رواية في لهيبك احترق الفصل الرابع عشر 14 بقلم شيماء يوسف
رواية في لهيبك احترق الجزء الرابع عشر
رواية في لهيبك احترق البارت الرابع عشر
رواية في لهيبك احترق الحلقة الرابعة عشر
يا قاتلي ولهاً ، أحييتني تيها
كلّ الأغاني سدىً ، إن لم تكن فيها
جراح حبك تذكارٌ على جسدي
إن كان لي فيك خيرٌ، لا تداويها
أمس واليوم الذى سبقه ، كان يَظُن أن هناك مؤامرة ما تُحاك ضده لجعله يخُر على ركبتيه مستسلماً أمام سطوة عينيها ، أما الأن فقد بات متيقناً أن قدره يسوقه إليها شيئاً فشئ وكأنها من المقدرات عليه منذ أزل الأزل ، ضلعه الأعوج المفقود ، حامى القلب ، والذى يأبى الأعتراف بأيجاده أو أهميته ، فتظل السماء فى الأعلى بأرسال معطياتها ، واحدة تلو الأخرى ، حتى يرفع عن جميع راياته لها متقبلاً .. منهزماً .
-(( ليس تماماً سيد طاهر ، ولكن طبقاً للوثيقة التى بين يديك ومقارنتها بتاريخ ميلاد السيدة رحمة ، فنعم ، هذا أحتمال وارد بنسبة كبيرة )) ..
كان هذا هو جواب التحرى الخاص الذى نطق به عاصفاً بأمال الاخر المتباينة مشاعره ، ما بين الفرح ، الأرتياح ، الحيرة والترقب ، وأهمهم الاستغراب ، هاتفاً بأحباط بعد وهلة من التفكير الصامت :
-(( قصدك أيه !! .. ماهو التاريخ ماشى بالظبط مع قسيمة الجواز دى !! .. عكس تاريخ الجواز التانى )) ..
صمت قليلاً يعاود الجلوس فوق مقعده ، ويقلب بين أنامله الوثيقة التى بيده ، قبل أن يستطرد مهمهاً بأستنكار :
-(( مش مصدق !! عمى أنا أنور !! متجوز على طنط كريمة !! .. والتاريخ كمان بعد ولادة جواد .. يعنى بعد جوازهم !!.. ودوناً عن الناس كلها .. تطلع أم رحمة !! حاسس أنى فى فيلم )) ..
أزدرد لعابه ثم أردف يسأل بجوع متشوقاً لمزيد من التفاصيل :
-(( أنت وصلت للوثيقة دى ازاى !! وأيه اللى لم عمى على فريدة دى !! ))..
أجابه التحرى شارحاً بترو أرضاءاً لفضوله :
-(( الأمر بسيط سيد طاهر ، بعد قليل من البحث داخل سجلات والديها كما أخبرتك من قبل ، أكتشفت أن السيدة فريدة كانت تعمل مع شقيق لها ، بأحدى دول الخليج كممرضة بمشفى الأمير ***** ، ومع الكثير من التحريات هنا وهناك والتحدث مع بعض الأصدقاء، بدء ينكشف لنا ماضِ العائلة ، وبالطبع أهم معلومة تحصلت عليها من واحدة من صديقات السيدة فريدة المقربات، هى زواجها من رجل ذو شأن والعودة بعدها إلى أرض الوطن ، بالطبع يمكنك توقع التالى ، بزيارة بسيطة إلى سفارة مصر أستطعت أستخراج وثيقة الزواج تلك ، لم يكن الأمر بتلك الصعوبة )) ..
تنهد طاهر مطولاً منصتاً بتركيز وأهتمام إلى كل ما تفوه به ماكسيم ثم همس يقول بتيه بعدما مسح فوق وجهه عدة مرات :
-(( عقلى مش قادر يستوعب اللى قلته ده .. وعشان كده لازم أتاكد من الشك اللى فى دماغى وأرتاح .. وأواجه عمى باللى عرفته )) ..
قال ماكسيم بنبرة قاطعة ينهى حالة التخبط التى أصابت مستأجره وظهرت واضحة فوق ملامحه :
-(( أمامك حل واحد سيد طاهر للتأكد من تلك الشكوك قبل أتمام المواجهة تجنباً للأنكار ، ويجب علينا البدء به فى أسرع وقت ممكن )) ..
رفع طاهر رأسه من فوق الورقة التى أمامه بعدما عاد قرأتها للمرة الخامسة قائلاً بأصرار قاطع :
-(( عندك حق .. لازم نعمل تحليل فى أسرع وقت .. وبعدها يجى وقت المواجهة .. وأنت من دلوقتى أرجع تابع قضيتنا الأساسية )) ..
*********************************
ضيق حدقتيه فوقها مندهشاً ، وهو يراها تتقدم منه بخطى متبخترة والابتسامة الواثقة تعلو ثغرها ، مرتدية حلة نسائية رسمية سوداء اللون ، وعاقصة شعرها إلى الأعلى على هيئة كعكة بسيطة ، تاركة بعضاً من خصلاته تنفلت عن قصد بحريه خلف عنقها ، ومتجاهلة بعمد هواء فبراير البارد ، المداعب غرتها ومؤخرة عنقها ذياباً وإياباً كما يحلو له ، قطب “جواد” جبينه مستنكراً بأستغراب ولازالت عيناه تتبع أثر خطاها ، أوَليست نفسها طالبة العون بالأمس أم اختلط الأمر على عقله ، حتى أن مصطلح ” الأنهيار ” ، ليس اللفظ المناسب فى وصف ما رآه البارحة ، ومن ثم ، أنى لها تلك القوة فى التبدل بين ليلة وضحاها وكأن شيئاً لم يكن !! ، أخرجه من تفكيره المضطرب ، صوتها الموجهه إليه تسأله بنبرة رنانة قوية عكس ما توقعه بعدما ألقت تحيية الصباح عليه :
-(( أيه أخبار الصب يا أستاذ جواد .. فى أمل نخلص على أخر الأسبوع ؟! )) ..
أرتفعت زواية حاجبه بالتزامن مع مثيلتها عند فمه ، قبل غمغته ببلاهة بعدما رفع ذراعه وفرك جبهته محتاراً :
-(( هو أنا مش وصلتك إمبارح بيتك برضة .. ولا كنت بحلم )) ..
أبتسمت بخفوت ثم أجابته ساخرة :
-(( لا مانا بتحول بسرعة متخافش )) ..
بادلها الأبتسام بدوره قبل أن يسألها بتردد مدفوعاً بفضوله :
-(( طب وينفع أعرف سر التحول ده .. بس بتاع إمبارح مش دلوقتى ؟! )) ..
أستدارت تقف فى مواجهته بعد أن كان جسدها موازياً له ، ثم قالت بشجاعة بعدما أخذت نفساً عميقاً تستعد به لأولى مواجهاتها :
-(( بيتهيألى واجب عليا بعد تعبك معايا إمبارح أنى أبرللك صح خصوصاً أنى نسيت اشكرك .. بس أنت عارف .. مش ده السبب اللى هيخلينى أتكلم .. أنا هقولك الحقيقة عشان المفروض أواجه الموقف وأقدر أتخطاه .. الهرب والكدب مش هيحل مشكلة حصلت )) ..
صمتت لوهلة تتجاوز غصة قلبها ، ثم زفرت بقوة وصوت مسموع ، قبل قولها بنبرة متهدجة سريعة كمن يُلقى بثقل حمله من فوق كتفيه :
-(( إمبارح يا سيدى إكتشفت أن جوزى العزيز طلع متجوز عليا .. والمدام الجديدة كمان حامل )) ..
أردفت مصححة بتهكم واضح بعدما رأت الصدمة تغلف نظراته :
-(( قصدى طليقى .. مانا برضة أطلقت إمبارح )) ..
أنهت جملتها بأبتسامة واسعة تخفى خلفها حزنها الدفين ، بينما رمش جواد بجفنيه عدة مرات بصدمة قبل أن يمد ذراعه موجهاً كفه المفرود نحوها ، تطلعت غفران عدة ثوانِ إلى يده الممدودة أمامها بأستغراب ، ثم بسطت كفها هى الأخرى على مضض تبادله التحية ، فى حين انتظر هو حتى ألتهم كفه الكبير ، خاصتها الأصغر حجماً ، ثم هزه بقوة صعوداً وهبوطاً قائلاً بسخرية مريرة :
-(( أهلاً بيكى فى عالم المغدورين )) ..
رفعت رأسها لأعلى كى تُتاح لها رؤية أفضل تستطيع من خلالها تفرس ملامحه بحسها البوليسى لأستبيان مقصده ، مقاطعاً تفحصها رنين هاتفها معلناً عن أتصال جديد من قبل صديقتها ، أجابت غفران بخفة بعد رؤيتها هوية المتصل ، توارى حزنها خلف مزاحها المستمر:
-(( خلاص والله هجيلك .. مادام وعدتك هنفذ .. أخلص بس المشوار اللى أنا فيه .. وربنا يقدرنى على طريقك البعيد ده )) ..
ردت رحمة متلهفة :
-(( متتأخريش عليا بالله عليكى .. كفاية أنى من إمبارح مش عارفة أشوفك بسبب أستاذ رمادى ده ومزاجه اللى شبهه )) ..
صمتت لوهلة ثم أستطردت معاتبة بأحباط :
-(( حتى أنتى مش عايزة تريحينى وتحكيلى أيه اللى حصلك .. وسايبانى بقلقى وضميرى اللى واجعنى من إمبارح ده عشان معرفتش أجيلك )) ..
أجابتها غفران متفهمة بحب :
-(( يا بنتى خلاص مش مستاهلة .. مانتى كلمتينى بليل وشرحتيلى .. وكمان كان لازم أتوقع أنه حابسك وأستحاله يسمحلك تخرجى لوحدك يمكن تهربى .. فأكيد مش هزعل منك )) ..
هتفت رحمة بضيق :
-(( بس برضة كان لازم مسمعش كلامه وأجيلك .. أنا غلطانة )) ..
زفرت غفران معبرة عن نفاذ صبرها ، ثم قالت بتأفف ناهية الحديث :
-(( لا بقولك أيه لو جيت وفضلتى على أسطوانه أنا غلطانة وكنت لازم أجيلك دى همشى وأسيبك .. يلا أنا هتحرك مسافة الطريق وإن شاء الله هكون عندك )) ..
ودعتها رحمة على أمل اللقاء القريب . ثم عادت إلى عملهم المشترك تباشره بشغف وحماسة ، وبعد فترة من المتابعة والنقاش والأطمئنان على سير العمل ، هتفت وسط صخب العمال مستأذنة فى الرحيل :
-(( طب عن أذنك يا أستاذ جواد مضطرة أمشى .. كان نفسى أقعد أكتر من كدة .. بس لسه هضرب مشوار محترم لبرج العرب رايح جاى )) ..
قال جواد معقباً بعدما إشار إليها بكفه كى تتقدمه فى السير مبتعداً بها عن ضجيج البناء والعاملين :
-(( بيتهيألى كلمة أستاذ مش لايقة بعد إمبارح وأسرار النهاردة .. وبعدين أنا كدة كدة طالع برج العرب .. تعالى أوصلك فى طريقى لو المكان قريب )) ..
مطت غفران شفتيها للأمام ثم أجابته مفكرة على مضض :
-(( بصراحة أعتقد اه أن المكان قريب .. أنا رايحة عند رحمة )) ..
هتف بحماسة بمجرد الأستماع إلى أسمها يُلفظ أمامه :
-(( ده كدة مش بس قريب .. ده لازق .. يلا أركبى وهوصلك )) ..
قاطعته غفران معترضة بحرج :
-(( لا مفيش داعى أتعب حضرتك .. أنا هتصرف )) ..
رد قائلاً بأصرار :
-(( مفيش تعب .. أنا بيتى تقريباً جنب بيت طاهر .. ومعتقدش العربية هتشتكى من حمولتك معايا بوزنك ده .. فأتفضلى أركبى )) ..
كانت على علم مسبق بتلك المعلومة ، والتى أخبرتها بها رحمة فى أحدى محادثاتهم الهاتفية الغير منتهية ، لذلك صعدت السيارة راضخة لأرداته ثم تمتمت مازحة :
-(( كدة ليك فى رقبتى توصلتين .. خليك فاكر )) ..
رد جواد معقباً بسخرية :
-(( خليهم يمكن أحتاجك فى مصيبة تدافعى عنى .. مادام أنتى محامية شاطرة كدة )) ..
أومأت برأسها موافقة ، قبل أن ينطلق هو فى طريقهم والذى لم يخلو من الحديث والمزاح عكس لقائاتهم السابقة .
*********************************
بعد ساعتين من الترقب المستمر ، والتنقل من الشرفة إلى باب المنزل ومن باب المنزل إلى الشرفة تكاد تموت يأساً لمعرفة ما الذى حل بها البارحة ، هتفت رحمة بأرتياح بعد رؤيتها لصديقتها تسير داخل ممر الأستقبال متوجهه نحوها :
-(( أخيرااااً وصلتى !!.. أتأخرتى كدة ليه ؟! )) ..
أجابتها غفران بأمتعاض بعدما أحتضنتها بقوة مرحبة :
-(( على أساس أنك ساكنة فى نص البلد يعنى !! .. يابنتى أحمدى ربنا أن جواد كان مروح وعرض يوصلنى فى طريقه )) ..
سارعت رحمة تقول مشاكسة :
-(( أوبااااا .. بنقول جواد .. وحاف كدة .. من غير أستاذ ولا باشمهندس .. ووصلك كمان !! .. لا واضح أننا رضينا عنه خلاص .. فينك يا بدر تيجى تشوف مراتك )) ..
تبدلت ملامح غفران فى الحال بمجرد سماعها أسمه ، فأستطردت رحمة تسألها بقلق بعدما لمحت الدموع تغزو مقلتيها:
-(( مالك فى أيه ؟! )) ..
ضغطت غفران فوق شفتيها بقوة ، مانعة عبراتها من الأنهمار فى منتصف البهو ، ثم أجابتها بنبرة خافتة متحشرجة :
-(( تعالى نقعد فى مكان واحكيلك )) ..
قادتها رحمة على الفور إلى حيث غرفتها الخاصة ثم عادت تسألها بلهفة بعدما اغلقت الباب خلفهم ، وجلست تتأملها بحزن شاعرة بوجود خطب ما جلل :
-(( أنتى روحتى لحماتك صح ؟! )) ..
أومأت رأسها موافقة بوهن ، ثم بدءت تقص عليها كل ما حدث ، منذ حادثة الطريق فى بداية النهار ، إلى أخر يومها وانتهاءه بالانفصال ، مروراً بكل ما عايشته من أحداث ، ألم ، وطعنة غدر، لم تغفل عن تفصيلة واحدة ، وعلى عكس توقعها شعرت بشئ من الراحة بعدما اخرجت ما فى جوفها لصديقتها الوحيدة ، بينما أستمعت رحمة بأنصات إلى كل جملة نطقت بها ، مشاركة بدموعها قبل وجدانها معاناة صديقتها المقربة ، أصغت بقلبها قبل أذنها إلى أنينها الصامت ، فالصداقة الحقيقة لا تقاس بالسنوات ، ولا تحتاج إلى الألفاظ أو العبارات.
ومع بداية أنسحاب القرص البرتقالى من السماء ، مفسحاً المجال إلى مثيله فضى اللون كى يتوسطها ويزينها ، أعتدلت غفران فى وقفتها تنتوى الرحيل ، بعدما قضت عدة ساعات برفقة رحمة ، تبادلا خلالها جميع الأخبار والأحاديث ، فسارعت رحمة تقف هى الأخرى فى مقابلتها ، قبل أن تقول معترضة بقوة بعدما ألقت نظرة سريعة على السماء من فوقهم :
-(( تروحى فين بتهزرى !! .. أخاف عليكى تمشى بليل لوحدك كدة .. أنتى يادوب على ما تطلعى أول الطريق هتكون الدنيا ضلمت )) ..
قالت غفران ممتعضة بحسم :
-(( لا مانا أستحالة أبات معاكى هنا .. فى بيته .. هطلب أوبر وأروح متخافيش )) ..
رمقتها الأخرى بنظرة معاتبة ، ثم هتفت مصححة بنزق :
-(( على فكرة مش هياكلك يعنى )) ..
فرغ فاه غفران بأندهاش ، حيث باغتتها بتعليقها الحاد على حين غرة ، ثم همست تسألها بأرتياب بعدما تجاوزت صدمتها ، وعينيها تراقب ردات فعلها بتركيز تام :
-(( أنتى بتدافعى عنه ؟! )) ..
حركت رحمة رأسها بقوة عدة مرات نافية التهمة عن نفسها ، فأردفت غفران تقول مؤكدة :
-(( لا أنتى دافعتى عنه متنكريش !!!! .. أنتى أيه حكايتك بالظبط .. أوعى تكونـــى )) ..
تركت جملتها ناقصة عن قصد ، فى حين سارعت رحمة تنفى بأرتباك مبررة :
-(( والله أبداً .. وبعدين بعد كل اللى حكتهولك من شوية ده .. طبيعى يعنى يصعب عليا .. مش أكتر )) ..
أستأنفت غفران تأملها بصمت دون تعقيب ، مما جعل الاخرى تفر من الغرفة هاربة بعدما تمتمت بخفوت :
-(( سيبك من أوبر .. هروح أشوف ماما فادية لو ينفع تطلب السواق يوصلك )) ..
***********************************
وفى الأسفل بعدما جالت بعينها أركان المطبخ بحثاً عن مبتغاها حتى رأتها قادمة من الخارج عابرة الباب الخلفى ، همست وقتها تسأل على أستحياء برقتها المعتادة :
-(( ماما فادية .. أنا بشوف برة عربية تانية واقفة .. ينفع حد منهم يوصل غفران صاحبتى بدل ما تروح مع حد غريب فى الوقت ده )) ..
هتفت مدبرة المنزل معاتبة بضيق :
-(( يادى العيبة يا ست رحمة .. يعنى أنتى تنزلى بنفسك عشان تستأذنيني وكل حاجة هنا فى البيت تحت أمرك )) ..
غمغمت رحمة معترضة بتردد :
-(( بـــس……. )) ..
قاطعتها أم الحسن بحزم :
-(( مفيش بس .. اللى يعجبك أعمليه .. بس بيتهيألى برضة ناخد إذن طاهر بيه من باب الأحترام مش أكتر مع أنى متأكدة عمره ما هيقول لأ )) ..
فركت رحمة كفيها معاً بتوتر ثم أقترحت هاربة :
-(( خلاص أطلبيه وأعرضى عليه )) ..
لوت مدبرة المنزل فمها غير مستساغة الفكرة ، قبل أن تقول مستنكرة :
-(( أنا أتصل بيه .. عشان أقوله ست البيت عايزة تطلب منك حاجة .. لاه متجيش )) ..
تنهدت رحمة بأحباط ثم سألتها بضيق :
-(( طب أيه الحل دلوقتى ؟! )) ..
أجابتها مشجعة :
-(( الحل أنك تتصلى بيه وتقوليله كل اللى أنتى عايزاه )) ..
سارعت تنفى متحججة بعدما ازدردت لعابها بقوة :
-(( لا مش هينفع .. أصل معييش رقمه )) ..
نظرت مدبرة المنزل إلى الهاتف بيدها ثم هتفت مستفسرة بتهكم :
-(( واللى فى إيديك ده أيه ؟! )) ..
أخفضت رحمة عينيها تنظر إلى الهاتف داخل كفها قبل قولها بتلقائية :
-(( تليفون )) ..
عقبت أم الحسن ساخرة :
-(( ولما هو تليفون .. ما تاخدى الرقم وتكلميه )) ..
نظرت إلى الفراغ ولم تعقب تبغى الأنسحاب بعد ألغاء الفكرة كاملة من رأسها ، مما دفع أم الحسن إلى الأنحناء بجذعها ، وسحب الهاتف من يديها وتسجيل الرقم ثم الضغط على زر الأتصال ووضعه أمام وجهها كأمر واقع .
وعلى الجانب الأخر ، وتحديداً داخل غرفة الأجتماعات ، جلس منقسم إلى ثلاث ، جسده يقبع بأريحية فوق المقعد الجلدى المريح يتابع بأعين فارغة ما يدور حوله من مناقشاتٍ ، بينما عقله على بعد أمتار منه ، حيث نسخة الوثيقة المخبأة داخل خزانة غرفته الخاصة ، أما عن قلبه ، وآه من ذلك المتمرد ، فهو لم يتزعزع من الغرفة منذ الصباح ، بل ظل هناك قابعاً جوارها ، مترقباً ، نظرة ، إبتسامة ، همسة حانية تخبره أن لازال فى الحياة شئ يستحق النبض من أجله ، فمجرد شعوره بها يصيبه بقوة لا تُقهر ، وكأنها قادرة على تضميد جراحه ، بمسحة واحدة من يدها فوقه ، فلا خدوش ، ولا جروح ، أو قروح ، يمكنها مداهمته ، مادامت أناملها ساهرة ، تحرص على شفاءه وتعيد ملئ تشققاته ، ومع الرنين الثانى المتواصل لهاتفه والصادح داخل غرفة الأجتماعات بأكملها أندفع يجيب بنفاذ صبر ، مستمعاً إلى الطالب المجهول يهمس بنعومة بالغة :
-(( ألو .. سلام عليكم )) ..
منذ أشهر مضت ، لو أخبره شخص ما أنه فى المستقبل القريب ، سيستطيع تميز صوت أنثى من خلال ثلاثه أحرف بسيطة ، لكان أتهمه بالجنون وطرده من محيطه ، أما الأن ، وهو بكامل قواه العقلية كل ما أستطاع فعله بعد التعرف على هويتها ، هو أغماض عينيه متلذذاً بصوتها وهو يعزف على أوتار روحه :
-(( أنا رحمة .. أسفة لو أزعجتك بس كان عندى طلب )) ..
“تحدثى ، أطلبى ، وتدللى يا صاحبة الصوت العذب” ، كم طاق للنطق بتلك الكلمات البسيطة التى ظلت حبيسة تائهة ، تجيش داخل صدره ، مع الكثير من عبارات الغزل والتى يتمنى لو يغدقها بها وهو يحاصر جسدها بين ذراعيه، وبدلاً عن ذلك صمت يتشرب أسمه الذى لحنته شفتيها ، محلقة به بعيداً إلى عالم من الخيال :
-(( ألو .. طاهر .. أنت سامعنى ؟! )) ..
همست وهمس من بعدها مع النداء الثانى بعدما تنحنح عدة مرات منقياً صوته المتحشرج :
-(( معاكى )) ..
كانت تلك أصدق عباراته التى نطقها منذ زمن مضى ، فهو حقاً معها ، حتى من قبل تواصلهم ، معانقاً همسها ، صمتها ، وتذبذبها عندما قالت مترددة بحرج :
-(( ممكن لو ينفع .. حد يوصل صاحبتى الأبراهيمية .. مش هرتاح لو ركبت مع حد غريب )) ..
أبتسم ببطء ، رغم الشعور المباغت الذى ضرب جانب صدره ، حقداً وغيرة من أهتمامها ، الأ انه أجاب بهدوء :
-(( هكلم حد منهم يستناها وقت ما تحب )) ..
زفرت بأرتياح ثم غمغمت شاكرة بنبرة ناعمة مخملية :
-(( شكراً أوى .. شكراً أنك ريحتنى )) ..
كلمات بسيطة المعنى ، قوية التأثير ، تطيح برزانته وتجعله يتمنى لو يركض مسرعاً ، قاطعاً الأميال الفاصلة بينهم ، وقضاء باقى ساعات ليله بصحبتها ، وقد أستجابت السماء لندائه الخفى محققة أمنيته ، عندما دلفت مديرة مكتبه تخبره بضيق :
-(( طاهر بيه .. فى إيميل وصلنا تانى بالصينى .. واضح أن الشركة لسه محلتش مشكلة المترجم )) ..
قبل أستئناف شرحها ، كانت كفه تسبقه إلى حيث ذراعها ، يسحب الملف من بين يديها ، آمراً الجميع بالأنصراف معلناً عن أنتهاء مشاورتهم لليوم ، ومن ثم كان هو أول المهرولين خارج الشركة .
**********************************
وفى المساء دلف المنزل متسلقاً الدرج بلهفة ، حيث وجهته الواضحة ، وكل ما يأمله ، هو تمتع عينيه برؤية شلالها الفحمى ، متنهداً بحرارة ، ومتذكراً ملمسه الناعم أسفل يده ووجنته تلك الليلة ، ثم همسها أسمه ، مرة بعد مرة ، شاعراً بها تتغلغل داخل مسامه وأسفل جلده ، وتسير بحرية داخل أوردته ، حتى وصلت إلى مضغته ، مباغتة ضلعه الحامى ، ومتربعة وسط صدره ، تأسره بعينيها تارة ، وتحاصره بنبرتها تارة ، وتكبله بلمستها تارةً أخرى ، تجذبه ، بأقل حركة منها ، دون مجهود يُذكر ، وكأنها متمرسة فى فنون الأغواء ، رغم براءة ملامحها ونظرتها ، وكل ما يملكه هو ، الغوص فى تفاصيلها ، مرة بعد مرة ، والغرق فى ملامحها ، دون الجرأة على وضع مسمى واضح لمشاعره التى تزداد مع مرور الساعات وليست الأيام ، حتى أضحت جزء هام من حياته ، بل أصبحت محور حياته ، يدور حول فلكها ، فى صحوته وغفوته ، حلمه وواقعه ، غضبه ورضاه ، دلف داخل حجرته ، ومنها إلى غرفته السابقة ، يطلب الأذن فى الدخول ، وكل ذرة فى جسده متحفزة لرؤيتها ، حتى تهادى إليه صوتها تغمغم بخفوت :
-(( اتفضل )) ..
سحب نفساً عميقاً ، يعيد به بسط رئتيه المنقبضتان ، معانقاً بنظراته جسدها أكمله ، من أخمص قدميها المتشابكة معاً فوق مضجعها ، وصولاً إلى تميمته ، المنسدلة بأريحية على جبهتها وكتفيها ، يطالعه بأشتياق ، ولم يشعر بخطواته الهائمة ، سوى وهى تقف أمامها بجوار الفراش قبل أن يقول معللاً بعد أنتباهه لنظراتها المستنكرة :
-(( فى نص أتبعت من الشركة تانى .. محتاج مساعدتك فى ترجمته )) ..
أجابته موافقة بترحاب :
-(( مفيش مشكلة أترجمه شفوى )) ..
صمتت لوهلة ترفع كفها المضمد أمام وجهه ثم أردفت تقول بعجز :
-(( بس مش هقدر أكتبه عشان أيدى )) ..
أومأ برأسه متفهماً هو الأخر ، ثم أنسحب من أمامها عدة لحظات ، قبل معاودته الظهور من جديد حاملاً الجهاز اللوحى بين يديه ، ولدهشتها تفاجئت به يجلس فوق الفراش ملتصقاً بها ، ثم قام بوضع الجهاز ، فوق فخذها ، متمتماً ببساطة بعدما قطع المسافة القليلة الباقية بينهم :
-(( مفيش مشكلة .. أنتى ترجمى .. وأنا هكتب بالقلم )) ..
رمشت بعينها عدة مرات ، ثم أزدردت لعابها بقوة ، تحاول الأبتعاد عن أنفاسه الساخنة اللافحة شطر وجهها ، والتركيز على مهمتها الشبهه مستحيلة ، خاصةً وجسده يحتك بجانب جسدها مع كل حركة بسيطة يقوم بها ، غير قادرة على النطق بحرف واحد مما تقرأه ، فعينيها تمر على الكلمات أمامها ، بينما عقلها منشغلاً به ، وبيده المستلقية بأريحية شديدة بجوار الجهاز اللوحى ، وبالتالى فوق فخذها ، وبعد عدة محاولات فاشلة ، أستطاعت ترجمة السطر الأول من البريد الألكترونى ، قبل أن تتسع عينيها بعدم تصديق ، وهى ترى أنامله تتلمس بنعومة شديدة بشرة وجهها ، بداية من وجنتها وأنفها ، وصولاً إلى جبهتها ، يزيح بعضاً من خصلاتها المنسدلة ، ثم أنزلاقه ببطء شديد إلى حيث عنقها يمسد فى طريقه بأنامل خبيرة بشرتها الناعمة بتلكؤ مثير ، قبل أبعاده شعرها إلى الجانب الأخر وهو يقول مبرراً وهامساً جوار أذنها :
-(( كدة أحسن )) ..
أنفرج ثغرها وأرتجفت شفتها السفلية بشدة ، فأردف مصححاً ، ومزيداً من توترها البكر :
-(( عشان أعرف أركز )) ..
قفزت من فوق الفراش منتصبة فى جلستها ، كالذى لدغته حية ، قبل هرولتها نحو الخارج مبتعدة عنه ، تحاول سحب وأدخال الهواء عنوة داخل صدرها ، متجاوزه نوبة صدرية جديدة ، هددت بالكشف عن مدى تأثرها بلمسته .
*********************************
بعد مرور أسبوع ..
وقف أمام مرآته يتفحص بذلته الجديدة بأهتمام ويتأكد من مظهره للمرة الأخيرة قبل ذهابه ، مقاطعاً تأمله ، رنين هاتفه فى أتصال ملح من مساعده ، جعله ينحنى بجذعه نحو الفراش يلتقط هاتفه أولاً ثم يقول بهدوء :
-(( نص ساعة بالكتير وأتحرك .. قابلنى فى الشركة عشان عايزك )) ..
هتف كريم يجيبه بنفاقه المعتاد :
-(( أنت تؤمرنى يا باشا البشوات كلها .. وقت ما توصل الشركة هتلاقينى واقف مستنيك على الباب كمان )) ..
تأفف رائف محركاً بؤبؤ عينيه بملل قبل هتافه بنفاذ صبر :
-(( أخلص يا كريم مش فاضيلك .. وقولى كنت بتتصل عشان حاجة ولا فاضى !! )) ..
أجابه مساعده لائماً ومدعياً الحزن :
-(( كدة برضه يا رائف باشا !! .. أنا عمرى بتصل على مفيش !! .. الحق عليا وأنا اللى كنت عايز أقولك خلصت معاها الشغل القديم وبدئنا فى الجديد زى ما حضرتك وصيتنى ))
تنبه رائف بكل حواسه إلى حديث مساعده ثم هتف يسأله بلهفة :
-(( مين .. رحمة ؟! )) ..
أجابه مؤكداً :
-(( ومين غيرها يا باشا .. شوف بقى عايز تقابلها أمتى .. أنا كدة عملت اللى عليا ووصلتهالك .. والباقى عليك )) ..
همس رائف بأشتياق من بعده :
-(( دورك لحد كدة أنتهى .. سيبنى بقى أقابلها بمعرفتى وقت ما أحب )) ..
هتفت من خلفه تسأله بعدما كانت واقفة تتلصص على حديثه وتستمع إلى ترتيباته :
-(( هى مين دى يا رائف بيه اللى عايز تقابلها )) ..
أستدار بجسده يطالعها بأزدراء ولم يعقب ، وبدلاً من ذلك سحب حقيبة أوراقه الهامة وسار بلا مبالاة نحو باب الخروج دون أعارتها أى أنتباه أو أهمية ، الأمر الذى أثار حنقها وجعلها تهرول من خلفه لاحقة بخطواته وصائحة بتهديد صريح :
-(( مش عايز ترد عليا براحتك .. بس خليك عارف .. مش بعد كل الذل والبهدلة دى هتيجى واحدة تشاركنى فيك .. وقتها .. هتشوف رنا تانية متعرفهاش ولا تتمنى تعرفها أنت والحلوة اللى بقالك أسبوعين بتلف وراها .. ماشى !! .. محدش هيستحمل شذ…….. )) ..
قطع حديثها يده التى قبضت على عنقها بقوة وعنف مما جعلها تسعل عدة مرات وهى تضرب بكفها ذراعه يائسة ، تحاول الافلات من قبضته وتحرير عنقها ، بينما همس هو محذراً بنبرة ناعمة ولكن حادة كالسيف :
-(( لسانك ده مينطقش بدل ما أسكته بطريقتى .. ولو على بهدلتك فأنتى واخدة حقك قصاده تالت ومتلت .. غير كدة ملكيش .. ولو عقلك شاورلك تلعبى بديلك من ورايا .. ساعتها أنتى اللى هتشوفى رائف تانى .. وصدقينى لما أقولك انك لسه مشفتيش حاجة وحشة منى )) ..
سعلت بحدة بعدما دفعها بأشمئزاز نافضاً يده من فوق حلقها ثم أنصرف تاركها خلفه تزداد أصراراً وتوعداً لمعرفة ما يحيكه من خلف ظهرها .
**********************************
أرتمت فوق الفراش تريح جسدها المنهك بعدما وضعت السماعات اللاسلكية داخل أذنها ثم هتفت تقول بأرهاق واضح :
-(( النهاردة يوم متعب أوى .. الأسانسير بتاع العمارة كان عطلان .. وطلعت التاسع على رجلى ونزلت ٣ مرات عشان طلبات الصنايعية .. غير أنى فضلت واقفة معاهم لحد ما خلصوا شغل .. وبعدها روحت الشركة لجواد .. وبعد ما خلصنا شغل سوا .. خرجنا لينة شوية ويادوب لسه راجعة .. بس بجد ضهرى وجعنى وهموت وأكل )) ..
هتف ساخراً من جهدها :
-(( يا سلام !! .. وهو اللى عملتيه ده يتعب !! .. ولا عشان متعودة على قاعدة البيت شوية مجهود خلوكى تشتكى .. أسكتى أسكتى .. أومال لو شغالة فى الحر زيى كنتى عملتى أيه .. أيه المشكلة لما تطلعى شقتنا كذا مرة !! بطلى دلع يا علياء وأعملى حاجة مفيدة )) ..
أغتاظت من أستخفافه بحديثها فأندفعت تهاجمه بنبرة محتدة :
-(( على فكرة أنا عارفة أنى معملتش حاجة مهمة قدام أنجازاتك العظيمة فى أنك بتشتغل كل يوم فى بلد درجة حرارتها معدية الأربعين عشان خاطرى طبعاً .. وعشان نتلم فى بيت واحد .. اللى هو بالمناسبة بيتك مش بيتى .. بس كل الحكاية أنى حبيت لأول مرة أشاركك تفاصيل يومى .. ومكنتش مستنية منك أكتر من كلمة واحدة تجبر بيها خاطرى زى مانا بعمل معاك يا محمد .. أو على الأقل أسمعنى ومتعلقش )) ..
زفرت بضيق تسيطر على أنفعالاتها ثم أستطردت معاتبة :
-(( مفتكرش فى مرة واحدة .. جيت قلتلى تعبان وطلع منى تعليق غير معلش وربنا يقويك أو يعينك .. عارف ليه .. عشان ده واجب الشركا على بعض .. زى ما ربنا قال ” مودة ورحمة ” .. مش أستهزاء وتقليل من مجهود شريكك حتى ولو بسيط !! )) ..
أستمع إلى عتابها كاملاً ثم هتف مدافعاً عن خطأه وملطفاً الأجواء :
-(( حبيبتى أنتى زعلتى ؟! .. أنا مكنش قصدى .. متزعليش لو ضايقتك بس كنت بهزر معاكى )) ..
أجابته كاذبة بأحباط :
-(( لا مزعلتش عادى .. كنت بفهمك بس .. عمتاً ماما بتنادى عليا هشوفها محتاجة أيه وأتعشى وأبقى أكلمك لو فضيت )) ..
وفى الأسفل بعدما أنتهت من الاغتسال وتبديل ثيابها ، صاحت هاتفة بلوعة إلى والدتها الجالسة تلهو مع حفيدتها :
-(( يا مامــااااا انا جعانة .. معقول كل ده الاكل مخلصش )) ..
أجابتها السيدة كريمة بهدوئها المعتاد بعد أستماع كلتاهما إلى رنين جرس الباب :
-(( خلاص يا عاليا قربنا .. هروح أشوف العشا لو خلص وأجيب بابا من أوضته وأنتى أفتحى الباب شوفى مين بدل ما أم السعد تيجى من المطبخ )) ..
غمغمت موافقة ثم سارت على الفور تلبى طلب والدتها وتفتح باب المنزل بغير أهتمام ، قبل أن يفرغ فاهها ببلاهة مضحكة ، وهى تراه واقف أمامها ينظر إليها بجمود ملامحه وغطرسته المعتادة ، فقطبت علياء جبينها بأستنكار ثم هتفت بأندهاش :
-(( دكتور يحيى ؟! )) ..
وقف بجسده المتصلب أمامها ، بينما داخله يرقص طرباً لسماع أسمه من بين شفتيها ، وبجهد غير مسبوق ، حاول السيطرة على خفقات قلبه المتزايدة ثم أجابها بنبرة خالية مبرراً تواجده :
-(( جواد أتواصل معايا وأتفقنا سوا نكمل جلسات لينة فى البيت .. هو عنده علم بوجودى دلوقتى )) ..
هزت رأسها موافقة عدة مرات وقد أدركت أنها إلى الأن تقف أمام الباب ، تسد طريق الدخول ، فسارعت ترحب به بأبتسامة مقتضبة وملامح جامدة ، بعدما زاحت جسدها من أمام المدخل :
-(( أه أتفضل .. أسفة على قلة ذوقى )) ..
سألها والدها من الخلف بفضول :
-(( مين يا علياء )) ..
أستدارت برأسها تنظر إلى والدها ثم أجابته صائحة بصخبها المنزلى المعتاد :
-(( ده دكتور يحيى يا بابا .. واضح أن ميعادنا معاه النهاردة )) ..
التفت تطالعه مرة أخرى مغمغمة بنبرة متهكمة ، ومتعمدة وصولها إلى مسامعه :
-(( بعد ما أتفق مع جـــواد )) ..
ضغطت على حروف كلمتها الاخيرة مطولاً بنبرة ذات مغزى ، بينما عينيها تحدجه بنظرة غاضبة مشتعلة ، فى حين وقف يحيى يطالعها هو الأخر مأسوراً بسهام بندقيتها اللامعتين بغضب غير مفهوم ، ومحدقاً بها بحسرة ، ورغم براعته فى أخفاء مشاعره ، لم يقوى على أزاحه عينيه عنها ، بل ظل ساكناً ، يحدق بها فى صمت ويبادلها نظرتها المتحدية ، بأخرى متمنية ، حتى قاطعهم صوت والدها يرحب به بحفاوة :
-(( أهلاً يا دكتور يحيى .. جواد بلغنى بميعادك .. اتفضل نورتنا )) ..
كان هو أول من جذب عينيه من خاصتها ، مقاطعاً تواصلهم الحسى ، الذى دام ربما عدة دقائق ، ثم تجاوزها بخطاه ، مردداً تحية والدها بعدما أرتفعت زواية فمه بربع أبتسامة مغترة ، جعلتها تلعنه بخفوت ، مغتاظة من عجرفته الزائدة .
**********************************
قطعت غرفتها ذهاباً وإياباً عدة مرات بقلق ، بعدما ألقت نظرة خاطفة على الخارج من خلال الشرفة متأففة ، ثم عادت للداخل ورفعت ذراعها تنظر فى ساعة يدها ، فقد تجاوز الوقت منتصف الليل تقريباً ولم يظهر له أثر حتى الأن ، منذ راسلها فى الصباح ، بعد أستيقاظها باكراً ولم تجده ، برسالة نصية مختصرة ، يعتذر فيها عن عدم قدرته فى الذهاب معها إلى أستشارتها الطبية ، بسبب وقوع حادثه بسيطة داخل أحدى مواقع الأنشاءات الخاصة بالشركة أضطرته إلى الذهاب باكراً ، زفرت بضيق ، وقد قررت الهبوط إلى الأسفل ، متجاهلة عن عمد أجابة ذلك الصوت الخافت بداخلها ، والذى لا ينفك يسألها عن سبب أهتمامها به ، وفى منتصف الدرج ، حيث كانت تهبطه بتردد ، لمحته عيناها يعبر باب المنزل بتكاسل وخطى متلكئة ، قبل أن يجذب عينيه جسدها المنتصب فى منتصف الدرج ، تطالعه بأرتباك ، محاولة التوصل لقرار ، هل تواصل طريقها إلى الأسفل ، أم تنسحب متقهقرة إلى الاعلى مرةً أخرى ، وقبل أتخاذها الخطوة ، كان يقف هو أمامها بجسده قاطعاً الطريق عليها ، بعدما تسلق الدرج قافزاً بلهفة كل ثلاث درجات معاً ، يتوق الوصول إليها ، ثم سألها بخبث ، بعدما ضيق المسافة بين جسديهما ملتصقاً بها :
-((كنتى رايحة فين ؟! )) ..
أجابته هامسة بتعلثم واضح بينما تحاول الهرب من أمامه :
-(( كــكــنت .. نــازلـلــة .. تحت )) ..
باغتها فى حركة مفاجئة يدفع جسدها للخلف مانعاً هروبها ، قبل محاصرته له بين ذراعيه وحائط الدرج من خلفها ، قابضاً بكلتا كفيه على طرابزون الدرج ، يراقبها وعينيها تزداد أتساعاً ، بينما تبتلع لعابها بصعوبة ، ثم عاد يسألها بهمس ناعم كالحرير :
-(( عملتى أيه فى المستشفى النهاردة )) ..
اللعنة هل سيتبادلا أطراف الحديث الأن وهما بتلك الوضعية ! ، هذا ما فكرت بتوجس قبل غمغمتها بخفوت :
-(( ولا.. ولا حاجة .. الدكتورة الجديدة فكتلى الرباط وقالتلى كدة كويسة )) ..
أخفض عينيه حيث يدها ، يتأملها مطولاً ، قبل تسلل كفه نحوها ، يرفعها إلى حيث وجهه ، مستأنفاً دراسة كل ما يصدر منها ، رعشه شفتيها ، رمش أهدابها ، أرتفاع وتيرة أنفاسها ، وأخيراً أنفراجة ثغرها ، ثم قام بطبع قبلة ناعمة بباطن كفها وظاهره ، فأطبقت رحمة جفنيها بقوة ، هاربة من حدقتيه التى تخترق دفاعاتها ، وصدرها يعلو ويهبط من فرط الأنفعال ، مع أقتراب أنفاسه منها بمرور الوقت ، ثم اجتياحه فمها ، فى قبلة طويلة خبيرة ، متطلبة ، تجاوبت مع أجتياحه لها بالكامل رغم خبرتها المعدومة ، فيكفيه أستسلامها له ، حتى يتعمق بها كيفما يشاء ، وينفذ كل ما تتوق له نفسه ، منذ الصباح عندما تسلل إلى غرفتها يتأملها وهى نائمة دون وعى منها ، بل منذ همست أسمه من بين شفتيها .
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية في لهيبك احترق)