رواية في لهيبك احترق الفصل السابع والعشرون 27 بقلم شيماء يوسف
رواية في لهيبك احترق الجزء السابع والعشرون
رواية في لهيبك احترق البارت السابع والعشرون
رواية في لهيبك احترق الحلقة السابعة والعشرون
“يا وَأَصَلاً بِالمَعانِي، وَهاجِرِيّ فِي الكَلام
مُخاصِمَيْ فِي نَهارَيْيَ، مُصالِحَيْ فِي المَنام
مِن العـــــبوس كَلام، معــناه مَعْنَى ٱِبْتِسام
وَلَن يُغِير جَسَّمَ الوِداد، ثَوْب الخــــــصام “.
-الرافعي.
للحظات تعطلت عقارب الساعة من حولها وحل الصمت المكان، وكأن الأرض قد توقفت عن الدوران، وابتلع السكون كل شيء ألا من دقات قلبها التي شرعت في الخفقان وكأنه يريد ترك أضلعه والثوران، ثم راحت عينيها تلتهم قسماته في جوع كمن رأى مُغيثه بعدما ضاع في عرض البحر أو الصحراء، ثَوَانٍ معدودة غاصت في تفاصيله وكأنها دهرًا كاملًا، تتأمل هيئته الجديدة في انبهار تام بعد فقدانه القليل من الوزن الأمر الذي أدي إلى بروز قسمات ذراعه أسفل البذلة الكتانية بشكل يخطف الأنفاس، حتى أنه قام بتقصير شعر رأسه والتخلص من جميع خصلاته المنسدلة، وعلى عكس توقعها وجدت نفسها تستحسن ما قام به كثيرًا، خاصةً وقد اختلفت هيئته تمامًا عن توأمه، الأمر الذي بعث بالراحة على روحها، قبل انزلاق عينيها إلى ذقنه والتي شُذبت هي الأخرى بعناية فأضحت الشعيرات البيضاء الصغيرة المنتشرة على طولها أكثر وضوحاً، وأكسبته مظهرًا أَرْبَعِينِيًّا زائفًا لاءمه كثيرًا، ومع كل تلك التغيرات الظاهرية وجدت صعوبة بالغة في الحفاظ على ذراعها بجانب جسدها وعدم رفعها إليه تتلمس عظمة وجنته، مقررًا عقلها التدخل في تلك اللحظة والفصل بين لهفة الوجدان إليه وخيبة أملها به، وتذكيرها بما عانته في الأشهر المنصرمة بسبب غيابه، فسارعت تعنفه في حدة وقد عاد إليها كامل غضبها حتى كحل الغضب عينيها :
-(( أنت بتعمل أيه هنا ؟!.. وفين مدير المكان.. أيه التهريج ده !! )) ..
اتسعت ابتسامته المرحة اللامبالية، متخذًا وقته الكامل في قطع المسافة الضئيلة الفاصلة بينهم ومجيبًا بترو بعدما وقف أمامها وأخذ يطالع ملامحها المتفجرة بحمرة الحنق منه في استمتاع :
-(( المدير قدامك.. أهو )) ..
كان متلذذًا بالموقف ككل، صدمتها، تخبطها، الغيظ الذي بدأ يعتلي ملامحها، كل ذلك قابله بابتسامة ارتياح عابثة، حتى ظن بأنه قد فقد السيطرة على جوانب فمه إذ يستمر في التبسم دون داعٍ، بينما ظلت هي تتراجع للخلف مبتعدة عنه بالقدر الكافي وقائلة في غيظ :
-(( يعنى أيه؟! )) ..
أجابها ببساطة بعد نجاحه في دفع خطواتها عن عمد نحو الحائط حتى يُحكم حصاره من حولها ويمنعها من الهرب :
-(( يعنى أنا صاحب الشركة.. وأنتِ مرات صاحب الشركة اللي المفروض تستلم مكانها ))
انزلقت عيناها إلي شفتيه المبتسمتان رغمًا عنها تتابع انفراجهما في قلة حيلة، وعند شعورها بخطورة ما آل إليه وضعهم همست تستجدي تعقله :
-(( طاهر.. لو سمحت.. أبعد خليني أخرج )) ..
أطلق آهة ساخنة من داخل جوفه فور سماعها تهمس اسمه من بين شفتيها المرتعشتين، تمامًا كما حلم بها ليالٍ وأيام، وعلى عكس رغبتها ألتصق بها أكثر حتى كاد جسديهما يلتحمان، بينما تناثرت الكلمات غير المرتبة من فوق شفاها رغم قوتها، تطلب منه في حدة أخفت خلفها الارتباك المحتل كافة خلاياها:
-(( لو فاكر أني هقبل أشتغل معاك بعد التمثيلية العبيطة دي تبقى مجنون.. سبني في حالي وأبعد عني وعن حياتي وشوف حد غيري يمسك شركتك دي.. سامعني )) ..
أبتعد عنها فور ملاحظته ارتفاع وتيرة أنفاسها، يعطيها الحرية الكاملة في التحرك، ورغم ذلك حافظ على مسافة قليلة بينهم حتى يتسنى لعدستيه تشرب كافة ملامحها التي أشتاقها، قائلًا في خبث :
-(( يمكن هتقبلي عشان أنا ” الرجل الرمادي” .. الشخص اللي قلبك بينط من مكانه كل ما بتفتكريه .. واللي مش عارفة المشكلة فيه ولا في ساعة أيدك )) ..
شهقت فزعة وقد فرغ فاها متذكرة كلماتها التي يرمي بها في وجهها الآن، ثم تمتمت حانقة وهي ترفع إبهامها في وجهه محذرة، وقد تصاعد الغضب بداخلها من وقاحته الزائدة في التعامل معها منذ رؤيته:
-(( أنت قليل الذوق.. وعلي فكرة مش من الأخلاق أنك تقري كلام حد مادام مسمحلكش تقراه.. ولو سمحت تبعتلي الدفتر بتاعي.. ودلوقتي أبعد عشان أتحرك )) ..
تحرك ملبيًا رغبتها حتى وصل إلى حافة مكتبه وأستند بجسده وكلتا ذراعيه فوقه، قائلًا في هدوء يُحسد عليه :
-(( طلبك الأول بسيط.. بكرة هيكون الدفتر معاكي.. لكن بالنسبة للطلب التاني اسمحي لي أقولك أنه مرفوض )) ..
رفع معصمه ينظر في ساعة يده ثم أردف يقول في عملية:
-(( بعد ساعة ونص من دلوقتي عندنا اجتماع مع وفد صيني ومحتاج حد يترجم لي.. وطبعًا مش هلاقي حد أحسن من مراتي تساعدني.. على فكرة نسيت أقولك أن المكتب هنا تابع “لإيواء”.. يعني شغله الأول والأهم لينا وبعدها تيجي طلبات الشركات التانية.. وأنتِ تحديدًا كل شغلك هيكون معايا.. أظن كده أفضل )) ..
ضيقت عينيها فوقه تتفرسه متسائلة في حيرة، متى أكتسب زوجها هذا الكم من الوقاحة والجنون، حركت رأسها في عدم مبالاة وقد قررت إنهاء هذا اللقاء المدمر لخلاياها العصبية، فيبدو أن التحول الذي طرأ عليه ليس ظَاهريًا فقط كما لاحظت في بادئ الأمر، وعندما أوشكت على التحرك نحو باب الخروج، اندفعت الموظفة التي استقبلتها منذ قليل تقتحم الغرفة دون استئذان تتساءل في دلال:
-(( طاهر بيه بفكرك باجتماع الشركة اللي على المفكرة.. تحب أجهز عشان أتحرك معاك ؟! )) ..
تسمرت خطواتها وطفقت تحرك نظراتها بينهم هاتفة في تأهب :
-(( أيه ده بقى ان شاء الله !! ))
نظرة ازدراء واضحة مع إشارة من عينيه إلى الموظفة الوقفة أمامه، كانت كفيلة في دفعها إلى الانصراف وغلق الباب ثانيةً من خلفه، بينما استطردت رحمة تستفسر في عصبية زائدة :
-(( وأنت بقي سايب شركتك والدنيا من حواليك وقاعد هنا !!.. وبعدين أنا عايزه اعرف إيه المكان اللي مفيهوش موظف راجل ده !! ))..
رغم السعادة التي غمرته فور رؤيته الغضب الذي كسي ملامحها من تجرأ الموظفة الفج، ألا إنه سرعان ما تلاشاها عند سماعه باقي جملتها فهتف يسأل في تأهب واضح :
-(( وانتِ بتسالي عن رجاله ليه عشان أبقى فاهم ))..
صاحت تجيبه في غيظ :
-(( عشان حضرتك سايـب.. ساي….. )) ..
هتف يحثها على الاستمرار :
-(( أيوة.. سايب إيه بقي؟! )) ..
قالت بعصبيه بعدما لكزته في صدره :
-(( مش مهم سايب إيه.. أنت عارف.. انا ماشية وتولع انت وشركتك دي )) ..
سارع بالتحرك وجذب جسدها نحوه، يمحي بفعلته تلك المسافة التي ابتعدتها عنه، ثم أحكم لف ذراعيه حول خصرها يحاوطها من الخلف، مما أدى إلى التصاق ظهرها بصدره، بينما قاومت هي بكل قوتها تلكمه بمرفقها في فُم معدته مدفوعة بغيظها وغيرتها وتجاهله لها، تحاول بكل طاقتها الخلاص منه والابتعاد عنه حتى شعرت بالاختناق يسدل ستاره حول رئتيها، وما هي إلا ثوانٍ معدودة حتى بدأت مقاومتها له تتلاشي شيءً فشيء ، شعر طاهر بالوهن الذي أصابها ولم يحتج إلى كثيرًا من التخمين لمعرفة سببه خاصةً مع صفير أنفاسها المرتفع، فسارع بالركض نحو مكتبه يُخرج من أحد ادراجه بخاختها الطبية، ثم عاد ودفعها عنوة داخل فمها قبل معاودته إحاطة جسدها يدعم ثقلها متمتًا في ندم حقيقي :
-(( أنا آسف .. حقيقى أسف أني ضايقتك .. سامحيني يا وطني )) ..
أغمضت عينيها في إرهاق عند سماعها نبرته المهدهدة، فلا ضير من لحظات تسرقها من الزمن وترتاح بها فوق صدره قليلاً؛ لذا مالت برأسها إلى جهته، تستند بها فوق مضغته الثائرة مستمتعة بالدفء العجيب الذى غمر كيانها فور عناقه لها، بينما طبع هو قبلة ناعمة مطولة فوق شطر وجهها هامسًا بصوت متحشرج عذب :
-(( مش هتصدقي حلمت باللحظة دي قد ايه الفتـ… )) ..
قاطع جملته رنين هاتفه، فسارع يقول ويستوقفها وهو يشدد من لف ذراعه حولها عند شعوره بها تتحرك من بين يديه بعدما ضغط زر رفض المكالمة :
-(( هششش.. ده جواد.. تلاقيه بيطمن عليكي )) ..
أثار إصرار قريبه التواصل معه ريبته عندما هاتفه للمرة الثانية، فقبل مكالمته يجيب في قلق :
-(( في إيه ؟! )) ..
شعرت رحمة بإرتخاء قبضته فوق خصرها فاستدارت تطالع ملامحه الشاحبة قبل أن يقول هو في نبرة ضعيفة متقطعة :
-(( رحمة.. عمي أنور.. في العناية.. جاتله جلطة ))
سلامًا على هؤلاء الذين يكتمون جذوات خيباتهم داخل أحشائهم، تاركين جمراتها تلتهم صدورهم، وإذا باحوا بما في ضميرهم، تطيح بهم رياح الندم بما لا تشتهيه سفن تمردهم، فيعودون عن طيب خاطر إلى قوقعة كتمانهم، مع جبال من الشعور بالذنب راسية تدك خفقاتهم.
ارتمت فوق كتف شجرتها الوارفة وروحها الإضافية، تحتمي به من لهيب شعور الذنب الذي يحرق دواخلها، وتخفي داخل صدره رأسها متمتمة من بين شهقاتها المرتفعة في قهر :
-(( أنا السبب يا جواد.. لو مكنتش قلت كل الكلام السخيف اللي قلته مكنش حصل فيه كدة )) ..
مسد شقيقها فوق ظهرها في إشفاق حقيقي وقد أحاط جسدها من جميع جوانبه، يود لو يحمل عنها جزء من الألم الذي تمر به، قائلًا في مواساة :
-(( أهدي بس يا علياء واذكري الله.. إن شاء الله الدكتور يخرج دلوقتي ويطمنا.. تعالي ندعيله بدل العياط اللي مش هيفيد بحاجة )) ..
أرتفع أنين بكائها حتى وصل صداه إلى الممر المفضي إلى المصعد، حيث خرج منه للتو طاهر ورحمة، والذي ركض فور سماعه بكائها يقطع الممر في ثوانٍ معدودة يسأله في لهفة، آتية من خلفه زوجته منقطعة الأنفاس :
-(( حصل إيه يا جواد.. طمني؟ مالها علياء )) ..
أجابه جواد مبررًا رغم جزع نبرته :
-(( مفيش.. الدكتور جوة لسه بيكشف ومخرجش )) ..
تنفس طاهر الصعداء وقد عصفت به الظنون عند سماعه انهيارها، بينما رفعت علياء رأسها من فوق صدر شقيقها تهمس في ندم :
-(( أنا السبب في اللي حصل.. كنا بنتكلم وأنا زعلته )) ..
مدت رحمة الواقفة قُبالتها كلتا ذراعيها في دعوة صريحة لضمها، قائلة في أعتراض من بين دموعها المنسابة هي الأخرى :
-(( مش أنتي لوحدك السبب.. هو حاول يكلمني كتير الصبح وأنا مردتش عليه.. أكيد كان مقهور مني )) ..
ارتمت علياء بين ذراعيها يشددا من احتضان إحداهما الأخري كطفلتين فقدا الأمان خارج حدود جسديهما ، وقد انخرطا في نوبة بكاء قوية وانضمت إليهم زوجته ” السيدة كريمة” تغمغم متأثرة وهي تحاوط جسديهما:
-(( وحدوا الله يا بنات وتعالوا ننزل نصلي بدل العياط ده.. عل وعسى ربنا يريح قلوبنا عن قريب )) ..
كان طاهر هو أول من نطق مستحسنًا ذلك الاقتراح، فداخله منقسمً شطرين، أحدهما ينفطر قلقً على من أحتل مكانة والده في قلبه، والأخر على تلك التي بدأت وتيرة أنفاسها تتعالى تمهيدًا لنوبة ضعف جديدة، تذكره بمدى الظلم الذي تعرضت إليه على يد الجميع وهو أول من يحتل تلك القائمة، مقاطعًا تفكيره خروج الطبيب الذي هتف يقول مطمئنًا في ثقة :
-(( حضرتك أبنه صح ؟!.. عامةً الحمدلله يا جماعة الإشاعة طلعت كويسة وطمنتنا.. الجلطة بعيدة عن مركز الإدراك وحجمها صغير ولسه في أولها أنتوا لحقتوه بدري.. تصرفكم كان ممتاز وساعد كتير.. احنا دلوقتي عطناه إبر مسيلة للجلطات وهننقله على العناية المركزة للاحتياط.. وعلى بليل إن شاء الله تقدروا تشوفوه.. بالشفا ))
تباينت مشاعر الجميع ما بين متهلل الأسارير كزوجته وأبن شقيقه، وما بين حامد كمثل جواد ورحمة شاكرين الله على لطفه الخفي، وظلت هي الوحيدة القابعة في مكانها لا تقو على رمش جفنيها منذ لمحت طيفه، حيث التقت عيناها على غير تمهيد بعينان لطالما حرمتها من نوم هانئ.
********************************
لا شيء يستحق الذكر، وما تلك الأصوات الحفيفة المزعجة سوي خفقات قلبها الثائر كالبركان والذي يضرب داخل ضلوعها يمنة ويسرة مطالبًا في التحرر من موضعه مع كل التقاء عابر لأعينهما، وكأنها تقف فوق حافة ناطحة سحاب، تترقب دفعها للأمام في أية لحظة قادمة، ويتضاعف ذلك الخفقان طرديًا مع كل جملة تخرج من فمه موجهًا حديثه للجميع عداها، وكأنها أصبحت غير مرئية، فيثير حفيظتها بلا مبالاته، ثم يعود ويعانقها بتلك النظرة الخاطفة فتغوص داخل بحيرته الزمردية الصافية، وتصبح في أقل من ثانية هي ساكنتها الوحيدة وحوريتها الذهبية، متجولة داخل شعبها الخضراء بحرية، حتى يقطع اتصال أعينهما برمشة منه او لفتة حوله، فتعود إلى أرض جفائه الواقعية، ظلا هكذا ساعات، حتى أشفق عليها القدر منتشلها من مأساة حضوره بعد سويعات قضتها كالوتر المشدود، عن طريق صوت الطبيب يقول مبشرًا :
-(( تقدروا تشوفوا المريض دلوقتي.. بس طبعًا من غير كلام كتير.. ومش هوصيكم زيارة خفيفة مفيهاش انفعال.. حمدلله على السلامة مرة تانية )) ..
رافق جملته الأخيرة بإيماءة صغيرة من رأسه يستأذن بها في الرحيل، ومع الحصول على الأذن في الزيارة كانت هي أول من سارع بالوقوف، تتشبث بذراع شقيقها متمتمة في توسل ومتحاشية في تلك اللحظة أي تواصل بصري بينهم :
-(( جواد.. خليني أدخله بسرعة عشان خاطري )) ..
همهم الأخر موافقًا وقد هم بالتحرك بها، بينما هتفت والدتها مقترحة في حبور :
-(( اسبقوني أنتوا يا ولاد وادخلوا على ما أبشر رحمة وأجبها من الجامع ونيجي )) ..
ألتفت طاهر على جملتها الأخيرة يبتسم لها في تفهم عندما غمزت له بطرف عينيها، فالأمر لا يحتاج إلى كثيرٍ من التحليل الذهني ليعلم أنها فضلت قضاء نهارها كاملًا داخل مسجد المشفى فقط من أجل الهرب من صحبته، وها هي زوجة عمه تحاول حالها حال باقي أفراد العائلة مساعدته في الاجتماع بها، أما عنه هو يحيى فرغم توقه إلى السير جوار زوجته بعدما سنحت له الفرصة في رؤيتها وجهًا لوجه، بل والمكوث معها في نفس الغرفة الصغيرة ومواساتها، ألا أنه آثر الانتظار قليلَا حتى يطمئن على مريضته أولًا، وما هي إلا ثوانٍ معدودة تأكد طاهر من خلو الممر ألا منهم حتى هتف مستاءٍ في نزق :
-(( أنا مش عارف سمعت كلامك ليه في نصيحتك الهباب دي !! .. دي مش طايقة تبص في وشي والدليل قدامك أهو.. هربت من الصبح جوة الجامع بحجة الصلاة والدعاء.. ولحد دلوقتي مظهرتش ))
أبتسم يحيى عن ملئ فاه الأمر الذي أثار غضب الأخر فأستطرد يقول في تقريع :
-(( متفرحش أوي وروح شوف خيبتك !! ع الأقل مبروحش كل يوم بيتها وبترفض تقابلني )) ..
قال يحيى في رزانة متجاوزًا عن عمد الشطر الأول من حديثه :
-(( أنت وثقت فيا من الأول وطلبت مني أساعدها من غير ما تحس أنك السبب.. فمتجيش دلوقتي وتقول نصيحة هباب لأن صدقني.. أنا اللي معاها من سبع شهور وعارف حالتها أتحسنت أزاي.. وصدقني برضة بعادك عنها الفترة اللي فاتت كان أفضل قرار لعلاقتكم سوا )) ..
صمت لوهلة أبتلع خلالها لعابه، ثم أردف يقول في عملية شديدة :
-(( رحمة كان لازم تفصل بين عقلها الباطن واللي محتلة.. وبينك أنت كطاهر من غير أي إضافات أو صلات تانية.. عشان تعرف تحدد مشاعرها صح.. ورغم أنها أسرار مريض ماينفعش تخرج بس أنا بأكدلك أنها اتجاوزت حالة التخبط بنسبة ٩٠٪.. وأظن أنك ذكي كفاية عشان تعرف حالة الصد دي سببها أيه؟.. وعلي العموم أنا عطيتلك جرين كارد في التعامل معاها زي ما تحب.. على شرط تكون خطوات مدروسة )) ..
زفر طاهر مطولَا يطرد دخان حرقة الفراق الذي يقطع الهواء عن رئتيه، قائلًا في لوعة :
-(( أديني ماشي معاها واحدة واحدة زي ما طلبت ومستني تطلب او تلمح بالقبول.. لما أشوف أخرتها عشان جبت أخرى )) ..
أما بداخل غرفة العناية المشددة، حيث والدها المريض ممددًا فوق الفراش الطبي، دلفت مطأطأة الرأس، تخشي رفع نظرها ومواجهته رغم توقها الاطمئنان عليه والتحدث معه، وكعادته في التعامل معها، همس يقول في جمل ثقيلة متعبة :
-(( واقفة عندك ليه يا ست البنات.. تعالي قربي )) ..
أندفعت فور سماعها جملته المدللة تخفي رأسها داخل صدره متمتمة في ندم حقيقي :
-(( أنا آسفة.. أنا غلطانة أني زعلتك ومستاهلش أي حاجة كويسة تحصلي )) ..
ارتسمت فوق شفاه والدها ابتسامة واهنة، قبل قوله نافيًا :
-(( أنتي تستاهلي كل حاجة حلوة.. بس لو تسمعي كلامي وتريحي قلبي قبل ما أقابل وجه كريم.. ساعتها هموت وأنا مطمن ))..
سارعت تقول خاضعة في لهفة :
-(( بعد الشر عليك.. أنا هعمل كل اللي تطلبه بس أنت أرتاح وأرجع زي الأول ))..
هنا هتف والدها مستفسرًا في عدم تصديق :
-(( يعني هتنفذي طلبي لأخر مرة.. وتعرفي زي الناس العاقلة حصل ايه وبعدها تقرري عايزه تكملي ولا لأ ؟! )) ..
عضت فوق شفتيها حائرة قبل أن ترمق شقيقها الواقف جوار الفراش ومتابعًا مجري الحديث في صمت تتلمس منه العون، فبادر يقول في هدوء :
-(( بعد أذنك يا حج.. انا عارف علياء عاقلة ومش هترفض طلبنا.. فخليها تديله فرصة يومين .. تروح معاه النهاردة تسمعه ويسمعها وتعرف ليه خبي عليها والتفاصيل اللي تخصهم لوحدهم.. بعدها لو قالت لأ أو مقتنعتش.. أنا هطلب منه نخرج بالمعروف ))
فتحت فمها معترضة فسارع جواد يقول ضاغطًَا على حروف جمله بعدما رمقها بنظرة ذات مغزي :
-(( مش عايزين كلام كتير يا علياء متنسيش وصية الدكتور )) ..
زفرت مطولًا تحاول رغم كل شيء السيطرة على تلك الحرارة التي ألهبت خلاياها من فكرة تواجدها معه في نفس المنزل والمكان، ولم يعدها من فرط خيالها الجامح في تصور ليلتها الأولى برفقته سوي صوت خطواته عند دلوفه الغرفة، يليها صوته الموجهه إلى والدها يستفسر عن أحواله، فأعتدلت في وقفتها تقول بعدما تنحنحت عدة مرات منقية حلقها المتحشرج، ولازالت تتحاشي النظر إليه :
-(( بناءًا على طلب بابا.. انا هروح معاك النهاردة )) ..
**************************
انزوت بجسدها الهزيل بعدما انتهت من تقضيه فروضها الخمس، ومراسلة صديقتها تخبرها دون الخوض في تفاصيل عن سبب تأخرها، جوار أحد حوائط المصلي، وكل ما تريده هو التحصن منه، والاختباء خلف جدران صلدة، فلا تستطيع نظرة عينيه الثاقبة اختراق دوافعها، تُعيد تذكر الصباح وكل ما امتلأ عقلها به، شاعرة بأمواج التخبط تلطم صدرها، فأسابيع عدة أقنعت نفسها بكرهه والنقم عليه، ومع أول لقاء بينهم، أدركت أن ذلك الغضب ليس سوي قشرة خارجية، طبقة رماد هشة، تخفي أسفل منها نيران اشتياق لازالت متأججة، وعندما اشتدت به ريح اللقيا، أضحى ما أخفته عن الجميع ظاهرًا لباطنها قبل العيان، حتى هنا في محراب تعبدها داهم بسطوة هيئته الجديدة أفكارها، فأية إرادة تلك التي تتحلى بها، وأية قلب ميؤوس من حالته ذلك الذي تمتلكه!، قاطعت حبل أفكارها الموصول به على مدار الساعة، صوت زوجة والدها، تقول في وقار :
-(( تقبل الله يا حبيبتي.. حبيت أقولك أن الدكتور سمح بالزيارة بعد ما الحالة استقرت.. تقدري تشوفي أنور دلوقتي لو حابة )) ..
ابتسامة تردد اعتلت شفتيها، مع نظرة ضياع غشت عدستيها، دفعت “كريمة” إلى الجلوس قُبالتها قبل أن تقول في تفهم :
-(( أنا حاسة ومقدرة اللي أنتي فيه.. أنا كمان عشته سنة كاملة )) ..
هتفت رحمة من خلفها مرددة في استنكار :
-(( سنة !! ))..
أومأت بجفنيها مؤكدة ثم أردفت تقص ماضي مطوي تفاصيله داخل جنبات صدرها :
-(( مش سهل على أي ست أن جوزها يدخل يقولها أنه اتجوز عليها حتى ولو كان الجواز ده لسبب.. يعني وخصوصًا لما الحياة تكون بينكم مستقرة وهادية ومتفقين في حاجات كتير.. وقتها حسيت اني مخبوطة على دماغي.. حياتي كلها اتشقلبت.. وقعدت فترة محتارة.. أرمي له دبلته في وشه وأقوله أشبع بيها.. ولا أسامح واعدي.. وبعد صلاة أستخارة كتير قررت اني هكمل عشان الولاد.. وقعدنا سنة كاملة زي الغربا.. بننام في أوضة واحدة عشان الولاد ميحسوش بحاجة.. بس في نفس الوقت مش طايقة حتى كلامه ))
ابتسامة حنين شقت طريقها إلى شفتيها، أجبرتها على التوقف لوهلة قبل أن تردف مازحة :
-(( بس بيني وبينك أنور في طبع غريب.. لما بيصمم على حاجة مبيرتحش غير لما يعملها.. وطالعله في الحتة دي طاهر مش جواد.. عمل كل حاجة ممكنة عشان اسامحه.. وشهر ورا شهر لقيت زعلي منه بيقل لحد ما اختفى.. نرجع بقي لأنور.. صدقيني يا رحمة هو مكنش يعرف.. أزعلي حقك.. ولو ان غريب ان الكلام ده يطلع مني انا مخصوص باعتبارك بنت ضرتي.. بس صدقيني لا أنور ولا طاهر بيتصرفوا تصرف ألا وفيه مصلحتك.. حتى لو مكنش على هواكي.. اديهم فرصة ومش هتندمي)) ..
اعتدلت في وقفتها ومسدت تنورتها الطويلة ثم سألتها مستفسرة :
-(( هتيجي معايا ولا أطلع لوحدي )) ..
حركت رحمة رأسها موافقة عدة مرات قبل انتصابها هي الأخرى واقفة استعدادًا للصعود إلى الأعلى حيث لمحته يقف مترقبًا داخل الممر وكأنه ينتظر وصولها، وكما توقع رد فعلها رمقته بنظرة جانبية جامدة ثم أستأنفت طريقها نحو الداخل دون أعارته أدنى قدر من الاهتمام، مواصلة تقدمها نحو وجهتها حتى توقفت أمام الفراش الطبي مترددة للحظات، شاعرة بحركة جسده تتبع ظلها، وما هي إلا ثوانِ معدودة طافت عينيها فوق جسد والدها ووجهه المريض، حتى أنحنت تقبل كفه هامسة في حزن حقيقي :
-(( حمدلله على سلامتك.. سامحني )) ..
تمتم أنور يقول بنبرة ثقيلة متهدجة :
-(( أنا لو أعرف أني هشوفكم كلكم متجمعين مع بعض وحواليا.. كنت تعبت من زمان )) ..
سارعت زوجته تقول في انزعاج واضح :
-(( بعد الشر عليك يا أنور.. تسلم يا حبيبي من كل تعب )) ..
أمن الجميع دعائها من خلفها، بينما تحرك طاهر يقول مستغلَا الفرصة في الوقوف جوارها واحتضان كفها :
-(( متقلقش يا عمي.. من هنا ورايح محدش هيزعل من حد.. وعايز أقولك من النهاردة رحمة هتشتغل معانا في الشركة.. يعني أطمن )) ..
هلل عمه فرحًا بالخبر السعيد، منشغلًا عن تلك التي تحاول إفلات كفها من بين خاصته :
-(( الله يهدي سركم يا ولاد.. وعقبال ما أملي عيني بذريتكم قريب )) ..
أجابه طاهر بأبتسامة واسعة وكأنه يتعمد إثارة حنقها، بينما يده تضغط بقوة فوق كفها لمنعها من التحرك :
-(( إن شاء الله قريب.. مش كدة ولا أيه يا رحمة )) ..
سعلة خفيفة صدرت عنها كانت بالنسبة إليه إجابة أكثر من كافية لفهم ما تمر به، خاصة وهي تحاول بأناملها الصغيرة أحداث جروح في باطن كفه كعلامة على رفضها، الأمر الذي أستقبله بأستمتاع شديد، مقاطعًا صراعهم الخفي صوت جواد يقول في جدية :
-(( طب أيه.. انا عطيت الممرض فلوس عشان يرضى يدخلنا كلنا سوا.. بس لو حد من الدكاترة مروا هتبقي في مشكلة ))
قال والده وقد أعجبه قول ولده الأكبر :
-(( خد مراتك يا طاهر وروح.. وأنت يا يحيي خد علياء تستريح.. مش عايز حد يفضل حواليا اطلعوا خلوني أرتاح )) ..
هتفت علياء رافضة في رجاء :
-(( طب خليني أبات معاك النهاردة عشان خاطري ))
قالت والدتها معترضة :
-(( مش هينفع يا علياء.. العناية مفيهاش بيات.. المستشفى مش هتسمحلنا.. كلنا هنروح حتى انا وجواد عشان لينة.. روحوا أنتوا يا حبيبتي وبكرة الصبح تعالي.. كفاية بقي جدال عشان خاطر بابا ميتعبش ))..
أومأت رأسها موافقة على مضض ثم أنسحبت من الغرفة بعدما ودعت والدها، تحاول تأخير لحظاتها القادمة قدر الإمكان، وتبعتها رحمة التي فعلت نفس الشيئ وعلى عكسها تتمنى الخلاص من ذلك الموقف ككل والهرب من صحبته حيث منزلها الأمن، بينما تابع الثلاثة الباقيين أختفائهم عن الأنظار، ثم هتف أنور يسأل تمنى :
-(( تفتكر ربنا هيهديهم على بعض ؟! )) ..
قال جواد في ثقة :
-(( يحيى فاهم وشغله عاطيله مساحة متخافش عليه.. وطاهر مش هيسكت غير لما يوصل للي عايزه.. أرتاح أنت ومتشغلش دماغك بيهم ))..
تمتم والده في إرهاق :
-(( يارب يوصل للي عايزه.. ويكون كل اللي عملناه عشانه بفايدة ))..
**********************************
ثانية، اثنان، ثلاث، عشرة….، ثانية، أثنان….. ، بوق متواصل لسيارة سائرة أمامهم شغل عقلها للحظات، ثم سرعان ما عاودت العد من جديد، ثانية، اثنان، ثلاث، أربع، خمسة، اللعنة الوقت لا يمر والدقائق لا تمضي والعد لا ينتهي، حتى مع خلو الطريق أمامهم تشعر بأنه لا يسير بالسرعة الكافية، تُري هل يتعمد الحد من سرعة سيارته أم هواجس عقلها الثائر من تُخيل لها ذلك، نظرة جانبية على المربع المضيء أعطاها فكرة جيدة عن مدى سرعتهم، فها هو على وشك تجاوز المائة، رفعت ذراعها تنظر في شاشة هاتفها تتطلع إلى الوقت للمرة التي لا تُحصى عددها، التاسعة وثلاث وثلاثون، فقط دقيقة واحدة هي كل ما مرت، ستصاب بنوبة صدرية جديدة إن لم تُحد من شدة توترها، نعم هذا أمر مفروغ منه، فكل شيء من حولها يضغط على أعصابها، صوت تنبيه السيارة عند الانعطاف، عطره المخترق حواسها ويكاد يُصيبها بالخدر، حركة يده فوق المقود، بالحديث عن يده، من أين أتى ذلك المحبس الأسود المزين إصبعه، هل يخصها هي، أم يعود إلى أخرى غيرها، نفضت رأسها وحركت كفها تضغط بكل ما أوتيت من قوة فوق مكبس الزجاج تُخفضه، سامحة للهواء البارد في الاندفاع جملة واحدة داخل السيارة ولفح وجهها، بينما لاحظ بعدما جذب أنتباهه حركتها العنيفة شحوب ملامحها فسارع يسألها في قلق :
-(( أنتِ كويسة ؟! ))..
أرادت الصراخ به، أخباره أن خيرها وحضوره لا يجتمعان في جملةً واحدة، وبالرغم من ذلك همست تجيبه كاذبة :
-(( بس المسافة طويلة وأتخنقت ))
تمتم مؤكدًا وكأنه يطمئن نفسه :
-(( معلش خمس دقايق بالكتير ونوصل )) ..
شعرت بقلقه كاملًا يصل إليها إذ زاد من سرعة السيارة في الحال، وبالفعل قبل مضى الخمسة دقائق كانت تتسلق أولى درجات الدرج، لاحقًا به هو يقول في أريحية شديدة :
-(( أستنى.. كنا بنقول أيه؟! ))..
تبخر توترها كاملًا وحل محله الغضب، وكأن سؤاله البسيط أعاد إليها خيبات السبعة أشهر المنصرمة، فاستدارت تقول فى حدة مبررة من وجهة نظرها :
-(( كنا بنقول عايزه دفتررررري.. وفي أسرع وقت )) ..
تسلق هو الأخر الدرج، يشاركها المساحة الضيقة الواقفة عليها، محتكًا بجسدها الضئيل عن عمد وقائلًا في صوت أجش عذب بعدما أخفض رأسه في اتجاهها :
-(( الدفتر واللي هيوصل الدفتر تحت آمرك.. أنتِ بس اطلبي )) ..
لحظات طويلة بطيئة مرت بينهم أقسمت خلالها أنها على وشك البكاء، البكاء من قلة حيلتها في حضرته، البكاء من جرأته، ورغم ذلك همست تقول محذرة :
-(( طاهر.. أحنا في المدخل عيب كدة )) ..
قال بعدما رفع ذراعه وطفق يمسد وجنتها الساخنة :
-(( أنا عملت حاجة.. أنا بقول أطلبي وأنا أنفذ )) ..
أجتاح جسدها بأكمله قشعريرة خفيفة بدأت من عمودها الفقري وامتدت إلى صوتها حينما غمغمت متوسلة في تهدج واضح :
-(( طـ… طــا.. هر.. خليني أطلع لو سمحت )) ..
أشفق على ملامحها المتوترة وشفاها المرتعشة، فقال بجدية بعدما هبط الدرجة التي تسلقها :
-(( أطلعي.. وبكرة هيجيلك الساعة ٨ أوصلك )) ..
صاحت تستفسر مستنكرة بعدما عاد صوتها إلى طبيعته :
-(( نعـم !! وتوصلني ليه !!.. صغيرة ولا معرفش الطريق !! )) ..
هتف محتدًا وقد أظلمت عدستيه بلهيب الغيرة :
-(( أومال أسيبك تركبي مع سواق تاكسي غريب يفضل يبحلق فيكي !! )) ..
سارعت تقول في نبرة مسلية مستغلة نقطة ضعفه وقد أقسمت على تعذيبه :
-(( ومين قالك اني هركب تاكسي.. أنا هروح بمشروع )) ..
صدح صوته الغاضب يملأ الممر بالدرجات :
-(( كمان!.. ورحمة أبويا وأمي.. لو عرفت انك عملتيها هتشوفي مني وش معرفتيهوش لسة.. سامعة )) ..
هدر كلمته الأخيرة في صراخ جعلها تركض إلى الأعلى فزعة بعدما اختفت الابتسامة المسلية من فوق شفاها، بينما أستطرد يقول محذرًا من بين أنفاسه اللاهثة لطيفها الهارب :
-(( وبكرة الساعة ٨ ألاقيكي جاهزة ومستنياني ))..
وفى الأعلى بعدما دلفت منزلهم وأغلقت الباب خلفها جيدًا، استندت بظهرها فوقه تحاول السيطرة على أبتسامة سعيدة تقفز فوق شفتيها كلما أخفتها، مقاطعًا حالة انتشاءها البسيطة صوت شقيقها يسأل بنبرته الناعسة :
-(( رحمة !!.. أنتِ لسة واصلة.. متأخرة ليه ؟! ))
أجابته بعدما تنحنحت وسيطرت على جوانب فمها المبتسمة :
-(( كنت بخلص كام مشوار ضروري متشغلش بالك.. أدخل نام أنت عشان كليتك بدري )) ..
هز رأسه ثم ودعها في تحية مساء مع قبلة أخوية خاطفة فوق وجنتها التي لازالت تحتفظ بأثر لمساته منذ قليل، قبل أن تقتحم غرفة صديقتها وتبدأ في قص كل ما حدث منذ الصباح، فاستمعت غفران لكل ما يخرج من فمها بأنصات شديد، حتى وصلت إلى مرض والدها، وقتها هتفت تقول مؤنبة في ضيق :
-(( كدة برضه يا رحمة !!.. يعني يبقى بابا جواد تعبان ومعرفش !!.. يقول عليا أيه دلوقتي طيب )) ..
صاحت رحمة معنفة بعدما دفعتها بوسادتها القطنية :
-(( بقولك طلع هو صاحب الشركة.. واني شاكة انه هو برضه ورا حوار البيت.. وقضينا اليوم في المستشفى وانتي تقوليلي جواد!!.. بجد مستفزة )) ..
قالت غفران معتذرة بعدما تنحنحت وأعتدلت في جلستها وأعادت ترتيب خصلاتها :
-(( أحم.. خلاص ماشي.. بكرة تديني عنوان المستشفى واروح أزورهم.. المهم دلوقتي أنتي زعلانة ليه؟! .. ماهو طلع حلو وبيفكر فيكي ومش ناسي.. يبقي نلم الدور ونفرح وبلاش نكد.. وبعدين لو كان هو ورا حوار الشقة ما كان واجهك زي الشركة )) ..
صمتت لوهلة تطالعها ثم أردفت تقول هاربة بعدما ادت مهمتها المتفق عليها :
-(( نامي يا رحمة وأفصلي.. وحتى لو قبلتي تشتغلي معاه عشان وضع باباكي زي ما قلتي واحساسك بالذنب.. فلازم تشوفي شغلك كويس وتجتهدي فيه.. تصبحي على خير )) ..
نطقت جملها ثم هرولت من الغرفة منصرفة، تخشي أن استمرا في الحديث كشف أمرها، بينما فتحت رحمة فمها وأغلقته متراجعة عدة مرات متتالية، فما بداخلها لا تستطيع صياغته في جمل مرتبة، تتذكر تلك الليلة التي سكنت أحلامها أيامً وأيام، حينما صارحها بذلك الأعتراف الأسطوري عن الحب، ثم بعدها اختفى من حياتها وكأنه شبح، تبخر طيفه من أمام عينيها وكأنه يومًا لم يكن، لم تلمح ظله ولو خطئًا، حتى أقنعت قلبها والذى ظل يؤنبها ليالٍ طويلة عن هجرانها له بأنها مجرد عابرة سبيل في حياته، امرأة ألقاها القدر في طريقه لبعض الوقت وانتهى، وبعد اسابيع من الترقب وخيبة الأمل، أيقنت ان كلماته ليست سوي كلمات، حملها بها إلى عالم وردي منسوج من خيال مراهقة، ثم تركها تسقط على أرض الواقع وتلملم شتات خيباتها بمفردها، ثم فجاة، عاد وظهر أمامها من العدم، وبعودته تلك قلب موازين أفكارها المترسخة داخلها كمسلمات لا تقبل الشك رأسًا على عقب، زفرت في لوعة وحركت رأسها يمينًا ويسارًا تطرد كلمته من عقلها، ” وطني” فمجرد التفكير بها يجبر غضبها منه على التراجع، قافزًا محله الرضا بإبتسامة حالمة، تلاها تنهيدة أشتياق ممزوجة بعجز خرجت من أحبالها الصوتية الرقيقة، فيبدو ان الوقوع في حب رجلها الرمادى، ليس بالأمر السهل تمامًا كرؤية إبتسامة صاحبها.
ما بين رغبة في القلب وعناد في العقل، تتأرجح الروح تائهة، تخشي إتباع العاطفة فتسير خلفها واهمة، وتخاف الانحياز للعقل فتمضي أيامها نادمة، وبهذا الشعور المريع عبرت حد مملكتها المزعومة كالمساق إلى الموت في ليلة شتوية عاصفة، فلا يدري أهو يرتجف من شدة البرد أو من هول ما سيلقاه، تُقدم ساق وتؤخر الأخرى، فها قد أتت لحظتها الحاسمة، بعدما دفعها والدها وشقيقها إلى خوض المعركة بمفردها دون استعداد جيد لها، وما من حصن يقيها من ضعفها سوي درع كرامتها الجريحة، ونصف عقل يحاول الحفاظ على اتزانه في حضرته، تود الركض، الصراخ، الاستسلام، أخباره بأن تلك الطفلة الصغيرة بداخلها لازالت من هجرانها له حزينة، ضعيفة، متألمة، وما أن أغلق باب المنزل من خلفهم وحوصرت بين جدرانه الأربعة، حتى شَعَرْت وكأنها دفعت إلى العراء، منبوذة، عارية بعدما هُدمت قلعتها، ولا شيء يحول بينها وبين تجمد أطرافها، سوي زوج من العيون الناعسة، تحتضنها وتبث إليها تيارات عاطفته الدافئة، شهقة ذعر صدرت عنها فور تنبهها إليه يتقدم منها جعلته يتراجع عن الفكرة ككل، ويُرغم ذراعه التي امتددت في اتجاهها بنية احتضان كفها على العودة إلى مكانها الأصلي، وقد لاح أمام عينيه ذكرى ليلة زفافهم وكيف ارتدت ثوبها الأبيض ووقفت أمامه بملامح شاحبة، تواجهه بجريمة أخفاها عامدًا، بل وتكشف عن نواياها في إتمام زيجتهم ظَاهِرِيًّا من أجل اسم والدها وسمعة العائلة، وكيف انقضت أمسيتهم متشابكين بأكف بعضهم البعض راسمة فوق ثغرها ابتسامة قوية زائفة، حتى انصرف المدعوين وعادت إلى غرفتها وحدها، مصرة على الاختباء داخلها هاربة، حتى انقضت السبعة أشهر وها هي تقف أمامه الأن وقد أضحت بعذاب فؤاده وتوسله لها يَوْمِيًّا متلذذة
-(( علياء )) ..
غمغم اسمها بهوادة، يود لو تسمح له بمحي كافة مشاعرها التي طفت على صفيحة وجهها بحبه، فسارعت تقول في حدة قاطعة الطريق على أي حديث بينهم :
-(( ممكن متنساش أني هنا بِنَاءًا على طلب بابا.. يعني أي كلام ملهوش لازمة ))..
تنهيدة عجز صدرت عنه أولًا، قبل أن يتخذ قرارًا متهورًا في الاقتراب منها ضاربًا بكل ما درسه لسنوات عرض الحائط، وسائرًا خلف رغبة قلبه في تلمس تلك الوجنة الحمراء التي غزت أحلامه لأيام، وقائلًا في يأس :
-(( علياء احنا ناس كبيرة وواعية.. من فضلك خلينا نتكلم زي أي اتنين ناضجين )) ..
نظرت إلى كفه الأخر، حيث يُخفي بداخله ذلك المغلف الصغير الذي لمحته يلتقطه من فوق عتبة المنزل وتظاهرت وقتها بعدم رؤيتها فعلته، ثم هتفت تقول في حدة بعدما تراجعت بجسدها عنه :
-(( لا مش كبيرة ومش واعية ومش ناضجة.. ومحدش طلب منك من الأساس ترتبط بواحدة عقلها صغير.. زعلت عشان خبيت جوازك عنها .. ودلوقتي اختار أوضه أنام فيها لحد الصبح عشان أروح لبابا )) ..
هتف منزعجًا في حنق واضح :
-(( جوازي أييييه اللي بتكلمي عنه !! ده مكنش أكتر من خطوبة تقليدية وكتب الكتاب لأسباب لو تكرمني عليا وسمعتيها هتفهمي.. وبعدين أنا مراتي أعقل واحدة في الدنيا )) ..
تحولت نبرته إلى اللين عند النطق بجملته الأخيرة، بينما التهت هي في تفسير جمله الأولى غير منتبهة إلى تلك المسافة التي أختصرها بينهم ولا لـ يده التي ارتفعت تداعب وجنتها، ثم انزلقت تواصل تدليكها على طول الطريق حتى شفتيها التي أنفرجت في رد فعل تلقائي للمسته الناعمة، منتهزًا تلك الفرصة في استئناف حديثه هامسًا في رجاء :
-(( عالية.. )) ..
رفعت رأسها تطالعه في انبهار، متذكرة في تلك اللحظة والدها وتخصيصها بذلك الاسم، فأردف يقول مدللًا ويده تواصل طريقها نحو عنقها الممشوق :
-(( عالية الكرامة والروح.. جيداء كانت بنت خالي الأرملة.. جوزها أتوفى في حادث بعد جوازهم ب٣ شهور.. وارتبطت بيها بعد ما عدي ٤ سنين ودي كانت وصية أمي ليا.. في الوقت ده انا كنت مسافر فرنسا بعمل دراساتي العليا هناك.. وعشان الإقامة وكل التفاصيل دي كتبنا كتابنا بتوكي…….. )) ..
همهمت رافضة تستوقفه دافعة كفه بعيدًا عنها، تخشي في داخلها الإنصات إليه فيلين قلبها الخائن، لذا ركضت دون الأخذ بمشورته إلى أول غرفة وقع عليها بصرها، تختبئ بداخلها عن أعينه، مستمعة من خلف الباب المغلق إلى صوته يجيب عن هاتفه قائلًا في بساطة :
-(( أه.. وصلني زي كل يوم.. هشوف في إيه وأكلمك أوعي تنامي وخلي بالك من نفسك )) ..
شعرت بقبضة تعتصر صدرها من طلبه الأخير لمحدثته، فها هو يحاول تبرير موقفه لها، وفي نفس الوقت يتحدث إليها، تلك الأخرى التي وقفت أمامها تطالبها في حقها به، وهي الحمقاء من أوشكت على الاستماع إلى قصته بل والأسوأ، تصديقها
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية في لهيبك احترق)