روايات

رواية في لهيبك احترق الفصل الثاني عشر 12 بقلم شيماء يوسف

رواية في لهيبك احترق الفصل الثاني عشر 12 بقلم شيماء يوسف

رواية في لهيبك احترق الجزء الثاني عشر

رواية في لهيبك احترق البارت الثاني عشر

في لهيبك احترق
في لهيبك احترق

رواية في لهيبك احترق الحلقة الثانية عشر

” ‎تَبّاً ان رأَتْكِ عَيْنَاي في مَنَامِي طَيَّفاً يَحْمِلُ لي الأحَاسِيس
فقَدْ كُنْتي لي دَوَّماً كِيان بَغِيض‎ تَشْبَهِين في كَيْنُونَتُكِ إِبِليس
قَدْ أَخَذتي مني يَوْماً نِصفّي الآخِر وتَرَكْتنِي بَائِس شَقِّي تَعِيس
في عَالَم مِنَ الظَّلِاَّمِ قَاسٍ جَنَباتهِ حَقَاً ضَبَابيّ التَّضَارِيس
ثُمَّ جَمَّعْنا القَدَرُ وكَمْ كانَ قَدَرٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ بكُلِّ المَقَاييس
فإذا بي فَجْأة أَراكِ تَفْتنِيني تَجذَبِينَ رُوحِي كالمِغْنَاطِيس وأنا لذِكْرى الرَّحِيل لاأَقْوَى على التَّدنِيس
حائِرٌ بينَ مَشَاعِري ووَاجِبِي لاأَجدْ مَخرَّجاً واحداً للتَّنْفِيس
قَدْ بتُ تَغمّرُنِي مَشَاعِر لا حَصَرَ لها تَصُرُّ في قَلبِي على التَّكدِيس
مَشَاعِر قَدْ أَنْكَرَتُها ومَحُوتَها منْ قَلبِي وعَقْليّ وكُلَّ القَوامِيس
ولكني ها هُنا أَحْيَاها في مَحْرَابُكِ تَغْمّرني ثَنَاياها لأَدْرَكُ اني لَسْتُ أَبَداً بقِدِّيس ”
-إهداء من المبدعة ” شهد عمرى ” 💐💐
قفز من نومه مصدوماً جاحظ العينين مشوش التفكير ، تنقبض رئتيه بعنف وتنبسطان ثم تعود وتنقبضان دون هوادة ، بينما حدقتيه تدور أركان الغرفة من حوله يتأكد من خلوها منها ، قبل أن يعتدل فى جلسته وينزل ساقيه من فوق الفراش مستنداً بقدميه على الأرضية الخشبية الباردة بينما أنامله المتشنجة ، تقبض بقوة على طرف الملاءة أسفله ، منكس الرأس لاهث الأنفاس ، وزافراً عدة مرات حتى بدء إيقاع أنفاسه ينتظم فعاد برأسه للخلف رافعاً أحدى ذراعيه يمسح بخشونة فوق عضلات وجهه المتقلصة ، فقد بدا حلمه حقيقاً بشكل اثار دهشته ، كل شئ كان واضحاً مادياً وملموساً ، أبتسامتها الخافتة الخجلة ، أنفاسها الدافئة العابرة صدره ، وكأنه مزمار مجوف يمر شهيقها وزفيرها من خلاله ، رائحة عطرها المسكرة كنسمات الربيع المحملة بعبير الياسمين الفواحة ، ترانيم صوتها الساحرة المداعبة لأوتار فؤاده ، وخصلاتها ، تلك الخيوط الفحمية التى ألتصقت بوجنته الخشنة فى عناق ثغريهما ، بلل شفتيه ببطء كأنه يعيد تذوق فمها من جديد ، قبل أن تنزلق ذراعه إلى صدره ، يتحسس بكفه مضخته الثائرة ، هنا ، حيث كانت تقبع خاصتها منذ دقائق مضت ، أنتبه على ما يفعله فأنتفض واقفاً على قدميه مبتعداً عن الفراش ، محركاً رأسه برفض عدة مرات متتالية ، فهناك شئ خطير يحدث له ، يجهل متى وكيف بدء ولكنه كان كفيلاً بجعله يفر هارباً من الغرفة بل من المنزل بأكمله بعدما أرتدى ملابسه على عُجالة وأخذ حماماً بارداً يعيد إليه جزءا من إتزانه ، ثم ركض متعجلاً نحو الأسفل دون النظر خلفه ، ولم يوقفه سوى صوت مدبرة منزله التى خرجت للتو من غرفتها ، تسأله بقلق بينما أحدى كفيها تفرك بقوة عينها الناعسة للأفاقة :
-(( طاهر يابنى .. خير إن شاء الله .. رايح فين كدة والشمس يادوب مشأقشة ؟! )) ..
ألتفت ينظر إليها بجسده المتشنج وعضلات وجهه المنقبضة ، قبل أن يجيب بأقتضاب ونبرة صوته لا تخلو من العصبية :
-(( مش مضطر أبرر .. وياريت محدش يستنانى النهاردة مش هرجع على البيت )) ..
فتحت فمها وقطبت جبينها حائرة تحاول أستيبان سبب حدته الغير مبررة وقبل أن تفتح فمها لمزيد من الأسئلة كان قد أختفى من أمامها تاركها تعود بأدراجها إلى المطبخ وداخلها يحترق فضولاً لمعرفة ما أصاب مرؤسها بالأعلى .
***************************
هبط الدرج بترو شديد بعدما نظر فى ساعة يده ، فلازال الوقت باكراً على الذهاب ، كما أنه قرر اليوم تقضية مزيد من الوقت برفقة طفلته والعائلة، وعند التفكير بأبنته ، وجد نفسه يزفر بضيق محرراً أنفاسه الحارقة من داخل صدره ، فلازالت تلك الطفلة البريئة لا تتقبل أمر أختفاء والدتها دون حتى وداع ، وعلى الرغم من تظاهره بالثبات وعدم الأهتمام أمام الجميع ألا أن نيران صدره لازالت تزداد أشتعالاً حارقه جوفه ، ندماً وقهراً وحسرة ، على سنوات عمرة الثمانية ، التى صرفها برفقة خائنة ، دعست بأقدامها فوق وعودهم وأحلامهم الوردية ، هادمة قلعتهم المستقرة ، دون أدنى شعور بالذنب أو التأنيب ، أخرجه من ظلمة أفكاره صوت والدته هاتفة أسمه بحنانها المعتاد :
-(( جواد يا حبيبى .. صباح الخير .. واقف عندك كدة ليه !! )) ..
أرغم شفتيه على أغتصاب أبتسامة باردة وجهها إليها ثم أجابها بصوته العميق الهادئ مستأنفاً طريقه نحوهم :
-(( صباح النور يا أمى .. صباح الخير يا حاج .. صباح الخير يا عاليا )) ..
صمت قليلاً قبل أنحنائه بجذعه ليطبع قبلة حانية فوق رأس طفلته الجالسة بجوار شقيقته ثم أستطرد يقول بحب :
-(( صباح الجمال يا حبيبة بابى )) ..
ردد الجميع التحيية بينما يديه تجذب أحدى مقاعد طاولة الطعام كى يجلس جوار طفلته التى كانت ترفض تناول فطورها إلا بعد التحدث إلى والدتها ، مسح جواد فوق شعرها ثم قال بصبر وتفهم :
-(( ليه يا بابى مش عايزة تفطرى )) ..
أبتعدت الطفلة بجسدها عن كفه التى تمسد خصلاتها ثم أجابته بنبرتها الطفولية الحزينة بعدما حركت كتفيها كعلامة غضب منه :
-(( عايزة أكلم مامى )) ..
رفع رأسه ينظر بقلة حيلة إلى شقيقته التى كانت تطالع أبنته والدموع تترقرق داخل مقلتيها يتلمس منها الدعم ، قبل أن يهتف حازماً ، فأفضل طريق لأختصار وتجاوز تلك الأزمة هو بمواجهتها :
-(( لينة مامتك سافرت لمكان مفيهوش تليفون .. ومش هينفع تكلمك .. أحنا اتكلمنا فى الموضوع ده قبل كدة كذا مرة .. ياريت بقى تتعودى على ده وأتفضلى أفطرى )) ..
صرخت الطفلة رافضة وغير متقبلة لما يقوله قبل أن تترك مقعدها وتركض غاضبة إلى الأعلى حيث غرفتها تتبعها والدته ، بينما تحدث والده السيد أنور معاتباً رغم أنخفاض نبرته :
-(( بالراحة على البنت يا جواد مش كدة .. متنساش أنها أمها برضة .. صعب تنساها بسهولة )) ..
صاح الأخر بحدة منفساً عن غضبه :
-(( امها دى واحدة ****** مفكرتش فيها ولا حاولت على الأقل مرة توصلها .. يبقى لازم تنساها وتتعود تعيش من غيرها )) ..
حرك والده رأسه بأسى متفهماً موقف أبنه الغاضب ، أما عن جواد فقد شعر فجأة بالأختناق يقبض على حنجرته وقد داهمته رغبة ملحة فى الهروب من أمام الجميع متراجعاً عن قراره فى المكوث بالمنزل ، راقب كلاً من والده وشقيقته أنسحابه قبل أن يوجه والدها السؤال إليها مستفسراً بفضول :
-(( وانتى يا بنتى مش نازلة النهاردة ؟! )) ..
أجابته بخفوت حيث لازال التأثر بادياً على وجهها :
-(( لا يا بابا .. النهاردة هقضيه مع لينة فى البيت )) ..
أومأ والدها برأسه مستحسناً ثم تابع هاتفاً بعد فترة من الصمت :
-(( علياء .. ما تشوفى مرات طاهر لو تيجى تقضى اليوم معانا بدل ماهى قاعدة لوحدها هناك )) ..
أنحنت بجذعها نحوه قابضة بكلتا كفيها على أذرع المقعد المتحرك ثم قالت مازحة :
-(( أنت أيه حكايتك بقى بمرات سى طاهر .. مش هسيبك غير لما تعترف بكل حاجة )) ..
أبتسم والدها مطولاً ثم أجابها مؤنباً ومدعياً الضيق :
-(( يا بنت عيب .. كل الحكاية أن أسمها شبهه أسم صاحبى وعايز أتأكد هى بنته فعلاً ولا لأ )) ..
ردت علياء موافقة بعدما أستقامت فى وقفتها :
-(( أمممممم .. إذا كان كدة ماشى .. طلباتك أوامر يا سى بابا .. شوية بس تكون صحيت وهروح بنفسى أجيبها وأرجع )) ..
*******************************
قفزت عدة مرات داخل الغرفة بفرح بعدما أنهت مكالمتها الهاتفية ضامة هاتفها الجوال إلى صدرها بأمتنان قبل أن تتنهد براحة وعيونها تلمع برضا ، فها هى قد أنتهت للتو من الأتفاق على بدء عمل جديد كمترجمة من المنزل ، براتب خرافى ، لم تتخيله حتى فى أكثر أحلامها تفائلاً ، رفعت رأسها للأعلى شاكرة بعدما أغمضت عينيها بأمل ، شاعرة أنها تعود لذاتها رويداً رويداً ، رحمة القديمة المتفائلة المستقلة ، وقريباً ، قريباً جداً سترفرف حرة بجناحيها خارج حدود قلعته الباردة ، أما الأن فعليها التواصل مع صديقتها “غفران” ومشاركتها تلك الأخبار السعيدة ، وبعد عدة ثوانِ من الأنتظار وصلها صوت رفيقتها الباكِ مما جعلها تهتف بفزع ودقات قلبها تتسارع تلقائياً :
-(( غفران مالك !!! أنتى بتعيطى ؟! )) ..
أجابتها غفران من بين شهقاتها المتلاحقة :
-(( أيد الشنطة بتاعتى أتقطعت وأنا فى الطريق )) ..
زفرت بأرتياح بعدما وضعت كفها فوق صدرها ثم صاحت بها حانقة :
-(( أنتى بتهزرى !!! كل العياط ده علشان أيد الشنطة !! .. أنا أفتكرت فى مصيبة حصلت )) ..
كفكفت دموعها المنسكبة كالشلال ثم أجابتها بنبرة تحمل أبتسامة ضعيفة :
-(( معرفش هى جت كدة بظروفها .. وكمان ماما كلمتنى قالتلى عندها دور برد ومحتجانى أروح أبات معاها النهاردة .. شكل الموضوع أثر فيا بزيادة )) ..
ردت رحمة معقبة ببساطة :
-(( طب أيه المشكلة ما تروحى ؟! ولا ممكن بدر يعترض )) ..
قالت شارحة :
-(( لا مش فكرة يعترض .. بس كنا متفقين نتكلم النهاردة شوية .. وبصراحة كدة كنت ناوية أعمل كبسة من بتاعة المخبرين على حماتى .. بس يلا ملهاش نصيب )) ..
هتفت رحمة متسائلة بتأنيب :
-(( كل ده يا غفران !! أنا قلت روحتى من زمان )) ..
همست غفران هى الاخرى متحججة بنزق :
-(( أعمل أيه يعنى مانا أتشغلت بالميتم مع أستاذ رمادى بتاعك وأبن عمه .. وقلت أروح النهاردة معرفتش أهو .. خلاص بقى هكلم بدر أقوله أنى هطلع على ماما وأقضى الليلة معاها .. وبكرة أطب على حماتى فى عقب دارها )) ..
صمتت لوهلة ثم تابعت تسألها بأهتمام :
-(( سيبك بقى من كل دول وقوليلى عاملة أيه ؟! .. شكل صوتك مبسوط على غير العادة ؟! )) ..
أبتسمت حتى ظهرت تلك الأبتسامة واضحة من خلال صوتها ثم أجابتها بحماس :
-(( أيوووووة .. وكنت بتصل عشان أقولك لقيت شغل من البيت .. وبمرتب ضعفين اللى كنت طلباه )) ..
هللت غفران بصوتها العالى مشاركة صديقتها تلك اللحظة الهامة مما جعل عبرات رحمة تنساب على الطرف الاخر ممتنة من وجودها فى حياتها ، بل ممتنة لتدابير القدر التى أوقعت كلتاهما فى طريق الاخر ، فرغم الأشهر القليلة التى جمعتهما سوياً ، ألا أنها تشعر كما لو أن صداقتهم قائمة منذ أعوام ، عاودت غفران الحديث متسائلة بأهتمام :
-(( طب قوليلى هتشتغلى أزاى ؟! .. معاكى لاب تشتغلى عليه ولا أبعتلك بتاعى )) ..
أجابتها بصدر ممتلئ بالحب والعرفان :
-(( متخافيش معايا بتاعى .. عمى ومصطفى قبل ما يسافروا بعتولى شنطة هدومى وكل اللى محتاجاه )) ..
صمتت قليلاً ثم أستطردت تقول بنبرة صادقة مختنقة :
-(( شكراً يا غفران .. شكراً أنك دايماً معايا )) ..
ترقرقت عبرات الاخرى قبل هتافها بخفة ملطفة الأجواء المشحونة بالعاطفة :
-(( اقفلى بقى ألا هعيط والله تانى .. مش عارفة مالى النهاردة عايزة أعيط من غير سبب )) ..
ودعتها رحمة على أمل قريب فى اللقاء ثم أحكمت ربط وشاح رأسها وهبطت للأسفل متجهة مباشرةً نحو الحديقة قبلما يوقفها ظهور أم الحسن تبتسم لها بودها المعتاد ، أرتسمت أبتسامة واسعة فوق ثغر رحمة ثم غمغمت مرحبة بحب :
-(( صباح الخير يا ماما فادية )) ..
رددت مدبرة المنزل التحيية أولاً ثم سألتها بفضول مستفسرة :
-(( يصبحك بالخير يا بنتى إن شاء الله .. خارجة ولا ؟! )) ..
أجابتها نافية :
-(( لا يا أمى .. كنت رايحة الجنينة أشوف شجر الليمون وأسقي اللى محتاج )) ..
صاحت مدبرة المنزل مستنكرة بضيق :
-(( تسقيها ليه إن شاء الله !! مش طاهر بيه جاب جناينى جديد ياخد باله من كل حاجة !! .. أيه اللى ينزلك وتتعبى أيديكى فى الهم ده )) ..
أجابتها وأبتسامتها تزداد أتساعاً من ذلك الأهتمام :
-(( أبداً يا ماما .. بس أنتى عارفة أنه بيجى يوم ويوم يهتم بالجنينة ويمشى عشان مش مسموحله يبات هنا .. فخايفة يهمل حاجة كدة ولا كدة ودول روح .. هروح بس ابص عليهم أطمن عشان أرتاح )) ..
هزت أم الحسن رأسها مستسلمة ثم فجأة رفعت رأسها تسأل بخجل بينما داخل حدقتيها يلمع بفضول :
-(( أنا بصراحة يعنى كنت عايزة أسالك على حاجة كدة بس محرجة .. متعرفيش طاهر عمل أيه مع الراجل إياه ده .. اللى كان متفق مع محمود يجى بداله )) ..
ضمت رحمة شفتيها معاً للأمام ثم حركت رأسها يميناً ويساراً نافية عدة مرات بأبتسامة خافتة ، تخفى خلفها حالة الأحباط التى تملكتها فور سماع ذلك السؤال ، فهل تظن مدبرة منزله أنها بالأهمية التى تجعله يبحث عمن يريد آذيتها !! ، أنقذها جرس المنزل من الأجابة عن مزيد من الأسئلة الفضولية القادمة فى الطريق ، يليه ظهور علياء التى أحتضنتها بود تسأل عن أخبارها ثم بعدها قالت بحماس :
-(( كويس أنك لابسة وجاهزة .. يلا تعالى معايا البيت )) ..
سألتها رحمة مستنكرة ببلاهة :
-(( بيت مين ؟! )) ..
زفرت علياء بقلة صبر ثم أجابتها شارحة وهى تجذبها من ذراعها نحو باب الخروج :
-(( بيت مين يا رحمة يعنى !! .. بيتنا أكيد .. بابا عازمك تقضى اليوم معانا .. ومش هيقبل ترفضى عشان تكونى عارفة )) ..
أبتسمت بخجل قبل أن تتحرك معها مذعنة للقرار ، فى حين هتفت أم الحسن تقول معترضة :
-(( طب يابنتى مش أولى تستأذن جوزها برضة )) ..
توقفت كلتيهما عن الحركة وكانت رحمة هى أول من ألتفتت تنظر إليها بملامح وجه رافضة ، منزعجة من الفكرة بشكل عام ، بينما أجابتها علياء بأحترافية شديدة قبل أن تواصل جذب رحمة للخارج وتختفى بها عن أنظار العاملة الفضولية :
-(( متقلقيش بابا هيتصل يبلغه )) ..
******************************
بحلول المساء راقبت علياء ، بقلب ممزق ، طفلة أخيها وعيونها الباكية بصمت ، قبل أن تتبادل النظرات مع رحمة التى تعاطفت على الفور مع حال تلك الطفلة الصغيرة ، ثم أومأت برأسها مطمئنة لعلياء قبل أن تنزلق وتجلس أمام الطفلة على ركبتيها وتقول بحنو بالغ ، وكفها يمسد شعرها وجبهتها المجعدة بغضب طفولى رقيق :
-(( القمر زعلان ليه )) ..
أجابتها الطفلة بصوت باكِ حزين :
-(( عشان مامى سافرت وبابى مش موافق أروح عندها )) ..
تنهدت رحمة مطولاً ثم قالت وقلبها يعتصره الألم :
-(( أنتى عارفة أن مامتى أنا كمان مسافرة )) ..
جذب حديثها أنتباه الطفلة فسارعت تسألها بلهفة مترقبة بكل حواسها :
-(( بجد ؟! )) ..
أومأت برأسها مؤكدة ثم قالت بصوت متحشرج والدموع تراود أجفانها :
-(( أيوة .. سافرت زيك كدة .. من غير ما أودعها )) ..
سألتها الطفلة بأمل :
-(( وبعدين .. رجعت ؟! ))..
أجابتها رحمة بعدما سارعت بمسح عبراتها التى أنزلقت من أحد جفنيها عنوة :
-(( مامتى سافرت فى مكان صعب حد يوصله .. وأنا مستنية دورى عشان أروحلها )) ..
صمتت قليلاً تسيطر على نبرتها المرتعشة ثم أردفت تقول بنبرة مهتزة رغم الأبتسامة الضعيفة التى أعتلت شفتيها:
-(( بس عارفة لما بتوحشنى بعمل أيه ؟! )) ..
همست الطفلة تسألها بيأس :
-(( أيه )) ..
أحتضنت كفها الصغير ثم قالت برقة :
-(( بغمض عينى وأطلب من ربنا أشوفها فى أحلامى .. ولما بنام بتجيلى وبقعد أتكلم معاها )) ..
غمغمت الطفلة قائلة بحماس :
-(( وأنا هعمل كدة )) ..
طبعت رحمة قبلة ناعمة فوق جبين الطفلة ثم ردت محذرة :
-(( بس خدى بالك .. لازم تأكلى كويس عشان مامى متزعلش منك .. وألا مش هتجيلك .. متفقين ؟! )) ..
حركت الطفلة رأسها موافقة بأصرار قاطع ، بينما راقب أنور ما يحدث أمام عينيه وحدقتيه تلمع بشغف ، سامحاً لذكرياته القديمة بمداهمته ، عن أمرأة ، بنفس القامة ، نفس النعومة ، ونفس الحنان ، فأبنتها الجاثية أمام حفيدته قد ورثت منها كل شئ تقريباً .
***************************
تنهد بأسى شاعراً بذلك الثقل يطبق على أنفاسه كلما تذكرها ، ساخطاً على حظه التعس ، الذى وضعها فى طريقه كالفاكهة المحرمة ، لا يقوى على الأقتراب فيُعاقب بأستباحة ما ليس له ، ومهما جاهد لا يستطع مقاومة فتنتها ، مذكراً نفسه فى كل مرة يراها أنها ليست ملكاً له ، فهناك أخر سبقه إليها ، وها هو يقف أمام أمره المرير الواقع ، مرغماً قلبه وعقله على تجاهل ذلك الصوت الخافت الذى يستمر فى أخباره أنها فتاة أحلامه ، نصفه الأخر كما تمناه وتخيله ، نعم فهو ليس مراهق ليعلم أن ما يمر به مجرد أعجاب يخفت مع الوقت ، بل هو شئ أخر أقوى وأعمق ، شعلة أُوقدت داخله قبل رؤيتها ، وتوهجت عند مطالعتها، وتتشعشع فى كل مرة يقف أمامها ، مقاطعاً شروده ، رنين هاتفه الجوال فى أتصال ملح ، تجاهله فى المرة الأولى ، ومع المحاولة الثانية أجاب بفتور ليتفاجئ بها تُعرف عن نفسها ، خاطفة القلب ، كتم أنفاسه مستمعاً إلى صوتها العذب تتمتم معتذرة بحرج :
-(( دكتور يحيى .. أنا علياء .. أسفة لو تطفلت عليك أو أزعجتك فى الوقت ده .. بس أنا أضطريت أخد الرقم من جواد بعد ما نسيت أطلبه منك إمبارح )) ..
تنحنح عدة مرات ثم أجابها بجمود :
-(( أه .. أهلاً أتفضلى )) ..
شعرت بالحرج من ترحيبه الفاتر ولامت نفسها سراً على المجازفة والأتصال به فيبدو أنه تراجع عن وعده ورغم ذلك أردفت تقول بجرأة :
-(( كنت بتصل بيك عشان أحدد ميعاد بكرة لو ينفع .. لأن لينة رافضة تاكل أى حاجة من الصبح ألا لما تكلم مامتها ومش عارفة أتصرف معاها أزاى )) ..
صمت يستمع إليها ثم قال بأقتضاب :
-(( تمام .. بكرة الساعة ٣ نقدر نتقابل فى النادى .. عندى وقت فاضى لمدة ساعة )) ..
غمغمت شاكرة ثم أغلقت الهاتف وهى تسبه داخلياً ، على تعاليه وتكبره فى التعامل معها ، مذكرة نفسها بإبنة أخيها وما تعانيه تلك الصغيرة ، فهى مضطرة للتعامل معه حتى وإن كان مرغماً على مساعدتها ، فقط من أجلها .
*****************************
داخل مبنى “إيواء” ذلك الصرح الضخم العائد لعائلة المناويشى ، وتحديداً فى الطابق العلوى الخاص بالمدراء والمسمى بجناح الأدارة ، سار طاهر فى الممر المؤدى إلى غرفة نائب رئيس مجلس الأدارة ثم أقتحمها دون أستئذان ، الفعل الذى جعل جواد يرفع رأسه بحدة من فوق الملفات المكدسة أمامه ينظر متأهباً إلى ذلك الوقح الذى أقتحم خلوته دون طرق الباب قبل أن تنبسط عضلات فكه وتنفرج أساريره عند مطالعته محيا رفيق دربه الذى هتف يسأل بنبرته الجامدة دون مقدمات :
-(( أنت لسه قاعد ؟! )) ..
أجابه جواد نافياً بأرهاق :
-(( لا يعنى عشر دقايق كدة أراجع الكام ورقة دول وأتحرك )) ..
أومأ طاهر برأسه موافقاً ثم تحرك وألقى بجسده فوق المقعد المقابل له واضعاً ساق فوق الأخرى منتظراً أنتهاء رفيقه ، رمقه جواد بعدة نظرات مستنكرة ثم أستطرد يسأله بدهشة :
-(( خير .. أنت عايزنى فى حاجة ؟! )) ..
أجابه طاهر بأقتضاب :
-(( مستنيك هروح معاك )) ..
ردد جواد من خلفه بأستغراب :
-(( مستنينى أنا !! من أمتى ؟! )) ..
نظر طاهر إليه بطرف عينيه دون أن يتكبد العناء فى أدارت رأسه إليه ثم أجابه بنبرته المتعالية :
-(( مش أنت عجباك برج العرب وعايز تقعد جنبى على طول .. أنا قررت أحقق أمنيتك وأقعد معاكم كام يوم )) ..
-(( نعـــم !! )) ..
هذا ما هتف به جواد مندهشاً قبل أن يتابع حديثه بعدم أستيعاب :
-(( وبيتك فين ؟! )) ..
أجابه بجمود :
-(( مش شغلك )) ..
ترك جواد مقعده وسار حتى وصل إليه وأنحنى بجذعه نحوه محاصراً جسده بكلتا ذراعيه ثم سأله وهو ينظر مباشرةً داخل حدقتيه :
-(( أنت فيك أيه ؟! )) ..
هتف طاهر مرتبكاً بحدة بعدما أشاح بنظره بعيداً عنه ودفعه بكفيه للتخلص منه :
-(( خلص شغلك ده عشان نمشى قبل ما الشتا يبدء والطريق يقف )) ..
رد جواد بنبرة لا تخلو من الأسى وقد تبدلت نظراته إلى الكآبة :
-(( عندك حق خلينى أروح أشوف لينة )) ..
صمت لوهلة لملم خلالها أوراقه قبل أن يسأل بصوت مختنق :
-(( طفيتها أزاى ؟! )) ..
سأله طاهر بعدم فهم :
-(( هى أيه دى ؟! )) ..
أستدار بجسده ينظر إليه بعينين خاويتين ثم أستطرد شارحاً بنبرة متهدجة مكسورة :
-(( النار اللى هنا .. قدرت عليها أزاى )) ..
ضرب فوق صدره فى إشارة إلى موضع ألمه ، لمح طاهر غمامة الحزن التى غشيت عينى قريبه ، فأبتسم بقنوط ثم أجابه بعدما تنهد مطولاً بأسى :
-(( مش هتطفى .. هتفضل عايش بيها على أمل يجى يوم وتطفى لوحدها أو تلاقى اللى ياخد بأيدك ويساعدك .. ويوم ورا يوم الأمل هيقل لحد ما تيأس .. وتتعود تعيش وهى قايدة جواك )) ..
مد ذراعه يحتضن كتفه ثم أستطرد يقول مؤازراً :
-(( بس مش كل الناس تستاهل نعيش بنارنا عشانهم )) ..
نكس جواد رأسه ثم غمغم بخفوت :
(( أنا بكرهها )) ..
التوى ثغر طاهر بأبتسامة صغيرة خافتة ثم قال :
-(( الكره مشاعر قوية .. زيها زى الحب بالظبط )) ..
تنهد مطولاً ثم تابع يقول بمرارة :
-(( هتفضل تكرهها طول ما فى قلبك حب ليها .. لحد ما يجى الوقت وتبقى مش مهمة بالنسبالك .. مفيش فى قلبك ولا ذرة مشاعر ليها .. وقتها بس أعرف أنك نسيتها .. ويمكن تكون محظوظ أكتر من أبن عمك .. وتلاقى اللى تعوضك .. ساعتها بس هتطفى نارك )) ..
*******************************
وقفت رحمة ، تراقب من خلف النافذة المغلقة ، تراكم الغيوم الحمراء ، ثم بوارق السماء اللامعة يتبعها زمجرتها ، معلنة عن عاصفة وشيكة ، قبل أن تستأذن قائلة بأحترام :
-(( بعد أذن حضرتك يا عمو وبعد أذنك يا طنط .. أرجع البيت قبل ما الدنيا تمطر )) ..
فتحت السيدة كريمة فمها للتعقيب وقبل النطق بجملتها الأعتراضية تهادى إلى مسامعهم وقع ألتقاء حبات المطر بالأرض ، يليه قلقلة مفاتيح الباب الداخلى للمنزل ثم ظهور كلاً من طاهر وجواد ، تراجعت للخلف بأرتباك وهى ترى عينيه تتحرك فى أتجاهها بينما تسمرت نظراته فوقها بمجرد رؤيته لها ، كأنه يخشى أن تختفى أن أدار رأسه بعيداً عنها ، مفكراً بحنق ، أى مؤامرة كونية تلك التى تُحاك ضده ، لتجعلها تأتى إلى هنا ، إلى حيث مخبأه الذى أختاره هرباً من صوتها الذى يعبث بأحلامه ، دوناً عن كل الأماكن ، وكأنهم طرفى المغناطيس ، كلما أراد الأبتعاد عنها ، وجد قوة أكبر منه ، تجذبه نحوها بوقع أقوى وأسرع ، متجاهلاً ذلك الجزء الضعيف الخائن ، الذى تهلل فرحاً لرؤيتها ، ومقاطعاً تأمله لها ، صوت زوجة عمه التى هتفت تقول موجهة الحديث إليها :
-(( أهو طاهر جه أهو .. نقعد بقى كلنا نتعشى مع بعض .. وبعدها روحوا سوا )) .
أدارت رأسها موجهة ما تبقى من جملتها له :
-(( شوف يا سيدى مراتك .. عايزة تروح لوحدها فى الشتا ده )) ..
قاطعها معترضاً بنبرة خالية بعدما سار إلى حيث الأريكة الوثيره وجلس فوقها بأريحية شديدة :
-(( لا أنا مش هروح .. هبات هنا النهاردة )) ..
هنا تدخل السيد أنور يقول بحزم :
-(( يبقى تباتوا سوا .. كدة كدة الدنيا بتشتى برة .. ومش مستاهلة تروحوا فى الشتا والتلج ده )) ..
سارع جواد يتقدم بأبتسامتة التى أتسعت برؤيتها يرحب بها :
-(( مساء الخير يا رحمة نورتى بيتنا )) ..
ردت التحية بأبتسامة رسمية هادئة :
-(( أهلاً بيك يا أستاذ جواد .. منور بيكم )) ..
قاطعها قائلاً بأصرار :
-(( لا أستاذ أيه .. أحنا أهل خلاص .. خليها جواد بس )) ..
أبتسمت بخجل ثم تمتمت موافقة بود :
-(( خلاص خليها جواد )) ..
حقاً ، هل ستتعامل الأن مع إبن عمه بأسم التدليل الخاص دون ألقاب !! ، بينما تقول فى كل مرة تتحدث إليه ” لو سمحت ” وكأن أسمه سُبة ترفض النطق بها !! ، حرك ساقه بعصبية شديدة مقرراً أخراج هاتفه للعبث به ، وتجاهل الأمر برمته فهى لا تعنيه من الأساس ، ولم يجذبه سوى صوت جواد يقترح من جديد بعدما رفضت عرض والده السيد أنور وأصرت على الذهاب :
-(( خلاص يا بابا .. مادام مصرة ممكن لو حابة بعد العشا أوصلها بالعربية .. بس طبعا هتتعشى معانا مفيش نقاش )) ..
هنا رفع رأسه ينظر بحدة إلى قريبه ثم قال قاطعاً بحزم :
-(( محدش هيوصل حد .. هتبات معايا زى ما عمى أقترح )) ..
فتحت فمها للأعتراض فسارع يقول بنبرة جامدة تحمل داخلها طيات الغضب بعدما أستقام فى وقفته ووضع كفيه داخل جيوب بنطاله :
-(( مادام أنا موجود هنا .. يبقى ده كمان مكانك )) ..
وبعد تناول العشاء ، بداخل أحدى غرف الضيوف ذو الفراش الواحد ، وقفت رحمة فى منتصفها تفرك كفيها معاً بتوتر قبل أن تتحرك وتقف أمام باب الغرفة عدة لحظات ، تحث نفسها على الخروج والتمرد على هذا الموقف ، فهى أبداً لا تنتوى قضاء الليلة بفراش مشترك معه ، يكفيها ندمها على الأنصياع لقراره منذ الأن ، كما أنها لا تريد صرف ما تبقى من الأمسية أو صباح اليوم التالى فى توليم نفسها أكتر ، وعندما وضعت كفها فوق مقبض الباب أستعداداً لجذبه والخروج ، وجدته يُفتح تلقائياً ويطل هو من خلفه ، بهيئة الجامدة المعتادة ، تبادلا النظرات لوهلة ، هى برأسها المرفوع تطالعه بكبرياء يشوبه التحدى ، وهو بتقطيبة جبينه الدائمة ، أرتفعت زواية حاجبه الأيسر فى علامة أستنكار واضحة ، قبل أن يسألها بنبرة هادئة عكس ملامحه وذراعه المتشنجة التى تقبض على حافة الباب كى تمنع خروجها :
-(( رايحة فين )) ؟! ..
أجابته بأقتضاب ونبرة عدائية واضحة :
-(( مش هبات هنا .. هخرج أشوف أى أوضه تانية أنام فيها )) ..
غمغم مردداً بنبرة بطيئة ناعمة كالحرير رغم الغضب المتشحة به :
-(( أوضة تانية !! .. على أساس هنا بيتنا مثلاً !! .. وعلى أساس هسمحلك تتنقلى من أوضة لأوضة فى مكان فيه راجل غريب .. ممكن يدخل أى مكان عليكى وأنتى نايمة )) ..
اختفت المسافة ما بين حاجبيها ثم هتفت تقول نافية بنبرة متعلثمة :
-(( مفيش الكلام ده مش حقيقى )) ..
سألها بحدة وذراعه لازالت ممدودة نحو الباب :
-(( أيه اللى مش حقيقى .. تقدرى تقوليلى لو جواد دخل أوضة أنت نايمة فيها وهو مطمن أنك نايمة معايا هيكون موقفك أيه !! .. ولا هو الحجاب اللى على رأسك ده زينة !! )) ..
أغتاظت من طريقته فى الحديث وتلميحه المبطن فهتفت تقول بأصرار وجسدها يتحرك نحو الباب :
-(( تمام .. هروح أبات مع علياء .. لو سمحت عدينى )) ..
سارع بالتحرك ووضع جسده أمامها كحائل ثم قال بحسم :
-(( ولو حب يطمن على أخته !! مفيش خروج من هنا )) ..
رغم أقتناعها بحديثه بعض الشئ وخاصة الجزء الأخير منه الا أن داخلها أبى الخضوع له أو الأذعان لطلبه ، لذا وجدت ذراعها تتحرك منفصله عنها ، تقبض بأطرافها على حافة الباب فى نفس الوقت ، الذى دفع الباب بحدة مسرعاً بعدما رفع ذراعه عنه ليغلقه ، ولم يحالفها الوقت لأبعاد كفها هى الاخرى ، مما إدى إلى أغلاق الباب فوق أناملها ، صرخت بقوة وقفزت من شدة الألم متأوهة ، قبل تذكرها وجوده ، فكتمت ألمها بداخلها ، تجنباً لشماتته ، بينما راقب هو بضمير مذنب ، ترقرق مقلتيها بالدموع ، مع أحتجازها شفتها السفلية داخل أسنانها فى محاولة فاشلة لكبح جماح أنينها ، وانحناءة ظهرها للأمام مع ضغط أصابعها السليمة فوق المصابة لتدفئتها وتهدئة الألم ، فسارع ببسط كفه امامها ثم قال بهدوء :
-(( ورينى أيدك )) ..
حدجته بنظرة كارهة ثم أخفضت رأسها مرة أخرى ولم تعقب ، نفس واحد أطلقه فى هذا الهواء الهادئ من حوله ثم عاود يقول بنبرة رقيقة لم تعهدها منه من قبل :
-(( رحمة .. لو سمحتى .. ورينى أيدك حصل فيها أيه ؟! )) ..
رفعت رأسها ببطء تمعن النظر إليه وقد أختفى الغضب فجأة من ملامحها ، وحل محله الدهشة ، قبل أن تمد يدها على أستحياء ، وبترو شديد وضعتها فوق خاصته ، رفع يده الأخرى ، يتحسس بأطراف بَنَانَه أناملها المصابة ، مما جعل قشعريرة خفيفة تصاب جسدها قبل أن تجفل مبتعدة ، رفع رأسه يطالع وجهها المتوهّج بأنفاس متقطعة ثم تنحنح وقال بخفوت :
-(( مش هتنفع لازم تلج .. ثوانى هنزل أجيبه وأرجع على ما تغيرى هدومك )) ..
حركت رأسها موافقة دون حديث وعينيها تتبعه إلى موضع البيجامة البيتية حيث أشار ، ثم تركها وأنصرف والكثير والكثير مما يجيش فى صدره بقى حيث هو ، متلحفاً بالصمت يخشى الظهور أو البوح بسره العظيم .
وبعد فترة ليست بطويلة عاد يدلف الغرفة الخالية بترقب شديد ، حاملاً حافظة الثلج بيد ، بينما الأخرى تقبض على قرص من المسكن الموضعى ، ثم أنحنى بجزعه ووضعهم فوق الطاولة المجاورة للفراش بعدما لمح الضوء الخافت المتسلل من الحمام وأختفاء البيجامة من فوق الفراش متنهداً براحة ومقرراً الهروب من صحبتها وعدم العودة ألا بعد التأكد من نومها .
وفى منتصف الليل أستلقى جوارها كعادته ، يطالع السقف أعلاه وقد أختلط مسائه بفجره ، ليله بنهاره ، وغفوته بصحوته ، قبل أن تنزلق عينيه رغماً عنه إلى ملامحها الغافية ، يتأمل بشرتها الناعمة ، وشعور الخيانة يخيم بثقل جناحيه فوق صدره ، ليست خيانة ذكراه فحسب ، بل خيانة ما كان يتطلع إليه ، فاللمرة الثانية على التوالى يفوز هو بما أبتغاه توأمه ، وكأنها مرتبطان بالقلب أيضاً ، ينجذبان إلى نفس الأشخاص بنفس الطريقة ، مفكراً بقهر ، هل شعر شقيقه ، بمثل ما يحمله فى صدره الأن إليها ، فربما لو لم يقع قتيلاً فى تلك الليلة لكانت هى فرصته فى بدء حياة أخرى مختلفة ، حياة يعيشها هو بدلاً عنه ، أغمض عينيه تاركاً شعور الذنب يجتاح كيانه قبل أن يفتحها من جديد ، على همهمة صوتها المنزعج وقد بدء يراودها كابوسها المعتاد ، بصورته الحية وهو غارقاً فى دمائه وهى نائمة جواره ، فأنتفضت تفتح عينيها شاهقة بذعر ، على وجهه الذى يراقبها وقد اختلط حلمها بواقعها ، فقفزت تصرخ برعب مبتعدة عنها وعينيها تدور داخل الغرفة الغريبة ، ظناً منه أنه القتيل وليس توأمه ، تصيح بصوتها المذعور المرتجف :
-(( أنــ.. أننــت عــعايش .. والدم هنـــا أهــوو )) ..
سألها بقلق مستنكراً حديثها وهو يمد ذراعه نحوها ليمسك بها :
-(( مالك ؟! .. دم أيه ؟! )) ..
صرخت فزعة تدفع ذراعه بعيداً عنها مغمغمة بأرتعاشة صاحبت جسدها ونبرتها :
-(( أأنــت .. الرصاصة فى قلبك .. أنا مقتـتـلـتـكش )) ..
حرك رأسه بأسى وقد وصله سبب ذعرها ثم قال بترو محاولاً تهدئتها :
-(( رحمة أنا طاهر .. أحنا فى بيت عمى )) ..
أقترب منها ببطء حتى وصل إليها فسارعت برفع ذراعها تتلمس بكفها موضع قلبه حيث أستقرت الرصاصة ثم أردفت تقول صارخة بأعياء :
-(( الرصاصة هنا .. أنا مقتلتكش .. مش أنا )) ..
غمغم بأشفاق وذراعيه تحاوط جسدها لوقف أرتجافته والسيطره على نوبة ذعرها وشهقاتها المتعالية دلالة على بدء نوبة الربو المصابة بها :
-(( فوقى أنتى معايا .. طاهر .. بصيلى .. وخدى نفس )) ..
فتحت فمها تحاول أدخال الهواء إلي رئتيها بينما ذراعها يشير إلى حقيبة يدها الخاصة ، تتبع أشارتها ثم ركض نحوها واخرج منها بخاختها الطبية وقام بدفع الرذاذ داخل فمها ، حتى بدءت تستعيد وعيها وتستوعب ما يدور حولها ، ثم أرتمت بعدها فوق الفراش منهكة القوى ، راقبها بحزن ماسحاً بكفه عضلات وجهه المتقلصة ثم أرتمى جوارها فوق الفراش ، قبل أن يقوم بسحبها إليه ومحاوطاً جسدها بذراعيه لبث دفئه إليها ، دون أدنى مقاومة أو وعي منها .
وصل المنزل فى المساء على غير عادته ، ودلفه مبتسماً متلمساً طريقه فى الظلام ومتسللاً ببطء إلى حيث غرفتهم ، تاركاً عينيه تتعلق بها فى الحال ، متأملاً تضاريس جسدها المسجى فوق الفراش بأريحية شديدة ، وردائها الحريرى المنحسر إلى ما فوق ركبيتها كاشفاً عن ساقيها الناعمة ، بينما سنابل شعرها الذهبية منتشرة فوق الوسادة وعلى جبهتها ، والجزء العلوى من عنقها ، ورغم برودة الجو ، ألا انه شعر بحرارة جسده ترتفع شيئاً فشئ ، مبتلعاً لعابه بقوة وهو يقطع الطريق إليها قبل أن يستلقى جوارها ، ويحتضن بذراعيه جسدها من الخلف ، هامساً بأشتياق داخل أذنيها :
-(( وحشتينى )) ..
أستفاقت أفنان فزعة على قبلاته الموزعة فوق صدغها وعنقها ثم أرتخى جسدها عند مطالعتها محياه ، قبل أن تغمغم بصوتها الذى يغلبه النعاس :
-(( بدر !! .. عرفت تيجي أزاى فى الوقت ده ؟! )) ..
وضع إبهامه فوق فمها يمنعها من الأسترسال ثم همس بحرارة من بين أنفاسه المتقطعة :
-(( أنسى أى حاجة وخليكى فى حضنى الليلة دى متبعديش عنه )) ..
أومأت برأسه موافقة بضعف ، بينما شفتيها تنفرج تلقائياً أستعداداً لأستقبال خاصته ، ليبدءا رحلتهم سوياً ، رحلة مشاعرهم المحمومة .
وفى الصباح ، بينما هى مستلقية داخل أحضانه ، همست تسأله بدلال :
-(( برضة مش هتقولى أزاى عرفت تبات معايا ؟! )) ..
سلط أنظاره فوقها ، يتأمل ملامحها الناعسة ، وشفتيها المكتنزة ، وخصلاتها الثائرة مع بعض العلامات الوردية المتفرقة فوق عنقها نتيجة تلاقيهم البارحة ثم قال هارباً من الأجابة :
-(( قومى يلا أسبقينى على الحمام وحضرى نفسك عشان هنخرج )) ..
سألته بفضول :
-(( تانى !! هنروح فين المرة دى ؟! )) ..
أجابها مبتسماً بينما طرف أبهامه يداعب أنفها بنعومة :
-(( مش كنت وعدتك نروح المعهد عشان تسجلى .. أنا أخدت أذن ساعتين من البنك الصبح هوصلك وأفضل معاكى وبعدها أنتى أرجعى .. تعرفى الطريق للبيت لوحدك صح ؟! )) ..
تهللت أساريرها وقفزت من جلستها تهتف بعدم تصديق :
-(( صحيح .. والنبى بجد يا بدر هتاخدى أسجل واكمل تعليمى )) ..
أجابها قاطعاً بزهو :
-(( أيوة مش أنا وعدتك .. وبعدين أنا جبتلك كل الهدوم دى ليه .. عشان تروحى بثقه ومتحسيش أنك أقل من حد )) ..
تنهدت بسعادة ثم غمغمت بوله بعدما أقتربت منه وقامت بطبع قبلة خجلة فوق شفتيه :
-((أنا بحبك أوووى .. ربنا يخليك ليا ومتحرمش منك أبداً ))
ردد هو الأخر هامساً قبل أستجابته لقربها ؛
-(( وأنا كمان بحبك )) ..
وفى منتصف الظهيرة بعد أنتهاء مهمتهم سوياً لاح إليها مودعاً بعدما أوقف أحدى سيارات الأجرة الخاصة ووضعها بداخلها ثم أخبر السائق عن وجهتها المحددة ووضع مبلغ سخى من المال فى يده ، وبعد ساعة أو أكثر من التكدس المرورى ، قررت أفنان النزول من السيارة ، وتكملة تلك المسافة الصغيرة المتبقية إلى المنزل سيراً على الأقدام بدلاً من الجلوس داخل العربة وأستنشاق الغبار ورائحة العادم الخارجة من السيارات حولها ، منشغلة بالبحث داخل جيوبها عن هاتفها الجديد ، الذى أهداه لها “بدر” فى الصباح ، ولم تنتبه لتلك السيارة القادمة بأقصى سرعتها ، ولا لبوقها المتواصل تحذيراً لها ، حتى أصطدمت بجسدها الضئيل وأوقعتها أرضاً ، فسارع بعض الأفراد ممن جذب أنتباههم صوت فرامل السيارة يليه صوت الأصطدام بالتجمهر حولها ، فى نفس الوقت الذى ظهرت به غفران متوجهة إلى منزل والدة زوجها ، وأستوقفها ألتفاف عدد من المارة حول شخص ما ، مما جعلها تسارع بدفع بعض الأجساد بذراعيها وأختراق الجمع حتى تستطيع تقديم يد المساعدة ومحاسبة المخطئ ، مصرة على الذهاب مع المصابة إلى المشفى وعدم تركها ألا بعد الأطمئنان عليها ، ثم تحرير محضر بالواقعة ضد مالك السيارة ، وبعد وقت ليس بقليل ، قام الطبيب خلاله بفحص المريضة وعمل الأشعة اللازمة ، خرج يطمئن غفران التى ظلت بصحبتها :
-(( المدام كويسة مفيش أى أصابات داخلية أو حاجة .. هو بس كسر مضاعف فى القدم اليسرى وعالجناه )) ..
شكرته ثم دلفت إلى غرفة المشفى المشتركة تبحث عن أفنان بعينيها ثم قالت بعدما وقفت أمام جسدها المضجع ومسدت خصلاتها المشعثة من أثر الحادث :
-(( حمدلله على سلامتك .. الحمدلله جت بسيطة أهى .. وأنا مش هسيب الجبان اللى خبطك وجرى ده غير لما أجيب حقك متقلقيش )) ..
تساقطت عبرات أفنان فسارعت غفران تقول مهدهدة بعدما أحتضنت كفها :
-(( بتعيطى ليه بس مانتى كويسة وزى الفل أهو )) ..
أجابتها من بين شهقاتها المتلاحقة :
-(( عشان مليش حد )) ..
ربتت فوق كفها ثم قالت مهدءة :
-(( طب تحبى أتصل بحد من قرايبك أبلغهم ؟! )) ..
أجابتها رافضة :
-(( ما الممرضة من شوية أخدت منى رقم جوزى وقالت هتبلغه .. يمكن زمانه جاى )) ..
أبتسمت غفران ثم سألتها محاولة أخراجها من توترها :
-(( جوزك أسمه أيه ؟! )) ..
أجابتها وعيونها تلمع بفخر :
-(( بدر .. وأنا أفنان )) ..
قالت غفران مازحة :
-(( شفتى بقى الصدف .. مش هتصدقى بس أنا كمان جوزى أسمه بدر .. بصى يا أفنان أنا هسيبك خمس دقايق .. هروح أقعد مع الحاجة اللى ورا لوحدها دى شايفاها ؟.. أطمن عليها وأرجعلك )) ..
رفعت أفنان رأسها تنظر حيث أشارت منقذتها ثم غمغمت موافقة بأمتنان ، وعندما أوشكت غفران على الأستدارة بجسدها ، لمحت زوجها يقتحم الغرفة راكضاً بلهفة ، ثم قال بعدما أنحنى برأسه يطبع قبلة فوق جبين زوجته :
-(( أفنان حبيبتى .. حمدلله على سلامتك )) ..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية في لهيبك احترق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى