رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم مريم غريب
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الجزء التاسع والثلاثون
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك البارت التاسع والثلاثون
رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الحلقة التاسعة والثلاثون
الفصل التاسع و الثلاثون _ لم يُعد سرًّا _ :
تتسلّل خيوط الشمس عبر الأشجار العتيقة.. و تغمر الحديقة بأشعتها الذهبية الناعمة.. الأجواء هادئة.. مُعبّقة برائحة الزهور و العشب الطازج.. حيث يجلس كلًا من “عثمان البحيري” و زوجته “سمر حفظي” إلى طاولة خشبية في زاوية الحديقة.. و كأنهما يُعيدان اكتشاف كل لحظة معًا ..
وسط صمتٍ يملؤه الفهم المشترك و المحبة العميقة.. ينظر “عثمان” إلى “سمر” بابتسامةٍ خفيفة.. بينما هي تجلس قبالته.. مستمتعة بوجبة الإفطار التي أعدّها الخدم بتنسيق ذوقي رفيع ..
يمد “عثمان” يده عبر الطاولة ملامسًا جانب وجهها و هو يقول بصوتٍ هادئ :
-انا حاسس اننا رجعنا بالزمن.. كأننا بنبدأ من اول و جديد يا سمر.. حتى البيبي الجديد بيفكرني بذكريات رغم قسوتها علينا احنا الاتنين.. لكن مشتاق لها جدًا.
تبتسم له “سمر” لكن عينيها تلمعان بمشاعر مختلطة.. فكرة أن تكون أمًا للمرة الثالثة تحملها بداخلها.. هي التي لا تتذكر المرتين السابقتين بالتفصيل.. و لكن في الوقت نفسه تشعر بالكثير من التفاؤل لما يحمله المستقبل ..
تخطف يد “عثمان” لتطبع قبلة رقيقة في باطن كفّه متمتمة :
-فاكر لما كنتِ بتقول و تحكي لي ان الحياة مع ولادنا يحيى و فريدة كانت مليانة تحدّيات ؟ المرة دي انا حاسة ان ده اكبر تحدّي لينا.
عثمان مبتسمًا : صدقيني كل مرة بيكون لها طعما الخاص.. هاتفتكري كل حاجة.. المهم دلوقتي.. الحظة اللي بنعيشها مع بعض هي الأهم.
يملؤها شعورٌ قوي بالحب تجاهه.. فتنتقل في كرسي بجواره.. تضع رأسها على كتفه لفترةٍ قصيرة.. قبل أن تتنهد براحةٍ.. يبدو عليها الارتياح مؤخرًا.. بعد أن ضمنت معه الأمان الذي لطالما نشدته ..
كيف لها أن تنسى رجلٌ مثله ؟
كيف لعقلها أن يقترف مثل هذا !؟
_____________
خرجا بعدأن فرغا من تناول الفطور مباشرةً ..
تنطلق سيارة “عثمان” الفـارهة في الطريق المجاور للبحر الفيروزي الثائر.. زوجته في الكرسي المجانب له.. و الأجواء الرومانسية ما زالت تحيط بهما ..
و بينما “عثمان” يقود بسلاسةٍ.. تصدح موسيقى هادئة عبر جنابات السيارة.. إل إن “سمر” شاردة في أفكارها و لا تستمع.. كما لو أن ذهنها يسبح بين ذكريات الأمومة المفقودة و القلق على الجنين الذي ينمو في أحشائها.. لكن برغم كل شيء نظراتها لا تترك يد “عثمان” التي تمسك بالمقود بسيطرةٍ محكمة ..
-كنت خايفة لما اكتشفت الحمل ! .. قالتها “سمر” بغتةً بصوتٍ خافت.. و أكملت :
-خصوصًا و انا لسا حاسة نفسي جوا دوّامة و مش قادرة افتكر تفاصيل حياتي اللي فاتت معاك و مع ولادنا… بس ده تالت طفل يا عثمان.. يعني مسؤولية أكبر. انت شايف ان انا قادرة ؟
يرد “عثمان” بنبرةٍ مطمئنة بينما تركّز عيناه على الطريق :
-انتي مش لوحدك في ده يا سمر.. احنا مع بعض… و كل حاجة هتمشي زي ما ربنا كاتب لنا.. اهم شيء تكوني هادية.. و ده عشان مصلحة البيبي اللي في بطنك لازم تحافظي عليه.
تلتفت إليه بنظرةٍ حانية.. ثم تبتسم.. و هي تشعر بالطمأنينة في قلبها بعد كلماته و تقول :
-و انت كمان.. يعني مش بس البيبي.. انت لازم تكون معايا خطوة خطوة و تاخد بالك مني.
يبتسم لها و هو يرمقها بنظرة جانبية مفعمة بالحب.. فاكانت إجابة أبلغ من الكلمات.. ضغط أحد مفاتيح السيارة لتسيرأسرع قليلاً.. و هو يشعر بمزيجٍ من السعادة و الراحة في وجود “سمر” بجانبه ..
هذا الطفل الجديد سيكون بداية أخرى لفصلٍ جديد و سعيد في حياتهما.. إنه بمثابة الأمل ..
يصلا في غضون دقائقٍ إلى عيادة الطبيبة النسائية.. يرافق “عثمان” زوجته إلى غرفة الفحص.. الطبيبة امرأة في منتصف الأربعينات.. تستقبلهما بإبتسامة هادئة و دافئة.. بدت مخضرمة و ناجحة في مجالها و أنها معتادة على التعامل يوميًا مع مثل هذه الحالات.. لكنها مع ذلك تُظهر اهتمامًا خاصًا بـ”سمر”.. فسّرته الأخيرة لأسباب متعلّقة بزوجها.. فهو حتمًا من يبالغ في تقديرها أينما حلّت و لا يقبل إلا أن تُعامل بأفضل طريقة ممكنة ..
تمضي الطبيبة قائلة بتوجيه ابتسامةٍ مُطمئِنة نحو الزوجين :
-اهلاً و سهلاً بيكوا.. ازيك انهاردة يا مدام سمر ؟ قوليلي في أي حاجة جديدة حاسة بيها ؟
تتنهد “سمر” بشيء من التوتر و تجيب بصوتٍ ملييء بالحذر :
-انا الحمد لله تمام.. مافيش حاجة جديدة بحس بيها.. من حوالي شهر و شوية بس بدأت اعراض زي الغثيان و الإرهاق و الحاجات المعروفة دي.. انا بس جاية و كنت عايزة
اطمن على البيبي عشان حاسة اني اتأخرت !
-اطمني خالص.. انتي تابعتي معايا في المرتين اللي قبل كده و كنتي زي الفل.. و هاتبقي زي الفل المرة دي كمان ماتقلقيش.
-ايوة.. بس حاسة المرة دي مختلفة شوية… يعني ده الحمل التالت.. مش سهلة صح ؟
هزّت الطبيبة رأسها :
-لا خالص ده اسهل فوق ما تتخيّلي.. اتفضلي بس اكشف عليكي الاول.
و أشارت لها نحو سرير الكشف.. قامت “سمر” و عيناها لا تفارقان “عثمان” ..
بعد خمس دقائق .. “سمر” تستلقي فوق سرير الفحص النسائي.. عيناها تلمع قليلاً من القلق و التوتر لشعورها بأنها تخوض كل هذا لأول مرة.. “عثمان” يجلس في كرسي صغير بجانبها.. يمسك بيدها برفقٍ.. يحاول أن يبعث فيها الطمأنينة ..
الطبيبة تجلس في الجهة الأخرى قبالتها.. و تبدأ فحصها بشكلٍ دقيقٍ.. ارتبكت “سمر” عدة مراتٍ.. فشد “عثمان” على يدها قليلًا.. نظرته لا تفارق وجهها.. يراقب كل حركة و كل تعبير على وجهها.. ملاحظًا القلق الذي يعتريها ..
تهتف الطبيبة بإبتسامة مريحة وهي تواصل عملها.. تطمئن سمر :
-ما تقلقيش يا مدام.. ده فحص روتيني.. كله تمام لحد دلوقتي.
تبتسم “سمر” قليلاً.. و لكن قلبها ما زال يملؤه القلق.. “عثمان” يضغط على يدها بحنانٍ.. و كأنما يرسل لها رسالة غير لفظية بأنه سيكون دائمًا هنا بجانبها.. مهما حدث ..
همس لها بذات الحنان و هو ينظر في عينيها بحب :
-انا هنا.. ماتخافيش… كل حاجة هاتكون تمام.
تطمئن “سمر” قليلاً لهدهدته.. الطبيبة لا تزال ماضية بفحصها.. بينما يتابع “عثمان” كل شيء بنظراته.. لا يفارق يدها و لا يبتعد عنها.. تسمع “سمر” صوت الأجهزة الطبيّة الدقيقة و هي تُستخدم في الفحص.. لكن الأجواء لا تزال مريحة و صافية ..
تتحدث الطبيبة أثناء الفحص مُبددة مشاعر قلق الحالة التي تتابعها :
-الحمل لسا في بدايته.. كل حاجة عادية تمامًا.. مافيش أي علامات مقلقة لحد دلوقتي.. الجنين في وضع جيد جدًا.
يبتسم “عثمان” لزوجته.. يشعر بالراحة بعد سماع تلك الكلمات التي طمأنته.. سمر تشعر بالراحة تدريجيًا.. و لكن لا تزال نظراتها تتبّع كل حركة للطبيبة ..
تنظر الطبيبة إلى “عثمان” و هي تقول بابتسامة مقدّمة بعض النصح له :
-المرأة في بداية حملها بتحتاج لدعم معنوي قوي.. و جسدي في نفس الوقت.. خلّي بالك منها كويس يا عثمان بيه و حاول ماتجهدهاش.. يعني زي ما انت فاهم و شرحت لك في المرتين اللي فاتوا.. قلل شوية من مرات العلاقة في الاول بس و بعدين كل حاجة هاترجع طبيعية.
يبتسم “عثمان” بتفهمٍ و يومئ برأسه.. عينيه مليئتين بالجدية.. هو يعرف أهمية هذا الوقت بالنسبة لـ”سمر” و يشعر بمسؤولية كبيرة تجاهها و تجاه الجنين الذي ينمو بداخلها ..
-اوكي يا دكتور.. هاخلّي بالي ..
و نظر إلى “سمر” مكملًا بصوتٍ خافت :
-كان لازم اسمع منها الكلمتين دول و الا ماكنتش هاقتنع بسهولة زي كل مرة.. كويس اني اصريت اجي معاكي !
تبتسم “سمر” بشكلٍ خجول.. و تشعر براحةٍ كبيرة في قلبها.. خاصةً مع دعم “عثمان” المتواصل لها ..
و أخيرًا الطبيبة تنتهي من الفحص.. تتنهد منتزعة القفّازات المطّاطية و تلقيها بسلّة المهملات المجاورة و هي تتحدث إلى الزوجين :
-كل شيء تمام.. و مافيش اي داعي للقلق.. بس لازم تتابعوا معايا طبعًا و في المواعيد زي ما اتفقنا.. تلتزموا بالنصايح الصحية.. مدام سمر الراحة التامّة طول الفترة الجاية و ابعدي عن اي مجهود كبير.. انا هانتظرك على مكتبي هكون كتبت لك على شوية فايتامنز و خطوات تمشي عليها لحد ما اشوفك المرة الجاية ان شاء الله.
يشكر “عثمان” الطبيبة قبل قيامها.. ثم يلتفت إلى “سمر”.. يعيد ترتيب ثيابها و يسوّيها باتقانٍ كما كانت.. ثم يساعدها على الوقوف بحذرٍ.. يظل ممسكًا بيديها بإحكام.. و كأنه يحاول أن يمنحها الأمان الكامل ..
تراقب “سمر” وجهه بابتسامةٍ خفيفة.. ثم تقول بصوت ٍمنخفض.. تعبيرًا عن امتنانها لهذا الدعم المستمر منه :
-انا محظوظة انك معايا !
يرافقها “عثمان” عائدًا بها إلى الطبيبة.. دون أن تغادر ثغره تلك الابتسامة الخفيفة …
**
أجواء القصر لا تزال مستقرّة.. و لكن التوتر يتطاير في شرارتٍ غير مرئية و يعمّ المكان ..
تجلس “فريال” هانم في البهو الفخم على أريكتها المفضلة.. يديها معقودتين في هدوءٍ ظاهر.. لكن عيناها تترقب بقلقٍ.. هواء القصر البارد يسلل من النوافذ المفتوحة قليلاً.. مع دخول خيوط الشمس الضعيفة التي لا تعكس إلا جزءًا من الحقيقة التي تخفيها “فريال” داخل قلبها.. ربما اليوم ترتاح قليلًا.. أو تزيد الأمر سوءًا !!
تسمع صوت سيارة تقترب من المنزل.. فتعلم بأنه قد وصل.. جاء “صالح البحيري” ملبيًا دعوتها.. ابن شقيق زوجها.. مغتصبها ..
بعد فترةٍ طويلة من التوتر بينه و بين زوجته “صفيّة”.. تعرف “فريال” تمامًا ما يمر به.. لكنها لا تستطيع أن تخفي ما في قلبها من ألمٍ و حيرة.. فهي لا زالت غير واثقة من أن ما قررته صائبًا أم لا ..
عرفت أمرًا واحدًا فقط.. إذا كانت “صفيّة” قد صممت على الطلاق.. فإن أقل ما يستحقه “صالح” هو أن يعرف السبب.. لا بد أن يعرف ..
يدخل “صالح” في هذه اللحظة.. يسير نحوها بهدوءٍ و هو يلاحظ أن شيئًا مختلفًا في الجو العام حوله.. بينما هي تراقب كل حركة منه.. تراه يحاول أن يخفي ما في قلبه من قلقٍ و تعب ..
حيّاها “صالح” بصوتٍ هادئ.. لكن عينيه تنم عن توتر :
-صباح الخير يا فريال هانم.. آسف على التأخير.. كنت مستني مكالمة شغل مهمة و كل حاجتي في اوضة الاوتيل زي ما انتي عارفة.
تطلق “فريال” تنهيدة و هي تراقب وجهه بتركيز.. ثم تقول :
-صباح النور يا صالح.. مافيش مشكلة انا فاضية و كنت قاعدة مستنياك.. اقعد يا حبيبي واقف ليه !؟
يعبس “صالح” قليلاً و هو يتراجع بضع خطواتٍ ليجلس أمامها.. لكنه ما لبث أن ابتسم و لكن بتوترٍ واضح.. يحاول إخفاء تأثير الضغوط النفسية التي يمر بها بسبب الخلافات المستمرة مع “صفيّة” و خاصّة أمر الطلاق الذس تصر عليه ..
تشعر “فريال” بموجة من التعاطف معه.. لكنها في نفس الوقت تعرف أن هذه اللحظة ليست للتعاطف فقط.. هناك شيء أكبر يجب أن يُقال ..
-شكلك عايز تقول حاجة يا صالح ! .. قالتها “فريال” تحثّه على البدء أولًا
يرد “صالح” بصوتٍ متهدج قليلًا.. محاولًا كبح مشاعره :
-الحقيقة… مش عارف ابدأ منين.. بس حضرتك اكيد عارفة.. العلاقة بيني و بين صافي بقت متوترة جدًا.. و هي مش بتجاوب على أسئلتي.. و لا بتشرح لي سبب الخلافات اللي بينّا.. و كل ما بحاول افهم بتتجنّب الكلام عن الموضوع و ترمي اللوم على أسباب مش مقنعة.
تستمع ” له “فريال” بهدوءٍ.. لكن قلبها مليئًا بالحزن.. “صالح” شخصٌ رائع و أب مثالي.. لا يستحق النهاية التي آل إليها زواجه من حب عمره.. إلا إنها لا يمكنها أن تتركه يتخبّط في الظلام و يظل مقهورًا لآخر عمره ..
عليها أن تغلق له صفحة الحاضر حتى لو عنى ذلك الألم و التوّرط الذي لا مفر فيه لسنواتٍ.. قبل أن تفتح له صفحة جديدة ليتسنّى له المضي بحياته و مستقبله ..
تقول “فريال” بصوتٍ حنون.. لكنه يحمل شيئًا من التردد :
-صالح.. صحيح صافي مش بتتكلم.. ده ساعات لأن الحكاية بتكون اكبر من مجرد السكوت نفسه.. او حتى الرفض.. في مشاعر قوية جواها مش قادرة تعبّر عنها.. حاجات انت مش قادر تفهمها دلوقتي.
ينظر إليها “صالح” باهتمامٍ و تركيزٍ بالغين.. يدرك أن “فريال” تعرف أكثر ممّا تقول.. ثم يشعر بشيءٍ من اليأس يكتسح قلبه.. كأن كل الجدران التي بناها حول نفسه تنهار ببطءٍ ..
يتخلّى عن تحفّظه أمامها و يقول بصوتٍ حزين بينما عينيه تغرق في الأسئلة :
-ازاي ؟ يعني ايه الحاجات دي طيب ؟ صارحيني ارجوكي يا فريال هانم.. ايه السبب اللي مخليها مش قادرة حتى تبص لي !!؟؟؟
تأخذ “فريال” نفسًا عميقًا.. ثم تنظر إليه بنظرةٍ مليئة بالأسف.. وكأن الكلمات التي ستنطق بها ستفجر كل شيء.. لكنها مجبرة.. السر لن يبقى سرًا بعد اليوم ..
ببطء.. تتكلم “فريال” و كل كلمةٍ تخرج منها كأنها تقتطع جزءًا من قلبها :
-صالح… في سر لازم تعرفه.. انا لما اكتشفته من فترة ماكنتش حابة أي حد يعرفه.. و لا حتى صافي.. لكن مقدرتش.. و طالما صافي عرفته و مصممة تنهي حياتها معاك بسببه.. يبقى انت كمان لازم تعرفه… رفعت… ابوك… في وقت من الأوقات.. لما كان يحيى عايش..كان بيستغل غيابه عن البيت احيانا… كان… كان بيخدّرني.. كان بيخدرني في بيتي… في اوضتي.. و كان بيغتصبني …
الصدمة الشديدة تبدو واضحة على “صالح”.. عينيه تتسعان.. و شفتاه ترتجفان و هو يحاول استيعاب ما سمعه.. لا يستطيع تصديق ما قالته “فريال”.. و كأن الأرض قد ابتلعت قدميه.. إذا حاول أن يقف فلن يقدر ..
لم يتوقع أبدًا أن يسمع هذه الكلمات و لا حتى مزحًا !!!
يردد “صالح” بهمسٍ مرتجف.. يحاول استيعاب الكلمات التي نطقت بها :
-ايه ؟ رفعت ؟ ابويا !؟ إزاي ؟ ازاي ده حصل !!؟؟؟؟
تغلق “فريال” عينيها للحظةٍ.. و كأنها لا تستطيع أن تذكر تفاصيل تلك الذكريات المؤلمة.. تتنهد ثم تفتح عينيها لتلتقي بنظراته ..
تكمل حديثها بدموعٍ تغلب على صوتها و هي تحاول الحفاظ على رباطة جأشها :
-في فترة.. كان بيغيب يحيى لفترات طويلة عن البيت.. و رفعت كان بيجي يزورني… كان بيخدّرني… و كان بيغتصبني في غياب اخوه.. و كل ما كان يحصل.. كنت احس بحاجات غريبة لما افوق.. بس ماكنتش بحط في بالي.. لحد ما اتأكدت.. لما ظهرت شمس و مامتها.. و لما روحت للخدامة اللي كانت بتشتغل عندنا وقتها.. و كانت بتساعده في عملته معايا.. كل حاجة كنت فكراها أحلام.. كوابيس.. طلعت حقيقة.. و الخدامة اكدتها عليا.. كلها ..
يظل “صالح” ساكتًا للحظات.. و عيناه مليئتان بالدموع.. لا يستطيع أن يصدق ما سمعه.. و كأن الهواء قد سحب من حوله.. لم يكن يتخيّل أبدًا بأن والده كان يفعل ذلك.. لا يستطيع السيطرة على عواطفه.. و فمه يبقى مغلقًا في صدمة قاتلة ..
-مستحيل ! .. يردد “صالح” بصوتٍ ضعيف و الدموع تغطي عينيه :
-ابويا… كان بيعمل كده ؟… انا مش قادر اصدق.. ازاي ؟ .. ليه ؟ … ليـه !!؟؟؟؟؟
تشعر “فريال” بشدة ألم “صالح”.. و تحاول أن تهدئه قدر الإمكان.. رغم إنها تعرف بأن الحقيقة ستكون أكبر من أن يستوعبها الآن أو حتى في المدى المنظور.. لكنها أيضًا تعرف بأن هذه اللحظة كانت ضرورية له.. كي يدرك سبب الأزمة العميقة التي تحدث الآن بينه و بين “صفيّة” ..
تخاطبه “فريال” بتماسكٍ واهٍ و هي تدرك عمق الصدمة التي يعيشها :
-انا آسفة… مش سهل عليا اقولك كده.. و كنت خايفة عليك من الصدمة… انت ابني يا صالح.. انا اللي ربّيتك انت و هالة.. و هاتفضلوا ولادي زي عثمان و صفيّة.. انتوا بعيد عن ذنوب ابوكوا.. بس صافي مش هاتفهم ده و انا مش هقدر الومها.. في الاول اترددت كتير.. كنت خايفة ازاي هاتقدر تتحمل الحقيقة دي.. بس دلوقتي.. صافي مش قادرة تتحملها.. عشان كده انت كان لازم تعرف.
يغرق “صالح” في صمته.. و عيناه تملؤهما الدموع.. لا يستطيع أن يتحرّك أو أن يقول أيّ شيء.. كل شيء تغيّر في لحظة.. علاقته بوالده الراحل.. علاقته بـ”فريال”.. و علاقته بكل شيء حوله ..
يظل جالسًا.. يحدق في “فريال” و كأن الوقت قد توقف.. بالكاد تمكن من القول بصوتٍ هامس :
-مافيش حاجة تقدر تعوض اللي حصل… مافيش كلام ممكن أقوله… و مافيش طريقة اقدر اتعامل بيها مع صفيّة بعد كده !!
تشعر “فريال” بمرارة الكلمات التي يرددها “صالح”.. و كل كلمة منها تزداد في وزنها الثقيل.. كانت تعرف بأن الحياة لن تعود كما كانت من قبل.. لكن على الأقل.. كان عليه أن يعرف الحقيقة.. و الآن.. انتهت مهمتها في أن تنقذه من سرٍ كان سيظل يخنق حياته بالكامل لو لم يُكشف في هذه اللحظة …
**
الضوء الخفيف يدخل من بين الستائر المواربة.. ينير الغرفة بنعومةٍ تامّة.. “مايا” تستيقظ ببطء.. لا تزال متعبة قليلاً من السهر.. و جسدها يشعر بثقل اللحظات التي مرّت بها.. تحاول أن تفتح عينيها بالكامل.. وتلتفت حولها بحذرٍ.. الغرفة تبدو هادئة.. لكن شيئًا ما في داخلها يعكر صفو هذا الهدوء ..
تنظر إلى السرير بجانبها.. فتكتشف بأن “نبيل” غير موجود.. لا صوت له.. و لا أثر له في الغرفة.. حتمًا أنه قد استيقظ قبلها و ذهب إلى عمله.. كما يبدو ..
هذا الصمت الذي يملأ الغرفة يُعيد إليها ذكريات الليلة الماضية.. و يفتح أمامها أبواب لمشاعر متناقضة ..
ترفع “مايا” يدها إلى جبهتها.. تحاول استرجاع التفاصيل.. لكنها سرعان ما تشعر بشيء ثقيل في قلبها ..
تهكس لنفسها بصوتٍ هشّ :
-مرة تانية… ليه استسلمت كده ؟ ليه ؟
تنزل قدميها من على السرير ساحبة الملاءة حول جسدها.. تمكث في مكانها بهدوءٍ.. و لكن قلبها غير هادئ بالمرة.. كل شيء في داخلها يصرخ بحيرة و ضياع ..
كيف كانت في تلك اللحظات ؟ كيف رضخت ؟ و سمحت له بأن يُمارس سلطته عليها ؟
تتذكر “مايا” الليلة الماضية بكل تفاصيلها.. و تحاول أن تستعيد ما جرى بوضوح.. كانت هناك لحظاتٍ.. كثيرة شعرت فيها بأن “نبيل” ليس فقط يسيطر عليها جسديًا.. بل عاطفيًا أيضًا.. كلّما حاولت أن تبتعد أو تتوقف.. كان يعود ليُشدد قبضته عليها أكثر.. ثم و كأن هناك قوى أخرى غير قوته تجذبها إليه.. تجبرها على الاستمرار ..
في البداية حاولت أن تقاوم.. حاولت أن تبقى بعيدة عاطفيًا.. لكن مع مرور الوقت.. بدأت تلاحظ بأن طريقة “نبيل” في التعامل معها لم تكن مجرد رغبة عابرة.. كان يتعامل معها و كأنها قطعة ملكيّة.. شيء يحق له التحكم فيه في كل لحظة.. كانت أفعاله لطيفة في ظاهرها.. و لكن خلف كل لمسة كان هناك إشعار بالسلطة.. لم تكن مجرد لحظات حميمية.. كانت لحظات ترويض و تحكم.. كانت تابعة إليه فيها دون أن تدرك بأنها قد تكون قد بدأت تتقبّل هذا الوضع.. رغم إنها لم تكن مقتنعة به تمامًا ..
تتنهد “مايا” بعصبية و هي تهب واقفة عن الفراش.. تذهب إلى النافذة و تفتح الستائر أكثر.. تراقب ضوء الشمس الذي يتسلل عبر الزجاج.. كأنها تحاول أن تجد شيئًا يهدئ من اضطرابها ..
يراودها شعورٌ غريب.. و غير مُريح.. لكنها دائمًا ما كانت تخفيه عن نفسها.. الآن.. و بعد أن صار كل شيء حقيقيًا.. أصبحت تُدرك أنه مهما كانت التفاصيل الصغيرة التي لم تُعطها أهمية.. فقد صارت جزءً من الحقيقة التي تعيشها الآن ..
تحدّثت إلى نفسها بهمساتٍ متلعثمة :
-مش هقدر.. بعد كده مش هايصدقني.. مش هايصدق اني مش عايزاه.. هو قدر عليا.. قدر عليا !!
ينتابها هلعٌ مفاجئ.. تستدير فجأةً فصارت مواجهة للمرآة.. وقفت تنظر إلى نفسها.. عينيها تحملان مزيجًا من الخوف و الارتباك.. تمعن النظر إلى ملامحها كما لو كانت تفتش عن شيء جديد في نفسها لم تكن قد رأتَه من قبل.. هل هي تلك الفتاة التي كانت تطمح في حياة هادئة ؟ أم هي الشابّة التي قد ضحت بالكثير من نفسها في سبيل شخص آخر و تخلّى عنها ؟ أم هي المرأة الناضجة التي سلكت طريق التمرّد و الخداع لتحمي نفسها و لكنها فشلت ؟
شريط الأحداث يمر أمام عينيها.. لحظات سيطرته عليها.. “نبيل” الذي تزوجها لأسباب لا علاقة لها بالحب.. كان يشدّ قبضته عليها في اللحظات التي كان من المفترض أن تكون لحظات الراحة و الأمان لها.. كان يتحكم بكل شيء.. يتحكم في تنفسها.. في نظرتها.. في مشاعرها.. حتى في اللحظات التي كانت تشعر فيها بالضعف.. كانت تراه و كأنها تتخلّى عن نفسها من أجل رضاه.. حقًا.. أكانت تحرص على رضاه !؟؟
ذكريات القبلات الثقيلة.. و أيديه التي كانت تلتف حولها كالسلاسل.. تجعل قلبها ينقبض.. لم يكن هناك مجال للراحة في تلك اللحظات.. كل شيء كان مشروطًا.. في البداية.. كان يبدو كأن هذا فقط جزء من العلاقة الطبيعية بين الزوجين ..
عندما سحبها إلى السرير.. لم يكن هناك مجال للرفض.. حاولت أن تبتعد.. لكنه كان يدير وجهها تجاهه.. يطلب منها أن تنظر في عينيه.. كان يطالبها بصمتٍ بقبول سلطته.. و لم يكن هناك مجال للحديث أو التفسير.. كلّما حاولت إظهار ترددها.. كان “نبيل” يعود ليذكرها بلطفه القاسي.. بلمساتٍ ناعمة تساوي بين القوة و الإغراء ..
الشيء الذي أثار ارتباك “مايا” هو أنه في كل مرة كان يقترب منها.. كان قلبها ينبض بسرعة.. و كان هناك شعور غريب بالخوف و الحاجة إليه في نفس الوقت.. في تلك اللحظات.. بدأ هذا الشعور يطمس مشاعرها الأخرى.. لم تكن تعرف إذا كان هذا هو فخ الحب أم مجرد خوف من التسلّط ..
تطلق “مايا” مزيدًا من النهدات.. تحاول التمسك بأفكارها قبل أن تلتفت إلى النافذة ثانيةً و تنظر إلى العالم الخارجي.. كانت تريد أن تكون بعيدة عن هذه الحياة التي فرضها عليها “نبيل”.. الحياة التي بدأت تشعر بأنها تضيق حولها ..
لكن رغم كل شيء.. كان هناك شيء آخر يغرس في قلبها كل يوم.. رغبتها في الهروب منه.. و خوفها من فقدانه في آنٍ.. كانت تفكر في الماضي.. كيف دخلت هذه العلاقة رغم إنها لم تكن متأكدة تمامًا من عواقبها.. و كيف أن زواجها لم يكن ناتجًا عن حب حقيقي.. بل عن احترام و وفاء لوالدها ..
“نبيل” الذي كان يراها “زوجة” أكثر من كونها شريكة حياة.. كان قد تزوجها ليس لأنه يحبها.. بل لأنه كان مدينًا لوالدها بعد أن ساعده في فترة عصيبة من حياته المهنية.. كان “نبيل” يعتقد بأن الزواج سيكون وسيلة لشكر الرجل الذي أنقذه.. و كانت هذه هي الطريقة التي قرر بها أن يرد الجميل لوالدها.. حتى لو كان ذلك على حساب مشاعر “مايا” ..
-محدش حبّني.. و هو ماحبنيش.. و لا عمره هايحبني !
قالت “مايا” لنفسها بهمساتٍ متألمة
ترفع يدها إلى قلبها.. تحاول أن تتماسك.. لكن مشاعرها تمزقها من الداخل.. و تدرك شيئًا لا يمكنها تجاهله.. سواء أعجبها أم لا.. فقد أصبحت مرتبطة أكثر من اللازم به.. رغم إنها كانت تخشى أن تصبح مجرد جزء من سيطرته.. في قلبها.. هناك خوف.. وفي ذهنها تتصارع الأسئلة عن المستقبل ..
**
رائحة القهوة الطازجة تعبق في الأجواء ..
الضوء الخافت للثريّات العملاقة المدلاة من السقف العالِ ينعكس على الأثاث الفاخر.. و الهدوء يملأ المكان باستثناء الأصوات البسيطة لخطوات الخدم المتنقلة في القصر ..
دخلا “عثمان” و “سمر” لتوّهما بعد زيارة الطبيبة النسائية.. و تشبّ “سمر” على أطراف أصابعها قليلًا لتودّع زوجها مؤقتًا بقبلة رقيقة على خده.. ثم تذهب لتستريح في غرفتهما ..
كان “عثمان” سيتوّجه إلى مكتبه ليحضر بعض الأوراق الهامّة من هناك ثم ينطلق إلى شركته.. لكنه يجد “صالح” جالسًا في الصالون.. يبدو عليه الإرهاق و التعب.. يحاول إخفاء توتره.. لكنه لم ينجح.. يلاحظ “عثمان” بأن هناك شيء غير طبيعي في ملامحه ..
لا يضيع الوقت في مزيدًا من التساؤلات و يتوّجه صوبه …
-صالح.. انت هنا من امتى ؟ و ليه قاعد لوحدك ؟ ديالا مش هنا و لا ايه ؟
يرفع “صالح” وجهه متطلّعًا إلى ابن عمه.. يجاوبه بصوتٍ خفيض :
-انا نسيت انها بتروح النادي في الوقت ده من اليوم.. جيت مالاقتهاش للأسف !
عبس “عثمان” سائلًا إيّاه :
-ايه يا صالح فيك ايه ؟ وشك مش مريح انهاردة… في حاجة ؟
يحاول “صالح” أن يبتسم.. و لكن الابتسامة ضعيفة جدًا.. تكاد أن تكون مزيّفة.. يحاول أن يضبط نفسه،. و لكنه لا يستطيع أن يخفي علامات التعب النفسي التي تكشّفت مؤخرًا على وجهه ..
يرد عليه بصوتٍ هاجئ محاولًا إخفاء شعوره :
-مافيش حاجة… تعبان شوية بس… الشغل… و مشاكلي مع صافي.
عثمان يقف أمامه يتأمله.. عينيه مليئتين بالشك.. كان يعلم بأن “صالح” مرّ بحالة من الاضطراب النفسي بسبب توتر العلاقة بينه وبين “صفيّة” ..
رغم إنه يحاول أن يتظاهر بالهدوء.. لكن تجاعيد الجبين تفضح ما في داخله.. يبتسم ابتسامة ضيّقة.. لكنه لا يستطيع إخفاء التوتر الذي يبدو واضحًا عليه.. يشعر “عثمان” بأن هناك شيء غير عادي يحدث ..
يقترب منه.. يجلس في كرسي مجاور له و يسأله بجديّة :
-مش معقول… مش ده اللي في عيونك.. في حاجة حصلت ؟ في مشكلة ؟ قول لي !
يضغط “صالح” على شفتاه.. يحاول كبح المشاعر التي تتدفق في داخله.. لكنه يزداد توترًا مع كل لحظة تمر.. حتى ينفجر أخيرًا ..
يهتف بصوتٍ حزين.. و هو ينظر في عينيّ ابن عمه :
-عثمان… انا خلاص.. وافقت على طلب صفيّة.. هاطلقها !!
ران الصمت للحظاتٍ.. و رغم الدهشة التي ألمّت بـ”عثمان”.. لكنه تمكن من السيطرة على انفعالاته ..
قال بتساؤلٍ حاد.. يحاول أن يقرأ ملامح الأخير :
-بس انت كنت رافض الطلاق قبل كده.. كنت دايمًا مصمم انك تحافظ على العلاقة.. ايه اللي حصل ؟ ليه قررت تغير رأيك ؟
يتنهد “صالح” بعمقٍ.. و يضع يده على رأسه و كأنما يحاول أن يرتب أفكاره المبعثرة.. لكنه يبدو تائهًا.. يغمض عينيه للحظة ثم يرفع نظره نحو “عثمان”.. يتردد لجزء من الثانية.. ثم يقول بقرارٍ حاسمٍ :
-قررت اخيرًا اني هاطلقها… القرار صعب.. لكن خلاص… ده اللي هايحصل قريب.
يعبس “عثمان” و هو ينظر إليه في دهشةٍ.. يرفض أن يصدق بأن “صالح” قد اتخذ هذا القرار من دون حتى محاولة إيجاد حل.. من دون أن يقاتل من أجل شقيقته.. فلو إنه واصل جهوده كان ليتدخل بنفسه ليساعده على إعادة الأمور إلى نصابها ..
و لكنه استسلم بسهولة.. كان يعرف بأن هناك مشكلة بينه و بين شقيقته منذ فترة.. و لكنه لم يتوقع أن يصل بهما الأمر إلى الطلاق النهائي.. بعد كل هذا.. بعد قصة حبهما الشهيرة ..
عينيه تتسع.. و الحيرة تظهر على وجهه.. و لكنه لا يستطيع أن يخفي انزعاجه ..
يردد بخشونةٍ بينما وجهه يتجهم :
-يعني عايز تفهمني ان دي نهاية المطاف ؟ كنت دايمًا بتقول انك مش هاتطلقها مهما حصل… ازاي قررت كده فجأة ؟
ينهض “صالح” من مكانه.. يبتعد قليلاً نحو النافذة كما لو إنه يحاول أن يهرب من الإجابة.. “عثمان” يعرفه جيدًا.. و يشعر بأن هناك شيء آخر يخفيه عنه.. شيء أكبر من مجرد خلافات بسيطة بين زوجين.. “صالح” يتماسك للحظةٍ ثم يلتفت من جديد إلى “عثمان” ..
يقول بصوتٍ أجش :
-القرار مش سهل.. بس خلاص… صافي مش هاترجع لي.. و هى مصرّة على موقفها.. لا في كلام و لا تفاهم.. لو كنت قادر على حل المشكلة كنت حاولت.. بس هي قافلة الطرق كلها في وشي.
يشعر “عثمان” بشيء من الغضب.. و أيضًا بشيء من التعاطف الخفي تجاه “صالح”.. رغم إنه كان يدعم أخته صفيّة بشكلٍ دائم.. إلا إنه لا يستطيع أن يتجاهل المعاناة التي يعانيها ابن عمه.. و لكن في نفس الوقت.. “عثمان” يشعر بأن هناك شيئًا غير مبرر في قرار “صالح” و أنه لا يعرف كل التفاصيل.. يشعر بشكوك كبيرة.. و لكنه قرر أن يتريّث قليلاً ..
قال “عثمان” بصوتٍ جاد.. يميل إلى الهدوء :
-أنت متأكد من قرارك ؟ انا ماليش اني أقول رأيي في الموضوع لو كان الطلاق هو الحل الوحيد.. بس ايًا كانت المشكلة.. لو انا عرفتها ممكن اقدر احلها و اقنع صافي بنفسي !
يبتلع “صالح” ريقه بصعوبة.. و يهز رأسه دون أن ينظر في عينيّ “عثمان” مباشرةً.. هو يعلم بأن “عثمان” حتمًا قد شعر بخطبًا ما في القصة كلها.. و لكن ما عرفه أكبر من أن يتم الحديث عنه الآن.. لا يمكنه أن يتكلم عنه بينه و بين نفسه في الأساس ..
نظرته تصبح أكثر شحوبًا مع كل لحظة تمر.. فيقول بتوترٍ ملحوظ :
-يا عثمان… ارجوك.. ده مش وقت الكلام في التفاصيل دي.. ده قراري.. و انا مش ندمان عليه.
يمتد الصمت بينهما للحظاتٍ طويلة.. عينيّ “عثمان” مليئة بالتساؤلات.. ولكنه يقرر ألا يضغط على “صالح” أكثر ..
يعرف جيدًا بأن بعض الأمور يصعب على الإنسان الحديث عنها.. و أن هناك جروحًا أعمق ممّا يمكن للكلمات أن تعبّرعنها.. و لكنه أيضًا لا يمكنه أن ينسى التغيير المفاجئ الذي طرأ على “صالح” و يشعر بأن ثمة شيء عميق وراء القرار الذي اتخذه ..
يتنهد “عثمان” دون أن يحاول إخفاء خيبة أمله.. ثم يقول :
-لو احتجت اي حاجة.. انا موجود… لكن لازم تبقى متأكد من قرارك قبل ما تنفذه.. فاهمني ؟
يبتسم “صالح” ابتسامة ضعيفة.. ثم يومئ له ملتقطًا مفاتيحه من فوق الطاولة بسرعة.. كأنه يريد مغادرة المكان ليبتعد عن أسئلة قد يطرحها ابن عمه مجددًا ..
يعتذر قبل أن يتحرك إلى الباب قائلًا بصوتٍ هاجئ لكنه حازم :
-شكرًا ليك يا عثمان.. هاكلمك في اقرب وقت.. سلام !
يخرج “صالح” من الصالون بسرعة.. تاركًا “عثمان” في مكانه.. عينيه ملؤها التساؤلات والشكوك التي لم تجد إجابة بعد.. يتنهد “عثمان” بحرارةٍ ثم يوجه نظره نحو التابلوه الكبير الذي احتل نصف مساحة الجدار أمامه.. حدق في الصورة الجماعية التي ضمّت أفراد عائلته جميعًا ..
و طفق يفكر في الأوقات القادمة.. و كيف ستتطور الأمور بين العائلة ..
لكن الشيء الوحيد الذي شغل باله أكثر.. هو قراره بأن الوقت قد حان ليعرف بنفسه كل شيء حاولوا مداراته عنه ! …………………………………………………………………
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية كرسي لا يتسع لسلطانك)