روايات

رواية في لهيبك احترق الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم شيماء يوسف

رواية في لهيبك احترق الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم شيماء يوسف

رواية في لهيبك احترق الجزء الخامس والعشرون

رواية في لهيبك احترق البارت الخامس والعشرون

في لهيبك احترق
في لهيبك احترق

رواية في لهيبك احترق الحلقة الخامسة والعشرون

أحـــــــــبك أيكـــــفي وحــده الْحَبّ
ذَاك المــــــــــنير غــــــياهب الْقَلْب
إذَا حَضَرَتْ كــــزلزال بروحي دَبّ
و كــــعاصف بِأَطْرَاف وِجْدَانِيٌّ هَب
و أهــــــاتي التـــــي ألــــــهبت لَيْلِي
حــــــــريق بـــأنفــــــــــاسي شـــب
أحــــــــــبـــــك أيكفي وحـــده الْحَبّ
أَم ترهــقه ليلــــي الصَّدّ و الصـــب
و تـــــــــــــضيعه خــــطى الدَّرْب
و يغـــــــتاله كـــــــبريائنا الطَّاغِي
قلــــــوبنا تستشهد فـــــي الحــــب
و تــــقتل الأقــــــــدار بكرى آمَالِنَا
و نــــــصير بَعْدَ كُلِّ الْحَبّ غَرَّب
و تضـــــــاف أســـــماءنا بِالْأَسْوَد
لقــائمة حـــــزانى الرَّوْحَ وَ الْقَلْب
ونســتجدي النســـــيان عطـــــــفا
و يَصِيح الْمُعَذَّب رحماك يـــا رَبّ
أُحِبُّك لكــــــن أيكفي وَحْدَه الْحَبّ
-سليم الخطابي ..
يقال بأن رزق الأنسان مكتوب منذ لحظة ولادته ، أو ربما من قبل ذلك ، منذ وضع كنطفة فى رحم أمه ، ومكتوب أيضاً كل ما سيحدث له ، من خير أو شر صنعته يداه ، حتى شقاءه وتعاسته ، كُلاً مدون فى كتاب محفوظ ، ورغم أختلاف الديانات والمعتقدات ، وتراشق العلماء وتضاد النظريات ، طلت علينا أحدى دراسات الفيزياء الكمية ، لتثبت للعاقل مما لا يدع مجالاَ للشك أن الأنسان فى حالته الأساسية مسيّر ومخيّر “بتشديد الياء “، على حد سواء ، داعمة بذلك الفلسفة الدينية ، فالأنسان لا يستطيع التحكم فى قدره وما يحدث من مواقف تصير من حوله (مسيّر) ، ولكن بكل تأكيد تفاعله مع تلك المواقف وطريقة تعاطيه معها هو ما يُخرج المعادلة بشكلها الأخير (مُخيّر) ، فالعاقل لا يستطيع منع الكارثة ، ولكن بأختياره يمكنه السير إليها أو تفاديها ، وهى من جنت على نفسها بكل ذلك ، نعم ، هى من ركضت خلف أمل زائف سولته لها نفسها الطامعة الغير سوية ، وتخلت على أثره عن حياتها الزوجية المستقرة ، زوجها المراعِ ، وطفلتها الهادئة النقية ، لذا والأن تحديداً ، حيث ترقد صريعة منكمشة كالجنين فوق الأرضية الرخامية الباردة ، بعدما نفّس عن غضبه الكامن بها ، وتركها شبهه عاجزة عارية الجسد كنوع من العقاب الأضافي لها ، يعصف بها الألم ، وتمور بها الحمى ، ويتنفض جسدها من شدة الحرارة ، وتلسع عبرات الخيبات وجهها ، وتحرق الآهات المكتومة جوفها ، لا تملك سوى جلد ذاتها ، عن سوء الأختيار وما آلت إليه أمور حياتها ، ومع نظرة عاجزة للمكان من حولها ، بعدما فتحت جفنها الأيمن وأغلقته عدة مرات دون جدوى ، وتأكدها من فقدان البصر لتلك العين بعدما تلقت عدة لكمات فوقها ، وأن لا شئ سوى السواد أمامها ، أستسلمت لأمرها الواقع وحاولت مد ذراعها لألتقاط هاتفه الملقى عن غير قصد بالقرب منها ، وقد أصبحت شبهه متيقنة من أقتراب هلاكها ، ثم سحبت نفساً ضعيفاً للغاية بعدما فشلت فى الوصول إليه مقررة الزحف على ركبتيها ، وأخيراً وبعد مجهود مضنى فقدت بسببه نصف قوتها ، نجحت فى الوصول إليه وصار فى متناول يدها ، فسارعت تضمه بلهفة وقد أضحى فى تلك اللحظة أغلى ممتلكاتها ، ضاغطة بأصابع ملتهبة كُويت بالنار ، على أزار الهاتف وهى تشكر ربها سراً على ذاكرتها القوية ، حابسة أنفاسها تترقب أجابته بقلب مرتجف ، حتى أتاها صوته بعد المحاولة الثانية يجيب بهدوء أشتاقت إليه :
-(( ألو )) ..
جاهدت لكبت جماح شهقاتها المتحسرة ، ومن ثم ، بعد سماعها أجابته تُكرر للمرة الثالثة بنفاذ صبر ، همست تقول راجية بوهن :
-(( جواد ؟! )) ..
صمت مطبق فرض نفسه على المخابرة الهاتفية حتى فقدت الأمل فى الأجابة ، جائتها بصوته المعهود يتسائل بعدائية تعمد أخراجها مضاعفة :
-(( عايزة ايه ؟! .. مش قلتلك مسمعش صوتك تانى .. ومتحاوليش تتواصلى معايا عشان مخلصش عليكى )) ..
تحاملت على نفسها فحتي القدرة على الحديث فى تلك اللحظة رفاهية حرمت منها ، ثم همست متوسلة ببكاء أجبره على الأستماع إليها أشفاقاً :
-(( جواد أسمعني أبوس أيدك .. أنا حاسة أنى بموت خلاص .. صدقنى دى أخر مرة هزعجك فيها .. بس أبوس رجلك .. خلينى أسمع صوت بنتى للمرة الأخيرة )) ..
صمت أخر طالت مدته لم يتخلله سوى صوت أنفاسه الثقيلة ، جعلها تبتسم فى شوق وكأنها ترى صراع ملامحه أمام عينيها المتورمة ، قبل أن تُردف متضرعة :
-(( أنا أتبهدلت من بعدك يا جواد وأخدت جزائى .. رائف طلع مجنون وببضربنى زى الحيوانات .. ومبقاش عندى أمل حتى أني أعيش لحد ما أشوف بنتى .. عشان كدة بترجى جواد الشهم .. بترجى أنسانيتك تحققلى الطلب ده بس .. وبعدها هختفي حتى من حياتك )) ..
زفرة قوية حارقة صدرت عنه ، حتى كادت تُجزم بوصول حرارة أنفاسه إليها ، قبل أن يقول متردداً على مضض :
-(( طب ثوانى .. خليكى معايا هصحيها )) ..
حركت رأسها موافقة بأصرار كأنه يراها ، ثم أخذت تحصى الثوانٍ ، حتى أتاها صوت طفلتها تقول بنعومة :
-(( ألو .. مامى .. ده حلم ؟! .. بابى هو مامى هترد عليا دلوقتى ؟! )) ..
أنفجرت الدموع كالشلال من داخل أعينيها مغمغمة من بين شهقاتها :
-(( لينة .. بنتى .. حبيبتى .. وحشتينى .. أنا أسفة أنى سبتك .. سامحيني ولما تكبرى حاولى تخلى بباكى يسامحني )) ..
همهمت الطفلة تقول بنبرتها الطفولية الناعسة :
-(( مامى .. رحمة قالتلى لما تكونى وحشانى هغمض عينى وأنتى هتجيلى فى الحلم .. أنا سمعت صوتك بس مش مشكلة .. أنتى المرة الجاية هتجيلى صح ؟! )) ..
وضعت يدها فوق كفها تمنع نوبة بكاء أخرى داهمتها من كشف أمرها ، بينما سحب جواد الهاتف من يد صغيرته ، قائلاً بحدة :
-(( أظن كدة كفاية .. سمعتى صوتها ومتفكريش تتصلى تانى )) ..
أجابته فى أنكسار :
-(( جواد .. رائف ورا كل اللى حصل لرحمة وعلياء .. سامعنى .. كل حاجة كانت ليه يد فيها )) ..
-(( بتكلمى مين يا **** !!! )) ..
صرخة مدوية أخترقت أذنه قبل أنقطاع المكالمة مقرراً تجاهل ما حدث والعودة إلى ترتيبات مناسبة شقيقته ، أما على الطرف الأخر ، فبعدما وقف أمامها متأهباً ، أنحنى يجرها من خصلات شعرها ، حتى وصل بها إلى الغرفة الخارجية ، صائحاً بأهتياج :
-(( بقى دلوقتى ضميرك صحى وبتتصلى تبعيني ليه .. شكلك بتتمزجى من الضرب زى حالاتى وأنا مش هحرمك )) ..
رفعت رأسها بعد أرتطامه بالطاولة المنخفضة القوائم ، تنظر إليه ثم إلى طبق الفواكه الموضوع فى منتصفها وجواره السكين الصغير ، قائلة بحزم :
-(( رائف .. لو قربت منى هاخد روحك )) ..
قهقه مطولاً بأستهزاء صريح ، ثم أنحنى بجذعه نحوها يقول مستخفاً بقدراتها :
-(( ودى هتعمليها أزاى يا روح خالتك )) ..
أنهى حديثه بلطمة قوية عنيفة نالت شطر وجهها بأكمله وقبل حركته التالية كانت تدفعه وتقفز فوق الطاولة بعدما أندفع الأدرينالين داخل جسدها حيث غريزة البقاء البدائية ، تسحب سكين الفاكهة ، ثم وقبل تفاديه لشرها ، شرعت فى طعنه وهى تصرخ رافضة بكل ما أوتيت من قوة :
-(( لا مـش هسمحــلــك تقربلي تـانى .. ســـاااااااامـــع .. مش هسمحلااااااااااااك )) ..
توقفت بعد الطعنة الثامنة حينما شعرت بدمائه اللزجة تغطى كفها المزروع داخل تجويف صدره من كثرة الطعنات وقوتها ، ثم رؤيتها لجسده ينزلق على مهل أمامها ، يليه وقوعه صريعاً تحت أقدامها بعد أنتهائه من لفظ أنفاسه الأخيرة ، موقعة بفعلتها تلك ، وبكامل أرادتها ووعيها ، قرار نهاية حياته وحياتها عامدة متعمدة .
***********************************
القلب بوصلة العقل ، عبارة قد تصدم الكثير من الناس رغم منطقيتها ، فيما يخص ذلك النداء السحرى العجيب ، الذى يدفع الأنسان للأنسياق خلفه كالمغيب ، دون التفكير فى عواقب أمره ، فكم من أساطير وحكايات عن هؤلاء ممن ركعوا أمام سطوته ، وهرعوا وراء شغفه ، بعد تنازلهم عن كل غالٍ ونفيس أثناء سعيهم خلفه ، ورغم أهانة العقلانيين له ، بأعتباره العضو الأهوج ، الأقل حكمة وتحفظاً ، تظل ضرباته المنتظمة علامة على الحياة نفسها ، ونافذتنا الأساسية فى إدارك كل ما لا تراه العين ، وبينما يقود القلب تصرفات العقل ، يقف الأخير عاجزاً عن التأثير به ، هذا ما أدركته وهى تقف أمام فستان زفافها الأبيض مبتسمة فى سخرية ، فمنذ عامان وعقلها يحاول أجبار تلك المُضغة المتمردة المتمركزة فى جهة الشمال ، على الوقوع فى الحب دون جدوى ، وعندما خفق الأخير فى النهاية ، لم يملك العقل سوى الخضوع لرغبته ، تنهيدة أشتياق حالمة صدرت عنها وهى ترفع ذراعها ، وتتلمس برهبة تامة ، القماش المطرز الأنيق ، ببتلاته المخرمة الصغيرة ثلاثية الأبعاد أسفل أناملها ، ليست رهبة نابعة من القلق أو الرفض ، بل ذلك النوع الأخر المفضل ، الناتج عن الحب ، التوق ، والوقار ، وكأنها تخشى أن زادت من ضغط أصابعها فوقه أن تصيبه بأذى ، أبتسامة أخرى أكثر أتساعاً أحتلت ثغرها الناعم ، وقد داهمتها ذكرى أنتقاء ذلك الفستان ، ورغم حالة الفتور التى سيطرت عليها ذلك الوقت ألا أن والدتها أصرت على أبتياع الأفضل ، أما الأن وبعد كل عبارات الأمتنان التى يجيش بها صدرها لوالدتها ، يكاد جلدها الرقيق ينفجر حماساً حتى تُحين ساعة أرتدائه ، وتشعر بملمسه المخملى فوق جسدها ، مترقبة بخفقات مضطربة ، تلك اللحظة تحديداً حيث رد فعله عندما يراها به ، هو ، زوجها ، وكعادة كل الأيام الفائتة ، بل كعادة كل الساعات ، عاد سيل أفكارها فى التدفق نحوه ، ومع لمعة حنين حانت منها إلى الهاتف الجوال ، أضاءت شاشة الأخير بأتصال هاتفى يحمل صورته ، جعلها تركض ملهوفة تجيب قائلة بنبرة مختنقة هامسة :
-(( أنت صحيت ؟! )) ..
أبتسم حتى حملت نبرته تلك الأبتسامة إليها عبر الهاتف ، ثم قال صادقاً بعدما تنهد بعمق :
-(( هتصدقينى لو قلتلك منمتش أساساً )) ..
عضت على شفتيها بخجل وقد ترجم عقلها ما سكت هو عنه ، فعدة ساعات ، هى إجمالى المدة الفاصلة عن أجتماعهم سوياً ، فاليوم هو يومها المنتظر ، ليس لأنه يوم زفافهم فحسب ، بل لأنه ولأول مرة ، منذ دخوله العاصف ، وأعرابه المجنون عن طلبه فى الأرتباط بها ، ورد فعلها الأكثر جنوناً منه ، ستتمكن عيناها من رؤيته ، بالطبع خلال الأسبوع المنصرم ، حرص على التحدث معها هاتفياً كل ليلة ، ولكن متى سمعنا عن قلب عاشق يكتفى بسماع صوت معشوقه ، نداء أخر صدر عنه أعادها إلى أرض الواقع فسارعت تهمهم كعلامة على أنصاتها إليه ، بينما أعاد هو سؤاله للمرة الثانية مستفسراً :
-(( عالية !! .. ساكتة ليه ؟! )) ..
همست تجيبه على أستحياء فلازال حديثها معه يربك كافة أجهزتها الحيوية :
-(( عادى يعنى )) ..
قال بجدية :
-(( أنا عارف أن النهاردة يوم مشغول بالنسبالك فهسيبك عشان تشوفى هتعملى أيه .. أنا بس حبيت أسمع صوتك وأقولك أنى حجزت فى فندق .. أنتى عارفة جوازنا كان مفاجئى وملحقتش أعمل حاجة فى الشقة اللى عايش فيها .. وبصراحة مش حابب أعمل فيها حاجة من غير رأيك .. عشان كدة حجزت فى فندق نقعد فيه ولما تشوفيها قررى محتاجة أيه وأنا عليا أنفذ كل طلباتك )) ..
عقبت معترضة بهدوئها ونعومتها المعتادة :
-(( بس أنا مليش طلبات .. مادام دى شقتك اللى عايش فيها عادى أجى أعيش معاك من غير ما تعمل حاجة زيادة )) ..
هتف رافضاً بأستنكار واضح :
-(( أزاى مش عايزة حاجة ؟! .. عالية أنتى من الليلة شريكتى ومراتى .. ومن حقك تختارى بيتك اللى هتعيشى فيه .. وأنا واجب عليا أنفذلك أختيارك ده )) ..
جمله ، ورغم بساطة نطقه بها ، ألا أنها سقطت على صحراء قلبها المتعطش للأحترام والأهتمام فأنبت وأزدهر فى الحال ، وبعدما مسحت بطرف بنانها عبرة ممتنة سعيدة سقطت من داخل جفنها ، قالت شاكرة مراعاته :
-(( ربنا يخليك .. بجد كل ده مش مهم .. وكفاية عرضك عندى )) ..
سألها مشاكساً بخفة بعدما أكد عزمه على أتمام عرضه :
-(( طب مينفعش تكمل بربنا يخليك ليا .. ولا أنا مليش نفس أسمع كلمة حلوة تصبرنى )) ..
غمغمت معترضة بأرتباك جعله يقهقه عالياً :
-(( لا مفيش .. يحيى لو سمحت .. كدة غلط وأنا هقفل )) ..
سارع يوقفها بلهفة راجياً :
-(( طب خلاص هقفل .. بس قبلها أعرفى أنى بعد الثوانى لحد ما أشبك أيدى فى أيديك )) ..
ثوانِ أو ربما دقائق من الصمت، ألا من صوت خفقات قلبها الثائر، حيث توقف العالم من حولها عن الضجيج وتحولت إلى جرم صغير، فى سماء قلبه الصافية، ذلك المكان النقى، والذى لم تطأه أقدام أنثى سواها ، ولم يعيدها من جولتها الحرة داخل صفحات قصتها الأسطورية، سوى صوت والدتها تهتف من خلف الباب الموصد قائلة بمزيج من الأستغراب والرزانة :
-(( عليا .. حبيبتي معايا ضيفة واقفة جنبى مصممة تشوفك .. ورافضة تتكلم غير قدامك )) .
قفزت من مقعدها تجيب والدتها بأستنكار بعدما أستأذنته فى أنهاء المخابرة :
-(( أتفضلى يا ماما انا صاحية أدخلى )) ..
دلفت والدتها الغرفة ، وتبعتها الضيفة المجهولة بجسدها الممشوق وشعرها الملون بحرفية شديدة حتى يكاد يُجزم من يراها بطبيعته ، مع زينة وجهها المتناسقة إلى حد كبير ، طالعتها علياء بفضول من رأسها حتى أخمص قدميها ، فهى تحمل من الشبهه منها بقدر ما تختلف عنها ، وقبل أن تبادر علياء فى الحديث ، سبقتها الزائرة المجهولة تُعرف عن نفسها قائلة بتأهب مخلوط بنبرة أستعلاء خفية :
-(( قبل ما تسألى هعرفك بنفسى حالاَ .. أنا جيداء بنت خال يحيي وخطيبته )) ..
صمتت لوهلة حيث لقى حديثها صداه المطلوب ، ثم أردفت تقول بحدقات لمعت بشماتة :
-(( أو خلينا أكتر دقة .. المفروض النهاردة أكون مكانك .. بما أننا كنا كاتبين الكتاب برضة )) ..
*********************************
إن الحرية ، ذلك المصطلح الذى يقع الكثير فى مصيدة خطأه ، خصوصاً فيما يتعلق بتعريفه ، تعنى قدرة الأنسان على فعل كل ما يريد وقتما يريد ، أما منتهاها أو ما يسمى ب “الحرية الحقيقة” فهو أمتناعه عن فعل كل ما لا يريد ، والتحرر من جميع القيود التى يفرضها الُعرف والمجتمع ، بكافة عاهاته وتقاليده ، طالما تصب فى مصلحته ، تلك هى فكرتها الخاصة عن الحرية ، كما تتعاطى معها وكما تدعو إليها يومياً ، حتى وأن كانت غير مستساغة لأقرب الناس إليها ، أبتسامة عابرة داعبت ثغرها الملتوي ، بينما تقلب بين أصابعها الطويلة ، المظروف المغلق ، وما يحويه داخل طيات ورقته البيضاء الموقعة من قبل طبيبة زوجته الثانية ، بعدما أوفت والدته بالنصف الأول من عهدها الذى قطعته لها ، وأستطاعت بكل سهولة ويسر الحصول على التقرير الكامل مرفق به صورة مصغرة للجنين قبل فقده ، عائدة بالذاكرة إلى حديثها الشيق فى الصباح مع أحدى زميلات العمل ، حيث قضت ما يقرب الساعة فى محاولة اقناعها بتقبل الأمر الواقع ، فزوج مشترك ، أفضل من لا زوج على الأطلاق !! ، نفضت عن كاهلها كل تلك الأفكار والذكريات ، فها هى قد أوشكت على هد الحائط الذى يحول بينها وبين الخروج ، فى ذلك الطريق السد ، الذى جمعها به ، مقاطعاً سيرها داخل ساحة مبنى قضت به ما يقارب الأربع سنوات ، رنين هاتفها الخلوى ، فبادرت تجيب مرحبة بعدما توقفت خطاها عند المصعد :
-(( أهلاً أهلاً بالعريس .. أنا عايزة أعرف أنت بتكلمنى ليه دلوقتى وكلها كام ساعة وأشوفك .. أتفضل يلا أقفل وروح خلص اللى وراك )) ..
قال يحيى واعداً بنبرة لا تخلو من أبتسامة السعادة :
-(( هروح بس أطمن ع القضية الأول .. مش كفايه مخلتنيش أحضر معاكى جلسة النهاردة )) ..
تهدلت أكتافها فور سماعها جملته ، ثم قالت محبطة بعدما زفرت بضيق :
-(( متشغلش بالك .. ولا أي جديد .. محامى الباشا محضرش الجلسة فأتاجلت .. بس وحياة أغلى حاجة عندى ما هيأس ولا هسيبه غير لما حق ولاد الملجأ يرجع .. وأشوف نادر أبو المجد .. مرمى ورا القضبان )) .
قال يحيى مشجعاً رغم خيبة الأمل التى غلفت نبرته :
-(( عمتاً ده كان متوقع .. القضية كبيرة وتقيلة يا غفران .. وهو مش هيستسلم أو يعترف باللى عمله فى الولاد .. وأكيد هيستخدم أساليب زبالة زيه عشان يوقف سير القضية والتحقيق .. المهم أنتى تخلى بالك على نفسك .. وإن شاء الله الجلسة الجاية هحضرها معاكى )) ..
غمغمت موافقة بعدما شكرته مستأنفة تجاذب أطراف الحديث معه فيما يخص يومه الموعود ، أما فوقها بعدة طوابق قليلة ، وتحديداً داخل منزل شهد الكثير من الذكريات والمواقف ، جلس “بدر” وأستقرت هى فوق ساقه ، وداخل أحضانه تتلمس بطرف أبهامها شعيرات ذقته النابتة ، قائلة بمزاح :
-(( عندك شعرة ببضا على فكرة )) ..
شدد من أحتضان ذراعيه حول جذعها العلوى المستند بأريحية وحميمية فوق صدره قائلاً بتهكم :
-(( معلش بقى جوزك كبير عليكى شوية .. أستحمليه )) ..
قالت مازحة بدلال بعدما أقتربت منه وطبعت قبلة عميقة حيث أشارت منذ بُرهة :
-(( أنت مش كبير .. أنت بس أتأخرت عليا على ما جتلى )) ..
تجاوز عتابها الباطنى ، هاتفاً بعدها بأستنكار :
-(( كنت هيجيلك قبل كدة أيه بس .. وقتها كنتى هتبقى قاصر وكنت هتحاسب عليكى )) ..
قالت بنبرة طفولية معترضه :
-(( مليش دعوة قاصر قاصر .. المهم كنت أبقى معاك ونكبر سوا )) ..
همس مبتغاً رضاها ، بينما أصابعه تداعب خصلاتها الحريرية المنسدلة فوق جبينها على شكل غرة :
-(( طب أيه رأيك أعوضك دلوقتى )) ..
سألته بفضول بعدما أسبلت أهدابها فى نظرة حالمة :
-(( أزاى )) ..
جائتها الأجابة كما توقعتها بقبلة عاطفية محمومة ، بث من خلالها كل ما يريد قوله دون حديث ، فاضاً أشتباك شفاههم بعد فترة ليست بالقليلة ، صوت جرس المنزل الخارجى ، مما جعله يبتعد عنها على مضض لاعناً زائره المجهول ، قبل تفاجئه بها “أختياره الأول الحر” تقف أمامه بقوتها وكبريائها المعتاد ، قائلة بحزم وأختصار فور فتحه الباب ، وهى تمد ذراعها بالمغلف أمام وجهه :
-(( الظرف ده .. هتلاقى فيه تقرير عن حالة مدام / أفنان المسيرى .. حرم حضرتك يعنى .. بيوضح من الدكتورة الخاصة بحالتها .. وضع الجنين الفاقد للنبض من يوم ١٤ .. يعني من قبل حتى ما أشوفها .. معاه توصية للطبيبة بضرورة أجهاضه تجنباَ لأذى والدته )) ..
صمتت تطالع بشماتة لمعت من داخل عينيها رغماً عنها ، ملامح وجهه التى أستحالت إلى اللون الأصفر ، مضيفة بنبرة المنتصر :
-(( أظن باقى الخطوات المفروض تعرفها من نفسك .. تهديد والدتك بح .. ولو اتعمل فيا محضر هعمل واحد مضاد ببلاغ كيدى كاذب فيا وبعدها هقدمه فى محكمة الأسرة كأثبات ضرر أضافى )) .
ألتفتت تنظر إليه من فوق كتفها بعدما أستدارت بجسدها أستعدداً للرحيل ، قائلة بتهديد وأصرار :
-(( أه .. هستنى ورقتى بكرة كحد أقصى )) ..
تلك المرة لم تنتظر حتى رد فعله ، بل سارت بخطوات مختالة واضعة كفيها داخل جيوب ردائها الأنيق حتى وصلت إلي بداية الطريق الرئيسى تدندن بخفوت لحن أغنية شعبية محببة إليها ، قاطعاَ الطريق الخالي من المارة حولها عدة رجال ، من ذوى الأجساد العريضة ، وقبل أن تفتح فمها أو تُخرج يدها طلباَ للنجدة ، أنهال شخصاً منهم بالضرب فوق رأسها وبطنها وظهرها ، قائلاً بتوعد صريح :
-(( دى رسالة بسيطة من نادر بيه .. عشان متدخليش فى حاجة متخصكيش تانى )) ..
فى الحال وبعدما تفرق جمع المعتدين من حولها ، وخار جسدها أرضاً ، شعرت بسائل لزج يتدفق أسفلها ، مع ألم شديد اجتاح أسفل بطنها ، مع تشوش فى الرؤية من أمامها ، وما هى ألا ثوانً معدودة ، حتى فقدت كامل وعيها وسقطت فوق رصيف المارة تنتظر من ياتى لنجدة عابرة طريق .
************************************
دائماً ما أستمع إلى الشرقيات من حوله وهن يتغنين بأحدى أشهر قصائد شاعر المرأة قائلاً ” قولي أحُبكَ كي تزيدَ وسامتي .. فبغيرِ حبّكِ لا أكـونُ جميـلا ” ، وكم سخر حينها من تلك الكلمات ومنهن ، أما الأن وتحديداً بعدما ذاق حلاوة ذلك المسمى بالعشق ، لم يقر فقط بصدق عاطفة الشاعر ، بل أيضاً يعتب عليه أغفاله عن ذكر النصف الأهم من الحقيقة ، فأولى مراحل العشق وقبل أن يصبح وسيماً بحبها ، ومع خفقة القلب الأولى ، يغدو الكون أجمل برؤيته ملامحه محبوبته فى كل شئ ، ومن ثم ومع التوغل فيه ، يرى الكون بأكمله من خلالها حتى تصبح حبيبته نسخة مصغرة عنه ، تماماً كما يقف هو أمامها الأن ، ويرى كل شئ أزهى وأنقى ك لوحة طبيعية فاتنة ، مكتملة الأركان منها وبها ، تبدء من شعرها ذو الخصلات الفحمية والذى يمثل السماء الصافية فوقه ، ثم قرنيتيها المتلألئتين كالنجوم الفضية المزينة لتلك السماء ، وفى الصباح ينحسر البدر المتمثل فى وجنتيها والمفضى بظلاله السحرية فوق وجهها ، فاسحاً المجال إلى الشمس الساطعة من أبتسامتها فى الآشراق ، هبوطاً إلى ثمر الكرز النابت فوق شفاهها والمتصل بكفها الرقيق الممدود بالخير للجميع مُتخذاً منه جذراً له يستمد منه غذائه وحمرته عن طريق جذع طويل يتمثل فى ذراعها ، أما أخيراً ، فتكتمل الصورة فقط فى مخيلته بأرجوحة صغيرة ، حيث ضلعها يحمل أحد أطرفها ، والأخر معقود حول ما يماثله فى جسده ، تلهو فوقها طفلة فى نسخة مصغرة عنها ، تتأرجح أمام عينيه يميناً ويساراً ، وها هو يقف متمنياً أتمام أكتمالهما حتى تصبح واقعاً ملموساً يمكنه ضمها بين ذراعيه ، كما يفعل الأن مع والدتها ، حينما تحرك بجسده يعتصرها بين ذراعيه بأشتياق تعدى حدود صبره ، بينما وقفت هى قبالته كالجماد ، وذراعيها متدليان على كلتا جانبيها ، تهمس بذهول لازال يعتريها منذ قرائتها للوثائق :
-(( الشهادات دى صح ؟! .. أنا بنت عمك أزاى )) .
تجاهل حديثها وكأن سعادته بالتأكد من برائتها قد همشت كل ما دونها بالنسبة إليه ، ثم أخذ يغمغم بأرتياح وهو يشدد من محاصرة ذراعيه لها :
-(( رحمة .. قبضنا على قاتل عمرو .. أنتى بريئة ورائف هو اللى عمل كل دة )) ..
أبتعد عنها فور شعوره بمحاولتها دفع جسده والتملص من بين قبضته ، ثم بادر بأحتضان كفيها الناعمة بين كفيه ، قبل تحركه بها نحو المقعد القصير الموضوع قبالة الفراش وأجلسها فوقه أولاً ، قائلاً بهدوء بعدما حذى حذوها ولازالت كفيها مخفية تحت قبضته الضخمة :
-(( أنا هشرحلك كل حاجة دلوقتى .. ممكن تسمعينى ؟؟ )) ..
حركت رأسها موافقة فذلك كل الخيارات المتاحة أمامها فى الوقت الحاضر ، فى حين أستطرد هو حديثه بعدما سحب قدر لا بأس به من الهواء إلى رئتيه ثم حرره على مضض :
-(( أنا معرفش أيه المعلومات اللى عندك .. عشان كدة هقولك كل اللى أعرفه .. الحقيقة أن والدك ووالدتك وخالك شهاب وعمى أنور وأيمن اللى هو أبو رائف كانوا يعرفوا بعض من أيام السفر .. كلهم كانوا شغالين فى بلد واحدة .. وصحاب كمان ومن هنا بدءت حكايتهم .. اللى أحنا دفعنا تمنها )) ..
همست تقاطعه بأستنكار :
-(( صحاب ؟!!! )) ..
هز رأسه مؤكداً ثم قال بصوت خفيض بعدما تأكدت ظنونه :
-(( محدش منهم حكالك .. كنت متوقع )) ..
حركت رأسها نافية فأستطردت هو على الفور يقول محاولاً أرضاء فضول عينيها اللامعة :
-(( المشكلة كلها بدءت لما والد رائف شاف والدتك بالصدفة بحكم أنه وخالك صحاب .. واضح أنه كان حب من أول نظرة بس هى رفضته .. وواضح أن عنده جنون العظمة زى أبنه .. فرفض رفضها ليه وصمم يضايقها لحد ما وصل بيه الأمر بالأعتداء عليها )) ..
شهقة خافتة صدرت عنها مع جحوظ ملحوظ فى عينيها جعله يسارع فى قوله مطمئناً :
-(( بس محصلش حاجة متخافيش .. وقتها كان عمى أنور معارفه زادت فى البلد وخالك مع والدك اللى تقريباً كانوا أصحاب جداً .. طلبوا من عمى أنور يساعدهم فى وضع حد لجنون أيمن أبو رائف وأتفقوا للأسف على حل وحيد .. وهو أن عمى أنور يتجوز والدتك عشان يحميها من جنون أيمن وحصل .. وبعدها بكام شهر رجعوا مصر .. وتقريباً مكنش فى بين والدتك وعمى أتفاق فقرروا ينفصلوا .. عمى نسى الموقف وعاش حياته وفى الوقت ده غالباً والدتك كانت حامل فيكى بس عمرها ما أتواصلت معاه .. دى كل المعلومات بخصوص أنك بنت عمى .. وللأسف الباقيين كلهم توفاهم الله فمقدرش أعرف والدك ووالدتك خبوا تاريخ ميلادك الأصلى ليه .. مع أنه مش محتاجة تفسير محبوش يشتتوكى أو ينبشوا فى ماضى مش هيفيد بحاجة )) ..
بدت وكأنها لازالت فى حالة من الصدمة وعدم الأستيعاب ، ورغم ذلك همست تسأله متشككة :
-(( أنت كنت عارف .. عشان كدة بتحكيلى كل التفاصيل دى ببساطة !! )) .
أجابها بتردد بعدما أبتلع لعابه بقوة يخشى رد فعلها فهدوئها ذلك يثير ريبته بشكل كبير :
-(( أحـم .. عرفت من فترة لما ماكسيم كان بيدور فى قضية عمرو .. وقبل ما تسألى ليه خبيت .. هقولك عشان وضعنا مكنش مناسب لحقيقة زى دى .. وعشان سبب تانى لو سمحتيلى أكمل للأخر هتعرفيه )) ..
حركت رأسها بحدة كأنها تنفض الأفكار الغير ضرورية منها ، أو ربما تُجبر عقلها على تقبل المعلومات التى سمعها للتو ، قبل أن تسأله بحيرة :
-(( طب أنت قلت فى أول كلامك .. أحنا اللى دفعنا التمن .. ولقيت القاتل وطلع رائف هو السبب !! )) ..
قال مؤكداً بحزن لم تستطع غض الطرف عنه خاصةً بعد رؤيتها للمعة عينيه به :
-(( اللى حكتهواك ده دخلنا فى اللى جاى .. رائف عنده مشكلة من وهو صغير .. تربية والده الجافة ليه طلعته إنسان قاسى .. أو نسمى الأمور صح .. بقى إنسان سادى بيحاول ينتقم ويأذى كل اللى حواليه عشان يحس بالأنتصار .. ومن حظنا أن التاريخ عاد نفسه .. وزى ما بباكى وعمى أخدوا مامتك من أيد باباه )) ..
صمت قليلاً متجاوزاً الغصة التى أعتصرت قلبه ، ثم أردف بأختناق :
-(( أنا ومن قبلى عمرو أخدنا منه ريم .. فحب ينتقم من عمي أنور فى علياء لما خطفها وصورها عشان يشوه صورتها ومن قبلها لما لف على مرات جواد وخلاها تخونه معاه .. وأنتقم من باباكى فيكى لما أتفق مع القاتل يشيلك القضية .. وبكدة يكون أنتقم ل باباه زمان .. أما أنتقامه منى فكان بحرقة قلبى على عمرو .. ده تفسيرى الوحيد )) ..
أغمضت عينيها وضغطت فوق شفتيها ثم قالت بصوت باكِ وقد بدئت بالفعل العبرات تنساب من داخل أجفانها :
-(( أنا مش مصدقة حاجة من اللى بسمعها دلوقتى .. حاسة أنى فى حلم غريب .. الحقيقة الوحيدة فيه أنى بقيت حرة )) ..
أجفل جسده عند أستماعه حفيفها وبمجرد أرتخاء قبضته من فوقها سارعت بسحب يدها وأنتصبت فى وقفتها بعد وضع مسافة كافية بينهم ، بينما سألها هو بتوجس وقد تقلصت ملامحه :
-(( قصدك أيه ؟! )) ..
قالت ببساطة رغم الدموع الجارية فوق وجنتيها :
-(( قصدى وعدك .. لما تعرف مين اللى قتل أخوك هتطلقنى )) ..
هتف بعصبية وقد أحتدت نبرته فى الحال شاعراً بالعجز ينسج خيوطه من حوله :
-(( لا مش حرة .. ولا عمرك هتكونى طول ما قلبى معاكى )) ..
أستدارت بقوة تناظره بمزيج من الذهول والسعادة ، بينما أردف هو يؤكد بحشرجة :
-(( أيوة .. رحمة أنا بحبك .. وأظن أن أحساسى بيكى عدى مرحلة الحب من زمان )) ..
بقوة هائلة حافظت على توازن جسدها قبل نبرتها ، ثم هتفت تسأله ساخرة :
-(( ويا ترى حبك ده .. عشان بقيت بريئة من دم أخوك .. ولا عشان طلعنا مشتركين فى النسب )) .
صرخة قوية كادت تصدر عنه تمالكها فى اللحظة الأخيرة فور رؤيتها لنظرة الدفء التى غلفت عدستيها رغم ذلك الجمود المعتلى ملامحها ، وكأنها تستجديه أن يخيب ظنووها ، قبل أن يقول بنبرة ناعمة حريرية جاهدت معها للحفاظ على رباطة جأشها :
-(( عشان من أول مرة شفتك فيها حسيت بحاجة حصلت هنا )) ..
أشار نحو موضع قلبه مستطرداً :
-(( فى الأول مفهمتش السبب .. ولما شفتك بعدها متهمة فى قضية عمرو قلت يمكن ده قلبى أتقبض وحس باللى هيحصل .. بس مع الوقت عرفت أنه كان ضلعى اللى أتكسر لما أتخلقتى منه .. كان بيقولى بطريقته أنى لقيتك أخيراً .. وأنك جزء منى )) ..
حركت رأسها رافضة الأنصياع لحديثه رغم الرغبة الملحة التى حاصرتها فى الركض إليه ، قبل أن تتمتم بحسرة :
-(( أنت بتحب واحدة حتى مبقتش عارفة هى مين .. كل حاجة طلعت كدب .. حتى لــو .. حتى ل… )) ..
أبتلعت لعابها ثم عادت تضيف بعدما أنتقت كلماتها بعناية :
-(( حتى لو جوايا حاجة بدءت تتحرك .. حتى لو كنت أنت بداية الصح .. اللى أنت بتقول بتحبها دى أنقاض .. معندهاش حاجة ممكن تقدمهالك .. حتى بدايتنا كانت غلط .. والغلط أستحالة يتبنى عليه صح )) ..
سارع يقول مستجدياً :
-(( تعاليلى بأنقاضك وأنا هبنيكى من جديد .. حتى لو أضطريت أقطع من روحى وأسد فجوات روحك .. يكفى أنك تثقى وتسلمى نفسك ليا .. وتسمحيلي أداوى جروحك )) ..
ترنح جسدها للأمام مع ذلك الأعتراف الذى هز أركان خلاياها ، بينما ركع هو فوق أحدى ركبتيه بعدما لاحت أمام عينيه ذكرى ليست بعيدة عن توعدها له ، هامساً برجاء :
-(( زمان قولتيلي مفيش رحمة بتتوسل .. الناس هى اللى بتتوسل لرحمة .. ووعد على وعدك .. قبل ما أخلص منك .. أنت اللى هتركع قدامى تطلب الرحمة .. وأنا أهو بركع قدامك .. وبقدملك قلبى .. أرحمى ضعفه وأقبليه .. متبعديش واحد ملقاش نفسه غير بلقاكى .. ومشافش مستقبله غير بعينيكى )) ..
تعالت شهقاتها المنتحبة بعدما أنزلقت بجسدها تركع أمامه هى الأخرى ، وتضم بكفها المرتعش خاصته ، فكم تتمنى قبول عرضه ، وأن ترتمى بكل ما يثقل كاهلها داخل أحضانه ، أن تختبأ بداخله عن كل ما يؤرق مضجعها ولكن كيف ، كيف تستطيع عيش حياة سوية معه وهى لازالت ترى شقيقه كل ليلة فى منامها ، وأى جرم قد ترتكبه بحقه أذا همت بالموافقة وهو لايزال حاجزاً بينها وبينه ، تراه كلما أغمضت عينيها ، أو كلما ألتفت حولها ، صرخة قوية صدرت عنها قبل أن تدفعه بكفيها قائلة بأصرار :
-(( أستحالة .. لو بتحبنى زى ما بتقول أدينى حريتى .. أسمحلى أداوى نفسى بنفسى .. أظهرلى حبك بكدة .. خلينى أخرج من حصار توأمك اللى بشوفه فيك )) ..
صمت مطبق خانق تغلل ذرات الهواء من حولهم ، مع نظرة ثابتة من عدستيه فوقها ، يحاول أجبار عقله على أتخاذ القرار الصحيح من أجل كليهما ، بل من أجل الأمل فى العودة ، ثم قال بأنكسار مطأطأً الرأس بعدما أعتدل فى وقفته وقد جرح حديثها كرامته :
-(( أخرجى .. روحى قبل ما أغير رأيى وأحبسك هنا .. بس أعرفى أنك مراتى وهتفضلى لأخر نفس فيا كدة .. ولحد ما ترجعى هتلاقينى فى كل مكان حواليكى )) .
تلاقت أعينهما فى نظرة وداع أخيرة مطولة ، أحتضن كل منهما الأخر من خلالها ، قبل فرارها هاربة ، ليس منه ، بل خوفاً من نفسها وروحها المعلقة به ، من قلبها الخائن ، الذى أخذ يطالبها بالعودة ، ولولا صوت العقل الذى أخذ يحثها فى الأبتعاد عنه ، لكانت الأن تركض فى الأتجاه المعاكس عائدة بأدراجها إليه ، أما عنه وبعدما تابع بحسرة أنسحابها ، أرتمى بجذعه فوق الفراش ، قبل شعوره بشئ صلب أسفل ذراعه ، جعله يعتدل فى جلسته ويسحبه بأستنكار ، ثم شرع فى فتحه بعد رؤيته له وقراءة ما به ممراً عينيه بلهفة فوق كلمات دونت بدمع عينيها قبل حبر قلمها …..
“مذكرتي العزيزة :
أظن أنك الحل الوحيد المتاح أمامى خلال الفترة القادمة ..
ذلك الشهيق الذى أسحبه الأن لأتمام عملية التنفس وإبقائى على قيد الحياة يؤلمني .. تلك الدمعة التى سقطت من عينى الأن وبللت ورقتى وأسالت حبر كلماتى تؤلمنى .. كوابيسى الليلية وتذكرى لمشهد دمائه حولى يؤلمني .. حتى تدوينى لما أشعر به الأن يؤلمني ..
مذكرتى العزيزة :
لازالت تعترينى حالة من الضياع والتخبط ، حتى أننى أشعر بيد الأختناق تقبض بكل قوتها فوق عنقى مانعة عنى أبسط حقوقى فى الحياة ..
مذكرتى العزيزة :
لقد تجاوزت الساعة الثالثة صباحاً ولازلت أرتجف كورقة فى مهب الريح ، لا أستطيع التنفس براحة ، وأخشى أغماض عينى حتى لا أراه أمامى ، وكم أود لو أمتلك قدر بسيط من الشجاعة يجعلنى أطلب ممن يرقد فى الخارج النوم بجواره ، ربما يؤانس ذلك وحشة ظلامى ..
مذكرتى العزيزة .. أنها أحدى تلك الليالى حيث صفير الرياح يخترق أذنى بلا هوادة .. ورغم دفء المنزل ألا أننى أشعر بيد الصقيع تُغلف روحى ..
مذكرتى العزيزة :
للمرة الأولى أستطعت النوم براحة ، وذلك بعدما روادنى كابوسى المعتاد وتفاجئت به بعدها جوارى ..
مذكرتى العزيزة :
هناك شئ خطير ، خطير للغاية يحدث لى ، أخشى التفكير به ، الأستماع له ، أو الألتفات إليه ، حتى أننى أخشى تدوينه ..
مذكرتى العزيزة :
منذ أيام عدة غابت خلالها ، عادت أشعة الشمس الذهبية لنشر دفئها فوق رؤوسنا ، وعلى رغم كثير من الناس ، ذلك الطقس يبعث على بالكآبة ، إذ يذكرنى بأيام محبسى ، حين تجرؤ أحد الحراس مستغلاً ساعة التريض المسموح لنا به فى محاولة الأعتداء الجسدى على ..
مذكرتى العزيزة :
الأن أصبحت أفضل حالاً بفضله ، رغم أستمرار رؤيتى لذلك الكابوس المزعج الأ أن وجوده جوارى يخفف من حدة الأمر ..
مذكرتى العزيزة :
أن قلبى يخفق بشدة كلما رأيته أو تذكرته أو أقترب منى ، ربما الأن صرت أعلم ما حل بى ، ولكنى أبداً لن أضعه فى أطاره وتعريفه الصحيح ..
مذكرتى العزيزة وأحد أركانى الخفية الركيزة :
منذ أستيقاظى فى الصباح وقد رحت أتسائل فى حيرة ، كيف يمكن لثلاثة أيام بسيطة ، أن تمر كالدهر ، حتى أننى فى حيرة من امرى ، هل العلة فى ساعة يدى أم فى قلبى الذى يقفز كلما تذكره ، وكعادتى عند التفكير به أغمضت عينى واتبهلت إلى الله فى صمت أن يتقبل دعائى وأراه عندما أفتح عينى يقف أمامى ، فكما تعلمين الليلة زفاف علياء ، وكم تتوق نفسى إلى السير بجانبه ومشاركته تلك الأمسية السعيدة ”
ألتهمت عيناه الورق والكلمات ، يقرء بتركيز تام كل حرف خطته يداها المرتجفة ، كل خيبة وحسرة وحزن ، كان هناك مخطوطاً فى تلك الأوراق ، شاعراً بالألم الذى مرت به يضرب صدره ويعبر من خلاله ، ومع أنسياب أغلى عبراته فوق تلك الكلمات ، صرخ أسمها بحرقة لو وُزعت على ساكنى العوالم لنال كل فرداً منها نصيبه :
– رحـــــــمـــــــااااااااااااااااااااااة .

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية في لهيبك احترق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى