رواية في لهيبك احترق الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم شيماء يوسف
رواية في لهيبك احترق الجزء الثاني والعشرون
رواية في لهيبك احترق البارت الثاني والعشرون
رواية في لهيبك احترق الحلقة الثانية والعشرون
” فلما تلاقينا وقد طال صدُّنا
صمتنا طويلًا والعيون نواطقُ
فكم من كلام ظلَّ في القلب كامنًا
وكم من عيونٍ بالكلام سوابقُ ”
فى نهاية هذا الطريق المجهول ، والذى يسيران داخله بكامل سرعتهم ، ومن دون هدى ، سيجد نفسه أمام أحتمالين لا ثالث لهما ، أحدهما يجعل الأدرينالين يندفع إلى سائر جسده حماساً ، والأخر يرفض عقله رفضاً باتاً حتى التطرق إليه ، بل يظل يدفعه عائداً إلى تخيل السيناريو الأول ، وما يجب عليه فعله وقت رؤيتها ، فهل يظل واقفاً مكانه أم يركض نحوها ، هل يخبرها بكم الذعر الذى عايشه خلال الأثنا عشر ساعة الماضية فى غيابها ؟! ، أم يومأ برأسه فى تحية بسيطة ويأجل أى أعترافات لوقتً أخر ؟! ، هل يخبأها داخل أحضانه وبين أضلعه ؟! ، أم يكتفى بأبتسامة مقتضبة خالية ؟! ، مئات المشاهد والأفكار ، قفزت إلى مخيلته وأحتلت تفكيره ، حتى وجد نفسه يقف أمامها ، معمياً عن حالها بجذوة الغيرة ، التى أوقدها داخله منافسه بأقترابه منها ، ولم ينتبه إلى جسدها المرخى ، وحالتها المذرية ، إلا بأبتعاد الأخير عنها وطلب قريبه القلق :
-(( طاهر شوف رحـــ….. )) ..
خطوة واحدة ، كانت مجمل الحركة التى خطتها ساقيه فى أتجاهها ، أما ما تبقى من طريقه ، فقد قطعه زاحفاً على ركبتيه ، بعدما هوى جسده أرضاً منهاراً أمام بدنها الشبه مفارق للحياة ، هاتفاً برئتين تكاد تنفجران من شدة الأختناق والرعب ، بعد أن ضم جسدها الساكن بين ذراعيه :
-(( رحمة !! .. رحمة أفتحى عينيك )) ..
تلمس بكفه المرتجف فى إيقاع متزامن مع مضغتة الشمالية الثائرة ، بعدما حرر عينيها وفمها المُكمم ، جبهتها المشتعلة ، هبوطاً إلى أطرافها الباردة ، مستأنفاً فى طريقه إنهاء تكبيل ذراعيها هى الآخرى ، قبل أن يخرج من جيب سترته الداخلى رذاذاتها الطبية ، يدفع مرة بعد مرة السائل إلى داخل فمها متمتماً ومتوسلاً بعجز :
-(( رحمة أفتحى عينيك .. عشان خاطرى أفتحى عينيك .. جبتلك الدوا معايا .. أفتحى عينيك !! .. أنا معاكى )) ..
واصل الضغط بهيستيريا فوق مكبس البخاخ الطبى الموضوع داخل فمها حتى أنهى المحتوى بأكمله ، بعدما خلع سترة بذلته ودثرها بها ، ضاماً جسدها الغير مستجيب إليه ، فى محاولة منه لبث الدفء إليها ، مغمغاً بهلع :
-(( أبوس أيديك أفتحى عينيكى .. أنتى لأ .. متسبنيش زيهم .. مينفعش تسبينى )) ..
صرخ بعجز عندما لم يصله أى إجابة منها ، فى جواد الذى أنشغل بمحاصرة عدوهم وتلقينه درس :
-(( جـــواااااد !! .. رحمة مبتفتحش عينيها .. ونبضها ضعيف .. بتروح منى أعمل أييييييييه )) ..
صاح الأخير يقول مستنكراً بلاهته بلهفة :
-(( مستنى أيــــه !! .. أطلع بيها على أقرب مستشفى )) .
وكأن أجابة قريبه كانت الأشارة التى ينتظرها عقله الضائع ، حتى يعود إلى عمله ، محركاً باقى أعضائه الحسية ، فقفز بها يركض كالمجنون بعدما هز رأسه موافقاً بعنف ، كأنه أخيراً وجد ضالته المنشودة ، حتى وصل إلى السيارة المركونة على بعد مسافة كافية منه ، ووضعها بحذر وسرعة فى المقعد الخلفى ، قبل معاودته الركض يحتل المقعد الأمامى خلف المقود ، مندفعاً بأقصى سرعة تمتاز بها السيارة حيث وجهته المعلومة ، بينما يده الأخرى ، أمتدت للوراء تحتضن كفها المتدلى من فوق المقعد خلفه ، قائلاً بأنفاس لاهثة وعينيه مسلطة على المرأة أمامه بعدما عدل وضعها حتى تعطيه رؤية واضحة لها :
-(( متخافيش يا حبيبتى .. دقايق ونوصل المستشفى )) ..
ضغط برفق فوق كفها البارد مطمئناً لنفسه قبلها ، ملاحظاً بعد لحظات من الصمت حركة مرتجفة خفيفة لجفنها مرات متتالية ، يليه فتحها عينيها على مضض متمتمة من دون صوت مسموع :
-(( طا.. ه.. ر )) ..
هتف يجيبها بأختناق وعبرات لم يتكبد حتى عناء إخفائها ، عبرات لا تسقط إلا فى الشدائد :
-(( يا عمر طاهر .. أنا معاكى متخافيش )) ..
ضغطة خفيفة من إبهامها فوق ظاهر كفه هى كل ما وصل إليه منها ، قبل أن تعود لإسدال عينيها ، مستسلمة إلى الظلام المحاوط لها ، بينما صرخ هو من جديد متوسلاً بقلة حيلة :
-(( خليكى معايا .. أنا مش هسمحلك .. سامعة .. مش هسمحلك تروحى زيهم .. مينفعش تسبينى لوحدي .. مش هتحمل .. مستحيل يبقالى حياة من بعدك )) ..
ظل يردد تلك الكلمات حتى شعر بجُرح يصيب حنجرته ، ووهن يُغلف روحه فى أكثر وقت يحتاج إلى قوته كاملة ، وبعد فترة قليلة ساهم الأنسياب المرورى الصباحى بها ، توقف أمام المشفى ، ثم عاد يحملها ويركض بها من جديد إلى الداخل ، يصرخ بينما رأسه تلتفت في كل الأتجاهات مستغيثاً وباحثاً عن العون :
-(( حد يلحق مراتى .. عندها الربو ومش بتنطق )) ..
في الحال تلقي المساعدة فور طلبها ، عن طريق أثنان من ممرضى المشفى يدفعان بفراش مدولب فى أتجاهه ، وطبيب تكليف ظهر أمامه من العدم ، فبادر بتسليمها إليهم منصاعاً إلى طلب طبيب الطوارئ الذي هتف يأمره بعدما أستمع منه إلى علتها :
-(( خليك هنا متقلقش .. هنركبلها أكسجين فوري وإن شاء الله هتبقى كويسة )) ..
أومأ برأسه موافقاً ثم أرتمى فوق أحد المقاعد الحديدية الموضوعة عند مدخل غرفة الطوارئ بالقرب منها دون جدال ، ففى أشد لحظات القنوط والخواء ، حيث لا مفر ولا ملجأ ، يظل التضرع واللجوء إليه ، أملنا من كل نائبة تحل بنا ، لذا ، شبك كفيه معاً وظل يتضرع فى صمت ، أن تعود رحمة قلبه إليه سالمة .
**********************************
ذرعت غرفة المشفى في الطابق العلوى ذهاباً وإياباً عدة مرات بقلق ، تجلس للحظات ، ثم تعود وتنتفض بجسد متشنج والهاتف بيدها ، تحاول الوصول إليه دون جدوى ، حتى هتفت والدته تستجديها برجاء :
-(( يابنتى أقعدى .. مينفعش اللى بتعمليه ده .. أسمعى منى وقت ما هيوصلوا لحاجة هتلاقيه بيتصل من نفسه )) .
هتفت غفران تجيبها بحنق واضح :
-(( يعنى يرضيكى يا طنط يقفل عليا باب الشركة من جوة ويخلى الأمن يحبسنى عشان معرفش هما رايحين فين !! )) ..
أبتسمت والدته ، ثم قالت مهدئة بتفهم :
-(( عنده حق .. أه أنتى الله أكبر باين عليكى بمية راجل .. بس أنتى حامل يابنتى .. يعنى أمانة فى رقبتنا .. وحتى لو رحمة صاحبتك .. مينفعش تضرى نفسك عشانها )) ..
ألتفتت توجهه ما تبقى من حديثها لزوجها ذو الوجه الشريد :
-(( ولا أنت مش معايا يا أنور فى كلامى ؟! )) ..
لم تتلقى رد فعاودت تهتف أسمه من جديد جاذبة أنتباهه :
-(( يا أنور .. أيه رأيك فى اللى عمله جواد )) ..
أجابها بشرود واضح :
-(( ها .. أه .. عندك حق .. ده الصح يا بنتى .. بس ربنا يطمنا عليهم )) ..
صاحت غفران تعقب بهوجائية غير محسوبة :
-(( أيوة بس ده ميمنعش أن جواد مستفــ…. )) ..
أنتهبت إلى جملتها الأعتراضية الطائشة ، عندما لمحت نظرة أرتياب صادرة من والدته موجهة إلى والده ، بينما هتفت علياء بأبتسامة خافتة تسآل مغيرة مجرى الحديث :
-(( ماما .. مش الدكتور قال بعد ٢٤ ساعة .. وأنا الحمدلله كويسة أهو .. خلينا نروح نستنى رحمة فى البيت .. أو نعمل أى حاجة بدل قعدتنا دى )) ..
أقترحت غفران هاربة قبل أنطلاقها خارج الغرفة :
-(( خليكى يا طنط مرتاحة .. وأنا هشوف الدكتور )) ..
وعلى حدود الغرفة قبل تركها بشكل كامل ، أوقف حركتها رنين هاتفها بأسمه فسارعت تجيبه بلهفة واضحة :
-(( رنيت عليك مية ألف مرة ومفيش رد )) ..
أجابها بهدوء عكس الحالة التي كانت تعتريه منذ الأمس :
-(( لقينا رحمة الحمدلله .. هى وطاهر فى الأستقبال تحت .. أنزليلهم لحد ما أجى )) ..
صاحت تستفهم بنبرة رنانة سعيدة :
-(( لقتوها !! لقتوها فين ؟! .. والأهم أنت مش معاه ليه )) ..
قال بنفاذ صبر يُنهي المخابرة :
-(( بعدين هتعرفى .. إن شاء الله ساعة بالكتير وهكون عندكم أطمن على رحمة .. طمني بابا أهم حاجة .. طاهر لسه رادد عليا وقالى أنها فى المستشفى مركبينلها نفس )) ..
هتفت تستجوبه كعادة أكتسبتها ، بعدما أشارت لوالده بالأنتظار :
-(( طب فهمنى أنت بتعمــ…..)) ..
زفرت بحنق بعدما أستمعت إلى صفير أنتهاء المكالمة ، قبل أن تلتفت على صوت ثلاثتهم بوجوههم الفضولية ، فسارعت تقول بأرتياح :
-(( جواد بيقول رحمة وطاهر تحت فى الطوارئ .. تقريباً محتاجة جلسة أكسجين عشان تعبها )) ..
قال والده ملتاعاً بنفاذ صبر :
-(( مستنية أيه يا كريمة .. يلا بينا على تحت )) .
قاطعتهم علياء تقول بأصرار بعدما تركت الفراش ووقفت خلفه تدفع الكرسي المدولب أمامها :
-(( يلا بينا يا بابا .. مش هستنى هنا لوحدى .. أكيد طاهر محتاجنا معاه )) ..
قال والدها مؤكداً ، قبل تحرك أربعتهم إلى حيث الطابق الأرضى :
-(( صدقتى يا بنتى )) ..
أكمل جملته بنبرة خافتة لم يسمعها غيره :
-(( تلاقى روحه راحت منه .. وما صدق رجعتله )) ..
*************************************
تطوع يحملها بحذر بعدما أستمع إلى تأوهاتها كلما حاولت السير بمفردها ، سائراً بها إلى حيث غرفتهم الخاصة بمنزل والدته ، ثم وضعها فوق الفراش برفق ، وقبل أن يعتدل فى وقفته ، كانت قد أنخرطت فى نوبة بكاء جديدة ، عاد يجلس على أثرها قُبالتها ، وبالطبع لم يملك سوى تهدئتها ، مغمغاً بحزن شديد :
-(( بلاش عياط يا أفنان .. أنتى لسه تعبانة وكدة غلط عليكى )) ..
قالت بحسرة من بين شهقاتها المتلاحقة :
-(( بلاش عياط أزاى .. والحاجة الوحيدة اللى أتمنتها من الدنيا راحت .. وعلى أيد مين !! .. ومش بس كدة يا بدر .. لا كمان أتفقتوا على واجعى أنت وماما الحاجة .. وبدل ما تعاقبوها على اللى عملته فيا .. أخدتوا صفها .. طبعاً ماهى اللى شايلة الغالى دلوقتى .. وأنا .. أنا خلاص مليش قيمة )) ..
زفر مطولاً ثم سألها بحنان بعدما أحتضن بكفه يدها :
-(( أنتى شايفة كدة يعنى .. أنى أتفقت على وجعك ؟! )) ..
أجابته معاتبة بنبرة لينة نسبياً :
-(( أه يا بدر .. كنت فكراك بتحبنى قد ما بحبك .. بس طلعت ولا حاجة .. بطن تشيل ولما لقيت غيرى خلاص )) ..
سألها مؤنباً ومدللاً بعدما أنحنى برأسه يطبع قبلة ناعمة داخل كفها :
-(( بقى أنا مش بحبك يا أفنان ؟! .. من كل قلبك بتقوليلى كدة )) ..
قالت مدعية الأحباط :
-(( ماهو الحب أفعال يا بدر .. والنهارده أكتر وقت كنت مستنياك جنبى فيه وملقتكش )) ..
قال مستفسراً بهدوء :
-(( طب قوليلى كنتى مستنية أيه وأنا أعمله )) ..
أجابته بغنج خفيف :
-(( كنت مستنية تعاقبها على اللى عملته فيا وفى أبنى .. مش تصمم تخليها على ذمتك )) ..
عقب على حديثها متسائلاً بغموض :
-(( ومين قالك أن اللى حصل ده مش عقاب )) ..
هتفت تسأله بعيون لامعة :
-(( قصدك أيه .. عقاب أزاى )) ..
قال بأصرار :
-(( مفيش عقاب أكبر من أنى أسيبها متعلقة .. لا طايلة سما ولا طايلة أرض .. لحد ما أبنى يشرف .. وقتها لينا كلام تانى )) .
أعتدلت فى جلستها بعدما تأوهت لكسب تعاطفه ، ثم همست تطلب بكيد أمرأة تعلم مواطن قوتها جيداً :
-(( خلاص عشان خاطرك هتحمل كل حاجة فيها مصلحتك .. بس أنت برضة تراعينى )) ..
سألها بخنوع :
-(( عايزة أيه وأنا هنفذهولك )) ..
سألته بدلال وهى تقترب منه :
-(( وحياة بدر ؟! )) ..
أبتسم فى رفق قبل أن يقول برضا طل من داخل عدستيه :
-(( وحياة حب بدر )) ..
قالت بنبرة مبحوحة ناعمة تذيب الحجر :
-(( عايزة بيت لينا )) ..
مسدت بأصابعها باطن كفه فى حركات دائرية خفيفة كالريشة ، ثم أردفت تضيف وهى تقطم شفتيها :
-(( أنا وأنت وبس .. عشان نبقى براحتنا )) ..
غمغم موافقاً بعدما أبتلع لعابه بصعوبة :
-(( ماشى .. من بكرة هغير أوضة النوم القديمة وأظبط البيت .. وعلى ما تشدى حيلك شوية ننقل )) ..
مالت بوجهها تكافئه بقبلة ناعمة ، تلقاها بنفس أكثر من راضية ثم شرع فى تعميقها ، بينما أبتسمت هى بأنتصار ، قبل أبتعادها عنه مثلما أقتربت مدعية الوهن .
***********************************
ما بال الفؤاد بات فى عشق هواكِ متيمُ ، كلما أستدار عنك عاد تحت ثُرى قدميكِ مخيمُ .
عبارة بسيطة ، قرأها فى أحد الأوقات وأندهش من قدرتها ودقتها فى وصف حال قلبه ، قلبه الذى أضحى لا يشعر بالسكينة ألا برؤيتها ، ولا يهدء ألا فى صُحبتها ، ولا يدرى موضع قدمه ألا تابعاً لخطوتها ، فكل بوصلات العالم تُشير إلي الشمال ، ألا هو ، بوصلته حيث ولت هى .
-(( أستاذ .. أستاذ طاهر )) ..
رفع رأسه على نداء الطبيب يترجاه بصمت أن يخبره بما يريد الأستماع إليه ، فأبتسم الأخير بود ، ثم قال مطمئناً ومؤنباً فى آن واحد :
-(( الحمدلله هى غالباً تقدر تتنفس طبيعى .. رغم أنها كانت في حالة سيئة جداً .. أتمنى فى المستقبل تراعوا أن مرضها مزمن .. وأي أهمال مش هيكون فى صالحها .. وللأحتياط خليها لبليل تاخد جلسة نفس كمان .. ومنه تكون الحرارة نزلت )) ..
سأله طاهر بأرهاق واضح رغم الأرتياح الذى أعتلى ملامحه :
-(( لو الأفضل ليها تستنى هنا خليها ؟! .. أهم حاجة صحتها )) ..
أجابه الطبيب ناصحاً :
-(( بالنسبة للحرارة .. وجودها فى البيت زى المستشفى مادام الدوا فى مواعيده .. أما الربو فلو كانت فى البيت وأهتمينا بمسح أي تراب وإبعادها عن أي روايح أو مثيرات .. أظن هيكون أفضل لها من المستشفى كمان .. وفى الأخر القرار ليك )) ..
أستدار بجسده مرةً أخرى بعدما أبتعد عنه عدة خطوات أمراً بصرامة :
-(( أه هستأذنك بلاش تدخلها بهدومك دى .. بعتذر بس ريحتهم بنزين وده خطر عليها فى الوقت الحالى )) ..
أومأ برأسه موافقاً ، ثم أخرج من جيب بنطاله هاتفه الجوال ، يطلب من مدبرة منزله بأقتضاب :
-(( أم حسن .. من فضلك أبعتيلى قميص وبنطلون مع السواق وهدوم لرحمة .. أي حاجة تنفع تتلبس مع حجاب طبعاً .. وأتاكدى ميكنش فيهم أي ريحة .. واااه .. نضفى الأوضة كويس وغيرى الملاية )) ..
هتفت مديرة منزله تسأله بفضولها المعتاد :
-(( خير كفالله الشر يابنى .. ده عشان ست علياء ؟! .. ولا ست رحمة تعبت تانى )) ..
أجابها بنفاذ صبر قبل أغلاقه الهاتف على صوت وصول عمه وباقى أفراد العائلة :
-(( أعملى اللى طلبته يأم حسن .. مش فايق أشرحلك دلوقتى )) ..
فرك وجهه بقوة يعيد إليه نشاطه بعد ضغطه فوق زر أنهاء المخابرة ، ثم أعتدل فى وقفته بعدما ترك مقعده يستقبل شقيق والده الذى هتف يسأل بأهتمام كبير :
-(( طمنى يا طاهر )) ..
أجابه مستجيباَ لرجاءه :
-(( متقلقش كويسة .. بس الدكتور مانع حد يدخلها عشان الحساسية والروايح )) ..
أستدار بجذعه ينظر إلى علياء الواقفة جواره يسألها بأكتراث :
-(( عاملة أيه دلوقتى يا عاليا ؟! )) ..
أومأت مؤكدة فى سكون كعلامة على حسن حالتها ، بينما قاطعته غفران تسأل بفضول :
-(( حصل إيه يا طاهر ووصلتولها أزاى )) ..
قص بهوادة كل ما حدث معهم ، منذ تركها داخل الشركة ، حتى وصولهم إلى المشفى ، قبل أن يقول مستنكراً بأرهاق واضح :
-(( مش عارف جواد فين من ساعة ما كلمنى وأختفى .. عمتاً هروح أشرب قهوة برة ولما يوصل خليه يحصلنى )) ..
همهم الجمع موافقاً قبل أنسحابه ، بينما حاول السيد أنور أخذ أذن الطبيب فى رؤيتها ولو من وراء حجاب .
أما فى الخارج وبعد أنتهاءه من أرتشاف قهوته ، جلس فوق درج المشفى مترقباً وصول سائقه بحاجياته ، حتى يتنسى له زيارتها ، وتهدئة خلاياه المضطربة برؤيتها ، مقاطعاً شرود نظراته ، صوت رفيق الدرب يقول بأستهزاء بعدما جلس جواره :
-(( سمعت أن الدكتور طردك .. معلش يا عم أبعد حبة تزيد محبة )) ..
حدجه طاهر بنظرة حانقة ، قبل أن يقول مشمئزأ بشرز :
-(( شوف نفسك الأول وبعدين أتكلم !! .. ولا مش شامم ريحتك )) ..
قال جواد معترضاً :
-(( أعملك أيه المكان كله مسرب سولار وجاز ولاد ال*** دول معرفش جابوه منين .. ومعرفش ليه الجلالة خدتنى وجيت أوقع ال**** وقعت معاه وهدومى كلها أتبهدلت .. وبعدين مش أنا اللى قاعد مذلول عشان أشوفها ها )) ..
هتف طاهر معنفاً :
-(( تصدق أنك عيل و**…. )) ..
قاطعه قريبه ساخراً :
-(( دلوقتى بقيت عيل وبتشتم !! .. الله يرحم من كام ساعة .. وعمرك اللى كان هيدفع )) ..
أنتفض من جلسته منسحباً بغل ، قبل أن يسأله بضيق :
-(( أخلص وقولى رميت الكلب ده فين عشان أخلص حسابى معاه ؟! )) ..
أجابه بلا مبالاة وهو مستنداَ بمرفقيه فوق نائمة الدرج :
-(( فى القسم )) ..
صرخ مهتاجاً بعدم تصديق :
-(( فين يا حيلتها ؟! )) ..
أجابه جواد مؤكداً بهدوء مثيراً حنقه :
-(( فى القسم والله .. مانا مش غبى عشان أسيبهولك تخلص عليه .. خلى القانون ياخد مجراه )) ..
هتف طاهر مستثاراً بعصبية :
-(( **** أنت والقانون فى وقت واحد .. بسيطة يطلع وهتصرف معاه هيروح منى فين )) ..
سلط أنظاره فوق تلك السائرة نحوهم بخطوات ثابتة مردفاً بعدها بأستهزاء :
-(( وأنت يا حيلة عمى .. شوف قانونك )) ..
أنسحب من محيطهم بعدما أنهى جملته ، بينما تحدثت غفران مازحة بعد جلوسها بالقرب منه :
-(( راقبتوه ها .. أنا بقول بالحس البوليسي ده سيبك من الهندسة والشركات .. وتعالى أشتغل تحت أيدى )) ..
أبتسم فى جذل ثم عقب قائلاً بنبرة خفيفة محتفظة بمرحها :
-(( سيبك منى وخلينا فى المهم .. أحكيلى حصل ايه )) ..
قالت تقايضه بتطفل :
-(( هحكيلك .. بس أعرف عملت مع رائف أيه ؟! )) ..
أجابها ببساطة :
-(( محدش فيكم مصدق أنى سلمته للبوليس ليه !! )) ..
هتفت بأستغراب :
-(( بوليس !! )) ..
قال مؤكداً :
-(( أه والله لو سبته لطاهر أو حتى برة كان هيموته .. يبقى الحل الوحيد أنى أسلمه .. وخصوصاً أننا عاملين بلاغ خطف .. يعنى التهمة لبساه .. وعشان كدة طلبت من طاهر يلحق رحمة وفضلت أنا معاه .. أرتحتى كدة ؟! .. أحكيلى حصل معاكى أيه عشان نختم اليوم )) ..
أخذت نفساً عميقاً ثم شرعت فى قص كل ما حدث معها دون زيادة أو نقصان ، فى حين أستمع هو إلى كل ماحدث ، ثم قال بأستنكار واضح :
-(( مش غريبة أن واحدة تسقط من وقعة !! .. هى حامل فى بسكوتة ؟! .. وبعدين ماحنا طول الوقت بنخبط فى ناس حوالينا فى الشوارع محدش بيقع .. ولا هى خبطت فى دبابة مصفحة )) ..
سألته غفران متوجسة بعدم فهم :
-(( تقصد أيه )) ..
قال بحيرة :
-(( مش عارف بس الموضوع غريب .. وكمان أنتى مش رافعة خلع لوقوع الضرر .. هو يقدر يطلبك فى بيت الطاعة مع الخلع ؟! )) ..
أجابته بثقة :
-(( لأ )) ..
قال مؤكداً :
-(( يبقى كلامه يترمى فى أقرب مقلب زبالة .. وحوار مراته التانية محتاج تدوير وراه )) ..
أختفت المسافة ما بين حاجبيها مع مرور الوقت ، تعيد داخل ذاكرتها ما حدث ، تحاول التركيز على أدق التفاصيل ، قبل قفزها بعد فترة من التفكير تقول بحماس :
-(( عندك حق .. عرفت أنا هعمل أيه )) ..
هتف يستوقفها مرتاباً :
-(( رايحة فين ؟! )) ..
قالت بمكر :
-(( هرجع لدكتور المستشفى وأطلب تقرير عن حالة المريضة أفنان .. بصفتها موكلتى وبصفتى المحامية عن الحادثة )) ..
غمزت بعينها ولوحت له بيدها ، قبل ركضها نحو وجهتها بعدما عزمت النية على أكتشاف الحقيقة وتخليص نفسها من الفخ المحكم ، والذي وقعت به جزاءاً لتهورها الغير محسوب .
**********************************
يقال أن الرحمة على أختلاف أشكالها نوعان ، واحدة تتنزل على الميت فتضئ قبره ، وأخرى تصيب الحى ممن يشاء بعطفه ، أما فى حالته فقد أكتشف على يدها نوعاَ أخر ، رحمة آنست وحشة روحه الهالكة فأعادت إليها الحياة برونقها .
ألتفت بحدة بعدما أنتهى من تبديل ثيابه ، يسأل زوجة عمه بنفاذ صبر :
-(( خلاص ولا لسة فى حاجة تانى )) ..
أجابته السيدة كريمة موافقة :
-(( أه الحمدلله الجلسة التانية خلصت .. والدكتور عطانى زى محلول مسحت بيه جسمها وشعرها .. وكويس ضيع الريحة عشان نفسها ميضقش تانى .. وهى المفروض جاهزة بس يا حبيبتي من التعب والسخونية نامت )) ..
صمتت لوهلة ثم أردفت تقول معترضة :
-(( معرفش أنت محكم رأيك على أيه بس !! .. مش كنت سمعت كلامى وسبتها الليلة دى هنا وأبات معاها .. عنادك ده يا طاهر مفيش زيه )) ..
اللعنة !! ، عن أي عناد تتحدث وهى من فرضت عليه حظر تجوال ومنعته من رؤيتها حتى الأن بحجة رائحة ملابسه !! ، هو من يكاد صدره ينفلق ويخرج قلبه من بين أضلعه أشتياقاً لها ولهفة عليها ، أساساً يكفيه ويزيد بعده عنها حتى المساء ، بل يكفيه تظاهره بالصبر ، فإلى الأن وأنتهى ، سيحملها حتى وهى غافية ويعود بها إلى منزلهم ، يسهر على راحتها ، ويملى حدقتيه المتعبة برؤيتها ، مقاطعاً فكره الحانق صوت زوجها يقول بتفهم شديد :
-(( سبيه يا كريمة يعمل اللى يريحه .. خليه هو كمان يروح بيته ويرتاح وهى معاه .. وأحنا بما أن العربية وصلت خلينا نسبقهم على البيت عشان عليا ترتاح .. كدة ولا أيه يا جواد )) ..
قال جواد موافقاً :
-(( أه يا بابا .. أنا مقتول نوم كمان وعايز أروح أغير هدومى دى وأكل أي حاجة .. لو خلصتوا يلا نتحرك لسه طريقنا طويل )) .
أستدار بجذعه يسأل طاهر الواقف خلفه :
-(( محتاج منى حاجة ؟! )) ..
تمتم الأخير شاكراً بأمتنان حقيقى وهو يربت فوق ذراعه بحب لم يستطع أخفائه :
-(( متحرمش منك )) ..
لمعت عينى جواد ببريق خاص قبل أنسحابه من أمامه يتولى مهمة القيادة ، بينما دلف هو إلى الداخل مهرولاً ، تسبقه قدماه شوقاً فى اللقا ، كما الثُرى الجاف يهفو الحيا ، يتأملها بسكون موضعى ألا من حدقتين تدور بلا توقف ، ملتهمة كافة تفاصيلها ولهاً وصبابة ، ومتخذاً كامل وقته فى أشباع عينيه من حضورها ، قبل أنحناء جذعه أستجابة لطلب جسده فى ضمة طال أنتظارها ، يتنفس أنفاسها المحترقة بأجفان مغلقة ، كالعائد حديثاً إلى وطنه ، يود لو قّبل كل شبراً من أرضها ، بل يود لو توقف الزمن عند تلك النقطة ، متشاركاً معها النفس ذاته ، التعب ذاته ، الأحتياج ذاته ، دون أن يفصل بينهم شئ ، منتبهاً بعد فترة على وضعه الغريب ، داخل الغرفة مفتوحة الباب ، فشرع يحملها ويسير بها إلى الخارج ، حيث عربته فى الأنتظار ، يستقلها بحذر تام وهى لازالت غافية بين أحضانه ، يرفض الأبتعاد عنها ، أو تلقى المساعدة على يد غيره كما أقترح سائقه قبل الأنطلاق فى طريقهم ، وذراعه تلتف حول خصرها بتملك واضح ، كالطفل الوليد يخشى الأبتعاد عمن وهبته الحياة ، متيقظاً بعد فترة من الوقت على حركة خفيفة من رأسها الموضوعة بعناية فوق صدره ، يليه صوتها تهمس بضعف :
-(( طاهر )) ..
شدد من أحتضان ذراعيه لجسدها ، قبل أن يحني رأسه كي يطبع قبلة طويلة فوق قماش حجابها ، هامساً بحنو :
-(( أنا هنا .. متخافيش )) ..
سألته بوهن :
-(( متأكد )) ..
أبتسم فى خفوت ، ثم قال بملامح وجه مرتخية :
-(( فتحى عينيك ليا .. عشان تتأكدى .. وأنا أرتاح )) ..
أطاعته ورفعت رأسها المسنود فوق أضلعه ببطء تكشف عن حدقتيها المتعبة على مضض ، سامحة لعدستيه في التعلق بمقلتيها اللامعة ، بينما يتلقي داخل صدره دقات قلبها المتسارعة نتيجة لألتصاقه بها ، منقسماً ومكتملاً بين بصرها وبصيرتها ، فالأول نافذة يرى من خلالها وردية العالم ، والأخرى بوابته إلى أعماق الكون الحالم ، قبل أن تبتسم له بضعف ، ثم تعود لأغلاقهم بعدما تمسكت بحافة ياقة قميصه تقبض عليها بقدر ما سمحت لها قوتها ، بينما رفع هو أحدى ذراعيه يحاوط بكفه العريض شطر وجهها ، متنهداً براحة كبيرة بعد أن قبل جبهتها عدة مرات ، ومسح فوق أهدابها ، شاكراً قدره ، والفرصة الثانية التى مُنحت له لتعويض ما فاته فى السنون الماضية ، فرصة ظنها فى بدء الأمر نقمة ، ود التخلص منها فى أسرع وقت ، أما الأن ! ، فأزهاق روحه أهون من التفريط بها .
**********************************
هوى جسدها أرضاً بعدما حاولت النهوض للمرة الثانية وفشلت ، تتطلع عاجزة إلى المكان من حولها ، وخصلاتها المنثورة ، فوق الفراش والأرضية ، ممتداً إلى الممر الواصل بين الغرفة والجزء الخارجى للمنزل ، قبل أن تسقط بنظرها إلى ساقيها ، معصميها ، ومقدمة عنقها هبوطاً إلى المنطقة التى تليها ، تطالع بحسرة الجمرات الملتهبة بحروق من الدرجة الثانية كعلامات تذكارية على هوجائيته في التعامل معها ، ناهيها عن كدمة قوية فى منطقة قفصها الصدرى تحول بينها وبين الوقوف على قدميها أو حتى إتمام عملية التنفس بشكل مريح ، مع قطع غائر فى فخذها الأيسر ، وجروح متفرقة فوق وجهها وإذنها ، كأنه تلذذ بقطع جلدها ، وأخيراً وليس آخراً ، لطمة قوية فوق شطرها الأيمن طالت عينها وأدت إلى تورم وأغلاق جفنها ، بأختصار كانت كمن دهسته عربة ، ثم عادت ومرت من فوقها مرة وأثنان ، كل خلية من جسدها تأن بنوع ألم مختلف عن جارتها ، والأسوء من عدم قدرتها على التحرك لتلقى العلاج ، عدم جرأتها في طلب المساعدة ، فهى لازالت تجلس مُهانة ، تترقب بذعر عودته ومصيرها المجهول ، إما أن يكمل ما بدءه حتى يُقضى أجلها أو يعفو عنها ، وفى كلتا الحالتين ، هى المتضرر الوحيد ، السجينة ، ذو اليد القصيرة ، ترتشف ما صنعته يداها ، فهى من بادلت الغالى بالرخيص ، وتخلت بكامل أرداتها عما هو نفيس ، صرخت وبكت وأنتحبت حتى أنقطعت أحبالها ، ثم أرتمت فوق الأرضية الباردة ، بعدما خارت قواها متمتمة بندم :
-(( جواااااد )) .
فى قوانين الفيزيا الكمية ، يقال أن الكل على حد سواء ينجذب إلى الأرض جذباً يتناسب طرديا مع حجمه ، وإن كان صحيح ، إذاً لم ينجذب هو أمام تلك الصغيرة ، ضئيلة الحجم ، بقوة أكبر من قوة الأرض نفسها ، معاكساً بذلك كافة القوانين الطبيعية ، هذا ما فكر به وهو يستلقى بجسده المنهك فوق الفراش جوارها ، ثم راح يتأملها ، بعد أن أغتسل جيداَ وبدل ثيابه بأخرى بيتية نظيفة ، معطياَ مدبرة منزله وقتها الكامل أيضاً فى مساعدتها على تبديل ثيابها هى الأخري أحتراماً لخصوصيتها ، ثم أحتضن جسدها بين ذراعيه ، بعدما تحسس جبهتها وتأكد من تعديل وضعية رأسها فوق صدره ، سامحاً بعد ذلك لأهدابه المثقلة فى الأنسدال مادامت بين أحضانه ، قبل أن يستيقظ فى منتصف الليل على كفها ، يدفع جسده بأنفاس مثقلة ، فسارع يقول مهدئاً كعادته :
-(( رحمة .. ده أنا طاهر متخافيش )) ..
أدارت رأسها يميناً ويساراً بهلع ، تنظر إلى الأرض الأسمنتية الباردة المغطاة بالدماء بداية من أسفل قدميها وعلى طول أمتداد بصرها ، تبتلع لعابها بصعوبة وهى تقفز كل ثلاثة خطوات معاً تحاول تفادى الدماء اللزجة ، والهرب من برد العنبر العفن ، جاذباً أنتباه عينيها الزائغة ، جسد ضخم ممتلئ ، يسير فى أتجاهها ، مع صوت كريه يسألها محذراً :
-(( أنا مش قلتلك متجيش هنا تانى يا بت !! .. أنتى اللى جنيتى على نفسك .. والمرة دى زى ما وعدتك هشقك وأطلع كليتك عشان تتأدبى )) ..
صرخت تركض فى الأتجاه المعاكس فارة بروحها وقائلة بذعر :
-(( أبعدى عنى .. أنا مرجعتش هنا بمزاجى .. سبينى أمشى )) ..
ركضت المرأة الملقبة ب “ست أبوها ” .. من خلفها تنتوى بها السوء ، بينما واصلت هى “رحمة ” ما بين واقعها وهذيان الحمى دفعه ، حتى تغلغل صوته كابوسها المزعج ، فهتفت تستنجد به بلهفة بعدما ركضت فى أتجاهه فور رؤيتها له يقف على الطرف الأخر ، وحاوطت بذراعيها خصره :
-(( طاهر .. طاهر ألحقنى .. الست دى عايزة تاخدنى .. عايزة تموتنى غصب عنى )) ..
تلمس هو بعدما أعتدل فى نومته جبينها المشتعل بالحرارة ، ثم قال مهدهداً بعدما أستجاب لندائها ، ورفع جسدها إليه ، مكبلاً ساقيها وذراعيها بين خاصته :
-(( حبيبتى .. أنتى معايا .. ومفيش حد غيرنا )) ..
همست رافضة بصوت باكِ :
-(( لا فى .. بص هناك .. ست أبوها واقفة أهى عايزة تضربنى تانى .. متسبنيش يا طاهر هتاخدني معاها .. وأنا مش عايزة أبعد عنك )) ..
أن الأمر يتطلب منه أقصى درجات ضبط النفس والألتزام ، خاصة بوضعية جلوسها الحميمي وتمسكها به بتلك الطريقة المهلكة ، محاولاً قدر ما أمكنه تجاهل وضعيتها ، صاباً كامل تركيزه على حالتها الصحية ، والأضطراب الذى تمر به ، فأخر ما يريده تلك اللحظة هو أصابتها بنوبة صدرية جديدة ، لذا همس يقول بحنو مطمئناً بعدما أحتضن كفها المرفوع والمشير إلي الفراغ :
-(( أنا معاكى متخافيش .. مش هتقدر تقرب منك ولا توصلك .. أمسكى فيا وأنا هحميكى منها .. محدش هيقدر ياخدك منى )) .
أدارت جزء من رأسها تتأكد من حديثه ، قبل أن تعود وتصرخ بأرتياع ، عند رؤيتها تلك السيدة البغيضة تتقدم منهم :
-(( طاهر .. طاهر .. جاية علينا .. ألحقنى هتموتنى )) ..
رفع ذراعه الأخر يمسح بكف يده فوق وجهها قائلاً بحب :
-(( هشششش .. أنا معاكى يا طوق نجاة طاهر .. يا أرض وسما طاهر .. غمضى عينيك .. ومتبصيش لحد .. خليكى هنا أستخبى فيا ومتخافيش من حاجة طول مانا جنبك )) ..
أطاعته بأغماض عينيها وأخفاء وجهها داخل ثنايا عنقه ، بينما أستمر هو فى تهويدها بعدما سحب من فوق الطاولة جواره أحد الآقراص الخاصة بخفض الحرارة ووضعها برفق داخل فمها ، مستأنفاً بصوته الحانى الناعس طمأنتها :
-(( مفيش غير أنا وأنتى وبس .. دى تهيأت .. طول مانتى فى حضنى محدش هيقدر يقربلك .. ولا أنا عمرى هسيب حد ياخدك منى .. سمعانى .. غمضى عينك وأرتاحى )) ..
حركت رأسها موافقة من داخل عنقه ، ثم غمغمت تسأله بضياع بعد عدة دقائق :
-(( أفتح عينى ولا لسه ؟! )) ..
أبتسم لسؤالها الطفولى ، مجيباً بعدها بصوته الأجش :
-(( أنتى عايزة أيه ؟! )) ..
أجابته ناعسة :
-(( مش عايزة أفتح وأشوف غيرك )) ..
أتسعت أبتسامته السعيدة ثم قال بعدما لاحظ هدوء أرتجافها :
-((عارفة .. أنا مش شايف فى كل حياتى غيرك .. حتى وأنا مفتح )) ..
همهت بعدم تركيز ، قبل أن تغمغم قائلة بخفوت :
-(( طاهر .. أنا بردانة وتعبانة )) ..
ضم جسدها إليه أكثر ، بعدما قام بخلع سترته العلوية ، حتى يبث إليها أكبر قدراً من حرارة جسده ، ثم قال وهو ينثر قبلاته فوق جبهتها ووجنتها وجانب ثغرها :
-(( معلش يا حبيبتي .. حاولى تنامى ووعد الصبح هتكونى كويسة )) ..
همهمت موافقة وقد بدءت بالفعل تنسحب إلى دوامة أخرى من النوم العميق ، بينما بقى هو مستيقظاً يلعن بخفوت مرضها ، ووعده ، وحظه العاثر ، باحثاً عن أرداته التى على وشك الأنصهار كجسده الملاصق لها .
وفى الصباح ، بعد مرور ليلة عصيبة ، لم يزره النوم الأ فى بداية يومه ، أستيقظ على حركة خافتة بالقرب منه ، وأنفاس حارة تلفح وجهه ، فسارع بفتح عينيه قلقاً ، يتأكد من سلامتها أولاً ، قبل أن يراها ، تتطلع إليه مبتسمة بخجل ، وقائلة بأرتياح :
-(( أنا معاك )) ..
تنهد مطولاً بحرارة ، ثم قال بعدما جذب كفها المتكور إلى فمه ، وقام بطبع قبلاته فوق كل أصبع على حدى :
-(( أنتى معايا )) ..
أتسعت إبتسامتها الخجلة وهى تراقب ما يقوم به ، مسلطة نظرها فوق جذعه العارى ، بينما بدء هو فى تمسيد جانب وجهها برفق شديد ، قبل أن تنزلق أنامله إلى أسفل عنقها ، تحديداً حيث ندبتها الظاهرة ، بعدما أنفرجت سترتها البيتية فى المساء كاشفة عنها ، نتيجة لحركتها المستمرة بين ذراعيه ، يتلمسها بحذر وهو يسأل بنبرة متهدجة :
-(( مش هتقوليلى أيه دى ؟! )) .
سحبت نفساً عميقاً ثم قالت بأختناق بعدما أغلقت عينيها :
-(( دى حادثة لما دخلت السجن .. كبيرة العنبر كانت مخليانى أشتغل خدامة عندها .. وأول مرة لما رفضت عملت فيا كدة .. كان معاها موس ضربتني بيه عشان اتربى زى ما قالتلى )) ..
شعر بغصة داخل حلقه ، خاصة وهو يراها تضغط بقوة فوق أجفانها المنغلقة ، كأنها تجبر عقلها وبصرها على طرد الذكرى وعدم رؤيتها ، وفى تلك اللحظة ، رغم الألم الذى لا يبرح صدره ، والفجوة الكبيرة وسط قلبه ، ود لو يحمل عنها حملها هى الأخرى ، لو يملك عصا سحرية ، ويمسح على جرحها فيبرء ، وبدلاً عن ذلك أنحنى برأسه ، يطبع خط قبل مواسية ، ممتنة ، فوق ندبتها ، أمتدت إلى سيل من القبلات الناعمة ، ثم أرتفعت إلى عنقها ومنه إلى وجهها ، ولم يعيده إلى وعيه ، سوى صوتها المرتجف ، تستوقفه بوهن :
-(( طاهر !! )) ..
أبتعد عنها ، رافعاً رأسه إليها وهو ينظر بضياع ، قبل أن يقول بحرج بعدما تنحنح لتنقية حلقه :
(( تعالى كملى نوم .. لسه بدرى )) ..
سألته بحيرة ، بعدما جذب رأسها إلى صدره مرة ثانية :
-(( هو ده حلم .. ولا حقيقة )) ..
تنهد بعمق ، ثم أجابها هامساً بأنتشاء :
-(( دى أمنية وحيد .. بلقاكى .. بقي لروحه وطن )) ..
**************************************
بعد مرور أسبوع وتحديداً حيث اليوم الموعود .
يوم قرانها ، جلست فوق حافة الفراش داخل غرفتها ، تنظر بأعين خاوية ، إلى كلاً من رحمة وغفران الواقفات قبالتها ، لا تسمع من حديثهم سوى همهمات ، ولا ترى من ملامحهم ألا خيالات ، شاعرة بالغرفة تميد بها ، مع ثقل قوى يجثو فوق صدرها ، حتى أن أطرافها ترتجف منذ الصباح دون سبب مقنع ، بل كل ما يحدث لها ليس مقنع !! ، أوليس اليوم ليلة سعدها كما قال والدها منذ قليل ؟! ، عيدها الثالث ! ، يوم ترقبته منذ عامين ليس لشئ سوى لرؤيته ! ، إذا مالها الأن تشعر بوخز الدموع يحرق مقلتيها ؟! ، وأن فستانها المنفوش ذو اللون العاجى ، ليس سوى أشواك تخترق جسدها ! ، رفعت رأسها تسأل بصوت مرتجف خافت ، علها تحصل على إجابة تهدء من روعتها :
-(( هو أنا المفروض أبقى قلقانه كدة ؟! )) ..
هزت رحمة كتفيها تعبر عن جهلها ، فالنسبة إليها ، عقد قرانها له ظروفه الخاصة ، ولكن الأن ، تحديداً ، عند التفكير به ، تجد نفسها تبتسم تلقائياً للذكرى ، أما عن غفران ، فقد أجابتها بأعين لامعة وغصة فى حلقها :
-(( المفروض تكونى طايرة .. مادام بتحبيه )) ..
زفرت مطولاً ، تضغط بكفها فوق موضع قلبها بعدما أغمضت عينيها ، تستبين سبب ألمه ، بينما فى الأسفل ، سأل السيد أنور ، جواد الجالس قبالته مستفسراً بقلق :
-(( كلمت المأذون يا جواد ؟! )) ..
تأفف الأخير ، ثم أجابه بحدة ، بعدما تبادل النظرات مع طاهر الذى أومأ له بعينيه كى يهدء :
-(( كلمته فى الطريق .. فاضل الأستاذ يوصل هو وعيلته عشان نخلص ونشوف أشغالنا )) ..
هتفت والدته مؤنبة ، قبل أن يقاطعها صوت زوجها يقول معاتباً :
-(( كدة برضة يا جواد ! .. ده كلام يتقال يوم فرحة أختك ؟! .. ولا مش كفاية طاوعتكم وهكتب كتابها سوكيتى من غير حد !! )) ..
قال جواد معقباً :
-(( هو مش كله كان بطلبها ولا حتى غصبها !! .. مش هى اللى قالت مش عايزة زيطة وكفايه الفرح عشان عمرو ؟! .. ولا دى كمان أنا الغلطان فيها !! )) ..
أجابه والده منصاعاً :
-(( وأنا موافقتش على طلبها غير عشان عمرو الله يرحمه )) ..
قاطع نقاشهم المحتد ، عدة زغاريط متتالية ، أنطلقت من مديرة المنزل فور رؤيتها ، للضيف المنتظر الغائب ، وأنضمت لها والدتها فى الحال تشاركها الأحتفال ، فى حين سارع والدها يتمتم بفرح :
-(( نادى علياء يا كريمة .. قوليلها محمد وصل )) ..
ركضت زوجته تتسلق الدرج تنفيذاً لطلبه بفرحة عارمة ، أما فى الاعلى ، وبعد تهادى أصوات الأستقبال إليهم ، أنسحبت رحمة تستبين الوضع وتنضم قبلهم للجمع الصغير فى الأسفل ، بينما سارعت غفران تساعدها على الوقوف وترتيب ثيابها للمرة الاخيرة ، قبل أن يستمع كلاهما إلى صوت والدتها تقول من خلف الباب المغلق بسعادة غامرة :
-(( علياء يا حبيبتى .. محمد وصل .. أنزلى عشان تسلمى عليه )) ..
ضربة قوية غير متوقعة من يد خفية ، شعرت بها تصوب على حين غرة نحو مضغتها الحائرة ، فأغمضت عينيها مسرعة تتجاوزها ، وبمجرد أن فعلت ، قفزت صورته أمام مخيلتها بكافة تفاصيله ، فهمست تنادى بأشتياق :
-(( يحيى )) .
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية في لهيبك احترق)