روايات

رواية في لهيبك احترق الفصل الأول 1 بقلم شيماء يوسف

رواية في لهيبك احترق الفصل الأول 1 بقلم شيماء يوسف

رواية في لهيبك احترق الجزء الأول

رواية في لهيبك احترق البارت الأول

في لهيبك احترق
في لهيبك احترق

رواية في لهيبك احترق الحلقة الأولى

مقدمة
تصرخ بكل ما أوتيت من قوة وكل ما يصدر عنها هو همهمة ضعيفة مع حركة شفاه صامتة وكأن أحبالها الصوتية قد أُصيبت بالخرس وكل ما تستطيع فعله هو التمثيل الصامت..
تركض كعداء أوليمبي محترف ومع ذلك لا تتحرك قيد أنملة وكأن هناك خيوط غير مرئية التفت حول قدميها فكبلتها وألصقتها بالأرضية الحجرية أسفل منها…
كان هذا هو حالها وهي تلتفت يميناً ويساراً بخفقات قلب تقرع كالطبول داخل أذنيها وتكاد تصيبها بالصمم…
دقيقة هي كل ما تملك من الوقت قبل ظهور شبحه المقيت أمامها، ستون ثانية هي الفرصه المتاحة لها للنجاة بنفسها والتي يجب عليها استغلالها للهرب!..
ارتجف جسدها بقوة وهى تتلمس طريقها في الظلام، فبعد عدة أيام من الركض داخل تلك المتاهة المظلمة أصبحت تعى بدقة موقع بوابة الخروج، فقط كل ما تحتاج إليه هو الركض.. هذا أن سمحت لها قدميها بذلك…
بدأ ينعكس على الجدار المظلم جوارها ظل صغير لجسده والذي راح يكبر شيئاً فشيء كلما اقترب منها، ازدردت لعابها بعنف وقد بدأت قدميها بفعل الأدرينالين المندفع إلى سائر جسدها مسابقة الرياح، إذ أصبح كل ما يعوق حركتها الآن هو ذلك الظلام الدامس الذي يعم المكان ويجعلها تتخبط في تلك الصناديق الملقاة بأهمال على طول الطريق، والتفاتها هي شخصياً كل ثانية لترى مدى اقترابه منها..
أما عنه هو فقد كان يسير بخطى ثابتة وهو يبتسم بهدوء وانتصار، كصياد ماهر يستمتع بمطاردة غزالته الشاردة التي تلتقط أنفاسها الاخيرة قبل وقوعها فريسة تحت قبضته، بينما واصلت هي الركض بأنفاس متقطعة وأقدام مترنحة إلى أن بدأت رئتيها تخذلها وتأبى العمل بكامل طاقتها…
هتف اسمها بتلذذ شديد وهو يرى تخبطها جلياً له فاستدارت تنظر لظله الممدود أمامه بقلة حيلة، لا ترى ملامحه ولا تميز صوته، هو فقط جسد عملاق يطاردها في كل ليلة دون كلل أو ملل مبتسماً لها تلك الابتسامة المرعبة!.. استأنفت ركضها وبعد فترة شعرت بالصمت يرخى جناحيه على المكان من حولها حيث توقف عن مطاردته لها واختفى بدوره من خلفها، فتنفست الصعداء وانحنت بجسدها للأمام تستند بكلتا كفيها فوق ركبيتها محاولة إدخال أكبر قدر من الهواء النقي لرئتيها..
وفجأة دون مقدمات ظهر ظله أمامها مرةً أخرى، صرخت وتلك المرة دوت صرختها عالياً حتى جُرحت حنجرتها، كصرخة أسد جريح يزأر من عجزه، قبل أن تعاود الركض من جديد وقد لاح لها من الطرف الآخر طيف لشخص ما يراقبها، ضيقت عينيها تستطلع ماهيته وإذا بها ترى والدها يمد ذراعه نحوها بابتسامته البشوشة المشجعة، فابتسمت بدورها هي الاخرى وقد دب شعور الأمان داخلها لمطالعة محياه ورؤيتها لذراعه الممدودة نحوها يحثها على المضى قدماً في طريقها، توجهت بكليتها نحوه راكضة وكلما أقتربت منه ابتعد بطيفه عنها حتى بدأ الطريق يُنير أمامها بفعل ضوء القمر الفضي الذي ألقى بظلاله أسفل قدميها كدلالة على اقتراب خلاصها…
رفعت عينيها لأعلى فرأت المبانى العالية تظهر من حولها، إذاً اقتربت النهاية، ها هى بوابة الخروج تلوح أمامها من بعيد، عدة إنشات آخرى وستتحرر، التفتت خلفها للمرة الاخيرة تبحث عنه، حيث بدأ الغضب يتمكن منه ويجعله يسرع في خطاه للحاق بها، حسناً لقد أوشكت على الخروج… على النجاة، عشرة خطوات وتصل إلى البوابة، سبعة خطوات، خمسة خطوات، مدت يدها المرتجفة تدفع البوابة بلهفة لتتفاجئ بجسد أخر يظهر أمامها من العدم ويرتطم بها، جسد جديد بظل جديد، يحاصرها ويمنعها من الخروج لتسقط فريسة محاصرة بين براثن كلاً منهما.
#الفصل_١
الفصل الأول
”غالباً يجب عليك أن تدرك أنك عظيم ، لثباتك بنفس القوة رغم كل هذا الأهتزاز ”
_دوستويفيسكي.
انتفضت من سباتها ترتجف كالفرخ المبلول شاهقة عدة مرات متلاحقة لتهدئة ضربات قلبها التي تدوى كالطبول، سحبت نفساً عميقاً قوياً محاولة إدخاله عنوة إلى رئتيها وهي تلتفت حولها يميناً ويساراً بذعر حسناً حسناً اهدئى قليلاً.. مجرد كابوس وليس حقيقة.. أنتِ بأمان الأن.. ليس هناك ما يدعو للخوف أو القلق.. تذكرى.. الله معك وبجوارك…
هذا ما حدثت به نفسها قبل أن تفتل على يسارها ثلاث مرات كما علمها والدها دائماً عندما يراودها حلم مزعج، وبعد فترة وجيزة بدءت تستعيد هدوئها شيئاً فشيء عادت لأغلاق عينيها وهي تتنهد بتعب حيث أرهقها كثرة التفكير ، فتلك هى الليلة السادسة على التوالي!!.. نفس الحلم!!.. نفس المتاهه المظلمة!!.. نفس التخبط والشعور المريع بالعجز.. ونفس الرجل مبهم الملامح الذي يلاحقها!!، والأسوأ نفس الشخص الذي تصطدم به في كل مرة معيقاً طريقها نحو الخروج!!!.
انتظرت عدة دقائق أخرى حتى استعادت سيطرتها الكاملة على جسدها، وبعدها تحركت من داخل الفراش تبتغى ملاذها الأول وحصنها الذى لا يُرام، خالقها ومن بيده مفاتيح كل شيء، فالطالما اعتادت على ذلك منذ سنوات مضت حتى أصبحت عادة وجزء لا يتجزء من يومها، ركعتين في جوف الليل والناس نيام قادرة على تحقيق المعجزات بالنسبه إليها..
لذا وقفت تتلو بخشوع بعض آيات من الذكر الحكيم بعدما أحسنت الوضوء وقلبها مفعم بالأجلال والأمل، نعم الأمل والثقة، فدائماً ما كان معها وبجوارها مهما توالت عليها الصعاب، وعندما لامست جبهتها الأرض انفجرت باكية وداخلها يناجى بكلمة واحدة “يارب”.
**************
نحنا والقمر جيران …. بيته خلف تلالنا
بيطلع من قبالنا ….. يسمع الألحان
نحنا والقمر جيران …. عارف مواعيدنا
وتارك بقرميدنا ….. اجمل الالوان .
تهادى إلى أذنها ذلك الصوت العذب كعادة كل صباح آتياً من غرفة معيشتهم المتواضعة، ففتحت عينيها على مضض وهي تبتسم بخفوت وتمد يدها نحو المنضدة المجاورة للفراش تلتقط هاتفها وتنظر بداخله، فقط فى الموعد، اتسعت ابتسامتها وهي تحرك رأسها باستسلام يشوبه الكثير من الرضا والامتنان، فرغم كل ما مرا به إلى الآن ألا أن صوت فيروز الصباحي قاعدة مقدسة -بروتوكول دولى- لا تستطيع والدتها كسره لأي سببًا كان.
تحركت رحمة تنضم إلى والدتها التي كانت تقف في المطبخ تنتهى من وضع اللمسات النهائية لفطار الصباح ثم قالت مازحة بصوتها العذب وهي تحتضنها من الخلف:
-(( صباح الخير يا جارة القمر .. كروان بيغنى مع فيروز ياربي ))..
لكزتها والدتها السيدة فريدة بخفه جوار مرفقها، ثم قالت مؤنبة ومعارضة بمرح:
-(( وماله صوتى يا ست رحمة مش عاجبك.. طب لعلمك دي الحاجة الوحيدة الحلوة اللي ورثتيها مني.. لو تقدري تنكري يعنى!! ))..
طبعت قبلة مطولة فوق وجنة والدتها ثم قالت وهى تبتعد عنها:
-(( أنا وارثة منك كل حاجة حلوة يا ديدا.. ها قوليلي أخدتي الدوا بتاعك ولا لسه؟!))..
أجابتها والدتها متأففة بعدما قّلبت عينيها يميناً ويساراً بملل:
-(( أخدته يا رحمة متقلقيش ))..
قالت رحمة بجدية وقد تحولت لهجتها في لحظة واحدة إلى الأمر حتى يظن من يستمع إليها إنهما تبادلا الأدوار:
-(( ماما لو سمحتى مش عايزة نوبة المرة اللي فاتت تتكرر تاني.. وقبل ما الدوا يخلص بلغيني أجيبلك غيره على طول.. كده كده الصيدلية في طريقي كل يوم للبيت.. أصلاً مش مصدقة إني بقول كده لممرضة سابقة!! ))..
جاءها صوت والدتها معقبة بضيق واضح من وصايا طفلتها العشر يومياً قائلة بجمود:
-(( حاضر يا ست رحمة.. صدقيني اللي حصل الشهر اللي فات مش هيتكرر تاني إن شاء الله.. ودلوقتي روحي غيري هدومك لحد ما أخلص عشان تلحقي تفطري قبل ما تنزلي ))..
أجابتها معترضة وهي تستعد للخروج من داخل المطبخ:
-(( لا مليش نفس.. يادوب هروح ألبس وأتحرك على طول.. وبعدين صحيح مصطفى فين؟! ))..
أجابتها والدتها بأمتعاض:
-(( هيكون فين.. فى الأوضه طبعاً.. أكيد قاعد بيلعب بالتابلت ))..
قالت رحمة بهدوء بعدما توقفت خطواتها عند المدخل:
-(( تمام.. هروح أبص عليه قبل ما البس وأنزل ))..
صمتت والدتها لوهلة تتفحصها ثم عادت تسألها بقلق :
-(( رحمة أنتِ كويسة؟!.. بقالك كام يوم فيكي حاجة غريبة!! ))..
تنهدت مطولاً بحيرة تحاول إيجاد أجابة مقنعه، فبماذا تخبر والدتها؟!، أن هناك كابوس ما يراودها لمدة أسبوع كامل ومنذ ذلك الحين تشعر بأنقباضة ما داخل صدرها تزداد يوماً بعد يوم!، أم أن هناك ثقل ما يجثو فوق روحها يجعلها تختنق ببطء وكأن الحياة تُسحب منها شيئاً فشيء!!، هتفت والدتها اسمها مرةً أخرى بقلق واضح جعلها تقول في عُجالة مطمئنة :
-(( مفيش .. ضغط الشغل بس مش أكتر متقلقيش ))..
هزت والدتها رأسها متفهمة بهدوء، ثم قالت بحنو :
-(( ربنا يعينك يا حبيبتي ))..
حركت رأسها هي الأخرى مبتسمة، قبل توجهها لغرفة شقيقها الأصغر يسبقها صوتها الذي يهتف اسمه بمرح :
-(( تيفا .. يا تيفا!!.. أوعى تكون لسه نايم ))..
آتاها صوته من خلف الباب المغلق يصيح بلهفه :
-(( حاسب يا عم هموت!!!.. احمى ضهرى لحد ما أهرب منهم ))..
فتحت باب الغرفة تطالعه وهو مندمج في أعطاء الأوامر لصديقه في تلك اللعبة الألكترونية، قبل أن تحرك رأسها آسفة عدة مرات وهي تنهره بضيق :
-(( يادى بابجي اللي هتاكل عقلك دي!!! .. يابني قوم ذاكر كلمتين ده أنت ثانوية.. أو اقرالك كتاب يفيدك بدل العك ده!!! ))..
هتف شقيقها بلوعة دون الالتفات إليها فعينيه مازالت مسلطة فوق شاشه الجهاز اللوحى :
-(( حاضر يا ريمو .. أخلص بس الجيم دة وأقوم على طول معلش .. ما تحااااااااسب يا عم أنت بتضرب فين!! )).
بالطبع علمت أن الجملة الأخيرة لم تكن موجهة لها لذا حركت رأسها للمرة الثانية بقلة حيلة قبل انسحابها تجاه غرفتها استعداداً ليوم مليء بالعمل كالعادة.
وبعد حوالى نصف ساعة كانت تقف خارجاً في منتصف الطريق تحاول اتخاذ قرارها هل تسير في تلك الحرارة وشمس أغسطس الحارقة حتى موقف الحافلات، أم تدلل نفسها اليوم قليلاً وتستقل سيارة خاصة “أوبر” وتنعم بهواء المكييف البارد وتصل إلى العمل بكامل طاقتها؟!.. حسناً لقد اتخذت قرارها ستسير حتى أقرب موقف للحافلات الخاصة المكيفة ” كريم باص” وبذلك ستنأى نفسها عن الحافله العادية وما تلاقيه داخلها من مضايقات تبغضها وتحافظ على ما تبقى من مصروفها الشهرى البخس الذي وضعته لنفسها وتلتزم به، وبالفعل بعد عدة دقائق كانت تستقل الحافلة وتستند برأسها فوق زجاج النافذة المغلق تنظر إلى الطريق أمامها بعقل شارد كلياً.
رحمة عز الدين النويري.. فتاة في السابعة والعشرين من عمرها، بملامح وجهه ملائكية تشبهه “بياض الثلج” كما كان يلقبها والدها دائماً، حيت ورثت عن والدتها وجهها الأبيض المستدير مع وجنتى كالكرز فى حمرتهم بعيون سوداء لامعة تشبه الليل بظلمته وشفاه مكتنزة ناعمة مع شعر أسود فحمى طويل اخفته مع جسدها المتناسق خلف حجاب وملابس محتشمة.
تنهدت بحسرة وقد تزاحمت عليها الأفكار والذكريات…
“عز الدين محمود النويري “، والدها أحد رجال أعمال الأسكندرية الذي حاول شق طريقة بين رجال الاعمال الكبار، حيث كان يملك شركة متواضعة للأستيراد والتصدير جعلتهم قادرين على عيش حياة مترفة نوعاً ما تلقت على أثرها أحسن تعليم في المدينة فيما يخص مجال إدارة الأعمال بلغات متعددة، مع السكن في أحد أرقى أحياء الأسكندرية القديمة “الحي اللاتيني” أو ما يسمى حي الملوك كما يطلق عليه..
مع خطبة لشاب مقتدر ذو مستقبل مشرق واعد، لم تكن خطبتها قائمة عن الحب، بل مجرد زيجة مدبرة أو كما تسمى “زواج صالونات فـ “شريف “، خطيبها السابق كان يقطن في الشقة المجاورة لهم مع عائلته وعندما تقدم لخطبتها لم تجد فيه من العيوب ما يحثها على الرفض ، أما عن الحب فلم تكن تلك الكلمة موجودة في قاموسها من الأساس حيث أنها دائماً ما كانت تتسائل، أتلك المضغة التي تنبض اسفل ضلعها فى الجهه اليسرى مؤهلة للحب كمثيلتها من فتيات الجامعة والدراسة، أم أنها خلقت فقط لضخ الدم إلى سائر أعضائها كي تبقيها على قيد الحياة!!، حسناً ذلك سؤال لن تحصل على إجابته مطلقاً خاصة بعدما انقلبت حياتهم رأساً على عقب، تحديداً منذ عامين عندما قرر والدها توسيع أمر تجارته مع صديق له قادم من الخارج وأقترض على أثرها عدة ملايين من البنك بضمان الشركة والمنزل مصطدماً بعدها بالواقع الأليم ألا وهو هروب صديقه إلى خارج البلاد مرةً أخرى وتركه غارق في ديونه…
لم يتحمل والدها تلك الصدمة فسقط بعدها مصاباً بسكته دماغية أودت بحياته في الحال، لتجد رحمة بعدها نفسها مشردة دون منزل يأويها مع والدة مريضة بالقلب وشقيقها المراهق والذى لم يبلغ من العمر السابعة عشر بعد، بعدما تخلى عنهم الجميع وأولهم “شريف” حيث رأها لم تعد مناسبة له بعد ما حدث.
أغمضت عينيها بألم وهي تتذكر تلك الأيام، لم تجد من يقف جوارها سوى صديق قديم لوالدها، حيث وجد لها منزل متواضع في منطقة شعبية أكثر تواضعاً وتكفل بأيجار أول شهر للمنزل كما ساعدها على إيجاد عمل كمساعدة خاصة في أحدى أكبر شركات الأسكندرية، بالطبع ساعدها في ذلك تفوقها الدراسي إلى جانب أتقانها لعدة لغات بجانب العربية، مع مظهرها المهندم جعل من رفضها شيء مستحيل…
وسرعان ما أثبتت كفائتها في ذلك المنصب وأصبح مالك المجموعة يعتمد عليها أاعتماد كلي في مقابل مادي أكثر من ممتاز بدأت من خلاله التخطيط لتحسين وضع معيشتهم، قبل أن تصيبهم طامة أخرى وهي سقوط والدتها، حيث أخبرها الطبيب بضرورة إجراء عملية للقلب تتعدى راتب ثلاثة أعوام من العمل المتواصل، “أن الله معنا” هذا ما فكرت بأمل وهي تتذكر مرض والدتها وفرصتها التي تتضائل مع مرور الوقت كما أخبرها الطبيب في معاينته الأخيرة ولكن ما باليد حيلة، فقط عام أخر وستستطيع إجراء تلك العملية باهظة التكاليف، وحتى ذلك الوقت ستدعو الله يومياً أن يمنحها الوقت الكافي لأنقاذ والدتها من ذلك المرض اللعين.
*****************
في جناحهم الخاص جلست على طرف الفراش تضع ساقاً فوق الأخرى كعادتها وتطالعه بنظراتها الشغوفة وهو يقوم بارتداء ملابسه الرسمية للعمل كعادة كل صباح، التفت جواد ينظر إليها باشتهاء واضح وخطواته تسبقه إليها حتى توقف أمامها، ثم قال برغبة وذراعه تمتد نحو خصرها للقبض عليه وإيقافها مقابلة له :
-(( مفيش صباح الخير قبل ما أنزل؟! ))..
أجابته بدلالها المعتاد وهي تحاول التملص من بين ذراعيه :
-(( جود .. بيبى مينفعش لينة صحيت ))..
تأفف جواد من تمنعها المعتاد عنه، ثم قال بحنق واضح رغم لين نبرته :
-(( مش ملاحظة أننا بقالنا فترة على الحال ده !!.. حتى ماما وبابا بدءوا يسألوا أمتى هنجيب أخ للينة ))..
زفرت رنا بضيق، ثم أجابته بسخط شديد وهي تبتعد عنه واضعة مسافه كافية بينهم :
-(( أوف يا جود !!! مش معقول !! تعبانه من إمبارح يعنى مفيهاش حاجة .. وبعدين الحاجات دى تخصنى أنا وانت لوحدنا مع احترامى لوالدك ووالدتك ومش معنى أننا عايشين معاهم في نفس البيت يدخلوا في تفاصيل زي دي .. أنت وعدتنى محدش هيتدخل في حياتنا من قبل ما ننزل مصر فياريت تحافظ على وعودك ليا ))..
حرك عبد الجواد رأسه متفهماً بهدوء، قبل أن يعود لاستئناف ما يقوم به بصمت تام وهو يفكر في حديثها فبالفعل رغم مكوثه مع والده ووالدته في نفس المكان إلا أنه يحاول حتى الآن فصل حياته الزوجية عن عائلته، أما عنها هي زوجته فبعد الانتهاء من جملتها قررت الهروب من صحبته بحجة البحث عن طفلتهم.
وفي الأسفل هتفت رنا ملقية تحية الصباح بفتور وهي تتخذ مقعداً مجاوراً لشقيقة زوجها التي كانت مشغولة بحديثها على الهاتف، ووالدته بأبتسامة مقتضبة :
-(( صباح الخير يا أنطى .. صباح الخير يا عليا ))..
أجابتها السيدة كريمة والدة جواد بودها المعتاد :
-(( صباح الخير يا بنتي .. يسعد صباحك دايماً يارب ))..
كانت السيدة كريمة اسماً على مسمى ، امرأة ناعمه هادئه الطباع في منتصف الخمسينيات من عمرها عاشت حياة زوجية هادئة حتى بعد حادثة زوجها السيد أنور منذ عدة سنوات والتى أسفرت عن تهتك في العمود الفقري أدت إلى حالة من الشلل الدائم، لم تنجب سوى طفلان، الأكبر عبد الجواد أنور المناويشى الذي سمي بهذا الاسم تميناً بجده الأكبر والأخرى هي طفلتها المدللة علياء، فتاة حسنة الخلق والخُلُق بملامحها الشرقيه الهادئة وعيونها الواسعة مع غمزتين يزينان وجهها وشعر بنى ناعم يصل إلى نهاية ظهرها تقريباً، قليلة الحديث تمتاز برزانة عقلها، تبلغ من العمر الرابعة والعشرين تمت خطبتها منذ ما يقارب العام تقريباً لشاب طموح يحاول إلى الأن شق طريقه وبناء مستقبله خارج البلاد، عادت رنا تتسائل بفضول :
-(( أومال فين أونكل أنور يا أنطى ؟! ))..
أجابتها كريمة والابتسامة تعلو محياها لرؤية فلذة كبدها يظهر أمامها :
-(( أهو جواد خلص هو كمان أهو .. وعمك أنور لسه منزلش ..ثوانى اطلع اجيبه من الأوضة وننزل نفطر كلنا سوا ))..
أوقفها صوت جواد معترضاً وهو يرفع معصمه لينظر في ساعة يده :
-(( لا يا ماما مش هلحق النهاردة معلش .. عمرو صوره ماليه الفيس كالعادة وأكيد هتلاقي طاهر شايط .. يادوب الحق أهديه بكلمتين قبل ما يولعوا في بعض ))..
هزت رأسها بأسى وهى تربت على كتف ولدها بتفهم، ثم قالت مشجعة :
-(( روح يا حبيبى ربنا معاك .. ومتنساش .. طاهر وعمرو أخواتك .. يعنى ده واجب عليك ))..
طبع جواد قبلة حنونة فوق كفها قبل تحركه مسرعاً للخارج بعدما ألقى نظرة وداع أخيرة على زوجته تجاهلتها الأخيرة متظاهرة العبث بهاتفها المحمول.
******************
أمام مقر الشركة الرئيسى ، وقف بجسده المتصلب أمام البوابات الخارجية مغمضاً عينيه لوهلة من الزمن وساحباً نفساً عميقاً يعلم أنه لا يجدى نفعاً في الحد من حالته المزاجية العكرة، فتح طاهر عينيه بقوة ثم بدأ يخطو نحو الداخل بخطواته العصبية حتى وصل إلى مكتبه في الطابق الأخير، دلف للداخل بحدة وهرولت من خلفه مديرة مكتبه تحتضن بين ذراعيها مفكرة لتدوين ملاحظاته وتعليماته لليوم، صاح طاهر بنبرة حادة عصبية وهو يرتمى فوق مقعده جعلت المرأة الواقفة أمامه تنتفض فزعاً :
-(( سى عمرو بيه لسه تليفونه مقفول!!!! ))..
أجابته السكرتيرة متمتة بخفوت :
-(( أيوة يا فندم صدقني .. أنا بحاول من ساعة ما حضرتك أمرتني ومفيش فايدة .. محدش عارف يوصله ))..
حرك طاهر رأسه عدة مرات بتشنج واضح، ثم عاد يهتف من جديد بنفاد صبر :
-(( وطبعاً جواد بيه لسه موصلش !!!… ماهي شركة أبونــ….. )).
قاطع جواد جملته قائلاً بمرح وهو يشير بعينيه إلى مديرة المكتب للانصراف :
-(( جواد هنا أهو وواقف قدامك .. وقبل أي حاجة أفتكر أني أكبر منك .. فبلاش قلة أدب وقيمة ع الصبح قدام الموظفين ))..
حدجه طاهر بعدة نظرات حانقة وهو يعود ويرتمى برأسه للخلف ويمسح بكلتا كفيه فوق وجهه بعصبية.
طاهر حكيم عبد الجواد المناويشى، الحفيد الثاني لعائلة المناويشى، تلك العائلة التي تعود جذورها لصعيد مصر وتحديداً “سوهاج”، والتي دائماً ما أشتهرت بالعمل في مجال المقاولات ومنذ ثلاثين عام نزح كلاً من حكيم عبد الجواد وشقيقه الأكبر أنور عبد الجواد إلى الأسكندرية للعمل بها وتوسيع مجال أعمال العائلة وبالفعل نجح الأخوين في ترسيخ اسمها بعروس البحر الأبيض المتوسط وتكوين إمبراطورية مشابهة ومنفصلة عن تلك التي في الجنوب، تولى حكيم رئاسه مجلس الإدارة بعد حادثه شقيقه الأكبر أنور وعدم قدرته على مواصلة العمل.. وبعد وفاته تولى طاهر ولده والبالغ من العمر ثلاثة وثلاثون عام رئاسة الشركات لظروف سفر جواد إبن عمه الذي كان مستقراً بالخارج ولم يعد سوى من عام واحد بعدما سأم الغربة وقرر العودة بزوجته وطفلتهم الوحيدة، كان طاهر شخص قوي البنية، حاد الطباع بدرجة كبيرة، عصبى إلى حد ما مع تلك النزعة القبلية التي تسرى بدماءه رغم بعده كل البعد عن الجنوب ألا أنها لازالت تحتل جزء كبير من جيناته كعامل وراثى…
أما عن صفاته الشكلية فقد كان وسيماً إلى حد كبير بشعره الأسود الكثيف الناعم مع ذقن مشذبة تماثله كثافة، ونظرة عين معبرة وجسد رياضى كباقى فئات الطبقة المنتمى إليها، ربما لا يستسيغه البعض من النظرة الأولى ولكن مع مرور الوقت!….
مر بتجربة عاطفية وحيدة فاشلة ظن أنه حب افلاطوني كما رأى في الأفلام والمسرح فسارع بالزواج منها رغم كل الصعوبات، مصطدماً بعد وقت قليل بواقعه الأليم، فتاة مدللة أنانية لا تأبه سوى بنفسها والأسوأ أستغلالها له ولأسم عائلته في أعمال والدها الغير شرعية في التنقيب عن الآثار والذهب من خلال توقيع طاهر الصوري وتحت غطاء شركته، الأمر الذي أدى إلى تورطه مع الدولة بشكل كبير ولولا مساعى عائلته في الجنوب ونفوذها الممتدد على طول الخريطة مع بعض السلطة المتمثّلة في عدة مقاعد داخل مجلس النواب لوجد نفسه محتجز داخل جدران السجن مدة لا تقل عن عشرون عام…
أما عن زوجته المدعية “ريم”، فبعد فضح أمرها أمامه وسقوط والدها أيقنت لا محالة بالهلاك لذا لاذت بالفرار خارج البلاد خوفاً من انتقام زوجها والذي تعلم جيداً أنه يحرق في طريقه الأخضر واليابس لتكون فعلتها تلك هي بوابتة للحرية من تلك الزيجة البائسة حيث تلقى بعد عدة أشهر من هروبها خبر وفاتها اثر حادثة طريق قضيت خلالها نحبها مع صديقها البريطاني في إحدى قرى إيطاليا المتطرفة، ومن بعدها أصبح طاهر كارهاً وحذراً لكل ما له علاقة بالجنس الناعم، أو “الماكر” كما كان يلقبه، أما عن علاقاته الأجتماعية فلم يكن له أصدقاء سوى جواد إبن العم الذى يكبره بأربع سنوات، وشقيقه التؤام “عمرو”، زير النساء “وملك السوشيال ميديا” كما كان يُلقب حيث كانت الفتيات تتهافت على صحبته وساعده على ذلك وسامته الشديدة مع ذلك الشعر الناعم الطويل وابتسامته المهلكة ومظهر “الباد بوى” الغامض ومشاركته لجميع نشاطاته عبر وسائل التواصل الأجتماعى ليتصدرها يومياً غير آبهاً باسم العائلة أو شئون الشركة أو أى شيء أخر سوى متعته.
هتف جواد اسمه مره أخرى بتوجس جعل الأخير يعاود النظر إليه، ثم قال بقلة حيلة :
-(( تعبت يا جواد .. تعبت من استهتاره !! .. تعبت من لا مبالاته .. ٣٣ سنه ولسه مش عايز يعقل !! الماضى لسه مأثر عليه .. كل يوم مصيبة جديدة بفضيحة جديدة مع بنت جديدة .. ولم يا طاهر من وراه .. ساعات بحس لو كان بابا وماما لسه عايشين كانوا قدروا عليه معايا .. بدل ما هو مش عامل حساب ولا أحترام لحد كده ))..
هم جواد بالحديث ولكن قاطعه صوت عمرو يهتف من خلفه بلا مبالاة جعلت أخيه يستشيظ غضباً:
-(( أدينى جيت يا طاهر بيه .. ممكن اعرف إيه الدوشة اللي أنت عاملها من الصبح دي ؟! ))..
قفز طاهر من مقعده بمجرد رؤيته لتوأمة يدلف الغرفة كمصاص دماء ينتظر فريسته منذ مدة ويتوق شوقاً للانقضاض عليها وغرز أنيابه بداخله، ثم صاح موبخاً بعصبية وهو يجذب شقيقه من تلابيب ردائه :
-(( يعنى فوق أنك قليل الأدب !!! لا كمان بارد ومعندكش دم .. تقدر تقولي إيه القرف اللي منشور من الصبح ده ؟!… يا أخي لو مش عامل حساب لسمعة عيلتنا ولا لاسمك وأصولك أعمل حساب للشركة دى .. والبيوت اللي مفتوحة من ورا المكان ده ))..
سارع جواد بالتدخل والوقوف بجسده كحائل بينهم، ثم تحدث مهدئاً من ثورة أبن عمه :
-(( خلاص يا طاهر لو سمحت اهدى شوية وسيبه أنا هتصرف معاه ))..
نفض طاهر يده من فوقه، ثم عاد بجسده المتشنج يجلس فوق مقعده بينما أردف جواد يقول مؤنباً بهدوء :
-(( عمرو .. طاهر عنده حق .. مينفعش صور زى اللي نزلت دى وأنت سكران طينة ومش حاسس بحاجة تنزل على الفيس .. احنا ورانا مسئوليات وعلينا واجبات .. وأنت زيك زينا هنا .. يعنى وجهة شر .. مطلوب منك تحافظ على سمعتها زينا بالظبط ))..
أجابه عمرو ساخراً بأستفزاز وهو يعدل من هندام قميصه المجعد بسبب قبضه أخيه :
-(( قصدك خايف تعيد الماضى واللي عملته ريم مع طاهر !!.. لا متخافش أنا مش تيتو ومش هخلى واحدة تضحك عليا وتستغل اسم شركتي وتوقعني وتوقعها ))..
حسناً إن كان يريد استدعاء الوحش فقد نجح في ذلك بكل تأكيد حيث انتفض طاهر من مقعده مرةً أخرى وخلال ثانية كان يوجه لكمة قوية إلى أنف شقيقه جعلته ينزف بغزارة، ثم صاح مهدداً باهتياج :
-(( أقسملك بالله يا عمرو .. كلمة تانية وهتلاقي نفسك مرمى برة زي الكلب .. وأبقى وريني مين هتبصلك وأنت شحات مش لاقى تاكل ))..
صمت لوهلة يلتقط فيها أنفاسه، ثم استطرد يقول بتهديد مبطن :
-(( مع وش متشلفط عشان تبقى تفرح بحلاوتك دي ))..
شعر عمرو بجدية حديث شقيقه الأكبر تلك المرة فسارع يقول محاولاً تلطيف الأجواء :
-(( طاهر .. برو .. خلاص يا كبير متزعلش وميبقاش خُلقك ضيق كده .. أنت عارف في الأخر مش بيهون عليا زعلك ))..
زفر طاهر مطولاً وهو يطالع يد شقيقه المحتضنة كفه برجاء، ذلك الأحمق الصغير ، تؤامه وشطره الثاني، شقيقه الذي يصغره بعدة دقائق ونقطة ضعفه الوحيدة، والذي مهما بدر منه من أفعال لا يستطيع البقاء غاضباً منه لأكثر من خمسة دقائق على أقصى تقدير، رمقه عمرو بتلك الابتسامة الساحرة التي دائماً ما كانت تميزه كعلامة استرضاء، فهتف طاهر قائلاً بنبره محذرة شبهه محتدة :
-(( بليل عندنا اجتماع مع زفت رائف .. وأنت عارف أن المشروع ده مسئوليتك عشان كده مش عايز هبل بينكم كالعادة .. نحترم نفسنا وتفتكر أنه شغل وبس .. سامعني ؟؟..يعنى أي خلافات من زمان تتنسى .. وبليل الاقيك قدامي وألا…. )).
سارع عمرو يقاطعه قائلاً بلهفة واضحة :
-(( من غير ألا يا معلم .. ٧ بالدقيقة هتلاقيني قدام المطعم مستنيك .. ولو على رائف فخلاص احنا كبرنا ع الحوار ده ))..
هز طاهر رأسه موافقاً باقتضاب وهو يبادل عناق شقيقه بأخر جاف قبل ركض الأخير للخارج هارباً ، أما عن جواد الذي كان يتابع الموقف بصمت هتف يقول بأرتياح :
-(( الحمدلله العاصفة عدت على خير .. اروح أنا أشوف شغلي اللي متعطل بقاله ساعة عشان مشاكل الأخوين حكيم ))..
زمجر طاهر غاصباً مما جعل الأخير يحذو حذو ابن عمه الأصغر ويركض هو الأخر إلى الخارج ليغرق كلاً منهما في مهام عمله الموكلة.
***************
داخل صرح الشافعى…..
سارت رحمه بخطاها الثابتة الواثقة بتلك البذلة النسائية الرائعة والمتناسبة تماماً مع حجابها الحريري وحذائها ذو الكعب العالي نحو مكتب رئيس مجلس الادارة “رائف الشافعى “، مديرها المباشر والمالك الأصلي…
ذلك الشاب الذي يقف على مشارف الأربعينات، يمتلك أكثر شخصية غامضة ممكن مصادفتها في الحياة، عملي للغاية، لا يعرف المجاملات، صارم لحد كبير وطموح إلى درجه الجنون، في بداية الأمر ظنت أن أصوله عربية من ذلك الاسم الغريب على مسامعها والذي يمتلكه.. ولكن مع مرور الوقت تأكدت من جنسيته المصرية، فقط ولد وعاش فترة من الطفولة في إحدى الدول الخليجية مع والده ثم عادا للأستقرار في مصر وبدأ بعدها والده العمل في المعدات الثقيلة الخاصة بالطرق والكبارى وما شابها، تلك هي كل المعلومات التي تمتلكها عنه رغم انقضاء عامين على عملها معه.. فهو بطبيعة الحال لم يكن كثير الحديث وه3 لم تكن بالشخصيه الثرثارة، تحدث رائف مستفسراً باهتمام شديد بمجرد رؤيتها تدلف غرفته :
-(( ها يا رحمة .. بالنسبة لعقودنا مع شركة “إيواء” خلصت ولا لسه ؟! ))..
أجابته رحمه بثقتها وهدوئها المعتاد :
-خلصت يا فندم متقلقش .. دقيقتين وتكون على مكتب حضرتك للمراجعه النهائية .. بس….
سألها رائف مستفسراً بخبث :
-(( بس إيه يا رحمة ؟! ))..
اندفعت رحمه تجيبه بقلق :
-(( أنت عارف يا رائف بيه .. العقد مش في مصلحتنا .. قصدي يعنى مفيهوش مكسب يغطى أي ضرر ممكن يحصل خلال فت تأجيرهم لمعداتنا .. غير الشرط الجزائي اللي هما حاطينه .. يعنى من الآخر الصفقة دي خسرانة ))..
ابتسم رائف بغموض، ثم قال بأقتضاب :
-(( معلش مكسبي من الصفقة دي حاجة أهم بكتير من الفلوس .. وعمتاً اتفضلي دلوقتي على مكتبك ولو احتاجتك هناديلك .. آه ومتنسيش ميعادنا النهاردة الساعه ٧ في مطعم ****** ))..
أومأت رحمة برأسها موافقة، ثم قالت بخنوع وهي تستعد للخروج :
-(( هتلاقيني هناك في الميعاد إن شاء الله .. عن إذن حضرتك ))..
التفت عائدة للخارج بعد أنتهاء حديثها وأثناء طريقها للخروج صادفت كريم المساعد الاخر لرائف فى الأعمال الاخرى والذي يأبى الإفصاح عنها حيث دائما ما يبقيها سراً عن الجميع، أومأت برأسها في تحيية صامتة له واستانفت طريقها، بينما هتف رائف اسمه بتلهف واضح قائلاً بحماس :
-(( كريم .. تعالى بسرعة واقفل الباب وراك ))..
أطاعه الاخير على الفور وبعدما قام بما أُمِر به عاد رائف يسأله بجديه وهو يشير إليه للجلوس في أحد المقاعد المقابلة له :
-(( ها .. كل حاجة تمام ؟!… عشان بكره ؟! ))..
أجابه كريم مؤكداً بتفاخر :
-(( كله فل .. واقف على التنفيذ .. أدينى الأشارة الخضرا وأنا تحت أمرك ))..
صمت كريم لوهلة يحك مؤخرة رأسه بكفه ببلاهة، ثم أردف يقول بتردد واضح :
-(( بس أنت متأكد .. قصدى يعنى مش خسارة ؟!.. بصراحة البنت حلوة وملهاش ذنب وكمان محترمة .. معرفش ازاي فلتت منك لدلوقتى ))..
أجابه رائف وعيونه تلمع بغل :
-(( عندك حق هي حلوة .. وأوي كمان .. بس مش سكتي ولا نوعي .. وكفاية أنها بنت عز الدين النويري عشان تتورط وزيادة .. دورها معايا خلص لحد كده ))..
ابتلع كريم اعتراضه مع عدم اقتناعه بداخله فإلى الأن يأبى مديره مشاركته في السبب الحقيقي وراء ذلك الحقد الموجهه لها واكتفى بإيماءه صغيرة من رأسه قبل مراجعة الترتيبات للمرة الأخيرة.
*****************
في المساء وتحديداً عند الساعة الساد وخمس وخمسون دقيقة جلست رحمة حول طاولة الطعام في ذلك المطعم الراقي ترتب أوراقها، وجلس قبالتها رائف الشافعي ينتظر بعقل شارد وصول غريميه، دوى هاتف رحمة الموضوع فوق الطاولة أمامها معلناً عن اتصال هاتفى جديد، قطبت جبينها وتشنجت ملامحها وهي ترى هوية المتصل وسرعان ما التقطت الهاتف تجيب بقلق واضح :
-(( مصطفى ؟!… حصل حاجة ؟! ))..
صمتت لوهلة تستمع إلى إجابة شقيقها وملامحها تبهت شيئاً فشيء حتى لاحظ رائف ذلك فبادر يسألها باهتمام :
-(( رحمة ؟؟.. في مشكلة ؟! ))..
أجابته رحمة بفزع وهي تنتفض من مقعدها :
-(( ماما … جتلها نوبة القلب تاني ومصطفى لوحده مش عارف يتصرف ))..
ابتسم رائف بغموض، ثم قال بأقتضاب :
-(( معلش مكسبي من الصفقة دي حاجة أهم بكتير من الفلوس .. وعمتاً اتفضلي دلوقتي على مكتبك ولو احتاجتك هناديلك .. آه ومتنسيش ميعادنا النهاردة الساعه ٧ في مطعم ****** ))..
أومأت رحمة برأسها موافقة، ثم قالت بخنوع وهي تستعد للخروج :
-(( هتلاقيني هناك في الميعاد إن شاء الله .. عن إذن حضرتك ))..
التفت عائدة للخارج بعد أنتهاء حديثها وأثناء طريقها للخروج صادفت كريم المساعد الاخر لرائف فى الأعمال الاخرى والذي يأبى الإفصاح عنها حيث دائما ما يبقيها سراً عن الجميع، أومأت برأسها في تحيية صامتة له واستانفت طريقها، بينما هتف رائف اسمه بتلهف واضح قائلاً بحماس :
-(( كريم .. تعالى بسرعة واقفل الباب وراك ))..
أطاعه الاخير على الفور وبعدما قام بما أُمِر به عاد رائف يسأله بجديه وهو يشير إليه للجلوس في أحد المقاعد المقابلة له :
-(( ها .. كل حاجة تمام ؟!… عشان بكره ؟! ))..
أجابه كريم مؤكداً بتفاخر :
-(( كله فل .. واقف على التنفيذ .. أدينى الأشارة الخضرا وأنا تحت أمرك ))..
صمت كريم لوهلة يحك مؤخرة رأسه بكفه ببلاهة، ثم أردف يقول بتردد واضح :
-(( بس أنت متأكد .. قصدى يعنى مش خسارة ؟!.. بصراحة البنت حلوة وملهاش ذنب وكمان محترمة .. معرفش ازاي فلتت منك لدلوقتى ))..
أجابه رائف وعيونه تلمع بغل :
-(( عندك حق هي حلوة .. وأوي كمان .. بس مش سكتي ولا نوعي .. وكفاية أنها بنت عز الدين النويري عشان تتورط وزيادة .. دورها معايا خلص لحد كده ))..
ابتلع كريم اعتراضه مع عدم اقتناعه بداخله فإلى الأن يأبى مديره مشاركته في السبب الحقيقي وراء ذلك الحقد الموجهه لها واكتفى بإيماءه صغيرة من رأسه قبل مراجعة الترتيبات للمرة الأخيرة.
*****************
في المساء وتحديداً عند الساعة الساد وخمس وخمسون دقيقة جلست رحمة حول طاولة الطعام في ذلك المطعم الراقي ترتب أوراقها، وجلس قبالتها رائف الشافعي ينتظر بعقل شارد وصول غريميه، دوى هاتف رحمة الموضوع فوق الطاولة أمامها معلناً عن اتصال هاتفى جديد، قطبت جبينها وتشنجت ملامحها وهي ترى هوية المتصل وسرعان ما التقطت الهاتف تجيب بقلق واضح :
-(( مصطفى ؟!… حصل حاجة ؟! ))..
صمتت لوهلة تستمع إلى إجابة شقيقها وملامحها تبهت شيئاً فشيء حتى لاحظ رائف ذلك فبادر يسألها باهتمام :
-(( رحمة ؟؟.. في مشكلة ؟! ))..
أجابته رحمة بفزع وهي تنتفض من مقعدها :
-(( ماما … جتلها نوبة القلب تاني ومصطفى لوحده مش عارف يتصرف ))..
أجابها رائف بتفهم شديد :
-((طب تقدري تروحي أنتِ وأنا هكمل لوحدي متقلقيش ))..
نظرت رحمة نحوه بتشكك واضح ثم سألته بارتياب :
-(( حضرتك متأكد ؟! ))..
هز رأسه موافقاً عدة مرات، ثم أجابها مؤكداً بثقة :
-(( أنا حافظ العقود وشبه متفقين .. يعنى القاعدة دي تحصيل حاصل ))..
أومأت برأسها موافقة بامتنان وذراعيها تعمل بعُجالة ودون توقف في ترتيب أشيائها، ثم ألتقطت حقيبة يدها وهرولت نحو بوابة الخروج والقلق يحتل كافة ملامحها.
أما في الخارج دلف طاهر بفتور شديد وعينيه تجول المكان ذهاباً وإياباً بحثاً عن شقيقه الأصغر عندما جذب انتباهه فتاة ما ذو هيئة مهندمة للغاية ومحتشمة تسير بعُجالة شديدة تصل إلى حد الهرولة وتحاول وضع هاتفها داخل جيب سترتها الخارجية دون تركيز حتى إنها لم تعى بسقوطه فوق الأرضية بدلاً من إدخاله في جيبها، سار هو حتى وصل إلى موضع الهاتف وانحنى بجسده يلتقطه، قبل أن يعاود الوقوف ثانية ويهتف عدة مرات متتالية وهو يهرول خلفها محاولاً اللحاق بها، شعرت رحمة في المحاولة الثالثة بجسد ما يسير خلفها أولاً، قبل أن تعى لصوته العذب الذي يهتف خلفها بجدية، فتوقفت عن السير واستدارت تنظر للخلف وهي تبتلع لعابها بصعوبة بالغة وتنظر نحوه بدهشة وفضول، التوى ثغر طاهر بابتسامة جانبية ساخرة فتلك الفتاة تنظر إليه كما لو أنها فريسته، أما عنها هي رحمة فقد استغرق الأمر منها عدة ثوانِ لتلحظ ذراعه الممدودة نحوها والممسك بهاتفها، سحبت الهاتف من يده بعنف غير مقصود من جهتها واستنكار شديد من جهته، ثم عاودت الركض نحو الخارج دون تعقيب وسط نظراته المراقبة لها.
أعاده من شروده صوت شقيقه يهتف باسمه من خلفه :
-(( تيتو .. يا برو .. مالك واقف زي التمثال كده ليه ؟! )) ..
أجابه طاهر بسخط شديد :
-(( واحدة هبلة متاخدش في بالك ))..
أصدر عمرو صفيراً معجباً من حلقه، قبل أن يقول مازحاً :
-(( أوووه .. طاهر المناويشي بيقول واحدة !! ده حقيقي !!! )) ..
حدجه طاهر بعدة نظرات محذرة، ثم قال معقباً بحنق :
-(( هو أنت ليه أول ما بتيجي سيرة أي حاجة مؤنثة دماغك بتقلب شمال كده !!!.. وبمناسبة المؤنث مش هنبهك تاني .. أى عك بينك أنت ورائف جوة مش هعديه على خير … مفهوم ؟! )) ..
زفر عمرو بضيق واضح وقد تبدلت ملامحه على الفور، ثم أجابه قائلاً بفتور :
-(( خلاص يا طاهر قلتلك .. زمان صفحة واتقفلت .. وأظن رائف كمان نسى اللى حصل بدليل أننا هنشتغل مع بعض أهو وفوق كل ده كعربون سلام بينا وافق يظبطني مع مديرة مكتبه )) ..
سأله طاهر مستفسراً بارتياب شديد وقد ضاقت المسافة ما بين حاجبيه :
-(( قصدك إيه بالظبط مش فاهم ؟! ))..
غمز توأمه بعينه غمزة ذات مغزى وهو يربت بكفه فوق كتف شقيقه، ثم قال بنبرة موحية :
-(( أنت عارف بقى .. بينى وبينك البنت صاروخ بس عايشة عليا الدور شويتين وعاملة فيها بنت ناس .. عمتاً هو ظبطنى .. بكرة بليل هتكون عندي لوحدها ))..
انهى جملته وهو يعاود الغمز بعينه مرةً أخرى ، بينما هتف طاهر بأحتقار جلى :
-(( إيه العك والقرف ده !!!.. وبعدين ما يمكن محترمة بجد ))..
أجابه عمرو مستهزءاً بشدة :
-(( محترمة أيه يا تيتو !!.. واضح أن بعدك عن الساحة خلاك مش عارف حاجة !! هي برضة في واحدة محترمه هتشتغل مع رائف ؟!.. وبعدين ده هو واعدني هيجيبها بنفسه .. يعنى أكيد عارفة وموافقة .. ده غير أنه فهمني إنها مش بتطلع غير للعزيز الغالي .. يعنى دور خضرا الشريفة ده جزء من اللعبة مش أكتر ))..
حرك طاهر رأسه رافضاً باشمئزاز، ثم قال وهو يتحرك بجوار توأمه نحو رائف الذي بدأ يلوح لهم بيده منذ وقوع عينيه عليهم :
-(( أنا تعبت منك وحاسس أن مفيش فايدة فيك ))..
توقف عن السير فجأة متخذاً قراره للتو، قبل أن يقول بعدم أهتمام :
-(( بص أولعوا سوا بس المهم تخلصنى من موضوع المعدات ده .. عايز أبدأ شغل أول الشهر وده المهم ))..
انهى جملته واستدار بجسده عائداً نحو الخارج وقد قرر سحب يده من ذلك الاتفاق نهائياً، راقب رائف انصراف طاهر بقلق واضح، ثم هتف يسأل عمرو بجدية بعدما وصل الأخير إلى الطاولة :
-(( هو حصل إيه ؟!! طاهر ماله ؟؟! ))..
أجابه عمرو وهو يسحب احد المقاعد ليجلس فوقها :
-(( متشغلش بالك .. طاهر قال بما أننا متفقين يبقى نكمل سوا من غيره .. المهم ها.. على ميعادنا بكره ؟! )).
غمغم رائف مؤكداً بشرود وتفكيره منصب على طاهر فانسحابه يعطى له الحرية والراحة في تنفيذه لما ينتوى.
******************
في صباح اليوم التالي…
وقفت رحمة أمام مديرها تنتهى من أخذ توقيعه على بعض الأوراق الهامة وهي تسأله بأهتمام :
-(( مقابلة امبارح كانت ناجحة ؟! ))..
أجابها رائف بسعادة شديدة :
-(( فوق ما تتخيلي يا رحمة .. أكتر من ممتازة والفضل يرجعلك ))..
صمت رائف لوهلة معطياً لحديثه انطباع الجدية، ثم عاود يقول بنبره عميقة :
-(( بس في حاجة أخيرة هعتمد عليكي فيها .. عمرو المناويشي طلب ياخد الملفات معاه البيت يراجعها ويمضى عليها .. وبصراحة أنا مسافر النهاردة عندي مشوار ضروري .. ومش هأمن لحد غيرك يستلم منه الملفات دي ))..
لاحظ امتعاض ملامحها فسارع يضيف برجاء :
-(( معلش يا رحمة أنا عارف إني بتقل عليكي بس ده من ثقتي فيكي .. وعمتا هبعت معاكي السواق يوصلك تستلمي منه العقود وترجعي على طول معاه ))..
لوت فمها بضيق فذلك المدعو عمرو وقح إلى أقصى درجة ممكنة، وفي كل مقابلة بينهم يحاول الاحتكاك بها، هتف رائف اسمها للمرة الأخيرة بأنفاس مكتومة فخطته وجميع ترتيباته تتوقف على أجابتها التالية، زفرت رحمة بأستسلام، ثم قالت على مضض :
-(( اللي حضرتك تشوفه يا رائف بيه .. شوف العقود هتكون خلصت الساعة كام وأنا هروح .. بس أتمنى يكون بدري ))..
أجابها بفرحة عارمة مؤكداً :
-(( أه طبعاً بدري .. ألا صحيح طمنيني .. والدتك صحتها عاملة إيه ؟!.. )).
أجابته ممتنة :
-(( الحمدلله كويسة .. نوبة وعدت على خير ))..
أومأ برأسه هو الأخر ممتناً، ثم هتف وهو يمد ذراعه بالملفات التي انتهى من توقيعها :
-((شكراً يا رحمة واشوفك بعد أسبوع )) ..
غمغمت مودعة بجدية وهي تلتقط الملفات من بين يديه :
-(( إن شاء الله يا فندم وعن إذن حضرتك))..
تنهد بعد خروجها مطولاً براحة وهو يعود ويستند برأسه على مقدمة مقعده، فالليلة هي ليلة الحظ بالنسبة إليه سينتقم منهم جميعاً في ضربة واحدة، نعم فرائف الشافعي يدعس كل من يقف أمامه، أو يخطأ في حقه، أو حق والده دون رحمة حتى ولو كان خطأه بسيط .
***************
في المساء وتحديداً أسفل البناية التي يقطن بها ذلك المدعو عمرو المناويشى، خرجت رحمة من السيارة الخاصة التي وضعها رائف تحت أمرتها، ثم أخدت نفساً عميقاً قبل أن تقول برقتها المعتادة موجهة حديثها للسائق:
-(( أنا مش هتأخر .. خمس دقايق بالكتير هطلع استلم الملفات وانزل على طول ))..
أجابها السائق بتفهم :
-(( ماشى يا فندم .. بس هستأذنك اطلع قدام شوية بالعربية اجيب مياه من السوبر ماركت ده لحد ما تخلصى ))..
اشرأبت بعنقها وضيقت عينها تنظر حيث أشار السائق لها، وعندما لمحت المتجر الذي اختصه بالذكر قالت باطمئنان :
-(( تمام هخلص واجيلك هناك عن إذنك ))..
انهت جملتها وتوجهت بخطواتها إلى داخل البناية الراقية، حيث أوقفها أحد رجال الأمن يسألها بارتياب :
-(( حضرتك طالعة فين ؟! ))..
بمجرد ذكر اسم عمرو المناويشى نظر لها الرجل بشيء من الاحتقار والفهم معاً، ثم أشار لها بيده نحو المصعد وتركها عائداً إلى موضع وقوفه الأساسي.
توقفت رحمة بعد دقيقة واحدة أمام رقم الشقة المذكور وأخدت نفساً عميقاً تستجمع به قوتها وشجاعتها، ثم طرقت باب المنزل عدة طرقات متتالية وبعد ثوانِ معدودة كان عمرو يقف أمامها بهيئته العابثة، فتحت فمها للحديث وعندها شعرت بحركة شخصاً ما يخطو خلفها وقبل أن يتيح لها الوقت للالتفات كانت يده تطعنها داخل عنقها بأبرة طبية مليئة بالمخدر وما هي ألا ثوانٍ معدودة من المقاومة الغير مجدية حتى بدأت الرؤيا تتشوش أمامها، وارتخى جسدها ساقطة بعدها في فجوة من الظلام السحيق.
أما في الطرف الأخر وتحديداً في مطار القاهرة الدولى، ارتفع رنين هاتف رائف بمكالمة طال انتظارها وطال معها ترقبه، استمع إلى الطرف الآخر باهتمام، ثم قال بانتصار وهو يغلق هاتفه بغل :
-(( باي باي عمرو المناويشى !.. نتقابل في الآخرة .. معاها )).

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية في لهيبك احترق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى