اللحظات الحميمية.. يبتسم بحنانٍ و هو يراقب “سمر” التي كانت تغلق عينيها للحظة و كأنها تود امتصاص الراحة التي غمرتها فجأة و بددت كل مشاعر التوتر التي كانت تختزنها طوال اليوم ..
لكنه يعرف بأنها لا زالت تشعر بالكثير من التردد.. و ذلك التعبير الذي على وجهها يعكس صراعًا داخليًا بين حبها له و خوفها من أن تُعرض نفسها لمزيد من التوّرط العاطفي ..
تفتح “سمر” عينيها ببطءٍ.. و ترمق “عثمان” بنظرة رهبة قصيرة.. ثم ما لبثت أن ظهرت ابتسامة هادئة على شفتيها.. لكنها لا تقول شيئًا.. في تلك اللحظة.. يبدو و كأن الكلمات تصبح فارغة و غير ذات معنى أمام مشاعرها المتدفقة.. هي فقط تنظر إليه.. و أحيانا لا تحتاج للكلمات كي تعبّر عن كل ما تشعر به ..
“عثمان” الذي يبدو أنه أدرك ما تشعر به.. يبتسم بدوره.. قلبه ما زال ينبض بذلك الارتياح الداخلي بعد اللحظات الحميمية التي مرّا بها.. لكنه يشعر بشيء أكبر الآن.. تواصل أعمق مع “سمر”.. هو يعرف بأنها كانت متوترة.. لكنه شعر الآن و كأن جسرًا جديدًا قد بُني بينهما ..
يتمتم “عثمان” بصوتٍ منخفض.. محاولًا أن يكسر الصمت :
-مافيش حاجة في الدنيا تقدر تبعدنا عن بعض يا سمر.. حتى لو احنا نفسنا حاولنا.
تبتسم “سمر” مرةً أخرى.. لكنها لا تجيب فورًا.. تتأمل يده التي لا تزال تفرك ذراعها و مرفقها.. ثم ترفع عينيها إليه بحذرٍ.. تتنهد ببطءٍ و كأنها تحاول جمع أفكارها ..
يدرك “عثمان” عمك مشاعرها.. يضع يده على يدها برفقٍ.. يلامس أصابعها بحنان.. و كل حركة منه تعبر عن مشاعر لطيفة تريد أن تُوصل إليها رسالة أعمق مما تحمله الكلمات.. ثم يقول :
-لسا مش مصدقة.. بعد كل ده ؟ و لا لسا خايفة يا سمر !؟
بصوتٍ عميق.. ملييء بالارتياح تجاوبه :
-مش عارفة لو كنت هاتفهمني و لا لأ… بس انا المرة دي حسيت اننا قربنا من بعض بطريقة مختلفة.. بطريقة حقيقية !
ينظر “عثمان” إليها بحب.. ثم يضمّها إليه قليلًا.. يضع يده على خدها بحنانٍ.. يحرّك أصابعه برفقٍ على بشرتها كما لو كان يريد أن يطمئنها.. هو يعرف بأنها كانت دائمًا تبحث عن الأمان.. و معه تشعر كأنما قد وجدته أخيرًا ..
يهمس لها بصوتٍ دافئ :
– وانا كمان.. كل مرة معاكي بتكون مختلفة.. و حقيقية.. معاكي كل شيء بيكون اهون.. مش مهم الدنيا او الحاجات التانية.. المهم اننا مع بعض.
تشعر “سمر” بشيءٍ غريب يتسلل إلى قلبها.. شيئًا لم تشعر به من قبل.. لم يكن مجرد التلامس الجسدي هو ما أثر فيها.. بل تلك الكلمات التي جعلتها ترى أن هناك جانبًا آخر لـ”عثمان”.. جانبًا عميقًا يجسد القوة و الضعف في نفس الوقت لا يظهره إلا معها.. تلامس يده على وجهها يعزز شعورها بالأمان أيضًا.. و تبتسم ابتسامة أكثر سكينة ..
ثم ترفع يدها.. و تضعها على قلبه.. تشعر بدقات قلبه المتسارعة بعد تلك اللحظات التي مرّا بها.. و تخفق هي أيضًا بتسارعٍ.. لكن بأمل.. تنتقل نظراتها إلى عينيه.. و تكتشف في نظراته مشاعرها هي أيضًا.. تلك التي لطالما كتمتها في داخلها ..
تخبره “سمر” بهمساتٍ رقيقة :
عثمان… انا مش عايزة اي حاجة تفرق بينّا.. مش عايزة اي حاجة تخليني بعيد عنك.
يطرب قلبه بكلماتها.. و يشعر بأن كل مشاعر القلق و التوتر التي مرّ بها طوال اليوم قد زالت الآن كلها.. يلتقط يدها.. ويضعها على قلبه مجددًا.. ثم يهمس إليها برقةٍ.. ليؤكد لها أنها أهم ما في حياته :
-انا معاكي يا سمر.. كل حاجة هاتكون تمام طالما انتي جنبي.. احنا مع بعض.. و ده كل حاجة بالنسبة لي.
بينما تحاول “سمر” أن تُبقي ترددها بعيدًا و هي تستمع إلى كلماته.. تبدأ في إرخاء عضلاتها ثانيةً.. يديها تتحركان نحو صدره.. كما لو أنها تبحث عن الأمان.. عن حضن يأخذها بعيدًا عن أيّ معضلة تمرّ بها في الحياة.. يشعر “عثمان” بتلك الحركة.. و يفهم فورًا ما تعنيه.. يضغط على يدها برقةٍ.. و يُشعرها بأمانه ..
يراقب عينيها للحظة.. و يبتسم ابتسامةٍ لطيفة.. ثم ينحني ببطءٍ ليقبّل رأسها برقة.. تشعر بأنفاسه القريبة.. و يتجدد ادراك بأن الزمن قد توقف من جديد.. و أنه لا يوجد سواهما في هذا العالم.. ترفع رأسها قليلاً.. و تقابله بنظرةٍ تحمل مزيجًا من الحب و التقدير ..
تغمره السعادة و هو يشاهد عينيها تُشرق.. يبدأ في تحريك يده على كتفها برفقٍ.. ثم يدير جسده ببطءٍ نحوها حتى تلتقي شفتاه بشفتيها في قبلةٍ هادئة و مليئة بالحب.. القبلة تتطور ببطءٍ.. مع كل لمسة يشعران بها تجاه الآخر.. و كأن الوقت يتسارع حولهما ..
تترك “سمر” نفسها لتغمرها تلك اللحظة مجددًا.. يديها تتحركان على جسده.. تتحسس قوامه المتماسك.. بينما يديه تتحركان أيضًا على ظهرها.. يلامسها بخفةٍ كما لو كانت قطعة من الزجاج الهشّ.. لكنه أيضًا يضغط بلطفٍ في نفس الوقت ليشعرها بوجوده و قوته.. القبلة تصبح أعمق.. و حركاتهما أكثر تناغمًا ..
بينما يفصل بين شفتيهما لفترةٍ قصيرة.. ليقول بصوتٍ منخفض و عاطفي :
-سمر.. نسيت اقولك.. كل سنة و انتي احلى حاجة حصلت في حياتي.. انهاردة عيد جوازنا !
تلتمع عينيّ “سمر” بينما تلتقي بعينيه.. راودها تساؤلٍ.. هل هي ذكرى ازواج العرفي أم الرسمي يا ترى !”
لكنه لم يتيح لها فرصة لطرح السؤال بلسانها.. إذ قال الكلمة التي اسكتت بداخلها كل صوتٍ :
-بحبك.
شعورٌ غريب يتسلّل إلى قلبها الآن.. هي تعرف بأنه كان دائمًا هناك من أجلها.. لكن في تلك اللحظة.. تشعر بأنها تذوب بين يديه.. و تجد نفسها مستسلمة لتلك الرغبة التي كانت تقاومها من قبل.. تميل برأسها إليه مرةً أخرى بمحض ارادتها.. و تعيد قبلة أخرى بينهما.. هذه المرة أكثر شغفًا.. حيث تشعر بوجوده في كل خلية من جسدها ..
يداه الآن تلامسان بشرتها بدفءٍ.. تنزلقان بحركةٍ بطيئة على جسدها.. كل لمسة تشعرها بالارتياح.. و كل همسة تعزز في قلبها ما كان في البداية مجرد مشاعر متأججة من رغبة و حب مختلط ..
تغلق “سمر” عينيها للحظةٍ و تتنهد.. و كأنها أخيرًا في المكان الصحيح.. بل هي في المكان الصحيح.. مع الشخص الذي يملك قلبها بشكلٍ كامل.. يدها التي لطالما كانت تحاول أن تبقي مسافة بينهما.. تبدأ الآن في الاقتراب أكثر.. حتى تلامس قلبه وتغرق فيه ..
يرفع “عثمان” يده ليقوم بتحريك خصلات شعرها التي تساقطت على وجهها.. و تبتسم “سمر” له.. بعد ذلك.. يتلاشى كل شيء آخر.. كل القلق و التوتر.. و يبدأ العالم في التراجع.. ليتركا كل شيء وراءهما و يكونا لبعضهما فقط !
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية كرسي لا يتسع لسلطانك)