رواية في لهيبك احترق الفصل العاشر 10 بقلم شيماء يوسف
رواية في لهيبك احترق الجزء العاشر
رواية في لهيبك احترق البارت العاشر
رواية في لهيبك احترق الحلقة العاشرة
” كُنْتَ مُجَرَّدَ عَابراً ..
ماالذي ابْقاكَ بداخلي ؟! ”
-(( جــــواااااااااد ))
صدح ندائه الملهوف متردداً صداه داخل أركان موقف السيارات الخاص بالشركة ، محاولاً بأستماته فتح باب السيارة المغلق أوتوماتيكاً من الداخل بأحدى كفيه ، بينما الأخر يضرب به فوق زجاج النافذة بقوة لجذب أنتباهه ، دون أن يحول نظراته الراجية بعيداً عن “جواد” ، الجالس خلف مقود السيارة وكل ما يصل إليه من صياح طاهر هو همهمة ضعيفة متسللة من خلف الزجاج المغلق ، قبل أن ينطلق فى طريقه بعدما رمق الأخير بنظرة لا تخلو من الأصرار والتوعد ، راقب طاهر أندفاعه وصرير أحتكاك عجلات سيارته بالأرضية الأسفلتية ، ثم ركل بساقه الهواء من حوله بعنف حانقا. قبل ركضه هو الأخر نحو مركبته يستقلها ويسرع من خلفه مطارداً، ومتعقباً نديمه الذى توقف بسيارته أمام أحدى المبانى السكنية الفاخرة ، ثم ركض بعدها نحو الداخل متجاهلاً عن عمد صياح إبن عمه المستجدى ليستوقفه ، حتى وصل إلى وجهته المعنية ، وطفق يضرب بعنف ودون رفع أبهامه عن جرس المنزل الخاص ، أما على الطرف الأخر وبالداخل ، زمت رنا ما بين حاجبيها بأستنكار شديد منزعجة من همجية الزائر المتطفل الذى لا ينفك يلح على الدخول ثم هتفت موجهة سؤالها لرائف الذى خرج هو الأخر من غرفته على الرنين المتواصل :
-(( أيه ده فى أيه !! .. مين بيرنلك كدة ؟! )) ..
رفع كتفيه نافياً بجهالة كإجابة على سؤالها ثم قال بهدوء لا يتناسب مع طرق من بالخارج :
-(( أفتحى وهتعرفى )) ..
ضيقت جفنيها فوقه حانقة وقد أستفزها بروده فى التعامل مع الموقف ، ثم قالت بنبرة قلقة :
-(( لا مش هفتح .. أحسن يكون جواد )) ..
صمتت لوهلة تستمع إلى الطرقات العنيفة التى بدءت تصحب دوى رنين جرس منزله ، ثم بدءت تحرك رأسها رافضة بذعر حيث تتزايد شكوكها ، بينما أرتفعت زاوية فمه بأبتسامة شامتة بعدما لمح نظرة الرعب المطلة من داخل حدقتيها ، قبل أن يهرول نحو الباب يفتحه ، وداخله يتمنى أن يكون ظنها صحيحاً ، ويرى الليلة ثمرة مجهود الأشهر المنصرمة ، وبالفعل ألتمعت عينيه بنظرة أنتصار واضحة بعدما فتح باب المنزل على مصراعيه ورأى جواد وافقاً أمامه يوزع نظراته المتوعدة بينهم ، ومن خلفه طاهر ، الذى وصل للتو هاتفاً من بين أنفاسه اللاهثة بأسم جواد قبل أن تضيع الحروف من فوق شفتيه عاجزاً ، خاصةً عند رؤيته لذراع قريبه ، يتسلل ببطء إلى خلف ظهره ، قبل أن يقبض على طرف سلاحه النارى ، فى حين ساقه تتحرك نحوها، طالعته هى ببشرة شاحبة اللون كجثة فارقت الحياة للتو بينما قدميها تتراجع للوراء بشكل تلقائى قبل أن تفر هاربة من أمامه ، أمسك بها جواد ثم قبض على خصلات شعرها يجرها نحوه صارخاً بأهتياج :
-(( هو ده يا ***** .. هو ده النادى إللى بتروحيه يا تربية ***** .. ومع مين !! .. مع الندل الجبان ***** اللى مش لاقى واحدة تبصله )) ..
صرخت رنا متألمة ببكاء تستوقفه راجية من بين شهقاتها :
-(( أسمعنى بس .. انا معملتش حاجة )) ..
لطمها فوق فمها بقوة جعلت جانب أنفها ينزف فى الحال ثم صاح يقول وهو يجرها من خصلاتها خلفه كالشاه ، بينما كفه يجذب مسدسه قبل أن يضعه على جبهتها :
-(( أخرسى يا ***** .. هى رصاصة واحدة لكل واحد فيكم تخلص على عمره )) ..
صرخت متوسلة بهيستريا وهى تراه يسحب زناد مسدسه ، بينما ركض طاهر يتلمس معصمه قائلاً بلهفة :
-(( جواد أعقل .. متستاهلش تضيع عمرك عشانها )) ..
هدر جواد يجيبه بعصبية :
-(( ال****** دى بتستغفلنى .. بعد كل االى عملته عشانها .. يبقى ملهاش عندى غير الموت .. ومن غير دية كمان )) ..
سحب طاهر بحرفية شديدة ، المسدس من بين يديه منتهزاً فرصة ألتفاتة جواد نحوه ، ثم قال بنبرة متعقلة :
-(( أسمـــعنى .. ده بالظبط اللى عايزك تعمله )) ..
أشار برأسه مزدرياً فى أتجاه رائف الذى وقف يتابع الموقف بأستمتاع ، ثم أردف يقول بأستعطاف :
-(( فكر فى بنتك .. دى الوحيدة اللى تستاهل تضحى عشانها .. أما جوز الكلاب دول ميستاهلوش )) ..
أنحنى جواد بجزعه يخرج المسدس من جيب طاهر حيث أخفاه بداخله ، فسارع الاخير يبتعد عنه بالقدر الكافى ثم أستطرد بنبرة يشوبها الأستجداء :
-(( لينة مستحتقش تكبر وتلاقى أبوها قتل أمها .. حتى لو أمها واحدة ****** زى مانت بتقول )) ..
صمت لوهلة مقترباً منه ثم أستطرد يضيف بنبرة ذات مغزى بعدما حاوط عنق جواد بكلتا كفيه يشد من أزره :
-(( متنساش .. من اللحظة دى أنت هتكون أمها وأبوها .. بلاش تظلمها أنت كمان )) ..
أرتخت ملامح جواد بعض الشئ وقد ظهر أقتناعه بالحديث واضحاً على ملامحه ، ثم قال بأزدراء لاهثاً بعدما أدار رأسها نحوها :
-(( عندك حق .. أنتى طالق .. وبالتلاتة .. وبنتك دى تنسيها خالص لان من النهاردة مش هتشوفى ضفرها .. وأقسملك بالله لو لمحت خيالك حواليا فى أى مكان .. ما هتردد لحظة أنى أخد عمرك .. سامعة !! )) ..
هدر جملته الاخيرة بنبرة متوعدة جعلتها تنتفض ذعراً. ، ثم سار نحو رائف الواقف جوار الباب ولكمه عدة مرات متتالية حتى أوقعه أرضاً ، ثم بصق فوقه قبل أن يخرج من المنزل ويتبعه طاهر زافراً بشئ من الأرتياح
***************************
وبعد خروجهم سارت رنا بخطوات مترنحة حتى وصلت إلى رائف الذى ظل ينظر فى أثرهم بشماتة بعدما أعتدل فى وقفته وعاود هندامه ماسحاً بأنامله بقايا الدم النازف من فمه وأنفه ثم صرخت قائلة بحسرة وكفها يلكمه فى كل مكان يصل إليه يدها :
-(( خسرتنى كل حاجة .. خسرت كل حاجة بسببك .. طلعت من المولد بلا حمص .. أنت عارف يعنى أيه !! .. مبقاش عندى مكان أروحه !! .. طلقنى ورمانى فى الشارع من غير ما أخد حاجة !! .. كل حاجتى فى بيته هناك !! .. مبقاش معايا حاجة .. اكيد هيلغى حسابتنا المشتركة ومش هطول منه حاجة !! .. حتى بنتى خسرتها عشانك .. اتشردت بسببك .. ولو رجعتله هيقتلنى أنا عرفااااه .. مبسوووووووط !! .. يا حقيييير .. دمرتنى )) ..
رمقها رائف بعدة نظرات مزدرية ، ثم قال بعدم أهتمام :
-(( متوجعليش دماغى أنا مضربتكيش على أيدك ولا غصبتك على حاجة .. سامعة .. أنتى اللى جتيلى بمزاجك وكفاية اللى لهفتيه منى لدلوقتى .. يلا دورك خلص وكفاية عليكى لحد كدة )) ..
صرخت بأهتياج تقاومه عندما حاول دفعها خارج منزله ثم قالت بشراسة :
-(( مش طالعة من هنا .. لحد ما تتصرف وتشوفلى مكان أعيش فيه مش هتحرك من هنا )) ..
نظر إليها مطولاً ثم قال بنبرة ذات مغزى بعدما قلب الأمور بداخل عقله :
-(( وماله .. أقعدى بس كله بحسابه )) ..
هتفت مستفهمة بعدما مسحت دموعها المنسكبة بظهر كفها :
-(( قصدك أيه ؟! )) ..
أجابها مفسراً بعدما أنحنى بجزعه نحوها يتلمس ببنانه مقدمة وجنتها المبتلة :
-(( قصدى مفهوم .. كله بحسابه .. تشوفى مزاجى .. وأنا برضه هراعيكى .. متخافيش أنا بعرف أقدر اللى معايا كويس )) ..
أبتلعت لعابها بقوة ثم قالت متمسكة بكبرياء زائف :
-(( تتجوزنى الأول .. حتى لو عرفى )) ..
أصدر من حنجرته صوتاً ينم على التهكم ثم أجابها بنبرة ناعمة كالحرير وهو يقترب بجسده منها :
-(( لا أنا مش بتاع جواز .. وبعدين أنتى لسه مطلقة وفى شهور العدة .. يعنى عارفة أنه لو حصل هيكون جواز باطل .. زى قلته يعنى .. فأعقلى كدة وروحى أغسلى وشك .. وسبينى أشوف مصالحى .. وأستنينى بليل عشان فى مفاجأة هتعجبك أوى )) ..
ربت على وجنتها بقوة قبل أن يخفض رأسه نحوها ويقبل ذقنها بعنف جعلها تتأوه صارخة بألم قبل أبتعاده عنها ، بينما راقبت هى انصرافه برأس منكس ، فرغم كرهها الأنصياع والتنازل له ، يبقى هو الحل الوحيد المؤقت المتاح لديها .
************************
فى المساء ، سار بخطواته المنكسرة حتى غرفة والديه ، ودلفها بهدوء تام ، ثم همس بنبرة متعبة يسأل والدته الجالسة فوق الأريكة الصغيرة الموجودة بداخل الغرفة تقرء فى كتاب الله العزيز :
-(( أومال بابا فين ؟! )) ..
ختمت وصدقت قرائتها ثم أجابته بنبرة متحشرجة دون النظر إلي عينيه حيث أعطاها طاهر من خلال الهاتف نبذة مختصرة عما حدث فى الصباح بعدما فشل فى الوصول إليه منذ أنفصل عنه بعد الظهيرة :
-(( فى جلسة العلاج الطبيعى وعلياء معاه )) ..
اومأ برأسه موافقاً ، ثم ودون مقدمات ركع على ركبتيه أمامها ، ثم قال بنبرة مختنقة لا تخلو من الأنكسار بعدما وضع رأسه فوق ساقيها :
-(( أنا أسف .. أسف عشان شكيت فيكى للحظة يا أمى .. أسف عشان كنت فاكر اللى بينى وبينها حب وكنت معمى عن عيوبها .. أسف عشان مشيت وراها وحاولت أبنى أسرة بعيدة عنكم وكنت فاكر ده عقل منى وأستقلال .. أسف عشان عطيت ثقتى لأنسانة خاينة .. أسف عشان ضيعت كل الوقت ده على ما فهمت أنها متستاهلش .. وأسف عشان معرفتش أختار ودخلت بيتك وسلمت أسمى وشرفى لواحدة متستحقش )) ..
مسحت السيدة كريمة فوق رأسه مهدهدة بحنان ثم قالت معتذرة من بين دموعها المنهمرة ، حزناً على فلذة كبدها ، وفرحتها الأولى :
-(( أنا اللى أسفة عشان خذلتك يابنى .. عشان شفت كل عيوبها دى من اللحظة الاولى وقد أيه هى إنسانة جشعة .. ومتستاهلش ضفرك وقلت أسيبك تعيش تجربتك .. حقك عليا عشان كنت أم ضعيفة .. موقفتش فى وشها لما جرحتك ولا لما حسيتها بتفرق بينك وبين أختك .. أنا الغلطانة عشان لما علياء جت تحكيلى ظنها من ناحيتها صرخت فيها ومنعتها تكمل .. خوف عليك .. أنا محقوقالك عشان معرفتش أحمى قلبك من الوجع اللى فيه دلوقتى )) ..
رفع رأسه ينظر إليها بأعين باكية ، فأردفت تقول بصلابة بعدما سيطرت على دموعها المنهمرة :
-(( أبكى وطلع القهر اللى جواك .. متكتمش فى قلبك .. أصرخ عشان ترتاح )) ..
ضربت على صدرها بقوة ثم أستطردت تضيف بعدما جذبته لأحضانها :
-(( أبكى هنا .. عشان لما تفتح باب الأوضة ده وتخرج منه لبنتك وتكمل حياتك .. تخرج أسد .. سبع مرفوع الراس .. بعودك المشدود )) ..
أرتمى جواد بداخل حضنها ثم بدء يصرخ بحرقة تاركاً دموعه المنهمرة ، تتمزج بدموع والدته ، مسكن روحه ، وبلسم وجعه ، ملاذه عند فقدان الأمان ، وجيشه الجرار عندما يخونه الزمان .
************************
بعد مرور أسبوع ، وبداخل شركة المناويشى ، جلس طاهر حول طاولة الأجتماعات منتظراً ، وجلس قبالته ، كلاً من جواد وعلياء ، وكانت علياء هى أول من قطعت الصمت موجهه حديثها لطاهر :
-(( طاهر متنساش .. عشا النهاردة .. بابا وماما مستنينك .. وخصوصاً ماما منبهة عليا قبل ما أنزل أأكد عليك )) ..
رمق طاهر جواد الجالس أمامه بصمت إلى الأن بنظرة جانبية خاطفة ثم أشار لعلياء بطرف عينيه ، فأبتسم جواد بخفوت على فعلته ثم قال ساخراً :
-(( متخافش أنا مش بعض زيك .. وعشان تكون عارف بفكر أنقل جنبك وأفضل قاعد فى برج العرب على طول )) ..
أرتسمت إبتسامة ممتنة على ثغر طاهر ثم هتف يجيبه مشاكساً :
-(( أنت تطول تعض زيى !! .. وعمتاً أنا هكست عشان علياء قاعدة .. المهم قولى .. لينة عاملة أيه دلوقتى )) ..
تنهد بحسرة ولم يعقب بينما سارعت علياء تجيبه بنبرة متأثرة :
-(( أحسن من الأول بس لسه بتسأل عليها كل يوم )) ..
هز طاهر رأسه متفهماً ثم هتف يتسائل مغيراً مجرى الحديث :
-(( هما الناس بتوعك أتأخروا ليه يا عم جواد ؟! .. شكلهم مش جد .. وبعدين يا اخى معرفش ليه أسم الجمعية ده مش غريب عليا !! )) ..
هتف جواد مجيباً بجمود :
-(( يا عم أحنا هنتجوزهم !! هما كلمتين ورد غطاهم .. تفهم منهم عايزين أيه وأنا هشرف عليهم من بعيد لو احتاجوا حاجة ، وهسيب علياء تكمل مادام حابة الموضوع )) ..
غمغم طاهر موافقاً بأقتضاب ثم عاد ينظر فى الأوراق أمامه إلى حين وصولهم ، بينما فى الخارج هتفت غفران معنفة بضيق وهى تسير جوار يحيى داخل الممر الضيق المؤدى لغرفة رئيس مجلس الأدارة :
-(( بقى كدة يا يحيى !! دى حاجة تخبيها عليا !! .. ملقتش غير شركة الناس دى عشان يساعدونا ؟!)) ..
تأفف يحيى متململاً ، ثم رد معقباً ومخيراً إياها :
-(( معرفتك من عدمه مش هيفيد فى حاجة ياغفران ! .. متنسيش سبب مجيتنا هنا .. لو حابة تتخلى عن حلم الولاد دول عشان مشكلة شخصية أتفضلى أرجعى .. ومحدش هيقدر يلومك .. غير كدة هنكمل طريقنا للأخر ومتنسيش أن اللى مضايقة منهم بسببها .. متجوزاه وقاعده معاه فى بيت واحد )) ..
توقفت عن السير للحظات ثم قالت مستسلمة بعدما أستأنفت طريقها نحو باب الغرفة :
-(( أنت بتمسكنى من أيدى اللى بتوجعنى .. وده مش عدل على فكرة )) ..
أبتسم بسعادة لرضوخها للأمر الواقع قبل تسمر عينيه فوقها ، عندما فتح باب الغرفة ورأها ، تطل عليه بأستحياء من خلف شقيقها ، فى حين هتف كلاً من طاهر وجواد فى صوت واحد بعدم تصديق :
-(( أنتى !!!!!!! )) ..
تنحنت غفران بحرج ثم قالت مهاجمة بنبرة حادة :
-(( أيوة أنا .. وعلى فكرة مش مبسوطة خالص بالصدفة الغير سعيدة دى .. بس للأسف فى مصير ١٠٠ طفل متعلقين فى رقبتى .. وعشان كدة مضطرة أتحمل الوضع ده .. فلو حابين أنتوا كمان تنقذوا أطفال ملهمش مأوى ياريت نتعامل بمهنية .. وننحى اى خلاف ما بينا عشان مصلحتهم )) ..
أومأ طاهر رأسه بأحترام بعدما رمق إبن عمه بنظرة موافقة جعلت الأخير يقول مرحباً على مضض :
-(( أظن حضرتك تعرفى طاهر )) ..
صمت لوهلة ثم قال بنبرة ذات مغزى وإبتسامة صفراء:
-(( وأظن برضة كان لينا لقاء قبل كدة )) ..
غمغمت موافقة بغيظ وقد لاح أمام عينيها ذكرى لقائهم الغابر ، ثم قالت بنبرة حادة وهى تشير بكفها إلى يحيى الواقف جوارها :
-(( تمام .. أقدملكم دكتور يحيى .. دكتور نفسانى من مؤسسى الجمعية والداعم المالى ليها .. غير طبعاً أنه المسئول عن القضايا النفسية داخل وخارج الجمعية )) ..
مد جواد كفه مرحباً ثم قال معرفاً بجمود :
-(( المهندسة علياء المناويشى .. أختى .. وإن شاء الله هتكون موجودة معانا فى المشروع )) ..
سارع يحيى يقول مرحباً بسعادة :
-(( مدام علياء .. أتصادفنا فى النادى مرة )) ..
غمغمت علياء مصححة بحرج :
-(( أنسة )) ..
نظر نحوها ببلاهة فعاودت تقول من جديد مفسرة :
-(( أنسة .. اللى كانت معايا .. بنت جواد مش بنتى )) ..
أتسعت إبتسامته السعيدة حتى وصلت إلى أذنيه ، قبل أن يصدمه جواد بجملته بعدما ضم شقيقته إليه وحاوط كتفها بذراعه :
-(( يعنى بشكل مؤقت .. كلها كام شهر وتروح على بيتها )) ..
تبدلت ملامحه فى الحال من السعادة إلى العبوس ، وزفر بأختناق بعدما سقطت عينيه فوق كفها يرى للمرة الأولى ، خاتم الخطبة الذى يزين إصبعها ، بينما تحدث طاهر منهياً لحظة التعارف قائلاً بعملية :
-(( أنا بقول نتفضل نقعد ونتكلم فى التفاصيل أحسن )) ..
همهم الجميع بالموافقة ثم شرعوا فى الجلوس حول الطاولة وذهن كل فرد منهم رغم الأبتسامة الكاذبة مشغول بما يهمه .
************************
بداخل غرفتهم الخاصة ، هتفت والدته “رجاء ” تسأل أفنان التى كانت تتطلع فى المرآة ، وتتأكد من هندامها :
-(( الله .. ده بجد هيخرجك !! أنا مصدقتش لما قالى إمبارح بليل )) ..
سارعت أفنان تجيبها بنبرة مختنقة من شدة السعادة :
-(( أيوة يا ماما الحاجة .. تخيلى قالى هنقضى اليوم كله برة .. لا وكمان وعدنى هيشتريلى لبس جديد .. أنا مش مصدقة نفسى )) ..
ردت والدته تقول بشئ من الغيرة :
-(( طيب ربنا يهدى سركم .. عشان تعرفى بس تعليماتى بتيجى بفايدة أزاى )) ..
ركضت أفنان تحضتنها ثم قال بحب :
-(( أيوة طبعاً أنتى الخير والبركة .. يخليكى فوق رأسى وترضى عنى دايماً كدة )) ..
غمغمت رجاء تقول بتحفظ :
-(( لو عايزانى أرضى عنك بجد .. تشدى حيلك وتجبيلى حفيد أفرح بيه ))
أجابتها طائعة :
-(( والله ياما الحاجة بعمل كل اللى بتقوليلى عليه وزيادة .. دعواتك بس وإن شاء الله هتفرحى قريب )) ..
ردت والدته معقبة برجاء :
-(( يارب يا بدر يابن بطنى .. أفرح بولادك عاجل غير أجل ))
أمنت دعائها ثم أردفت تسأل من جديد بفضول :
-(( ألا صحيح قوليلى .. مفيش خبر عنها ؟! ،. مش كنتى قايلة هيقولها عن جوازكم ؟! .. معقول كل دة لسه ؟! )) ..
أجابتها بنبرة لا تخلو من الأحباط :
-(( لا مفيش .. سألته من يومين قالى مشغولة بجمعيتها ومش لاقى وقت يتكلم معاها بهدوء .. وخفت أساله تانى يتعصب عليا فسبته .. ماهو أكيد لو عرفت كان الخبر هيوصلنا )) ..
أكدت والدته من خلفها موافقة ثم قالت بعدما أستمعت إلى رنين هاتفها الجوال :
-(( أهو وصل .. يلا أنزلى بسرعة متسبيهوش واقف تحت )) ..
ركضت أفنان للخارج بحماس بعدما طبعت قبلة مودعة فوق كفها أستقبلتها الأخيرة برضا ، فزوجة مطيعة تعيش تحت كنفها وتنفذ وصاياها دون أن تعصى لها أمرا، بالطبع يرضى ذلك غرورها
بعد حلول المساء عاد إلى منزله يجول بعينيه الممر المؤدى إلى المطبخ بحثاً عنها كعادتها منذ نقاشهم الأخير ، حيث تقضى معظم أوقاتها بصحبة مدبرة منزله أو بداخل الغرفة متجنبة بذلك رؤيته ، قبل صعوده إلى غرفتهم المشتركة يضرب فوق باب غرفته السابقة ثم قال بأقتضاب وبحدة مقصودة بعدما ظهرت من خلفه تنظر نحوه بعبوس وتعدل من وضعية وشاح رأسها :
-(( قدامك نص ساعة .. ياريت تلبسى عشان للأسف عندنا مشوار سوا )) ..
قطبت رحمة جبينها بعدم فهم مستنكرة رد فعله الجامد ثم سألت مستفسرة بفضول :
-(( مشوار أيه ده ؟! )) ..
أجابها بنفاذ صبر :
-(( لما نوصل هتعرفى )) ..
قرفصت ذراعيها أمام جسدها ثم قالت متحدية بأستفزاز :
-(( وأنا مش هتحرك غير لما أعرف هروح معاك فين )) ..
زفر مطولاً ثم صاح بحدة جعلتها تتراجع للوراء خطوتين :
-(( مش هخطفك يعنى .. بس عمى مصمم يتعرف عليكى )) ..
صمت لوهلة ثم تابع مضيفاً بأزدراء :
-(( ليه معرفش .. خلصينى .. قدامك نص ساعة والأقيكى تحت )) ..
أغمضت جفنيها تقاوم رغبة ملحة فى الرفض قبل أغلاق الباب فى وجهه ، ثم شرعت فى أنتقاء ملابسها بعد تذكرها لكلمة ” عمه ” ، فمنذ عدة أيام أخبرتها مدبرة منزله عند أنتقال أقرابه للأقامة جواره، أنه يملك عم وحيد مقعد ، بعد تعرضه لحادث قوى منذ عدة سنوات أدى إلى تهتك فى عموده الفقرى ، وقد قررت مسايرته والذهاب فقط ، أحتراماً وتقديراً لرغبة كبير السن والمقام ، وبعد أقل من نصف ساعة ، همست من خلفه تقول بهدوء :
-(( أتفضل أنا جاهزة )) ..
أستدار ينظر إليها بتأفف قبل رؤيتها ترتدى معطف صوفى زيتونى اللون وأسفله كنزة بيضاء مع بنطال أسود فضفاض وحذاء ذو كعب ورقبة عالية يماثله فى اللون وحجاب رأس وردى اللون يتناسب تماماً مع بشرتها البيضاء وينعكس على وجنتها الوردية ، تنحنح مطولاً وقد ذكره مظهرها المحتشم بلقائهم الأول ، ثم أشار لها بأحدى كفيه كى تتقدمه فى المسير ، وبعد عدة دقائق من السير على الأقدام لقرب المسافة بين المنزلين ، دلف منزل السيد أنور ودلفت هى من خلفه على أستحياء مترقبة بأنفاس مكتومة ، تخشى اللقاء وداخلها يتضرع فى صمت ألا يعاملها قاطنى المنزل نفس معاملته ، جاذباً أنتباهها صوت السيدة كريمة ، يهتف مرحباً بحنوها المعتاد مع الجميع قبل أن تضمها إلى جسدها :
-(( أهلاً يا بنتى .. نورتينا )) ..
أنفرجت أساريرها وتهللت ملامحها ثم غمغمت مرددة التحية بسعادة بالغة :
-(( أهلاً بحضرتك .. النور والشرف ليا )) ..
ربتت كريمة فوق كتفها مستحسنة بأعجاب قبل أن تتقدم علياء لتحييتها هى الأخرى بترحاب جعلها تشعر بألفة كبيرة ، ثم وجدت نفسها دون وعى تنظر إليه بأحباط عندما تركها وأستأنف طريقه نحو الداخل دون الاهتمام بها ، لاحظت السيدة كريمة تعبيرات وجهها على الفور فسارعت تقول بخفة :
-(( أتفضلى جوة أعرفك على عمك أنور .. مستنيكى من بدرى )) ..
أومأت رحمة برأسها موافقة على أستحياء ثم سارت بخطوات خجلة نحو الداخل تنظر إلى الارضيّة أسفل منها ، حتى وصلت إلى غرفة الأستقبال فعاودت السيدة كريمة الحديث مازحة ومتولية مهمة التعريف :
-(( أتفضل يا سى أنور .. هى دى رحمة اللى مش عايزة تتعرف علينا )) ..
رفعت رحمة رأسها تنظر إليه بأبتسامة واسعة خجلة ثم وضعت كفها فوق صدرها كعلامة ترحيب دون الأقتراب منه ، أما عنه هو “أنور ” فقد بُهتت ملامحه ، وأختفت الأبتسامة من فوق شفتيه ، مغمغاً بعدة كلمات غير مفهومة ، فتلك الشابة الواقفة أمامه ، هى شبح لأمرأة ، بنفس الملامح والتفاصيل ، مع فارق الزمن ، قطع ترحيبهم وصول جواد حاملاً طفلته بين يديه ثم أعطاها لشقيقته حتى يتسنى له الترحيب بضيفتهم متفاجئاً بها تحييه بنفس طريقة والده دون تلامس ، الأمر الذى أثار أعجابه وبشدة ، قبل أن يتوجهه الجميع نحو طاولة الطعام لتناول عشائهم فى صمت ، ولأول مرة ، تجلس رحمة بجواره وتتناول وجبة طعام معه دون شعورها بذلك التوتر الذى دائماً يصاحب جلسته ، وطوال الأمسية ، ظل أنور يتأمل رحمة الجالسة أمامه بشرود ، وقد عاد إليه الماضى البعيد ، متذكراً أحدى الأمسيات ، عندما أوقفه صديقه شهاب يقول بأفتخار :
-(( أنور .. اقدملك أختى فريدة .. ممرضة هنا فى مستشفى الامير ******** .. وعايشة معايا على كفالتى )) ..
جذب أنتباهه وأعاده إلى الحاضر أرتفاع رنين هاتفها ، يليه صوتها تعتذر بخجل :
-(( أنا أسفة يا جماعة بس ده اخويا الصغير مصطفى .. لازم أرد عليه بعد أذنكم )) ..
ردت كريمة تقول بتفهم :
-(( أه يا حبيبتى أتفضلى .. البلكونة على اليمين .. وبعد ما تخلصى هتلاقينا فى الصالون عشان نشرب القهوة سوا )) ..
أومأت برأسها موافقة بأمتنان ثم سارعت فى التحرك والأجابة على أتصال شقيقها الذى ظل يشاكسها بمرح قائلاً :
-(( أيوة يا عم بقينا بنخرج ونتفسح كمان .. تلاقيه مغرقك فلوس بكل اللى عنده ده )) ..
هتفت توقفه بحزم رغم المرح البادى فى صوتها :
-(( ولد .. عيب .. أفتكر أنى أختك الكبيرة .. وبعدين يلا الساعة داخلة على ٩ .. خلص مذاكرتك وروح نام )) ..
عقب شقيقها هارباً بضيق واضح :
-(( يا ساتر يارب .. خلقك ضيق أوى يا ريمووووو .. أدينى رايح أهو متزقيش )) ..
قهقهت بعمق ثم ودعته وأغلقت هاتفها وأثناء أستدارتها للعودة تفاجئت بعلياء التى ظهرت أمامها من العدم تقول معتذرة بحرج :
-(( أنا أسفة لو خضيتك أو تطفلت عليكى .. كل الحكاية أن ماما طلبت منى أشوفك لحسن تتحرجى ترجعى لوحدك )) ..
حافظت رحمة على إبتسامتها الناعمة وهى تجيبها متفهمة :
-(( لا مفيش تطفل ولا حاجة .. بالعكس .. هتصدقينى لو قلتلك أنى مبسوطة فوق ما تتخيلى بأهتمامكم اللى مكنــ )) ..
أبتلعت ما تبقى من جملتها بداخلها ، فأردفت علياء تكمل عنها بأشفاق :
-(( مكنتيش متخيلة كدة صح !! .. تعرفى أن بابا كان عنده حق )) ..
سألتها بفضول محاولة أخفاء نبرة الحزن التى بدءت تغلف حديثها :
-(( عنده حق فى أيه ؟! )) ..
قالت علياء بغموض :
-(( متشغليش بالك .. كفاية أن ربنا أظهر الحق .. أسفة على صراحتى بس كلنا عارفين ظروف جوازك من طاهر.. وعندنا فكرة كويسة عن الوضع بينكم .. بس كل اللى أقدر أقولهولك أعذريه .. التاريخ بيعيد نفسه قدامه ولتانى مرة بيتفرق عن اخوه بسبب واحدة .. بس المرة دى من غير فرصة تانية )) ..
أندفعت رحمة تسألها بنهم مطالبة بمزيد من التفسير :
-(( قصدك ايه بكلامك ده ؟! )) ..
أجابتها علياء بخفوف :
-(( قصدى ريــ….. )) ..
-(( علــــيـــاااااااااء )) ..
هدر صوته من خلفهم مقاطعاً بتحذير قوى جعل علياء تضم شفتيها معاً كعلامة على غلقهما متحاشية النظر إليه ، ثم اردف يقول بعصبية موجهاً حديثه لتلك التى انزوت بجسدها جوار ركن الشرفة :
-(( يلا عشان نمشى )) ..
أستطرد مستأنفاً جملته بعدما وجهه نظراته إلى علياء :
-(( وأنتى أعتذرى لعمى وقوليله هزوره وقت تانى )) ..
لم يمهلها الفرصة للتحرك فقد قام بجذبها من مرفقها ثم دفعها أمامه سائراً بها نحو الخارج .
******************************
وفى الخارج سارت رحمة من خلفه مهرولة تحاول اللحاق بسير خطواته الواسعة ، مجارية عن عدم فهم ، غضبه الغير مفسر بالنسبة إليها ، قبل أن تتوقف فجأة فى منتصف الطريق ، وتصرخ متأوهة بعدما
ألتوت قدمها للمرة الثالثة بسبب حذائها ذو الكعب العالى ثم هتفت معترضة بسخط :
-(( اااااه .. لا بجد كدة كتير !! أنت مش ساحب جاموسة وراك على فكرة )) ..
توقف عن السير ثم ألتفت برأسه ينظر إليها أولاً ، قبل أن يرتد قاطعاً المسافة التى أبتعدها عنها فى ثلاث خطوات متشنجة حتى وصل إليها ، ثم قال بوقاحة زائدة :
-(( أعملك أيه يعنى !! .. مش مشكلتى أنك ماشية بتتلكعى )) ..
أتسعت حدقتيها بعدم تصديق وفرغ فاها مصدومة من تعليقه اللاذع ثم سرعان ما تجاوزت دهشتها وغمغمت تقول بحنق :
-(( بجد إنسان قليل الذوق بشكل مش طبيعى )) ..
خطا نحوها للأمام خطوة واحدة مهدداً وهو يعض على شفتيه بقوة مانعاً نفسه من التفوه بما قد يندم عليه ، بينما تراجعت هى للوراء بلهفة مبتعدة عنه ، وإذا بها تتعثر بحجر صغير جعلها تترنح للخلف بعد أنكسار كعب حذائها أسفل منها ، فسارع طاهر بوضع ذراعه خلف خصرها ليدعمها ، حتى أستعادت أتزانها ثم عاد لأستئناف طريقه من جديد تاركها خلفه تترنح بعدم اتزان قبل ان تتوقف ثانية وتقول بعجز :
-(( الكعب أتكسر وأنا مش عارفة أمشى )) ..
زفر مطولاً ثم رفع رأسه ينظر إلى السماء الملبدة بالغيوم ، تماماً كحالته ، معلنة عن عاصفة وشيكة قبل أن يقول بجمود وهو يشير بإبهامه إلى الأمام :
-(( البيت قدامك أهو .. أتصرفى لحد ما نوصل )) ..
صاحت معترضة بأمتعاض :
-(( مش عارفة أتحرك بيه هتصرف أزاى يعنى !! .. أقلعه وأمشى حافية فى التلج والشتا ده لحد البيت مثلاً ؟!! )) ..
أغمض عينيه لوهلة ثم سألها مستهزءاً :
-(( أيوة يعنى المطلوب منى أيه .. أشيلك على ضهرى !! .. ولا أسيبك هنا وأجرى على البيت أجيبلك واحد غيره )) ..
رغم أستحسانها لفكرته الأخيرة الا انها سارعت تقول بنبرة أقل حدة متجاهلة سخريته :
-(( أكيد يعنى مش هتسيبنى فى الفراغ والضلمة دى لوحدى .. ده عشان سمعتك طبعاً مش عشانى )) ..
صمتت لوهلة تطالع ملامحه وقد أصابت هدفها ثم أردفت تقول بشئ من اللين :
-(( وبعدين حضرتك مش هتقبل حد يشوفنى ويقول ساب أسمه لوحدها فى الشارع )) ..
تعمدت عدم النطق بلفظ “زوجته ” ، فى حين حرك هو رأسه مستسلماً ثم قال بنفاذ صبر بعدما أقترب منها وأنحنى بجسده نحوها :
-(( أقلعيه )) ..
هتفت ببلاهة :
-(( نعــم !! )) ..
ردد بنبرة خالية مقتضبة وهو يشير برأسه إلى قدميها :
-(( أقلعيه )) ..
رفعت ساقها أستعداداً لخلع الحذاء المكسور فهتف يستوقفها بجمود :
-(( مش ده .. التانى )) ..
أطاعته بصمت ونفذت ما أمرها به ، وبعد عدة ثوانِ من الوقوف على ساق واحدة بدءت تترنح فى جميع الأتجاهات ، فالطالما كانت علاقتها باللياقة البدنية سيئة ، راقب هو ترنحها بعدم أهتمام إلى أن أوشكت على السقوط ، وقتها فقط سارع فى الأمساك بها بذراعه الحر بينما الأخر يقبض على حذائها ثم قال بنبرة خالية بعدما مد ذراعه إليها :
-(( أسندى هنا )) ..
حركت رأسها رافضة ، فأردف يقول مهدداً بصرامة بعدما رفع رأسه للأعلى للمرة الثانية :
-(( شايفة السما عاملة أزاى .. صدقينى لو بدءت تشتى هسيبك واقفة هنا .. فى نص الشارع لوحدك وهمشى .. خــلصى )) ..
هدر كلمته الأخيرة بنبرة عصبية جعلتها تومأ برأسها عدة مرات موافقة ، ثم مدت كفها ، تتلمس على أستحياء ذراعه قبل أن تضم أناملها فوقه بخفة ، مسطلة أنظارها الخجلة على كتفه ومتعمدة عدم النظر إليه ، شاعرة بأرتفاع درجة الحرارة من حولها من شدة توترها ، خاصة وذراعه يحتك بجسدها مع كل حركة تصدر عنه فى محاولته لكسر كعب حذائها الأخر ، غير واعية للسماء التى بدءت تمطر من حولهم ، ولا لحبات المطر التى بللت وجهها بالكامل فكل ما يشغل تفكيرها فى تلك اللحظة ، هى انفاسه الساخنة التى تلفح جبهتها بغير رحمة ، كعلامة على شدة أقترابه منها ، وبعد أقل من دقيقة شعرت بها كالدهر ، همس يقول بهدوء :
-(( خلاص ألبسيه )) ..
رفعت رأسها تطالعه على أستحياء بأعين لامعة ، وترى خصلات شعره الناعمة ، التى تبللت هى الاخرى بالكامل وبدءت تسقط فوق عينيه الغائمة ، قبل أن تتفاجئ به يرفع ذراعه ويمسح بأطراف أصابعه ، أحدى حبات المطر العالقة بين أهدابها الكثيفة ثم تركها وأنصرف مهرولاً دون الألتفاتة نحوها
*************************
بداخل مخدعها ، تململت فى مرقدها بعدما تأفأفت حانقة تحاول بيأس تجاهل ذلك الصوت ، الذى يهتف داخلها بشكل متواصل ، منذ اضطرت إلى أستخدام المرحاض ، وعليه مرت بغرفته ورأته غافياً وغطاء فراشه منحسر من فوق جسده بأهمال غير شاعراً ببرد تلك الليلة ، وبعد عدة محاولات يائسة من تجاهل ضميرها اليقظ ، قررت الأمتثال لصوته وعليه خرجت من فراشها متوجهة إليه ، ثم سارت على أطراف أصابعها متسللة بحذر ومهتدية بضوء الحديقة الخافت المنسل والملقى بظلاله داخل الغرفة من خلف ستار النافذة المغلقة بأهمال ، حتى وصلت إليه وأنحنت بجسدها نحوه ، ثم بدءت بترو شديد تسحب بأطراف أناملها غطاء الفراش الصوفي المنحسر إلى منتصف ساقيه تقريباً ، إلى أن وصلت به إلى مقدمة كتفيه ، ثم أعتدلت فى وقفتها مرةً أخرى متنفسة الصعداء لأنهاء مهمتها بنجاح ، وبعدما أستدارت بجسدها فى أتجاه غرفتها ، وأوشكت على التحرك والعودة إليها ، شعرت بأندفاع كتلة هوائية باردة من خلفها ، قادمة من النافذة التى فُتحت على مصراعيها فجأة ، نتيجة لهبوب دفعة من الريح القوية فى الخارج ، فألتفتت رحمة برأسها تنظر بيأس إلى النافذة الملاصقة لفراشه ، ثم إليه وهو غارقاً فى نومه ، قبل أن تبتلع لعابها بصعوبة ، فالسبيل الوحيد للوصول إلى تلك النافذة وغلقها هو بالصعود إلى الفراش أو على الأقل الأستناد بأحدى ركبتيها فوقه حتى يتسنى لها الوصول إلى مقبضها وغلقها جيدا ، زفرت بقلة حيلة عاجزة حيث يأمرها عقلها بتجاهل كليهما والعودة إلى فراشها الدافئ ، بينما هتف ضميرها مؤنباً فأن تركته هكذا للصباح ، بالطبع سيعانى من الحمى ، مررت نظرها بينه وبين النافذة عدة مرات أخرى تحاول حسم قرارها ، قبل أن تعود بأدراجها إليه مستسلمة وتقف جوار الفراش بالقرب منه ، محاولة بعدما شبت على أطراف أصابع قدميها ، الوصول إلى مقبضها ، وغلقها من بعيد دون الصعود إلى الفراش أو الأقتراب منه ، وبعد عدة محاولات بائت بالفشل نتيجة لقصر قامتها ووجود الفراش كفاصل بينهم ، مطت جسدها بقفزة خفيفة للأعلى جعلتها تفقد توازنها وتسقط فوقه متأوهه بعدم تصديق ، بينما أستفاق هو فزعاً على صوتها المتألم يليه أرتطام جسدها بجسده ، ففتح جفنيه على أتساعهما ، ينظر متفاجئاً إلى عينيها التى تحدق به ببلاهه ، ووجهها الشبه ملتصق به ، ثم بسط ذراعيه نحوها مسرعاً ، يقبض على كتفيها ، ليمنعها من الأقتراب أكثر ، أو ربما الأبتعاد لا يدرى ، فكل ما يشغل تفكيره فى تلك اللحظة ، هو شعرها الكثيف المنسدل على جانبى وجهه هو الأخر ، ملقياً عليه لعنة ، تعويذة ، عزلته عن العالم من حوله ، وأجبرته على دراسة تفاصيل وجهها بأمعان ، بداية من الخطوط العريضة المحفورة فوق جبهتها والناتجة عن نظرتها العابسة ، نزولاً إلى النقوش البنية الخفيفة المنثورة كالؤلؤ على أستحياء فوق أنفها ووجنتيها المتوردة ، ثم الخط الوحيد حول جانبى ثغرها ، سقوطاً إلى ذقنها المربع وطابع الحسن الذى يزين منتصفه ، بدا وجهها مكتملاً بالنسبة إليه وهو يتطلع إلى أدق تفاصيله للمرة الأولى ، هادئ وناعم يجبر من يراه على الأعجاب به رغم بساطته ، همهمت هى بخفوت مبررة وجاذبة انتباهه إلى شفتيها السفلية المكتنزة والتى ترتجف حرجاً :
-(( أنا .. كـــ..كنــت )) ..
همس مقاطعاً بنبرة متحشرجة ، بينما عينيه تقبض على حدقتيها التى توقفت عن الحركة وأستكانت بمجرد تشابكها بخاصته ، لامحاً ولأول مرة ، المزيج اللامع بين اللونين الأسود والبنى والمحفوظ بين أهدابها الكثيفة :
-(( كنتى أيه ؟! )) ..
أهتزت شفتيها فى صمت دون إجابة ، متابعة بذهول ، أنامله التى قبضت على خصلاتها الحريرية ، ثم قربها إلى أنفه يستنشقها ببطء ، قبل أن يجذب أنتباهه ، نتيجه لأنحلال الزر الأول من بيجامتها البيتية ، بداية ندبة وردية ، جعلت كفه يتحرك نحوها ويزيح حافة ياقتها لرؤية أوضح ، ثم غمغم مستفسراً بفضول بعدما تلمسها بأبهامه :
-(( أيه دى ؟! )) ..
دفعته رحمة بكلتا يديها منتبهة إلى وضع جسدها الغريب ، ثم ركضت مسرعة نحو غرفتها ، وأغلقت الباب خلفها جيداً قبل أستنادها بجسدها فوقه لأئمة نفسها على مساعدته من البداية ، ومتلمسة بكفها موضع قلبها ودقاته التى تعلو وتهبط من فرط الانفعال .
****************************
فى الصباح الباكر وأثناء أرتداءه ملابسه ، أرتفع رنين هاتفه فى أتصال ملح ، جعله يترك ما يقوم به ويتوجه نحوه ، يستطلع هوية المتصل قبل أن يجيب باهتمام :
-((صباح الخير مستر ماكسيم )) ..
غمغم الأخير مردداً التحية ثم قال بعدها بنبرته العملية :
-(( سيد طاهر ..بالنسبة للشئ الاخير الذى طلبت منى التحرى بشأنه )) ..
قطب طاهر جبينه ثم قال بأهتمام ممزوج بالترقب :
-(( قصدك الخاص برحمة النويري ؟! )) ..
أجابه ماكسيم مؤكداً :
-(( نعم سيد طاهر .. فى الحقيقة بعد عدة أيام من البحث .. أتضح لنا شئ غريب .. تاريخ ميلاد السيدة رحمة .. لا يتناسب مع تاريخ وثيقة زواج والديها )) ..
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية في لهيبك احترق)