رواية في لهيبك احترق الفصل الثالث 3 بقلم شيماء يوسف
رواية في لهيبك احترق الجزء الثالث
رواية في لهيبك احترق البارت الثالث
رواية في لهيبك احترق الحلقة الثالثة
ممزقة الروح أنا .. وكل ما حولي يكويني ..
شعور الذنب يخنقني .. ومالي غير الدمع ينجيني ..
أمي التي تعرفني حق معرفة أراها اليوم تنكرني .
عيروني بالعهر .. وأنا التي بعفتها أتصفت فكيف اليوم تهجوني .
أنا ما كنت يوما مجرمة .. فكيف بالجرم قاضوني
أنا الحرة التي بات السجن يأسرني .
أنا التي لطيبة قلبها سحقت .. و لأننى أنثى ثمنا غالي أغرموني ..
أنا التي رحمة كنت .. فصيروني بدناءتهم خبثا بين الناس ينتقل …فيا رباه رحماك قد ظلموني فانتقم لي فانت وحدك المنتقم .
خاطرة بقلم :soumia laam
خمسة أشهر كاملة بمائة وثلاث وخمسون يوماً وليلة ، تسعون نهاراً بائساً أعقبه ليلاً مظلماً ، تسعون يوماً منذ ألقوا القبض عليها فى جريمة لم ترتكبها ، منذ الفضيحة التى نالت منها ومن عائلتها من بعدها ولم تتحملها والدتها ، تلك السيدة مريضة القلب والتى سقطت صريعة فى التو لحظة أتهام طفلتها الوحيدة فى شرفها ، منذ وارى جسدها التراب دون توديعها أو حضور مراسم دفنها ، وفوقهم ثلاث وستون يوماً منذ نطق الحكم عليها بجرماً لم تقم به ، أنقضى الخريف وأتبعه الشتاء وهى فى تلك الزنزانة الكريهة ، برائحتها العفنة ، وجدرانها الرطبة ، وأرضيتها اللزجة المليئة بالحشرات والأوبئة ، حيث تشاركها بها خمسة عشر سجينة غيرها ، ليصبح نصيب كل محتجزة داخلها أقل من بلاطتين ، من بينهم واحدة مصابه بفشل كلوى وأخرى مصابة بقصور فى عضلة القلب وأخرى بفيروس كبدى معدى ، وأخيرة بمرض صدرى يجعلها تسعل طوال الليل دون توقف حتى تنقطع أنفاسها ، يوماً وراء يوم ، وهى لازالت محتجزه تنتظر أستئناف حكمها أو تنفيذ حكم الأعدام عليها ، مع نظرات ساكنيها من النساء ومعاملتهم لها كفتاة ليل شبيهه لهم ، لا بل هم أفضل منها ويتفوقون عنها ، فكل واحدة منهم ولها قصه مختلفة ، منهم المتهمة فى قضية سرقة وأخرى تجارة أطفال وثالثة دعارة ورابعه عاهه مستديمة ، وخامسة غارمة ، أما هى ! ، فقد أزهقت روحاً كاملة ، أغمضت عينيها بوهن وهى تضم ركبيتها إلى جسدها تتلمس بذلك دفئاً كاذباً ، وكيف تتحصل عليه وهى جالسة فوق الأرضية الأسمنتية الباردة فى أحدى أمسيات يناير العاصفة ! ، أغمضت عينيها بوهن حيث داهمها ضيق التنفس ذاك مرة أخرى تحاول بكل طاقتها المنهكة ادخال الهواء إلى رئتيها سواء من خلال فمها أو أنفها ، أما قلبها فقد كان يدعو خالقه كالمضطر ، كالتائه فى الصحراء القاحلة يشق طريقه فى البادية دون قطرة ماء واحدة فيوقن بهلاكه لا محالة ، وهذا هو حالها كل ما يبقيها على قيد الحياة هو أملها فى الغوث ، أن تحدث غداً أثناء إعادة مُحاكمتها معجزةً ما مثلما أخبرتها “غفران” تلك الملاك التى هبطت إليها من السماء وتولت مهمة الدفاع عنها دون مقابل
أخرجها من شرودها المعتاد أرتطام عده قطع من الملابس البيضاء بوجهها يليه صوت تلك المرأة الملقبة ” بست أبوها ” كبيرة العنبر تقول بنبرة لاذعة :
-(( قومى يابت أغسليلى حته الهدمتين دول قبل ما تتحاكمى بكرة ويأكدوا حكم الأعدام عليكى .. روحى خدى الطشت والصابون من سعاد وادعكى يلا بلاش لكاعه )) ..
رمقتها رحمة بعدة نظرات مزدرية وهى تعتدل فى جلستها أستعداداً للوقوف وتنفيذ ما أمرتها به تلك الفاسقة فأردفت الأخيرة تقول بسخرية :
-(( أيوة ياختى جدعة .. ورينى جمال خطوتك قصادى بجسمك الحلو ده .. وأغلسى بضمير يابت .. عشان لما يعدموكى إن شاء الله أبقى افتكر حاجة أترحم عليكى بيها )) ..
أغمضت رحمة عينيها تحاول منع دموعها من الأنهمار رثاءاً على حالها وما ألت إليه أمورها ثم واصلت سيرها ولسانها يردد دون توقف “لا إله ألا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين ”
*******************
أستيقظت من سباتها العميق على صوت حركة خافته داخل جناحهم الخاص جعلتها تمد أحدى ذراعيها نحو الطاولة الموضوعة بجوار فراشهم الوثير تسحب من فوقها هاتفها الجوال وتنظر بداخله بعدما أضاءات زر تشغيله ، قطبت جبينها عابسة وهى تجبر عينيها على تقبل الضوء الساطع من شاشه الهاتف قبل أن تزفر بضيق وتزحف إلى خارج الفراش حتى توجهت إليه ثم قالت بصوتها الأجش الناعم بنبرة لا تخلى من الدلال :
-(( بييى !!! .. أنت بتعمل أيه الساعة مجتش حتى ٧ ؟! )) ..
أجابها جواد الذى كان يقف أمام طاولة الزينة ويقوم بعقد رابطة عنقه بتركيز تام :
-(( معلش يا حبييتى صحيتك .. بس عندنا شغل كتير النهاردة لازم أكون موجود على راسهم عشان يخلصوه )) ..
زفرت رنا مطولاً ثم قالت معاتبة بغنج وذراعيها تشق طريقها نحو خصره كى تحتضنه من الخلف وتستند برأسها فوق ظهره :
-(( أنت مش ملاحظ أن الفترة دى بقيت مشغول عنى وأوى كمان )) ..
أجابها وهو يستدير بجسده ويعدل من وضع رأسها فوق صدره :
-(( معلش أستحملينى الفترة دى .. الضغط كله عليا )) ..
قالت بخبث وهى تخفى وجهها عنه :
-(( طيب ما هو ده اللى أنا بقوله .. كل حاجة مرمية عليك )) ..
قال جواد مبرراً بصوته الأجش العميق :
-(( هانت كلها بكره وان شاء الله الحكم يتأكد وحق عمرو يرجع والأمور تتظبط .. وبعدين يا رنا طاهر طول عمره شايل الشغل فوق كتافه لوحده وعمره ما أشتكى .. ميحصلش حاجة لما اتعب أنا شوية عنه .. اللى حصله برضه مش سهل واكيد محتاح وقت عشان يفوق منه )) ..
أبتعدت عنه وقد تبدلت نبرتها كلياً ثم قالت بحقد وملامحها يملؤها الأمتعاض :
-(( مادام مش قادر يبقى كل واحد يرجع مكانه بقى )) ..
سألها مستنكراً وقد أختفت المسافة ما بين حاجبيه ترقباً لما هو قادم :
-(( قصدك أيه يا رنا ؟!.. )) ..
أجابته مندفعة وقد تخلت عن حذرها كاملاً :
-(( قصدى انت عارفه يا جواد .. أنت الكبير والأحق بالمنصب غير أننا رجعنا من السفر خلاص واستقرينا .. يعنى رئاسه الشركة من حقك أنت .. وهو بقى يرجع عضو عادى من ضمن الأعضاء ويزعل على اخوه براحته )) ..
-(( رنـــا !!!!!!!! )) ..
هدر جواد بجملته تلك محذراً بقوة جعلتها تتراجع للخلف خطوة قبل أن تزدرد لعابها بخوف وهى ترى الغضب يكسو ملامحه الصلبه ، بينما أردف هو يقول بنفس النبرة المحذرة :
-(( قلتلك قبل كده كام مرة الكلام ده مش عايز أسمعه !!! .. أنا وطاهر واحد غير أن من ساعة ما رجعت عمره ما اخد قرار لوحده .. يبقى مش فارق من رئيس مجلس الادارة .. وبعدين محدش غصبنى اسيب مكانى زمان و أسافر .. وأنا مش أنانى عشان لما أقرر أرجع أدور على حق أنا أتنازلت عنه .. وللمره الأخيرة بقولك مش عايز أسمع الكلام ده تانى ! مفهوم ؟!!!! )) ..
اومأت برأسها عدة مرات متتالية ثم عادت تقترب منه متعمدة الاحتكاك بجسده للتأثير عليه وهى تقول بدلال واضح :
-(( خلاص يا جودى بقى متقفش بسرعة كده .. مكنش قصدى حاجة أنا بس قلت كدة من خنقتى )) ..
نظر جواد إليها بطرف عينيه فأردفت هى تقول بخبث وأصابعها تتحرك ذهاباً وإياباً على طول قميصه الحريرى :
-(( شفت بقى أنك مش حاسس بيا .. أنت مش موجود وأنا طول اليوم لوحدى .. حاسة أن نفسيتى تعبانة ومش عارفة أعمل أيه )) ..
لانت ملامحه وتراخى جسده المتصلب تحت لمستها ونبرتها المتدللة ثم تنحنح بخفوت قبل أن يسألها مستفسراً بأهتمام :
-(( نفسيتك تعبانة من أيه ؟!.. وبعدين ليه لوحدك .. فين لينة وماما وعلياء ؟! أنزلى أقعدى معاهم .. أنا فاهم أنك عايزانى جنبك بس زى ما وعدتك فتره وهتعدى )) ..
أجابته بصوت منكسر متصنعة البكاء وهى ترفع ذراعيها وتتعلق بعنقه :
-(( ماهى دى المشكلة .. أن وأنت مش موجود مبلاقيش حد يونسنى .. طنط وأونكل ومعاهم عليا مجنونين بلينة .. ليل ونهار معاها .. حتى لما بنزل أقعد معاهم محدش بيشوفنى كأن مليش وجود يا جواد )) ..
صمتت قليلاً تستشف اثر حديثها على تعابيره ثم استطردت تقول بحزن :
-(( أنا كنت حاسة من الأول ان هما مش بيحبونى .. وعشان كده كنت عايزه أعيش فى بيت لوحدنا .. بس أنت صممت .. بس صدقنى يا جواد الوضع ده تاعب نفسيتى أوى وفوق ما تتخيل كمان .. حاسه أنى منبوذة )) ..
زفر هو بحيرة وقد أحزنه ما تشعر به والاسوء عدم قدرته على اتخاذ القرار فزوجته لا تنفك تطالب بمنزل مستقل بعيداً عن الجميع حتى أنها تريد ترك المحافظة بأكملها والأنتقال إلى العاصمة ، وبعد حادثه والده أصبح هو المسئول الاول عنهم ولا يستطيع ترك والده العاجز مع والدته وشقيقته دون راعٍ لهم ، هذا فى الأساس سبب عودته من الخارج وايضاً السبب الذى أخفاه عن زوجته لعدم تقبلها تلك الفكرة عندما لمح بها منذ سنوات ، أعاده من تفكيره صوتها يهمس أسمه بأستغراب فسارع يقول بشرود بعدما قام بطبع قبله مودعة فوق جبهتها :
-(( خلينا نتكلم فى الموضوع ده بعدين واوعدك هلاقى حل )) .
غافية بين ذراعيه غير واعية بما يمر به بينما هو يستلقى فوق الجمر شاعراً بتلك النيران تأكل ما فى جوفه ، نعم هذا هو حاله منذ ثلاثه أشهر ، عندما قرر الأنتفاضة والثأر لكرامته المهدورة والزواج من أخرى ، ألم تكن هى من وافقت بكل لا مبالاة أن يتزوج ثانية لأنجاب وريث وهذا ما فعله ، فلو كانت تريد الحفاظ على زواجها لما نطقت بتلك الجمله ، لما نست وعدها له بالتحدث فى هدوء وأنشغلت بعدها بأعمالها الغير منتهية فى تلك الجمعية النسائية التى تترأسها وتستحوذ على يومها بالكامل، زفر بضياع ومرر كفه فوق وجهه عدة مرات يحاول التوصل لهدوءه الداخلى ، لقد مر بالفعل ما يقارب ثلاثة أشهر على زيجته الثانية وإلى الأن لم يقربها ، “زوجته”، لازالت بعيدة كل البعد عن ذاك المسمى وهذا ما يجعله يحترق داخلياً ، كلما تذكر قوامها الغض ونعومة بشرتها مع نظراتها السارحة التى تكاد تفقده عقله ، ففى كل مرة يراها يشعر وكأن النيران تتأجج بداخله وتتركه بعدها رماداً ، ويكأنه مراهق بكر يرى مفاتن إمرأة للمرة الأولى فى حياته ، أين ذهب تعقله وقدرته فى السيطرة على مشاعره ، فمنذ المرة الأولى لرؤيته لها وهو يحلم بذلك اليوم الذى يجعلها فيه زوجته ، وتكون له كاملة مكملة ، حتى ليكن صريحاً مع نفسه لقد فتنته عيناها وأتخذ من أنشغال زوجته الأولى ” غفران ” عنه سبباً فى أتمام تلك الزيجة التى جاءت على هواه حتى لو لم يملك شجاعة الاعتراف بذلك علناً ، فالشرارة التى بينه وبين ” أفنان ” والانجذاب الجسدى مع كل نظرة أو لمسة عابرة بينهم أقوى من ان يتجاهله أو يتعامل معه على انه شئ غير مرئى لا وجود له .
رفرفت غفران بأهدابها عدة مرات قبل أن تفتح عينيها على أخرهما وتبتسم لرؤيته مستيقظاً ثم قالت بنبرة متحشرجة غاية فى النعومة :
-(( صباح الخير ))..
أجابها بنبرة شاردة :
-(( صباح النور )) ..
قطبت جبينها من جموده فى الرد ثم اعتدلت من نومتها تسأله بقلق :
-(( مالك يا بدر ؟!.. فى حاجة حصلت شكلك مضايق ؟! )) ..
اجابها كاذباً بعدما طبع قُبلة جافة فوق جبهتها :
-(( لا مفيش بس عندى شغل ولازم أتحرك دلوقتى .. وأحتمال أقعد لوقت متاخر ))..
أجابته متفهمة رغم الاحباط الذى أصاب ملامحها من فتوره الذى يزداد مع مرور الوقت :
-(( ماشى ولا يهمك .. أنا كمان احتمال أتأخر النهاردة فى المكتب .. انت عارف أن بكرة ميعاد جلسة رحمة ومحتاجه أراجع المرافعة النهائية )) ..
هز رأسه بعدم اهتمام وهو يتوجه نحو خزانة الملابس يعبث بها فعادت غفران تقول من جديد بنبرة شبهه نادمة :
-(( بدر )) ..
أستدار ينظر نحوها منتظراً حديثها فأردفت تقول بنبرة معتذرة :
-(( أنا عارفة أنى الفترة دى مشغولة عنك .. وأنى وعدتك بحاجات ومنفذتهاش .. وعارفة ان ده مضايقك وأنت مش بتقول .. وعشان كده أنا بتأسفلك لأن كل ده غصب عنى والله .. رحمة مظلومة وأنا مش قادرة اتخلى عنها .. بس أوعدك جلسة بكرة تخلص وهنروح للدكتور على طول عشان الحقن .. حتى أنا اتصلت أحجز ميعاد مع الدكتور .. وانت عارف التفاصيل بقى وامتى المفروض نروح نتابع )) ..
أبتسم بفتور لا يدرى بما يجيبها ثم أستدار هارباً خارج الغرفة بأكملها بينما أخذت هى نفساً عميقاً تحاول تنقية ذهنها به فلازال ينتظرها يوم حافل تأمل ان يُكلل جهدها بالنجاح غداً .
*****************
حاولت كتم شهقات دموعها المنسكبة كعادة كل حديث بينهم بوضع كفها فوق موضع فمها بينما لازال هو مستمراً فى تذمره وبث طاقته السلبيه من خلال الهاتف النقال ، وعندما لم تصله أجابتها هتف متسائلاً بعصبية ونبرة حادة عالية :
-(( هو أنا ليه لما بكلمك مش بتردى عليا !! للدرجة دى مستهيفانى !!! )) ..
لم تعقب على جملته الأستفاهمية الأخيرة ففى تلك اللحظة لا تريد إظهار ضعفها له فأكتفت بالصمت ، أما عنه هو فقد زاده صمتها غضباً فعاد يصيح من جديد بصوته الذكورى المزعج :
-(( أنتى مصممة تجننينى !!!! .. قلتلك كام مرة لما أسالك تردى عليا بلاش تسكتى كدة ؟! )) ..
أبعدت علياء الهاتف عن أذنها قليلاً ثم قامت بمسح وجهها وتنقية حلقها قبل أن تجيبه بنبرة خافتة ممتلئه بالدموع لم يلتقطها :
-(( أتفضل يا محمد عايز تعرف أيه ؟!)) ..
أجابها بأهتياج :
-(( أيه اللى عايز أعرف أيه دى ؟!!.. يعنى انتى تستفزينى وتحرقى دمى وترجعى بعدها تسالينى عايز أيه !!! )) ..
سحبت نفساً طويلاً تهدء به من روعها قبل أن تقول بصوتها الناعم كعادتها :
-(( أنا حرقت دمك يا محمد ؟!! كل ده عشان بسألك أنت هتنزل أمتى ؟!.. ولا أنت شايف أن مش من حقى أسأل )) ..
أجابها مهاجماً كعادته عند الخطأ :
-(( أه .. لما أكون حاكيلك ظروفى كلها ومفهمك ومتفقين وبعدها تسألينى يبقى أه بتحرقى دمى )) ..
هتفت مستنكرة من طريقته العنيفة فى أدارة الحوار بينهم :
-(( لما أطلب منك بعد سنتين كاملين أنك تنزل أجازة عشان نقعد مع بعض شويه أبقى مش مقدرة ظروفك !! أنت إزاى كده !! أحنا بقالنا سنتين مخطوبين مشفتكش فيهم يوم واحد !! وبدل ما تعتذر عن وعدك كل فترة أنك هتنزل ومبيحصلش بتهاجمنى !!!.. أنا بجد تعبت ومبقتش لاقيه طريقة كويسه للحوار بينا )) ..
قاطعها مندفعاً بأتهام :
-(( اااااه أصل أنا حمار مبعرفش أتفاهم وطبعاً مش عاجب الهانم خلاص .. وهعجب إزاى مانا مش من نفس المستوى بتاعكم عشان أملى العين )) ..
لقد وصلت إلى حد اليأس معه ، فهو دائماً فى موضع الشهيد وهى الانانية الجاحدة ، لقد أرهقتها تلك العلاقة نفسياً بشكل يرثى له ، وأصبحت تشكل عبئاً لا ينتهى بالنسبة إليها ، كم من المرات حاولت التوصل معه إلى حل وسط ! ، وكم من المرات حاولت الدفاع عن نفسها بسبب تفسيره الخاطئ لحديثها !، وكم من المرات أتهمها بالجحود والأنانية لمطالبتها بأبسط الأشياء !! لذا وبعدما أغمضت عينيها لوهلة حتى لا تجيب برد لاذع وجدت نفسها تقول بهدوء :
-(( محمد .. أنا تعبت وشايفة أن أنا وأنت مش مناسبين لبعض .. ومادام أنت شايف نفسك قليل قدامى وشايفنى مش مراعية ظروفك يبقى صعب نكمل بالأفكار دى .. فياريت ننفصل بهدوء )) ..
تبدلت نبرة صوته فى لحظة بمجرد أستماعه لطلبها ذلك وهتف يقول متوسلاً كعادته فى كل مرة :
-(( علياء أنا بحبك ومقدرش أعيش حياتى دى من غيرك .. حبيبتى عشان خاطرى متزعليش منى .. أبوس إيديك أنا مضغوط فى الشغل وعارف إنى مقصر معاكى وأنك متحمله كل ظروفى .. بس والله هحاول أخد إجازة حتى لو أسبوع وانزل وهحاول أنظم وقتى وأكون معاكى أكتر .. بس عشان خاطرى متسبنيش .. أنتى لو سبتينى أنا هموت .. مش هعرف اعيش من غيرك والنبى )) ..
زفرت بأستسلام فهو دائما ما يلعب على وترها الحساس إلا وهو عدم قدرتها على أذية مشاعر كائناً ما كان ، نطق أسمها بنعومة وتوسل يستجديها فى نفس اللحظة التى طُرق بها باب غرفتها فأجابته قائلة بأحباط :
-((طيب باب الأوضة بيخبط خلينا نكمل كلامنا بعدين )) ..
هتف معترضاً بنبرة شبهه حادة ظناً منه أنها تكذب فى ذلك الشأن :
-(( انا مسمعتش الباب خبط .. علياء لو زهقتى منى وعايزة تقفلى قولى الحقيقة بس متكدبيش عليا )) ..
أنقذها من صوته هتاف شقيقها يقول من خلف الباب الموصد بقلق :
-(( علياء !! .. أنا جواد لو سمحتى عايز أتكلم معاكى شوية لو فاضية )) ..
تلك المرة وصل إليه صوت شقيقها عبر الهاتف فسارع يقول بعذوبة :
-(( طيب يا حبيبتى مش هعطلك .. روحى شوفى اخوكى عايز منك أيه وأبقى كلمينى تانى .. هستنى مكالمتك فى أى وقت )) ..
أجابته موافقة بأقتضاب قبل ان تغلق الهاتف وتمسح العبرات الساقطه فوق وجنتيها ووجهها ثم توجهت نحو باب غرفته تفتحه عن اخره وتطلب من شقيقها الدخول ، نظر جواد إلى ملامح وجهها الباكية ثم سألها بتوجس :
(( مالك يا عاليا ؟! فى حاجة حصلت ولا أيه )) ..
أجابته كاذبة بعدما أبتسمت بخفوت :
-(( لا أنا تمام وزى الفل .. قولى أيه اللى مصحيك بدرى كده ؟!)) ..
كان يعلم تمام العلم أنها كاذبة ، فالتعاسة البادية على وجهها منذ أقترنت بذلك “الكائن اللزج ” كما يلقبه واضحة للجميع ، هى فقط من ترى عكس ذلك وترفض الأعتراف به ، زفر جواد مطولاً ثم أجابها بنبرة ذات مغزى :
-(( زى اللى مصحيكى .. بس ع الأقل أنا عندى شغل مهم .. لكن انتى صاحية ليه ؟!.. أكيد الكائن اللى انتى مخطوباله ملقاش وقت ليكى غير ده فقرر يتعطف عليكى ويكلمك فيه صح ؟! )) ..
أشاحت بوجهها بعيداً عنه ممتنعة عن الأجابة فرغم علمها بصحة حديث شقيقها والجميع الا أنها لا تجرؤ على الأنفصال عنه وتركه يعانى من دونها ، زفر جواد بضيق عندما لم يتلقى أى تعقيب على حديثه ثم أردف يقول بنبرة اخوية ودودة :
-(( عاليا .. أنتى كبيرة وعاقلة وأنتى عارفة أنا قد أيه بثق فى أختياراتك وطريقة تفكيرك وحكمك على الأمور .. بس صدقينى الولد ده مش مناسب ليكى وانتى كتير عليه .. مش قصدى كتير عليه مادياً لا سمح الله فى الاخر كلنا ولاد تسعه .. بس انتى كتير عليه فى تفكيرك ودماغك وثقافتك وهو مش عارف يجاريكى فى كل ده فبيحاول طول الوقت يقلل منك .. كلنا شايفين ده ازاى أنتى مش شايفاه !! .. مش شايفه أنه بيستغل طيبتك وأحساسك بالذنب ومكتفك !! كل مرة بيغلط فى حقك وبترجعى تديله فرصه هو ميستاهلهاش وعمرك هيضيع وراه .. صدقينى أنا لو شايفه يستاهلك كنت اول واحد وقفت جنبه وساعدته بس هو انانى !! )) ..
لم تعقب على حديثه فأستطرد يقول بيأس :
(( مفيش فايدة .. عمتاً مش هو ده الموضوع اللى كنت جايلك عشانه )) ..
انتبهت بكل حواسها إليه فأضاف يقول برجاء :
-(( عاليا لو سمحتى .. رنا بتشتكى الفترة دى أنها زهقانة فياريت تهتمى بيها زيادة انتى وماما وتحاولوا تكونوا معاها فتره أكبر من كدة )) ..
رمقته علياء بعدة نظرات مستنكرة تحاول ربط الأمور معاً قبل أن تقول معترضه بتردد :
-(( بس رنا هى اللى على طول فى الأوضه مش بترضى تنزل منها .. ع العموم حاضر ومتشغلش بالك .. انا رايحة النادى النهاردة لو كده هخليها تيجى معايا تغير جو )) ..
أبتسم جواد وربت على كتفها مستحسناً ثم قال بمحبة خالصة :
-(( هو ده اللى مستنيه منك .. وياريت متقوليلهاش أنى كلمتك عشان متزعلش )) ..
أجابته مطمئنة بأبتسامتها البشوش المعتادة :
-(( أنا أصلا مشفتكش النهاردة )) ..
لكزها جواد بجانب مرفقها بمرح قبل أن يغادر الغرفة والأبتسامة تعلو محياه أمتناناً لوجود شقيقته فى حياته وجواره .
******************
تسللت خلفه تسير على أطراف أصابع قدميها وهى تتلفت حولها يمنة ويسرة تريد التأكد أن حديثها لقى الصدى المطلوب داخله ، وعندما دلف غرفة شقيقته وأغلق الباب خلفه وضعت أذنها فوق باب الغرفة تستمع إلى حديثه وأبتسامتها تتسع شيئاً فشئ عند سماعها الجزء الخاص بها ، وعندما شعرت باقتراب خروجه وأنتهاء الحديث مع شقيقته هرولت مسرعه إلى الأسفل لتقابل فى الممر المقابل للدرج والمؤدى إلى البهو والمطبخ من الطرف الأخر والدته تشق طريقها نحوه ، هنا أبتسمت بخبث وقد لمعت بداخل رأسها فكرة جهنمية أخرى ، فالطرق فوق الحديد وهو ساخن يعطى أفضل النتائج وعليه هتفت بود تستوقف والدته وتتسائل ببراءة :
-(( صباح الخير يا أنطى .. رايحة المطبخ ولا أيه ؟؟ )) ..
أجابتها السيدة كريمة والدة زوجها بودها المعتاد :
-(( صباح الخير يا مرات أبنى الغالى .. أه يا حبيبتى رايحة عشان الفطار .. محتاجة حاجة مخصوص أوصيهم عليها ؟! )) ..
رفعت رنا رأسها تنظر إلى أعلى الدرج حتى تتأكد من ظهوره وبمجرد رؤيتها لظله ينعكس فوق الحائط قال بخبث مدعية الأهتمام بصوت مرتفع حتى تتأكد من وصول حديثها إلى مسامعه :
-(( طب يا أنطى خليكى انتى متتعبيش نفسك النهاردة .. كفاية عليكى السهر مع أونكل طول الليل .. أرتاحى وأنا هروح أساعدهم فى تحضيره )) ..
أجابتها والدته بأمتنان ومحبة حقيقيين :
-(( تسلمى يا بنتى .. كفاية أنك عرضتى .. مش عايزة أتعبك .. روحى أنتى شوفى جواد ولينة وأنا هجهز الفطار )) ..
تجعدت ملامحها وأنتظرت حتى شعرت بحركته خلفها حيث كانت تقف فوق أخر درجات الدرج ثم قالت بمكر مدعية الحزن والأنكسار :
-(( ليه كده يا طنط أنا كنت عايزة اساعدك مش أكتر .. ليه فى كل مرة بترفضى مساعدتى ومحسسانى أنى غريبة ومش مرحب بيا فى البيت ده )) ..
فرغ فاه السيدة كريمة حيث صدمها حديث زوجه إبنها فهى لم تشعر أنها تفوهت بما يحزنها لذلك الحد ورغم ذلك حاولت أنتقاء كلمات اعتذار منمقه تسترضيها بها ولكن قاطعها صوت جواد القاطع يقول بجمود وذراعيه تشق طريقها نحو كتف زوجته لمحاوطتها :
-(( ماما لو سمحتى .. رنا هنا مش ضيفة .. ولو حبت تساعدك سبيها تتحرك فى البيت زى ما تحب )) ..
أجابته والدته بحزن :
-(( والله يابنى ما كان قصدى .. كل الحكاية أنى كنت عايزاها ترتاح وأنت عارف أنا كده كده مبعرفش اسيب المطبخ لوحده ))..
سلطت نظراتها فوق زوجه إبنها ثم أستطردت تقول بأعتذار :
-(( متزعليش منى يابنتى مقصدش حاجة .. وبعدين فى الأول وفى الاخر ده بيتك .. أنا وعمك مش هنعيش قد اللى عشناه .. ومن بعده كل حاجة هنا ليكى ولعبد الجواد )) ..
أبتسمت الأخيرة بتصنع إبتسامة مقتضبة بينما قال جواد بنبره هادئة ملطفاً الأجواء :
-(( محصلش حاجة لكل ده .. وأنتى يا رنا .. عاليا طلبت الاذن تخرجوا سوا النهارده وأنا وافقت .. سيبى لينة مع ماما وأنزلى غيرى جو .. عن إذنكم انا لازم اتحرك دلوقتى عشان متأخرش )) ..
أنحنى برأسه بعد أنتهاء حديثه يُقبل يد والدته ثم ألقى تحييه الوداع وتوجه إلى خارج المنزل بينما تابعت هى خطواته والأبتسامة الماكرة تعلو محياها ، وعندما أختفى من أمامها هرولت إلى الأعلى مرةً أخرى حيث غرفتها ، حينما أوقفتها علياء التى هتفت أسمها تستوقفها قبل أن تقول بنعومة :
-(( رنا صباح الخير .. أنا كنت رايحة النادى النهاردة وحبيت تيجى معايا أيه رأيك ؟!)) ..
ضغطت فوق شفتيها ثم أجابتها معتذرة بأسى :
-(( يا خسارة يا لى لى .. ياريتك كنتى قولتيلى من بدرى .. بس انا النهاردة مواعدة صاحبتى أخرج معاها .. عمتاً روحى أنتى ونبقى نرتب يوم تانى سوا )) ..
أجابتها علياء بتفهم :
-(( خلاص ولا يهمك .. أنا كنت هروح مادام أنتى هتشجعينى .. بس مش فاضية هقضى اليوم فى البيت أحسن )) ..
اومأت رنا برأسها موافقة ثم أستدارت تستأنف طريقها نحو غرفتها بخطوات متبخترة ، فإلى الأن كل خططها تسير على خير ما يرام
***********************
منذ وطأت قدميه الطابق العلوى الخاص بمدراء المؤسسه ومالكيها وصوت صياح إبن عمه يملئ الطابق بالممرات وتزداد وتيرة علوه كلما أقترب بخطواته إلى حيث غرفة رئيس مجلس الأدارة ، زفر جواد ممتعضاً بينما هرول بلهفه لأنقاذ ما يمكن أنقاذه حتى وصل الغرفة وأقتحمها دون أستئذان ثم أشار برأسه للفتاة التى كانت تقف كالفرخ المذعور تستمع إلى نوبة صراخ مرؤسها فى العمل بالمغادرة فى صمت ، بينما هتف يقول مؤنباً بعدما تأكد من خلو الغرفة الا منهما شخصياً :
-(( بجد كده كتير يا طاهر !! .. دى رابع مديرة مكتب تتغير فى الكام شهر اللى فاتوا دول ! .. خد بالك الturn over ده مش حلو فى حقك ولا فى سمعة شركتنا )) ..
إجابه الأخر بعدم أهتمام بينما أصابعه تعبث بحدة فى أحد الملفات المفتوحة أمامه :
-(( هى اللى غبية وتستاهل )) ..
حسناً لقد فاض الكيل به من تصرفاته المتهورة الغير محسوبة ، فمن يراه الأن يظنه عمرو الطائش الأنانى وليس طاهر الهادئ الرزين .
-(( انت بتعمل أيه ؟!.. لا بجد أنت كده بتعمل أيه !!! .. بتحاول تدمر نفسك ولا اللى حواليك ولا بتعاقبها ولا ايه بالظبط !! لو عايز تدمر نفسك وتنسى يلا بينا نطلع على اقرب بار وأفضل ماسك الكاس فى ايديك ليل ونهار لحد ما تبقى سكران ومفلس وتترمى فى الشوارع .. أو أقولك .. تعالى ناخد العربيه ونلف فى الشوارع نشوف أقرب ديلر واقف متخفى وتتعامل معاه واضرب ستروكس لحد ما جهازك العصبى يدمر وتبقى مدمن قد الدنيا وبرضه مفلس ومرمى فى الشوارع !!.. يمكن كده تعرف تنساه )) ..
هذا ما هتف به جواد بحده وأشمئزاز حيث أكتفى من تخبط شريكه كل تلك الفترة وتدميره لحياته حزناً على فراق شقيقه ، بينما هدر طاهر محذراً وهو ينتفض من جلسته ويقف قبالة جواد قائلاً بتهديد :
-(( أقسم بالله .. لو اتكلمت كده تانى ما هخلى عندك لسان تنطق بيه من الأصل )) ..
أصدر جواد صوتاً من حلقه ينم عن السخرية ثم قال ببرود متعمداً إثارة غضبه :
-(( يلا ورينى وأنا قدامك .. هتقدر تعمل أيه وانت زى رجل الكهف كده !! وبعدين أنا مش قايلك قبل كده .. لو تعبان خد إجازة زى ما تحب وأكتئب زى ما تحب .. لكن لو قررت تقف زى كابتن امريكا تدير أحوالك وتعرف ان وراك ألوف البيوت اللى محتاجه لقوتك .. يبقى تحلق دقنك دى وتسيبك من العصبية اللى مخليه أصغر موظف فى المكان يبصلك بأشفاق ويقول أصل الصدمة كانت شديدة عليه )) ..
جاءته إجابة سواله على هيئه لكمة تفاداها جواد بحرفية مذهلة قبل أن يقبض على معصم طاهر ويقول بقوة ضاغطاً على حروف كلماته :
-(( طاهر فى الشدة يبقى زى الجبل .. واقف ساند طوله .. أجمد ياد ده أنت أصلك صعيدى .. والصعيدي ميتهزمش )) ..
لانت قسمات الاخير وأرتخت عضلات جسده ثم فاجئه يقول بإنكسار :
-(( معرفتش أحميه .. كنت عارف أنها هتروحله البيت وسكتت .. زى الشيطان الأخرس .. لو كنت وقفت قدامه ومنعته يمكن مكنش مات .. أنا السبب فى موته يا جواد )) ..
قاطعه جواد قائلاً بحزم بعدما ارخى قبضته من فوق يده :
-(( لا مش أنت السبب يا طاهر وعمرك ما هتكون .. إوعى تحمل نفسك ذنب معملتهوش .. عمرو مات عشان ده قدره .. وطريقة موته كانت اختياره من سنين كتير .. أنت عمرك ما هتكون طرف فى اللى حصل )) ..
همس الأخر يقول بكره :
-(( مش هرتاح غير لما اللى قتله ياخد جزائه .. ساعتها هقدر اقف قدام قبره وأقوله ع الأقل حقك رجعلك )) ..
تنهد جواد بأسى قبل أن يقول مواسياً :
-(( هانت .. بكره الجلسه وان شاء الله القاضى يأكد الحكم وترتاح )) ..
هتف طاهر يسأله بتشكك :
-(( تفتكر فعلاً هتتعدم ؟! )) ..
أجابه مندفعاً بثقة كبيرة :
-(( أيوه طبعاً .. الشهود كلهم ضدها بما فيهم المدير بتاعها .. غير أنها متلبسه ورفضت تتكلم فى التحقيق أو تدافع عن نفسها .. أكيد هتاخد إعدام )) ..
همس طاهر يقول برجاء ممنياً نفسه :
-(( يارب عشان أرتاح والنار اللى جوايا تهدى )) ..
*******************
دلف مكتبها بهدوء دون أن تشعر به فهى لازالت غارقة منذ الصباح بين تلك الملفات التى لا تنتهى ، تنحنح يحيي معلناً عن نفسه جاذباً بفعلته تلك أنتباهها ثم تحدث يقول مستفسراً وهو يسحب أحد المقاعد المقابلة لمكتبها ويجلس فوقه بأسترخاء :
-(( أيه يا أستاذة .. لسه مخلصتيش ولا أيه ؟؟ .. أنا جاى أطمن عليكى )) ..
أجابته غفران بتثاقل :
-(( لا خلصت وكله تمام .. إن شاء الله البراءة فى إيدينا بكرة أو بعده بالكتير أوى )) ..
عقد يحيى ما بين حاجبيه حيث تحولت ملامحه إلى العبوس قبل أن يسألها بجدية بالغة :
-(( أنتى متأكدة ؟!.. بصراحة أنا شايف الدنيا معقدة .. وأنتى واخدة الأمور ببساطة زيادة عن اللزوم بأعتبار أن موكلتك محكوم عليها بالأعدام !! )) ..
اجابته بثقة وهى تمسد بكف يدها أسفل عنقها المتشنج من كثرة الجلوس فى وضعية واحدة :
-(( يمكن زمان .. وقبل ما يجيلى نتايج اعادة الفحص الجنائى اللى طلبته كنت هبقى زيك .. لكن دلوقتى أنا مطمنة وفى بطنى بطيخة صيفى كمان )) ..
سألها مستفسراً بأهتمام شديد :
-(( أيه اللى جد يعنى ؟! )) ..
أجابته بسعادة وهى تترك مقعدها وتتجه نحو نافذة الغرفة تتابع المطر من خلفها :
-(( الجديد أن مفيش قضية .. والحكم الأول ده فشنك )) ..
هتف يحيي مردداً بأستنكار شديد :
-(( فشنك !!! أزاى ؟!)) ..
تنفست غفران بعمق ثم قالت بهدوء بعدما تحركت نحوه وسحبت المقعد المقابل له كى تجلس أمامه :
-(( يعنى القاتل ده يا أما غبى أوى .. او إبن حلال أوووى لدرجة أن قدملنا براءه رحمة على طبق من فضة من غير ما يحس .. وزى ما القانون بيقول كده .. مفيش جريمة كاملة )) ..
عاد يحيي يهتف من جديد متسائلاً بفضول :
-(( طب هتقولى اللى عندك ولا هتسبينى بفضولى كده !! )) ..
أبتسمت غفران بمرح ثم بدءت تقول شارحة بأستفاضة :
-(( بص يا سيدى .. منكرش فى الأول ان الدنيا كانت مقفلة معايا وخصوصاً أن رحمة كانت فى حالة صدمة ومش عايزة تتكلم .. لحد ما حنت عليا وبدءت تحكيلى اللى حصل كله بعد تالت يوم .. ومن خلال كلامها طلعلى كده كام ثغرة شككتنى .. فقلت أمشى وراهم واتكل على الله وأنا وحظى .. وفعلاً مشيت وراهم وكانت نتيجتهم التقارير المذهلة اللى بين إيدينا دلوقتى دى )) ..
أنهت جملتها التشويقية بأبتسامة عميقة جعلت يحيى يهتف بلوعة متوسلاً :
-(( أرحمينى وكملى .. مش هسحب منك الكلام بالقطارة ! )) ..
هنا هتفت غفران تجيبه بمرحها المعتاد :
-(( تمام هقولك اهو متزقش .. بص يا سيدى .. رحمة قالتلى أنها اول ما وصلت لباب شقه عمرو وفتحلها حست بحركة وراها وملحقتش تتلفت كان الحد ده حقنها بحقنه فى رقبتها وهو حاطط إيده على بوقها عشان يمنعها من الصريخ .. وبعدها الدنيا بدت تسود قدامها ولما فاقت لقت نفسها فى السرير مع عمرو والمسدس فى إيديها وهو ميت بطلقة واحدة فى القلب .. معنى كده أن فى مخدر دخل جسمها .. ودى اول نقطه أشتغلت عليها وكان سهل أثباتها .. مجرد تحليل بسيط نقدر نثبت بيه وجود ماده الكلورفين او مشتقاتها فى الدم وده اللى حصل مما يثبت صدق رواية رحمه .. أن فعلا حد خدرها وقت وقوع الجريمة )) ..
قاطعها يحيى قائلاً بأعتراض يشوبه بعض الحماس :
-(( حلو .. بس تفتكرى دى سبب كافى عشان القاضى يحكم لصالحها ؟؟ )) ..
إجابته غفران نافية بنبرة عملية بحته :
-(( لا طبعاً .. ده يادوب جزء من دليل البراءة .. عندنا تانى حاجة واهم منها .. رحمة بعد مدة أستدعتنى عشان تقولى حاجة مهمة أفتكرتها مع الوقت .. كانت مجرد خيالات ومع مرور الوقت اتاكدت منها.. وهى أن قبل ما يغمى عليها وقت الحادثه شافت بقعة دم ظهرت على هدوم عمرو اللى كان واقف قصاد الباب من جوه مع صوت خفيف .. وبعدها بدء جسمه يترخى وينحنى فى اتجاه الأرض .. دى أخر حاجة فكراها زى الحلم .. من خلال كلامها ده اقدر اقولك أن الجريمة اتنفذت بكاتم صوت لسببين .. الاول هى مسمعتش صوت تقريباً والتانى .. محدش أكتشف الجريمة غير الصبح لما رحمة صرخت .. ده معناه ان مفيش حد من السكان برضه سمع صوت طلق نارى مع أن حاجه زى دى تسمع الشارع كله .. الا لو كانت مطلوقة بكاتم صوت .. وده اللى مكنش موجود فى موقع الجريمة .. وبعد الفحص الجنائى والطب الشرعى والمكتوب فى التقرير النهائى أتضح أن الطلقة المستخرجة من جسم القتيل مشوهه بنتواءات خلتها غير مستوية .. وده بيحصل نتيجه حاجه واحده بس !!.. أستخدام كاتم الصوت اللى أختفى من مسرح الجريمة .. وبما أن رحمة مجتلهاش الفرصه تهرب او تخرج بالسلاح فده بيثبت أن حد تانى كان موجود فى مسرح الجريمة وأخد معاه الكاتم )) ..
أتسعت عيني يحيى بإنبهار بينما يستمع إلى تحليلها الرائع كأحد المتخصصين فى عالم الجريمة ثم هتف يقول بحماس :
-(( لا مش مصدق !! كل ده يطلع من شوية تقارير أيدك وقعت عليها ؟!.. )) ..
إجابته غفران قائلة بفخر :
-(( لسه أحلى وأهم جزء فى الموضوع .. وده ان شاء الله اللى هيثبت براءة رحمه بكرة .. وقبل ما تتحايل هقولك على طول .. بص يا سيدى .. برضه بعد التشريح .. الطب الشرعى أكتشف أن المقذوف وفتحة الدخول أتجاهها من ناحيه الصدر بس لأسفل .. وده معناه أن الجانى يا فى طول المجنى عليه أو فى حالتنا أطول .. بالظبط وعشان أكون دقيقه حوالى ١٠ سم .. يعنى فى المجمل طوله ١٩٠ سم مقارنة بطول القتيل .. فى حين أن رحمة طولها ١٥٨ سم بالتحديد .. يعنى لو كانت رحمه هى اللى اطلقت النار كان إتجاه فتحه الدخول بميل لأعلى وده عكس اللى وجده التشريح .. معنى كده أن القضية بخ )) ..
صفق يحيى تحيية لذكاء زميلته فى العمل قبل ان يقول بأستمتاع شديد :
-(( أنا حاسس أنى بتفرج على فيلم بوليسي )) ..
قالت غفران بعدم اهتمام :
-(( صدقنى لا فيلم بوليسي ولا غيره .. كل الحكاية زى ما قلتلك من شويه .. القاتل ده يا غبى .. يا أما تعمد يسيب ثغرات تبوظ القضية من الأول للأخر .. وأنا ضد الأحتمال الاول .. لان ببساطة اللى يخطط لجريمة كاملة زى كده ويوقع غيره .. كان يقدر يتفادى أخطاء أى حد متمرس ممكن يكتشفها )) ..
عقد يحيى ما بين حاجبيه ثم هتف متسائلاً بأستغراب :
-(( قصدك أيه ؟!! )) ..
أجابته بغموض :
-(( معنديش حاجة أكتر من اللى قلتهالك .. عمتاً خلى الأيام تبين ايه مقصود وأيه مش مقصود )) ..
**********************
بعد أنقضاء يومين وقفت رحمة بداخل القفص الحديدى داخل قاعة المحكمة تنتظر نطق الحكم وقلبها يكاد يهوى من شدة الترقب ، فما سيتفوه به القاضِ الأن يتوقف عليه مصير حياتها حرفياً ، أما بتإكيد حكم الإعدام الاول وأنتهاء رحلتها ، أو يحدث الله آمراً ، وطوال فترة المناقشة كانت فى عالم أخر كل ما يردده لسانها هو كلمة “يارب ” ، وبعد عدة دقائق اخرى دلف القاضِ مع زملائه ثم قال بصوت جهورى قوى :
-(( بعد الاطلاع علي الأدله المقدمة من محامي الدفاع وأثبات صحة ما تقدم إلينا حكمت المحكمه حضوريا وباجماع الاراء علي المدعوة / رحمة عز الدين النويري داود ببرائتها مما نسب اليها .. وإلزام النيابه بالقبض علي المتهم .. رفعت الجلسة )) ..
صرخت غفران بأنتصار وصرخت من خلفها رحمة بعدم تصديق وقد بدءت دموع الفرحة تتساقط بغزارة وتمنع عنها الرؤية ، بينما سادت حالة من الهرج والمرج داخل القاعة صادرة من عائلة المناويشى رفضاً لذلك الحكم الظالم من وجهه نظرهم ، احتدت ملامحه وهو يراقب أبتسامتها السعيدة مقاوماً رغبة ملحة فى الصراخ بأعلى صوته تحسراً وهدم تلك القاعة على من بداخلها ، ورغم ذلك قام بهدوء شديد متوجهاً نحوها بخطوات ثابتة حتى وصل إليها وتوقف أمامها ثم أنحنى بجسده نحوها وقال بنبرة جليدية من خلف السورالحديدى :
-((طول ما الحقيقة مظهرتش .. اوعدك أبتسامتك دى مش هتظهر على وشك تانى .. الصعايدة مبيسبوش تارهم )) ..
أنقبض قلبها وشعرت بالبرودة تسرى بسائر جسدها من نظرته التى رمقها به قبل أنصرافه شاعرة أن سعادتها المؤقتة انتهت حتى قبل أكتمالها .
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية في لهيبك احترق)