روايات

رواية في لهيبك احترق الفصل التاسع 9 بقلم شيماء يوسف

رواية في لهيبك احترق الفصل التاسع 9 بقلم شيماء يوسف

رواية في لهيبك احترق الجزء التاسع

رواية في لهيبك احترق البارت التاسع

في لهيبك احترق
في لهيبك احترق

رواية في لهيبك احترق الحلقة التاسعة

” لازلت أجهلُ سرّ هَذه البَعثرة التّي تحدُث بداخِلي حينَما أذكرُك، الأمرُ أشبهُ بصخرةٍ أُلقِيَت على وَجهِ مَاءٍ راكدٍ ! ”.
-(( رحمة .. رحوم .. قومى يا حبيبتى )) ..
همهمت رافضة بتذمر طفولى وقد أختلط صوت والدتها الحنون بصوت فيروز الصباحى فى الخلفية ، قبل أن تستدير على جانبها الأيمن وتستأنف نومها رافضة الأستيقاظ وترك سريرها الدافئ ، ومستمعة إلى همس والدتها من جديد بنبرة أعلى وقد عزمت النية على إيقاظها :
-(( يلا يا رحمة بلاش كسل .. هتتأخرى على شغلك كدة ومش هتلحقى تفطرى .. قومى عملتلك الشعرية باللبن اللى بتحبيها )) ..
أتسعت إبتسامتها الراضية بينما جفونها لازالت طابقة فوق بعضها البعض ، وقد تسللت إلى أنفها رائحة المعكرونة الطيبة ممزوجه برائحة اللبن المُحلى ، فخر صناعة يد والدتها كما تخبرها مازحة ، ثم مطت ذراعيها للأمام بكسل وأبتسامتها تزداد أتساعاً قبل أن تفتح عينيها على مضض وتُصدم بجثته الملقاة جوارها غارقاً فى دمائه ، صرخت مفزوعة وأنتفضت من مرقدها مبتعدة عنه بقدر ما سمحت لها قواها الخائرة وساقيها المرتعشتين ، تطالع جسدها ودمائه التى تغطيها بالكامل ثم ركضت باحثة عن والدتها التى أختفى صوتها من حولها وأختفى معه الدفء ، ليحل محله برودة عجيبة أجتاحت روحها وكأنها لن تشعر بالسعادة مرةً أخرى .
أنتفضت من ثُباتها ترتجف رافعة يديها أمام وجهها بتوجس ، تتأكد من خلوهما من الدماء ، قبل أن تستدير برأسها جانباً على مضض ، تنظر إلى الفراش جوارها بأنفاس مكتومة ، وتتأكد من خلوه قبل أن تفتح عينيها على أتساعها متذكرة بشئ من الراحة أنها بداخل غرفته ، أو غرفتها المؤقتة كما أخبرها البارحة مساءاً ، وما رأته ليس سوى حلم مزعج ، كحالها منذ تلك الحادثة ، تعددت الأماكن وأختلفت الأحداث وتبقى مشهده وهو نائماً جوارها قتيلاً ومغطى بالدماء ثابتاً فى كل كوابيسها ، زفرت بعجز ثم مدت يدها بوهن تلتقط هاتفها وتنظر إلى الوقت بداخله ، قبل خروجها من الفراش متوجهة نحو الحمام الملحق بالغرفة ، فلازال أمامها متسع من الوقت قبل أذان الفجر ، يمكنها أستثماره فى اللجوء لخالقها ، كعادتها كلما ضاقت بها الحياة ، حيث مبدئها الراسخ والذى لا يتزعزع ، لم تذرف دموعها أمام إنسان عاجز طالما يمكنها البكاء بين يدي الله ، وعليه سارت على أطراف أصابعها بحذر شديد قاطعة الغرفة الصغيرة الفاصلة بين الحمام وغرفتها المقيمة بها ، والتى أتخذها مبيتاً له منذ ليلة أمس ، ترمقه بنظرة خاطفة لتتأكد من ثُباته قبل أستئناف سيرها ، بينما فتح هو عينيه على أخرهما ينظر فى أثرها ، بعدما أستمع إلى صوت إغلاق باب الحمام من خلفها ، متنهداً بتعب ، فعندما أوشك على الأغفاء ، جائه صوتها الزائم من خلف الباب المغلق ، وأوقظه من غفوته العابرة ، وسرعان ما أغلق عينيه مرةً أخرى متظاهراً بالنوم ، عند أستماعه إلى صوت خطواتها الخافتة تسير أمامه قبل أن تختفى بداخل غرفته السابقة مرةً أخرى ، رفع جذعه العلوى ينظر إلى الباب المغلق خلفها عدة لحظات ، ثم عاد وأرتمى بجسده فوق الفراش ، محدقاً فى السقف أعلى منه ، مستمعاً إلى سكون الليل الممزوج بهمهاتها الخافتة ، مفكراً فيما لا يفهمه ، راجياً ما لا يملكه ، ومتأوهاً بصمت ، من تلك اليد الخفية الباردة ، التى تعتصر قلبه وتصيبه بالرجفة ، من هذا الشعور الذى يداهمه كل ليلة ، تماماً كما أصابه لحظة رؤيته لتوأمه ، بجسده الشاحب داخل ثلاجة الموتى ، تعالى صوت نحيبها جاذباً أنتباهه مما جعله يترك الفراش ويسير نحوها ، موارباً بكفه على حذّر باب الغرفة ، ومستنداً بثقل جسده على الحائط خلفه ، بعدما شبك ذراعيه معاً أمام صدره ، ووقف يراقبها بدهشة وهى تتلو أيات الذكر الحكيم بخفوت بينما شهقاتها ترتفع من وقت لأخر وتمنعها من أستكمال التلاوة ، ثم تعود وترتل من جديد ، قبل أن تخر ساجدة مناجية ببكاء اخترق كل حواسه :
-(( يارب .. أنا تعبت يارب .. طبطب على قلبى برحمتك .. وأدينى القوة عشان أقدر أفهم وأتقبل الحكمة من كل اللى بيحصلى )) ..
رمش بعينيه عدة مرات يتأكد مما يراه ، فتلك المرأة الجالسة أمامه ، بكفها المرفوع إلى السماء متضرعة ، تبدو طاهرة بقدر أخطائه ، ونقية بقدر آثامه ، وهشة بقدر صلابته ، أنهت رحمة صلاتها بعدما شعرت ثم رأت جسد ما خلفها يلقى بظله على الحائط المقابل لها ، ثم مسحت بظهر كفها ، عبراتها المتساقطة أولاً ، قبل أن تلتفت تنظر إلى ذلك الواقف على عتبة الباب ، يطالعها بشرود متأملاً أنفها الأحمر ، وجفونها المنتفخة من كثرة البكاء ، وحدقتيها السوداوتين التى تطلقه بسهام محذرة ، وتخبره فى صمت أنها لازالت قادرة على مجابهته ، وأن هذا الأنحناء الذى رأه الأن ، ليس لشئ سوى لرفعتها ، ثم حركت رأسها مستفهمة دون حديث ، فهتف يقول مبرراً بأرتباك :
-(( الــبدلة )) ..
قطبت جبينها بعدم فهم بينما تحولت نظرات عينيها الدامعة إلى الأستنكار فأردف يقول مفسراً بعدما أعتدل فى وقفته :
-(( هدومى .. قصدى بدلتى .. بكرة عندى مشوار مهم الصبح وعايز أخد البدلة عشان أمشى بدرى )) ..
تحركت من أمامه تفسح له الطريق إلى حيث خزانة ملابسه ، بينما سارع هو بسحب أحدى بذلاته الرمادية ، الأمر الذى جعلها تتسائل بصمت ، الأ يملك سوى ذلك اللون !! ، نفضت رأسها بحزم مانعة سيل أفكارها من الأنشغال به أو التحول إليه ، فاليرتدى ما يشاء ، يكفيها أن يظل بعيداً عنها ويتركها وشأنها ، وبالطبع الأ يقتحم خلوتها ، فى حين أغلق هو خزانة ملابسه بعد أخذ ما يريده منها ، ثم سار متعجلاً إلى خارج الغرفة ، تاركها تعود إلى صلاتها من جديد بعد أستماعها إلى النداء يملأ بنوره صدرها شاعرة ولو للحظات قليلة بأنقشاع وحشة الظلام من داخل قلبها .
**********************
فى الصباح ، وقف جواد أمام خزانة ملابسه يبحث بنفاذ صبر بين الأرفف عن رابطة عنقه السوداء الحريرية ، وعندما يأس فى إيجادها زفر بضيق قبل أن يتحول إلى الجزء الخاص بزوجته ، يبحث داخل خزانتها عن ربطته المفقودة قبل أرتطام أنامله بشئ صلب مخملى الملمس ، جعله يقطب جبينه بأستغراب بينما أصابعه تقبض على العلبة الصغيرة ، وتخرجها من مخبأها ، ثم فتحها بترقب ينظر إلى السوار الألماسى بأستنكار، فهو لا يتذكر أمتلاك زوجته لمثل تلك الأشياء الثمينة قبل الزواج ، كما أنه لم يهديها سوار بتلك النقشة من قبل ، أستدار ينظر إليها حيث كانت واقفة أمام مرآتها تمشط شعرها بترو ثم هتف متسائلاً بتعجب :
-(( رنا .. أيه العلبة دى ؟! )) ..
ألتفت تطالعه من فوق كتفها قبل تسمر نظراتها فوق الصندوق الصغير ، المحتجز بين أصابعه ، شاعرة بجفاف داخل حلقها جعلها تبتلع لعابها عدة مرات لترطيبه ، فى حين هتف هو أسمها من جديد بترقب فسارعت تقول كاذبة ومبررة بنبرة ضعيفة متذبذبة :
-(( دى بتاعة ياسمين صاحبتى )) ..
رد مستفسراً بأستنكار :
-(( وأيه اللى جاب أسورة ياسمين صاحبتك عندك !! .. )) ..
تنحنحت بقوة ثم أجابته بنبرة شبهه متزنة بعدما حاكت خيوط كذبتها سريعاً :
-(( أحـم .. أه يا بيبى مانا نسيت أحكيلك .. ياسمين من كام يوم كده أتخانقت مع جوزها .. مش أنا قلتلك ونزلت قابلتها ؟! )) ..
أومأ برأسه مؤكداً دون تعقيب فأردفت تقول بأبتسامة مرتبكة :
-(( أهو أفتكرت .. هى بقى وقتها كانت عايزة تقابلنى عشان كده .. جوزها عايز ياخد منها كل الدهب بتاعها عشان شغله وهى خافت على الأسورة دى فطلبت منى أشيلها عندى لحد ما تعرف هتعمل أيه فى حياتها )) ..
هتف متسائلاً بأستحقار :
-(( وهى متخانقه معاه عشان حاجة زى دى !! المفروض لو بتحبه تقف جنبه )) ..
سارعت تجيبه مدافعة :
-(( لا يا بيبى مش كدة .. أنت فهمت غلط خالص .. الأسورة دى ذكرى من مامتها الله يرحمها .. وهو مصمم ياخدها عشان هتعمل مبلغ كويس .. رغم أنها عطته كل حاجتها التانية ماعدا دى بس هو مصمم .. وهى مش هاين عليها تفرط فى ذكرى مامتها )) ..
قال آمراً بصرامة :
-(( حتى لو .. الحاجات دى تتصرف فيها بمعرفتها .. بعيد عنك )) ..
أجابته مؤكدة بخضوع ونبرة مدللة لتلطيف نظراته الحادة الواقعة عليها :
-(( أيوة طبعاً يا بيبى .. خلاص متزعلش نفسك اللى تشوفه هيحصل .. هكلمها النهاردة وهطلب منها تاخدها)) ..
همهم موافقاً بأقتضاب بعدما اومأ برأسه منهياً الحديث عن عدم أقتناع ثم عاد لأرتداء حلته الرسمية ، بينما زفرت هى بأرتياح بعدما أنصرف عنها وأستطاعت بفطنتها المعتادة الخروج من ذلك المأزق سالمة.
*************************
داخل الردهة المقابلة للدرج والمطلة على حديقة المنزل ، وقف طاهر يراقب البوابة الخارجية من خلف النافذة العريضة ، قبل أن يرفع ذراعه إلى مستوى صدره ، ينظر فى ساعة معصمه ، ثم زفر متأففاً بضيق من عدم ألتزامهم منذ اليوم الأول ، ومقاطعاً مراقبته بعد فترة ، صوت مدبرة منزله ، تتمتم بودها المعتاد :
-(( صباح الخير يا ابنى .. ثوانى والفطار يكون عندك )) ..
أوقفها رافضاً بصوته الصباحى الأجش بعدما أستدار بجذعه ينظر إليها :
-(( لا مفيش داع .. أنا بس مستنى الحرس الجديد يوصل وهمشى على طول )) ..
توقفت أم الحسن عن السير عكس أتجاهه ثم عادت بأدراجها تقف قبالته وتسأله بفضولها المعتاد :
-(( حرس !! حرس أيه ده !! خير كفالله الشر ؟!! )) ..
أجابها طاهر مفسراً بأقتضاب :
-(( من النهاردة .. وحيد وفضل هيسيوا هنا وينتقلوا لحراسه البيت القديم .. وبدالهم أتعين ناس جداد من شركة متخصصة )) ..
هتفت مدبرة منزله موافقة بحماس رغم عدم فهمها الكامل لكلمة “متخصصة ” :
-(( اللى أنت تشوفه صح أعمله وأحنا معاك .. ربنا يريح قلبك ويصبحك ويرحبك .. وبين عباده أبداً ما يفضحك ياغالى يابن الغالية )) ..
أومأ برأسه ممتناً ، يحاول السيطرة على الأبتسامة الساخرة التى تهدد بالظهور على شفتيه ، فى حين أنسحبت هى للخلف تاركة له المجال فى الرد على أتصال المدير التنفيذى للمشروعات الذى هاتفه تليفونياً للأستفسار عن شئ يخص سير العمل ، وأثناء أجابته ، تهادى إلى أذنيه من فوق الدرج صوتها المرح يهتف من خلفه مرحباً :
-(( صباح الخير يا ماما فادية ))..
أجابتها أم الحسن بترحاب شديد بعدما توقفت عن السير ورفعت رأسها لأعلى تطالع وجهها البشوش :
-(( صباح الخير يا ست البنات )) ..
أعتلى وجهها تلك الأبتسامة الخجلة التى تجعل وجنتيها تتورد بتلقائية عند الأطراء ، ثم سرعان ما عاودت تسألها بصوتها الناعم الرقيق :
-(( تحبى أساعد حضرتك فى حاجة ؟! )) ..
ألتفت ينظر إليها بأندهاش ، متأملاً أبتسامتها العذبة التى تعتلى وجهها ويراها لاول مرة ، وفى الحال ، أخذ عقله ينبش طيات ماضى ، ليس بقريب ولا أيضاً بالبعيد ، عن ذكرى لزوجته السابقة ، بنفس الموقف تقريباً ، مع أختلاف الزمان والمكان ، عندما عاتبها على التقليل من شأن مدبرة منزل العائلة فسارعت تهاجمه بحده وأستعلاء :
-(( أنت بتهزر يا طاهر !!! عايزنى أنا .. أقول لواحدة زى دى حضرتك !!! دى خدامة بتشغل عندى وبفلوسى !! يعنى هى اللى تقولى حضرتك مش العكس )) ..
-(( طاهر بيه .. يا فندم !! .. حضرتك معايا ؟! )) ..
أعاده من ذكراه صوت مدير شركته يهتف أسمه بأستنكار جاذباً أنتباهه ، فأستنئف حديثه بشرود ، بعدما تمتم معتذراً ، محولاً رأسه بين الأونة والأخرى إليها ، ومحاولاً أخفاء نظرة فضول ضئيلة ، تطل من بين عينيه ، لمعرفة نوع الحديث المتبادل بينهم والذى يجعلها مبتسمة على هذا النحو ! ، على غير العادة .
**************************
داخل مقر شركته صاح رائف الشافعى فى مديرة مكتبه التى كانت تهرول من خلفه متخبطة داخل حذائها ذو الكعب العالى محاولة مجاراة سير خطواته الواسعة :
-(( كريم فــين !! .. أتصرفى وجبهولى من تحت الأرض )) ..
أجابته السكرتيرة الخاصة بأنفاس لاهثة :
-(( كريم فى أوضته من الصبح يا فندم )) ..
صاح بها آمراً بنبرة شديدة الحدة :
-(( خليه يحصلنى حالاً .. ثوانى والأقيه قدامى .. سامعة )) ..
غمغمت موافقة بخضوع ثم ركضت ملهوفة فى أتجاه الهاتف لنقل رسالته المقتضبة ، فى حين دلف هو مكتبه وأغلق الباب من خلفه بعنف ، وبعد أقل من دقيقة كان يصيح حانقاً فى وجه موظفه الذى وقف أمامه بجسد مشدود من شدة التوتر :
-(( الزفت اللى أنت بعته فين ؟!! بقاله ٣ أيام مفيش جديد !! مش هفضل مستنيه العمر كله !! )) ..
تنحنح كريم بأرتباك هارباً بنظراته منه ، بينما ضيق رائف عينيه فوقه متفحصاً رد فعله قبل أن يستطرد قائلاً بتوجس :
-(( ألا لو حصلت حاجة .. وأنت مخبيها عليا )) ..
تحدث مخدومه ملقياً ما فى جعبته من أخبار سيئة ، بعد أستجماع شجاعته ، فلا مفر أمامه من المواجهة المؤجلة منذ البارحة :
-(( بصراحة .. الواد طلع سيس وطاهر كشفه قبل ما يعمل أى حاجة وهرب )) ..
صرخ معنفاً بأهتياج بعدما ألقى فى وجهه حافظة المحارم والتى تلافاها الاخر بسهولة :
-(( يا بهــااااابـــم .. يا أغبـــية .. مفيش حاجة أكلفكم بيها وتنجحوا !! .)) ..
صمت لوهلة يتلقط أنفاسه اللاهثة ثم أردف يقول آمراً بنبرة محتدة :
(( كده طاهر هيشك ويبدء يدور .. أطلبلى وحيد بسرعة أعرف منه لو فى جديد )) ..
تنحنح موظفه من جديد ثم قال بحذر شديد تلك المرة بعدما أحتمى بباب الغرفة :
-(( وحيد أتنقل يا باشا .. طاهر نقله ومبقاش ليه علاقة بالفيلا أو أى حاجة تخصها )) ..
زفر رائف مطولاً محاولاً التحكم فى أنفعالاته ثم قال بنبرة هادئة بعض الشئ :
-(( أطلع برة وسبنى أفكر فى حل للمصيبة دى )) ..
قاطعته كريم معترضاً :
-(( بس يا رائف بيــ…. )) ..
صرخ آمراً بأهتياج ؛
-(( قلت بـــــرة )) ..
ركض الاخير من أمامه وتركه بمفرده ، يسقط بداخل دوامة ماضيه البغيض ، متذكراً تلك الليلة ، ليلة عودتهم إلى أرض الوطن ، وقتها جذبه والده بعنف كعادته فى التعامل معه ، طفله الوحيد ذو الأحدى عشر عام ، وأجلسه مقابلاً له ، ثم أخبره بنبرة عدائية شديدة الكراهية :
-(( أنت دلوقتى راجل كبير والمفروض تفهم اللى هقولهولك .. مش عايزك تنسى أبداً كلامى ده .. عز الدين وأنور خانوا أبوك .. وطمعوا فى اللى ملكه .. وياريت اكتفوا بطعنى فى ضهرى .. دول كمان خسرونى شغلى ورحلونا من البلد كلها .. مش عايزك تنسى يا رائف طول مانت عايش .. أنهم حرموك من حنان الوحيدة اللى أخدت مكانة المرحومة أمك فى قلبى .. ولو مت قبل ما أخد حقى منهم أوعى تنساهم وتسيب حقك وحقى )) ..
فتح عينه على الحاضر من جديد بعدما لهث عدة مرات متتالية من فرط أنفعاله ، ثم ضرب بقبضة بكفه حافة مكتبه وهو يتمتم قائلاً بكراهية وغل :
-(( اللى عملوه معاك .. ولادهم عادوه معايا .. بس ورحمتك عندى .. ما هسيب حقى منهم ولا من بنت عز طول مانا عايش )) ..
**********************
حول طاولة الأجتماعات المصغرة والموضوعة بداخل غرفته الخاصة ، جلس طاهر وجلس جواره ذاك التحرى الأجنبى الخاص ، والذى أستدعاه خصيصاً لحل لغز تلك القضية المعقدة ، التى تؤرق مضجعه ، وتجعل النوم يفر من عينيه كما تفر الشاه من ذئبها، محاولاً إيجاد مدخل مناسب لقول ما يريد ، فمنذ ما يقارب العشر دقائق وهو يحاول أنتقاء كلمات مناسبة لصياغة ما يريد قوله دون الشعور بذلك الخزى الذى يحاوطه ، ويكبل لسانه ، الأمر الذى أثار ريبة البلجيكي فهتف يتسائل بقلق :
-(( سيد طاهر .. ماهو ذلك الشئ الهام الذى أردت التحدث معى بشأنه )) ..
تململ فى مقعده ثم تنحنح عدة مرات بحرج قبل أن يقول على مضض :
-(( فى الحقيقة .. فى تفصيلة صغيرة أغفلت عنها فى القضية .. أظن ده وقتها )) ..
قال الأجنبى بترقب :
-(( نعم سيد طاهر .. أنا أستمع إليك .. كلى أذان صاغية )) ..
تنحنح مجدداً ثم قال بأرتباك ، فى جملة متفرقة :
-(( المتهمة فى القضية .. قصدى اللى موجودة فى الملف عندك .. رحمة النويري .. تكون مراتى )) ..
رمش التحرى الخاص بعينيه عدة مرات ثم سأل مستفسراً وقد تشوش عقله :
-(( نعم .. جيد جداً .. الأن أنت تخبرنى أن السيدة رحمة .. المتهمة السابقة فى مقتل شقيقك .. هى زوجتك الشرعية .. هل فهمت ذلك بشكل صحيح ؟! )) ..
أومأ طاهر برأسه مؤكداً ولم يعقب فأردف ماكسيم يقول بأستغراب :
-(( حسناً .. وما هو تقديرك الخاص للأمور سيد طاهر ؟! .. وهل تؤثر تلك المعلومة على سير تحقيقنا ؟! )) ..
أجابه طاهر بتوتر ملحوظ متجاهلاً عن عمد الجزء الأول من السؤال :
-(( مكنتش مأثرة لحد من يومين بس .. حصل أعتداء على المتهمة )) ..
رمقه التحرى بعدة نظرات مستنكرة فأردف طاهر يقول مصححاً :
-(( قصدى زوجتى .. حصل عليها محاولة أعتداء من شخص وللأسف هرب قبل ما أعرف أى تفاصيل عنه .. وده فتح سكة جديدة لتفكيرى محتاج أتأكد منها .. عشان كدة بطلب منك تأجل التحقيق فى خيط عمرو .. وقبلها تجيبلى كل حاجة تخصها حتى لو قديمة ومش مهمة .. أسمها الكامل فى الملف عندك وياريت لو تبدء تتحرى من دلوقتى .. وبالنسبه لصورة المعتدى .. هتلاقيها فى الظرف ده .. تصوير كاميرة مراقبة سور الفيلا )) ..
أستمع التحرى إلى حديث طاهر جيداً ثم أبلغه بسهولة ذلك الأمر وأتفقا على التحدث هاتفياً وأخباره بكل جديد يصل إليه فيما يخصها ، وقبل خروجه هتف طاهر يستوقفه متذكراً
-(( أه صحيح .. فى جديد بخصوص رائف ؟! )) ..
أجابه الأجنبى بنبرته العملية :
-(( فيما يخص قضيتنا .. على الأطلاق .. كل شئ طبيعى للغاية .. هو فقط يتسكع مع إمرأتان بعد أنتهاء العمل .. أحدهما تعمل فى حانة ليلية ويصطحبها معه للمنزل معظم الليالى تقريباً .. وأخرى سيدة تبدو مظاهر الترف واضحة على ملامحها .. يراها على فترات متقطعة )) ..
سأله طاهر بفضول :
-(( أتحريت على أسمائهم ؟! .. يمكن يفيدونا فى حاجة ؟! )) ..
أجابه أيجاباً بأقتضاب :
-(( نعم .. تحرينا عن الأمر سيد طاهر )) ..
توقف لوهلة ثم أردف يقول بنبرة عملية خالية :
-(( فى الحقيقة .. أسم السيدة الاخرى مثير للجدل .. وخاص بالنسبة للعائلة )) ..
هتف طاهر يسأله بتوجس :
-(( قصدك أيه ؟! )) ..
أجابه التحرى قائلاً بتردد :
-(( بعد التحرى الدقيق .. أتضح لنا أن أسم السيدة هو .. رنا زيدان قدرى .. أو كما نقول نحن .. رنا المناويشى .. زوجة السيد عبد الجواد المناويشى )) ..
أنتصب واقفاً بجمود وقد فرغ فاه وبُهتت ملامحه من هول الصدمة التى ظهرت علاماتها واضحة علي جسده بأكمله ، ثم بعد فترة من التحديق إلى الفراغ ، همس متسائلاً بنبرة راجية مصحوبة بأمل كاذب :
-(( أنت متأكد .. أنها رنا .. مرات عبد الجواد ؟! )) ..
أجابه التحرى مؤكداً بثقة شديدة :
-(( للأسف سيد طاهر .. ولدينا صور موثقة .. أذا أردت يمكنك الأطلاع عليها )) ..
قال بنبرة مبحوحة حيث لازالت الصدمة تسيطر على تفكيره وتعتلى قسمات وجهه :
-(( ابعتلى الصور .. والكلام ده يفضل بينا مهما حصل .. مش عايز جواد يعرف بيه )) ..
أومأ الرجل برأسه موافقاً ثم أستأذنه فى الرحيل ، تاركاً طاهر يعود ويرتمى بجسده فوق مقعده ، مشوشاً ومتخبطاً ، نصف منه يريد أخبار إبن عمه وصديقه بما يدور خلف ظهره ودون علمه ، ونصف أخر يخشى تصرفه الأهوج ، راضخاً فى النهاية إلى تأكيد قراره الأول بعدم التحدث حتى يستطلع الأمر بشكل تام ومن كل جوانبه قبل المواجهة .
*************************
فركت عينيها بأرهاق بعدما رفعت رأسها من فوق الملفات المكدسة أمامها ، وقد قررت أخذ استراحة قصيرة ، تتناول خلالها مشروب ساخن ، يليق ببرودة يناير القارصة ، ويعيد إليها جزء من حيويتها التى فقدتها بسبب طول فترة الجلوس خلف مكتبها الخشبى العتيق ، داخل الغرفة الرطبة ، جاذباً أنتباهها شاشة هاتفها التى تضئ بصمت فى أتصال هاتفى جديد ، جعلها تسحبه من فوق المكتب على عُجالة ، مجيبة بترحاب شديد :
-(( وحشتييييييينى )) ..
أبتسمت رحمة على الطرف الأخر بمجرد أستماعها لصوتها ثم قالت بنبرتها الرقيقة الناعمة :
-(( وأنتى كمان وحشتينى أوى يا غفران .. قوليلى عاملة أيه ؟! )) ..
أجابتها بنبرة خافتة بعض الشئ لاحظتها الأخرى بسهولة :
-(( الحمدلله .. كله تمام )) ..
سألتها رحمة بقلق :
-(( مالك ؟! .. صوتك مش عاجبنى ؟! .. فى حاجة حصلت جديدة ولا أيه ؟! )) ..
أجابتها هاربة :
-(( لا مفيش .. متشغليش بالك بيا .. المهم أنتى قوليلى .. أبو تكشيرة جنان عملك حاجة تانى ؟! )) ..
أبتسمت رحمة بمرح حتى ظهرت تلك الأبتسامة واضحة فى نبرة صوتها ثم قالت مازحة بخفه :
-(( قصدك الرجل الرمادي ؟! )) ..
هتفت غفران تستفزها مازحة :
-(( الله !! .. أحنا بقينا بنديله ألقاب كمان !! .. ماشى يا عم .. هعديها بمزاجى والمهم طمنينى .. عملك حاجة ؟! )) ..
أجابتها بثقة :
-(( متخافيش ومتقلقيش عليا .. أنا كويسة يمكن محتاجة وقت عشان أتخطى كل اللى حصل .. بس الحمدلله وأكيد هو هيجى يوم ويزهق منى ويرمينى لما ميلاقيش فايدة .. وبدور على شغل من البيت كمان .. متغيرش الموضوع بقى .. مش هقضى المكالمة عليه .. قوليلى مال صوتك ؟! ومتكدبيش ))
تنهدت غفران مطولاً ثم بدءت تقول على مضض بأنفاس مثقلة :
-(( مش عارفة .. بس حاسة أن فى حاجة مش طبيعية بتحصل من ورايا )) ..
هتفت تسألها بتوجس :
-(( قصدك عن بدر ؟! )) ..
أجابتها مؤكدة :
-(( أيوة .. رغم أن مفيش أى حاجة تدل على كدة .. بس هو أحساس غريب كل ما بشوفه بحسه .. يمكن عشان موقفه الهلامى ده عند الدكتور .. أو يمكن بسبب بروده فى التعامل الفترة الأخيرة كلها .. والأغرب بقى موقف مامته .. حماتى يعنى .. بقالها مدة مختفية .. لا بتزورنا ولا بتتصل تحرق دمى بكلامها المعتاد .. يعنى بالمختصر لا هو بدر ولا دى حماتى )) ..
زفرت رحمة بحيرة ثم قالت مهدئة من روع صديقتها :
-(( يمكن مش عايز يضغط عليكى خصوصاً يعنى أن المرة دى مفيش حاجة فى أيديك تعمليها على حسب ما فهمت منك .. ويمكن كمان مامته مشغولة بحاجة )) ..
صمتت لوهلة ثم أردفت مقترحة :
-(( ليه متصلتيش أنتى طيب !! أو حتى سألتيه هو لو فى حاجة مغيراهم ؟! )) ..
أجابتها غفران معقبة :
-(( بيهرب منى بمفيش .. وعنها هى فعلاً بتقول أنها مشغولة مع بنت قريبتها كدة .. كان قايلى جاية من البلد تدخل معهد هنا .. تكمل تعلميها يعنى .. بس معقول !! من أمتى الطبية دى نازلة على حماتى ؟! )) ..
هتفت جملتها الأخيرة بأستنكار جعل رحمة على الطرف الأخر تنفجر ضاحكة قبل أن تقول معتذرة بلهفة :
-(( غفران معلش .. مصطفى بيرنلى ويتنج .. هرد عليه وأبقى أكلمك تانى أعرف منك باقى التفاصيل .. المهم بس متضايقش نفسك أنتى .. ولو كدة روحى لحماتك زيارة .. ساعتها هتتأكدى أختفائها ده لسبب ولا مشغولة فعلاً .. رغم أنى شايفة فى الحالتين مفيش سبب يخليكى تضايقى كده )) ..
قالت رفيقتها مودعة بحب :
-(( متخافيش عليا .. سلميلى على مصطفى ولو حصل أى حاجة .. كلمينى فى أى وقت )) ..
أنهت مكالمتها الهاتفية ثم عادت تشخص ببصرها نحو الفراغ ، عاقدة النية على عمل زيارة مفاجئة لوالدة زوجها كما نصحتها رفيقتها ، تستنبط من خلالها وتتحرى ، سبب ذلك السكون المريب والغير معتاد ، وبعد لحظات ، قاطع شرودها ، صوت يحيى ، يهتف مرحباً بمرح بعدما دلف الغرفة :
-(( مصدقتش نفسى لما البنات قالولى برة أنك نزلتى !! أيه يا بنتى !! .. مش كنتى واخدة أجازة شهر .. رجعتى فى كلامك ليه )) ..
أجابته غفران بأحباط :
-(( مرجعتش ولا حاجة .. كل الحكاية أن الموضوع اللى اخدت عشانه الأجازة باظ .. ومحبتش أقعد فى البيت لوحدى .. وبعدين يعنى أنت أكتر حد عارف ظروف الجمعية اليومين دول .. وأن مصاريفها بتزيد وبالعة كل اللى بتحطه ومش مكفى .. فكان لازم أنزل أشوف حل )) ..
قال يحيى مطمئناً بهدوء :
-(( لو على الجمعية متشغليش بالك أنا هتصرف )) ..
هتفت تقاطعه بضيق :
-(( هتتصرف أزاى يعنى !! مش كفاية كل اللى أنت بتعمله .. المرة دى القضية كبيرة ومحتاجه شغل ومصاريف كتير )) ..
قال يحيى مؤكداً بثقة :
-(( متقلقيش .. أنا فعلاً فكرت فى حل .. وكلمت واحد صاحبى على علاقة بكام رجل أعمال .. هيعرض عليهم الجزء الخاص بترميم الملجأ والقضية .. وإن شاء الله نلاقى حد يتبرع ويقوم بيهم )) ..
هتفت غفران بحماس وقد أنفرجت أساريرها بمجرد أستماعها لتلك الأخبار السعيدة :
-(( بجد !!! يعنى فى أمل الملجأ يترمم قبل ما يقع على دماغ الولاد دول )) ..
أجابها مشجعاً بعزيمة :
-(( أه طبعاً فى أمل وكبير كمان .. ولو محدش ساعدنا هنتعب شوية ونيجى على نفسنا شويتين ونرممه .. بس أنتى قولى يارب )) ..
غمغمت داعية برجاء وقد أغرورقت عينيها بالدموع ، ترجو من الله أن يسدد خطاهم ، فى أنقاذ المأوى الوحيد لهؤلاء الأيتام .
*************************
أمام غرفة والدها ، هتفت علياء مستأذنه فى الدخول :
-(( بابا .. حضرتك طلبتنى ؟! )) ..
أجابها بحنوه المعتاد :
-(( تعالى يا عاليا .. أدخلى يا تاج راس أبوكى )) ..
دلفت علياء بعد الأستماع لأذنه وعندما همت بأغلاق الباب من خلفها هتف يستوقفها قائلاً :
-(( سبيه يا عاليا .. سبيه مفتوح وتعالى أقعدى جنبى هنا.. دلوقتى عبد الجواد كمان يجى )) ..
أطاعته أبنته ثم سارت تجلس أمامه مشيحة بعينها بعيداً عنه ، تأملها والدها مطولاً ثم قال بعد فترة من الصمت تفرَّس خلالها ملامحها جيداً ، ملاحظاً علامات الأرق السوداء تحت جفونها ونظرتها الحزينة التى تخفيها عنه :
-(( اهو جواد وصل أهو .. تعالى اقعد جنبى أنت كمان .. عشان عايزكم فى حاجة مهمة )) ..
تسائل بفضول بينما يتخذ مقعده جوار شقيقته :
-(( خير يا حاج .. أومر وعلينا التنفيذ )) ..
قال والده ممتناً بحب :
-(( ميأمرش عليكم عدو .. أنا هدخل فى الموضوع على طول .. محمد خطيب أختك )) ..
رفعت علياء رأسها بحدة تنظر إليه بينما زفر جواد متأففاً بضيق لمجرد سماعه أسم ذلك البغيض ، فى حين أردف والدهم يقول بهدوء :
-(( خطيب أختك كلمنى إمبارح بليل .. وأعتذرلى عن نزوله .. حصلت حاجات فى الشغل عنده منعته أنه ينزل .. وطلب منى نبدء نخلص كل النواقص فى شقته .. وكمان ٣ شهور بإذن الله ينزل نكتب الكتاب والفرح بعدها بيومين .. ها أيه رأيكم )) ..
صمتت علياء ولم تعقب فى حين هتف جواد رافضاً بأمتعاض :
-(( أنت عارف رأيى كويس .. الواد ده أنا مش بقبله ومش شايفه قد المسئولية .. قبل ما يقرر يتجوز .. ينزل الأول يقعد معاها زى أى أتنين طبيعين ويعرفوا بعض .. غير أنى بصراحة مش شايفه مناسب لعلياء )) ..
أستمع السيد أنور إلى حديث إبنه الأكبر وخليفته فى كل شئ ثم هتف يسأل بترقب :
-(( وأنتى يا علياء .. ساكتة ليه يا حبيبة أبوكى .. مسمعتش رأيك ؟! )) ..
زفرت بحيرة ثم قالت بنبرة خالية :
-(( بصراحة يا بابا .. أنا مبقتش شايفة مع محمد الأمان .. غير وعوده الكتير اللى بتتقال وبتتخلف .. حتى أقتراحه اللى حضرتك قلته دلوقتى مش ضماناه .. أنه يوفى بوعده وينزل عشان كتب الكتاب والفرح .. مش مصدقة أنه يحصل من غير مشاكل )) ..
تنهد والدها مطولاً ثم بدء يقول بهدوء :
-(( بصى يا عاليا يا بنتى .. أنا مش هدافع عنه .. بس هقولك حاجة .. زمان أحتاجوا أنتداب من فرع شركتنا للكويت .. كانت فرصة متتعوضش نكبر بيها أسم شركتنا .. ووقتها أنا اللى اتبرعت وروحت قعدت هناك سنتين وسبتكم مع أمكم .. فأنا أكتر واحد عارف معنى الغربة .. وفاهم أزاى بتقطع من لحم البنى أدم مننا وهو حى .. يمكن محمد وعدك كام مرة وأخلف صح .. بس لو باقية عليه أديله فرصة أخيرة .. وبعدها أنا اللى هقولك لأ .. متفقين ؟! )) ..
اومأت برأسها موافقة على مضض ، بينما أنتفض جواد من مقعده يهتف بأعتراض :
-(( بابا خليك عارف أنى مش موافق .. وهفضل عند كلمتى .. وبما أنك ولى أمرها فانا هحترم قرارك .. بس لو سمحت .. الكام شهر دول عايز علياء تنزل معايا الشركة تساعدنى .. أظن كفاية قاعدة عليها كده وتنزل تشوف أملاكها هى كمان وتراعى مصالحها )) ..
ألتفت والدها ينظر إليها منتظراً أجابتها فتفاجئ بها تجيب بحماس :
-(( موافقة جداً يا جواد .. ياريت .. بعد أذن بابا طبعاً )) ..
اومأ جواد برأسه موافقاً ثم قال آمراً بحدة قبل خروجه من الغرفة :
-(( من أول الأسبوع تحضرى نفسك هتنزلى معايا الصبح .. ولو سمعت أنه اعترض .. صدقينى دبلته هتوصله بيتهم من غير رأيك حتى .. خليه فاهم ان عندك مصالح محتاجة رعايتك .. وأنك مش هتكونى تحت رجله وقت ما يحب )) ..
غمغمت موافقة برقة ، بينما تنهد والدها براحة ، فقد تبقت أشهر قليلة وبعدها ، يرتاح قلبه وفكره فيما يخص حياة أبنته الوحيدة .
************************
فى وقت لاحق من مساء ذلك اليوم ، سار طاهر خائر القوى ، يجر قدميه بتثاقل إلى حيث غرفته ، وقد أنهكه كثرة التفكير والأرق ، حتى بدأت عيناه تذبلان ، كالنبتة الجافة من شدة العطش ، ممنياً نفسه بحمام ساخن ، يزيل عن كاهله تعب اليوم ، ويعيد إليه نشاطه ، قبل أن يرتمى داخل فراشه ، عاقداً العزم على مطاردة نومه الهارب ، ومقرراً تجاهل كل شئ ، فقط سيقبض جفنيه على نوم هادئ عميق ، ويؤجل أفكار المشتتة إلى صباح الغد ، وعندما وصل غرفته ، لاحظ الضوء الضعيف المتسلل من أسفل العتبة مع حركة خافتة خلف باب الحمام المغلق ، أعطته فكرة جيدة عن مكان تواجدها ، ومقرراً بذلك أستغلال الوقت والتوجهه إلى غرفته ، التى ما عادت بغرفته ، يأخذ من خزانة ملابسه ، بعض الثياب البيتية المريحة قبل عودتها ، أما عنها هى ” رحمة ” ، فبعدما أنتهت من الأغتسال وأرتداء معظم ملابسها تقريباً ، سارت إلى الغرفة بخطوات حذرة ، بعدما أسدلت شعرها أمام عينيها فى وضع معكوس ، ثم بدءت فى فركه بالمنشفه جيداً لتجفيفه ، غير مدركة لوجوده داخل الغرفة ، الأ عندما تنحنح هو بخشونة معلناً عن صحبته ، لحظة أستماعه لوقع خطواتها بالقرب منه ، مما جعل جسدها الضئيل يجفل على صوته قبل ان ترفع رأسها المحنى للأمام وتراه واقفاً أمامها يتأمل مظهرها الفوضوى بشرود ، فسارعت بنفض شعرها للخلف حتى تتمكن من الرؤية بشكل أوضح ، الأمر الذى أدى إلى تناثر بعض قطرات الماء من حولها وصولاً إلى وجهه ، ثم ركضت بعدها فى الاتجاه الأخر تسحب من فوق الفراش غطاء رأسها ، خافية عن عينيه خصلاتها الغجرية المبللة التى تعلقت بها حدقتيه ، بينما عينيها تحدقه بنظرات غاضبة لأنتهاكه حرمتها الخاصة ، سار هو مشدوهاً حتى توقف أمامها ، ثم مسح بأطراف بَنَانَه ، قطرات الماء المحملة برائحة الخوخ التى أصابت وجهه ، بعدما فتح فاه وأغلقه عدة مرات متلاحقة ، وقبل أن يرفع ذراعه نحوها رأسها ثم تراجع ووضعه جانبه ، مبتعداً بجسده عنها مسافة كافية ، ومنسحباً إلى الخارج وعندما أوشك على الاختفاء من أمامها ، هتف صوتها يستوقفه :
-(( لو سمحت )) ..
ألتفت ينظر إليها من فوق كتفه دون تعليق فأردف تآمره بنبرة محتدة :
-(( من فضلك بعد كدة لما تحب تدخل الأوضة .. ياريت تستأذن وتراعى خصوصيتى ! )) ..
أستدار بكليته عائداً إليها ثم قام برفع ذراعه وجذب وشاح رأسها بعنف وألقاه فوق الأرضية أسفل منه ، قائلاً بأزدراء :
-(( متحطيش نفسك فى مكانة .. أنا شخصياً مش حاطك فيها )) ..
أشاحت بوجهها بعيداً دون تعقيب ، وقد توردت وجنتيها بحرج ، بعدما كشف عن شعرها كاملاً ، شاعرة بعدم أحقيته فى فعل ذلك ، بينما سار هو خارج الغرفة بأكملها مفكراً بضيق ، كيف من الممكن أن يُفتن بشعر أمرأه يبغضها .
*************************
فى صباح اليوم التالى ، وتحديداً داخل شركتهم الخاصة دلف جواد غرفة مكتب رئيس مجلس الادارة بعدما أستأذنه فى الدخول ، ثم قال على عُجالة :
-(( طاهر عايز أخد رأيك فى حاجة سريعة قبل ما أروح مكتبى )) ..
أجابه مستمعاً بأهتمام :
-(( قول وأنا سامعك )) ..
قال جواد بدون مقدمات :
-(( فى واحد صاحبى اعرفه من زمان .. شغال فى موضوع الجمعيات الخيرية .. كلمنى إمبارح يطلب مساعدتنا .. فى جمعية محتاجة تمويل لبناء دار أيتام .. طبعاً أنا وافقت بشكل مبدئى .. بس حبيت أخد رأيك .. ها موافق ؟! .. لو كدة هنتكفل بشكل مبدئى بالخامات والعمالة )) ..
أجابه مؤكداً بحماس :
-(( أيوة طبعاً .. أنت لسه هتاخد رأيى .. كلمه خلينا نقعد معاهم ونشوف طلباتهم أيه .. أكيد هيحتاجوا أكتر من شوية خامات )) ..
رفع جواد أبهامه معتذراً بعدم تركيز بعدما رن هاتفه برسالة نصية جديدة :
-(( طاهر معلش ثوانى .. وهكون معاك )) ..
أومأ طاهر برأسه موافقاً ، بينما قام جواد بفتح الرسالة النصية يقرأها فى صمت وسرعان ما جحظت عينيه ، للخارج ونفرت عروق وجهه متمتاً بعدم تصديق :
-(( بيت رائف !! .. يابنت ال****** )) ..
أنتفض طاهر من مقعده بمجرد أستماعه إلى جملة جواد والتى لم تكن تحتاج إلى تفسير ، خاصةً عندما رأه يركض خارجاً من الغرفة ومتوجهاً إلى خاصته ، ركض طاهر من خلفه يستوقفه ، صائحاً بذعر بعد رؤيته لرفيقه يسحب من درج مكتبه سلاحه الخاص المرخص ويضعه خلف حزامه الجلدى :
-(( جــــوااااااد .. أنت بتعمل أيه )) ..
دفعه جواد جانباً مستأنفاً ركضه إلى خارج الشركة ومتمتاً بتوعد :
-(( هخلص عليه الكلب ده .. هو وهى )) .

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية في لهيبك احترق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى