رواية في لهيبك احترق الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم شيماء يوسف
رواية في لهيبك احترق الجزء الثالث والثلاثون
رواية في لهيبك احترق البارت الثالث والثلاثون
رواية في لهيبك احترق الحلقة الثالثة والثلاثون
إِذا هَجَرتَ فَمَن لي؟
وَمَن يُجَمِّلُ كُلّي؟
وَمَن لِروحي وَراحي
يا أَكثَري وَأَقَلّي
أَحَبَّكَ البَعضُ مِنّي
فقَد ذَهَبتَ بِكُلّي
يا كُلَّ كُلّي فَكُن لي
إِن لَم تَكُن لي فَمَن لي؟..
-الحلاج.
كان التمرد هو الخطيئة الكبرى لأعتى الملائكة وأشرفهم، وبسببها عوقب بالنفي والحرمان إلى أبد الأبدين، ربما هي الأخرى تُعاقب بالحرمان على نعمة كانت بين يديها ولفظتها، نعم ألقتها بعيدًا أرضاءًا لغرورها تارة، وبطفولية تفكيرها تارة أخرى، وها هي تقف في مواجهة صريحة أمام نفسها قبل كل شيء، وكأن الاحتمالات التي واجهها بها الطبيب أزالت غشاوة التعالي من أمام بصيرتها، وجردتها ألا من واقع فقدانه أو الأسوأ نسيانه لها، هل حَقًّا ينساها وكأنها أبدًا لم تكن؟، بضراوة مواقفهم وغلاوتها حتى وإن لم يجمعهم سوى القليل؟!، آية شقاء قد نزل بساحة روحها، وأي بؤس صبغ لون حياتها وأفقدها القدرة على التمسك بغريزة الاستمرار؟ وأرقدها فوق الفراش شبهه مشلولة تستمع إلى الهمهمات من حولها دون القدرة على النطق أو التفكير، حتى أبسط عملياتها الحيوية أضحت مصدر ألم ضاري عند القيام بها وقد انعكس ألمها الروحي على العضوي، ومع همسة خافتة لاسمها من فم شقيقها القلق ازدردت على أثرها ريقها بصعوبة بالغة وكأن هناك سمكة نيص تنتصف حنجرتها، بينما أشواكها المدببة تخترق جلد عنقها الداخلي، فتعاني أن ابتلعت لعابها وتعاني إن لم تفعل، تبعته بأنين خافت بدأ يصدر عنها في استجابة ضعيفة ليده الممسدة جبهتها في حنان وقد تم نقلها إلى غرفة مجهزة بفراشين، فكعادة كافة المستشفيات المصرية الخاصة، كلما دفعت أكثر، كلما حصلت على تدليل واهتمام أكبر، وبالنسبة إلى أخيها كان دائمًا وأبدًا همه الأول والأخير راحتها، لذا لم يتوانى عن اختيار أحسن الغرف الخاصة “اللوكس” المزودة بفراش مرافق حتى تتمكن من مجالسة زوجها براحة والاعتناء به كيفما شاءت، ومع تمتمة أخيرة من فمه يستجديها فيها الاستيقاظ إذ أوشكوا على نقل زوجها المصاب إلى نفس ذات الغرفة جعلتها تقاوم سدول أهدابها الثقيلة وتفتحهم على مضض تطالع بأعين شبهه خاوية الجمع الملتف حول فراشها، وقبل أي حديث مواسي شارف على الخروج من أفواه المراقبين لها، تهادى إلي سمعهم وقع خطوات وأصوات لعدة رجال صادرة من خلفهم أيقظت كافة حواسها خاصةً فور لمحها جسده المسجى فوق الفراش المدولب المدفوع بعجلاته الأربع، فأنتفضت من نومتها على حين غرة هاتفة أسمه في لوعة :
-(( يحيي ))..
ترنح جسدها مع اندفاع حركتها البسيطة، فسارعت يد طاهر تلك المرة في إسنادها ودعم ثقلها متجاهلًا ضربة ألم قوية عصفت بثباته يده هو الأخر فكانت رحمة هي أول من لاحظت ارتعاش قبضته فبادرت بمد كفها الناعم نحو كفه ومحاوطته في دعم معنوي راقه كثيرًا، بينما تحركت علياء تلك المرة فور استعادة اتزانها على مهل تقف بالقرب من الرجال وتتابع باهتمام كامل مهمة رفعه من فوق الفراش المدولب ووضعه برفق وحذر شديد فوق الأخر الجلدي، وعند استقراره اندفعت تنحني بجسدها نحوه وتضمه إليها متمتمة في قهر :
-(( يحيى….. ))
قال الطبيب معترضًا عند رؤيتها تقترب منه ومحذرًا رغم إشفاقه عليها :
-(( يا مدام من فضلك.. المريض تعبان ولسه خارج من عمليات فبلاش تلامس كثير أو حركة.. وبطلب منكم الهدوء التام.. وياريت لو نقلل المتواجدين في الأوضة ))..
ابتعدت علياء عنه في الحال إعلاءًا لمصلحته غافلة عمن تراقبها في حقد أو ربما حب امتلاك لا يهم يكفي نظرتها المحتقنة بدماء الكره الأسود، في حين أردف الطبيب مكملًا حديثه الجاد :
-(( وشويه والممرضة تدخل تتابع الحالة وتحطله الأدوية المناسبة وأنا إن شاء الله على ٦ الصبح هعدي عليه واطمن.. ومرة أخيرة حمد لله على سلامة الدكتور ))..
تمتمت غفران شاكرة وعينيها الحزينة لازالت مسلطة فوق رفيقها ومن يدفع ثمن عنادهم غاليًا، كاتمة تنهيدة حسرة كادت تفلت من بين شفتيها، وبدلًا عن ذلك قررت التنفيس عن غضبها بطريقة مغايرة، إذ هتفت تقول بعدما نظرت إلى جيداء في نبرة عدائية قوية لا تخرج سوي من فم مقاتلة عاتية مثلها :
-(( بلاش دموع التماسيح دي وفريها لحد تاني ))..
رفعت جيداء رأسها للأعلى في كبرياء مزيف، وبعد أن اتخذت وقتها الكامل في تمرير نظراتها المزدرية فوق غفران هتفت تقول في تعالي :
-(( أنا مش فاهمة أيه العشوائية دي.. عايزة مني إيه أنتِ ))..
هتف جواد مقاطعًا جدالهم الحاد وهو يضغط على حروف كلماته فتلك شديدة البأس الواقفة بالقرب منه تتعمد إثارة حفيطة الأخرى وجرها إلى منطقة يعلم أن حسناء المظهر ستخسر فيها بكل تأكيد :
-(( غفران!!.. الوقت مش مناسب لأي كلام.. خلي يحيي يقوم بالسلامة والتصرف الأخير ليه ))..
غمغمت بعدة كلمات حانقة غير مفهومة لم يلتقط منها سوى كلمة نعم الناطقة بها في غل، بينما تابعت رحمة في قلق شديد ملامح طاهر التي أخذت في الشحوب وخصوصًا شفاه، إذ وصف له الطبيب مسكن يحتوي على نسبة من المخدر لتخفيف الألم ولكن طبقًا للظروف الحالية رفض تناوله فهو يحتاج إلى كامل وعيه لمؤازرة عائلته، أو على الأقل ما تبقى منه، فقالت مقترحة على مضض تخشي تفسير مقترحها بشكل خاطئ :
-(( طاهر أنت كمان لازم ترتاح.. شكلك تعبان ))..
حرك رأسه رافضًا بشكل قطعي دون تعقيب فالحمية بداخله تمنعه من ترك أبناء عمومته حتى وإن كان جسده هو من يُعاني، وقتذاك قال جواد مؤيدًا موقفها فالإعياء الكاسي ملامحه أوضح من أن يغفل عنه أحد :
-(( رحمة عندها حق يا طاهر.. انتوا تعبانين بعد اللي حصل ولازم ترتاحوا وأنت بالذات.. غير أن المستشفى مش هتسمح بعددنا ده كله يعني وجودكم ملهوش لازمة.. ومتنساش أني محتاج حد يوصل لينة البيت مش هفضل سايبها على كتفي كده ))..
هنا تذكر طاهر السؤال الذي أراد طرحه منذ وصوله ولكن مع مرور الأحداث نساه، فقال مستفسرًا في نبرة مرهقة للغاية :
-(( هو صحيح أيه اللي جابها معاك من الأساس؟ ))
أجابه جواد شارحًا في نبرة خالية خافتة :
-(( كنت واعدها من فترة أوديها الملاهي بعدما أخلص شغل ونسيت.. ومفتكرتش غير بعدما روحت من الاجتماع.. وطبعًا لما زعلت قلت أنزل حتى بيها أي مول قريب تغير جو.. بس وأحنا في الطريق علياء اتصلت فـ مكنش في وقت أروح البيت ارجعها واجي تاني هنا.. وزي مانت شايف.. نايمة على كتفي من بدري ))..
رق قلب الجميع لحال الملاك الغافي في سلام دون إدراك لما يدور من حوله من تعقيدات، وخاصةً مشاعر تلك من ترقرقت عيناها بالدموع كسحابة صيفية فاض بها حملها فألقته، ومع كل ذكر لسيرتها تجد العبرات الشفافة تشق طريقها داخل قنواتها الدمعية حتى تقف على حافة جفونها، فقط تنتظر رمشة بسيطة من تلك الأهداب حتى تتساقط متوالية، ومع صمت الجميع عاودت رحمة الطلب تلك المرة في نبرة شبهه متوسلة :
-(( طاهر.. عشان خاطري أسمع الكلام وروح عشان ترتاح وتاخد علاجك.. على الأقل عشان بكرة تعرف تقف معاهم ))..
سادت لحظة طويلة من الصمت الهادئ الناعم بينهم، يعانقها بنظرته العاشقة فتستجيب راغبة، يطيل التحديق بها وقد أشتاق إلى رؤيته داخل عينيها، صغيرًا، مكتملًا، لامعًا، عجيب كيف يمكنها تحويل أسوأ مواقفه ولحظاته إلى حديقة مرتبة من حولها، فقط بجملة وحيدة من صوتها الوردي تسقط دفاعاته متهالكة، كما تتساقط أوراق الخريف وتُسحق تحت الأقدام ، وكيف يقاومها هو ضعيف الإرادة، فحاشاه من بات في جوي نيران عشقه الحارقة، أن يرد نظرتها المتوسلة أو ما همست به مطالبة، ودون وعى منه تحركت رأسه بإيماءة صغيرة تهللت معها أساريرها، بينما قالت غفران مقترحة في خبث :
-((وأنتِ كمان يا رحمة يلا.. أكيد طاهر محتاج حد معاه في البيت.. وقبل ما تبصيلي كده متخافيش أنا هروح النهاردة أبات في بيت بابا عشان عندي مشوار ضروري.. ومصطفى هيكون في الشقة لوحده.. كده الأمور سهلة ))..
انفرج فمه بنصف ابتسامة خافتة فور لمحه القبول يطل من خلف عدستيها ، فمجرد تخيله لفكرة عودتها إلى منزله، تحت كنفه والنوم داخل أحضانه بددت كل آلالامه ولحظات توقه وانتظاره، كما يبدد شعاع الفجر عتمة الليل وظلامه، ويا له من شعور، بهجة خالصة غمرت أطرافه حد التخمة، بل وفاضت حتى سال السرور متسرسب من جميع خلاياه وهو يراها تسير معه وجواره.
***************************
خطوة أخرى خطاها بصحبتها داخل حديقته أصابته بحالة عجيبة من الحماس، لا لم يكن الحماس هو المصطلح الأدق في وصف حالته، بل هو إحساس غريب اعتراه عجز عن توصيفه، فجسده كله يتفاعل، ويفور الدم بداخله في شعور رائع لم يختبره من قبل، يندفع الأدرينالين داخل جسده وكأنه تعاطي جرعة مكثفة من المخدرات فأخذت تُعطي مفعولها وتتلاعب بتكوين خلاياه، أو كأن مسامه قد تضخمت بشكل مضاعف مثير، تستقبل في حالة من الجوع كل الشحنات الإيجابية التي يرسلها له الكون، وتطرد بعيدًا مشاعر طالما جثت فوق صدره وألجمت روحه الحرة، الوحدة، والغربة، وفقد الانتماء، شعور التحسر على أشياء طالما افتقدها، جميعها ذهبت بغير رجعة، وأفسحت له المجال بتشرب كل ما حوله والامتزاج به، تتناغم حواسه مع الريح الخفيف، مع حفيف الأشجار، مع ضوء القمر المنير، مع حركة السحاب، أحتوي الكل كجرم صغير مغتزل الكون وعجائبه داخله حتى انصهر به، باختصار كأن كل شيء أعاد ترتيب نفسه وآتاه كما يريد، في الوقت الذي يريد، تمامًا حيث يريد، ومع نظرة خاطفة إلى جانب وجهها المسلط فوق شجرتها المفضلة، اشعلت وجدانه متذكرًا طريقهم للعودة، وكيف احتضنت طفلة قريبه بين ذراعيها وكيف ارخت الصغيرة رأسها تستريح فوق صدرها في سلامً تام، وعلى الفور راح عقله يجسد له صورة محببة عن طفلة منه تنمو في رحمها وهي الرحمة، فرع من أصل الشجرة، من امرأة يراه بإنسان عينه مكتملة، لقد تزوج وعاشر ورأي غيرها الكثير، لم يكن بالراهب ولم يمنع قلبه من الميل من قبل، ولكنها الوحيدة التي أثرت به على ذلك النحو الخطير، رجاحة عقلها مع طيبة قلبها، إضافة إلى تمرد كرامتها تفعل به الأعاجيب، تلين وهي الشامخة، ترحم وهي القاسية، تستبد وهي الحرة، وخلف كل ذلك تعرف كيف تحب بكل جوارحها وتتعاطي مع كل المواقف بحكمة ورزانة، بينما تنهدت هي في وله وعينيها تمشط المكان من حولها، لقد مرا بالكثير بالفعل، وتلك الحديقة تحديدًا شاهدة على مواقف عدة بينهم، منها ما تود مسحه من ذاكرتها ومنها ما تحتضنه بين جوانحها، ورغم ذلك تشعر بأن قدمها تطأ المكان للمرة الأولى وقد أصابت كل شيء يد التغيير، إلا شجرة الليمون التي كانت تعتني بها بنفسها، فقد أُعيد تصميم المكان وصبغه بألوان جديدة حتى الحوائط الخارجية للمبنى، تُري هل فعل ذلك لنفس السبب الذي في عقلها أم ظنها مجرد خيالات؟!، سبقها بالقول وكأنه قرء أفكارها يهمس واعدًا في نبرة حازمة لا تحمل الشك :
-(( هنبدأ سوا صفحة جديدة ووعد عليا.. هعوضك لحد ما ترضي ))
ارتسمت ابتسامة خفيفة فوق ثغرها الوردي الناعم، بينما أسبلت أهدابها فوق يده التي احتضنت كفها الصغير مستأنفًا سيره بها إلى داخل المنزل، ومجرد ما خطت داخله ووقفت في منتصف بهو الاستقبال حتى تجمدت نظراتها، وراحت تمرر حدقتيها فوق كل تفصيلة به في ذهول، وكأنها سقطت في منزل الأحلام، تمامًا كما تخيلت وتمنت وحتى دونت في مذكرتها الخاصة، وفور إدراكها ما يحدث تلاشت أنفاسها وجحظت عيناها في ذهول وفلتت من بين شفتيها شهقة عدم تصديق وهي تلتفت إليه في حدة عفوية تسأله بعينيها اللامعة سؤال صامت، أجاب عنه في حرارة بعدما لف ذراعيه حول خصرها وجذبها نحوه :
-(( مفيش حرف اتكتب جوة دفترك.. ألا واتحفر جوة عقلي يا رحمة ))..
دفء عجيب اندفع إلى كافة خلاياها مع حالة من السكون والاحتواء، تسكتين برأسها فوق كتفه تاركة روحها تطفو داخل أبحر من السعادة، ثم ترتفع وتحلق في سموات من البهجة دون قلق أو خوف، فهو منقذها إن غرقت، ومسعفها إن سقطت، وأخيرًا وبعد طول انتظار وترقب منه، همست اسمه في تحشرج أصابه بالجنون بينما إبهامها ارتفع لملامسة أسفل ذقنه :
-(( طاهر ))..
تلكأت عيناه الشارهتين فوق ملامحها، يتشربها في عطش من لا يرتوي، قبل أن يهمس داخل أذنها في خفوت خطير :
-(( عارفة.. الوجع اللي في كل عضمي ميجيش حاجة جنب لهفة أني أحس بيكي بين أيديا ))..
عضت فوق شفتيها في حرج قبل ابتعادها عنه في ارتباك ملحوظ تهرب من عيناه الملاحقة لها بادعاء عدم فهم جملته، بينما حرك هو رأسه متقبلًا توترها وخجلها الفطري منه في تفهم شديد، فها هو يقف على مشارفها بعد مشوار ضاري قطعه وحيدًا في صحاري أشوقه المعذبة حتى وصل عتبتها، ولا ينتوي الدخول حتى تأذن له راضية راغبة.
وفي الأعلى حيث غرفتها القديمة وقفت رحمة تتأمل ذاهلة ما طرأ عليها من تغييرات هي الأخرى حالها كحال سائر البيت، وقبل أن تغوص في ذاكرتها أكثر شعرت بجسده يتحرك من خلفها بعدما تبعها كالظل متوجهًا نحو الفراش العريض الذي أنتصف الغرفة، ثم أستلقي فوقه مغمض العينين متألم الجسد وقد بلغ منه التعب مبلغه، حتى أنه لم يقو على فتح كيس الدواء البلاستيكي فألقاه جواره في عدم اهتمام، فبادرت هي متبرعة بالتوجه نحوه والانحناء إليه بعدما أخرجت حبات الدواء من مغلفها وقربتها من شفاه قائلة في نبرة ناعمة لا تخلو من القلق كي تجذب انتباهه :
-(( طاهر.. ممكن تفتح عينيك عشان تاخد الدوا ))..
وارب أحد جفناه ناظرًا إليها في شبهه حالة من فقدان الوعي، ودون الاعتدال من نومته رفع ذراعه حتى وصل إلى معصمها ودفعه نحو فمه ملتقطًا بشفاه الحبات من بين أصابعها ثم عاد لإغلاق جفنه وتركها تشرف عليه بطولها لوهلة تفكر في حيرة من أمرها فيما يجب عليها فعله تاليًا، قبل أن تحرك رأسها يائسة من فعله الطفولي المدلل وتلتقط كوب الماء من الطاولة المجاورة للفراش وتضعه فوق شفاه معيدة الكرة من جديد، وتلك المرة احتضنت كلا يداه كفها وكوب الماء داخله متجرعًا ما به حتى أخر قطراته، قبل أن يعود ويستلقي فوق الفراش في وهن بعدما فتح أزار قميصه وخلعه على مضض ثم ألقاه أرضًا مستسلمًا لمفعول الدواء الذي بدأ في السريان داخل دمه بعد دقائق عدة من ابتلاعه، بينما جلست هي على حافة الفراش بعدما دثرته جيدًا بالغطاء الخريفي، وسمحت لعدستيها بالطوف فوق محتويات الغرفة من جديد بابتسامة ناعمة، تتذكر في حنين ما دونته بيدها داخل دفترها السري منذ أشهر مضت.
(( مذكرتي وكاتمة أسراري العزيزة..
اليوم ومنذ استيقاظي تنتابني حالة من الهلاوس التامة، في جرأة لم أعهدها في شخصيتي من قبل، إذ لا ينفك عقلي يصور لي أشياء مدهشة رغم غرابتها، عن حياة طبيعية تجمع بيننا سويًا كزوجان متحابان اختارا تمضية حياتهم معًا بكامل ارداتهم الحرة، نعم أعلم أنه درب من الجنون ولكن ما بيدي حيلي، فرغمًا عني أتخيل هذه الغرفة التي أجلس بها الآن في هيئة مغايرة، حيث زال هذا الباب بجداره المادي الفاصل بيني وبينه مثلما هُدمت باقي الجدران الأخري الحائلة بين اجتماع قلوبنا، كما أُخرج الفراش الاحتياطي الدال على بعد المسافة بيننا واسُتبدل بآخر كبير ذو قوائم خشبية مرتفعة ينتصف الغرفة ويكفي لكلينا، وهناك بدلاً من مكتبه الصغير وُضعت أريكة كبيرة حتى نجلس فوقها يوميًا قبل الخلود للفراش ونتسامر في أحداث يومنا الهادئ وتكون شاهدة على كافة احاديثا حتى التافهة منها، حسنًا ربما يجب على عقلي التوقف الأن قبل أن يصل إلى نقطة لا رجوع عنها……. ))..
تنهدت في هيام ونظراتها تنزلق تلقائيًا إليه، تفكر في عشق جارف كيف حرص على تنفيذ كل ما تمنه دون أن تطلبه، يالله لم يمضِ عدة ساعات على توعدها له بعدم مسامحته، وها هي تجلس في قلة حيلة تبحث يائسة عن أخر نقط غضبها منه وقد تبخر معظمه، ومع شخصيته الجديدة تعلم أنها مسألة سويعات قبل أن تخر إرادتها راكعة أمام ضراوة غزوه.
**************************
تجلس على المقعد المجاور للفراش أمامه وعيناها مفتوحتان على اتساعهما دون القدرة على رمشهما، فها قد قارب الليل على التقهقر متيحًا للشمس فرصتها في فرش ضياءها فوق الرؤوس، وحتى اللحظة تعجز عن أخذ أنفاسها أو الاسترخاء بأي شكل كان، حيث قضت ثلثي الليل صامتة تتأمل ملامحه الغافية ورأسه الملفوف بالشاش الطبي الأبيض قبالتها في صمت، وكل ما يفعله عقلها هو تمرير شريط ذكرياتهم الحية أمام عينيها فتأن مستجيرة من أسواط جلد الذات العاجزة عن تحملها، ومن الصقيع المغلف روحها رغم دفء المكان من حولها، وكيف تستطل ومصدر دفئها الخاص مواري عنها خلف أجفانه المغلقة؟!، أجفل جسدها على صوت شقيقها آتيًا من الخلف يسألها وقد انعكس إرهاقه الذهني على نبرته :
-(( علياء أنا هنزل تحت أكلم ماما عشان أطمن على لينة وعليهم واشرب قهوة.. تحبي أجبلك حاجة معايا وأنا طالع؟! ))..
استدارت بجذعها العلوي تناظره بأحداق زجاجية فارغة ثم حركت رأسها رافضة في وجوم دون التفوه بحرف واحد فأردف يقول في ضيق :
-(( متأكدة أنك مش عايزة حاجة؟!.. ولا علبة عصير حتي!!.. أنتِ شكلك مرهق أوي!! ))..
داهمت الدموع عينيها فور سماعها جملته فالتفتت في حدة تواري عنه ما انسكب من أعينها، وقد فاضت بها وجيعتها تتذكر موقف مشابه جمعها معه حدث في ماضي ليس عنها ببعيد، هل ينساها حقًا كما شاركهم الطبيب مخاوفه منذ ساعات، فتنكوي بنيران ذكرياتهم المتسارعة داخل رأسها دون هوادة، هل تُمحي عالية الجبين من عقله كما دللها من قبل، هل ينسى لهفة استنجادها به يوم أراد بعض أنصاف الرجال الاعتداء عليها؟، حسرة يليها قهر، وندم يعقبه عذاب يفوق طاقتها وهي الضعيفة من تخطو أولى خطواتها نحو الثقة بالنفس على يده وبمباركة يده الممدودة لدعمها، وفجأة وجدت نفسها مدفوعة إلى العراء وحيدة كمن هُدمت جدران بيته فلا يجد ما يحمي رأسه من خطر الصواعق المقبلة، فآخذ بكاءها يرتفع وهي تتمتم متوسلة في أسي، بينما كفها يتلمس شطر وجهه والخدوش التي أصابته :
-(( أنا طول عمري جبانة.. بخاف أتكلم عشان محدش يزعل مني.. وبخاف أعترض عشان مجرحش حد.. برضى بأي حاجة تتقدملي واسكت عشان بخاف أواجه.. ممكن أقبل حاجة غصب عني لمجرد أني مبقدرش أقول لأ.. معرفش أنا ليه ضعيفة كده.. وليه بقبل بالفتات.. ليه باجي على نفسي عشان الناس.. أنا.. أنا كنت هتجوز واحد مش بحبه عشان معنديش الجرأة الكافية أني أسيبه متخيل!!.. وكنت راضية بعيبي ده ساكتة.. بس من جوايا كنت بكره نفسي.. وفجأة والله من غير ما احس لقيت قلبي بيتقبض كل ما بشوفك.. وبحس بطاقة غريبة جوايا كأني إنسانة تانية.. ولأول مرة اتجرأت ارفض حاجة.. أه بسببك وقفت قدامه وقلتله مش هكمل معاه ))
تعالي نشيجها القوي حتى منعها عن استئناف اعترافها وأجبرها على التوقف حتى تنتهي نوبة بكاءها ثم عادت تقول في نبرة مختنقة مليئة بالدموع :
-(( معرفش أمتي وليه وأزاي بس معاك ببقي حد تاني بيعيد اكتشاف نفسه.. بشوف في نفسي صفات مكنتش أتوقع أنها موجودة فيا من الاساس.. حتى لو أتجوزتني شفقة أو بطلب من بابا.. أنا عاجزة عن أني محبكش أو احس بقيمتي وأنت جنبي.. وخايفة أسمعك ومعرفش أواجه فأخسر احترامي لنفسي بزيادة وشوية الثقة اللي أخدتهم وأنا معاك.. أنا خايفة وأنت جنبي وخايفة وأنت مش جنبي.. بس دلوقتي أنا مرعوبة.. حاسة أن روحي هتطلع.. مش متقبلة فكرة أنك تطول في الغيبوبة زي ما الدكتور قال.. وعقلي مش مستوعب احتمال أنك تصحى فاقد الذاكرة أو ناسيني ))..
توقفت لوهلة تمسح في عُجالة بعض العبرات الشفافة العالقة بأهدابها ثم استطردت تقول في حشرجة :
-(( معرفش بيقولوا أن المريض بيحس باللي حواليه وعشان كده هفضل أتكلم معاك كل يوم لحد ما تقوم بالسلامة.. ولو سامعني عشان خاطري قوم وأبقى كويس وماتنسنيش عشان منساش علياء الجديدة معاك ))..
ختمت حديثها بطبع قبلة ناعمة مطولة فوق كفه الذي رفعته إلى فمها ثم ضمته إلى قفصها الصدري واستندت برأسها المتعبة فوق الفراش جواره وقد أنهكها كثرة البكاء فغفت مرغمة وداخلها يأمل في يوم جديد عله يأتي بالفرج وتستيقظ فتراه جالسًا أمامها يشاكسها كعادته، غافلة عن قريبته التي كانت تقف خلف الباب وتستمع إلى حديثها كاملًا، إذا فزواجهم ليس فقط مدبر بل حوله علامات استفهام قوية، وإذا صدق تخمين الطبيب واستيقظ فاقدًا للذاكرة كعرض جانبي للعملية الجراحية يمكنها استغلال الوضع لصالحها ودخول منزله مرةً أخرى وليس بأي صفة، بل بصفتها زوجته.
*************************
صرفت ساعات الليل الأولى كاملة بعدما تسللت من جواره بعد فترة من تأكدها من ذهابه في النوم، في التجول داخل جدران المنزل تنتقل من غرفة إلى التي تليها في ترقب طفولي وعيناها تلتهم كل شيء منبهرة بما طرأ عليهم من تجديدات أصابت وجيف قلبها بالخفقات المحمودة، تملأ الإثارة كيانها وكأنها سقطت داخل محتوى مذكراتها المكتوبة وراحت تجوب باطن مخيلتها في تجسيد حي رائع لما دونته يدها من قبل، تمرر أصابعها فوق كل ما تمر به بأعين مشتعلة بالحماسة، فحتى الألوان التي ذكرتها حرص على تنفيذها في دقة متناهية، أطنان من السعادة غير المتوقعة تغمدت روحها كما يغمر زبد البحر جسد العائم، إلى أن خارت قواها وأعلنت قدميها عليها التمرد فعادت مرغمة إلى غرفتهم كطفلة صغيرة أجبرتها والدتها على التوقف عن اللهو تُمني نفسها بالعودة في وقت لاحق، ثم توجهت مباشرةً إلى الحمام الملحق بغرفة نومهم المشتركة كي تبدل ثياب الخروج بأخرى بيتية مريحة، وها هي تقف أمام المرأة الضخمة، بعدما خلعت عنها الجزء العلوي من ثياب الخارج إلا من قطعة داخلية واحدة ذات حمالات رفيعة وفتحة عنق منخفضة اعتادت ارتدائها أسفل ملابسها العادية، تتلمس على مهل كتفها وتلك الكدمة الزرقاء التي أصابت أعلاه بسبب ضغط واحتكاك حزام الأمان بجلدها، قبل انزلاق يدها إلى مثيلة لها أصغر حجمًا انتصفت أعلى قفصها الصدري، وقد آثرت إخفاء أمرهم عنه وعن الطبيب حتى لا تُثير ذعره فيكفي ما يلاقيه بسبب تهورها، وأثناء انشغالها بتوزيع الدهان فوق الأماكن المصابة دوت فرقعة عالية قادمة من الخارج أنتفض جسدها على أثرها يليها انقطاع التيار الكهربائي عن المنزل ككل، ثم سرعان ما تراخي عندما أرهفت السمع واستطاعت ببساطة تميز جمل الصوت الذكوري الجهور القادم من النافذة العريضة يهتف من الزقاق الخلفي بوجود عطل ما أصاب غرفة الكهرباء المغذية للمنطقة، وبسبب وجود تلك النافذة المحتلة الحائط المجاور لها نفد ضوء القمر إلى الداخل وأنار المكان بشكل نسبي، وعلى عكس بنات جنسها لم يكن الظلام يسبب لها أي مشاكل لذا استأنفت ما تقوم به في هدوء، جاذبًا انتباهها بعد عدة ثوانٍ صوته القلق يهتف أسمها من الخارج، قبل أن يندفع إليها دون استئذان بعدما فتح الباب على مصراعيه وتمتم يسأل في نبرة متوجسة ناعسة :
-(( رحمة أنتِ كويسة؟! ))
تجمدت خطاه وهو يمرر نظراته فوق جسدها الأبيض الشاحب الواقف أمامه في ارتباك ملحوظ، فرغم خفوت الإضاءة حولهم ألا أن ضوء القمر ألقى بسحره الآخاذ فوق بشرتها البيضاء العارية، يجذبه إليها كجناح فراشة يهفو إلى تذوق نشوة التحليق فوق النيران المشتعلة، يزداد شوقه كلما أقترب من الوهج دون امتلاك رفاهية التوقف أو العودة، بينما همست هي تقول في تعلثم واضح وعيناها تتبعان خطواته المتجهة إليها :
-(( كويسة.. ده.. ده تقريبًا عطل عام.. شكل أوضة الكهربا فيها مشكلة.. سمعت صوت حد بيقول كده من برة ))..
أومأ برأسه في عشوائيه وعدستيه تلتهم وجهها بقدر ما سمحت له الإضاءة الخافتة، قائلًا في نبرة ثقيلة متحشرجة :
-(( البيت في مولد كهربا متقلقيش.. دلوقتي حد يشغله ))..
كان القلق من انقطاع التيار الكهربائي هو آخر ما يشغل بالها، خاصةً ونظراته الجائعة تزداد خطورة بعد توقفه بجسده خلف المرآة وبالتالي خلفها، يتشرب بعينيه مرآها المحفور داخل ثنايا قلبه وممرات عقله ومع ذلك لا يرتوي، فمه مطبق بقوة يضغط على فكيه حتى برزت العضلة المرتجفة في جانب خده، بينما ذراعيه تتسلل في ترو حول خصرها للقبض عليه وشل حركتها، قبل دفعها إليه في تملك واضح حتى ألتصق ظهرها بصدره العاري هو الأخر إلا من الضمادة الزرقاء الطبية، في حين فاضت نظراته شراسة وأنفاسه الحارة تزداد ثقلًا فوق مؤخرة عنقها، وقد أعطاه ألم صدره الذي آخذ في الانحصار بفعل الدواء المسكن فرصة في تنفيذ ما يفور به دمه، ثم أرخي قبضة أحد ذراعيه من فوقها لبدأ رحلة طويلة من الاستكشاف طالما حلم بها، تعالي هدير نبضاتها وآخذ صدرها يعلو ويهبط من فرط الانفعال، فعقلها يخبرها بضرورة الابتعاد وقلبها يقنعها بلزوم الاعتياد، وما بين الرغبتين أجفل جسدها فور ملامسة شفتاه عنقها، بالتزامن مع طواف كفه فوق جسدها، فنطقت تستوقفه بنبرة مبحوحة لا تزيد عن الهمهمة :
-(( طاهر! ))..
كان جسدها بأكمله يختض انفعالًا من فرط مشاعره المحمومة وعاطفته الجامحة التي تنضح من لمساته، كـ دب سقط في إناء من العسل، تتذوق شفتاه في جوع كل ما تصل إليه دون إعارة اعتراضها الواهِ اهتمامًا، تتسارع أنفاسهم معًا في لهفة، اشتياق، جنون، حتى أوشك الوضع بينهم على فقدان السيطرة، خاصةً مع إسدال الظلام لستاره من حولهم وكأنه يبارك وصالهم، وفجأة صدع صوت داخلها يخبرها عن ضرورة مقاومته قبل فوات الأوان فعقابها له لم يبدأ بعد، وبذلك الهتاف المستمر راحت تفتش عن غضبها منه الذي تبخر من الجولة الأولى، فلم يتبقِ لعقلها من أسلحة المقاومة سوي تذكيرها بإصابته وعليه استدارت إليه بكل جسدها في حركة غير محسوبة منها فسارع يشدها إلى جسده أكثر يود لو ينصهر بها، بينما شفتاه لا تتوقف عن التجول حتى وصلت إلى كتفها المصاب، وقتها أجفلت فور ملامسته لها في نفس اللحظة التي انتبه بها إلى الكدمة الواسمة جلدها فهمس يقول في صوت مبحوح بعدما رفع رأسه ينظر إليها :
-(( رحمة!! )).
حمدت الله سِرًا على توقف جماح جنونه أخيرًا، وبنبرة مرتعشة وسيقان تكاد تذوب أسفلها كالهلام همست تطمئنه :
-(( متقلقش ده مكان الحزام مش أكتر ))..
رفع إبهامه يتلمس موضع إصابتها في نعومة ورفق رغم تشنج يده، مستطردًا استفساره في ضيق :
-(( مقلتيش ليه!!.. على الأقل كنتي كشفنا واحنا في المستشفى ))..
تلك المرة كانت هي من رفع كفها لملامسة شطر وجهه وطمأنته فبعد كل ما عاناه بسببها أبدًا لن تحمله عبء ثقل الشعور بالذنب فوق أكتافه وهي المتسببة في الحادث من الأساس، لذا قالت مؤكدة في صدق :
-(( صدقني دي مش أكتر من كدمة بتحصل من أي خبطة عادية.. وأنا دهنت من الكريم اللي الدكتور كتبلك عليه.. يعني كام يوم وهتروح مش مستاهلة ))..
حال بينه وبين اعتراضه عودة التيار الكهربي وبالتالي عودة الإضاءة إلى المكان، وكأن الإنارة العالية ذكرتها بما حدث بينهم منذ لحظات كما نبهتها بوقوفها أمامه بملابس كاشفة، فأردفت تقول هاربة بعدما هرولت نحو الباب للخروج :
-(( عن إذنك هستخدم حمام تاني ))..
ركضت قبل لحاقه بها أو قبل معاودته فرض سياج وله مشاعره حولها من جديد، ربما تستطيع خلال الدقائق التي تبتعدها عنه إعادة تحجيم فيضان مشاعرها التواق للجريان داخل أروقة عشقه.
****************************
تلك المرة وفي الحمام الرئيسي الخاص بإحدى غرف الطابق الأرضي ارتدت ثيابها كاملة للاحتياط، ومشطت شعرها جيدًا بعدما أخذت حمامًا دافئًا أزال عنها إرهاق اليوم بكل أحداثه، ثم استلقت فوق المخدع الوثير تراجع مواقفهم منذ خروجهم من الشركة وحتى……، أخفت وجهها الحرج داخل الوسادة فور تذكرها قبلاته المتهورة فوق عنقها ووجها وقد آخذت حرارة جسدها في الارتفاع من الذكرى، قبل عبوس جبينها إذ تذكرت موعد دواءه كما وصاهم الطبيب، فضغطت فوق جفنيها بقوة تطرد القلق من دواخلها فهو كبير كفاية لتذكر أخذ دواءه بنفسه دون الحاجة إلى وجودها جواره كما أنها قررت عدم العودة إلى الغرفة حتى لا تضعف أمامه من جديد، حَقًّا!!، كيف سيتذكره وهو لم يتكبد عناء أخذ الدواء في المرة الأولى إلا عندما وضعته أمام فمه؟!. هذا ما هتف به ضميرها المؤنب قبل أن تقفز من مرقدها مستسلمة وقد قررت الصعود إليه وتذكيره بأخذ الحبات اللعينة ثم الانصراف في الحال وعليه سارت بخطوات منزعجة إلى الأعلى حتى غرفتهم ثم دلفتها مجبرة فوجدته غافيًا فوق الفراش وقد بدل ملابسه أخيرا، وبعد نظرة عابرة ألقتها فوق الطاولة زفرت في ضيق فكل شيء كما وضعته منذ عدة ساعات، وبعدما سحبت نفسًا عميقًا تحد به من غضبها منه الذي عاود يتكون دون سببًا يذكر هتفت بعد وقوفها عند رأسه أسمه في حدة مبالغة :
-(( طاهر قوم خد الدوا.. الدكتور قال كل ٦ ساعات ))..
فتح أحد جفنيه على مضض يناظرها من خلف أهدابه المنسدلة بينما الأخر مغلق تمامًا ثم قال في لا مبالاة :
-(( مش مهم ))..
زفرت مطولًا وقد تصاعد حنقها من إهماله قبل هتافها مؤنبة :
-(( إيه اللي مش مهم!!.. الموضوع مش هزار ))..
فتح عينيه على اتساعهما بعدما دفع الغطاء بساقه، ثم قال مدعيًا التعب :
-(( مش قادر أتحرك.. خلية أبقى أخده أي وقت تاني ))..
حركت رأسها يائسة وهي تستدير عنه لإحضار الدواء مُسْتَغِلًّا انشغالها عنه في الاعتدال من نومته ثم اتكأ بجذعه العلوي فوق الوسائد الموضوعة خلفه وشبح ابتسامة انتصار يتلاعب فوق شفتيه وهو يراقب تقدمها منه والتأفف اَلْبَادِي فوق ملامحها، إذ ظهر جليًا من خلال نبرتها الهاتفة في اقتضاب وهي تنحني بجذعها وتضع الكيس البلاستيكي جواره فوق الفراش في تشنج ملحوظ :
-(( الدواء أهو والميه جنبك.. خده دلوقتي والصبح إن شاء الله.. ومتنساش بكرة معاهم الدهان ))..
أنهت جملتها الأخيرة ثم توجهت نحو باب الغرفة تتركها، وسرعان ما توقفت قدماها عن السير على صوته المستجير، إذ تأوه بصوت مسموع في ألم جعلها تهرول إليه عائدة تسأله في ذعر وقلبها يقفز داخل أضلعه :
-(( حصل إيه ))..
أجابها في براعة كالمتمرس في فنون التمثيل :
-(( الوجع.. في وجع هنا رهيب.. مش قادر أتحرك خالص.. وزاد لما اتحركت ))..
ضغطت فوق شفتيها في حيرة بينما اغرورقت عيناها بالدموع تأثرًا بمعاناته وندمًا على تركه، ثم سألته في صوت مختنق :
-(( طب تحب نتصل بالدكتور ولا عشان أتحركت كثير؟!.. ))..
رد في خبث مقاومًا رغبة يائسه في الابتسام :
-(( مش عارف.. بس تعبان أوي.. تعالى حطي أيدك كده هنا ))..
ختم جملته برفع ذراعه والقبض على معصمها ثم دفعها نحو صدره ووضعه عنوة فوق موضع قلبه، مستطردًا قوله في استمتاع :
-(( كدة تمام مفيش وجع ))..
علمت أنها خطت داخل مصيدته التي جذبها إليها بمهارة فور لمحها ابتسامته العابثة، وقبل صدور أي حركة مباغتة منها كان قد بادر بجذب جسدها المحني إليه فسقطت بجذعها فوق الفراش وصدره، متمتة في حنق من بين اسنانها :
-(( طاهر عيب الحركات دي.. وعلى فكرة مش جدعنة منك أنك تستغل خوفي عليك.. اتفضل سبني بدل ما اتحرك واخبطك ))..
حاوط خصرها بذراعيه يضمها إليه أكثر ويمنع ابتعادها عنه، مستغلًا عدم مقاومتها له في التمسك بها والهمس جوار أُذنها في ثقة :
-(( لو مسبتكيش هتعملي إيه.. وبعدين ماهو مش جدعنة منك أنك تسبيني وأنا تعبان وتروحي مكان تاني ))..
طبع قبلة ناعمة فوق شحمة اذنها ثم أستطرد متوسلًا أكثر منه طالبًا:
-(( لو قلقانة عليا بجد خليكي في حضني ))..
شعر بحركة خافتة لجسدها أسفل لمسته فأردف يضيف في حزم وهو يستلقي بها فوق الفراش :
-(( مش هسيبك تبعدي عني تاني.. يا هتنامي في حضني هنا.. يا هاجي أنام أنا في حضنك في أي مكان تروحيه ))..
رفعت رأسها تنظر إليه في نظرة متباينة بين الخضوع والتمرد، فأنهي صراع نظراتها بقوله راجيًا :
-(( أنا راضي تعاقبيني بأي حاجة ماعدا بعدك عني يا رحمة الروح ))..
زفرت مطولًا وقد استسلمت لفخه راضية، وكيف تقاوم ما هفت إليه الروح، فربما في أعماقها كانت تنتظر منه رد فعل كهذا للأستكانة بين ذراعيه، أو ربما أتخذت من موعد الدواء حجة في العودة من الأساس كفرصة ثانية تقدمها له، توقف عقلها عن التفكير طاردًا كافة التعقيدات خلف ظهرها فهي الأن أمام حقيقة واحدة ثابتة، لقد عادت للنوم داخل أحضانه، من جديد!.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية في لهيبك احترق)