روايات

رواية في لهيبك احترق الفصل العشرون 20 بقلم شيماء يوسف

رواية في لهيبك احترق الفصل العشرون 20 بقلم شيماء يوسف

رواية في لهيبك احترق الجزء العشرون

رواية في لهيبك احترق البارت العشرون

في لهيبك احترق
في لهيبك احترق

رواية في لهيبك احترق الحلقة العشرون

لَمْ يَكُنْ لُقَانا صُدْفَةً بَلْ كَانَ قَدَرٌ قَلَبَ الموازِين
فأنا العَاقِل الهَادِئ القَوِّي الرَّصِين
أَصْبَحْتُ مَجْنُونَكِ .. أَتْبَعُكِ فِى كُلِّ مَكَانٍ إليهِ تَذهَبِين
أُطَالعُكِ لَيْلاً وَنَهَاراً .. يَبْقِينِى بَعِيداً طُوقَكِ ذَهَبِي الرَّنِين
يُحِيطُ بِبنصُركِ .. يَقْتُلنِى أَلَماً وَيَذْبحُنِى بِسَكِين
فَمَنْ مَنَحَكِ إياهُ لَمْ يَدْرُكْ نَعْمَةُ اللّه عَلِّيهِ وَبِمَشَاعِركِ يَسْتَهِين
أَرَاكِ دَائِماً مُحَطَمةَ الفُؤادِ .. دَامِعَةُ الأَعْيُن .. تتعذبِين
كَجَسدٍ فَقَدَ الرُّوح .. كَسَمَاءٍ مُلَبَدةَ الغيُومِ .. كَوَردَةٍ تَذْبَلِين
تُحِيطُكِ قُيِودٌ لا مَعْنى لَها .. وَبِبَسْمَةٍ زَائِفةٍ تَتزَيَّنِين
وأنا بِجِوَارِكِ أَعْجَزُ عَنْ مُسَاعَدَتِكِ .. مُقَيدٌ كالسَّجِين
أُرِيدُ أنْ أَصْرُخَ رَافِضاً .. حَبِيبَتِى أنْتِى لا تَسْتَحقِينْ
عَلياءٌ أنْتِى فِى سَمَائِي .. فَباللّه لا تَسْقُطِينْ
فَمَلاكٌ مِثْلُكِ طَيبةُ القَلْبِ .. عَذَبَةُ اللّسَانِ .. رَائِعةُ التَّكْوِين
قَدَرُهَا العِشْق .. السَّعَادة .. لا أنْ تَحْيا بِقَلْبٍ حَزِين
وأنا لَها .. فَمَنْ أَكْثرُ منِى عِشْقاً لَكِ ..قَدْ تَجدِين
يَرْبُضُ عِشْقَكِ فِى شَرَايينِى .. وَتَسكُنِينِ بالوَتِين
مُدَللتِى أنْتِ .. غَالِيتى ..أمِيرةُ مَمْلَكَتِى .. كَنْزِى الثَّمِين
كَمْ أَتُوقُ لأن أَشْفِى جِرَاحُكِ .. أَبْعدُ الحُزن والأَنِين
أُعِيدُ الضَحْكَةَ لِمُقْلَتِيك .. تَجِدِينَ بَينَ أَضْلُعِى وَطَنكِ الدَّفِين
أَبْعدُكِ عَنْ كُلّ مايُؤلمُكِ .. أُنْسِيكى المَاضِى اللّعِين
تَدّرُكِينَ بأفْعَالى أنِى نِصْفُكِ الثَّانِى .. عايزه وفَارسكِ الذى تَنْتَظرِين
آه من مَشَاعِر تَغْمَّرُنِى .. تَثُورُ بِكِيانِى كَالبرَاكِين
أَبْتَهَلُ لكي تَدْرُكِينها .. رُبَما يَوْماً ما .. أنا عَلى يَقِين
وَفِى إنْتِظَارِكِ لَنْ أَيأَسَ .. أَقْسَمْتُ أنِى لَكِ .. ولَنْ أَحْنثَ باليمِين .
(( كالعادة الخاطرة الرائعة اهداء من المبدعة 🌸 شاهندة 🌸)).
إن مقاييس قوة الحب داخل قلوب البشر ، تخضع لتصنيفات عدة ، تختلف من شخص إلى أخر ، فالبعض يقيسه بالمواقف الجامعة بين القلوب دون الألتفات للمعايير الأخرى ، والبعض الأخر وهو الغالبية العظمى والفئة الأكثر سذاجة ، تقيسه بالمدة الزمنية وطول العشرة ، فالحب بالنسبة إليهم لا يحدث إلا بعد مرور السنوات ومع ألفة الصفات والأعتياد ، وهناك أيضاً القلة القليلة وهؤلاء ممن يدركوا أن الحب ، هو تلك الرعشة التى تجتاح كياننا وتقلب كفة أتزاننا رأساً على عقب ، مدعومة بالمواقف التى يتيحها لنا الزمن حتى وإن قلت ، أما بالنسبة إليه ، فهو حالة أخرى مغايرة تماماً يصعب على العقل الضيق فهمها ، بل يصعب عليه هو نفسه شرحها ، فمنذ إجتيازه لتلك التجربة الأعصارية ، ونجاته منها بفضل خالقه وعلمه ، وخلال الخمس سنوات الأخيرة المنصرمة ، وهو يهيأ عقله ويدربه للقياها ، بكافة تفاصيلها الحسية مع الجسدية ، ومع كل صفة صغيرة تتسم بها ، بدءاً من صوتها الناعم الذى زلزل كيانه بمجرد تهاديه إلي قوقعة أُذنيه ، وكأنه يهمس إليه فى رسالة ضمنية مخفية ، أن فتاة أحلامك التى ظللت تنتظرها لسنوات ، ها هي تجلس خلفك ، فقط على بعد طاولتين من مرماك ، مروراً بحركات ذراعيها المرتبكة العصبية ، وأرتجافة ذقنها عند العجز أو الضيق ، أنتفاخ وجنتيها عند الضجر ، وتحريك ساقها اليمنى عند التوتر ، رقتها ، أبتسامتها ، حلمها ، هدوئها وأحترامها لمن حولها ، حتى العلامة الكبرى والتى وضعها خصيصاً كى يستدل بها على رفيقة دربه ، ورأها متجسدة بها ، من دون أختبارها فعلياً ، ألا وهى غريزة الأمومة ، والتى تمارسها بكل حب مع طفلة شقيقها ، حتى ظنها فى لقائهم الأول صغيرتها ومن حملتها ، بأختصار ، هى شخصية فريدة ، تعيش مأساتها فى صمت وتتركك تفهم عتابها وحزن قلبها من خلال نبرتها دون قول صريح ، أما هو فيعلم تمام العلم أن القدر الذى وضعها فى طريقه بعد كل تلك السنون من التمنى ، الترقب والأنتظار ، لن يحرمه منها ، وأن حدث فوقتها لن تكون نصفه الأخر ، وحتى يقضى الله أمراً كان مفعولا ، سيظل بعيداً عنها ، يراقبها من مسافة كافية كالملاك الحارس ، تاركاً القلب يجثو تضرعاً داعياً بقرب بات فى أنتظاره مقرح الجفنين ، مسّهد الأحداق ، متذكراً بعد فترة من الأنغماس بذكريات لقائهم القليلة ضرورة الأتصال بها ، والأعتذار عن أستشارة الليلة لحاجة المشفى إليه هذا المساء.
وعلى الجهة الأخرى فى أحدى الطرق الفرعية ، واصلت علياء محاولتها المستميتة فى الهروب من مطارديها من جهة ، والحصول على مساعدة شقيقها من جهةً أخرى ، قبل فقدها للأمل نتيجة لأغلاق الأخير هاتفه ، ثم محاولة الأتصال بخطييها فى الخارج ، رغم علمها المسبق بقلة حيلته ، ولكنها على الأقل تريد الأستماع إلى أى صوت مألوف بالنسبة إليها غير والدها القعيد ، ربما يبث طمأنينة زائفة داخلها ويحثها على القتال ، وكالعادة ، فى أحلك أوقاتها وأسوئها لم يكن متاح ولو بالصوت ليشاركها بها ، مقاطعاً محاولتها الخامسة الفاشلة رنين الهاتف معلناً عن أتصال هاتفى جائها كالنجدة ، لم تتردد لحظة واحدة فى أغتنامها ، فسارعت تجيبه صائحة بلهفة شديدة :
-(( يحـيـى .. يحـــــيـــى .. ألحقنى الله يخليك )) ..
أنتفض من مقعده على صوتها المكتوم وقبل أن يجيبها ، أستطردت تضيف مستغيثة :
-(( فى عربية ماشية ورايا بتحاول تزنق عليا وتخبطنى .. حتى دخلونى فى طريق مش عارفاه .. وأنا لسه جديدة فى السواقة )) ..
سقط قلبه بين قدميه عند تخيله لصورتها فى الوقت الحالى وحجم الذعر المارة به ، ورغم ذلك حاول بجهد مضنى تهدئتها بينما ساقيه تسابق الريح فى الوصول لسيارته واللحاق بها :
-(( طب حاولى تهدى عشان متعمليش حادثة .. وأنا قريب من قناة السويس هكون عندك فى أقرب وقت .. علياء أنا مش هسيبك لو أخر يوم فى عمرى بس قوليلي مكانك فين )) ..
أجابته عاجزة بصوتها الباكِ :
-(( مش عارفة .. مش عارفة حاجة .. أنا كنت ماشية فى الطريق الرئيسي وفجأة العربية اللى ورايا فضلت تضرب نور فيا .. وتحاول توقفنى وبعدها زنقوا عليا وأجبرونى أدخل فى طريق صغير ضيق .. أنا مش عارفة أى حاجة )) ..
صرخت بكلمتها الأخيرة مذعورة بعدما قام سائق العربة الأخرى بصدم جانب سيارتها لأجبارها على التوقف عنوة ، ثم أردفت تصيح بيأس ممزوج بعبراتها المتساقطة :
-(( يحيي ألحقنى بيخبط العربية عشان أقف غصب عنى )) ..
صرخ هو الأخر يقول بعجز بينما قدمه تضغط بقوة فوق دواسة وقود سيارته ويزيد من سرعتها :
-(( علياء أقفلى باب العربية عليكى كويس ولو تقدرى تبعتيلي اللوكيشن بتاعك )) ..
صمت لوهلة يستمع إلى صوت أحد الرجال يسبها بلفظ خارج حتى تتوقف ، ثم أردف يقول بأنفاس لاهثة من فرط الرعب والغضب :
-(( أقفلى الشبابيك وأسمعيني كويس .. علياء أبوس أيديك أوعى تقفلى الخط مهما حصل .. أنا معاكى لحد ما أوصلك .. أعملى تليفونك صامت ولو لاقدر الله عرفوا يوصلولك قبلى خبى التليفون فى مكان محدش يعرف يوصله .. وحاولى تقوليلى أى علامة مميزة حواليكى )) ..
آجابته موافقة بنبرة مرتجفة متقطعة بينما تحاول بأصابعها المرتعشة أرسال موقعها إليه :
-(( حا حــاضر .. هبعتــلك )) ..
ألتفتت تنظر حولها يميناً ويساراً ثم أستطردت تقول بأعياء بدء يظهر جلياً فى صوتها :
-(( أنا وصلت لقرية **** وبعدها دخلونى طريق فرعى مفيهوش حد .. بس فى مسجد بعيد تقريباً والباقي فاضي )) ..
قال مطمئناً رغم داخله الذى يغلى كالمرجل ، حتى النفس فى وقته هذا أضحى سحبه متطلباً جهد لا يملكه :
-(( تمام .. وصلى اللوكيشن متخافيش .. أنا عديت الداون وخلال عـــ… )) ..
بتر جملته عند أستماعه إلى صوت أرتطام قوى يليه صراخها المتلاحق ثم عدة أصوات مكتومة قادمة من الخارج قبل أنقطاع الأتصال .
**************************************
جحظت عيناها وأنقطعت أنفاسها وأنسحب الدم من كامل عروقها وهى تراها ممدة تحت قدميها تأن وتستغيث من شدة الألم ، تحاول بقدر أستطاعتها السيطرة على الأرتجافة الداخلية التى أصابتها ، حتى تستطيع تقديم يد المساعدة لها ، بينما سارعت والدته فى دفعها من الطريق صارخة بحسرة منتهزة الخطأ الذي أوقعت به نفسها بكامل وعيها :
-(( أوعى أشوف عملتى أيه فى أبن أبنى ومراته )) ..
حركت رأسها تنفى التهمة الصريحة عن نفسها كالمغيبة ولم يُعيدها سوى صرخة أخرى من تلك المسجاة أرضاً جعلتها تسارع فى أخراج هاتفها وطلب أحدى عربات النجدة على العنوان الذى تحفظه عن ظهر قلب ، وبعد خمسة عشر دقيقة من الأنتظار المهلك ، أنقضت في نحيب المصابة من جهة وتوعد والدته من جهة أخرى ، أخرجها من ضبابية رؤيتها صوت وصول العربة يليها حمل المصابة حيث أصرت على مرافقتها ولم تتركها سوي داخل غرفة الفحص ، لتلاقى مصيرها بمفردها ، وتترقب هى “غفران ” وصوله أستعداداً للمعركة الحقيقة ، بعدما هاتفته والدته تخبره كل ما حدث مع بعض الأضافات المبتكرة من قبلها ، حتى خرج الطبيب يركض فى الأنحاء ويخبرهم على عُجالة بفقدان المريضة جنينها وضرورة التدخل الجراحى الآن ، هنا هتفت والدته تقايضها من موضع قوة قائلة بمكر :
-(( الجنين مات بسببك وأنا شاهدة .. دلوقتى قدامك حل من الأتنين )) ..
صمتت لوهلة تطالع رد فعل طليقة ولدها ثم أردفت تقول بأبتسامة نصر :
-(( يا تتنازلى عن قضية الخلع اللى رفعتيها على أبنى وشوهتى بيها سمعته ودوستى على كرامته .. يا هاخد تقرير الطبيب وأطلع على أقرب قسم شرطة وأتهمك بالتعدى الصريح على أهل بيتى .. وشهود الجيران كلها فى صالحى )) ..
أرتفع جانب حاجبيها بنظرة شامتة ، ثم عاودت تكمل بتشفى واضح بعد رؤيتها الأرتباك الذى أصاب عدستي غفران :
-(( وورينى بقى يا ست المحامية هتخرجي نفسك أزاى .. وصدقيني ده مش حب ولا تمسك بيكى .. ده أنتقام لكرامة أبنى التى أتمرمطت فى التراب بسببك .. ووقت ما هو يحب يرميكي ويخلص منك يبقى لينا كلام تانى .. سامعانى يأم حفيدى )) .
حركت رأسها بنعم ولا فإلى الأن تحاول جاهدة تجاوز صدمة ما حدث ، وتجبر عقلها على أستيعاب فقدان أمرأة أخرى لجنينها على يديها .
***************************************
خوف ، ذعر ، هلع ، أرتياع ، ذهول ، وجوم توجس وأضطراب ، مصطلحات شاملة وافية عجزت عن وصف حالتها كما تشعر بها الأن ، وحتى بعدما عادت لوعيها وأستطاعت تميز وضعها ، ورغم حالة السكون المخيمة على المكان من حولها ، لم تملك الجرأة على فتح جفنيها ، فلازالت الهواجس تعصف بعقلها ، تخشى فتح عينيها فترى أسوء كوابيس أي إمرأة قد حدث لها ، فعجيب هو أمر الخوف ، يصيب الأنسان بالشلل العقلي قبل الجسدي حتى وإن كان بكامل قواه ، ثم يتركه فريسة لكافة الأفكار السلبية سجيناً خلف أسوار وهمية ، وهكذا حالها فإن كان هناك شئ يمنعها من النجاة بروحها الأن ويجعل فرارها مستحيلاً فهو آفة الخوف من فتح عينيها ومواجهة الواقع كما هو ، فهناك نوعان من الخوف ، واحد يدفعك للفرار ، والأخر يعمل على شل تفكيرك وحركتك ، أما القرار الأخير فيظل تحت أمرة العقل ، هكذا كان يخبرها والدها فى الصغر ، وهكذا قررت النهوض والمحاربة ، قبل تفاجئها بخلو الغرفة الرثة من حولها ، بل والأهم رؤيتها للباب المفتوح على مصراعيه ، فقط كل ما يلزمها هو إجبار ساقيها على الحركة ، بعدما تفحصت جسدها جيداً ، وتأكدت من عدم أصابتها بأي سوء ، فكل شئ فى موضعه الصحيح السليم ، سوي ياقة بلوزتها القطنية المفتوحة بعشوائية ، فقطبت جبينها بحيرة وعدم فهم ، تحاول تذكر ما حدث ، فأخر ما تعيه هو أصطدام سيارتها بجذع شجرة أثناء محاولتها الهرب مما أجبرها على الوقوف عنوة ، يليه تقدم أحد الملثمين منها وضربها فوق رأسها بعدما نجح في فتح باب السيارة ، ثم وقعت بعدها فى ظلام لم تخرج منه سوي منذ لحظات ، ربما يحيى هو من أنقذها ؟! ، وإذا حدث فأين هو الأن ؟!! ، هذا ما فكرت به بقلق قبل تذكرها الهاتف المخبأ داخل جوربها النسائى وأسفل بنطالها الواسع ، فسارعت بأخراجه من مخبأه تهاتفه بلهفة ، أما عنه هو فبعد وصوله إلى موقعها من خلال خاصيه التعقب العالمى (gps) ، لمح على بعد أمتار قليلة سيارة ما ، مفتحة الأبواب يخرج الدخان من مقدمتها ، فأنصبت جميع شكوكه حولها ، قبل تحويل وجهته إليها ، ثم قفزه من داخل خاصته ، يركض فى كل الأتجاهات صارخاً أسمها بيأس عل وعسى تلبى ندائه ، والذى جائه بالفعل عن طريق أسمها يضيئ شاشة هاتفه ، فسارع يجيبها بنبرة مختنقة :
-(( أنتي فين .. اكدبى عليا وقولي أنك كويسة )) ..
أجابته بخفوت رغم أهتزاز نبرتها والشعور بالدوار المداهم لها :
-(( أنا كويسة متقلقش .. بس مش قادرة أمشى .. حاسة أني هقع فى أي وقت وخايفة يظهروا قدامى تانى )) ..
قاطعها هاتفاً بلوعة :
-(( متتحركيش من مكانك .. لو تعرفي توصفيلى أنتي فين وأنا هيجيلك )) ..
قالت بأعياء واضح والرؤية تهتز أمام عينيها :
-(( أنا بعتلك الموقع .. فى بيت قديم أستخبيت وراه .. هتلاقى عربيتي قدامه بشوية )) ..
رد بأصرار وهو يركض فى أتجاهها :
-(( أنا قدامك .. أطلعى وهتلاقيني متخافيش )) ..
لحظات هى كامل المدة التى أنتظرها ، حتى لاح خيالها أمام عينيه تسير الهوينة ، كالغيث ينزل من السماء على الأرض الميتة ، فيعيد إليها الحياة ، وكذلك رؤيتها الأن مطر سقط على صحراء روحه الجرداء فربت في الحال ، ولم يعي لذراعيه ألا وهى تحاوط خصرها وترفعها من فوق الأرض متمتاً بأرتياح :
-(( لقيتك .. قلتلك لو أخر يوم فى عمري مش هسيبك )) ..
كانت هى أول من أنتبهت لوضعهم الغير صحيح فبادرت بسحب جسدها بعيداً عنه قائلة بأرتباك ووهن واضح :
-(( أحم .. أنا تعبانة ممكن تاخدني على أقرب مستشفى )) ..
أومأ برأسه موافقاً ثم غمغم مستفسراً بعد أدراكه هو الأخر لخطأه المدفوع بلهفته :
-(( حاضر بس ممكن أعرف هربتى منهم أزاى )) ..
سآلته بأستغراب والظلام يزداد أمام عينيها :
-(( هو مش أنت اللي لحقتني؟!! )) ..
أجابها نافياً بأستنكار :
-(( لأ !! . أنا لسه واصل لما كلمتينى )) ..
رفعت كفها تتحسس الألم الضارب مؤخرة رأسها ثم قالت مستنجدة بجسد مترنح :
-(( يحيى أسندنى أنــ….. )) ..
قبل أنتهائها من النطق بجملتها كان يضع ذراعيه كحائل بينها وبين الأرض الأسفلتية ، ثم قام بحملها والركض بها إلى أقرب مشفى لتلقي الرعاية اللازمة بعد الصدمة التى عايشتها .
***************************************
الحب ، إن تعريفه يختلف علي مر العصور من شخص إلى أخر ، حسب حاجتنا إليه ، فبالنسبة للبعض منتهى الحب ، هو العيش على أمل تلك اللحظة ، عندما يقبض بكفه الصغير الناعم على إبهامك بقوة متشبثاً بك وكأنه أغتزل العالم أجمع فيك ، وبالنسبة للبعض الأخر ، هو ذلك الكتف ، الذى يُقدم لنا فى أوقات اليأس والوحدة ، حيث لا أحد ينتظرنا سواه ، فنستند عليه ونختبأ به من خيبات الحياة ، بعدما تخلى عنا الجميع ، والبعض الأخر ، يرى الحب وطن للجبين ، يستوطن به بعد طول ضياع ، ويحتمى داخله من شرور العالم الخارجى بعدما أعياه كثرة التجوال ، مصحوباً بتأرجح القلب ، بين العضلات ، كبندول ساعة ضخمة يتحرك هنا وهناك من فرط حماسه ، وأنت تقف أمام خزانة ملابسك ، تنتقى أفضل ما فيها من أجل وجبة بسيطة ، وهكذا هى ، كلما حاولت أخماد أبتسامتها السعيدة ، تظل تقفز فوق شفتيها ، حتى أوشكت جوانب فمها على التشقق من كثرة الأبتسام وهى تتذكر البارحة ، وطلبه المفاجئ فى أصطحابها للغذاء ، مع أفعاله الخطرة والغير متوقعة ، غبطة بالتحول الجديد الذى أصبغ علاقتهم منذ تلك الليلة ، شئ تغير بها وبه أيضاً ، مقاطعاً سيل أفكارها المتدفق نحوه منذ الصباح ، بل فى كل لحظات وعيها حتى الأستيقاظ المتقطع فى الليل ، نغمة رسالة نصية خاصة بأحد التطبيقات الذكية ، حينما أضاءت شاشة هاتفها بأسمه يسألها بأهتمام .
” بتعملى أيه ” .
أحمرت وجنتيها وكأنها تلميذة مراهقة ، قُبض عليها تقرء خلسة أحدى المجلات الصفراء ، ثم سارعت تطبع فوق الشاشة أجابة سؤاله الفضولى بأبتسامة عريضة .
” بلبس عشان أنزل زى ما أتفقنا ”..
أتسعت أبتسامته هو الأخر وعينيه تمر على رسالتها متخيلاً أرتباكها من خلف الكلمات البسيطة ، ثم بدء يكتب من جديد بأبتسامة عابثة.
” مش محتاجة مساعدة ، قصدى فى الأختيار يعنى ”
أنهى الرسالة بوضع وجهه غامز فى نهايتها ، ثم ضغط أرسال بعد رؤيته لحالتها متصلة ، وفى أقل من ثانية واحدة ، أشار التطبيق بقرائتها عندما تحولت العلامات إلى اللون الأزرق ، فتنحنح محاولاً السيطرة على تعبيرات وجهه المرحة خاصة وهو يتخيل تعلثمها ورفرفت أهدابها عند قراءة الجزء الأول من الرسالة ، ينتظر بشغف ردها التالى ، أما عنها فقد أزداد أحمرار وجنتها عند قراءة كلماته ذو المعنيين ، ورفعت أحدى ذراعيها تتلمس بكفها حرارة جبهتها ، ساحبة نفساً عميقاً تهدء به من وتيرة تنفسها ثم دونت هاربة بأختصار .
” شكراً .. محتاجة أكمل لبس .. هقفل ” ..
ضغطت أرسال ثم قامت بألقاء الهاتف من يدها ، قبل شروعها فى أرتداء ملابسها وبعد عدة لحظات ، دوى رنينه برسالة أخرى قررت تجاوزها لخمس ثوانِ فقط ، قبل أن تنحنى بجذعها فوق الفراش تسحب الهاتف وتنظر داخلها ، تقرء بصمت سؤاله المنطقى .
” تمام بس مش أتأخرتي ، أجتماعنا قرب يخلص المفروض هقابلك بعدها ”..
أرسلت إليه شارحة .
” بحاول أكلم غفران من بدرى مش بترد عليا .. عشان كدة هقابلك على طول ”
أجابها من خلف الشاشة الصامتة دون رؤية سعادته بالخبر .
” هقابلك فى نص الطريق ”..
أغمضت عينيها حالمة وقد قررت أنهاء الحديث عند تلك النقطة ، فكم تتمنى لو تلاقوا فى منتصف الطريق .
وبعد نصف ساعة أخرى أنتهى خلالها أجتماعهم المزعوم ، وأنتهوا بعدها من توديع الوفد الأسيوى ، هتف جواد بحنق يؤنبه :
-(( البيه قاعد يزغرلى عشان تليفوني رن .. وبعدين قعد هو يحب )) ..
سأله بأرتباك نافياً :
-(( قصدك أيه يعنى ؟!! )) ..
هتف جواد بعدم تركيز مشغولاً بأعادة تشغيل هاتفه والنظر داخله :
-(( قصدى أنت عارفه ومتخلنيش أتكلم قدام الناس عشان الفضايح )) ..
فتح طاهر فمه معترضاً ولكن سرعان ما أوقفه صوت قريبه يقول بقلق :
-(( يا نهار أبيض !! علياء رنتلي ولا عشر مرات والتليفون مقفول .. ربنا يستر وميكونش فى حاجة )) ..
قال طاهر مقترحاً بلهفة :
-(( طب أتصل بسرعة شوف فى أيه )) ..
أومأ جواد رأسه موافقاً بصمت وهو يضع الهاتف فوق أذنه ينتظر أجابتها بملامح متجهمة خائفة ، بينما رفع يحيى الهاتف من فوق صندوق السيارة الداخلى حيث وضعه منذ قليل ، يتأكد من هوية الطالب ، بعدما صرعه أتصال ذلك الشخص المرتبطة به وقد قرر تجاهله ، ثم فتح الهاتف يستقبل أتصال شقيقها مجيباً بتوتر :
-(( ألو ؟؟ )) ..
أرتفعت وتيرة أنفاس جواد فور سماعه للصوت الذكورى الغريب عنه ، ثم سرعان ما هتف يتسائل بحدة :
-(( أنت مين وبتعمل أيه بتليفون أختى ؟؟!! )) ..
تنبهت حواس طاهر هو الأخر عند سماعه سؤال جواد ، فى حين أجابه يحيى بعملية وهدوء أكتسبهم خلال سنوات عمله :
-(( جواد .. أنا يحيى )) ..
تنفس الأخير الصعداء عند معرفته هوية من يحدثه ، بينما أستطرد يحيى يقول بأشفاق :
-(( بص مش عايزك تقلق .. بس علياء فى حد حاول يعتدى عليها بنية السرقة غالباً وعملت حادثة .. هى دلوقتى كويسة .. بس أنا هطلع بيها على المستشفي )) ..
صاح جواد يسأله بأهتياج مصحوباً بتوجس :
-(( أنت بتقول أيه !!! حادثة !! وكويسة أزاى !! .. أدينى عاليا أطمن عليها )) ..
هتف طاهر الواقف قبالته يسأل بنفاذ صبر بعد سماعه للجملة الأولى :
-(( حادثة لمين !! أنت لسه هتتساير معاه !! خلي اللي معاها يدينا العنوان عشان نوصلها )) ..
تنحنح يحيى علي الطرف الأخر ثم قال موافقاً على حديث طاهر :
-(( هى كويسة بس غالبا أغمى عليها من الخضة .. وأحنا دلوقتى طالعين على مستشفى ******* .. أحسن حل فعلاً تقابلنا هنــ…… )) ..
أغلق جواد المكالمة قبل أنتهاء الطرف الأخر الحديث ثم قام بتسديد لكمة قوية إلى وجهه طاهر صارخاً بعدائية قبل ركضه إلى الخارج :
-(( أختى كانت محتجانى وبسببك قفلت التليفون فى وشها .. أقسم بالله لو حصلها حاجة ما هرحمك يا طاهر )) ..
تلقى الأخير اللكمة بنفس راضية فهو أيضاً يلوم نفسه على تصرفه المتحكم الأهوج منذ ساعات ، ثم شرع بالركض من خلف رفيقه إلى العنوان المذكور لنجدة ورؤية أبنة عمه الوحيدة والتى يضعها فى مقام شقيقته الصغرى .
******************************************
نصف ساعة كانت هى كامل المدة التى أستغرقها كلاً من طاهر وجواد فى الوصول إلى واحدة من أكبر مشافى الأسكندرية ، بعدما هاتف الأخير يحيي أثناء قيادته ، وطلب منه الأنطلاق بها إلى هناك على الفور دون نقاش ، ثم واصلا الركض فى الممرات بعدما أعطتهم موظفة الأستقبال التفاصيل الكاملة عن حالة المريضة ، وقد كان جواد هو أول من لمح جسد يحيى المتشنج يقف أمام الغرفة فهتف يسأله بلهفة شديدة :
-(( علياء !! أختى فين ؟! )) ..
أجابه يحيى بأرهاق وملامح شاحبة :
-(( الدكتور بعد ما كشف عليها حب يعمل أشاعة ويتأكد أن مفيش أرتجاج فى المخ أو أى مضاعفات تانية )) ..
أبتلع جواد لعابه بصعوبة وقد فقد القدرة على النطق أكثر بينما هتف طاهر يسأل بقلق :
-(( هو حصل أيه وأزاي ؟؟!! .. وبعدين أنت مش قلت كويسة .. ولا كنت بتضحك علينا؟ )) .
بدء يحيى فى سرد كل ما حدث ، بدءاً من أتصاله بها ليعتذر عن حضور الليلة نهاية بإيجادها خلف أحد المنازل المهجورة ، فى حين أستمع كليهما إلى حديثه بتمعن وتركيز تام قبل معاودة طاهر يسأل من جديد بأستنكار :
-(( يعني هما عملوا كل ده عشان السرقة ؟!! )) ..
أجابه يحيى محتاراً :
-(( مش عارف ملحقتش أسألها .. بعد ما الدكتور يطمنا نقدر نعرف كل التفاصيل )) ..
غمغم جواد موافقاً بحزن ، بينما أنسحب طاهر يجيب على أتصالها الهاتفى ويخبرها بجمود كل ما حدث ، فسارعت تطلب منه بصوت باكِ فى الحال :
-(( طب أدينى العنوان عشان أجيلكم )) ..
قال هو معترضاً بحزم :
-(( رحمة .. روحي على البيت .. لحد ما نعرف اللى حصل ده سرقة ولا مدبر روحى على البيت للأحتياط )) ..
همست من بين دموعها تحاول أقناعه :
-(( لا مش هروح .. لازم أشوف علياء وأطمن عليها .. أستحالة أسيبها فى الظروف دى .. وحتى لو بتعتبرنى مش من العيلة .. أنا بشوفها أختى فأسمحلى أكون جنبها )) ..
تجاوز خفقة قوية ضربت جانب صدره ، ثم زفر بقلة حيلة قبل أن يقول مستسلماً لرغبتها :
-(( طب أحنا فى مستشفى ال***** .. أدينى السواق أبلغه بالعنوان )) ..
أتسعت أبتسامتها ثم أجابته بسعادة :
-(( عرفاها .. أحنا عدينا المجمع .. ربع ساعة وأكون عندك )) ..
صدقت فى وعدها ، وبالفعل بعد حوالى سبعة عشر دقيقة من وقوفه داخل رواق المشفى مترقباً رؤيتها ، لمحها تهرول فى أتجاهه بملامح قلقة ، بينما واصلت هي الركض فى أتجهاها الصحيح عند لمحها لجسده الطويل ، واقفاً بشموخ في منتصف الرواق حتى توقفت أمامه ، ثم سألته بأنفاس لاهثة :
-(( علياء فين ؟! )) ..
أجابها بصوته العميق ، تاركاً كفه يشق طريقه نحو ذراعها :
-(( لسه مطلعتش من الأشعة متقلقيش .. خدى نفسك بس )) ..
أومأت برأسها موافقة قبل أن تنحنى بجسدها تلتقط بعضاً من أنفاسها المهدرة ، ومن ثم سرعان ما عاودت رفعه ، تسأله بلهفة وهى ترفع ذراعها نحوه تتلمس بحذر شديد شفته السفلية الجريحة :
-(( أنت حصلك أيه ؟! )) ..
أجابها بلا مبالاة ظاهرية بينما داخله يقفز طرباً من أهتمامها بأصغر ما يصيبه :
-(( حاجة بسيطة متشغليش بالك )) ..
قالت بأحتنقان :
-(( يعنى أيه مشغلش بالى !! .. أنت متعور وده أثر دم !! )) ..
تنهد مطولاً قبل رفعه ذراعه هو الأخر يحتضن كفها الصغير ، والذى يمسح بنعومة فوق ثغره. ، ثم قام بلثمه من الداخل مطمئناً لها فى صمت ، قبل ألتفاته على صوت جواد يقول بضيق مقاطعاً حديثهم :
-(( الدكتور بيقول الأشعة سليمة .. بس هيحطها تحت الملاحظة ٢٤ ساعة زيادة أمان )) .
زفر بأختناق ثم أردف يقول بقلة حيلة :

(( كدة لازم أبلغهم فى البيت )) ..
تنحنح طاهر منقياً حلقه ثم عقب وهو يمد كفه ويحثه على السير :
-(( سيبلى أنا مهمة الأتصال بعمى .. وخليك أنت مع أختك متسبهاش )) ..
***************************************
طرقت بكعب حذائها العالى فوق الممر الحجرى تسير الخيلاء ويدها داخل جيوب معطفها ذو الفرو الطبيعى ، حتى وصلت إلى بناء طوبى قيد الأنشاء ، ثم دلفت بعدها من باب خلفى ، بعدما دفعته بأزدراء وجالت بعينيها الغرفة الصغيرة بحثاً عنهم ، قبل أن تقول بأبتسامة أنتصار ، وفم يبخ سمه كأفعى أستوائية صغيرة الحجم :
-(( مادام أتقابلنا هنا على حسب الأتفاق .. يبقى أول جزء من خطتنا نجح .. ولا فى كلام تانى ؟!! )) ..
سار أحد الرجلين إلى أن وصل إليها ، ثم أجابها ، بعدما مر بعينيه فوق جسدها ، وشعرها بلونه القرمزي الجديد :
-(( حصل وزى ما طلبتى .. وعشان تبان سرقة .. أخدنا شنطتها ورمناها على الطريق السريع .. وأدى الفلاشة بصورها زى ما أتفقنا )) ..
رفع الرجل ذراعه بالجهاز المعدنى الصغير، بعدما ألقى سيجارة فمه ودهسها أسفل قدمه :
-(( كدة أحنا فى السليم وبراءة .. وكلهم ملهيين فى البرنسيسة )) ..
أرتفعت زواية فم رنا بأبتسامة راحة ، ثم سألته بنبرة حماسية لم تستطع أخفائها :
-(( يعنى هتنفذوا النهاردة ؟! .. معندناش وقت أنتوا مسافرين بكرة بليل .. رائف مرتب كل حاجة )) ..
أجابها الرجل ضخم الجثة بصوته الجهورى الخشن :
-(( عيب يا ست الستات .. مادام وعدتك هنفذ يبقى هنفذ .. بعدين دى حاجة عبيطة مش مستاهلة .. لا أذينا الأولى ولا هنقرب من التانية .. ودة أقل واجب نقدمه لكريم باشا حبيبنا )) ..
لمعت عينيها بنظرة أستحسان واضحة ، ثم عاودت تقول مترددة على مضض تاركة جملتها ناقصة :
-(( طب ووعدك أنت معايا .. هتنفذه ولــااااااا ؟! )) ..
ضرب الرجل فوق مؤخرة عنقه ، ثم قال بحسم قاطع :
-(( رقببـــتى .. وعد الحر دين عليه يا ست الستات .. ومادام هى أذتك وعايزة تعلميها درس وتسبيها هناك شوية .. يبقى أعتبريه وداع على قد ما قوسم مننا .. ومحدش هيعرف باللى هيحصل غيرنا أحنا التلاتة )) ..
حركت رأسها موافقة عدة مرات ثم هتفت تسأله بفضول :
-(( والمكان ؟!! متنساش عايزاه حاجة ريحتها قوية ؟! )) ..
أجابها الرجل وعيونه مسلطة فوق حقيبة يدها المفتوحة عن قصد ، ليرى الأموال التى بداخلها :
-(( فى بنزيمه مهجورة من مدة .. العيال وقت أزمات البنزين بيخبوا فيها كميات للأحتياط .. يعنى هتكون مناسبة لطلبك )) ..
رفعت رنا يدها بالمظروف المفتوح ، والملى بالنقود ، ثم مدته فى أتجاهه قائلة بأمتنان :
-(( ودى هدية وداع زى ما قلت .. وهستنى منك تليفون تقولى حصل )) ..
سال لعابه وسارع بسحب المغلف من بين يديها بعنف غير مقصود ، ثم سألها للمرة الأخيرة قبل أنصرافها :
-(( هتروحيلها الصبح يا ست الستات ؟! .. أنتي عارفة أحنا هنختفى شوية عن العيون للأحتياط .. يعنى مهمة خروجها عليكى بدل ما تروح فيها من التلج والسقعة )) ..
أجابته كاذبة بتردد واضح :
-(( أه أه أكيد .. أديني بس العنوان وأنا هتصرف من بعدكم )) ..
ألقى الرجل الضخم العنوان على مسامعها قبل توديعها لهم وعودتها إلى منزلها ، أو بالأدق لعنتها ، تجلس فوق الأريكة مدعية الأنشغال بأحدى ألعاب هاتفها الجوال ، عندما تهادى إليها صوت خطواته الرتيبة يقترب منها ، ثم سألها بتوجس :
-(( أنتى خرجتى ؟! )) ..
رفعت رأسها تنظر إليه ثم أجابته بأبتسامة باهتة :
-(( أنت نسيت ؟! .. أه نزلت أستلم الصور بتاعة ست علياء )) ..
ارتمى بجسده فوق الأريكة الوثيرة مجاوراً لها ، ثم عاد يقول من جديد بتقريع واضح :
-(( أنا معرفش اللى أتفقنا عليه متنفذش ليه !!! .. يعنى بعد كل الفلوس دى .. مخلتيش حد يقرب منها !! .. ويا فرحتى بالصور اللى هحطها فى مكتبتى !! )) ..
قاطعته معترضة بأمتعاض :
-(( أكيد يا رائف مش هنحط الصور فى المكتبة عندك .. بس علياء فضيحة الصور لأهلها وخطيبها كفاية وتزيد .. فبلاش أذية مش هنستفاد منها حاجة )) ..
أعتدل فى جلسته ، ثم سألها بأرتياب بعدما أستدار بجذعه نحوها وضيق حدقتيه فوقها يطالعها بتوجس :
-(( أنتى مخبية عنى حاجة ؟! .. مش عارف ليه مش مرتحلك )) ..
أجابته بثبات أنفاعلى قوى :
-(( هخبى عليك أيه بس يا رائف !! .. كل الحكاية أنى عارفة العيلة دى كويس .. وفضيحة الصور اللى هتتوزع يوم فرحها .. أهم بكتير من حاجة كانت هتدارى محدش هيكتشفها غير جوزها اللى ممكن ميعملش حاجة لما يعرفها ويخاف من أسم عيلتها .. لكن فكر كدة لما الكل يشوف صورها دى ؟! هيقدروا يرفعوا عيونهم تانى فى الناس أزاى ؟! )) ..
أرتخت ملامحه نسبياً قبل أن يقول محذراً بتهديد صريح :
-(( عمتا خليكى عارفة .. اللعب من ورايا أخرته وحشة .. وأنتى صغيرة على الحاجات دى )) ..
أصدرت صوتاً من حلقها ينم على التهكم ، ثم سألته بأستخفاف بعدما رفعت كنزتها الصوفية ، كاشفة عن جرح كبير بكدمة زرقاء اللون ، يحتل الجزء الأكبر من بطنها :
-(( قصدك أكتر من كدة ؟! )) ..
تطلع إلى أثار تقاربهم الفج المحرم منذ ثلاث ليال ، ثم أجابها ساخراً :
-(( اللى مش عجبك ده أثر رضايا .. تخيلى بقى زعلى ))
وقفت فى منتصف الباحة المطلة على الباب الرئيسى للمشفى ، مستسلمة إلى هواء مارس البارد وأخر قطرات الشتاء وهى تضرب وجهها ومقدمة عنقها العارية ، وكأنها بذلك تعاقب نفسها ، وتغتسل من ذنب لما ترتكبه يداها فقط ، بل شارك فيه سائر جسدها ، هى تحديداً ، نصيرة المظلومين ، داعمة المكلومين ، لم تتخيل حتى فى أسوء كوابيسها وأحلكها ظلاماً ، أن تقوم به وتكون سبباً فى قتل نفس بريئة ، طفل صغير لم يرى العالم بعد ، أُجهض على يديها ، وأمام عينيها ! ، زفرت بحرقة ثم رفعت رأسها إلى السماء تاركة دموعها المنهمرة ، تختلط بنقاء الغيث ، عل وعسى ، يطفأ نار قلبها المشتعلة ، ندماً على ما حدث من جهة ، وعجزاً عن أتخاذ قرارها من جهة اخرى ، ولأول مرة تشعر بالخوف والعجز يُحكم حصاره حولها ، ويقيدها بخيوطه الخفية ، قبل أن يجذبها صوت يصرخ بحرقة من خلفها بنبرة عدائية واضحة :
-(( ارتحتى يا غفران !!! .. أرتحتى بعد ما موتى أبنى اللى أتمنيته وحرقتى قلبى !! أنا مش هسيبك !! .. هطلبك فى بيت الطاعة .. وأبنى اللى فى بطنك أول ما يتولد هاخده منك ومش هتشوفى وشه .. عشان تعرفى أزاى تتهجمى على بيوت الناس وتاذيهم )) ..
رفعت كلتا ذراعيها ، تضع كفيها فوق أذنيها ، تمنع بذلك صوته المتدفق داخلهما ، حتى أنتهى من صراخه وتهديداته يأساً ثم أنصرف ، وقتها أخرجت هاتفها بكفها المرتعش ، تستغيث به بعد المحاولة الثانية متوسلة بصوت باكِ :
-(( جواد ألحقنى .. أنا فى المستشفى المي*** .. مرات بدر سقطت وأنا السبب )) ..
لماذا لا تأتى المصائب فرادى ؟! ، هذا ما فكر به وهو يمسح بعنف فوق وجهه ، ثم قال بقوة :
-(( أنا كمان فى المستشفى أختى علمت حادثة .. خليكى مكانك ومتتحركيش .. هبعتلك سواق حالاً يجيبك على هنا .. وهديله رقم تليفونك عشان يوصلك .. غفران متتحركيش من مكانك ومتنسيش أنك حامل كمان )) ..
أومات رأسها موافقة بحزم ، ثم قالت بخنوع :
-(( هستناك .. أنا خايفة أروح فى حتة .. بدر هددنى هيطلبنى فى بيت الطاعة )) ..
لعنه وسب بلفظ خارج تداركه على الفور معتذراً ثم قال مهدئاً رغم ما يمر به :
-(( متخافيش .. تعالى وهتلاقى حل سوا )) ..
*********************************
أرتجافة أصابت جسده كاملاً عند رؤيته لها ممدة فوق الفراش ، مضمدة الرأس ، واهنة القوى ، داخل الغرفة البيضاء الباردة ، يود لو يحتضنها بين ذراعيه ، بل يود لو يزرعها داخل صدره ، أو يحملها الأن ويركض بها إلى منزله ، ويحبسها بداخله ، فلا يراها أحد غيره ، ثم يخبرها بمدى الرعب الذى عايشه حتى وجدها سالمة أمامه ، قبل أن تتلاقى أعينهم فى صمت ، يسألها عن حالها دون حديث ، وتطمأنه هى دون تحريك شفتيها ، مقاطعاً تحديقهم بأحدهم الأخر صوت شقيقها يسألها بحنو بالغ :
-(( مرتاحة كدة ولا أجيبلك مخدة كمان؟! )) ..
أومأت برأسها مؤكدة ، فأردف يقول بنبرة خالية :
-(( أه خطيبك أتصل يجى عشرين مرة بس مردتش عليه .. عشان تكونى عارفة )) ..
ألقت نظرة خاطفة على ذلك الواقف قبالتها بصمت ، ثم فتحت فمها قبل أن تعود وتغلقه على صوت والدها المختنق يسأل طاهر بلوعة :
-(( بنتى فين يا طاهر )) ..
أجابته بنبرة خافتة تبث الطمأنينة داخل قلبه الملهوف بعدما دفعه طاهر إلى حيث الفراش :
-(( أنا هنا يا حبيبى .. تعالى متخافش .. أنا كويسة والله )) ..
مسح فوق رأسها وجنتها بحنان ، بينما سارعت هى بمسح عبرة صغيرة سقطت من أحد أهدابه ، فى حين أنحنى جواد يطبع قبلة محبة فوق جبهة كلاهما قائلاً بندم حقيقى :
-(( حقك عليا عشان مكنتش قد ثقتك وحافظت عليها .. وأنتى يا علياء حقك عليا عشان وقت الجد مكنتش جنبك )) ..
أبتسمت بتفهم قائلة بحرج وعيونها تلمع بأمتنان واضح :
-(( مسمحاك يا حبيبى .. ودكتور يحيى كان معايا ومقصرش يا بابا )) ..
سار جواد حتى وصل إليه ثم قال شاكراً بأعجاب واضح بعدما ربت على كتف الأخير :
-(( معنديش شك أن دكتور يحيى كفى ووفى والدليل قدامنا أهو .. وجمايله اللى يتزيد على عيلتنا يوم عن التاني .. ربنا يقدرنا ونردها فى يوم )) ..
أبتسم الأخير بحرج قبل أن يغمغم بصدق حقيقى :
-(( مفيش داعِ للشكر .. أنا أستحالة كنت أسيب الأنسة علياء لوحدها مهما حصل )) ..
أما عن رحمة وبعدما لاحظ طاهر شحوب وجهها ، هتف يسألها بقلق واضح :
-(( مالك ؟؟!! )) ..
ألتفت الجميع ينظر إليها على صوته المضطرب ، فسارعت تقول نافية وقد بدء صفير تنفسها يرتفع :
-(( مفيش .. أنا تمام )) ..
أعترضت السيدة كريمة وجواد ، بينما هتف السيد أنور يقول بتوجس :
-(( تمام أزاي يا بنتي !! ، ده وشك مخطوف خالص )) ..
أجابته بأبتسامة واهية :
-(( تقريباً ريحة المستشفى مع القلق عملتلى ضيق تنفس .. دلوقتى أخد البخاخة وهبقي كويسة )) ..
هنا تحدثت السيدة كريمة مقترحة بأهتمام جلى :
-(( طب أطلعى برة شوية خدى نفس وأرجعى .. أو روحها يا طاهر البيت شكلها تعبان يابنى )) ..
أحتضن طاهر ذراعها أستعداداً للذهاب بها ، قبل أن يوقفه صوتها يقول معترضاً :
-(( لا يا طنط مش هروح غير معاكم .. ممكن أروح بس أشتري مياه أزازة مياه وأخد البخاخة وأرجع .. خليك أنت معاهم يمكن حد يحتاجك )) ..
قال رافضاً بحزم :
-(( لا جاي معاكى )) ..
أومأت رأسها موافقة ثم سارا معاً سوياً نحو الخارج ، ملتفتاً على صوت سائق سيارته يخبره بضيق بمجرد لمحه لهم أن أطار السيارة نفذ منه الهواء ، فتوقف علي الفور ينحني بجذعه ويتفحصها بأستغراب بعدما عاد بأدراجه إليه ، في حين أقترحت هى ببساطة :
-(( هجيب أزازة مياه من هنا بسرعة وأرجعلك )) ..
أشارت بذراعها إلى أحد أكشاك البيع الصغيرة المقابلة لمدخل المشفى ، فغمغم موافقاً بأنشغال ، بينما سارت هى إلى وجهتها القريبة تبتاع منه ما تريد ، قبل أن تلتفت على صوت طفل صغير يقول ببراءة :
-(( طنط يا طنط .. لو سمحتي ممكن تساعدينى )) ..
أستدارت بجسدها تنظر إلى قامته القصيرة ثم قالت بحنان بعدما أنحنت بجذعها ، وأصبحت فى نفس مستواه :
-(( نعم يا حبيبي )) ..
قال الطفل بتعلثم وحروف غير مكتملة :
-(( فى قطة محبوسة بين العربيتين دول هناك .. وعايز حد يساعدنى أطلعها )) ..
لوت فمها مفكرة وهى تنظر إلى طاهر عابس الوجه والمسافة القريبة حيث أشار الصبى ، ثم قالت بحماس بعدما أعتدلت فى وقفتها وعقدت أمرها :
-(( طب تعالى .. يلا بينا )) ..
أتسعت أبتسامة الطفل الصغيرة وهو يسير جوارها خاصةً عندما أحتضنت كفه بخاصتها الدافئة ، حتى وصلا إلى حيث أشار وقتها سألته بأستغراب :
-(( هى فين ؟! .. مش سامعة صوت حاجة )) ..
أجابها الطفل معتذراً :
-(( مفيش قطة .. بس عمو ده طلب منى أقولك كدة ويديني عشرين جنيهه )) ..
قبل أن يصدر منها أى رد فعل أو نداء أستغاثة ، قام شخصاً ما بوضع كمامة فوق فمها ، أرتخت على أثرها كافة أعصابها ، ثم قام بدفعها داخل السيارة الملاصقة لهم بعدما فقدت وعيها بالكامل ثم أنطلق بها إلى حيث مصيرها المجهول .

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية في لهيبك احترق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى