رواية في قبضة اللعنات (فردوس الشياطين 2) كاملة مجمعة (جميع فصول الرواية) بقلم مريم محمد غريب
رواية في قبضة اللعنات كاملة مجمعة (جميع فصول الرواية) بقلم مريم محمد غريب
فصول الرواية
الفصل الأول
_ المجهولة ! _
الثانية عشر بالدقيقة، منتصف الليل تماماً …
كانت ساحة الحفل ممتلئة عن أخرها، جميع الرواد هنا من فئة الشباب و المراهقين، المسرح العريض معتم الآن، و الكل في إنتظار لحظة البدء الموعودة
سكون لا يحركه سوى بعض الهمهمات المنخفضة، إلى أن حانت اللحظة المنتظرة… أضأت الأنوار فجأة، و طل المغني المشهور، إبن الثالثة و العشرون ربيعاً، إنفجر الصياح و الهتاف من كل مكان، إنما بقيت أصوات الفتيات واضحة كالعادة و هن يصرخن بإسمه بمنتهى الحرارة
بالطبع، فهو غير أنه شاب ينحدر من عائلة ثرية ذائعة الصيت في الكثير من المجالات و الأعمال التجارية و الإستثمارية الضخمة، إلا أن صوته الرائع الآخاذ و وسامته منقطعة النظير كلها أشياء مهدت له طريق النجومية و التألق في عالم الغناء الذي لطالما كان ينشده
ها هو… “سُفيان عز الدين”، في حفله المهيب، بين جماهيره العريضة، يمسك بـ”المايك” أمام مستوى فمه، لينساب صوته بأنغام ساحرة عبر المكبرات المستحدثة الضخمة، كانت كافة الأعين عليه و نظرات الفتيات الهائمة تكتنفه من كل حدبٍ و صوب، إنما بقيت عيناه عليها هي فقط، تلك التي ترتاد حفلاته بإستمرار منذ بدأ
نظره لا يخطئها أبداً، المجهولة الجميلة، تقف في الصفوف الأولى كالمعتاد… إنها شديدة الحسن، ربما تكون قد جاوزت الثلاثين من عمرها، لا يوحي شكلها بأكثر من ذلك.. ليته يتعرف إليها، ليته يعرف إسمها فقط، ليتها هي تعلم أنه لم يكن يغني الليلة إلا لها وحدها، هي دون غيرها !
من بين آلاف الفتيات الحسناوات اللاتي تعثر بهن خلال سنوات عمره السالفة، لم تلفت إنتباهه أخرى سواها، لا يعلم السر، حقاً لا يعلم.. لعله الغموض في عينيها الجميلتين، أو الثقة في إبتسامتها البسيطة، أو حضورها الهادئ دائماً
أو لعله رحيلها المفاجئ في كل مرة، قبل إنتهاء الحفل !!!
إمتقع وجهه و تجلى حزناً شديداً في عينيه و هو يلحقها بنظراته الآن، أخذت تعدو و تبتعد، حتى تلاشت تماماً.. عندها إنتابه نفس الشعور الذي يراوده كلما ذهبت بهذه الطريقة
فقد رغبته في الغناء هذه الليلة، و سرعان ما أنهى غنوته و أدار ظهره إلى جمهوره الصادح، كان مساعده ينتظره وراء الكواليس، سار خلفه حتى غرفته الخاصة و هو يقول :
-يا نجم ميرا هانم إتصلت أكتر من مرة. بتقول عايزاك ضروري ! .. و مد له الهاتف
تآفف “سفيان” و هو يخلع سترته الجلدية و يلقيها فوق أحد المقاعد بإهمال قائلاً :
-مأمون. 100 مرة أقولك مابحبش أرد على تليفونات بعد أي حفلة. رد عليها إنت شوفها عايزة إيه
مأمون: ماينفعش حضرتك. أخر مرة رديت بهدلتني و إنت عارف. هي عايزاك إنت
-إفففففف هات يا أخي ! .. و أخذ منه الهاتف
أجرى الإتصال بوالدته، و فوراً أتاه صوتها الناعم الذي لا يخلو من الغضب دوماً :
-خلصت يا باشا ؟!
سفيان بضيق: ماما. خير يا حبيبتي حصل حاجة ؟
-إنت فين يا سفيان ؟؟
-ما أنا قولتلك إن عندي حفلة إنهاردة !
-و خلصت ؟ تعالالي حالاً عايزاك
زفر “سفيان” بنفاذ صبر و قال :
-حاضر. هاخلص إللي ورايا و جايلك. باي ! .. و أغلق الخط
أعطى الهاتف للمساعد و إلتفت يطالع كومة الهدايا و باقات الزهور التي جلبها معجبيه، فتش بنظراته عن باقة معينة و هو يخاطب المساعد :
-الورد بتاع كل مرة ماجاش و لا إيه يا مأمون ؟
رد “مأمون” بإندفاع محبوراً :
-يآااه ده أنا نسيت أقول لحضرتك. إزاي أنسى حاجة زي دي.. المرة دي البوكيه عليه إسم و رقم تليفون !!
-بـجد !.. صاح “سفيان” غير مصدقاً
كان قد إستدار نحوه في أقل من ثانية، أمسك بكتفيه و أخذ يهزه قائلاً بإلحاح :
-هو فين يا مأمون فـين ؟؟!!
أشار “مأمون” بسبابته نحو باقة مخصوصة وضعت فوق طاولة الزينة… لم يكذب “سفيان” خبراً و إنطلق مسرعاً صوبها، إلتقط الكارت من بين رؤوس الزهور الناضجة
وضعه نصب عينيه و قرأ بتمتمة خفيضة ما كُتب فيه : “كنت هايل الليلة. صوتك دايماً بياخدني لعالم تاني. أنا من أشد المعجبين بيك… إذا حبيت تسمعني حاجة مخصوصة هاكون شاكرة أوي”
و مضت بأول حرفين فقط من إسمها !
عقد حاجبيه و هو يستل هاتفهه من جيبه الخلفي بأصابع مرتعشة، بالكاد إستطاع أن يضرب الأرقام من شدة إضطرابه و لهفته في آن
أصرف “مأمون” أولاً، فخرج الأخير بعد أن رشقه بنظرة خبيثة، فهو تقريباً على مشارف مغامرة جديدة من مغامراته النسائية الساخنة !!
ألقى “سفيان” بنفسه فوق الآريكة الصغيرة، ضغط زر الإتصال، ثم وضع الهاتف فوق أذنه و بقى في إنتظار الرد دون أن يكف قلبه عن الخفقان بعنف شديد …
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
ولجت “ميرا” مرة أخرى إلى قاعة الجلوس الفخمة، مشت بخيلاء و جلال كبيرين نحو تلك الفتاة اليافعة، كانت صغيرة نوعاً ما و على قدر من الجمال، و كانت تجلس في هدوء و صمت، حتى أنها لم تحاول أن ترفع وجهها لملاقاة نظرات سيدة المنزل
جلست “ميرا” أمامها واضعة ساقاً فوق ساق، بقيت صامتة لبعض الوقت، فقط تشملها بنظرات فاحصة لا تخلو من البرود… ثم إستهلت حديثها البارد :
-بقالكوا أد إيه مع بعض ؟
تطلعت الفتاة إلى “ميرا” و قالت متلعثمة :
-حـ حضرتك عارفة إننا كنا قريبين أوي من بعض من وقت طويل و آ ا …
-أنا طبعاً عارفة كل حاجة ! .. قاطعتها “ميرا” بحدة شديدة
-أنا أعرف كل حاجة تخص إبني يا حلوة. مافيش شاردة و لا واردة في حياته ماعنديش علم بيها. و سؤالي ليكي كان محدد ..
إزدردت الفتاة ريقها بتوتر و قالت :
-إحنا مع بعض بقالنا 3 شهور تقريباً !
أومأت “ميرا” قائلة :
-هممم.. يعني ممكن نقول إنك حامل في شهرين مثلاً ؟ واو. أسرع علاقة دي و لا إيه ؟ سيفو حبيبي مابيضيعش وقت. عرفك في شهر و إتصاحبتوا و هووب. في الشهر التاني كنتي حامل علطول !
الفتاة بإرتباك: آ أنا جيت أقول لحضرتك إللي حصل. إنتي مامته قبل أي حاجة و هو بيتهرب مني اليومين دو آ …
-خلاص يا حبيبتي فهمتك .. قاطعتها للمرة الثانية
رمقتها بنظرة مزدرية و قربت منها الطاولة المحاذية، فتحت صندوقاً صغيراً فوقها و أخرجت دفتر الإئتمان، فتحته و أمسكت بالقلم قائلة دون أن تنظر إليها :
-500 ألف كويس ؟ و مش عايزة أسمع عنك تاني أبداً
لمعت أعين الفتاة للحظة، قبل أن تقول بإباء متكلف :
-حضرتك فهمتيني غلط. أنا ما آ …
-مش هانقعد نتكلم في صح و غلط ! .. و هكذا أخرستها بلهجتها العنيفة
حدجتها بنظرات مخيفة و هي تقول بصرامة :
-مليون جنية. تاخديهم و تبعدي عن طريقه نهائي. و لو سمعت بس إنك حاولتي تظهري في حياته مرة تانية. صدقيني هازعل. و أنا زعلي وحش بجد !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
حل ضيق شديد على مزاج “سفيان”.. هذا الرقم الذي تركته له مجهولته الجميلة، قام بمخابرته لأكثر من عشرون مرة و لم يحصل على أي رد
أوقف سيارته أمام باحة منزله المنيف، ثم نزل و إتجه نحو الدرج المفضي للباب مهرولاً…
إصطدم في طريقه بصديقته السابقة، رمقها بنظرات مستغربة، إرتبكت الأخيرة عندما رأته و لم تطيل وقوفها، غادرت مسرعة، بينما إندفع “سفيان” للداخل
وجد أمه تقف بمنتصف الرواق، و كأنها تنتظر حضوره …
-ماما. البنت دي كانت هنا ليه ؟ كانت عايزة إيه ؟!
كتفت “ميرا” ذراعيها أمام صدرها و قالت :
-و الله المفروض أنا إللي أحقق معاك كده يا أستاذ. ثم ماتنساش إنها صاحبتك !
سفيان بغلظة: لأ مانستش. كنت مصاحبها فعلاً. فترة قصيرة و خلاص. دلوقتي ماليش علاقة بيها
-إزاي بقى يا حبيبي ؟ إزاي مالكش علاقة بيها ؟ دي بتقول إنها حامل !
صاح “سفيان” مستنكراً :
-إيه إيه إيه ! مين دي إللي حامل ؟ و من مين ؟!!!
ميرا بهدوء: قالت منك يا حبيبي
سفيان بحدة: الكلام ده ماحصلش. أنا مالمستهاش أصلاً. إنتي أي حد يقولك حاجة تصدقيه ؟!
-و هي هاتكدب ليه ؟ و بعدين فيها إيه يعني ؟ ما إنت راجل يا حبيبي و لازم يكونلك تجارب. إوعى تكون فاكرني زعلانة
سفيان منفعلاً: تاني بتقوليلي كده ؟ قولتلك ماحصلش. لو حصل كنت قولتلك هخاف منك يعني !!
إبتسمت “ميرا” بوداعة قائلة :
-و ماله لو مثلت مثلاً إنك خايف مني ؟ مش أنا أمك بردو ؟!
تآفف “سفيان” بضيق شديد و هو يشيح بوجهه عنها …
تنهدت “ميرا” و لا زالت إبتسامتها كما هي، مشت صوبه بتمهل، وضعت كفها فوق صدره، و مسحت بالكف الآخر على شعره الأسود الأملس و هي تقول بلطف :
-سفيان.. حبيبي. نفسي تفهم إنك أغلى حاجة في حياتي. و تعرف إني مش ممكن أتسبب لك في أي مضايقة. و إللي يحاول يآذيك أكله بسناني. و بعدين أمسحه مسح من على وش الأرض. أنا مش بحاسبك يا قلبي. أنا بس كنت عايزة أطمنك. مافيش أي مشاكل ممكن تواجهك طول ما أنا موجودة. أنا عيني عليك دايماً يا حبيبي
أغمض عينيه بشدة و هو يقول من بين أسنانه :
-البنت دي بتكدب عليكي. و إنتي لازم تصدقي إللي قولته. ماحصلش حاجة بيني و بينها. و أكيد كانت جاية تستفيد منك زي إللي قبلها
-حتى لو جاية تستفيد. أنا ماعنديش أغلى منك زي ما قولتلك
فتح عينيه و نظر لها بغضب قائلاً :
-أي منطق بيقول كده ؟ إنتي عندك إستعداد يتنصب عليكي عادي ؟ إحنا مش قليلين زي ما إنتي عارفة
وافقته مبتسمة: و هو كده بالظبط. مش عايزاك تقلق من حاجة. أنا بعرف أتصرف كويس
رمقها بنظرات مذهولة، لكنه قال بغير إكتراث :
-براحتك !
و هنا شعر بإهتزاز هاتفهه، قبل أن يسمع صوت النغمة المدو …
سحبه من جيب سترته و نظر في الشاشة الساطعة، إتسعت حدقتاه إثارةً مما إسترعى فضول “ميرا”، لكنها لم تشأ التدخل في شؤونه… فقط قالت حين وجدته يندفع نحو الأعلى :
-باباك راجع بكره من لندن. إعمل حسابك لو وراك أي حاجة تتـCancel
رد عليها ملوحاً بيده :
-أوكي. Goodnight !
ميرا بإبتسامة حب :
-Goodnight يا قلبي !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
صفق “سفيان” باب غرفته خلفه، ولج إلى شرفته مسرعاً و هو يرد على الإتصال قبل أن ينقطع بلحظة :
-ألـووو !.. كانت اللهفة واضحة بصوته
-هاي يا سفيان ! .. و أخيراً إستمع إلى صوتها
-Sorry ماردتش على إتصالاتك علطول
لسا واصلة البيت !
-إنتي مــين ؟؟؟ .. خرج السؤال دون تحضير
-مش شايف إنه بدري شوية على السؤال ده ؟ ده لو كنت عايزنا نتعرف و نبقى صحاب يعني !
-أكيد عايز. أكيد عايز أعرفك
-و إيه إللي مخليك مصمم على كده أوي ؟
أجفل بتوتر للحظات، ثم قال بشئ من الإضطراب :
-بقالي 3 سنين بشوفك. و الورد إللي كنتي بتبعتيه. كنت حاسس إنه منك إنتي.. أظن إنتي كمان عايزانا نتعرف !
هدرت ضحكتها الرقيقة عبر سماعة الهاتف، فدغدغت حاسته السمعية، لتكمل بعد برهة بصوتها الرقيق :
-يبقى أنا ماكدبتش لما قلت عليك إحساسك عالي أوي. بس خلي بالك. أنا خلاص مش هاحضرلك أي حفلات تاني
سفيان بوجوم شديد :
-ليه كده ؟ حصل حاجة ضايقتك الليلة ؟!
-لأ بس أنا و إنت بنتكلم. و لا إنت مش عايز تكلمني ؟
-لأ طبعاً عايز !.. و ندم قليلاً على هذا التسرع، فقال :
-طيب أنا ممكن أقابلك ؟
-تؤتؤتؤ يا نجم. مش ممكن نتقابل دلوقتي خالص
-ليه ؟
-لازم نتعرف الأول على الأقل
-ما ده ممكن يحصل لما نشوف بعض و هايكون أحسن
-تؤ. ده شرطي. و آسفة مش هقدر أطول معاك معاد نومي جه و عندي شغل الصبح بدري
قال بإسراع: إستني طيب قبل ما تقفلي. ممكن سؤال ؟!
-إتفضل !
-إسمك إيه ؟؟
ساد صمت لما يقرب الدقيقة، قبل أن تقول بهمس مغرٍ :
-إسمي يارا !!!……………….. !!!!!!!!!!!!!
يتبع….
الفصل الثاني
_ لقاء ! _
كانت “ميرا” في إستقبال زوجها، عندما عاد من سفره صباح باكر… أمرت الخدم بنقل حقائبه لأعلى، ثم إلتفتت لتعانقه قائلة برقة :
-عمرو ! حمدلله على سلامتك يا حبيبي. وحشتني أوي
رد “عمرو” بفتور و هو يحاوط خصرها النحيل بذراعه :
-الله يسلمك يا حبيبتي. إنتي وحشتيني أكتر !
كان كلاهما يعلم أن تلك الكلمات يتبادلاها على سبيل المجاملة فقط، لم يشعر طرفٍ منهما تجاه الآخر بأي شيء خلال سنوات زواجهما على الإطلاق، لم يكن هناك سوى البرود و الجفاف في هذه العلاقة، و مع ذلك لم يجسرا على إنهائها.. فالأمر لا يتعلق بهما فقط، هناك أمور يدركا مدى أهمية الإبقاء عليها، هذا هو التفاهم الوحيد بينهما !!
-طنط و أنكل كويسين ؟ .. سألته و هي ترتد عنه قليلاً لتتمكن من النظر إليه
إبتسم بتكلف و هو يرد بكلمات مقتضبة :
-كويسين الحمدلله و بيسلموا عليكي أوي
-I hope تكون رحلتك تمت زي ما إنت عايز !
-Everything is fine ماتقلقيش
و الشغل كله مشي تمام
-طيب Good. دي أخبار هايلة !
ثم تطرقت بتردد للسؤال المترقب :
-المهم قولي.. قابلته ؟
أومأ “عمرو” قائلاً :
-أيوه يا حبيبتي. قابلته طبعاً !
إزدردت لعابها قبل أن تقول بتوتر :
-طيب.. هو عامل إيه ؟ كويس ؟ ما سألش عليا ؟!!!
-أولاً هو تمام و صحته زي الفل. ثانياً إنتي أول حاجة بيبدأ بيها أي كلام معايا. تقريباً مابيتكلمش غير عنك
أفلتت ضحكة صغيرة من بين شفاهها و سرعان ما تجمعت الدموع بعينيها الرماديتين، تتهدت و هي تضم قبضتها إلى صدرها متمتمة بحنين :
-وحشني أوي. نفسي أشوفه !
-الصبر يا حبيبتي. و بعدين إنتي كنتي لسا معاه من سنة. مش مدة طويلة دي. مش عايزين Junior ( الإبن ) سفيان.. يحس بأي حاجة. أكيد إنتي فاكرة الـRules ( التعليمات ) !
وافقته بإيماءة قصيرة و دموعها تسيل ببطء فوق خديها …
إبتسم “عمرو” لها، وضع يده فوق مؤخرة رأسها، قربها منه و طبع قبلة فوق جبهتها، ثم ضمها إلى صدره قائلاً بصوته الهادئ :
-هو عارف مصلحتنا. و عارف بيتصرف إزاي. إطمني يا حبيبتي.. أكيد هايجي يوم و ينتهي الفراق ده. ده كان وعده !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
قامت “يارا” من فراشها ساعة الظهيرة، لم تذهب إلى العمل كما إدّعت أمس و هي تهاتف هدفها الساذج، نعم هو هكذا تماماً في نظرها.. مجرد ولد، ساذج !
سارت بتكاسل للخارج، إصطدمت بإبنتها الصغرى ذات الستة عشر سنة… “يسرا” الأكثر جمالاً و دلالاً عندها
إبتسمت “يارا” مرفرفة بأجفانها الناعسة و هي تقول :
-يسرا مش معقول ! إيه إللي قومك من سريرك يا حبيبتي ؟ ده إنتي يومك يادوب بيبدأ بعد العصر يا قلبي !!
عبست “يسرا” من دعابة أمها المزعجة، لكنها ما لبثت أن إبتسمت هي الأخرى، ثم قالت برقتها المتكلفة :
-مامي. أنا علطول بصحى بدري على فكرة
قهقهت “يارا” قائلة :
-طبعاً يا حبيبتي. إنتي هاتقوليلي. معلش أنا ساعات بظلمك.. و أكملت بتساؤل :
-أومال أختك فين ؟ دي بقى إللي تخصص صحيان بدري. الفالحة الوحيدة في البيت ده
زمت “يسرا” شفتاها و قالت مغالبة ضيقها :
-يمنى مش هنا يا مامي. خرجت من شوية
يارا بإهتمام : راحت فين ؟!
-راحت لتيتة ميرڤت
-إشمعنا ! مش كانت عندها من يومين ؟
-ما أصل إنهاردة ذكرى وفاة بابي الخامسة. إنتي عارفة إن هما الإتنين متعودين يروحوا يزروه
و هنا كسا الوجوم وجه “يارا”… لم تعلق على كلام إبنتها بعد ذلك، إنما قالت و هي تتجاوزها لتهبط الدرج :
-طيب أنا هانزل ألف شوية في الـPool.. خلي هيلجا تعملي القهوة بتاعتي و تجبهالي على هناك
-أوكي يا مامي !.. تمتمت “يسرا” بلهجة هامسة
و ظلت واقفة كما هي تراقب ذهاب “يارا”، لم تستغرب ردة فعلها هذه المرة، فقد ألفتها أريعة مرات من قبل، ريما يخالجها بعض الشعور بالذنب إزاء تلك المسألة الحساسة
لكن في الحقيقة هي نفسها لا تهتم، فمهما سمعت عن والدها أو تذكرت بضعة مواقف مرت جمعتها به، في النهاية لا تنتمي إلا لوالدتها، ولائها و حبها لها وحدها !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
جلس “سفيان” جلسته الصباحية المعتادة بغرفة نومه، هنا فوق آريكته الصغيرة.. حمل جيتاره الثمين و أخذ يداعب الأوتار بأصابع ماهرة
رغم شروده و نظره الذي لم يفارق الهاتف الساكن أمامه فوق الطاولة، كانت النغمات الجميلة تتصاعد و تنتشر في كافة أنحاء الغرفة… و لكن ياللبؤس !
هل سيظل جالساً هكذا طيلة النهار ؟ تلك الحورية الفاتنة التي تعرف عليها أخيراً، لقد نبهت عليه بألا يتصل قبل أن تغلق معه ليلة الأمس، لكنها أيضاً وعدته بأنها سوف تهاتفه في الصباح، و ها هي ساعات الصباح تمضي دون أن تفي بوعدها !!!
تآفف “سفيان” بضيق و دفع بالجيتار بعيداً، كاد يقوم من مكانه ليبدل ملابسه أو يشغل نفسه بأي شيء ريثما يأتي إتصالها.. إلا إنه سمع نقرتين على باب غرفته، عرف فوراً لمن تلك الأنامل المميزة
صاح و هو يستقر مجدداً بمكانه :
-إدخل !
صدق حدسه و ولجت “ميرا” في اللحظة التالية، يا لها من إمرأة جميلة هي الأخرى.. كم عمرها الآن ؟ لقد تجاوزت عامها الثامن و الثلاثون منذ أشهر قليلة، و لا تزال كالزهرة الربيعية الناضجة… إنها رائعة دائماً، لولا هذا العبوس الذي لا يزول عن وجهها إلا لماماً !!
-صباح الخير يا حبيبي ! .. قالتها “ميرا” بلهجة ناعمة لم تخدعه
سفيان بإبتسامة : صباح النور يا ماما. أكيد جاية تتأكدي إني قاعد ماخرجتش.. ماتقلقيش أنا سمعتك كويس إمبارح
ميرا و قد إحتدت نبراتها الآن :
-طيب لما إنت سمعتني مانزلتش ليه على الفطار ؟ أنا مش قولتلك باباك راجع إنهاردة ؟!
سفيان ببراءة : قولتيلي بس ماقولتيش راجع إمتى بالظبط !
ميرا بحزم : طيب قوم خد شاور من فضلك و حصلني. مش معقول تبقى بالبرود ده و باباك غايب بقاله شهر.. عايزاك تكون قدامي في 5 Minutes سامعني ؟
أدار عيناه قائلاً بضجر :
-أوك. و في أقل من كده كمان. أنا تحت أمرك
لم تطيل “ميرا” معه أكثر و سرعان ما تركته و ولّت خارجة …
قام “سفيان” بعد أن أغلقت الباب خلفها، مضى صوب خزانته و شرع بإخراج بعض الملابس، حين دق هاتفه فجأة
قفز عائداً إليه، تناوله مسرعاً و رد بتلهف واضح :
-ألـو ! .. و كان يعلم أنها هي، قبل حتى أن ترد
-ده إيه السرعة دي ؟ إنت لسا قاعد زي ما إنت من إمبارح و لا إيه ؟!
و دغدغت أذنه بضحكتها المغناجة مرةً أخرى …
-على فكرة كده مش نافع ! .. قالها “سفيان” بصوت أجش
ردت بنعومة خبيثة :
-هو إيه ده إللي مش نافع ؟!!
سفيان بغضب : ماتلعبيش بأعصابي لو سمحتي. أنا عايز أشوفك. و لازم أشوفك. و إلا تبعدي عني نهائي. إنما شغل الأفلام ده مابحبوش
-يعني إنت لما تشوفني هاتعمل إيه ؟
-إيه إللي هاعمل إيه ؟ هاتعرف عليكي أكتر طبعاً
-و بعدين !
عبس حائراً و قال :
-مش فاهم. عايزة توصلي لإيه ؟ على فكرة إنتي إللي بتطارديني. بقالك 3 سنين ورايا في كل حتة. إنتي مين ؟؟!!
صمت قصير… ثم قالت بهدوء :
-إنهاردة في مطعم “…….”.. هاكون هناك الساعة 8. ما تتأخرش !
و أغلقت
جمد “سفيان” عن الحركة للحظات، نظر في شاشة الهاتف المضاءة بعدم تصديق… و فجأة علت إبتسامته و تمتم :
-هاقابلها إنهاردة ! ……… !!!!!!!!!
يتبـــع ….
الفصل الثالث
_ مبادئ ! _
وقفت في الإنتظار، بعد أن دقت جرس الباب، و بالفعل كان يغمرها الشعور بالحنين و الشوق لهذا البيت، حيث أنها نشأت هنا، و كبرت، و قضت أسعد فترات حياتها، هنا تشتم عبق ذكرياتها الجميلة الطيبة، قبل أن يدنسها العالم.. و يحيل قلبها إلى قطعة من صخر !
و فُتح الباب في هذه اللحظة …
-ماما ! .. قالتها “يمنى” الإبنة الثانية لـ”يارا”، و توأم شقيقتها “يسرا”
-آ أهلاً بحضرتك. إنتي أكيد جاية عشاني صح ؟ ماكنش في داعي تتعبي نفسك و تيجي تاخديني أنا كنت هاتغدا مع تيتة و أروح علطول
كانت تتحدث بإرتباك واضح، بينما ترمقها “يارا” بنظراتها الفاترة، و سرعان ما تجاوزتها و مرت للداخل و هي تقول بلهجة تنم عن سخرية :
-أولاً أنا ماجتش عشانك يا قطتي. ثانياً إنتي فاكرة إن البيت بيتك يعني و واقفة تحققي معايا على الباب ؟ ده كان بيتي قبلك على فكرة !
-و بيتي أنا قبل ما عينك تشوف النور يا ست هانم !
جمد صوت “ميرڤيت” كل شيء للحظات، إلتفتت “يارا” نحو مصدر الصوت، لتجد أمها العجوز، تجلس هنا بحجرة المعيشة أمام طاولة الغداء، كانت تجلس فوق الكرسي المتحرك بالطبع
لوهلة إهتزت دفاعاتها، و إنتابتها رغبة قوية في الإنطلاق صوب أمها و الإرتماء بين ذراعيها ثم البكاء حتى تجف عينيها… لكن ليت الأمر بهذه البساطة، ليته بيدها
فرغم كل شيء، هي قد وعدت نفسها بأنها لن تضعف أبداً، مهما حدث لها، لن تسمح للتخاذل بالتمكن منها، و لو رأت الموت أمامها… ستظل قوية و متجبرة حتى النهاية !
-إيه إللي جابك ؟ إنتي رجلك خدت على هنا. أنا مش قولتلك مش عايزة أشوف وشك تاني ؟!!
تجاهلت “يارا” حديث أمها الحاد، خاطبت إبنتها بحزم دون أن تحيد عن “ميرڤت” :
-يمنى. إدخلي جوا شوية. عايزة أتكلم مع جدتك لوحدنا
-مافيش كلام بينا يا هانم. و إتفضلي منغير مطرود
-يمنى ! .. كررت “يارا” بهدوء حازم
و في الأخير إضطرت الفتاة للإذعان لأمر أمها، رمقت جدتها بنظرة إعتذار و فرت نحو الداخل، حيث غرفتها المخصوصة و التي كانت بيوم من الأيام تخص أمها …
-يعني لازم أرجعلك جثة عشان تسامحيني و ترضي عني ؟!
تساءلت “يارا” و هي تجلس مقابل والدتها ثابتة على موقفها القوي.. تطلعت “ميرڤت” إليها، عبست قائلة بقساوة :
-ياريت كنتي رجعتي جثة من زمان. أحسن ما كان يجي عليكي اليوم إللي تبقي فيه مجرمة و قاتلة !
-أنا كنت باخد حقــي ! .. صاحت “يارا” بإنفعال شديد
و هكذا تملك منها الغضب فجأة رغم أنها لم تكن تود ذلك… صوّبت نحو أمها نظراتها المحتقنة و هي تستطرد بصوت خشن :
-شكلك نسيتي أنا إتعمل فيا إيه.. نسيتي إنك أول واحدة رمتيني في النار. بعتيني و كل ده عشان الفلوس. و في الأخر كسبنا إيه ؟!!!
ميرڤت بغضب : إخرسي يابت إنتي. من دي إللي باعتك ؟ هو كل أم تدور على مصلحة بنتها تبقى باعتها ؟؟!!
يارا بتهكم لاذع :
-و كانت مصلحة زي الفل. إتجوزت سفاح. قتل عمه و إخواته. و لما مات بقدرة قادر يختفي كل دليل يثبت إني كنت متجوزاه. حتى عمي إللي شهد على جوازنا بنته إشترته بالفلوس و خلته ينفي حكاية جوازي منه بمنتهى البرود و الوقاحة. حتى إبني الحاجة الوحيدة إللي كنت حاطة عليها كل أملي.. راح. كلكوا بعتوني. و دلوقتي جاية تحاسبيني ؟ على إيـه ؟؟؟
و هنا صمتت “ميرڤت”.. بعد أن نجحت “يارا” في إخماد ثورة هجومها، و هذا ما ظنته “يارا”، أنها لن تبادر لمهاجمتها مرةً أخرى، لكن خاب ظنها عندما قالت الأم محدقة فيها بنظرات حادة :
-و جوزك أبو بناتك.. ذنبه إيه ؟ غدرتي بيه و ظلمتيه ليه ؟ ده ماعملش فيكي حاجة وحشة. كان منى عينه يسعدك و يعيشك في هنا طول عمرك. ده جزاؤه ؟
يارا بغلظة : رؤوف موته كان طبيعي. أنا ماليش يد فيه. ماينفعش تقولي عليا قاتلة بسبب حاجة مش بإيدي !
ميرڤت بإستنكار : تسرقي فلوسه و أملاكه و تطرديه من بيته و تخلعيه.. و جاية تقولي مالكيش يد في موته ؟ الراجل إتشرد و مات بحسرته. و كل ده بسببك. إنتي السبب يا يارا. سامعة ؟ إنتي السبب
-خلاص بقـى !! .. هتفت بعصبية
-قولتلك ده قدره. محدش بيموت ناقص عمر
رمقتها “ميرڤت” بنظرة مشفقة، لتقول “يارا” بنفاذ صبر و هي تقوم ممسكة بحقيبة يدها :
-ماما.. أنا عملت إللي عليا و جيتلك للمرة الألف. خليكي فاكرة بس إنك في كل مرة كنتي بتقفلي بابك في وشي. سلام !
و إستدارت مغادرة
-ربنا يهديكي يابنتي ! .. تمتمت “ميرڤت” بخفوت و هي تراقب رحيلها
ما أن سمعت باب الشقة و قد أُغلق، حتى سمحت لدموعها الحبيسة بالإنهمار.. دموع الحزن و الحسرة على إبنتها الوحيدة، متى تعود إليها ؟ هل يأتي اليوم و تعود “يارا” الحقيقية ؟ إنها تحيا على هذا الأمل ….
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
فرغ “سفيان” أخيراً من توقيع الإهداءات العديدة للمعجبين، تنفس الصعداء حين إبتعدوا جميعاً عنه، أشار للحراسة خاصته بالإبتعاد قليلاً هم أيضاً
و الآن يستطيع أن يسترخي لبعض الوقت حتى تصل تلك الفاتنة الرقيقة …
شرع بإحتساء فنجان قهوته الذي نهلت منه بعض البرودة، لكن لا بأس لو إرتشف القليل منه، نظر في ساعة يده من جديد ثم نظر بالصدفة تجاه باب المطعم الفخم
كادت القهوة تنسكب على ملابسه و يده، فها هو يراها تلج عبر الباب الضخم في كامل أناقتها.. بصعوبة إستطاع تفادي حادث الإنسكاب هذا، وضع القهوة مكانها فوق الطاولة و قام ليستقبلها
.لم يحيد عنها للحظة، كان يشملها كلها بنظرات فاحصة متلهفة، رباه !
ما هذا الجمال الذي تتمتع به تلك المخلوقة الرائعة !!
و ما هذا الرداء الجميل الذي يصف و يشف روعة قوامها… رغم جرآة ما ترتديه إلا أنها بدت في غاية البراءة، رغم حدة زينتها و خاصةً طلاء شفاهها الناري، إلا أنها لا تزال رقيقة، كزهرة ربيع في طور التبرعم !
-أهلاً أهلاً. أخيراً جيتي ! .. قالها “سفيان” و هو يقبل عليها مبتسماً
يارا و هي ترد له الإبتسامة :
-مساء الخير يا سفيان. إزيك ؟!
-بقيت كويس جداً لما شوفتك .. و أخذ يدها و رفعها لفمه حتى يقبلها
يارا بصوتها الرقيق :
-ميرسي. You’re so kind !
رمقها بنظرة شغوفة، و مضى ليسحب لها الكرسي لتجلس :
-إتفضلي إقعدي !
جلست “يارا” و هي تشكره ثانيةً، و جلس بدوره أمامها و هو يقول متذمراً :
-أنا جيت في معادي بالظبط. بس إنتي إللي إتأخرتي شوية
إبتسمت “يارا” و ردت بلهجتها المغناجة التي أذابته منذ الوهلة الأولى لسماع صوتها :
-آسفة و الله يا سفيان. الطريق كان زحمة أوي في وسط البلد. لحد ما أقدرت أوصل كان فات كتير. و أنا قلت أجيبك في مكان محدش يضايقك فيه. ما أنا عارفة إنك Star مشهور و كده !
سفيان عابساً : هو من ناحية المضايقة خلاص حصلت. أنا سلمت على كل الموجودين حوالينا تقريباً حتى صاحب المكان جه يسلم عليا و يتصور معايا.. ثم قال بإبتسامة :
-بس خلاص طالما جيتي في الأخر يبقى كله يهون عشانك
-Thank you بجد
-تشربي إيه بقى ؟ و لا أطلب العشا الأول ؟
-لأ يا حبيبي أنا مابتعشاش. ممكن أي Fresh Juice بس
إزدرد “سفيان” لعابه بتوتر و هو يتابع حركة شفاهها المرنة و رفرفة أجفانها المثيرة، تفاصيل تقتله في الصميم، و بالكاد إستطاع إستدعاء النادل و أملا عليه طلباتهما …
عاد يركز معها مرةً أخرى، وجد لسانه ينطق من تلقاء حاله :
-مش هاتقوليلي بقى إنتي عايزة مني إيه ؟!
يارا بهدوء رصين :
-إنت إللي عاوز يا نجم. مش أنا
سفيان بدهشة : أنا !!
أومأت له : آه.. أنا لحد إمبارح كنت مجرد معجبة عادية زي كل معجباتك. غصبتك تتصل بيا ؟
-لأ !
-جبتك تقابلني بالعافية ؟ و لا إنت إللي طلبت ؟!
-أنا إللي طلبت.. بس إنتي …
-أنا إيه !
عثر “سفيان” على كلماته بصعوبة و قال :
-إنتي ذكية. دلوقتي بترمي الكرة في ملعبي بعد ما نجحتي في لفت نظري ليكي. عايزاني أقولك إيه دلوقتي ؟؟!!
هزت كتفيها قائلة :
-قول إللي إنت عايزه طبعاً. قول إللي إنت حاسس بيه.. إنت حاسس بإيه دلوقتي يا سفيان ؟
أجابها بدون تفكير :
-أنا كمان معجب بيكي. من فترة كبيرة. يمكن من أول مرة شوفتك فيها. حاجة فيكي شدتني مش عارف إيه هي !!
إبتسمت مجدداً و هي تقول :
-حلو. أدينا متفقين على حاجة.. بس تفتكر أخر الإعجاب ده إيه ؟!
عبس حائراً : مش فاهم !!
و هنا جاء النادل، وضع المشروبات الطازجة أمامهما و رحل سريعاً… لتخاطبه “يارا” الآن على نحو جدي تماماً :
-بص يا نجم. أنا ست حرة آه. مستقلة بنفسي و محدش واصي عليا. بس في نفس الوقت عندي مبادئ مش ممكن أغيرها
-و إيه إللي ممكن يغيرها من ناحيتي يعني ؟
قالت بصراحة أكثر :
-أنا مش برافق حد. لا عمري عملتها و لا عمري هاعملها. و لو حقيقي إنت معجب بيا و عايزني معاك بإستمرار فلازم ده يحصل في شكل رسمي
-رسمي إزاي ؟ أكتر من كده ؟ ما إحنا مع بعض أهو قدام كل الناس
يارا بجمود : مش هانستمر على الوضع. لو عايزني معاك علطول كده مش هاينفع. أنا كمان واحدة معروفة و ليا سمعتي
إزدادت حيرته بالفعل، فسألها بجدية :
-طيب أنا ممكن أعمل إيه ؟ أنا مش في نيتي أبعد عنك. زي ما قولتلك أنا فعلاً معجب بيكي جداً و عايز أقرب منك أكتر و أتعرف عليكي أكتر
عادت البسمة إلى وجهها من جديد و قالت :
-يبقى مافيش غير حل واحد عشان أسمحلك بكل ده !
سفيان بتلهف : إيه هو ؟!
صمتت لبرهة، ثم قالت :
-نتجوز !
-نتجوز ! .. لم يقلها على سبيل المفاجأة، بل قالها بصيغة الموافقة
رفعت حاجبيها قائلة بدهشة :
-معقول وافقت بالسرعة دي ؟ مش عايز تسأل عني الأول و لا تاخد رأي أهلك حتى ؟!!
سفيان بجدية : أنا مش عايز غيرك إنتي. مش عارف إنتي عملتيلي إيه بس كل إللي أعرفه إني مستعد أعمل كتير عشان إبقى جمبك. مش هبالغ لو قولتلك إني يمكن أكون حبيتك يا يارا !
-معقولة ! حبتني بالسهولة دي ؟ ده إنت ماتعرفش عني إلا إسمي بس. سني حتى ماتعرفوش.. و أكملت بمكر :
-يمكن لو عرفته تغير رأيك !
-لا طبعاً مش هاتوصل لكده. أنا عارف إني جمبك أبان صغير شوية. بس ده لأني فعلاً صغير. أنا ماكملتش 24 سنة. لكن إنتي بردو جميلة جداً. و جمالك يديكي كذا عمر. وشك مش محدد سنك أبداً
-طيب و إنت ؟ تديني كام سنة يعني ؟! .. تمتمت مبتسمة و هي تميل صوبه بدلال
قبض “سفيان” على حافة الطاولة بيداه و هو يتآمل جمالها الآخاذ بنظرات إعجاب واضحة، ثم قال بصوت أكثر توتراً :
-مجرد تخمين.. مش أكتر من 32 سنة. و أنا آسف لو طلعت غلط إنتي شكلك صغيرة أصلاً !
و حبس أنفاسه حين إنفجرت ضاحكة بقوة، إرتبك و هو يتطلع حوله ليرى رواد المطعم جميعاً ينظرون نحوهم… نظر لها مجدداً
فكفت عن الضحك بصعوبة و هي تقول :
-الله يحفظك يابني و الله.. معلش هاخيب ظنك بقى. الشهر إللي فات تميت 48 سنة
و عادت للضحك، بينما جمد هو من الصدمة… بذهلت جهد كبير لتهدئة نفسها، ثم نظرت إليه قائلة بإبتسامة عريضة :
-أنا مقدرة شعورك دلوقتي. عشان كده مش بطلب منك أي رد. و لو ماردتش خالص. مش هاكون زعلانة أبداً. كفاية إني شوفتك و إتكلمت معاك !
نظر لها عاجزاً عن الكلام، فأردفت و هي تقوم مستعدة للرحيل :
-كانت فرصة سعيدة أوي يا نجم. و هاتفضل My Best Idol . على فكرة.. و غمزت له
ثم رحلت
إنما بقى هو بمكانه، لم يتحرك أبداً، و لا يزال تحت تأثير الصدمة ……. !!!!!!!!!!!!
يتبـــع …
الفصل الرابع
_ خبر ! _
مر يومان على الموعد الأول لهما، و ها هي “يارا” تجلس بمعمل عطورها الخاص في كامل إسترخائها.. تصنع قنينة جديدة مستخلصة من عدة نباتات و زيوت و بعض الأخشاب المستخرجة من الغابات الإستوائية _ الصندوق العالمي للطبيعة _ و لم يبقى كثيراً على إنتهاء التجربة، بإمكانها أن تستعين بإبنتها في تقييمها قبل أن ترحل
إبنتها المدللة “يسرا” ذات الوجه الفاتن، تجلس أمامها الآن، لا تنفك عن محاولات إقناعها بأمر عاجل جديد يخصها …
-مامـي بليززززز هو إسبوع واحد بس !
كم تكره “يارا” الإلحاح، و خاصة بهذه الطريقة التي تعتمدها إبنتها كلما أرادت شيئاً، و رغم الجدال المعتاد و المماطلة، تحصل على بغيتها دائماً …
-قلت لأ يعني لأ يا يسرا ! .. هتفت “يارا” بعناد و إلتفتت لتحضر إحدى القوارير المعنونة
يسرا بمزيد من التوسل :
-يا مامي عشان خاطري. أنا بقالي 3 شهور مش بخرج من البيت. بروح المدرسة و بس. محتاجة أغير جو بليزز وافقي بقى
تنهدت “يارا” بسأم قائلة :
-إنتي كل مرة تيجي تعمليلي الشويتين دول.. حبيبتي 100 مرة قولتلك أنا ببقى خايفة عليكي. عمري ما أكون مطمنة أبداً و إنتي بعيد عني الفترة دي كلها
-يا حبيبتي ماتقلقيش ما أنا هاكلمك كل يوم. و بعدين أنا مش هاكون لوحدي في مسؤولين و مشرفين على الرحلة. بليزززززز بقى يا مامي قولي آه !!
تآففت “يارا” و قالت بنفاذ صبر :
-خلاص يا يسرا. روحي !
-Yes Yes Yes !
صاحت “يسرا” قافزة بمرح كبير، لتحذرها “يارا” بجدية صارمة :
-بس خلي بالك. دي أخر مرة هاسمحلك بالسفر لوحدك. أنا وافقت المرة دي بس عشان الإجازة إللي فاتت كنت مشغولة فعلاً و ماعرفتش أظبط فسحة لينا كلنا. فخليكي فاكرة إن الموضوع ده مش هايتكرر
إنحنت “يسرا” لتقبلها بقوة مغمغمة :
-ماشي كلامك ياست الستات .. و أخذت تعانقها بشدة
ضحكت “يارا” و هي تقول :
-طيب خلاص. خلاص بقى يابنتي هاتكسريلي المعمل ! .. و أحاطت صف العينات بإحتراس
و هنا دق الباب، فدلفت فتاة ترتدي الزي الرسمي للمكان …
-Mr’s يارا !
سفيان.. سفيان عز الدين وصل حضرتك !!
أخبرتها الفتاة بذلك و فكها يكاد يصل للأرض من الذهول
لم تكن سيدتها تكذب عندما أخبرتها أنه سيأتي ليقابلها، ها قد آتى بالفعل !!!
عبست “يسرا” مستغربة، بينما ردت “يارا” مبتسمة :
-أوكي يا رانيا. دخليه دلوقتي من فضلك
أومأت الفتاة و عادت من حيث أتت دون أن تضيف كلمة.. تلتفت “يسرا” إلى والدتها متسائلة :
-مامي مين سفيان عز الدين ؟ بليز ماتقوليش إنه المغني المشهور !
آيدت “يارا” تخمين إبنتها :
-أيوه حبيبتي. هو
شهقت “يسرا” مشدوهة و قالت :
-OMG ! إنتي تعرفيه يا مامي ؟ و بيجيلك هنا عادي ؟ طيب ماقولتيش ليه ده أنا هموت و أخد صورة معاه
-بنت ! .. قالتها “يارا” بلهجة زاجرة
-إحترمي نفسك و يلا قومي روّحي أو شوفي وراكي إيه. المهم تمشي من هنا حالاً إنتي معطلاني !
و لم تكد “يسرا” ترد، حتى جاء الصوت الهادئ الجميل الذي عشقته ملايين الآذان …
-صباح الخير !
نظرتا الإثنتين نحوه في الحال، كان يقف عند عتبة الباب، أنيقاً جميلاً كعادته
جحظت أعين “يسرا” و قد هالتها المفاجأة كلياً، إنه هو، حقاً هو.. نجمها المفضل، فارس أحلامها و أحلام جميع فتيات عمرها
تساءلت كثيراً في تلك اللحظات أهذا حلم أم واقع ؟ و لو حلم فهي تخشى لو أغمضت عيناها للحظة أن يختفي، و هي لا تريده أن يختفي، ذلك الشاب الوسيم صاحب البشرة الخمرية الصافية، و العيون الملونة، و البنية الرياضية السليمة… رباه كم هو مثالي، مثالي جداً، في كل شيء !
-أهلاً أهلاً يا نجم !
أفاقت “يسرا” على صوت أمها، نظرت فوجدتها تنهض من مكانها مخصوص لتذهب إليه و تستقبله …
-نورتني و الله الـGallery نور بجد .. قالتها “يارا” بإبتسامتها الرقيقة و هي تمد يدها لتصافحه
رد “سفيان” عليها و هو يقبض على كفها الغليظ الناعم بأصابع متلهفة كأنه يعانقه :
-بنورك يا هانم. متشكر أوي ! .. و لم يتوقف عن رمقها بنظراته الشمولية الوالهة
تنحنحت “يارا” محاولة سحب كفها من يده و هي تقول :
-أستاذ سفيان. أحب أقدملك بنتي الصغيرة. يسرا رؤوف الزيني !
و بصعوبة أزاح “سفيان” ناظريه عنها، كانت “يسرا” قد أصبحت على مقربة منهما الآن، ما أن أشارت لها أمها حتى إقتربت أكثر و هي تسارع بإلقاء التحية على الضيف الخاص :
-أنا بقى مش محتاجة أتعرف عليك إنت Super Star أصلاً
إبتسم “سفيان” قائلاً :
-Thanks يسرا. Nice to meet you !
يسرا بإبتسامة عريضة :
-ده أنا إللي مش مصدقة إني واقفة قدامك كده و الله !
هو أنا ممكن أخد صورة معاك ؟!
سفيان برحابة : Sure !
و رقص قلبها من الفرحة، فأخرجت هاتفها من الحقيبة بسرعة و إتخذت وضعية مميزة بجواره، و إن كانت فضلت الإلتصاق به حتى يتبين صدق الصورة.. و مع العد العكسي، إلتقطت صورتها معه و سمعت أمها تقول :
-خلاص بقى يا يسرا. لازم تمشي دلوقتي حبيبتي أنا عندي شغل
أومأت “يسرا” دون أن تحيد عن “سفيان” و قالت و هي تستعد للذهاب :
-أوكي مامي. هامشي.. بس أكيد هاشوفك تاني يا سفيان صح ؟
سفيان بإبتسامة : أكيد !
و صافحته مودعة :
-باي !
-باي !
و رحلت أخيراً …
-إيه إللي جابك يابني ؟ إحنا مش كنا خلصنا كل حاجة أخر مرة ؟! .. هكذا وجهت “يارا” سؤالها إليه و هي تمضي عائدة إلى عملها
تبعها “سفيان” قائلاً :
-إيه يابني دي إللي بتقوليها ؟ دي تاني مرة أسمعها منك على فكرة ! .. كان إنزعاجاً واضحاً في نبرة صوته
يارا و هي تضحك :
-خلاص إنت زعلت و لا إيه ؟ أنا ماقصدش. دي كلمة بتطلع بحكم فرق السن إللي بينا بس
سفيان بجدية : مافيش أي فرق بينا يا يارا. أنا مش شايف أي حاجة قدامي غيرك. فاهماني ؟
أدارت وجهها نحوه قائلة :
-إنت عايز إيه بالظبط يا سفيان ؟!
و كتمت شهقة، عندما رأته يركع على قدمه في لحظة و هو يقول فاتحاً ذراعيه :
-أنا بحبك ! .. و كان يبتسم
قهقهت “يارا” بقوة و هي تقول :
-إنت مجنون. و الله مجنون
-مجنون بيكي ! .. أجابها و هو يقف على قدميه ثانيةً
-مش مصدقاك بجد. طب حبيت فيا إيه يعني ؟!!
-و الله لو إنتي مش مقدرة قيمة نفسك. أنا بقى مقدرك كويس أوي .. و إلتقط زهرة من فوق الطاولة التي أمامها
إشتمها للحظة ثم وضعها خلف أذنها مكملاً :
-بس حلو أوي المكان ده. أنا كنت فاكرك بيزنس وومن بس !
يارا و هي تزيل الزهرة بلهجة معاندة :
-دي هواية كانت عندي من زمان. أنا طول عمري بحب الروايح و كان نفسي دايماً أصنعها بنفسي .. و أردفت بجدية :
-المهم ماتتهربش من الكلام. إنت عارف كويس إن إحنا مش نافعين لبعض. و أنا مش عيّلة من سنك يابني !
سفيان بغضب : تاني يابني ؟ من فضلك مش عايز أسمع الكلمة دي تاني. أنا مش إبنك. و مش زي إبنك. أنا راجل عادي زي أي راجل ممكن تقابليه. و لا إنتي مش شايفاني راجل ؟!!
إبتسمت “يارا” و صمت لبرهة تشمله بنظرات خبيثة، إن الخطة تسير بالضبط كما أرادت، بل و أسرع و أدق مما توقعت …
-بالعكس يا سفيان. أنا شايفاك راجل أووي !
دغدغ إطرائها مسامعه و جعل صدره يخفق بتوتر… حتى سمعها تستطرد :
-بس بردو لازم أعرف. إنت في إيدك إيه تعمله ؟ و هاتقدر تواجه أهلك و المجتمع بيا إزاي ؟ إنت بالشكل ده ممكن تخسر جمهورك و الناس إللي بيحبوك. و أولهم عيلتك !!
أطبق على يدها فجأة قائلاً :
-مالكيش دعوة بكل ده. أنا هاتصرف. أهم حاجة أسمع ردك بس !
قطبت “يارا” بحزن متكلف و قالت :
-إنت ليه مش قادر تفهمني ؟ إحنا ممكن نبقى أصدقاء. مش هاينفع أكتر من كده. أنا كبيرة عليك أوي يا سفيان و أديك شوفت بنتي ما شاء الله عاملة إزاي. قريبة منك في السن
سفيان بإلحاح : أنا مايهمنيش كل ده. أنا عايزك أنتي. أنا بحبك. و الله بحبك. من أول مرة شوفتك حبيتك و الله. و جمهوري ده مش هايغنيني عن حبك. حتى أهلي. مش هاسمح لأي حد يقف في طريقي ليكي. أنا أقدر أعيش لوحدي و أقدر أعتمد على نفسي. أنا عندي حاجات كتير أوي. بس مش مبسوط. لما كنت بشوفك بس كنت بتبسط. أرجوكي إديني فرصة !
تصرفت “يارا” بتظاهر متقن، تنهدت بثقل و أشاحت بوجهها للجهة الأخرى، إلتوى فمها بإبتسامة شيطانية لم تظهر في صوتها و هي تقول بلهجة تزخر بالآسى :
-هاتفضل تضغط عليا كتير.. عايزني أضعف و أقولهالك. أنا فعلاً مش هقدر أخبيها أكتر من كده. أنا بحبك. بحبك أوي يا سفيان !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
إستيقظت “ميرا” من نومها، رأت زوجها لا يزال يغط في نومه بجوارها، لم تعيره إهتماماً و قامت من السرير
دلفت إلى الحمام و خرجت بعد فترة وجيزة و هي ترتدي مئزر الإستحمام، طلبت الفتور عبر الهاتف الموصول بجناح الخدم… ثم ذهبت و جلست أمام المرآة
طفقت تمشط خصلات شعرها الطويلة، عندما أفاق “عمرو”، إرتدى روب البيچامة و أقبل عليها مغمغماً :
-صباح الخير يا حبيبتي ! .. و هبط بجزعه ليطبع قبلة على خدها
إبتسمت “ميرا” و هي تنظر له من خلال المرآة و ردت :
-صباح النور. يلا حبيبي إدخل خد شاور كده. لحد ما الفطار يجي. و طلبتلك القهوة بتاعتك كمان
عمرو مبتسماً بإمتنان :
-Thanks baby. و أنا رجعلك علطول !
-Waiting حبيبي !
و دلف بدوره إلى الحمام …
دقائق قليلة و جاء الفطور، قامت “ميرا” و جلست في الشرفة، لم تمد يدها على شيء، فقط تناولت الصحيفة، وجدتها مملة هذا الصباح، فإلتقطت مجلتها المفضلة
و فوراً إجتذبتها صورة إبنها على الغلاف، مرفقة بعنوان رئيسي مثير للإهتمام … “سفيان عز الدين و موعد غرامي جديد، أهي مغامرة كسابقتها ؟ أم أن للقصة وجهاً آخر ؟ و من تراها تكون جميلته المجهولة ؟!!” .. و تفاصيل الخبر قرأتها بالصفحة التالية
لم تهتم “ميرا” بكل هذا بقدر ما إسترعتها الصورة التي إلتقطت لهما، كان هو من رأته بشئ من الوضوح، أما رفيقته تلك لم تتبينها جيداً… و لكنها لا تعلم، لماذا يساورها إحساس قوي بأنها رأتها من قبل
بل ريما تعرفها أيضاً !! …………… !!!!!!!!!!!
يتبـــع …
الفصل الخامس
_ من الماضي ! _
أوقف “سفيان” سيارته أمام منزلها، إلتفت نحوها مبتسماً و إلتقط يدها من فوق حجرها… رفعها إلي فمه و قبّلها بعمق، ثم نظر في عينيها قائلاً بصوته العذب :
-الوقت معاكي مش بحس بيه. ياريتك تفضلي معايا شوية كمان !
ردت “يارا” له الإبتسامة و قالت برقة :
-أنا كمان كان نفسي أفضل معاك. بس إنت مشغول يا حبيبي. مش عندك حفلة الإسبوع الجاي و لازم تجهز على أد ما تقدر ؟!
-أيوه. بس إنتي و الله أهم من مليون حفلة. عندي إستعداد أفضل قاعد جمبك العمر كله ماتحركش
قهقهت “يارا” بقوة قائلة :
-لأ و حياتك بلاش الكلام الجامد ده. واحدة واحدة عليا إحنا لسا في أول المشوار
إبتسم لها و مد إصبعه ليزيح تلك الخصلة المتهدلة على جانب فمها، و تمتم :
-حد قالك قبل كده إنك جميلة ؟ جميلة أوي !
يارا بلهجتها المغناجة :
-ده إنت و الله إللي جميل أووي. Very Handsome بجد. و عنيك ماحصلتش !
سفيان بحبور : بيقولوا وارثها عن أمي و جدي. تقريباً كل إللي شافوه قالولي كده
و هنا تلاشت إبتسامتها، عندما أشار إليه ببضعة كلمات فقط، تملكها ذلك الشعور الخطير، العنيف، الذي لطالما كان كفيلاً بدفعها إلى إرتكاب أي خطيئة أو عمل شيطاني، في سبيل إرضاء ذاتها المجروحة، المذبوحة !!
-ده أنا حتى متسمي على إسمه تصوري !
سمعته و هو يستطرد بهذا الكلام، إغتصبت إبتسامة و هي تقول بصعوبة بالغة :
-جدك كان إسمه سفيان بردو ؟!
إنتفخ صدره و هو يرد عليها متفاخراً :
-آه. سفيان الداغر. إنتي ماسمعتيش عنه معقول ؟ ده كان أكبر بيزنس مان في البلد. شركاته لسا موجودة لحد دلوقتي El Dagher Holding. أمي ورثتها و بتديرها دلوقتي
يارا بإبتسامة متكلفة :
-متهيألي سمعت عنه. من سنين. تقريباً قريت عنه في الجرايد أو حاجة زي كده
سفيان بحزن : ممكن تكوني قريتي عن الحادثة. أصله مات هو أخته و صاحبه مع بعض. ليلة فرح أمي. أخته كانت مخطوبة لصاحبه و المحامي بتاعه. كان أسمه سامح تقريباً على حسب ما أنا فاكر من حكايات أمي. كانوا بيشوفوا البيت إللي هاتسكن فيه وفاء هانم. أخته. محدش عارف إللي حصل ده تم إزاي. بس كان في تسريب غاز و تقريباً حد دخن منهم فالمكان كله إنفجر بيهم !
-آوه ! شيء فظيع فعلاً .. هكذا أبدت “يارا” تعاطفها الزائف إزاء القصة الأليمة
وافقها “سفيان” :
-أمي إتأثرت بموت جدي. كانت بتحبه جداً و كانت بتقولي إنه كان راجل عظيم. عمره ما آذى حد. و كان دايماً بيساعد الناس. حتى في علاقته بيها. كانت بتقولي عمرها ما حست إنه أب. كان بيحسسها إنها أخته .. و ضحك مكملاً :
-أصل جدي كان شقي حبتين. إتجوز في سن صغير أوي. و خلف ماما. كان بينه و بينها فرق مش كبير أوي و إللي كان يشوفهم مايقولش أب و بنته أبداً
-شوقتني أشوف مامتك يا سفيان ! .. قالتها “يارا” بحليمية شديدة
-أكيد ست رقيقة و جميلة
سفيان بجدية : قريب هاجمعكوا ببعض. لازم تتقابلوا كده كده
-أوكي. إتفقنا .. و أمسكت بمقبض الباب قائلة :
-يلا بقى أقولك مع السلامة. عشان تلحق البروڤا بتاعتك !
أوقفها “سفيان” فجأة ممسكاً بذراعها، عبست و هي تنقل نظراتها بين يده و عينيه الملبكتان.. إبتسم لها مطمئناً و إقترب بحذر، مال رأسه قليلاً و لفحت أنفاسه الدافئة بشرتها و عنقها، و في اللحظة التالية شعرت بقبلته الرطبة على خدها …
-تصبحي على خير ! .. همس مودعاً
كان حاجباها مرفوعان دهشةً، لكنها ردت بصوت طبيعي :
-و إنت من أهله يا سفيان !
و أفلتت من قبضته اللطيفة بسهولة، نزلت من السيارة دون أن تضيف شيئاً آخر… لا تعلم ما الذي حدث لها، ربما ضايقتها قبلته، أو التمثيلية كلها، حين أصبحت واقعية الآن، إشتد الخناق عليها، هكذا فجأة…. و لعل هناك سبباً أخر لا تعلمه !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
أنهت “ميرا” الكأس الرابع الآن، و كانت تمسك بهاتفها محاولة إجراء إتصالاً ما
بينما يقف “عمرو” خلفها، يعمد إلى تهدئتها دون جدوى …
-يا حبييتي إهدي مش كده !
إنفعلت “ميرا” و هي تتملص منه صارخة :
-سيبني يا عمرو. لازم يعرف. دي وصلتله. ده إللي أنا كنت عاملة حسابه و إنتوا كنتوا هاملين كلامي
عمرو مهدئاً : طيب بالراحة بس. إنتي عرفتي منين إنها تقصد إللي قولتيه ده ؟ يا حبيبتي إنتي ناسية إن إبننا نجم مشهور ؟ كل الناس عارفاه. و ممكن تكون شافته بالصدفة و آ ا …
-مش صدفة ! .. صاحت “ميرا” بعصبية
-دي مش صدفة يا عمرو. يارا مانسيتش إللي حصلها على إيدينا و مش هاتنسى. عمرها ما هاتنسى. دي راجعة تنتقم. و أنا مش هاقف أتفرج لو وصلت أقتلها هاقتلهـــا
-طيب عشان خاطري هدي أعصابك. هانتصرف. صدقيني هانشوف حل. سفيان إبني. إبني أنا كمان. و لا يمكن أسمح لحاجة وحشة تحصله .. و أمسك بكتفيها مكملاً :
-خليكي واثقة فيا يا ميرا. إطمني. أرجوكي خلينا نتصرف بعقل. دي مش طريقتنا. إنتي فاهماني ؟؟
قطبت بشدة و هي تومئ له، كانت تحارب نزعات الشر بداخلها، في تلك اللحظات تماماً… و هنا آتى صوته، الإبن، سر حياتهم جميعاً، إحدي لعناتهم المتوارثة، إلا إنه أثمن ما لديهم، بلا أدنى شك !
-Good Evening !
وقف “سفيان” عند مقدمة البهو يراقب والديه بنظرات متوجسة، ترك “عمرو” زوجته فور رؤيته، و رد عليه مبتسماً كأن شيئاً لم يكن :
-مساء النور يا حبيبي. تعالى. كنت فين طول النهار واحشني
أقبل “سفيان” عليه قائلاً :
-آسف. كان عندي معاد بس. حضرتك كمان واحشني أوي
-بالمناسبة حبيبي ! .. هتفت “ميرا” من مكانها
نظر “سفيان” نحوها، كانت تبتسم له ببساطة، تناولت المجلة الصباحية و لوحت بها أمام ناظريه قائلة :
-مين دي إللي متصورة معاك على Cover المجلة ؟!
توتر “سفيان” لوهلة، ثم أجابها بلهجة ثابتة :
-حضرتك شوفتيها. كويس أنا كنت هاكلمك عنها أصلاً
ميرا بإبتسامة : هي مين حبيبي ؟! .. و مشت ناحيته بتباطؤ
سفيان بصوت أجش :
-دي واحدة أعرفها من 3 سنين. إتعرفت عليها أكتر اليومين دول.. و بصراحة يا ماما أنا بحبها. و هاتجوزها !
أومأت “ميرا” له و قالت بهدوء :
-Great. طيب مش كنت تبلغني أخبار زي دي ؟
على الأقل أعرف هي مين. إسمها إيه. مش أنا أمك حبيبي ؟
إزداد توتره و هو يخبرها بعصبية مبطنة :
-إسمها يارا شهدي. بيزنس وومن معروفة. كانت متجوزة و عندها بنتين. و عمرها 48 سنة !
-مش مهم كل ده حبيبي. المهم إنت بتحبها ؟
إزدرد ريقه مرتاباً و قال :
-مش فاهم سؤالك !
-سؤالي واضح. أنا مهتمة بيك أكتر و عايزة أعرف بس. إنت بتحبها ؟
رقص بريق الحيرة بعينيه، لكنه أومأ برأسه في الأخير و هو يقول :
-أيوه. بحبها
-خلاص ! .. قالتها بصوتها الناعم
-خلاص إيه !!
-خلاص Go Ahead طبعاً
-يعني إنتي موافقة على الجواز ؟ .. سألها مشككاً
ميرا برحابة : طبعاً حبيبي
-حتى بعد ما عرفتي سنها ؟ دي 48 سنة !
إبتسمت “ميرا” و قالت و هي تربت على خده بلطف :
-أنا أتمنى أشوفك مبسوط و مرتاح. كل إللي بتحلم بيه لازم يحصل. You My Everything حبيبي. ماعنديش أغلى منك
إبتسم “سفيان” قائلاً بعدم تصديق :
-مش مصدق. إنتي موافقة بجد ؟ يعني بجد ؟!!
ميرا بوداعة : بجد يا عمري. بس لازم أشوفها و أقعد معاها الأول. و أوعدك كل إللي إنت عايزه هايحصل ! ………… !!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبــــع …
الفصل السادس
_ حتى الموت ! _
توقفت “يارا” لحظة عن العمل، و كأنها تذكرت شيئاً، و ما لبثت أن أدركت ذلك… أقفلت حاسوبها الخاص مؤقتاً و إستدارت بالكرسي قليلاً، مدت يدها و رفعت سماعة الهاتف من فوق مكتبها الضخم
ثوانٍ و آتاها صوت سكرتيرتها، خلعت عويناتها الأنيقة و هي تتحدث إليها بنبرة تنم عن إرهاقها :
-إسمعي يا سمية. يسرا هاتيجي دلوقتي. مادخليهاش. أنا مش فاضية و محتاجة أركز في الشغل إللي في إيدي. الظرف إللي سيبته معاكي إمبارح في فلوس. إديهملها و أكدي عليها ماتاخدش الباص بتاع الرحلة. أحمد السواق بتاعي مستنيها تحت. لو مش معاها شنطة هدومها يروح يجيبها و بعدين يوصلها بنفسه. مفهوم !
و أغلقت السماعة و هي تطلق نهدة حارة مطولة …
تناولت كأس المياه البارد أمامها و تجرعته كله دفعة واحدة، أخذت نفساً عميقاً و شرعت بالعودة إلى العمل.. ما كادت تفعل ذلك تماماً حتى دق هاتف المكتب فجأة
تآففت بضيق و ردت مرةً أخرى :
-إيه يا سمية قولتلك إتعاملي معاها. أنا في إيدي شغل
جاء صوت “سمية” معتذراً :
-أنا آسفة حضرتك. بس في حد قدامي حالاً طالب يقابلك !
يارا بغرابة : حد ! طالب يقابلني و دلوقتي ؟! مين إللي عندك يا سمية ؟!!
-هي مدام بتقول إنها صديقة قديمة و عايزة تشوف حضرتك ضروري. إسمها ميرا. ميرا الداغر !
صدمة !!
ربما دامت للحظات، ثم بزغت بعينيها لمعة شيطانية غريبة، و فوراً زال شعور الإرهاق السالف هذا، بدلاً منه أحست بحماسة كبيرة و هي تأمر السكرتيرة بلهجة قوية :
-دخليها حالاً. و مهما حصل محدش يقاطعنا !
قالت ذلك و تآهبت في الحال لتلك اللحظة.. كم إنتظرتها !!!
كم إنتظرت ذلك اليوم الذي سترى فيه مدللة أبيها، قلبه، حبه الوحيد كما كان يصف لها بالأيام الخوالي، ها هو قد تركها وحيدة، بعد أن بصم عليها ذاته، إلا أنها تبقى وحيدة رغم هذا، هي و ولدها العزيز، الحفيد.. الإبن.. نسخة جده المصغرة، إنه لها، مهما حدث لها، لن تتركه حتى يُشفى صدرها، و تنطفئ نيران حسرتها، حسرتها المريرة على طفلها الذي مات قبل أن تبصر عيناه النور …
سمعت “يارا” صوتها… ثم رأتها، في اللحظة التالية، تلج عبر باب المكتب الجرار، توقفت الأخيرة لبرهة، تنظر لها مطولاً و قد كسا وجهها تعبير مبهم
مشت نحوها بخيلاء، يطرق كعب حذائها الأرض في كل خطوة، بينما تغلق “سمية” باب المكتب على كلتاهما
و توقفت “ميرا” فجأة، أمام “يارا”.. لا تفصلهما سوى مسافة قصيرة جداً، إبتسمت لها بوداعة قائلة :
-يارا ! Long Time صحيح.. بس لسا زي ما إنتي. إزيك يا مرات أبويا ؟
بادلتها “يارا” نفس الإبتسامة و هي ترد بصوتها الناعم :
-كويسة أوي الحمدلله. يا بنت الغالي. أهلا بيكي. خطوة عزيزة يا حبيبتي. فيكي الخير و الله يا ميرا. تعرفي لو ماكنتيش جيتي أنا كنت هاجيلك بنفسي !
-القلوب عند بعضها. مش بتتقال كده بردو ؟
-مظبوط يا حبيبتي. لهجتك المصرية إتحسنت كتير عن زمان
-طبعاً.. ما أنا نصي مصري. و خلاص بقى إستقريت هنا. حياتي هنا. شغلي. بيتي. جوزي.. إبنــي !
و شددت على أخر كلمة
يارا مبتسمة برقة :
-طيب تعالي نقعد. مش معقول نفضل واقفين كده. إتفضلي حبيبتي .. و إصطحبتها نحو صالون صغير في الوسط
أجلستها أولاً و قالت :
-تشربي إيه بقى ؟
-Thanks و لا أي حاجة
-لأ إزاي إنتي ضيفتي و أول مرة تزوري شركتي
تطلعت “ميرا” حولها و هي تقول بلهجة تميل إلى الهزأ :
-الزيني جروب. بتاعة البيزنس مان المعروف رؤوف الزيني. الله يرحمه. بقيت بتاعتك دلوقتي يا يارا ! ألف مبروك و الله
يارا بإبتسامة : الله يبارك فيكي يا قلبي. ها بقى تشربي إيه ؟
-صدقيني و لا اي حاجة. أنا جاية عشانك إنتي. بليز أقعدي عايزة أتكلم معاكي شوية
هزت “يارا” كتفيها و قالت :
-as you like حبيبتي !
و جلست مقابلها
-خير يا ترى.. I hear you !
ميرا بنظراتها الثاقبة :
-و أنا مش هاطول عليكي. هما كلمتين. و يمكن سؤال في الأول !
بقيت “يارا” في الإنتظار، و ما زالت محتفظة بإبتسامتها …
مدت “ميرا” جسمها للأمام قليلاً و قالت و قد إستحالت ملامحها المنفرجة للتجهم الآن :
-إبني.. My Junior سفيان يا يارا. أكيد سمعتي عنه طبعاً !
-طبعاً. ده Super Star. ربنا يفرحك بيه يا حبيبتي صوته جميل و هو أجمل صراحة .. و ضحكت بمرح
عبست “ميرا” بشدة و هي تقول بخشونة :
-إنتي عايزة إيه منه يا يارا ؟ ماشية معاه ليه ؟ مش تستحي طيب.. ده أد إبنك المفروض !
جمدت إبتسامة باردة على ثغرها و هي ترد عليها :
-ما عشان كده. أنا ماشية معاه يا ميرا.. و كويس إن الأخبار بتوصلك. لكن يا ترى بقى عرفتي إنه طلب يتجوزني ؟!
-ده Over My Dead Body. فاهمة يا يارا !!
كانت نظراتها المستوحشة العنيفة تتفرس فيها بقوة، بينما تضحك ” يارا” مستطردة :
-مش هاتوصل لكده يا ميرا. صدقيني الموضوع أبسط من كده. و بالراحة على نفسك دي نصيحة. أصل كده كده إللي أنا عايزاه هايحصل فمش هاتسفيدي حاجة من حرقة الدم دي. ممكن تتعبي يا قلبي. و إنتي لسا صغيرة أوي على التعب
ميرا بتحذير : أنا مش هاسمحلك بكده. خليكي واثقة. إنتي ماتعرفيش أنا ممكن أعمل فيكي إيه. لا تكوني فاكرة سفيان الداغر مات. لأ. ده قاعد قدامك أهو ! .. و أشارت لنفسها
-ما هو عشان كده بالظبط على فكرة .. قالتها “يارا” بلهجة تهكمية
-عشان إنتي و إبنك شايلين دمه. و عيني إللي بتيجي في عينكوا كأني ببصله هو.. تخيلي لما إنتقم منكوا هايكون إحساسي إيه ؟ ده أنا كأني إنتقمت منه هو شخصياً !!
هبت “ميرا” واقفة و هي تصيح بحدة شديدة :
-لو قربتي من إبني مش هارحمك. و أحسنلك تبعدي عنه. إنتي مش أدي. أنا ممكن ألففك حوالين نفسك و أخليكي تمشي تكلمي نفسك. بناتك أكيد هايوجعوكي. بلاش تغامري بيهم !
لم تهتز “يارا” لتهديدها، بل إزدادت إبتسامتها إتساعاً، قامت لتواجهها و هي تقول ببرود كبير :
-تصدقي من زمان ماسمعتش تهديدات خطيرة كده. أبوكي الله يجحمه مطرح ما راح. كان أستاذ الصراحة. و كان أحسن منك في الموضوع ده .. و إقتربت منها خطوة و أكملت :
-بس أعتقد إنك مش في وضع يديكي الثقة الجامدة دي في نفسك يا ست أبوكي.. عارفة ليه ؟ عشان أنا مش يارا القديمة. الصحفية الساذجة دي ماتت خلاص. و بفضلكوا إنتي و أبوكي إتولدت واحدة جديدة. واحدة بقت داهية زيكوا. شيطانة و يمكن أكتر
ميرا بسخرية : خوفت أنا كده صح ؟ إسمعي يا آ …
-إسمعي إنتي يا صغننة ! .. قاطعتها “يارا” بجمود
-أخر حاجة هاقولهالك. أنا مش ناوية أسيبكوا في حالكوا أبداً. حقي كله إللي إتاخد مني زمان هارجعه. هارجعه بأي طريقة حتى لو وصلت للدم. و إبنك إللي فرحانة بيه ده و جاية تهدديني عشان أبعد عنه قسماً بالله. لأحزنك عليه. و جربي تقربي مني أو من بناتي. هادمرلك حياتك. و علاقتك القديمة دي.. إللي كانت بينك و بين چو. يوسف Your Ex. و إللي دبت فيها الروح تاني من سنة تحديداً …
هربت الدماء من وجه “ميرا” و هي تستمع لهذا الجزء من كلامها، إبتسمت “يارا” بلؤم لمرآى ذلك و أردفت :
-ممكن بـMessage صغيرة أبعتها لزوجك العزيز. فيها صورة بتجمعك بحبيب القلب الأولاني. و معاها عنوان البيت إللي بتتقابلوا فيه.. شوفي ممكن يحصل إيه. ممكن هو يعمل فيكي إيه. مش هو بس. و إبنك كمان !
كانت تزدرد لعابها المرة تلو المرة من شدة التوتر، حتى فرغت “يارا”… تمالكت نفسها بصعوبة، علقت حقيبتها على ذراعها و هي تقول دون أن تحيد عنها :
-شكل في Game جديد هاتبدأ بينا.. بس صدقيني يا يارا. You Never win. و هاتندمي على اليوم إللي حبيتي تظهري فيه تاني في حياتنا.. باي يا مرات أبويا !
و ولّت مدبرة إلى الخارج …
-باي ياختي و القلب داعيلك ! .. تمتمت “يارا” و هي تراقب رحيلها بإبتسامة عريضة
و هي فعلاً محقة، لقد بدأت مرحلة جديدة، من اللعبة التي لم تنتهي بعد، و ربما لن تنتهي أبداً.. فمن يكف عن الآذى في هذا العالم !! ……. !!!!!!!!!!
يتبــــع ….
الفصل السابع
_ إبتعد ! _
ها هو قد وصل قبلها، بعد أن تلفنت له و أخبرته بوجوب إلتقائهما فوراً لبحث أمر عاجل، بل أمر خطير
وصل “يوسف” إلى مقرهما السري، عش الغرام الذي إختاره بعيداً عن أنظار الجميع، هنا وسط ضاحية راقية جديدة، لم يتوافد عليها السكان بكثرة بعد
قضى ما يزيد عن الساعة بين الباب و النافذة، ينتظر وصولها، و كلما مر الوقت إزداد قلقه… و لم تكف أصابعه عن النقر على الخشب و الزجاج بعصبية، و أحياناً العبث بخصلات شعره السوداء القصيرة التي خالطها القليل جداً من الشعيرات الرمادية، فهو لم يهرم بعد، ما زال شاباً بلغ قمة نضوجه، و بالكاد يكبرها بعامين
تلك الفتاة التي خلبت لُبه منذ أكثر من عشرون عاماً، كان يريد الإستمتاع معها ثم تركها، لكنه ما لبث أن إكتشف إنجذابه الحقيقي نحوها، سرعان ما وقع بحبها و جمعتهما علاقة رسمية… للآسف لم تدوم طويلاً، فقد فسخ الخطبة بنفسه، بعد أن جاءت و إعترفت له بالخطيئة التي لا تغتفر هنا، أو بالمجتمع الشرقي كله تحديداً
كان يراها نضرة نقية كالأقحوانة الشذية، لكن خاب أمله، عندما علم بأنها ليست عذراء… لم يقبل بذلك، و أبى إلا أن تكون له التجربة الأولى معها، كتفكير كل رجال المجتمع، كان يفكر هو، فتركها على ذلك
ليعود لها الآن، قبل عام واحد إلتقى بها صدفة، بإحدى السهرات التي يقيمها أكابر وسطهم، كانت نظرة بينهما تكفي، ليتجدد لهيب العشق مجدداً، فهما من الواضح قد فشلا في نسيان بعضهما البعض، حقاً لقد مضى كلاهما بطريقه و شكلا حياة خاصة و عائلة… لكنهما لم يكفا عن البحث اليائس، و العيش على الآمال الواهية
إلا أن الآمال قد تحققت، أليس كذلك ؟ بعد أن عادا، لم يعرف و لم تعرف كيف أفضى بهما الأمر إلى هنا.. في النهاية حصل “يوسف” عليها كما تمنى بيوم من الأيام، و هكذا إستقرت رغبة “ميرا” التي أمست كالسهم الحائر
أجل هي الخائنة، و هو كذلك أيضاً، لكن كلاهما لا يجسران على إنهاء الأمر، إنه كالنار المتآججة، تلتهم كل شيء أمامها و لا تخمد حتى تنال من بعضها !!!!
أنتفض “يوسف” مكانه فجأة، حين سمع صوت المفتاح و هو يدور في قفل باب المنزل، إلتفت، ليرى “ميرا” تلج بخطى مضطربة و قد كانت في حالة مزرية، ترتجف و عينيها تفيض بالدمع، دمع غزير !
-ميـــرا ! .. هتف “يوسف” و هو يقطع المسافة بينهما جرياً
ما أن أغلقت الباب حتى شعرت بذراعيه تتلقفانها، أدارها إليه مطوقاً خصرها بذراعه، و بيده الأخرى يزيح شعرها الذي تهدل كله حول وجهها
عبس لمرآى إحمرار عيناها و دموعها التى لا تنقطع، جففها بكفه و هو يقول بجزع :
-مالك يا ميرا ؟ إيه إللي حصل يا حبيبتي قلقتيني ؟ بتعيطي ليه ؟!!!
حاولت أن تتكلم من بين نهنهاتها :
-يـ يو سف. آ أنا. إنت. خلاص. آ.. هي. عرفت !
يوسف بعدم فهم :
-إيه ! هي مين دي ؟ إنتي بتقولي إيه يا ميرا ؟!
بدأ صوت بكائها يعلو، تفاقم الضيق في صدر “يوسف” بشدة، لكنه تمالك نفسه و سحبها نحو الآريكة دون أن يفلتها من حضنه… أخذ يربت عليها بلطف و هو يستطرد من جديد :
-ميرا. ممكن تهدي عشان نعرف نتكلم ؟ أنا مش فاهم منك حاجة. أرجوكي إهدي و فهميني إللي حصل.. بس. بس خلاص بقى. عشان خاطري !
و بالفعل، إستطاعت بمساعدته أن تهدأ قليلاً، إرتدت للخلف و هي تسحب منديلاً ورقياً من حقيبتها، جففت دموعها و مسحت أنفها.. أصبحت مستعدة للكلام، تقريباً …
-إحنا لازم نسيب بعض يا يوسف ! .. هكذا خرج صوتها خشناً مصمماً
بهت “يوسف” للحظة، ثم قال :
-نعم ! يعني إيه نسيب بعض ؟!
نظرت له و قالت بتصميم أكبر :
-نسيب بعض يعني نسيب بعض. إللي إحنا عملناه من سنة ده ماكنش صح. ممكن نقول كانت نزوة و نعديها و ننسى. أنا متجوزة و عندي ولد. و إنت كمان متجوز و عندك ولاد.. ماينفعش نستمر كده !
-إنتي جاية دلوقتي تقوليلي كده ؟!! .. صاح “يوسف” بإستنكا
-كنتي فين من بدري ؟ دي مش أول مرة. إحنا بنتقابل هنا بقالنا سنة. كل مرة بسمع منك كلمة واحدة بس. بحبك. و أنا كمان بقولهالك. إيه إللي حصل دلوقتي بقى ؟ زهقتي ؟ و لا كرهتيني ؟ و لا إيه بالظبط ؟!!!
كان منفعلاً، حقاً، لدرجة أعجزتها عن إخفاء مشاعرها لأول مرة، فإنفجرت بصوت صارخ :
-ما إنت السبب.. إنت إللي عملت فينا كده. إنت إللي سيبتني. ليــه ؟ أنا حبيتك. و وثقت فيك رغم إللي كنت بتعمله في البداية. و دلوقتي بقيت واثقة فيك أكتر. رغم إللي عملته زمان. لما سبتني عشان حاجة ماليش ذنب فيها
يوسف بإنفعال أشد :
-و إنتي ماتكلمتيش ساعتها ليه ؟ لما قولتيلي إني مش أول واحد في حياتك كدبتي عليا ليه ؟ ليه ماقولتيش إن الحيوان صاحب أبوكي هو إللي إغتصبك ؟ جاية تقوليلي بعد 20 سنة و زيادة ؟؟!!!
ميرا ببكاء حاد :
-لو كنت قولتلك كنت هاتعمل إيه ؟ كنت هاتفضل معايا ؟ ده إنت أول ما عرفت مشيت. مشيت و مابصتش وراك حتى. ده إللي كان هايفرق معاك ؟ إذا كنت أنا مافرقتش. سبتني و أنا محتاجالك. و عمرو هو إللي وقف جمبي. و للآسف حبني. لكن أنا عملت إيه ؟ خنته. أنا خنته … و إختنق صوتها بالدموع
غطت وجهها بكفيها و إزداد نحبيها حرارةً، بينما زفر “يوسف” بقوة، إستغرقه الأمر دقائق حتى إستطاع السيطرة على نفسه من جديد
نظر لها، و إمتد يداه فشدها إلى صدره رغم مقاومتها الركيكة، ثم قال بهدوء :
-أنا آسف.. أنا غلطان. فعلاً. حقك عليا. يمكن عشان كنت لسا صغير ماعرفتش أقدر الأمور كويس. بس أنا دلوقتي بحاول أعوضك يا ميرا. و إنتي عايزة تسبيني ؟ ده أنا ما حبيتش غيرك و ما صدقت رجعتيلي تاني !
غمغمت و هي تدفن رأسها أعمق في صدره :
-لازم أسيبك. إنت آه حبيبي. و غالي على قلبي.. بس هو كمان حبيبي و يمكن أغلى منك يا چو
-هو مين ده ؟! .. سألها مزمجراً
-عمرو ؟
رفعت وجهها في هذه اللحظة و قالت بينما لا زالت دموعها تنهمر في هدوء :
-لأ. مش عمرو.. سفيان. إبني !
عمرو بتوجس : هو عرف حاجة ؟
هزت رأسها نفياً و ردت
-مش هو.. هي
-هي مين ؟؟!!
صمتت “ميرا” لبرهة، ثم قالت بمنتهى الثبات
-يارا.. أمه ! …… !!!!!!!!!!!!!!
يتبـــع ….
الفصل الثامن
_ شبح ! _
وقفت “يارا” وسط مدخل منزلها، تودع إبنتيها راسمة على ثغرها إبتسامتها الحنونة …
-مش هاوصيكي تاني يا يسرا ! .. قالتها بلهجة محذرة
-خدي بالك من نفسك. و إوعي تفترقي عن جروب المدرسة. و نوم بدري و صحيان بدري و مش عايزة إختلاط بأي ولد. سمعتي ؟
يسرا بإبتسامة : حاضر يا مامي. ماتقلقيش يا حبيبتي
نقلت “يارا” ناظريها نحو “يمنى” مستطردة بنفس اللهجة :
-و إنتي يا ست يمنى. هاتروحي تقضي اليومين بتوعك عند جدتك. عايزاكي تبقي ضيفة خفيفة و تهتمي بيها. إوعي تضايقيها
يمنى بصوتها الرقيق :
-إطمني يا مامي. هي دي أول مرة أروح أقعد عند تيتة ؟
أومأت “يارا” رأسها و هي تطلق نهدة عميقة، إبتسمت من جديد و قالت و هي تنصرف لمعانقة الإثنتين :
-هاتوحشوني أوي. ماتتأخروش عليا يا حبايبي. و ماتنسوش تكلموني. كل يوم تكلموني !
و إنتهت لحظات الوداع على ذلك، و أصبحت “يارا” بالبيت كله بمفردها، بعد أن غادرت الخادمة أيضاً لقضاء عطلة خاصة خارج البلاد، كانت تلك فرصتها، خلال غياب الإبنتين لمدة، فهي هنا في الأساس من أجلهما
إنتقلت “يارا” إلى غرفة الطعام، أرادت أن تأكل شيئاً من العشاء الذي تركته “هيلجا” لها قبل أن تذهب، وضعت هاتفها الخلوي أمامها، كأنما تنتظر أن يطرأ عليه تغيير… و بالفعل
بعد قليل أضأت الشاشة فجأة معلنة وصول إتصالاً، فإبتسمت فوراً، تركت أدوات الطعام من يدها و إلتقطت الهاتف، إنتظرت حتى إزدردت قطعة اللحم التي تلوكها بين أضراسها… ضغطت زر الإجابة و تلقت المكالمة :
-ألـو ! .. كانت شديدة الهدوء، أو البرود
أتاها صوته الثائر في الحال :
-ممكن أفهم مابترديش عليا ليه ؟ و إيه معنى الـMessage إللي جاتلي دي ؟؟؟ مابترديش ليه ؟؟ إتكلمــي !!!
تعمدت “يارا” الصمت لفترة، ثم قالت :
-عمري ما هارد عليك و إنت بتكلمني بالإسلوب ده يا سفيان !
-عايزاني أكلمك إزاي ؟ هه ؟ لما إتصل بيكي أكتر من 50 مرة و ماترديش. و في الآخر تبعتيلي Message “سوري.. مش هاينفع نكمل” إيه إللي هو إيه ده يعني ؟ إنتي بتلعبي بيا يا يارا
-إسمعني يا سفيان. أنا سبق و قولتلك إني مش عيلة صغيرة من دورك. آه معجبة بيك و يمكن ببادلك نفس شعورك ناحيتي. بس لو كانت المشاعر دي هاتحط من كرامتي فبلاش منها أصلاً
-إيه إللي إنتي بتقوليه ده ؟ أنا مش فاهم حاجة حد مس كرامتك دلوقتي ؟
قاومت “يارا” إبتسامتها الجذلى، حتى لا تظهر في صوتها و لكي يتسنى لها إتقان دور الشهيدة في سبيل الحب، و قالت :
-لما مامتك تيجي تهددني ببناتي عشان أبعد عنك.. عايزني أعمل إيه ؟ لما تهيني و تغلط فيا و في أخلاقي. عايزني أعمل إيه ؟ إللي عملته معاك كان طبيعي جداً يا سفيان و آ ا ..
-أمي أنا جاتلك ! .. قاطعها بهذا السؤال المدهوش
يارا بنبرة باكية :
-أيوه جت. هددتني و مشيت انهاردة الصبح. يا أيعد عنك يا تأذيني و تأذي بناتي. إنت صحيح الحب إللي عشت طول عمري أدور عليه. لكن كله إلا بناتي يا سفيان. مش هسمح لحاجة تمسهم. و لو كان حبي ليك في ضرر ليهم يبقى هانبعد.. هانبعد و ده أخر كلام يا سفيان. ياريت تمسح رقمي بقى و تنساني خالص. مع السلامة يا سفيان !
و أغقلت بسرعة قبل أن تسمع رده
أفلتت ضحكتها الصاخبة و هي ترمي بالهاتف أمامها، رفعت كفها و أخذت تجفف الدمعات البسيطة التي إصطنعتها بمهارة منقطعة النظير، و تمتمت لنفسها :
-مستنياك. مستنياك يا صغنن يا روح أمك .. وحياتك لتشوف إنت و أمك !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
كان الزوجين يجلسان على شرفة المنزل المطلة على الحديقة مباشرةً، عندما وصل الإبن و إقتحم خلوتهما فجأة …
-أهلاً بالـJunior بتاعنا ! .. هتف الأب المزعوم “عمرو”
كانت الإبتسامة تملأ وجهه، وضع فنجان الشاي فوق الطاولة و قام ليرحب بعودة الإبن المبكرة على غير العادة …
-مش معقول راجع بدري !! .. و فتح ذراعيه بنية عناقه
إلا أن الأخير جمده مكانه موجهاً كلماته المقتضبة لأمه… المزعومة أيضاً :
-ماما ! صحيح حضرتك روحتي تقابلي يارا إنهاردة ؟؟
تطلعت “ميرا” إليه، تصنعت البرود و هي تسأله :
-يارا مين حبيبي ؟!
تمالك “سفيان” نفسه أمام إسلوبها الإستفزازي و رد بصوت أجش :
-يارا شهدي إللي حكيتلك عنها.. إللي قولتلك إني عايز أتجوزها !
كان “عمرو” واقفاً يراقب ما يجري في صمت، بينما أجابت “ميرا” و هي تقف على قدميها لتصبح في مواجهته :
-أيوه يا حبيبي روحتلها !
هكذا شاهد “سفيان” لمعة التحدي بعينها و أدرك الحقيقة التي خبأتها عنه خلف ستار السخرية و المجاراة بالمرة السابقة… لم تنتظر “ميرا” أن يطرح سؤالاً آخر و أردفت بصرامة :
-روحتلها عشان أحذرها.. يا تبعد عنك. يا أكيد هاتكون خسرانة
إحتقن وجهه بالدماء و هو يرد عليها منفعلاً :
-إنتي كده بتعامليني كأني طفل ؟ بتصغريني قدامها ؟ كنتي بتاخديني على أد عقلي ؟ بس تعرفي.. كل إللي عملتيه ده و لا يفرق معايا. و لما قولتلك إني هاتجوزها ده ماكنش هزار أو إي كلام. أنا هاتجوزها يا ماما. و إللي عندك أعمليه من الأخر
ضربت “ميرا” الطاولة الصغيرة بقدمها و إمتدت يديها نحوه، قربته ممسكة إياه من ياقتي قميصه و هي تهتف من بين أسنانها :
-لو كنت صغير شوية و قلت الكلام ده كان هايبقى أخرك معايا عقاب من بتوع زمان.. إنما إنت راجل دلوقتي. تفتكر لما أسمعك بتقول كلام زي ده أتصرف معاك إزاي !!!
سفيان بحدة : إعملي إللي تعمليه قولتلك. مش هاتتحكمي فيا تاني. كفاية عليكي كده .. و أكمل هازئاً بها :
-ده إنتي عمرك ما حسستيني إني إبنك.. زي ما أكون عبد. بتمشيني حسب رغباتك. و دايماً أحاول أقنع نفسي إنك أمي و خايفة عليا. إنتي عايشة عشان تبوظيلي حياتي. مافيش حاجة واحدة سامحالي أعملها منغير ما تكون ليكي يد فيها. كأن حياتي دي ملكك مش ملكي
إنعقد حاجبيها بشدة و هي تستمع إليه، ما أن فرغ حتى صاحت فيه بغضب :
-كل ده عشان بحاول أحميك و أحافظ عليك ؟ بتلومني عشان خايفة عليك و بحبك ؟ إنت غبي.. إنت ماتعرفش الست دي. دي بتضحك عليك. و هاتعمل فيك زي ما عملت في جوزها. سرقته و موتته بحسرته. خدت منه كل حاجة. معقول إنت يتعمل فيك كده و مش هامك. و لا لسا ماشوفتهاش على حقيقتها ؟ مستني لما تغدر بيك عشان تتأكد ؟ بس أنا مش هاسمح لا ليك و لا ليها بكده. سامعنـي ؟!!!
-خلاص يا ميرا من فضلك ! .. كان هذا صوت “عمرو”
جاء من خلفها و أبعدها بحزم عن الإبن الثائر …
كان لهاث الغضب يتسرب من بين شفاهها، بين أخذ “سفيان” يعدل هندام ثيابه التي شعثتها أيدي الأم
لم ينقطع إتصالهما البصري، حتى قال مشيراً بسبباته :
-أنا هاعمل إللي أنا عايزه.. و وريني هاتمنعيني إزاي المرة دي !
و إستدار مغادراً المنزل كله …
-إهدي. إهدي خلاص يا حبيبتي ! .. قالها “عمرو” محاولاً تهدئة “ميرا” التي لا تنفك عن التملص منه
ميرا بعصبية : سيبني يا عمرو. ده مجنون. ده مش فاهم حاجة. و الزفتة يارا دي أنا مش هاسيبها. هي السبب. هي السبب. كان لازم تموت من زمان. ده إللي كنت عاملة حسابه !!
عمرو بجدية : خلاص. خلاص قولتلك هانتصرف. صدقيني مافيش حاجة هاتحصل.. أنا هاتصرف. بس إهدي
-لازم يرجع الليلة دي. لازم كل حاجة تخلص الليلة دي
ضمها “عمرو” إلى صدره بقوة، و همس لها واعداً :
-كل حاجة هاتخلص الليلة دي .. إطمني !
و كأنه يعلم شيئاً لا تعلمه ….
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
كانت تستعد للنوم… أجل، فهي تعلمت تلك الإستعدادت منذ زمن، و من الذي علمها ؟ و ماذا علمها ؟ من يكون غيره ؟ إنه هو بالطبع.. زوجها المجرم، القاتل، الذي أنقذها القدر منه بمعجزة
قديماً كانت رمزاً للبراءة، في أصغر تفاصيلها، حتى في نومها، كانت كالأطفال، حتى ظهر في حياتها، تذكر جملته المأثورة التي إستحسنتها بطريقة ما… و هي بمعني إن المرأة يجب أن تكون إمرأة حتى لو كانت في فراشها تستعد للنوم، يجب أن تكون إمرأة من رأسها لأخمص قدميها
و لعل هذه النصيحة من ضمن نصائح كثيرة أخذتها عنه، تعمل بها بإتقان… فها هي قد إرتدت ثوب نومها الأسود المثير، تركت شعرها الحريري الذي يكاد يلامس چيدها مسدلاً، رطبت وجهها و جسمها بأفخم المنتجات التجميلية، و أخيراً تعطرت بعطرها المفضل “Black Diamond” المثير جداً
و الآن أصبحت مستعدة للنوم، قامت من أمام المرآة و إلتفتت قاصدة بخطاها الوئيدة فراشها… لتسمع جرس الباب في هذه اللحظة، الباب الرئيسي هكذا فجأة، و في هذه الساعة !
بالنسبة لها لم يكن هناك مجالاً للتخمين، هي تعرف جيداً من الذي يود زيارتها الآن.. إبتسمت و هي تتجه نحو الخارج، وصلت عند لوحة ( الإنتركم ) و ضغطت زر الإتصال ….
-مين ! .. خرج السؤال المعابث من فمها و هي تنظر فعلياً إلى الشاشة الموصولة بالكاميرا الخارجية
كان يقف هناك كما توقعت، و سمعت صوته في اللحظة التالية :
-إفتحي يا يارا. أنا سفيان .. كانت لهجته قوية، كما بدا مصمماً على شيئاً ما
-إنت إيه إللي جابك هنا دلوقتي يا سفيان ؟ إيه إللي جابك أصلاً إحنا مش إتفقنا على كل حاجة ؟ أرجوك إمشي أنا مش ناقصة فضايح كفاية إللي مامتك عملته
-بقولك إفتحي يا يارا. إفتحي لو مش عايزة فضايح بجد !
إتسعت إبتسامتها أكثر و منعت ضحكة من الإفلات بصعوبة كبيرة، بينما ظن الأخير أنه أغضبها بكلامه، فعاد يقول بنبرة أكثر لطفاً :
-يارا أنا آسف. أرجوكي إفتحي. أنا محتاج أتكلم معاكي.. إفتحيلي من فضلك !
فكرت “يارا” للحظات، تنهدت و هي تهز كتفيها بإستسلام، رفعت إصبعها عن ( الإنتركم ) و أغلقت الشاشة الصغيرة، ثم ذهبت لتفتح له
عبر وحده البوابة التي تعمل إلكترونياً، ولج إليها فوجدها تقف خلف باب المنزل من الداخل، لوهلة حبس أنفاسه حين رآها هكذا،في ذلك الثوب الذي لا يستر بقدر ما يكشف، حاول ألا يهتم بهذا على الأقل الآن
لم ينتظر سماحها له بالدخول، دفعها للداخل و هو يلج مغلقاً الباب من خلفه …
-إنت مجنون على فكرة !
نظر لها بعد هذه الجملة، ليرى الغضب واضحاً عليها ..
-ممكن تفهمني إيه إللي بيحصل ؟ و سيادتك جاي ليه في ساعة زي دي ؟!!
إزدرد ريقه بتوتر و رغماً عنه راح يشملها بنظرات فاحصة لا تخلو من الإعجاب، و قال بهدوء :
-إنتي هنا لوحدك ؟
زمت “يارا” شفتيها و كتفت ذراعيها قائلة بلهجة تنم عن صبر نافذ :
-أيوه لوحدي. خير بقى ؟ مهما كان إللي جابك كنت تقدر تستنى لحد الصبح ؟ إيه إللي حصل أنا قافلة معاك من ساعة !!
-يارا إحنا لازم نتجوز في أسرع وقت !
-نعم ! قلت إيه ؟! .. هتفت بإستنكار
كرر “سفيان” بحزم :
-بقولك نتجوز. و بسرعة !
قهقهت “يارا” قائلة :
-إنت أكيد بتهزر .. و إستدارت ماضية إلى الصالون
رمت بنفسها فوق آريكة مبطنة بالقطيفة الزرقاء، تبعها “سفيان” قائلاً بحنق :
-مابهزرش. أنا مش عارف إيه إللي بيضحك في كلامي ؟ مش على أساس متفقين أصلاً ؟!!
إستندت “يارا” على مرفقيها و هي ترد عليه بحدة :
-بعد إللي عملته مامتك إنسى أي إتفاق بينا !
سفيان بجمود : أنا ماليش دعوة بأمي دلوقتي. و إنتي إللي تنسي أي حاجة قالتهالك بخصوصي. أنا دلوقتي إللي واقف قدامك و بكلمك. و بقولك هانتجوز يا يارا
-بس آ ..
-مابسش ! .. قاطعها بغضب شديد
صمتت و بقت تنظر إليه فقط… زفر بقوة و حاول السيطرة على أعصابه مجدداً، و بالفعل سرعان ما هدأ قليلاً، إقترب منها ببطء و هو يقول بصوته العذب :
-يارا. أنا بحبك. إنتي فاهماني ؟ .. و ركع أمامها
وجهه مقابل وجهها
هزت “يارا” رأسها متصنعة الحيرة و قالت :
-مش عارفة يا سفيان. أنا طول عمري ست عايشة في حالي. مابحتكش بأي حد. حتى بعد ما جوزي مات فضلت عايشة لبناتي. مش عايزة مشاكل أنا !
و هنا قبض على يديها، رفعهما إلى فمه و أنهال عليهما تقبيلاً و هو يقول :
-أنا مش هاعملك أي مشاكل. أوعدك.. بس أرجوكي خليكي جمبي. أنا محتاجلك. عمري ما كنت محتاج لواحدة في حياتي أد ما أنا محتاجلك دلوقتي. أرجوكي خليكي معايا !
هذا الإحتكاك ربما يولد حرارة !
إنها تشعر بالسخونة على أي حال، و أصبحت بشرتها الناصعة مضرجة بالدماء الآن، إثر ما يفعله هذا الشاب و ما به من حماس يذكرها بأحدهم !!
تبخرت حساباتها في هذه اللحظات، عندما صعدت قبلاته على ذراعيه و صدرها المكشوف… ضاع كل شيء، مؤقتاً، فما هي إلا إمرأة أولاً و أخيراً.. و فجأة و من دون أن تشعر، وجدت نفسها تتجاوب معه و تبادله مشاعره الحارة بمثلها
يا للبؤس، يا للعار !!!
و لو أن ذلك دام أكثر قليلاً، إنما ليس في وجوده… مستحيل !
و بينما هما منغمسان في تلك اللحظات التي لا تسمن و لا تغني من جوع مهما كان حجم و قدر الوليمة المقدمة، توقف كل شيء فجأة، عندما تحطم باب المنزل بدفعة واحدة شديدة العنف
إنتفضا الإثنين معاً و طارت نظراتهما نحو مكان الباب المخلوع، و من بين الغبار المتناثر في الهواء ظهر جسماً ضخماً، و برز وجهاً رغم هرمه لم يعفي عليه الدهر
كل هذا و لم تتحرك “يارا” قيد أنملة، فقط إشتبكت عيناها بعيني الغريب … غريب !!!
هل هذا حقاً غريب ؟! مستحيل، بل هذا شبح، لا يمكن أن يكون غير ذلك !!!!
-إيه ده إنت مين ؟ و إزاي تدخل البيت كده ؟! .. هكذا صاح “سفيان” و هو يقوم من مكانه ليواجه المقتحم بشجاعة
كان يقف حائلاً بينه و بين “يارا”… فمد الأخير رأسه لينظر لها، رأت إبتسامته الخبيثة المألوفة، فأرتعدت مذعورة، بينما يخرج صوته الذي قطع شكها تماماً و هو يخاطبها :
-إيه يا قلبي.. أوام كده و على الحامي ؟ جرالك إيه ؟ هتنامي مع إبنك ؟!
جحظت عينيها من شدة الهول الماثل أمامها، و نطق لسانها لا شعورياً :
– سفيـان !
و لم ترى شيئاً بعد ذلك… إبتلعتها الظلمة لأول مرة منذ أكثر من عشرون عاماً !!!! ………….. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبـــع …
الفصل التاسع
_ كذبة ! _
طالت مدة مكوثه بالمرحاض، منذ أن تم نقله من بيت “يارا” بالقوة الجبرية مع ثلاثة من رجال الحراسة الأشداء… “يارا”
أليست حبيبته ؟.. بل أمه.. أمه !!!!
حتى هذه اللحظة لم يكف عنه شعور الغثيان و القيئ الشديد، بعد أن فرغت معدته تماماً، يكاد يتقيأ قلبه لو صح هذا… فبالطبع
تلك فجيعة، كابوس، شيء يقود إلى الجنون الحتمي، كيف يعقل أن تكون “يارا” أمه ؟ و ذلك الرجل الغريب الذي يدّعي أنه أبيه !!!!!
إذن من تكون “ميرا” بالنسبة له ؟ و “عمرو” ؟ أليسا والديه ؟ و هو… هل حقاً كاد يزني بأمه ؟؟؟؟ كان سيرتكب هذا الجرم معها ؟؟؟؟ و هي.. هل كانت تعلم أم لا ؟؟؟!!!
-هو الولد ماله يا عمرو ؟ حد عمله حاجة ؟ أطلب دكتور طيب !
-ماتقلقيش يا حبيبتي هايبقى كويس. تعالي هنا بس !
كان “سفيان”… الإبن، يستمع إلى الحديث الدائر بالخارج و هو لا يزال على حالته المزرية، الدموع تفيض من عيناه بلا إنقطاع، و إنما من غير بكاء.. لكن الأم المزيفة أبت إلا أن تقتحم خلوته هذه و تركض إليه لتأخذه بحضنها مغمغمة من بين دموعها :
-حبيبي. إنت كويس يا قلبي ؟ بليز رد عليا. حد عملك حاجة ؟ حاسس بإيه يابني ؟؟!!
-إخرســــي ! .. جأر “سفيان” بصوت خشن غير مألوف له بالمرة
وثب قائماً و هو يدفعها بعيداً عنه كما لو أنها جرثومة وبائية، كان وجهه محتقناً بالدماء و الشعيرات الدموية بعينيه تكاد تنفجر من شدة الضغط النفسي و العصبي، كان شعره مشعثاً و جسده يرتجف من الغضب الذي يملأه
ظلت نظراته الفتاكة متصلة بنظرات “ميرا” المشدوهة، بينما كان “عمرو” قد وصل إليها في هذه اللحظات، وبخ “سفيان” على تصرفه لكن لا هو و لا الزوجة المصدومة إستمعا إلى كلماته
و ما لبثت العبارات تخرج من فم “سفيان” كالقنابل :
-إنتي لسا هاتكدبي عليا ؟ أنا إبنك ؟؟؟ لأ طبعاً مش إبنك. كنت حاسس.. بس إللي عايز أعرفه. إللي لازم تقوليه دلوقتي. أنا إبن مين ؟ هه ؟ ردي عليا أنا إبـن ميــــن ؟؟؟؟؟
-إيه إللي إنت بتقوله ده ؟!! .. صرخت “ميرا” فيه
قامت هي الأخرى بمساعدة “عمرو”، تركته و إقتربت من الإبن و هي تستطرد بإنفعال جم :
-إنت إبني أنا طبعاً. مين قال غير كده ؟ و إيه إللي إنت حاسس بيه ؟ إنت إبني أنا يا سفيان سـامع ؟ أنا إللي ربيتك و حبيتك و كبرتك و إديتلك عمري كله. أنا إللي خليتك أول إهتماماتي. خليتك إبني الوحيد. إكتفيت بيك. إنت بس. إنت إبني. أنا أمك. أنا أمــك !!
و كانت تستخدم سبابتها في الإشارة له و لنفسها ..
فرغت، و بقى الأخير يحدق فيها صامتاً، على الطرف الآخر هناك “عمرو” يقف وراء زوجته واجماً، كأن تصريحاتها التي يعرفها و يسرّها في نفسه مخافة هدم حياتهما أذهلته، كانت لها معاني مختلفة تماماً حين نطقتها منذ لحظات.. هكذا أكدت له بمنتهى البساطة أنه لا شيء بالنسبة لها، وجوده مجرد وسيلة للغاية الأسمى بنظرها، و لم تكن الغاية يوماً سوى “سفيان”.. و “سفيان” وحده !
-يارا تبقى أمي ؟! .. قالها “سفيان” بصيغة السؤال و كان نوعاً ما هادئاً
ميرا بغضب شديد :
-قولتلك مالكش أم غيري. يارا مين دي إللي بتقول عليها أمك ؟ دي ست حقيرة. و ×××××. لسا مش واخد بالك ؟؟!!!
أردف “سفيان” على نفس النحو الهادئ :
-و سفيان الداغر.. الكبير. أبوكي.. يبقى أبويا أنا كمان.. يعني إنتي أختي. مش أمي !!!
ميرا بعصبية : قولتلك أنا أمك. أنا بس إللي أمك.. و أمسكت بتلابيبه
-إوعى تكرر الكلام ده تاني فاهمني !!
رمقها “سفيان” بنظرة مستنكرة لا تخلو التنفر، ثم دفعها عنه مرةً أخرى و إستدار ماضياً للخارج، خارج الغرفة و خارج المنزل من جديد
بينما تركض خلفه محاولة عبثاً إبقائه و إستعادته إليها، إلا أنها لم تجد “عمرو” بجوارها يؤازرها كما في كل مرة ….
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
كما إنزلقت الفكرة الصادمة مع وعيها قبل مدة لا تعرف حسابها، قفزت بعقلها من جديد، حين بدأت تفيق من إغماءتها… في تلك الأثناء حاولت إقناع نفسها أن هذا كان كابوساً ليس إلا، فتلك النوعية من الكوابيس ليست غريبة عليها
حاولت تأكيد ذلك بأكثر من طريقة، فهذا مستحيل، أن يعود الميت إلى الحياة… هذه تخاريف بيّنة، بالطبع لم يحدث هذا، و لم يأتي لها “سفيان” الشاب، كانت تحلم، فهي كانت ذاهبة للنوم أصلاً، لقد خلدت إلى فراشها.. أجل. مئة بالمئة، لقد حدث ذلك !
-إنتي مابتحلميش على فكرة.. و لا إتجننتي. إنتي عاقلة جداً.. إطمني يا قلبي !!
إحتبست أنفاسها لا شعورياً، لدى سماعها هذا الصوت !
خافت، خافت كثيراً لو فتحت عينيها يتحقق الكابوس و تراه.. تراه مجدداً، ترى عذابها مجدداً، جحيمها، الشيطان، زوجها الأول، و الرجل الأول بحياتها، و الأبشع من ذلك لو تأكدت من إشارته السالفة لحقيقة بنوة “سفيان” الشاب لها… مستحيل، طفلها مات، منذ سنوات طوال، لم تكتحل عيناها به قط، لا بطفولته، و لا صباه، و لا مطلع شبابه.. “ميرا” التي فعلت، أنجبت و عاشت في سعادة لم تذقها “يارا” أبداً و كان لابد من معاقبتها على ذلك، هي و إبنها !!!
-مش إبني ! .. صرخت “يارا” و هي تقفز نصف جالسة فوق هذا الفراش الوثير
هكذا إستيقظت فجأة و تماماً، جمد كل شيء لبرهة، بقيت كما هي، منكسة الرأس، فمازالت متوجسة… حتي تشجعت قليلاً، و رفعت أنظارها شيئاً فشيء
عودة بالزمن ثلاثة و عشرون عاماً، هل عادت ؟ أم أن هذا المكان لا يزال كما هو ؟!!
إنها غرفتها، غرفته.. الغرفة التي شهدت نصف معاناة حياتها، إنه بيت آل”داغر”، مستحيل !!!!
-مستحيل ! .. تمتمت بخفوت و هي تهز رأسها للجانبين
-إيه هو المستحيل يا عمري ؟
إلتفتت إلى هذا السؤال، إلى الشخص الذي طرحه.. كان يجلس هناك، فوق كرسي على مقربة منها، بجواره أضأ مصباح الكومود و ألقى نوره على وجهه المسترخ الباسم
كان كما هو، لم يتغير و لم يغير فيه الزمن شيئاً، إلا شعره الأشيب فقط، و القليل من التجاعيد التي أحاطت عينيه الحادتين و صدغيه …
كان هو بشحمه و لحمه، مهيباً، وسيماً، خطيراً.. و مجدداً عادت تنصهر في حضوره !
-أهلاً يا حبيبتي ! .. قالها “سفيان”… الأب، مبتسماً بوداعة
مد جسمه قليلاً للأمام و هو يتابع بهدوء :
-وحشتيني يا يارا.. ياااه. 23 سنة. بس لسا زي ما إنتي. أجمل فرسة إمتلكتها في حياتي
-إنت مين ؟؟؟ .. زمجرت متسائلة
عقد حاجبيه قائلاً :
-أنا مين ؟ مش معقول تكون نسيتي. مهما حصل. مش معقول تنسي جوزك. أبو إبنك .. و إبتسم بلؤم
يارا بغضب : جوزي و إبني ماتوا من زمان !
فإنفجر ضاحكاً و هو يقول :
-و حياتك عندي ما كنت خايف إلا من ذكائك الخارق ده. ماكنش هاين عليا أسيبك ! .. و كف عن الضحك بسهولة مكملاً بإبتسامة :
-بس رغم كل إللي حصل.. أنا فخور بيكي جداً يا قلبي. حقيقي كيفتيني
شعرت بتلف أعصابها فلم تحتمل أكثر و تحركت لتقوم من الفراش، لكنه جاء فجأة، بلحظة وجدته بجوارها مطوقاً خصرها بذراعه و مقيداً حركتها …
أخذت تصرخ فيه ليتركها و لكن من دون جدوى طبعاً، بينما كان مستمتعاً بتكرار اللعبة القديمة و هو يقول بضحك :
-بس بس.. إهدي يا حبيبتي. ليه العصبية دي ؟ ماحصلش حاجة. أنا رجعتلك تاني. و إبنك عايش. إبنك عايش يا يارا !
-إبنـي مــات ! .. صرخت بعنف
-إبني مـات و أنا بولده. ده حفيدك إنت. لو كان إبني كنت حسيت بيه. ماكنتش هافكر يبقى في بينا حاجة زي كده. و هو كمان مستحيل يفكر في أمه كـده !!
بقيت إبتسامته كما هي، و فوراً بدأ يحكى لها كل شيء …
Flash back …
أخذ “سفيان” الخاتم و وضعه جانباً فوق الطاولة ، ثم دفع لإبنته بورقة و هو يقول بصوت قوي :
-عايزك توقعيلي علي الورقة دي بقي !
نظرت إليه أولاً ثم للورقة التي دفعها لها و قالت :
-إيه الورقة دي ؟
سفيان بجدية : ده عقد جوازك . مش عايز مخلوق يعرف عنه حاجة. نهائي حتى عمتك وفاء لحد ما يجي الوقت المناسب
-إزاي هتجوز واحد عمري ما شوفته ؟ و ليه إنت عملت كل ده ؟؟؟
نظر “سفيان” لها محتفظاً بغموضه، فهو لم يحكي لها الأمور تفصيلياً ، قال بحزم :
-الولد شاب و وسيم إطمني. و فوق كل ده متعلم كويس و أبوه راجل مهم في البلد يعني مش هرميكي في أي حتة و السلام
هزت رأسها و هي تقول بحيرة :
-طيب فهمني بليز . ليه ؟
سفيان ببرود : منغير ليه. إنتي تسمعي كلامي من سكات أنا مش هضرك. و عموما أنا إشترط عليه حاجات كتير من ضمنهم إن إبنه يسيبك براحتك لحد ما تاخدي عليه و هما حاطين في إعتبارهم إنك لسا صغيرة. إطمني أنا مرتبلك كل حاجة
تنهدت “ميرا” بيأس و قالت :
-طيب عقد الجواز ده مظبوط و لا إيه ؟
سفيان : طبعا مظبوط. ده على إيد مأذون و إتنين شهود كمان. مش فاضل غير إمضتك .. ثم ناولها قلم و قال آمراً :
-وقعي يلا
نظرت له بتردد، لكنها أخذت القلم بالنهاية و خطت إمضتها على الورقة بتمهل ..
-تمام ! .. تمتم “سفيان” و هو يسحب الورقة من تحت يدها
جمع بضعة أوراق أخرى في ملف و أعطاه لأبنته مستطرداً :
-الورق ده نسخ لأصول أنا حطتهم في خزنة البنك . تخليه معاكي هو و قسيمة جوازك. و في الوقت المناسب تطلعيه
إبتلعت ريقها بصعوبة و قالت بتوجس :
-إنت بتعمل كل ده ليه ؟ على فكرة إنت بترعبني !
سفيان بتحذير قوي :
-إوعي . إوعي تتهزي أو تخافي من أي حاجة مهما حصل. إنتي صغيرة أه بس إنتي بنتي. فاهمة يعني إيه يا ميرا ؟!
………………
ميرا هانم ! الهدية وصلت .. قالها النائب و هو يقترب منها و في يده السرير النقال الخاص بالأطفال حديثي الولادة
تهللت أساريرها و هي ترد بسعادة :
-دياب .. Thanks . رغم إني إستنينك كتير !
مد لها السرير النقال و هو يعتذر بلطف :
-أنا آسف على التأخير . لحد ما جبت الطفل البديل و وضبت أموري و قدرت أطلع بيه من المستشفى منغير ما حد يحس
أزاحت “ميرا” الأغطية الكثيرة عن الرضيع و قبضت عليه بتلهف و هي تقول :
-baby . Welcome home .. إنت في آمان دلوقتي. إنت معايا يا سفيان !
و ضمته إلى صدرها بحب جارف …
قام “عمرو” من مكانه و إقترب منها، طوق كتفيها بذراعه و هو يقول بنعومة مداعباً خد الصغير بإصبعه :
-سفيان.. و الأم ميرا !
ميرا و هي تتأمل ملامح أخيها، و الذي أصبح إبنها أيضا إبتداء من اليوم :
-و الأب عمرو !
كانت ملامحه كلها ، كناية ، بل إستنساخ دقيق لملامح والدها … إحتضنت الطفل بلطف و هي تتمتم بتملك واضح :
-إنت بتاعي . بتاعي أنا .. هي مالهاش فيك أي حاجة . إطمن حبيبي .. محدش هايقدر ياخدك مني !
Back …
-و بكده حرمتك من الميراث. و ميرا خدت الولد !
بهذه العبارة أتم “سفيان” سرد قصته، و أضاف بينما “يارا” تجلس متخشبة بين أحضانه القسرية :
-كنت مخطط أجيبك تعيشي معايا برا و يبقى معانا إبننا. رغم إن ميرا إتعلقت بيه و بقى بالنسبة لها إبنها فعلاً. كنت هاعوضك عن كل ده.. بس لما مر كام شهر لاقيتك إتجوزتي. و خلفتي. مرتين. كل ده و أنا عايش يا يارا !!
كانت نبرة الغضب واضحة بصوته
دبت الحياة فيها مجدداً، إرتدت بوجهها للخلف و نظرت إليه، تعاظم الحقد في صدرها إزائه و هي تنطق عبر أسنانها المطبقة بقوة :
-إنت عملت فيا كل ده ؟ إنت حرمتني من إبني طول السنين دي ؟ و أخرتها.. كنت هاغلط معاه غلطة زي دي ؟ ده أنا هاقتلك. هاشرب من دمك يا سفيان يا داغر !!!!
و تعاركت معه بالأذرع، عراك لم يدم سوى لحظات، قبل أن يلوي يديها ليّاً مؤلماً و هو يقول :
-لما إنتي تشربي من دمي أنا أعمل فيكي إيه ؟؟؟
إندفعت الدماء حارة إلى وجهها و إشتدت إطباقة فكيها، بينما يكمل و هو يقبض على عنقها بأصابع مهددة :
-حسابك تقل أوي. عارفة كام مرة سامحتك ؟ كام مرة إديتك فرصة ؟ كنتي فاكرة إيه ؟ كنتي فاكراني سايبك ؟ يمكن. بس بمزاجي. إنما دلوقتي بقى هانتحاسب. هانرجع الشريط من أوله و هاتتحاسبي يا يارا .. فاهماني يا حبيبتي ؟
-تحاسبني ؟! .. غمغمت بلهجة متشنجة
-حساب الملَكين هه !!
رد بإبتسامته الشيطانية :
-بالظبط !
و هنا دق باب الغرفة، ثم فتح لتلج تلك السيدة المتآنقة من الأذنين للرجلين، و كان تعبيرها البشوش النبيل يثير الريبة حتمياً …
إنتبهت “يارا” لصوت الأخير و هو يقول داعياً السيدة للدخول :
-إتأخرتي ليه ؟ دي فاقت من بدري. تعالي سلمي على يارا يا وفاء ! …… !!!!!!!!!!!
يتبــــع ….
الفصل العاشر
_ إختفاء ! _
جلست “يمنى” بجوار جدتها بعد أن أعطتها حبة دوائها بصعوبة، ظلت تهدئها و تربت على كتفها بلطف محاولة الظهور بمظهر المتماسكة على عكس ما هي عليه حقيقة
بينما تذرع “يسرا” غرفة المعيشة جيئة و ذهاباً و هي تتحدث عبر الهاتف بعصبية :
-بقول لحضرتك أمي مختفية بقالها إسبوع. أنا كنت مسافرة و أختي كانت هنا عند جدتي.. هي إللي كلمتني و قالتلي.. يعني إيه نرجع نلاقي الشقة مكسورة و هي مش جوا؟ .. طيب راحت فين و حصلها إيـه ؟.. أومال مين المسؤول يعنـي !!!
و أغلق الخط
ليس من عندها، بل المتحدث الآخر، ضاق ذرعاً بمخاطبتها الحادة فأنهى المكالمة …
-الله يلعنكوا كلكــوا !!
صرخت “يسرا” في الهاتف، ثم رمته بعنف تجاه الحائط، فسقط متفرقاً لعدة قطع !
-المحامي قالك إيه يا يسرا ؟! .. خرج هذا السؤال من فم “يمنى”
ردت “يسرا” بنفس لهجتها الجلفة دون الإلتفات نحو شقيقتها :
-الزفت قال الموضوع مش في إيده يا حبيبتي. قال النيابة بتحقق و هو مش مسؤول دلوقتي
-يعني إيـه ؟!! .. هتفت الجدة… “ميرڤت” و الجزع بادياً عليها بشدة
-أمكوا راحت يعني ؟ حصلها إيه حد يفهمني !!!
واصلت “يمنى” تهدئتها و هي تقول :
-إهدي بس يا تيتة.. إن شاء الله هانلاقيها بس إهدي يا حبيبتي
-إهدا إيه ؟ و إهدا إزاي ؟ يارا جرالها حاجة. أنا قلبي حاسس بنتي جرالها حاجة !! .. و تدفقت دموعها الحبيسة مع تخاذل نبرة صوتها الثابتة
إحتضنتها “يمنى” و هي تبكي معها و قد إنهارت قواها على الأخير، لم تحسن الإستمرار في دور التماسك هذا أكثر، راحت تجهش ببكاء شديد
لم تتحمل “يسرا” بكائهما المتزايد، فصاحت بإنفعال :
-خلاص بقى. كفاية. كل يوم على الحال ده. حرقة دم و عياط. لازم نتصرف لازم نشوف حل !
لم تردا عليها و إستمرا في البكاء، لتقول و هي ترتعش من قمة الغضب :
-إحنا سألنا كل إللي نعرفهم عنها. الأصدقاء و الأعداء. بس ماسألناش الشخص إللي كان لازم يتسئل أول واحد !
و هنا إنتبهت لها “يمنى”، إبتعدت عن جدتها و نظرت إليها متسائلة بإهتمام :
-هو مين ده يا يسرا ؟؟
يسرا بغلظة : النجم. الـSuper Star إللي كان لازق لأمك ياختي في الفترة الأخيرة. سفيان عز الدين !
-قولتي مين ؟ سفيان !! .. هكذا تساءلت “ميرڤت” بدورها و قد أجبرتها الصدمة علي الكف فوراً عن النحيب المرير
نظرت إلى حفيدتها منتظرة إجابة، فقالت “يسرا” بلهجة نزقة :
-أيوه يا تيتة. للآسف ماكنتش أحب أبلغك حاجة زي دي. بس تقريباً الدنيا كلها عارفة و الخبر كان منشور من فترة في الجرايد و المجلات.. ماما كانت متصاحبة على سفيان عز الدين. المغتي المشهور ده لو تسمعي عنه. ممكن جداً تكون معاه !
لم يستوقف “ميرڤت” أي شيء حكته “يسرا” بقدر ما إستوقفها الإسم الذي نطقته، لتستوضح عنه أكثر بإلحاح :
-الراجل إللي إسمه سفيان ده شاب و لا راجل كبير ؟ و إسمه إيه بالكامل ؟؟؟
زفرت “يسرا” بضيق و هي ترد على الأسئلة التافهة من وجهة نظرها :
-يا تيتة بقولك مغني و Super Star. يبقى أكيد شاب و محبوب جداً كمان. و إسمه بالكامل سفيان عمرو عز الدين
سكتت “ميرڤت” تفكر في الذي سمعته، بينما تقول “يمنى” مجادلة شقيقتها :
-بس يا يسرا إختفاء ماما مش طبيعي. باب الشقة كان مكسور. ده مالوش غير معنى واحد إللي إحنا عارفينه. و ماظنش إللي إسمه سفيان ده يعمل كده. ليه و إيه مصلحته ؟ و لا إنتي إيه رأيك يا تيتة ؟ .. و نظرت إلى جدتها
لم تكن الجدة هنا في تلك اللحظات، كانت مستغرقة في التفكير، أي صدفة هذه ؟ و كيف لم تخبرها إبنتها أمراً كهذا ؟ لو حقاً ما تفكر فيه صحيحاً !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
بدأت “يارا” تستيقظ… عندما شعرت بلمسات أحدهم على بشرتها، و خاصةً وجهها، فتحت عينيها بتثاقل، لتراه ماثلاً أمامها و على وجهه تلك الإبتسامة الواثقة التي تذكرها جيداً
تآففت بضيق شديد و سحبت الغطاء عليها و هي تقوم نصف جالسة فوق الفراش.. كان يجلس أمامها و حاولت الوصول إلى روب المنامة التي أعارتها “وفاء” إياها، لكن للأسف وجدتها ملقاة خلفه تماماً، فإستسلمت لإعتداء نظراته الفاحصة الجريئة لتفاصيل جسمها الذي لا يغطيه سوى تلك القطعة الصغيرة من ثياب النوم …
-صباح الخير يا حبيبتي ! .. دمدم “سفيان” بصوت حنون تعرف تماماً درجة تظاهره به
فهو ممثل ماهر، لا نظير له في التلاعب بالمشاعر و الأعصاب، لكن ليس معها، على الأقل الآن، ربما قديماً، لكن في الوقت الراهن، لا ثم لا …
-و في خير ممكن يبقى موجود معاك في مكان واحد !
و كالمتوقع أضحكته جملتها الهزلية، مد يده نحو وجهها و هو يقول بنعومة :
-كل الخير هاتشوفيه على إيدي. لو لينتي دماغك و سمعتيني كويس. كل حاجة هاتتصلح
هتفت “يارا” بحدة و هي تقاوم كفه المحتضن خدها :
-إنت شكل أعراض الشيخوخة ظهرت عليك. مابقتش مركز و لا عارف أنت بتقول إيه.. أنا الشيء الوحيد إللي مانعني دلوقتي أتعامل معاك و أخد حقي منك هو إبني. أبعت هاته لو سمحت
سفيان بجدية : مش من مصلحتك خالص إنك تقابليه دلوقتي. قولتلك هو محتاج يفصل شوية و يكون لوحده. بعدين هايجي من نفسه .. و أكمل بتهكم :
-ما هو مش معقول يقدر يبص في وشك قبل ما يتخطى إللي حصل. لو بص هايشوف إيه و مين ؟ أمه و لا الست إللي كانت عايزة آ ا ..
-إخــرس ! .. صاحت بغضب
-ما إنت السبب. إنت السبب في كل إللي حصلي و حصله. حرمتنا من بعض. حرقت قلبي عليه. و خليت واحدة مستهترة ماتسواش زي بنتك تاخده و تربيه
سفيان بتحذير هادئ :
-إتكلمي عدل طيب. لما تجيبي سيرة بنتي. و ياريت ماتتكلميش عنها خالص لو مش هاتعرفي تظبطي لسانك إللي نسيت أقصهولك قبل ما إمشي ده
يارا بتبجح : إنت فاكرني خايفة منك و لا إيه ؟ الشويتين بتوعك دول كانوا ممكن يأثروا فيا زمان إنما دلوقتي لأ. خلاص يا سفيان باشا. مابقتش العو إللي كنت بترعب منه
رفع حاجبه و هو يتأملاها بناظريه، التحدي السافر الذي يملأ عينيها حاز على إعجابه فوراً، فقال :
-علمتك.. و فلح فيكي العلام. براڤو يا يارا. بجد فخور بيكي أوي
و ضحك
-آه بس علامك ده للأسف مافلحش في بنتك الغالية. بعدك عنها عمل منها نسخة منك. بس نسخة رخيصة أوي. كنت فاكر إنك بتحميها. بس شفت بقى إنك إتقرطست و ضحيت على الفاضي ؟ .. هكذا هزأت به مبتسمة بسخرية
-بنتك المحترمة. ماشية مع خطيبها الأولاني. و بيتقابلوا في شقة مفروشة
لم تتوتر إبتسامته الباردة أبداً، و رد عليها بمنتهى الهدوء :
-إنتي عارفة أنا حتى لو شوفت ده بعيني مش هاصدق بردو. ثقتي في ميرا مالهاش حدود يا حبيبتي. دي بنتي. بنتي أنا
يارا بإبتسامة شامتة :
-ما هي عشان بنتك و الله. و سنين حياتك و عمرك كله. فاكر الكلام ده ؟ مش عارفة ليه حاسة إنك هاتقضي على حياتك قريب. ده لو في حمية يعني فاهمني !
إبتسم من جديد و إقترب منها قائلاً بخبث :
-إنتي تحمدي ربنا إن الحمية دي ماظهرتش لحد دلوقتي. و إلا كانت رقبتك طارت أول واحدة. يا مدام ياللي روحتي إتجوزتي و جوزك عايش !
و طوق خصرها معتقلاً إياها بين ذراعيه في عناق حار …
-إنت أكيد مجنون. إبعد عنـي !!
لم يؤثر فيه صراخها المعترض أو مقاومتها الشديدة، مما أذهلها، أن يكون محتفظاً بقوته حتى الآن، بل يبدو أنها إزدادت، حتى أن لياقته لا تزال كما هي تقريباً !!!!
-أنا جوزك يا قلبي ! .. قالها ضاحكاً
يارا بعصبية : جوزي رؤوف الزيني مات. أنا ماعرفكش و مافيش حاجة تثبت إنك كنت جوزي
لصق فمه بأذنها و همس دون أن يفلتها :
-لأ فيه. ماتخافيش أنا بحتفظ بكل حاجة. إنتي لسا مراتي. أنا ماطلقتكيش
لم تتوقف عن المقاومة لحظة واحدة و هي ترد عليه :
-حتى لو كلامك صح. القانون و الشرع يسمحولي بالطلاق منك و الجواز من أي حد بعد المدة إللي غيبتها. أنا دلوقتي مش مراتك. و إنت عمرك ما هطول مني حاجة طول ما أنا حية. و المرة دي أنا أد كلامي يا باشا.. و دفعته عنها مستخدمة كل قوتها
لكن للأسف لم تفلح قوتها أبداً أمام قوته، لولا أنه أفلتها بإرادته بعد أن بدأت قواها تخور… قامت من السرير على الفور و إتجهت نحو روب المنامة، إرتدته بسرعة و هي تخاطبه بإقتضاب :
-أنا عايزة أمشي من هنا. أحسنلك تسيبني أمشي قبل ما الموضوع يكبر
قام “سفيان” هو الآخر و إستدار نحوها، وضع يديه في جيبيه و هو يقول بإبتسامة فاترة :
-واضح إن إنتي مافهمتيش معنى ظهوري تاني. أنا ماكنتش مخطط أرجعلك و لا أخليكي تعرفي الحقيقة دلوقتي. حتى لما أتجوزتي على فكرة. قررت أسيبك في حالك. قلت أسيبك تعيشي حياتك يمكن تنسي إللي حصلك على إيدي.. لحد ما وصلني إللي عملتيه في جوزك. ساعتها عرفت إنك مانستيش و لا عمرك هاتنسى. و كنت واثق إن كل ده هايحصل. كنت قاعد مستني. و فعلاً حصل. و أديني رجعتلك. عارفة يعنى إيه رجعتلك ؟ عمرك ما هاتقدري تتخلصي مني تاني. خلاص كان Option لمرة واحدة و خلص
-يبقى هاقتلك ! .. غمغمت بشراسة
قهقه “سفيان” قائلاً :
-أتمنى يبقى عندك الجرأة لحاجة زي كده طبعاً. بس أنا واثق إن حماسك مؤقت ! ..و تابع ضحكه و هو يمضي نحو الباب
قال قبل أن يخرج بينما تقف مكانها و هي تحدق فيه بكراهية عمياء :
-أنا كنت طالع أصحيكي عشان نفطر سوا. بس الظاهر مودك مايسمحش.. مش مشكلة هستناكي على الغدا. لو ماجتيش هاجيلك أنا
و أرسل لها قبلة في الهواء :
-باي يا روحي ! .. و أغلق الباب خلفه
-طلعت روحك !! .. تمتمت بغيظ شديد، و أكملت بتوعد :
-و حياة بنتك لتشوف هاعمل إيه. فيك و فيها. و بإيدك إنت يا سفيان يا داغر ! ………… !!!!!!!!!!!!!!!
يتبـــع …
الفصل الحادي عشر
_ إنتقام ! _
وقفت “ميرا” خلف ستار الشرفة الشفاف، تراقب زوجها و هو يتريض كعادة كل صباح بالخارج حول باحة المنزل
كانت تمسك بهاتفها تتحدث بنفس الوقت بصوت خافت تلقائياً :
-الوضع مش مستقر أبداً يا يوسف. أنا مش عارفة أعمل إيه. بجد تعبت خلاص !
إستمر صوته المهدئ في مواطئة مشاعرها القلقة :
-يا ميرا قلقك مش حل. إهدي شوية يا حبيبتي. إن شاء الله كل حاجة هاتبقى كويسة
هزت رأسها قائلة بلهجة يائسة :
-مش حاسة بكده خالص يا يوسف ! .. و إستدارت فجأة ماضية نحو آريكة الصالون
ألقت بثقلها فوقها و هي تستطرد حاجبة وجهها بذراعها :
-سفيان وحشني أوي. أول مرة يبعد عني أوي كده. أول مرة ماسمعش صوته مدة زي دي !!
-حبيبتي لازم تقدري وضعه. إللي سمعته منك أنا نفسي مش قادر أستوعبه لحد دلوقتي ما بالك هو.. لازم ياخد وقته و يبعد عن الضغوطات دي كلها فترة. هو عمل الصح لما بعد
غمغمت “ميرا” بلوعة حارقة :
-بس أنا مش قادرة على البعد ده. قلبي مكسور عليه. ده إبني يا يوسف. إنا ماعنديش غيره
-طيب معلش. هدي نفسك عشان خاطري هايرجعلك. صدقيني مايقدرش يكرهك و لا يبعد عنك زي ما إنتي فاكرة
ميرا بمرارة : ياريت.. ياريت مايبعدش عني على الأقل. إنما واثقة إنه بقى بيكرهني. أكتر من الأول !
طمست الجدية لهجة “يوسف” و هو يرد عليها :
-بصي يا حبيبتي. الحالة إللي إنتي فيها دي ماتنفعش و مش عجباني. و بعدين أنا شايف إن محدش مهتم بيكي خالص الفترة دي. إسمعي. تعالي بكرة على البيت. بيتنا. إنتي أصلاً وحشاني أوي. قولي لجوزك إنك هتسافري في أي حتة يومين و نسافر أنا و إنتي. منها تريحي أعصابك و منها أشبع منك شوية. ها إيه رأيك ؟
ميرا بتفكير : مش عارفة يا چو !
-مش عارفة إيه بس يا حبيبتي. إسمعي كلامي. إنتي محتاجة تفصلي شوية. و بعدين أنا هاخدك لمكان هاتحبيه أوي. بعيد عن العيون و عن الدوشة. هانبقى مع بعض لوحدنا. مش هاخليكي تفكري في أي حاجة. صدقيني مش هاتندمي
تأثرت “ميرا” كثيراً بإقناعه السحري لها، دائماً يتغلب عليها هكذا و يملي عليها رغباتها بمنتهى السهولة
لم تحسن التفكير أكثر كالعادة، تنهدت بعمق ثم قالت مذعنة :
-خلاص يا چو. أوك أنا موافقة… هنسافر !
-هاتسافري مع مين يا حبيبتي ؟! .. جاء هذا السؤال من خلفها مباشرةً
تيبست للحظات، قبل أن تقول بصوت طبيعي منهية المكالمة :
-أوكي يا دودي. هاكلمك بالليل أكد عليكي. باي يا روحي ! .. و أغلقت الخط
قامت من مكانها و إلتفتت لترى زوجها.. “عمرو” قد فرغ من وصلة التريض، ها هو يقف أمامها يتصبب عرقاً إثر المجهود الذي بذله من بكرة الصباح، كان يمسح العرق بمنشفته الصغيرة و هو ينظر إليها منتظر ردها …
لم تطيل عليه و قالت بلهجة ثابتة مع إبتسامة صغيرة :
-هاي يا حبيبي. كويس إنك جيت. دي داليا البدري لسا قافلة معايا. إتفقت معايا على سفرية للساحل يومين كده. لما عرفت إني مضايقة و في مشاكل و كده. أصرت تاخدني معاها أغير جو !
-هتسافروا لوحدكوا ؟! .. سألها عاقداً حاجبيه
ميرا برقة : لأ طبعاً يا حبيبي. بنت خالتها صاحبتي بردو هاتيجي معانا هي و ولادها الصغيرين
-إمم. و هاتقعدوا فين ؟ حاجزة آوتيل يعني ؟
-لأ هي عندها شاليه هناك. هايتفتح إنهاردة و يتوضب. و بعدين هانروح الصبح
أومأ “عمرو” و هو يطلق نهدة مطولة، ألقى المنشفة من يده و مضى صوبها قائلاً بصوته الهادئ :
-سافري يا حبيبتي. إنتي فعلاً محتاجة إجازة زي دي .. و طوقها بذراعيه و ضمها بقوة مكملاً :
-بس ماتتأخريش عليا. و كلميني كل شوية
إبتسمت “ميرا” على مضض و قالت :
-Sure يا حبيبي. أنا ماقدرش أفوت ساعة منغير ما أسمع صوتك !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
إنطلقت سيارة “سفيان الداغر”… الأب، بشوارع المدينة، تحت آشعة شمس الظهيرة، كان يقود بنفسه، و يجواره جلست “يارا” ملتزمة الصمت الهدوء
بينما تجلس “وفاء” بالمقعد الخلفي.. “وفاء”، شقيقته، لقد هرمت كثيراً، لكنها لا زالت صحيحة العقل و البدن، مثله تماماً، يالها من عائلة !!!
-يآااااه. مصر وحشتني أوي يا سفيان ! .. قالتها “وفاء” و هي تتطلع عبر النافذة على الإنشاءات العريقة و الطرق الحديثة
يرد الأخير دون يشتت تركيزه على القيادة شيء :
-أدينا رجعنا تاني يا وفاء. مش أنا وعدتك في يوم هانرجع ؟
-أيوه. مافيش أحلى منها و الله. مهما روحنا هي الأصل .. و نظرت نحو “يارا” متسائلة :
-إنتي مابتتكلميش ليه يا يارا ؟ أنا من ساعة ما شوفتك مانطقتيش معايا بكلمة !
صمت قصير… ثم قالت “يارا” دون الإلتفات إليها :
-بصراحة حاسة إن حواليا أرواح. و أرواح شريرة كمان. مش قادرة أصدق إنكوا رجعتوا تاني
و هنا ضجت السيارة بالضحك، ضحك كلاً من “سفيان” و “وفاء”… أدارت “يارا” عيناها بسأم، ليقول “سفيان” مسيطراً على ضحكه بصعوبة :
-طيب يا حبيبتي إنتي ممكن تشوفيها مستحيلة معايا أنا. لكن معقولة تخيلتي إني ممكن أقتل أختي ؟ شقيقتي ؟
هزأت به : و ليه لأ ؟ على أساس إنها حاجة غريبة عليك ؟ ما إنت قتلت إخواتك من أمك قبل كده
سفيان بحدة : سبق و شرحتلك الموضوع ده. دول ماكانوش إخواتي. دول كانوا زرعة نجسة أمي نفسها كرهاهم. الله يرحمها بقى
نظرت له في هذه اللحظة، و قالت بثقة :
-إللي أنا متأكدة منه إن ربنا لا يمكن هايرحمك إنت !
سفيان ببرود : دي حاجة بيني و بينه بقى. مالكيش دعوة إنتي
و تدخلت “وفاء” :
-الهدف من خطة سفيان كان قتل سامح بس يا يارا. و كنوع من أنواع الإنتقام مني أنا. قرر يبين اللعبة حقيقية بالنسبة لي كمان عشان يرهبني. باب الأوضة ماكنش ملغم و لا حاجة. و مسدس سامح كان فاضي. لحظة ما إتحركت أنا ناحية الباب عشان أفتحه خرجت الطلقة من مسدس سفيان. و إستقرت في دماغ سامح.. مات !
لفظت الجملة الأخيرة بصوت أبح، و أردفت بلهجة مهزوزة :
-مات و خرجت مع سفيان حية. فجّر المكان و في ثواني كانت كل حاجة عبارة عن كوم تراب.. سامح كان يستحق الموت. و يمكن أنا كمان !
-و أخوكي معاكي ياختي ! .. قالتها “يارا” بإستهجان
رمقها “سفيان” بنظرة جانبية و قال بخبث :
-مش بالسرعة دي يا قلبي. لسا ماشبعتش منك
قهقت بقوة قائلة :
-ده عشم إبليس ده مش كده ؟ .. و أكملت :
-المهم يعني و إنت مخرجني كده و عامل فيها الملاك الطيب واخدني أشوف أمي و بناتي. مش خايف أهرب منك ؟ أو أصوت و أفضحك و ألم عليك الناس ؟
أجابها بفتور : ماظنش بعد الذكاء الخارق إللي حل عليكي فجأة تعملي كده. لسبب بسيط جداً. إبنك. معايا. منغيري مش هاتعرفي توصليله و لا حتى تشوفيه
و هنا نظرت له بقوة، و قالت بصلابة :
-إنت خدته على فين ؟ إنطق إبني فين و عملت فيه إيه ؟؟!!
-إهدي كده بس. مالك ؟ ده إبني بردو هاعمل فيه إيه يعني ؟ مقعده في حتة كويسة و زي الفل. لما يهدا خالص هاخدك و نروحله. أو يمكن هو إللي يجيلنا. هانشوف !
و توقفت السيارة فجأة، نظرت “يارا” حولها لتجد أنها قد رصلت عند بيت أمها أخيراً… نظرت له مجدداً، كان يبتسم ببساطة و هو يقول لها :
-يلا يا حبيبتي إنزلي. هانستناكي نص ساعة. ياريت ماتتأخريش. عشان نلحق اليوم من أوله في بيت ميرا. أصلها هتسافر بكرة يومين و أنا أصلاً ماشوفتهاش من ساعة ما رجعت. يدوب أشوفها و أودعها بالمرة ……… !!!!!!!!!!!!!!!!
يتبـــع ….
الفصل الثاني عشر
_ صفاء ! _
إنفجرت “يمنى” صارخة فور رؤية أمها خلف باب الشقة، قفزت عليها و عانقتها في الحال و هي تهدل بعدم تصديق :
-مامـــي ! مامــــي حبيبتـي. إنتي كويسة ؟ الحمدلله. الحمدلله إنك رجعتي .. و أخذت تجهش بالبكاء لا شعورياً
راحت “يارا” تهدئها و تربت عليها بلطف و هي تقول :
-بس يا يمنى. إهدي يا حبيبتي مالك ؟ ما أنا قدامك أهو كويسة. إهدي يا قلبي ..
و هنا جاءت “يسرا” على صوت الجلبة هذه، تسمرت مكانها حين رأت والدتها، كانت تقف خلف أختها كالصنم، و ظهرت “ميرڤت” في اللحظة التالية، أقبلت بالكرسي المتحرك و لم يكن تعبيرها مختلف عن حفيدتها… لكنها قاومت مشاعرها و تحلت بشيء من القساوة في ملامحها و حركاتها
نظرت “يارا” نحوها، كلما رأتها تشعر بحنين جارف، فقد مرت سنوات و هي تنأى بنفسها عنها، تحرمها من حنان الأم و هي حية جزاءً لها على ما فعلته بزوجها
يا للغرابة !
أمها تناصر زوجها.. و تقف ضدها، و لكن مع هذا لا يمكن ألا تحبها، تحبها فقط، دون شروط أو متطلبات …
-كنتي فين ؟
خرج السؤال من فم “ميرڤت” يزخر بالغلظة و الشدة
أبعدت “يارا” إبنتها عن حضنها برفق و مشت عدة خطوات نحو أمها و هي تقول :
-وحشتيني يا ماما. إزيك !
-بقولك كنتي فين ؟؟؟ .. كررت “ميرڤت” بغضب
إبتسمت “يارا” بحليمية، ثم قالت بهدوء :
-باركيلي. كنت بدور على إبني. و لاقيته !
عبست الجدة و الحفيدتين معاً بعد تلك الجملة، فأردفت “يارا” مؤكدة لهن بجدية مطلقة :
-لاقيت إبني يا ماما. لاقيت أخوكو إنتوا كمان.. سفيان عز الدين. المغني المشهور. يبقى إبني أنا !
و حل الصمت و السكون فجأة ….
بعد بضعة دقائق، تجلس “يارا” أمامهن، ما زالت تمضي في شرح الأمور.. كيف إختفت ؟ و أين كانت ؟… و صولاً إلى مجيئها الآن :
-إللي كنت فكراه ميت. طلع عايش يا ماما. هو و أبوه.. تخيلي ؟ بعد السنين دي كلها. يطلع عايش. إبني عايش و واحدة غيري إللي ربته. قال يا ماما لواحدة غيري و أنا حية. حرقة قلبي عليه كانت منغير تمن. عذابي و كل حاجة عملتها كانت منغير أي لازمة !!
-حضرتك عمرك ما جيبتي سيرة عن جواز أول في حياتك ! .. كان هذا صوت “يسرا”
نظرت “يارا” إليها و أجابت :
-ماجبتش سيرة لإن مافيش حاجة تثبته. كل الأدلة إختفت بإختفاء المجرم إللي كنت متجوزاه. بس دي الحقيقة إللي كان لازم تعرفوها فعلاً.. حقكم عليا. خبيت. بس كنت معذورة. كنت هاقول إيه ؟ و ليه ؟ ما أنا كنت فاكرة إن الحاجة الوحيدة إللي صبرتني على مرارة الفترة دي من حياتي راحت. كنت فاكرة إن أخوكوا مات !
يسرا و هي تهز رأسها للجانبين :
-أنا مش قادرة أصدق إللي بسمعه ده
يارا مبتسمة : بس دي الحقيقة يا حبيبتي. إنتي ليكي أخ مني. و تعرفيه. و كمان أعتقد إنك شوفتيه معايا مرة
-طيب هو فين يا مامي ؟
إلتفتت “يارا” إلى “يمنى” لتجيب على سؤالها.. كان الشحوب يكسو وجهها :
-قريب هاجيبه و أجيلكوا يا حبيبتي. خلاص طالما عرفت طريقه. و إنه لسا حي. مش هاسيبه أبداً. هاخده من وسط الكل. محدش هايقدر يمنعني.. و أكملت بتوعد :
-بس مش قبل ما أصفي شوية حسابات قديمة !
-ناوية على إيه ؟! .. للمرة الثالثة في هذه الجلسة يخرج صوت “ميرڤت”
نظرت “يارا” لها، لتضيف بلهجة متشددة :
-المرة إللي فاتت لما كنتي سبب في آذى حد قاطعتك بس. المرة دي لو كررتيها أنا مش هاعرفك تاني. و قلبي عمره ما هايصفالك أبداً.. بنتي إللي ربيتها ما تآذيش حتى لو إتآذت !
قامت “يارا” من مكانها، سارت صوب أمها، ركعت أمامها و أمسكت بيديها قائلة بإبتسامة هادئة :
-إطمني يا ماما.. أنا عمري ما هازعلك تاني. خلاص إبني رجعلي. محدش تاني هايتئذي. أوعدك. حتى لو حصل. مش هايكون بإيدي أنا !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
إستقبل منزل “ميرا” الزوجي عائلة أبيها بحفاوة منقطعة النظير، بدءاً من البوابة الرئيسية و حتى المدخل المفضي إلى البيت… إختصر “سفيان” التحيات مع الجميع حتى أنه تجاوز زوج إبنته عمداً
ليصل إليها هي، رغم أنها كانت أسرع منه و إنطلقت نحو أحضانه فوراً.. كان هذا أكبر عناق حصلت عليه منه، الأكبر على الإطلاق
و وقف الجميع يشاهد هذا في صمت، “عمرو” يبتسم، “وفاء” تتجهم، و “يارا” تسخر في قرارة نفسها.. بينما تعانق “ميرا” أبيها بشدة، يقبل هو رأسها و شعرها و يمسد عليها متمتماً بشوق جارف :
-آاااااااه. وحشتيني. معقولة روحي ترد فيا تاني ؟ كل ما تبعدي عني بموت !
-بعد الشر عليك حبيبي ! .. غمغمت “ميرا” بصوت باكي
عبس “سفيان” و رفع وجهها بكفه دون أن يبعدها عنه قيد شعرة.. حدق بعينيها الدامعتين قائلاً بصوت أجش :
-دموع يا ميرا ؟ ليه ؟!
خرجت الكلمات من فمها بصعوبة :
-عشان إنت وحشتني.. وحشتني أوي. دادي !
علت إبتسامته و قال :
-مش أكتر مني أكيد. يآاااااااه.. ده أنا كنت هاتجنن عليكي. خلاص. من إنهاردة مش هابعد عنك تاني. ترجعي من السفر بس و هاربطك جمبي. و كفاية كده على عمرو .. و إلتفت نحو “عمرو” ليرى تأثير مزاحه عليه
ضحك الأخير و هو يقترب منهما، لم يجرؤ على سحب “ميرا” من بين يدي والدها، فإكتفى بالقبض على ذراعها و هو يقول :
-لأ يا باشا وحياتك. دي ملكي بردو. و حبيبتي و روحي كمان. حد يقدر يفرط في روحه ؟ آسف أنا ليا النصيب الأكبر فيها
-إنسى يا حبيبي طالما أنا رجعت. ميرا ليا أنا وبس !
و ضحكوا معاً
إنتبهت “ميرا” في هذه اللحظة إلى وجود “يارا”، كسا وجهها الوجوم، لاحظها “سفيان” و عرف سر ذلك، فإبتسم و هو يمد يده خلف …
-تعالي يا يارا. تعالي يا حبيبتي ! .. قالها و هو يقبض على رسغها و يشدها نحوهما
وقفت هي و “ميرا” في مواجهة بعضهما، كلاً منهما و كأنها نداً للأخرى، لا.. في الحقيقة هما كذلك فعلاً !
كانت النظرات فيما بينهما مشحونة بالتحد و الإزدراء، إلا أن “يارا” حرصت على أن يكون كل شيء مبطناً، إلى أن قال “سفيان” محاوطاً كلتاهما بذراعيه :
-شوفتي يا حبيبتي ميرا كبرت إزاي ؟ من دلوقتي بقينا عيلة واحدة. أنا عايز أصفي أي خلاف وقع بينكوا. لو واحدة فيكوا زعلانة من التانية تقول عشان المسائل تنتهي كلها دلوقتي حالاً.. ها ؟!!
-من ناحيتي مافيش حاجة يا دادي ! .. قالتها “ميرا” بصوتها الرقيق
-Seriously !
يارا بإبتسامة صفراء :
-و لا أنا يا قلبي. Seriously !
سفيان بجدية : يبقى خلاص. صافي يا لبن. و كل حاجة ترجع زي ما كانت. و لينا قاعدة كلنا مع بعض بردو
-القاعدة دي تتأجل يا باشا لو سمحت ! .. هتف “عمرو” معترضاً، و تابع بإبتسامة :
-دلوقتي معاد الغدا. إتفضلوا لو سمحتوا الأكل جاهز من بدري
أومأ “سفيان” قائلاً :
-أوك يا عمرو. تتأجل. بس تقدروا تتفضلوا إنتوا و أنا و ميرا هانحصلكوا.. عاوزها في كلمتين بس !
لم يبدي “عمرو” أي إعتراض هذه المرة، و لكن “ميرا”.. لم تحسن تفسير إنقباضة صدرها، ترى ما الذي يريد والدها قوله لها ! ………………. !!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبـــع ….
الفصل الثالث عشر
_ مشفى ! _
أغلق “سفيان” باب الغرفة على كليهما، إلتفت فوجدها تقف خلفه مبتسمة ببساطة، إلا أن عين الخبرة فيه إستطاعت رؤية توتر وراء هدوئها المتكلف هذا.. إبتسم بدوره يبث فيها الطمأنينة، على الأقل بالبداية …
-أخيراً بقينا لوحدنا ! .. قالها ”سفيان” بصوت خامل
إرتعشت إبتسامة ”ميرا” و هي ترنو إليه بنظراتها المرتابة، إقتربت منه و إحتضنته مطوقة خصره العريض بذراعيها و قالت بلهجة مرحة عساها تخفي شيئاً من توجسها اللامنطقي :
-وحشتني أوي دادي. أنا طايرة من الفرحة. أخيراً رجعتلي
أخذ ”سفيان” يمسد على شعرها و ظهرها و هو يقول :
-أخيراً يا روحي.. روحي. إنتي روحي يا ميرا. نفسي اللي داخل و اللي طالع بسببك إنتي
عملت كلماته الملطفة و صوته الهادئ على زيادة طمأنتها، تنهدت بقوة و شددت ذراعيها من حوله و هي تغمغم بإمتنان :
-أنا So Lucky. عشان إنت أبويا. ربنا يخليك ليا !
ربت عليها قائلاً :
-و يخليكي ليا يا عمري. بس تعالي. عايز أتكلم معاكي شوية ! .. و قبض على يدها فجأة
حبست أنفاسها لا شعورياً، بينما يسحبها أبيها تجاه آريكة صغيرة في الوسط.. أجلسها و جلس بجوارها، ظل صامتاً لبرهة، يحدق بعينيها فقط بنظراته الثاقبة، ثم قال :
-أخبارك إيه يا ميرا ؟
ميرا بإبتسامة غير واثقة :
-كويسة. كله تمام. إلا لو بتسأل عن Junior سفيان. بالنسبة لي الموضوع ده لو ماتحلش في أسرع وقت أنا هاتجنن absolutely
سفيان بصرامة : سيبك مين أخوكي دلوقتي. أنا بسأل عليكي إنتي. أحوالك إيه اليومين دول ؟؟
ميرا بتوتر : أحوالي تمام. قصد حضرتك إيه يعني ؟ إيه إللي عايز تعرفه بالظبط !!
-إنتي بتشوفي يوسف ؟
إبتلعت الصدمة فوراً و حملقت فيه بإستنكار :
-يوسف ! يوسف مين ؟ أكيد مش قصدك يوسف My EX !!!
سفيان بتعبير متصلب :
-هو !
ميرا بتمثيل متقن :
-يعني إيه هو يا دادي ؟ و أنا هاشوفه ليه ؟ في لسا حاجة بينا عشان أشوفه أو أكلمه ؟ لا شغل و لا أمور شخصية. مين قالك كده ؟ يارا صح ؟
عبس قائلاً بغلظة :
-و عرفتي منين إنها يارا ؟ يعني كلامها صح ؟!!
ميرا بغضب : لأ طبعاً مش صح. الهانم لما روحت أحذرها تبعد عن سفيان هددتني إنها هاتدمر حياتي. و إنها هاتحيي موضوع يوسف تاني و تخرب بيتي. معقولة صدقتها ؟ مع أول محاولة و كانت معاك تصدق بسهولة كده ؟ يعني لو كانت قالت لعمرو كان صدقها بقى !!
تمهل ”سفيان” و هو يرمقها بنظرة متمحصة، ثم قال :
-يعني إنتي مابتشوفيش يوسف خالص يا ميرا ؟ متأكدة ؟ لو ده حقيقي. لو كنتي بتشوفيه حتى لو صدفة أحسنلك تقوليلي دلوقتي !
هزت رأسها للجانبين و هي تقول بخيبة أمل متكلفة :
-أنا مش مصدقة ! يارا بقى ليها تأثير كبير أوي عليك.. بس للدرجة دي مش واثق فيا ؟!!
سفيان بجدية : إنتي عارفة كويس إن مسألة الثقة عندي معدومة. و هو سؤال و رد غطاه يا ميرا.. إنتي لسا بتشوفي يوسف ؟ مش هسألك تاني !
رفعت حاجبها و قالت و هي تشتط غيظاً :
-لأ. مش بشوفه. و لا أعرف عنه أي حاجة من يوم ما سيبنا بعض. في سؤال تاني ؟
سفيان بإقتضاب : لأ. مافيش.. خلاص يلا قومي. إتأخرنا عليهم !
و كاد يقوم من مكانه، أمسكت بذراعه و إستبقته قائلة بتلهف :
-طيب إستنى بس يا دادي. ماقولتليش سفيان فين و عامل إيه !!
سفيان بحزم : قولتلك ماتقلقيش عليه. سافري و لما ترجعي هايكون رجع هو كمان. يلا بقى !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
-مامي حصل فيها كل ده ؟! .. قالتها ”يسرا” بصوت هامس مغلف بالصدمة
كان تعبير أختها و توأمها ”يمنى” لا يقل فجعة عنها، بينما ترد الجدة الجالسة أمامهما يعلوها الضيق كلياً :
-أمكو عاشت أسوأ فترة في حياتها. كانت بعمرها كله. كل إللي حكيته دلوقتي مايجيش ذرة في المشاعر إللي عاشتها
يمنى بنبرة باكية :
-بس إنتي كنتي سبب في كده يا تيتة. إنتي إللي غصبتي عليها تتجوز سفيان الداغر
نظرت ”ميرفت” لها و قالت مدافعة عن نفسها :
-أنا إستحالة آذيها بأي شكل يابنتي. أنا كنت أم زي كل الأمهات نفسي أفرح ببنتي الوحيدة. و الحقير ده دخل علينا بالوش الطيب الكريم. كنت بستغرب من تفكير يارا وقتها. هي ليه مش قبلاه ؟ هي كانت حاسة. و أنا خانتني مشاعري. كنت هاموت و أشوفها عروسة. إحساسي بإني مش دايمة لها العمر كله. و العرسان إللي كانت بترفضهم. كلهم كانوا كويسين. و كنت بطاوعها. بس لما جه بسلامته. إفتكرته النصيب. النصيب إللي ربنا أخرها كل ده عشانه. ما صدقت بقى و مسكت فيه بإيدي و سناني.. أيوه غصبتها. بس ربنا يعلم عملت كده عشان مصلحتها. عشان تعيش مرتاحة !
و إختنق صوت الجدة بنحيب صامت
قامت ”يمنى” من مكانها و مضت إليها، ضمتها في حضنها و راحت تواسيها و هي تبكي معها :
-خلاص يا تيتة. إهدي يا حبيبتي. إللي حصل حصل. مامي قوية و عدت من كل ده و بقت كويسة.. ماتزعليش !
-الراجل ده لازم يدفع التمن ! .. هتفت ”يسرا” من بين أسنانها
إلتفت لها كلاً من ”ميرفت” و ”يمنى”، لتواصل بنظرات مستوحشة :
-كل إللي عمله لازم يتردله و زيادة. و مش فيه و بس. في بنته كمان. مش بتقولي كان بيعمل كل ده عشان بنته ؟ لازم يتحسر عليها. هي دي إللي هاتكسره و هاتجيب نهايته !
ميرفت بجدية : أيوه صح. بس كله هايتردله بعيد عنا. منه لله. إحنا ما بنآذيش حد
ضحكت ”يسرا” بسخرية و قالت :
-إنتي متأكدة من الكلام ده ؟ طيب على أساس إيه سيبتي مامي ترجعله ؟ تيتة حبيبتي. مامي مش هاتسيبه المرة دي. إلا و هو واقع. حتى لو وعدتك ألف وعد ! .. و أردفت بجمود :
-و أنا كمان بوعدك. طول ما أنا عايشة مش هاسيب مامي. و مش هاسمح لأي حد يمسها تاني
ميرفت بقلق : مش فاهمة قصدك ؟ عايزة تعملي إيه يعني !!
يسرا بوداعة : مش عايزة أعمل حاجة. أنا بطمنك بس .. ثم قالت و هي تنهض واقفة على قدميها :
-يلا بقى سهرنا أوي. تصبحوا على خير أنا داخلة أنام !
و مضت ناحية غرفتها مخلفة الجدة و الأخت تحدقان في إثرها بنظرات لا تخلو من الريبة و التوجس …
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
ودعت ”ميرا” أبيها و عائلته دون أن تفلت ذراع زوجها، بالكاد عانقت ”سفيان”، ذلك لأنها شعرت بعدم ثقتها في نفسها ما لو أصبحت ”يارا” في متناولها مباشرةً
كم تمنت القضاء عليها في تلك اللحظات، و التخلص منها تماماً، ليخلو لها وجه والدها و إبنها، الأخ الذي ربته كإبن لها بل و أكثر !
كانت ”وفاء” تسير في المقدمة، عندما كان يسير ”سفيان” خلفها معلقاً يد ”يارا” على ذراعه، و يده الأخرى مدسوسة بجيبه تنقب عن مفتاح السيارة
و فجأة وقفت ”يارا” عن السير، سحبت يدها منه بقوة، فإلتفت نحوها مستغرباً تصرفها و قال :
-في حاجة يا حبيبتي ؟ وقفتي ليه نسيتي حاجة جوا ؟!
يارا بغلظة : أنا مش هاتنقل معاك لأي مكان تاني. إلا لما أشوف إبني و أطمن عليه !
-في حاجة يا سفيان ؟ .. صاحت ”وفاء” من الجهة الأخرى
أشار لها ”سفيان” لتنتظر دون أن يحيد عن ”يارا”، إقترب منها خطوة و قال :
-أنا مش قولتلك إنه محتاج يبعد شوية ؟ مش في مصلحتك إنه يشوفك دلوقتي صدقيني
يارا بعناد : هاشوف إبني يعني هاشوفه. أنا ماعنديش ثقة فيك. أشوفه بعيني و أتأكد إنه كويس. و بعدين نتفاهم على رواقة يا سفيان
و هنا إبتسم، عندما قالت ذلك، و بالأخص عندما دعته بإسمه هكذا.. رمقها بنظراته الجريئة و هو يقول :
-التفاهم كان جاي جاي. بس طالما وعدتي إنه على رواقة خلاص. مقدرش أعارضك. إتفضلي ! .. و مد ذراعه لها نحو السيارة
رمقته بنظرة مزدرية و مرت من أمامه، إستقلت بالمقعد الأمامي، و إستقل ”سفيان” بجوارها خلف المقود، قال و هو يشغل المحرك و ينظر لإنعكاس أخته بالمرآة :
-هاوصلك على أول الطريق يا وفاء. تاخدي تاكسي و تروحي. و بعدين هانحصلك أنا و يارا.. في مشوار كده هانعمله سوا !
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
ظاهرياً كان قصراً منيفاً، ذلك الذي وطأته بقدمها معه، داخلياً إستطاعت أن ترى أنها مشفى !!
طاقم الممرضين و الممرضات بكل مكان، الحراسة و و رجال الأمن، الإستقبال و الطوارئ.. كانت مشفى مثالية للغاية، ربما ليست متاحة للجميع، إنما هي فقط للخواص، خواص الخواص …
-إبني بيعمل إيه هنا ؟ .. همست ”يارا” بصوت غاضب و هي تميل على أذن ”سفيان”
أجابها مواصلاً سيره خلف المرشد :
-آه ما نسيت إنك بقالك كتير مش متابعة. إبنك الفنان المشهور في نفس الليلة إياها لما ساب بيت ميرا راح يسهر. بس مش ده إللي حصل بالظبط لأن السهرة قلبت بخناقة كبيرة و مسك واحد عوره و كان هايموته
شهقت بصدمة و قالت : لأ. مش معقول. مش معقول هو يعمل كده !
سفيان ببرود : للأسف عمل .. و نظر لها متابعاً :
-لازم نعذره على كل حال. ده كان هايغلط مع أمه. متخيلة !
حدجته بنظرات مغلولة، فأشاح عنها مبتسماً بحبور.. ظلت تعدو في إثره، حتى أوصلهما المرشد عند جناح خاص بالطابق الأخير، و كان هناك أفراد حراسة يقفون أمام الباب، تبادلوا التحية مع ”سفيان” و وقفت ”يارا” خلفه تحصي دقات قلبها و قد نال منها الشحوب
رحل المرشد و إلتفت ”سفيان” نحوها، بنظرة واحدة تفهم الصراع الذي يفتك بها الآن، لكنه لن يرحمها طبعاً …
-إيه يا حبيبتي ! مش يلا ندخل ؟
كان الخبث يملأ نبرات صوته
لكنها لم تلحظه من فرط توترها و قالت بتردد :
-بص. إدخل إنت الأول !
فإنفجر ضاحكاً، أجفلت ”يارا” و نظرت له بغضب شديد، فعاد و قال حين هدأ قليلاً :
-إيه الجبن ده بقى ؟ مش إنتي إللي طلبتي تشوفيه ؟ ما قولنا كده من الأول
يارا بحنق : من فضلك.. إدخل إنت الأول. و أنا هادخل وراك !
صمت ”سفيان” مفكراً، ثم هز كتفيه و قال :
-ماشي.. هادخل أنا الأول !
و أولاها ظهره في اللحظة التالية، قطع المسافة بينه و بين باب الغرفة بخطوتين، مد يده و فتحه، ثم ولج بلا إستئذان، بلا تردد… فأسرعت ”يارا” تنزوي بجوار الباب، حتى تستطيع أن تستمع جيداً ! ………. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ….
الفصل الرابع عشر
_ دماء ! _
كان الجناح الذي أودع فيه منذ فترة قصيرة هادئاً، كل شيء يعمه السكون، حتى هو، لم يعد ينتابه الإنفعال أو العصبية، لم يعد يهتاج على نفسه و يطوف هنا و هناك محطماً كل شيء تمسكه يده، لم يعد يتصايح بغضب محتجاً على إحتجازه هنا قسراً عنه
أصبح مسالماً، أو لعله ليس كذلك، عسى أن يكون هذا الهدوء مجرد مقدمة.. تمهيد… لأمر يفكر فيه !
كان جالساً فوق الكرسي الهزاز، يضع سماعتي الرأس، مغمضاً عيناه في إسترخاء و هو يستمع لإحدى المقطوعات الموسيقية المعقدة… و فجأة شعر بتوقف وتيرة إهتزاز الكرسي الرتيبة، فتح عيناه دفعة واحدة، كان رأسه ملقى للخلف، ظل ساكناً للحظة، عندما شاهد هذا الوجه الذي حفرت تفاصيله كليةً بعقله منذ اللقاء الأول !!!
أطفأ الموسيقى، ثم إعتدل قائماً من مكانه ..
إستدار في مواجهة أبيه المزعوم !!!
يا له من تشابه !
ليس بينهما، لا.. بل بينه و بين إبنته… “ميرا”، أمه المزيفة، و أخته فعلياً بنفس الوقت
نفس الملامح تقريباً، و العينين الحادتين، و الشفاه الدقيقة، و النظرة المتنمرة، رغم أنها لا تجيدها مئة بالمئة مثله، فقط نسبة صغيرة …
-بتشبه عليا و لا إيه ؟! .. كان هذا “سفيان”… الأب
أول من تحدث، و كانت تعابيره الفاترة منفرجة الأسارير بشكل يوحي أنه يبتسم، إلا إنه لم يكن كذلك !
-أنا أعرفك عشان أشبه عليك ؟
و ظل سؤال الإبن الجاف معلقاً لبرهة، بينما يناور الأب مبتسماً بحبور، قبل أن يقول بخبث :
-إنت فعلاً إبني !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
إستقبل “يوسف” إمرأته الجامحة… “ميرا” عند باب منزلهما السري، أدخلها و هو يعتقلها بين أحضانه و أغلق الباب مسرعاً
كانت تجر حقيبة ملابسها و هي تسير معه متعثرة و موشكة على السقوط أكثر من مرة لولا ذراعيه المحكمتين حولها، أخذت تضحك منه و تحاول إبعاده قليلاً و هي تقول :
-چو ! حبيبي. على مهلك شوية هانقع
و بصعوبة إبتعد عنها، نظر في وجهها مبتسماً بحب جارف و قال مدهوشاً :
-أنا مش مصدق إنك جيتي بالسرعة دي.. عملتيها إزاي ؟ إحنا مش كنا متواعدين على بكره ؟!!
تركت “ميرا” مقبض الحقيبة من يدها، ثم طوقت عنقه بذراعيها و قالت بدلال :
-حبيبي أنا عشانك أعمل المستحيل. بس عشان أبقى جمبك. أنا بحبك أووي يا چو. مقدرش أتخيل حياتي منغيرك أصلاً !
رد على كلماتها الرومانسية بقبلة سطحية على فمها و قال بلطف :
-أنا كمان بعشقك يا عمري. بس فهميني بردو إزاي أقنعتي جوزك بالخروج دلوقتي ؟ و أبوكي. مش كان عندك إنهاردة ؟
تلاشت إبتسامتها شيئاً فشيء و هي تطلق نهدة عميقة، عبس “يوسف” بقلق لمرآى ذلك التعبير على وجهها فقال :
-في إيه يا ميرا ؟ حصل حاجة ؟؟!!
نظرت بعينيه بادئ الأمر، ثم أجابته :
-بص عمرو ده أمره سهل و دايماً بيصدقني. عمره ما يشك فيا أبداً أنا واثقة من ده.. المشكلة بس في دادي !
يوسف بتوتر شديد :
-أبوكي ! ماله يا ميرا ؟؟؟
-إنهاردة كلمني على إنفراد. و سألني Directly إذا كنت بقابلك أو بشوفك !
يوسف بشحوب تام :
-يا نهار إسود ! أبوكي عرف حاجة عن علاقتنا ؟!!
طمأنته على الفور :
-لالا إطمن. أنا أنكرت طبعاً. هو شاكك بس .. و أكملت بلهجة مستوحشة :
-كله من الزفتة يارا. هي إللي راحت قالتله
-و صدقها ؟؟
ميرا بصرامة : صدقها ماصدقهاش مش مشكلة بالنسبة لي. أنا كده كده مركزة و مش هخلي فرصة لحد يمسك علينا حاجة. بدليل إني جيتلك دلوقتي و ماستنتش للصبح. قلت لعمرو هقضي الليلة في بيت داليا صاحبتي و هانمشي سوا الصبح. أما دادي فأنا متأكدة إنه هايراقبني. عشان كده سبقته و مشبت قبل ما يبعت حد ورايا
يوسف بتململ : أيوه يا ميرا. بس كده مش خطر ؟ يارا دي بوظتلنا الدنيا خالص !
ضيّقت “ميرا” عينيها و هي تسأله :
-يوسف إنت خايف عليا و لا على نفسك ؟
عقد “يوسف” حاجبيه قائلاً بجدية :
-خايف عليكي إنتي طبعاً. أنا آه جربت غضب أبوكي كذا مرة قبل كده. بس دلوقتي غير زمان. أنا بقيت راجل سياسي معروف و مهم. مايقدرش يمسني. إنما إنتي ممكن تتئذي. لو مش منه من جوزك
و لانت تعابيرها هنا، إبتسمت و هي تريح رأسها على صدره متمتمة :
-أنا مايهمنيش كل ده. كل إللي يهمني إنت. و حياتي معاك. إنت حبيبي. أنا إختارتك إنت يا چو و من زمان أوي !
-خلاص.. يبقى تطلقي !
حبست أنفاسها في هذه اللحظة،، تطلعت إليه من جديد و قالت :
-قلت إيه ؟!!
يوسف بحزم : قلت تطلقي. و بعدين نتجوز. مافيش حل تاني
ميرا بإرتباك : آ أيوه بس. بس عمرو هاقوله إيه !!
-قوليله الصراحة. قوليله إن عمرك ما حبتيه. قوليله إن حياتكوا مع بعض كانت لازم تنتهي من زمان
ميرا و هي تهز رأسها برفض قاطع :
-لالالأ. لأ يا يوسف. مقدرش أقول كده لعمرو. مقدرش. ده له أفضال كتير عليا. مش ممكن أجرح مشاعره بالطريقة دي.. و أردفت بسخرية مريرة :
-كفاية إنه قبلني على عيبي. إتجوزني و إستمر معايا لحد إنهاردة و هو عارف حقيقة إللي حصلي على إيد سامح. عمره ما عايرني أو فكرني بالمصيبة دي. بعكسك إنت إللي سيبتني وقت ما كنت محتاجة وجودك جمبي !
رمقها بنظرة غاضبة و قال :
-خلاص يا ميرا. طالما شايفة كده مافيش داعي تعملي أي حاجة. تقدري ترجعي و تحافظي على جوزك و بيتك. و أنا مش هاتعرضلك تاني و مش هاتشوفي وشي أبداً بعد كده
ميرا بحدة : إيه إللي إنت بتقوله ده ؟ إنت إتجننت ؟
إبتعد عنها صائحاً بإنفعال :
-عايزاني أعملك إيه ؟ و إنتي بتدافعي أوي عن البيه جوزك. خليكي فاكرة كويس إنه ماكنش يعرف أي حاجة إلا بعد ما إتجوزتوا. لو كان يعرف من البداية ماكنش هايقبل و أحلفلك على كده. أما بالنسبة لي دي غلطتك إنتي من الأول. كدبتي عليا. ماقولتيش الحقيقة. 100 مرة فهمتك. لو كنتي صارحتيني بكل حاجة ماكناش وصلنا لكده !
و فرغ محدقاً فيها بوجه لاهث محتقن بدماء الغضب …
أجفلت “ميرا” و هي تنظر إليه صاغرة، تآففت بضيق و مشت نحوه، شبت على أطراف أصابعها و إحتضنته، ضمته إليها بقوة و هي تقول :
-أنا آسفة. Sorry يا چو. ماكنش قصدي أضايقك.. خلاص هاعمل إللي إنت عايزه. هاسيب عمرو. هاطلب الطلاق أول ما نرجع من السفر !
و إرتدت للخلف لتنظر في وجهه، كان لا يزال عابساً، فإستخدمت سبابتها في فك العبسة عن جبينه و هي تستطرد :
-خلاص بقى فك التكشيرة دي. أنا جاية عشان أفرح و أتبسط معاك. معقول إنت كمان هاتزعلني زيهم ؟ بليززز يا چو. Smile. عشان خاطري !
لم يستجيب لها فوراً، لكنه إبتسم بالنهاية، إبتسامة بسيطة للغاية …
إبتسمت بدورها قائلة :
-حبيبي.. ياريت تفضل كده علطول !
و لم يضيعا الوقت بعد ذلك، فإنتقلا إلى مسرح غرامهما مباشرةً، غرفتهما المخصوصة …
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
-أنا ماعرفكش ! .. قالها “سفيان”… الإبن، بلهجة متصلبة
ليرد أبيه متعاطياً مع سلوكه العدواني الواضح :
-من الناحية دي مش هعارضك. إنت فعلاً ماتعرفنيش.. بس ماتحبش تعرفني ؟
الإبن بخشونة :
-لأ ماحبش. وفر التعارف أنا مش عايزه لا دلوقتي و لا بعدين
الأب ببروده المعهود :
-للأسف مش بمزاجك يابني. دمي بيجري في عروقك. و مسيرك كنت هاتعرف الحقيقة. و أدي الأوان جه. و عرفت مين هو أبوك. و مين تكون أمك.. بالمناسبة أمك معايا برا. عايزة تشوفك !
-و أنا مش عايز أشوف حد ! .. صاح الإبن غاضباً
-و بالذات ال××××× دي. ما تبعدوا عني بقى. عايزين إيه تاني ؟ جايبني هنا ليه ؟
الأب بهدوء : أوعدك هاتخرج في أقرب وقت. يومين بالكتير و هاجي أطلعك. هانرجع نعيش سوا تاني. كلنا. أنا و إنت و أختك. ميرا. و يارا. أمك !
صمت الإبن محملقاً في أبيه بنظرات مشتعلة، عجز عن الرد من شدة الغضب الذي يجيش بصدره، تفهم والده الوضع جيداً.. إقترب منه بتوأدة، وقف مقابله تماماً، وقريباً كان مقاس الطول واحداً لكلاهما… إبتسم له، و ربت على ذراعه قائلاً :
-أنا فاهم إنت بتمر بإيه.. و عارف إن المفاجآت كانت قاسية أوي الفترة الأخيرة. بس أنا مش هاسيبك كده. أنا لما جبتك هنا كان غرضي تريح أعصابك و تبعد عن كل حاجة. تفصل شوية. مش سجنك يعني زي ما إنت فاهم.. أنا عمري ما كنت هاملك. كنت دايماً تحت عنيا. لو فكرت كويس هاتلاقي إن الأمور ماتعقدتش أوي. بالعكس. لو ماكنتش لحقتك. كانت هاتبقى النهاية و الطريق المسدود فعلاً. نهايتك إنت الأول. و نهاية أمك. و مش نهاية عادية. كانت هاتبقى نهاية على إيدي أنا يابني.. فإحمد ربنا إني رجعت في الوقت المناسب قبل ما كل إللي بنيته كان إدمّر !
و إبتعد خطوة للخلف مكملاً :
-لما ترجع هانقعد و هانتكلم. هاشرحلك كل حاجة. و كل الأسئلة هاجوبك عليها بنفسي.. ماتقلقش خالص يا سفيان !
إزداد إحمرار وجهه حين دعاه بهذا الإسم الذي بات يمقته مقتاً شديداً، بينما إتسعت إبتسامة الأخير و هو يستدير راحلاً و ملوّحاً له مودعاً …
كانت “يارا” تقف بالخارج كما تركها، بجوار الغرفة، و كأنها صنم.. كانت حالة من الخرس و اللاوعي مسيطرة عليها، فتنفس “سفيان” بعمق و إقترب منها
أحاط كتفيها بذراعه و حركها للأمام معه و هو يقول بلطف :
-هاياخد وقته و هاينسى. قولتلك أصلاً إنه محتاج يبقى لوحده شوية.. معلش. أنا هاتصرف. ماتقلقيش يا حبيبتي !
و لكن مشاعرها كانت تفوق حد القلق أصلاً، كان ذعرها من حديث إبنها أكبر من أي مشاعر عنيفة إختبرتها طيلة حياتها، فعلياً ! …………. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ….
الفصل الخامس عشر
_ إختبار ! _
تملكت الصحوة من “يوسف” فجأة… فتململ بالسرير بتكاسل.. و مد يده نحو الجانب الآخر، حيث ترقد “ميرا” بجواره ….
و لكن المكان فارغاً و بارداً في آن !
يفتح “يوسف” عينيه في هذه اللحظة، و بالفعل لا يجد “ميرا”، و لا حتى حين إعتدل نصف جالساً و نظراته تشمل الغرفة الفسيحة ذات الأثاث و الطلاء الأبيض، و المطلة على البحر مباشرةً
كان ضوء الصباح يتسلل مع آشعة الشمس التي غمرت المكان عبر النوافذ و الأبواب الزجاجية، عندما قام “يوسف” متدثراً بروباً من الحرير الأسود، جال البيت كله بحثاً عن “ميرا” و هو لا ينفك يهتف منادياً بلهجة متحشرجة تحت تأثير النعاس :
-ميرا.. ميرا.. حبيبتي إنتي فين !
و كف عن النداء …
عندما تناهى إليه صوتها، من جهة الرواق المؤدي للشرفة الهوائية المُزهِرة… أرهف النظر، فوجدها تمسك بالهاتف الأرضي و تضعه على أذنها، فأرهف السمع علّ صوتها يتضح قليلاً، لكن يبدو أنها كانت تتحدث بخفوت، و قد بدا عليها القلق أيضاً !!
-ميرا ! .. صاح “يوسف” و هو يقف خلفها مباشرةً
-بتكلمي مين يا حبيبتي ؟!
إلا إنها لم ترد عليه، و أنهت المكالمة بإملاء عنوان البيت على الطرف الآخر و عبارة شكر مقتضية، ثم أغلقت الخط بهدوء …
-ميرا ! .. كرر “يوسف” بصوت أكثر حدة
عندما لم تلتفت إليه، و كأنها لا تشعر بوجوده، أو بالأحرى تتجاهله !
أدارت وجهها ببطء، تطلعت له قائلة :
-نعم يا چو ! عاوز حاجة ؟!
عقد حاجبيه مدهوشاً و قال :
-عاوز حاجة !!
لأ سلامتك مش عاوز. عاوز بس أعرف إيه إللي قومك من جمبي منغير ما تصحيني ؟ و كنتي بتكلمي مين عالصبح كده ؟؟؟
قامت “ميرا” من مكانها، إستدارت نحوه كليةً و قالت و على ثغرها شبح إبتسامة :
-مافيش حاجة حبيبي. كله تمام ماتقلقش. أنا بس حسيت إني تعبانة شوية فقلت أقوم أكلم pharmacy يجبولي دوا
يوسف بشحوب : دوا ليه ؟ مالك يا حبيبتي حاسة بإيه بالظبط ؟ أجيب دكتور ؟؟!!
و كان يمسك بها أثناء كلامه، لتبتسم و هي تطمئنه بصوتها الرقيقة :
-حبيبي Calm down. أنا كويسة. شوية صداع و حرارة عالية بس. أول ما أخد الدوا كله هايروح !
ضمها “يوسف” إلى صدره و أخذ يمسح على رأسها و يلاطفها قائلاً :
-سلامتك يا عمري. ألف سلامة عليكي. هتاخدي دواكي و لو ماحستيش بتحسن هاجبلك دكتور إن شاالله أبعت أجيبه من مصر
ربتت على صدره و هي تقول بنظرات ساهمة :
-ماتقلقش حبيبي.. هابقى كويسة !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
منذ بكرة الصباح، و هو لم يتوقف عن التدخين بشراهة كبيرة، في الحقيقة هو لم يكف عنه منذ رحيلها بدون علمه، قبل يومين حيث عزم على إرسال جاسوساً خلفها لينقل له كل أخبارها
و لكن يا لها من داهية !
في كل الأحوال ماذا كان يتوقع ؟ فهي إبنته أولاً و أخيراً، إبنته هو.. إبنة الشيطان الكبير ….
-مش كده يا باشا بالراحة شوية على صحتك !
كان هذا صوت “يارا”… إلتفت “سفيان” نحوها، كانت تلج عبر باب الغرفة و تمشي صوبه بخطوات متمايلة.. متهادية، جلست قبالته في الصالون الصغير، وضعت ساقاً فوق ساق و إبتسمت له قائلة :
-إيه يا إكسلانس ! حارق دمك ليه عالصبح ؟ لا يكون جالك كلامي ! .. و غمزت له
إزداد عبوس وجهه و هو يحدق فيها بنظرات متقدة، كان يعرف و يفهم ما ترمي إليه تماماً، لكنه لم يتكلف عناء الرد عليها حتى.. فأكملت بنبرة خبيثة :
-عموماً أنا حبيت أنورك من الأول. و أعرفك بنتك الغالية بتتصرف إزاي من ورا ضهرك.. أومال. ده إنت في يوم من الأيام كنت جوزي بردوو تهمني مصلحتك
صوت تحطم مصم !
هذه مطفأة السجائر الضخمة و الطاولة الزجاجية التي كانت تحملها، لقد تحطمت فوراً إثر ركلة قدمه العنيفة.. بينما قام هو بلمح البصر و وصل إليها، أمسكها بيديه و شدها إليه بالقوة، حبست “يارا” أنفاسها حين صارت ملاصقة له و تقريباً صدرها يعانق صدره الخافق بشدة، تسارعت أنفاسها و هي تنظر في عينيه المظلمتين.. كم من المشاعر القديمة المتوارية خلف ستار الذاكرة، كلها عادت بلحظة و رغم جبروتها شعرت بتهديد تماسكها و قوتها التي لا تقهر
من هنا حيث البداية، تخلف كل شيء و كأن حياتها من بعده لم تكن، عاد هو فقط، حتى يقهرها !
-إنتي لسا مراتي ! .. غمغم “سفيان” من بين أسنانه
-أنا سيبتك تتجوزي بمزاجي. و سيبتك تخلفي بردو بمزاجي. كنت قادر أمنعك. أمحيكي من الوجود في لحظة. بس عشان كان فيه في قلبي ذرة شفقة عليكي سيبتك في حالك.. لكن إنتي عملتي إيه ؟ فضلتي ورا بنتي. فضلتي تدوري وراها. عايزة تنتقمي مني فيها. بس أوعدك قبل ما ده يحصل. و إذا حصل. هاتكون روحك هي أول التمن يا يارا !
بصعوبة بالغة، إستطاعت إغتصاب تعبيراً بارداً على وجهها، ثم ردت عليه :
-لو كنت فاكرني هخاف منك و من كلامك زي زمان تبقى غلط آ ا ..
-ده مش كلام ! .. هتف بحدة شديدة و قد برز عرق جبهته محتقناً بدماء الغضب
-جربي تدبري حاجة لميرا.. وحياة غلاوتها في قلبي لأدمرك المرة دي بجد. و بالبطيئ. عشان أشوف عذابك بعنيا و أستمتع بيه
إنعقدا حاجبيها بشدة و هي ترمقه بنظرات مزدرية، ليستطرد مشدداً على كلماته بجدية تامة :
-لازم تعرفي كويس. إن لا إنتي. و لا إبنك. تغنوا عن ميرا في حياتي. لولاها أصلاً ماكنش هايعيش خالص. ما أنا قولتهالك من البداية. أنا ماعنديش إلا ميرا.. فاهماني ؟ ميرا !
و تركها فجأة ..
-أتمنى تكون الرسالة وصلت !
و إستدار بحثاً عن هاتفه، بين شظايا الزجاج المتناثر فوق الأرض، إلتقطه بحرص و خطى تجاه الخارج دون أن يصوب إليها نظرة واحدة …
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
كان “يوسف” واقفاً أمام الموقد يعد أطباق الفطور لأجل “ميرا”… عندما هدر صوت صراخها بغتة، دون سابق إنذار !!!
إنطلق مسرعاً صوب غرفة النوم، ليجدها تجلس بجوار السرير مشعثة الشعر و ترتدي روب الإستحمام فقط …
ركض إليها صائحاً :
-ميرا ! مالك يا حبيبتي ؟!!!!
و ركع أمامها فوراً، راح قلبه يدق وجلاً عليها و هو يستطلع أمرها بخوف و إلحاح :
-ميرا مالك ؟ جرالك إيه ردي عليا ؟؟؟!!!
إلا أن صراخها صار في تزايد، فحاول تهدئتها، حاول أن يسكتها بشتى الطرق حتى يتسنى له فهم الأمر… لكن بلا جدوى، ظلت تصرخ و هي تلوح بالإنبوبة أمام ناظريه.. و أخيراً إتضح شيئاً من الكلام وسط كل هذا الصراخ :
-شوفت لونها ؟ زرقا. شايف ؟ أزرق !!!
أمسك “يوسف” بكتفيها و هتف بصرامة :
-إهدي يا ميرا. مش فاهمك. إهدي و قوليلي في إيه !!
لكنها أخذت تضحك فجأة، تضحك بقوة و كأنها أصيبت بالجنون.. ثم قالت :
-أنا حامل يا چو.. و جوزي مابيخلفش. عمرو مابيخلفش !
يوسف بصدمة : إنتي بتقولي إيه ؟ حامل إزاي ؟!!!
ميرا بإنفعال : زي النآاااس.. حامل. أنا حامل يا يوسف. و حامل منك إنت. سامعني. منك إنت. دي رابع مرة أعمل الـTest !!
فأخرسته هذه المرة، مع إصرارها على تأكيد الأمر له، و بالفعل صار متأكداً، مثلها تقريباً ! ………. !!!!!!!!!!
يتبع …..
الفصل السادس عشر
_ لعبة ! _
لمح “سفيان” أثناء مروره بالسيارة تجاه بوابة المنزل الرئيسية، فتاة… فتاة ذات قامة متوسطة، تقف هناك أمام الحارس و قد بدا أنهما يتجادلان حول أمراً ما
ما كان منه إلا أن أطلق زاموراً عالياً حتى يجذب إنتباههما، و بالفعل هرع الحارس ليفتح له البوابة، بينما تطير نظرات الفتاة إلى السيد ذي الرأس الأشيب و اللحية الرمادية الكثيفة، و الملامح الهرِمة النبيلة …
كان يبادلها النظرات أيضاً، إلى أن أوقف السيارة عندها.. أنزل زجاج النافذة و تطلع إليها قائلاً بإبتسامة وديعة :
-صباح الخير يا أنسة !
إبتسمت الفتاة فأضفت إبتسامتها جمالاً على جمالها و قالت :
-صباح النور. حضرتك سفيان باشا أكيد صح ؟
سفيان بإيماءة : صح. إنتي تعرفيني كويس بقى !!
كانت الدهشة مقروؤة بسهولة على ملامح وجهه، و كأنها باغتته حقاً، فهو قد ترك البلاد لفترة من شأنها أن تمحي ذكراه أو بالتحديد شكله من رأس أي شخص …
أجابته الفتاة و لا زالت إبتسامتها الحلوة كما هي :
-بصراحة لأ ماتشرفتش بحضرتك قبل كده. دهمجرد تخمين. أنا كنت جاية عشان مامي بس. و Sorry نسيت أعرفك بنفسي.. و مدت يدها للمصافحة و هي تقول :
-أنا يسرا الزيني. بنت يارا شهدي !
برقت عيناه لجزء من الثانية، حين عرَّفت الفتاة عن نفسها… مد يده بدوره و صافحها قائلاً بحفاوة كبيرة :
-أهلاً أهلاً أهلاً. أهلاً بيكي يا يسرا. ما شاء الله عليكي ده إنتي عروسة زي القمر !
يسرا بإبتسامة خجلة :
-ميرسي أول يا أنكل
و إلتفت “سفيان” نحو الحارس ليوبخه :
-و إنت يا سي البواب. إزاي تسيب الأنسة واقفة على الباب كده ؟ ليه مادخلتهاش علطول ؟؟
رد الحارس بإرتباك شديد :
-يا بيه أنا كنت لسا بسألها عايزة مين و كنت هابلغكم علطول ماكنتش آ ا ..
-خلاص خلاص حصل خير ! .. قاطعته “يسرا” بلهجة لطيفة
-أنا مش جاية أعمل مشاكل يا أنكل. أنا بس جاية أشوف مامي لو تسمح !
نظر لها “سفيان” من جديد و قال برحابة :
-طبعاً يا حبيبتي تقدري تشوفيها زي ما إنتي عايزة أهلاً بيكي في أي وقت
-Thanks !
سفيان مبتسماً بخبث :
-بس أنا رايح مشوار و عامل مفاجأة لمامي. إيه رأيك تيجي معايا نجبلها المفاجأة سوا ؟!
تصنعت “يسرا” الحماسة و هي تقول :
-آه طبعاً Sure. بس يا ترا إيه هي المفاجأة يا أنكل !!
سفيان بلؤم : المفاجأة تبقى أخوكي يا حبيبتي. أكيد عرفتي إن ليكي أخ !
-آه سمعت يا أنكل. بس حضرتك هاتجيبه منين يعني هو كان مسافر مثلاً و هانروح نستقبله في المطار ؟
-لأ يا حبيبتي مش مسافر. هو بس كان تعبان شوية و راح المستشفى. هاروح أجيبه دلوقتي.. تحبي تيجي معايا ؟
فكرت “يسرا” بينها و بين نفسها للحظات، ثم قالت بإبتسامة مشرقة :
-أوكي !
سفيان بإبتسامة : طيب لفي إركبي يلا !
و أطاعت “يسرا” أمره، إستقلت بجانبه في الحال و إنطلق هو فوراً… إنما بالطبع لم يخفى عنه ظهورها المفاجئ منذ دقيقة تقريباً
تلك المرآة الأمامية للسيارة أظهرتها بوضوح عندما برزت فجأة بالشرفة العلوية للمنزل.. إستطاع أن يرى الهلع الذي أصابها كلياً حين رأت إبنتها تقف معه، ثم تستقل سيارته، و كان يعلم قبل أن يهتز الهاتف بجيب سترته أنها سوف تتصل، و هو بالطبع لن يرد عليها
سوف يتركها هكذا، تعاني القلق و الرعب حتى يأذن هو بزوالهما عنها …
و مرة أخرى ينظر نحو “يسرا” قائلاً بلطف :
-بصي يا حبيبتي أنا شوفت ماما و هي بتبص علينا من البيت. هي بتحاول تتصل بيا بس أنا مش عاوز أرد عليها و أحرقلها المفاجآت بتاعتنا. يا ريت أنتي كمان تقفلي موبايلك شوية. لحد ما نرجعلها كلنا سوا تمام ؟
يسرا بإبتسامتها الرقيقة :
-حاضر يا أنكل. حالاً هاقفل الموب !
راقبها و هي تفعل ذلك و على وجهه إرتسمت تعابير الإمتنان.. الآن هو أكثر من راضياً، فكيف يكون حاله بعد بضعة ساعات أخرى ؟ عندما يدخل عليها و معه إبنها، حتماً سيكون مشهداً و موقفٍ لا يُنسى !!!
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
خرجت “ميرا” من عيادة الأخصائي النسائي برفقة “يوسف”… كان كلاهما واجمان، ساهمان و قد نهل الشحوب منهما بشدة
فقد تأكد خبر الحمل !
-هانعمل إيه في المصيبة دي ؟
كان هذا السؤال أول ما تفوه به “يوسف” منذ أن أخبرته “ميرا” بالنبأ الكارثي
ربطت “ميرا” حزام الآمان، وضعت حقيبتها الصغيرة جانباً، ثم أدارت وجهها إليه …
-أنا مش هانزل البيبي يا چو ! .. قالتها “ميرا” بصرامة
يوسف بإستنكار : نعم !!! قولتي إيه ؟ يعني إيه مش هاتنزلي البيبي ؟؟؟
ميرا بغلظة : مش هانزله يعني مش هانزله. I will keep it. أنا عايزاه
يوسف منفعلاً : يعني إيه أنا عايزاه ؟ إنتي فاهمة إنتي بتقولي إيه ؟ ده إنتي لسا قايلالي جوزك مابيخلفش ؟ هاتقوليله إيه ؟ لما بطنك تكبر هاتخبيها إزاي ؟ إنتي عارفة هو أو أبوكي ممكن يعملوا فيكي إيه لو الموضوع ده إتعرف ؟ إنتي مجنونة ؟؟؟؟
-لأ بس أنا عايزة أبقى أم ! .. هكذا صرخت فيه بطريقة هجومية
و أردفت و صدرها يشتعل حسرةً :
-أنا إتحرمت من الولاد بما فيه الكفاية. من سنين و أنا متعلقة بسفيان أخويا و حبيته زي ما يكون إبني الحقيقي. بس دايماً كنت بحلم أشيل جوايا بيبي. بيبي بتاعي أنا. أنا إللي أجيبه. يبقى شبهي أنا. مش شبه يارا أو أي ست تانية. طول عمري نفسي أجرب المشاعر دي. نفسي أجرب كل حاجة فيها.. دلوقتي جاتلي الفرصة. أنا حامل. أنا جوايا بيبي. بتاعي.. لأ يا يوسف. مش هافرط فيه أبداً. سامعني ؟ مش هافرط فيه أبداً !!!
تشنجت عضلات وجهه و هو يقول مغالباً مشاعره العنيفة :
-ميرا حبيبتي. أنا آسف إني بقولك كده. بس ده مش Option.. البيبي ده هايكون خطر عليكي و عليا مش آ ا ..
-قول إنك خايف على نفسك بقى ! .. قاطعته صارخة مرةً أخرى
-خايف على حياتك و بيتك و مراتك. ماتخافش يا يوسف باشا. أنا عمري ما هاتسبب لك في أي آذى. أنا أصلاً عمري ما طلبت منك حاجة. من يوم ماسبتني زمان لحد ما قابلتك و علاقتنا إتجددت تاني. حتى دلوقتي أنا مش بطلب منك حاجة. لو وصلت إني أسافر أولد برا و أعيش لوحدي Single mother هاعملها
يوسف بإستهجان : إنتي إتجننتي مافيش كلام.. إنتي فاكرة الموضوع بالبساطة دي ؟ إنتي مش في وعيك يا ميرا. أنا لا خايف على نفسي و لا على بيتي. و مش محتاج أبررلك و أدافع عن نفسي زي كل مرة. بس إنتي هنا إللي واقفة في وش القطر. إنتي إللي هتتآذي الأول. فكري كده ممكن تقولي إيه أو تتصرفي إزاي لو حد إكتشف حملك ؟ هاتقوليلهم منين ؟… ما تنطقي ساكتة ليه دلوقتي !!!!
ميرا بعناد : بردو مش هانزله يا چو. لو هاموت مش هانزله. دي أخر فرصة ليا عشان أبقى أم. أنا مش صغيرة. أنا كبرت و ماعنديش وقت أضيعه. و ماضمنش الفرصة تيجي تاني !
رمقها “يوسف” بنظرات يائسة، رأسها صلداً كالصخر، هي هكذا دائماً …
-يبقى مافيش قدامك غير حل واحد ! .. دمدم “يوسف” بحزم
نظرت له بإستفهام، فإستطرد بجدية لا تقبل النقاش :
-هاننزل القاهرة حالاً. هاتطلبي الطلاق من عمرو. و بعدين هانتجوز.. لازم تعملي كده في أسرع وقت. سامعاني ؟ أنا مش هاسمحلك تضيعي مني تاني. و المرة دي للأبد ! …………. !!!!!!!!!!!!
يتبع …
الفصل السابع عشر
_ إزدراء ! _
ماذا تفعل الآن ؟
لم يبقى شيئاً إلا و فعلته، خلال الساعة الماضية جربت كل شيء، و فعلت كل شيء.. تلفنت لأمها و تشاجرت معها بشدة، كيف تترك حفيدتها تغادر المنزل هكذا دون أن تعلم وجهتها ؟ كيف تتركها تغادر وحدها أصلاً ؟!!!
ألم تحذرهن من المخاطر المحيطة بهن جميعاً ؟ ألم تقول أنهن مستهدفات ؟ طالما ذاك الرجل على قيد الحياة هو و إبنته !
كيف تقدم “يسرا” على تلك الأفعال ؟ تقذف بنفسها بالنار !!!
و ماذا تفعل “يارا”، و هي تحت رحمته الآن… ليس بيدها شيء، فهي لا تعلم أين أخذها، و لماذا أخذها ؟؟؟؟
رأسها سينفجر من كثرة التفكير !!!!!
لقد ذرعت قاعة البهو جيئة و ذهاباً للمرة المئة بعد الألف حتى الآن، و كانت دائمة النظر في ساعة يدها و شاشة الهاتف المضاءة في آن… لتسمع فجأة صوت جلبة خفيفة آت من الخارج، و أشياء تجر فوق الأرض الرخامية !
إستدارت “يارا” و أرهفت النظر نحو باب المنزل الضخم، مرت الثواني الثانية تلو الأخرى.. و أخيراً
ظهر المجرم، ظهر السفاح أولاً بتعبيره الشيطاني الباسم …
-وديت بنتي فين يا آ ا .. و بترت صياحها المصم و جمدت مكانها فجأة
حين برزا هؤلاء باللحظة التالية !!!
إبنتها على اليمين، و إبنها على اليسار… إبنها ؟!!
هذا إبنها حقاً، هذا “سفيان”.. بل “عبد الرحمن” كما أسمته قبل أن يولد، أجل هذا هو إبنها !
-مامي ! .. هتفت “يسرا” مبتهجة فور رؤية والدتها
و إنطلقت صوبها في الحال، إستقرت بين أحضانها الدافئة و طوقتها بشدة، بينما “يارا” لم تكن هنا، لم تكن تشعر بأي شيء في وجوده.. و كأن الزمن في الوجود كله قد توقف، فساد الهدوء و السكون
إنها لا ترى غيره الآن، و لا تريد أن ترى غيره… هذا الشاب الجميل إبنها، هذا الرجل اليافع إبنها، إبنها الذي ظنته في عداد الموتى منذ أمد، ها هو حياً يرزق أمامها
كيف غفلت حقيقة بنوته لها ؟ كيف غفلت التشابه الكبير بينها و بينه ؟ كيف لم تشعر به ؟ و كيف لم يشعر هو أيضاً ؟ أحقاً أنها كادت تسقط معه في ذلك الذنب المخزي ؟ و أي مخزي !
لو كان حدث لكانت ميتة الآن، ليس على يد أحد، بل على يد نفسها، كانت لتقتل نفسها لا محالة.. لأول مرة تمتن لوجود الشخص الذي دمر حياتها، لأول مرة في حياتها تشكر الله على عودته في الوقت المناسب
و لكن هل حقاً عاد في الوقت المناسب ؟ إذن ماذا عن هذه النظرة في عين إبنها ؟ ذلك الإزدراء كله الذي يوجهه لها.. رباه إنها لا تحتمل هذا، لا تحتمله أبداً !!!!!
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
أغلقت “ميرا” سحاب حقيبة ملابسها الصغيرة بأصابع مرتعشة …
كان “يوسف” ينتظر خلفها، ما أن أستدارت إليه حتى قام من فوق الكرسي الجلدي الوثير، مشى نحوها و هو يقول مبتسماً :
-خلصتي يا حبيبتي ؟
ميرا عابسة : أيوه خلصت !
و شدها إلى صدره باللحظة التالية …
-إنتي شكلك Nervous ! .. تمتم لاصقاً فمه بمفرق شعرها
شدد ذراعيه حولها مكملاً بصوته الدافئ :
-بتترعشي كمان ! ليه كده يا حبيبتي ؟ إنتي قلقانة من حاجة ؟!
غمغمت بنبرة مهزوزة و هي تدفن وجهها بين طيات قميصه :
-أنا مش قلقانة يا چو.. أنا مرعوبة !
-من إيه بس ؟ لو حاسة إنك مش هاتقدري تكملي أوعدك إني هاخلصك من الموضوع ده في أسرع وقت و مش هايكون في أي خطر عليكي. أنا قولتلك بلاش من الأول
ميرا بضيق : مش ده قصدي يا يوسف. أنا مش خايفة على نفسي.. و بسطت كفها فوق حدبة بطنها مستطردة :
-أنا خايفة عليه هو. و خايفة من ردود الأفعال إللي هاتحصل قريب.. خايفة من دادي. و خايفة من عمرو. مش عارفة كل ده ممكن يخلص إزاي !!
تنهد “يوسف” مطولاً و أبعدها عنه قليلاً، ثم قال محدقاً بعينيها الرماديتين :
-كل ده هايخلص يا ميرا. عارفة ليه ؟ عشان كان لازم يخلص من زمان. إنتي إللي إتأخرتي بس. أنا واثق مليون% إن مافيش أي مشاعر حب بينك و بين عمرو. متأكد إنه مابيحبكيش زي ما إنتي كمان مابتحبيهوش. العلاقة دي لازم تنتهي
ميرا بلهجة معذبة :
-عشان تنتهي لازم بجرح عمرو. لازم أجرحه أوي عشان يرضى يسبني. و دادي مش هايسمح بكده أصلاً !
يوسف بصرامة : أبوكي مش هايقدر يعمل حاجة. لما تتصرفي من ورا ضهره مش هايكون عقبة في طريقك. و ده إللي إنتي هاتعمليه. خليها تيجي من عمرو.. ركزي يا ميرا. إوعي تفقدي تركيزك ثانية واحدة. سامعاني ؟
نظرت في عينيه بخشوع و أومأت بصمت، فإبتسم و مال لاثماً شفاهها بعمق، ثم تمتم أمام فمها :
-هاتجوزك يا ميرا.. مش هارتاح إلا لما أتجوزك !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
-إتفضلي يا حبيبتي ! .. قالها “سفيان” و هو يقدم لها كأس العصير راسماً على ثغره إبتسامته المستفزة تلك
ثارت “يارا” عليه مجدداً :
-إبعد عني. إنت إيه ؟ مابتحسش أبداً. مش طايقة أشوفك قدآاااامي !!
سفيان بوداعة : ليه كده بس ؟ أنا عملتلك إيه ؟!
و هنا خرجت “يارا” عن السيطرة، فإنقضت عليه ممسكة إياه من تلابيبه و هدرت بعنف :
-إسمع يا سفيان. إنت أخرك معايا إبني. قسماً بالله لو ما خلصت اللعبة دي فوراً و سلمتني إبني هاحرقك. و هاحرق قلبك على بنتك حبيبتك دي. و حياة إللي نجاني من الموت على إيدك و ردلي إبني تاني المرة دي غير كل مرة. محدش هايمنعني عنك و لا عن بنتك سامعني ؟
قهقه “سفيان” منتشياً بزوبعة غضبها هذه، أخذ يربت عليها و يهدئها قائلاً :
-طيب بس بس. إهدي شوية. مالك عصبية كده ليه ؟ أنا وعدتك إن كل شيء هايتصلح !
يارا بإنفعال : مش عايزة وعودك دي. مش عايزاك في حياتي أصلاً. أنا ما صدقت خلصت منك. إيه إللي رجعك ؟!!!
سفيان بسخرية : إيه إللي رجعك ! تخيلي لو ماكنتش رجعت. كنتي هاتغلطي مع إبنك. و لا عمرك كنتي هاتقدري تبصي في وشه لو كان حصل. أنا شخصياً ماكنتش هاسيبك حية دقيقة واحدة لا إنتي و لا هو. إحمدي ربنا إني رجعت
يارا بغضب شديد :
-و إنت عملت إيه دلوقتي ؟ إنت لسا بتدمرلي حياتي. إبني إللي بتتكلم عنه ده مش طايق يبصلي منغير حاجة. كل ده بسببك إنت. إنت إللي عملت فينا كده. إنت السبب الله ياخدك !
و كانت تضربه بقبضتيها أثناء كلامها، ليمسك بيديها فجأة و يمنعها عن ضربه قائلاً بحزم :
-عندك حق. أنا السبب.. أنا السبب في كل حاجة حصلت. أنا أبو الواد. أنا جوزك. يعني أنا حر. فاهمة ؟ لحد أخر لحظة كلمتي إللي بتمشي. مافيش حاجة هاتم عكس إرادتي. و طالما أنا قلت عايزك و عايزه يبقي محدش فيكوا هايتنقل من هنا. و خليكي فاكرة إن أنا لسا سفيان الداغر !
يارا بغلظة : ده كان زمان يا حبيبي فوق بقى
سفيان بإبتسامة : ياريت بلاش تستعجلي. إنتي لسا فيكي العادة دي ؟ مع ذلك حاضر. هاصحيلك الداغر إللي جوايا يا يارا. هانعيد الأمجاد تاني .. و ضحك قائلاً بصوت أجش :
-تعالي معايا !
و شهقت بفزع، حين جرها من يدها بعنف تجاه باب الغرفة.. فسألته بتوتر قاسٍ :
-واخدني على فين ؟!!
سفيان بإصرار قوي :
-هاوديكي عند إبنك. مش كان نفسك تشوفيه.. هاخدك له دلوقتي. خلينا نشوف رد فعله لما تبقى قصاده Directly !!! …………. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع ….
الفصل الثامن عشر
_ خسارة ! _
إنتابها الفزع حين أفصح لها عن نيته، فسحبت ذراعها من يده بعنف و دفعته عنها بكل قوتها و هي تصيح بذعر :
-إووووعى. إبعد عني مش عايزة أروحله. مش عايزة. مش عآآآيزة !!
و إنهارت منخرطة في بكاء هستيري، و كأنه سلب إرادتها و وعيها بالضغط عليها بهذه الطريقة… يا له من داهية، حقاً شيطان !
إبتسم “سفيان” نصف إبتسامة، إقترب منها و هو يقول بصوت آجش :
-عيبك إنك عايزة تستقوي قدامي بأي شكل. عايزة تبينيلي إنك مش ضعيفة زي زمان و إني فقدت سيطرتي عليكي لمجرد إنك عيشتي شوية منغيري و طبقتي دروسي عملي على إللي حواليكي. إفتكرتي إنك ممكن تبقي زيي !!
أفلتت شهقة قوية من فمها، عندما شدها إليه بقسوة مكملاً بصوت كالفحيح :
-كان لازم تعرفي إن أنا إللي خليتك كده. أنا إللي شكلتك. أنا إللي صممت الـsystem بتاعك يعني. و أنا بس إللي أقدر أتحكم فيه. عمرك شوفتي تصميم إتمرد على مُصممه ؟ يارا. عمرك ما هاتخرجي عن سيطرتي. مهما عملتي. إوعي تتحديني تاني. دماغك دي أنا إللي مكلفها.. سامعاني ؟
و تركها …
بقيت متخشبة تماماً و بصرها جامداً كالحديد، حتى سمعت باب الغرفة يُصفق بعنف، فأدركت أنه رحل
و هنا فقط، دبت فيها الحياة مرة أخرى،.. لكنها لم تكن بخير !
مشت نحو السرير بخطوات غير متزنة، مددت جسمها فوقه ببطء و تركت دموعها تسيل في صمت و هدوء شديدين… لم يكن هذا سوى تصريحاً عن عجزها المتجدد، إنه محق، و هي الآن تنعي قوتها الواهية، كل ما فعلته كان محض أوهام
لم تكن أبداً تلك المرآة القوية، المتجبرة، بل هي أضعف مما تتصور !!!
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
قرابة الساعة تقريباً، و لم تزل الجدة تمضي في الشجار الحاد مع حفيدتها… بدا غضبها بلا نهاية
فحاولت “يسرا” تهدئتها من جديد :
-يا تيتة بليز إهدي شوية. قولتلك ماحصلش حاجة لكل ده !
ميرفت بصياح جهوري :
-يعني إيه ماحصلش حاجة ؟ لما تكدبي عليا عشان تروحي لأمك دي مش حاجة كبيرة ؟ أثق فيكي إزاي بعد كده ؟ عايزاني أتصرف معاكي إزاي من هنا و رايح ؟ عايزاني أحبسك في البيت يعني ؟؟
يسرا بضيق شديد :
-على فكرة إنتي مكبرة الموضوع أوي. أنا زهقت من التبرير. هو أنا كنت فين يعني ؟ أنا روحت أشوف أمي. وحشتني الله !
-و بالنسبة لخروجك مع الزفت ده تسميه إيه يا يسرا ؟!!
كانت هذه “يمنى”.. خرجت عن صمتها أخيراً، و شاركت في المشادة هي الأخرى …
نظرت “يسرا” إليها و قالت بحدة :
-بقولك إيه يابت إنتي. محدش فينا هنا واصي على حد. ماتنطقيش معايا بكلمة إنتي فاهمة ؟ لا إنتي أكبر مني و لا باخد منك المصروف. و ماتدخليش في إللي مالكيش فيه أصلاً
لم ترد “يمنى” عليها، آثرت الصمت لعدم رغبتها في تضخيم الأمور أكثر.. لكن الجدة أبت إلا أن تزيد التقريع القاس على حفيدتها :
-و صوتك بقى بيعلى في وجودي كمان ! ده إحنا إتطورنا أوي يا ست هانم. واضح فعلاً إن بنتي ماعرفتش تربي بس أنا بقى هاصلح غلطتها دي. و حياة أمك يا يسرا لأربيكي من أول و جديدوو مافيش خروج من البيت ده تاني لحد ما ترجع يارا
يسرا بسخرية : مش لو رجعت أصلاً !
تجهمت “ميرفت” في هذه اللحظة، و قالت بقلق :
-قصدك إيه يابت ؟!!!
تململت “يسرا” قائلة :
-قصدي إن مامي قاعدة في بيت الرعب. محدش شاف هناك إللي أنا شوفته. حراسة في كل مكان و كلاب متوحشة و أشكال إجرامية مقرفة. زي ما يكون قصر ملكي أو متحف خايفين حد يهجم عليه.. plus جوزها السابق. الحيوان ده إللي إسمه سفيان الداغر. من نظرة واحدة إتأكدلي إن رجوعه مش مسألة طبيعية. و إنه عمره ما هايسيب مامي تاني بالسهولة دي زي ما حصل زمان. الحظ مش هايقف معاها مرتين يا تيتة. ده أنا مش مصدقة إني خرجت من عندهم. متهيألي لولا إصرارها كان زماني محبوسة معاها هناك.. هو فعلاً ماكنش عايزني أمشي. ده كان واضح جداً !
تسلل الخوف إلى قلب “ميرفت” بعد إستماعها لهذا، لم تستطع إخفائه أبداً و هي تقول :
-ليه هو بيعمل إيه في أمك ؟ شوفتيه عملها إيه ؟ هي كويسة و لا لأ إنطقي ؟؟؟
تنهدت “يسرا” و قالت بفتور :
-إطمني ياتيتة. مامي كويسة لحد دلوقتي
ميرفت بإنفعال : يعني إيه لحد دلوقتي ؟ ماتقوليلي إيه إللي بيحصل هناك بالظبط !!
إبتسمت “يسرا” و قالت بإنتصار :
-شوفتي بقى إن مرواحي هناك مفيد إزاي ! مهما حاولت مامي تطمنك من بعيد مش هاتقدر توصلك الصورة الحقيقية لحالتها. زي ما حصل زمان. لما كانت بتتبهدل و كانت هاتموت أكتر من مرة. ماكنتيش تعرفي عنها أي حاجة.. لازم أكون جمبها يا تيتة. لازم !
تعالت الحشرجة في صدر الجدة مجدداً و خرج صوتها يزخر بالغلظة و الغضب :
-إسمعي يابت إنتي. مافيش روحة على البيت ده تاني إنتي فاهمة ؟ و ماسمعكيش تقولي عايزة أخرج. مش هاتخرجي من هنا يا يسرا إللي لما أمك ترجع. و مش عايزة كلمة زيادة !
و كأنها واثقة من عودة إبنتها !!
لم يكن لديها ذرة ثقة، و آمنت على كلام حفيدتها، يبدو أنها على وشك خسارة إبنتها مجدداً، و هذه المرة الخسارة حتمية و نهائية.. لكنها بالطبع لن تسمح بإيذاء الفتاتين، لن تسمح ….
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
تفاجأت “ميرا”.. لا بل صُدمت، عندما خرجت من بوابات المطار و وجدت أبيها ينتظرها بالخارج !!!
لحسن حظها أن “يوسف” قد سبقها في رحلة مبكرة، تفصل بينهما ساعة واحدة فقط …
-حمدلله على السلامة يا غالية ! .. قالها “سفيان” و هو يتلقفها بين أحضانه و يطبق عليها بقوة
إحتضنته “ميرا” بدورها و هي تقول بلهجة غير واثقة :
-الله يسلمك. وحشتني يا دادي.. إنت عرفت إزاي إني راجعة إنهاردة ؟!
أبعدها “سفيان” عنه قليلاً و قال :
-أي حاجة تخصك بعرفها يا روحي. و لازم أعرفها !
إبتلعت ريقها بصعوبة و هي تقسر نفسها على الإبتسام …
و سرعان ما إستقلا السيارة، سيارته الخاصة، بعد أن وضع حقيبتها بالخلف… إنطلق في طريقه، إجتاز عدة مناطق رئيسية، حتى توغل في عمق المدينة
مما أثار ريبة “ميرا”.. فهي لا تسكن بالمدينة أصلاً !!
-دادي إحنا رايحين فين ؟! .. قالتها “ميرا” بتساؤل
أجابها “سفيان” دون أن يزيح ناظريه عن الطريق :
-رايحين مشوار صغير يا حبيبتي. ماتقلقيش مش هاياخد أكتر من نص ساعة !
ميرا بإستغراب : مشوار إيه ده ؟ مهم أوي يعني ؟!
رمقها بنظرة جانبية و قال :
-مهم جداً. دلوقتي تشوفي !
ثمة شيء في نبرة صوته لا يطمئن، و هي لا تريد أن تصدق حدسها، لا تريد …
و أخيراً، بعد مدة قصيرة توقفت السيارة هنا، أمام بناية قديمة، لكنها راقية، في حي سكني منظم و نظيف
ترجل “سفيان” أولاً و دعى إبنته للحاق به، أطاعته فوراً فأقفل السيارة بضغطة زر… ولج إلي الداخل تتبعه “ميرا” و هي تقدم ساق و تؤخر الأخرى
أخذا المصعد، ليصلا في غضون ثوان إلى الطابق الرابع.. كان مقسماً لأكثر من جهة، و لم تحتار “ميرا” في وجود أبيها، فقد إتجه نحو اليسار مرشداً إياها و بالكاد كانت تواطئ خطواته الواسعة… و ها هما أمام شقة معنونة
رباه !
هذه عيادة طبيب أمراض نساء و توليد !!!!!!
-خشي ! .. تمتم “سفيان” و هو يدفع بجسد إبنته الذي جمد فجأة إلى الداخل
كان الباب مفتوح أصلاً، و كانت هناك إمرآة تنتظر وصولهما بقاعة الإستقبال …
-أهلاً أهلاً يا باشا.. نورتنا !
شكرها “سفيان” بإقتضاب :
-شكراً يا مدام غادة. دكتورة نادين وصلت ؟
ردت تلك الـ”غادة” و هي تقيس “ميرا” بنظرات فاحصة :
-طبعاً يا باشا وصلت. و مروة و صفاء المساعدين كمان. كلهم موجودين من بدري و في إنتظارك.. و أشارت له نحو عرفة معينة و قالت :
-حضرتك هاتتفضل في الأوضة لحد ما أبلغهم بس. و تكون جهزت المدام
أومأ “سفيان” قائلاً :
-أوك ! .. و أحاط كتفي إبنته بذراعه
-يلا يا ميرا
و سحبها سحباً نحو تلك الغرفة، بينما كان قلبها يدق بصخب شديد في صدرها، و مع كل خطوة يزداد يقينها، رغم أنها لا تزال تأمل أن يخيب ظنها… حتى أصبحت معه بالداخل
وقفت تتأمل المكان …
كانت غرفة عادية، عادية بالفعل، بها سرير صغير و مقعدين و شرفة جانبية و حاجب لإرتداء الملابس …
إستمرت محاولاتها في الظهور بمظهر الهادئة الواثقة، قدر الإمكان، فإستدارت نحو والدها.. لتُفاجأ بوجود إمرآتين تقفان خلفه و قد كان يتحدث معهما بصوت خافت …
-إحنا فين يا دادي ؟! .. سألته بتوجس
كانت تحوم بنظراتها في وجوه هؤلاء الأغراب
ليلتفت أبيها نحوها باللحظة التالية …
-إقلعي ! .. هتف “سفيان” بغلظة
ميرا بصدمة : أقلع يعني إيه ؟ إيه إللي بتقوله ده يا دادي ؟!!!
سفيان مستهجناً : أقولهالك بطريقتك يا قلب أبوكي عشان تفهمي. Take off your clothes.. ثم صاح بغضب :
-يلا إقلعي زفت هدومك دي !
تنفست بذعر و هي تقول :
-في إيه بس قولي إيه إللي حصل ؟ أنا عملت إيه ؟ إنت زعلان مني في حاجة ؟؟!!
قطع المسافة بينهما في خطوة و قبض على شعرها مغمغماً من بين أسنانه :
-الخوف إللي في عنيكي مني ده فات آوانه. إنتي مابقتيش تخافي مني يا ميرا. إنتي واثقة إني بحبك. واثقة إنك أهم حاجة في حياتي. و إني إستحالة آذيكي. ثقتك في محلها.. إنتي صحيح كل حياتي. عشان كده لو في سبب مهما كان تافه بس إحتمال يقضي على حياتي يبقى لازم أخلص منه بدون تفكير !
تآوهت “ميرا” و هي تقول متألمة :
-دادي.. أنا مش فاهمة حاجة. بليز قولي في إيه ؟!!
رمقها “سفيان” بخيبة أمل و قال بقساوة :
-إنتي خونتي ثقتي فيكي. بعد ما إفتكرت إنك عقلتي و بقيتي بني آدمة. واحدة ست محترمة. طلعتي زي أمك و عمتك. و***. يا خسارة يا ميرا ! .. و تابع بصرامة أرعبتها :
-إللي في بطنك ده هاينزل. و إنهاردة. و بعدين هانتحاسب ! ..و أفلت شعرها
هكذا صرّح عن معرفته بالحقيقة في لحظة …
لتصرخ “ميرا” من هول العبارة، و تركع تحت قدميه باكية بحرقة و هي تقول :
-لاااااااا. لأ يا دادي بلييز.. مش ممكن ينزل. أنا عايزة البيبي ده. عشان خاطري سيبهولي. بابـييييييي. بلييييز أنا عايزااااه. دي أخر فرصة ليا عشان يكون عندي بيبي. ماتعملش فيا كده بليييز سيبهولي. أو موتني. لكن بلاش هو. بلاش هو !!!
كانت دموعها المنهمرة بشدة تكاد تغسل نعليه تقريباً، و مع كل ذلك بدا أنه لم يتأثر ببكائها أو عويلها.. رأته و هو يتراجع للخلف قائلاً بلهجة آمرة لا مجال للنقاش بعدها :
-قومي إقلعي هدومك دي. و إلبسي هدوم العمليات. الدكتورة مستنياكي.. يلا ! ………… !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع …
الفصل التاسع عشر
_ نبض ! _
لا مجال للتفكير الآن… فلو فكرت لن تتخذ خطوة أخرى واحدة تجاه غرفته، لقد ألغت عقلها تماماً و هي لا تنقطع عن محاولات إقناع قلبها بالذهاب إليه
منذ الليلة الماضية و هي تجرب ذلك، حتى أنها لم تنم، و حالتها مزرية بشدة، بعد الكلام السام الذي سمعته من زوجها المجرم.. عفواً، الذي كان زوجها بيوم من الأيام، رأت أنها تهدر وقتها سُدى، و أنها ربما تضيع فرصة التفاهم مع إبنها
لذلك فقد حسمت أمرها اليوم و ها هي تجتاز الرواق وصولاً إلى غرفته الخاصة …
طرقت الباب بخفة بادئ الأمر، كان التردد يساورها.. ليزداد طرقها قوة لحظة بلحظة، و تسمرت فجأة… حين سمعت صوته يهتف من الداخل :
-إدخــل !
إبتلعت ريقها بصعوبة، كان وجهها عبارة عن كتلة نار و جبينها بتصبب عرقاً بشدة …
جففت عرقها في كم كنزتها و أخذت تعبئ أنفاساً عميقة إلى رئتيها بسرعة، ثم برمت مقبض الباب و دفعته بروية و بطء …
مشت إلى الداخل، و إرتفعت نظراتها شيئاً فشيء.. جمدت في هذه لحظة… عندما إصطدمت برؤيته مباشرةً، حيث كان يجلس أمام الشرفة ممدداً فوق كرسي قابلاً للطي و الغيتار في حضنه يداعبه بأنامله بين الفينة و الأخرى
كان مسترخٍ و رأسه مائل للخلف، عندما شعر بطول مدة الصمت هذه و هو لا يعرف من الذي أقدم على زيارته الآن !
حرك رأسه للأمام و نظر مستطلعاً هوية الزائر …
-إنتــي !!! .. صاح “سفيان”… الإبن
و هب قائماً من مكانه فوراً، تركه غيتاره فوق الكرسي و إبتعد خطوة رأسياً و هو يقول بغلظة شديدة :
-إنتي إيه إللي جابك هنا ؟ إللي جابك عندي ؟ إطلعــي بــرا. بــرااااااا !
و إحمّر وجهه و برزت عروقه في ثوانٍ من شدة الإنفعال الذي ألمّ به ..
تذرعت “يارا” ببعض القوة لصد هجومه العنيف هذا، فقالت من مكانها بصوت هادئ صاغر لتستميله :
-على مهلك شوية طيب. مالك بس ؟ إهدا يابني أنا آ ا ..
-أنا مش إبنك ! .. قاطعها بعصبية كبيرة
-طيب خلاص إهدا .. قالتها مسايرة لتهدئه
-إهدا أنا جاية أتكلم معاك بس. لازم أتكلم معاك. لازم تسمعني يابنـ .. يا عبد الرحمن !
عقد “سفيان” حاجبيه مستنكراً :
-عبد الرحمن !!
أومأت “يارا” بالإيجاب و قد إمتلأت عينيها بالعبرات.. لتفيض فجأة كالشلالات و هي ترد عليه بصوت أبح :
-أيوه.. عبد الرحمن… إنت عبد الرحمن. ده إسمك الحقيقي. ده إسمك إللي إختارتهولك من قبل ما تتولد. من و إنت لسا في بطني.. قبل ما إتحرم منك يابني !
سفيان بغضب : قولتلك أنا مش إبنك. سامعاني ؟ مش إبنك
يارا و هي تجهش ببكاء مرير :
-لأ إنت إبني.. هي دي الحقيقة. أنا آسفة إنت مضطر تصدقها و تقبلها.. إنت إبني أنا. أنا أمك. جايز عرفت متأخر بس ده ماينفيش الواقع. أنا عمري ما هاسمحلك تبعد عني تاني. أنا أتقهرت عليك بما فيه الكفاية. إتكويت بنارك و أنا فاكرة إنك ميت طول السنين دي. كنت عايشة و أنا متصبرة بفكرة الإنتقام. كنت هاخد تارك. منك إنت و أنا مش حاسة. مش حاسة بيك و لا قلبي شايفك.. أنا عارفة إنك مصدوم. و كارهني دلوقتي و …
-كارهك دلوقتي و طول عمري ! .. قاطعها للمرة الثانية
لكنه كان هادئاً الآن، هادئاً على نحو خطير… بينما كانت “يارا” تحملق فيه بخرس، مضى صوبها وئيداً و هو يقول بصوت كالفحيح :
-إنتي مش محتاجة تبذلي كل المجهود ده و تقعدي تعيطيلي و تحلفي إنك أمي كل ده عشان أصدقك. حتى لو صدقتك دي مصيبة و نقطة سودا في صالحك.. إنتي فاكرة إني ممكن أخدك بالحضن مثلاً ؟ مستنية أقولك يا ماما ؟ بعد ما سيبتي لي نفسك. إنتي عارفة أنا شايفك إزاي ؟ إنتي في عنيا مش أكتر من واحدة ×××××× !
-إخرس !!!
و قد خرس فعلاً …
بفعل الصفعة التي طبعتها على خده الأيمن بعزم قوتها، ليغمرها الشحوب فجأة، كلياً، و من بعده الندم مصحوباً بفزع كبير …
رفعت كفها الذي إمتد إليه للتو و نظرت فيه بإستنكار، ثم نظرت له هو.. لم يكن غاضباً كما توقعت، بل كان يبتسم لها تلك الإبتسامة المزدرية التي تطعن قلبها في الصميم
لم تحتمل التواجد معه أكثر، فإستدارت مهرولة إلى الخارج و هي تكمم فمها الباكي بكفها !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
لقد مرت نصف ساعة كما وعدها… تقريباً إنتهى الأمر
إنتهى كل شيء، و محى أبيها آثار خطيئتها بالطريقة التي رآها صواب من وجهة نظره، و كانت هي في منتهى الخنوع و الإستسلام، فماذا عساها تفعل ؟
لا يمكنها أن تقف بوجهه، لا يمكنها أن تعصي له أمراً.. أبداً !
كانت لا تزال تحت تأثير التخدير، جزئياً… عندما سمعت صوته آتياً من مسافة بعيدة بادئ الأمر، ثم صار يقترب شيئاً فشيء :
-ميــرا.. ميــرا.. ميــرا !
وجدت صعوبة شديدة في الكلام، عوضاً عن الغصة الخانقة التي تقبض على حنجرتها بشدة.. شعرت بدموعها تفيض عبر عينيها المغمضتين، و أحست بأصابع أبيها القاسية تزيل ما يمكن إزالته.. فالدمع على ما يبدو يتدفق بلا نهاية …
-ميرا ! baby إنتي سمعاني ؟ ردي عليا !
رغم لطف نبرته، إلا أنها لم تغفل الإسلوب الآمر الذي يغلفها.. لكنها لم تستطع، لم تحسن تكوين جملة من شدة حزنها و قهرها على الجنين الذي فقدته للتو.. إبنها ….
عاد صوت “سفيان” يتكلم بنفس الصيغة الآمرة من جديد :
-ميــرا.. أنا أبوكي. سمعاني ؟ فتحي عنيكي. إتكلمي !
-إممممم ! .. كان هذا الأنين المتألم كل ما إستطاعت التفوه به
سمعته يقول مجدداً و هي تشعر بيده التي تشد على يدها :
-إنتي بقيتي كويسة دلوقتي.. لازم تقومي. لازم نمشي يا حبيبتي. يلا يا ميرا. فتحي عنيكي !
و لم تعرف كيف إستجابت له هذه المرة، ففتحت عينيها بتثاقل… كانت رائحة ( البينج ) تزعجها كثيراً، و هذا الضوء الأبيض الشديد، أعماها قليلاً، ثم بدأت الرؤية تتوضح، و شاهدت والدها، يقف بجوارها تماماً مطلاً برأسه عليها …
كانت لا تزال في حجرة العمليات، و لم يكن هناك سواها هي و هو فقط.. جالت بنظرها المكان، و عندما لم تجد الطبيبة التي عزمت على إجهاضها نظرت نحو أبيها
سألته و عيناها لا تكفان عن ذرف الدموع الساخنة :
-خلاص ؟ خلصت ؟!
-خلصتي آه ! .. كان وجهه مقنعاً بالجمود و هو يخاطبها
بينما غمرتها موجة من الآسى جعلتها تنفجر باكية بحرقة شديدة، ليحاول “سفيان” تهدئتها و هو يقول :
-خلاص يا ميرا. إهدي.. كله هايبقى كويس !
قلت “ميرا” نائحة بمرارة كبيرة :
-إيه إللي هايبقى كويس ؟ إبني مات. أمنيتي الوحيدة راحت. كل حاجة إنتهت بالنسبة لي. كل حاجة خلصت. أنا إنتهيت خلاص !!
أمسك “سفيان” بكتفيها و قرب وجهه منها قائلاً بصوت خافت ملؤه الحزم :
-عمرك ما تنتهي طول ما أبوكي عايش. طول ما أنا موجود مافيش أي حاجة ممكن تمسّك.. سمعاني ؟
لكنها إستمرت في البكاء و الإنهيار أكثر فأكثر، ليعيد عليها بصرامة :
-ده كان درس ليكي. كان لازم أعمل فيكي كده. إتعلمتي تداري عليا و تغلطي من ورا ضهري. تخيلي إيه إللي كان ممكن يحصلك لو كنت عرفت متأخر ؟ كنت هاتصرف إزاي ؟.. خلاص يا ميرا بطلي عياط. إنتي سليمة. إبنك كويس محدش لمسه !
و كفت فجأة
حملقت فيه مصدومة، إعتصرت جفنيها من الدموع حتى تراه جيداً و قالت بلهجة متأثرة بالتخدير :
-دادي ! إنت بتقول إيه ؟ أنا سليمة ؟ و . و إبني. إبني كويس ؟ يعني هو لسا في بطني ؟!!!
و إرتفعت يدها إلى بطنها على الفور، أخذت تتحس حدبتها التي برزت حديثاً، كانت تبحث عنه، عن نبضه، حتى تتأكد بنفسها.. و لكن جاء التأكيد القاطع من أبيها مرة أخرى :
-إنتي كويسة يا ميرا. إنتي و إبنك بخير .. و أكمل مجففاً دموعها بكفه الكبير :
-معقول أنا أعمل فيكي كده ؟ أنا أحرق قلبك بالطريقة دي ؟ بعد ما ضحيت بعمري و بكل حاجة عشانك. إنتي عمري أصلاً !
إندفعت ضحكة قصيرة منها في هذه اللحظة، و ما لبثت أن أطلقت ضحكة أخرى متقطعة و هي تبكي و تقول بنفس الوقت :
-دادي.. Thanks.. Thanks.. Thanks.. Thanks !
و بدت أنها لن تكف عن تكرار تلك الجملة، ليبتسم “سفيان” بحنان و هو يقاطعها بلطف :
-تمام يا حبيبتي تمام.. You most welcome !
و إنحنى ليقبل يدها و جبينها، و بدورها تعلقت به و إحتضنته بقوة… هذا أبيها، هذا هو أبيها !!! ……. !!!!!!!!!!
يتبع …
الفصل العشرون
_ تدبير ! _
لأول مرة في تاريخ الأسرة المتماسكة السعيدة… قامت الزوجة المختالة و الآنفة على الدوام بإعداد عشاءً مفتخر بنفسها، إحتفاء بعودة زوجها من سفرته
حيث إنه قد تغيب عنها لأول مرة أيضاً منذ أن تزوجها قبل خمسة عشر عاماً !
الغريب في الأمر إنها إفتقدته كثيراً، رغم أنه لم يمكث بعيداً عنها سوى بضع ليالٍ فقط، فهي لم تكن تتخيل أن حبه يملأ قلبها إلى هذا الحد، و أنه إذا غاب عنها مدة سوف تشتاقه إلى هذه الدرجة.. ربما لأن زواجهما كان تقليدياً في البداية، لم يكن يغمره الحب أو المشاعر العنيفة التي تكون بين الأحباب و العشاق
لكن مع مرور الزمن إستطاع أن يجعلها تحبه، بل و تغرق في عشقه حتى أذنيها، و من دون أن يسعى لذلك.. أحياناً كثيرة تفكر، أن لولا جفاؤه معها و قساوته عليها لما كانت أحبته أصلاً، هي إبنة العائلة الثرية رفيعة المستوى، و إحدى جميلاتها الفاتنات !
كان يترأس المائدة كالعادة، عندما وضعت زوجته طبقه المخصوص أمامه، ثم جلست على يمينه كالمعتاد أيضاً
الإبن و الإبنة يجلسان أمام والديهما، كل بدا مسروراً بعودة رب الأسرة، إلا هو، ظاهرياً حرص على إظهار سعادة زائفة، إنما داخلياً… لم يكن سعيداً بالمرة !!!!
-بابي جيبتلي الـPump Shell ؟!! .. قالت الإبنة رقيقة الجمال هذه العبارة متسائلة
رفع “يوسف” عينيه عن صحنه و قال لها مبتسماً :
-نعم يا حبيبتي ! إيه Pump Shell ده ؟
لوّت الفتاة ذات الثلاثة عشر عاماً فمها و هي تقول مستاءة :
-يبقى نسيت تجيبها يا بابي.. الـPump Shell دي بيرفيوم. قولتلك إني مش لاقيتها هنا خالص و كنت عايزاك تشتريهالي من لندن !
يوسف معتذراً : آوه. بجد أنا آسف يا حبيبتي. كنت فاكر فعلاً أجبلك كل قولتيلي عليه بس أنا ماخرجتش من الآوتيل إللي نزلت فيه خالص. المؤتمر إللي حضرته كان مهم و الحراسة في الأماكن إللي كنت فيها كانت مشددة جداً.. معلش سامحيني. أوعدك هاقلب الدنيا على البيرفيوم ده و هايكون عندك الليلة. ها إيه رأيك !
-Yes Yes Yes !
صاحت الفتاة و هي تقفز من مكانها، إنقضت على أبيها و أخذت تحتضنه و تقبله بقوة، لتقاطع الأم لحظة المرح هذه فجأة :
-ميــرا ! مش وقته خالص إللي بتعمليه ده بابي بيتعشا
إرتبك “يوسف” للحظة، حين سمع إسم إبنته من فم زوجته… و كأنها تناديها للمرة الأولى، أهذه إشارة !!!
-و بعدين يا يوسف ماتسمعش كلام البنت دي .. و أردفت بحدة
-Pump Shell إيه إللي عايزاها ؟ دي كبيرة على سنك يا حبيبتي. إزاي بنت في سنك تحط Product نسائي يعني !!
أغرورقت عينيّ الفتاة بالدموع و هي تقول :
-بس هي عجباني يا مامي. ده بيرفيوم هو Babydoll !
-إخرسي ! .. صاحت بها معنفة
-كمان بتردي عليا ؟ طيب مافيش عشا ليكي معانا. إتفضلي على أوضتك و دادا هاتجبلك أكلك عندك. يــلا
هربت الفتاة على الفور إلى غرفتها و هي تكتم صوت بكائها… ليلتفت “يوسف” نحو زوجته قائلاً بغضب :
-إيه ده ! إيه إللي عملتيه ده يا فريدة ؟ إزاي تزعقي للبنت و أنا قاعد ؟ و تقوميها من على الأكل كمان ؟!!!
فريدة بضيق : البنت من أول ما شافتك مش رحماك يا حبيبي و كلامها مش بيخلص. أنا قلت أريحك شوية من الزن ما إنت عارف زن ولادك
يوسف و هو يضرب سطح المائدة بقبضته :
-و أنا كنت إشتكيت لك ؟ 100 مرة قولتلك صوتك مايعلاش على الولاد في وجودي. صوتك مايعلاش أصلاً طول ما أنا قاعد. إيــه مابتفهميش !!!
غضت “فريدة” طرفيها و قالت بشيء من الحرج :
-طيب أنا آسفة.. حقك عليا المرة دي !
رد “يوسف” بغلظة و هو لا ينفك يرمقها شزراً :
-عشي زياد و إسبقيني على الأوضة في كلمتين لازم تسمعيهم. و أنا هاروح أكمل عشايا مع ميرا
و قام و هو يمسح يديه في منديل صغير …
أطلقت “فريدة” نهدة عميقة و هي تراقب ذهابه، حتى توارى عن ناظريها.. إلتفتت نحو طفلها الصغير و نسخة أبيه المصغرة، كان يجلس في صمت هدوء
إبتسمت له بحب، فركت شعره البني الغزير بأصابعها، ثم قالت و هي تغمر رأسه في حضنها :
-أنا عملالك كوكيز حلوة أووي زيك يا روحي. بس مش هناكلها إلا لما تخلص أكلك الأول أوكي ؟
أومأ الصغير موافقاً، فضحكت له و أخذت تطعمه بيدها …
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
لم يستغرق “عمرو” وقتاً طويلاً للوصول إلى بيت والد زوجته، في الواقع لقد قطع الطريق كلمح البصر بدون مغالاة… بعد أن تلفن له “سفيان” و أخبره بعودة “ميرا” من رحلتها الإستجمامية
و لكنه أخبره أيضاً بتوعكها الشديد و المفاجئ، و كان سيطلب منه المجيئ، إلا أن الأخير لم ينتظر منه سماع ذلك
و ها هو ذا يقف أمام الوالد و يسأله بوجه شاحب و أنفاس متقطعة :
-خير يا سفيان باشا ! مالها ميرا ؟ جرالها إيه ؟ هي فين ؟!!!!
-خير يا عمرو ماتقلقش ! .. قالها “سفيان” مطمئناً و هو يربت على كتف زوج إبنته، و أكمل بإبتسامة :
-تعالى الأول نقعد نشرب حاجة و نتكلم شوية
عمرو بقلق واضح :
-أيوه يا باشا بس أنا عايز أطمن على ميرا. أشوفها طيب !
سفيان بلطف حازم :
-قولتلك ماتقلقش. هاخليك تشوفها طبعاً.. بس بعد ما نتكلم
-نتكلم في إيه ؟؟!!
-تعالى و أنا أقولك !
و إصطحبه معه إلى الصالون الصغير …
-خير يا باشا !! .. قالها “عمرو” بتساؤل
و كان يجلس أمامه متململاً …
نظر له “سفيان” و تنحنح قبل أن يقول بفتور :
-شوف يا عمرو.. إنت طبعاً عارف غلاوتك عندي شكلها إزاي. و عارف أنا بثق فيك أد إيه. في الحقيقة إنت عمرك ما خيبت ظني فيك. من يوم جوزتك بنتي. لحد إنهاردة كنت جدير بالثقة و الأمانة إللي حطتهم فيك.. أنا مهما قلت أو شكرتك مش هقدر أوفيك حقك أبداً
-يا باشا متشكر. إنت مش محتاج تشكرني أصلاً و لا تقول أي حاجة. ميرا مراتي و أنا بحبها و طبيعي أحميها و أعيشها في أمان حتى في بعدك عنها. أنا جوزها !
تنهد “سفيان” مطولاً و شرع في إشعال سيجاراً …
بدا عليه التردد نوعاً ما، بينما بدأ “عمرو” يشعر بالملل و قلقه في تزايد.. إلى أن عاد “سفيان” يقول بصوته العميق :
-إسمع يا عمرو. سبق و عرفتك قيمة ميرا في حياتي. قولتلك كتير أنا بعتبرها إيه بالنسبة لي.. ميرا إللي طلعت بيها من الدنيا. أخوها موجود آه و له معزة بردو.. بس مش أكتر منها. مش عارف هاتفهمني و لا لأ. بس يكفي أقولك إن من يوم ما إتولدت إتولدت معاها نقطة ضعفي
عقد “عمرو” حاجبيه و هو يقول غير قادراً على إخفاء ذهوله :
-نقطة ضعفك ؟ لأ بجد يا باشا.. حقيقي أول مرة أعرف إن ليك نقطة ضعف. أنا عارف طبعاً إنت بتحب ميرا أد إيه. بس ماجتش في بالي دي. إنها تكون نقطة ضعفك. خصوصاً مع عشرتي لحضرتك و معرفتي بيك شخصياً !
سفيان بإبتسامة ملتوية :
-أديك عرفت يا عمرو.. ميرا نقطة ضعف سفيان الداغر الوحيدة. و أنا ماعنديش إستعداد أخسرها أبداً
عمرو بتوجس : ربنا ما يجيب خسارة. و هاتخسرها ليه بس ؟!!
-ميرا حاولت تنتحر يا عمرو !
جحظت أعين “عمرو” من الصدمة، عندما تلقى هذا الخبر من “سفيان” …
-إنت بتقول إيه يا باشا ؟ حاولت تنتحر ؟ طب لــيه ؟!!!!
-إنت السبب !
عمرو بصدمة مضاعفة :
-أنا !!!!!
هز “سفيان” رأسه و قال متأسفاً :
-ميرا بنتي.. ست زي أي ست. عاشت طول عمرها بتحلم يبقى ليها طفل. هي صحيح ربت أخوها و إعتبرته إينها. لكن هاتفضل التجربة بالنسبة لها حلم. و إن يكون ليها طفل منها هي بردو. مش هاتقدر تتجاهل النقطة دي جواها. مهما كبرت في السن. هاتفضل تتعذب و العذاب هايكبر مع فكرة إن مش هي السبب في منع الشيء ده !
و ها قد أدرك “عمرو” بيت القصيد …
إزداد إرتباكه و هو يرد عليه بآسى شديد :
-أنا طبعاً متفهم. كل إللي حضرتك بتقوله. و عارف إن ميرا ضحت في حياتها معايا ! .. و نظر في عينيه مكملاً بصوت أكثر حدة :
-بس أنا كمان ضحيت.. حاجة قصاد حاجة. أكيد حضرتك فاهمني
إبتسم “سفيان” بإنتصار قائلاً :
-كنت عارف إنك هاتقول كده بالظبط !
عمرو بإنزعاج : يا باشا أنا ماقصدش. أنا كنت بقول بس آ ا ..
-لا تقول و لا تعيد ! .. قاطعه “سفيان” بصرامة
-إنت هاتطلق بنتي. واضح إن في حاجة مش مظبوطة في علاقتكوا. و العتب باين أوي في صوتك. عشان كده أنا بعفيك من كل ده و بقولك طلقها يا عمرو
هب “عمرو” واقفاً و هو يصيح بإستنكار :
-أطلق مين ؟ حضرتك عايزني أطلق ميرا ؟ بعد كل ده عايزني أطلقها ؟ ده من رابع المستحيلات !
تطلع “سفيان” إليه من مكانه، و قال بهدوء شديد :
-أنا مش بطلب منك و لا بسألك يا عمرو. أنا بآمرك و بقولك إللي هايحصل.. إنت هاتطلق ميرا
قهقه “عمرو” قائلاً بخشونة :
-مش بالسهولة دي يا باشا. زي ما عمرها ضاع عمري أنا كمان ضاع. ماتفتكرش أبداً إني هاسمحلها تخرج من حياتي المدمرة و تروح تعيش حياتها بعيد و أنا أقف أتفرج عليها.. ميرا. يا تعيش إللي باقي من حياتها معايا. يا مش هاتعيش خالص يا سفيان باشا… عن إذنك !
و إستدار مغادراً …
-يبقى إنت إللي مش هاتعيش يا عمرو ! .. هكذا حدث “سفيان” نفسه
و كان يدبر الأمر في رأسه !!!!!!!
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
كانت “فريدة” تجلس أمام مرآتها، تمشط شعرها بالفرشاة، تضيع وقتها في التزين ريثما يآتي لها زوجها كما قال
لم يطول غيابه، و حضر في هذه اللحظة… رسمت إبتسامة كبيرة على وجهها و قامت من مكانها و هي تدفع بشعرها الطويل للوراء، إلتفتت إليه و سارت نحوه بخيلاء و هي تقول برقة :
-إيه يا قلبي ! ماقفلتش الباب وراك ليه ؟ أنا آكلت زياد و نيمته. و ميرا وراها مذاكرة. تعالى إرتاح و غيّر هدوم السفر دي بقى
و طوقت رقبته بذراعيها، ليزفر “يوسف” بضيق قائلاً :
-فريدة. لو سمحتي أنا عايز أقولك كلمتين.. ممكن تهدي شوية و تسمعيني !
أخذت تقبّله من صدره المكشوف و عنقه متمتمة :
-أنا سمعاك يا حبيبي. كل حاجة فيا سمعاك و عاوزاك.. قول إللي إنت عايزه !
تآفف “يوسف” بضجر و هو يمسك برسغيها و يبعدها عنه بالقدر الكافٍ :
-بقولك عاوزك في حاجة مهمة. إثبتي كده و إسمعيني !
عقدت “فريدة” حاجبيها و قالت بكدر :
-قول يا يوسف. إيه الحاجة المهمة يا سيدي. إتفضل أنا سمعاك أهو !!
إنتظر “يوسف” لبرهة، ثم قال بصوت قوي :
-فريدة أنا هاتجوز.. و المرة دي مش بهزر معاكي و لا بهددك . أنا بتكلم جد. و ده قرار مش هارجع فيه. عشان كده شوفي إنتي عايزة تعملي إيه. لو عايزة تطلقي هاطلقك و حقوقك كلها محفوظة. لو عايزة تفضلي على ذمتي تمام بردو مافيش مشاكل. هاتبقي زي ما إنتي هنا في بيتك و معاكي الولاد و مافيش أي حاجة هاتتغير.. خدي وقتك و فكري كويس. لحد ما أرتب أموري و أرجعلك تاني
و إلتفت ليأخذ سترته من فوق المشجب، ثم رحل …
رحل و تركها هي تقف كالصنم هكذا، بعد أن صدمها صدمة عمرها، وجدت صعوبة في إبداء أي ردة فعل… إنها مصدومة، مصدومة فقط !!! …………. !!!!!!!!!!!!!!!
يتبع …
الفصل الحادي والعشرون
_ خوف ! _
كانت تجلس فوق الكرسي الوثير بأريحية تامة، تحتسي فنجان قهوتها في هدوء… و تراقبه في صمت بنفس الوقت
و هو لا يزال يتحدث عبر هاتفه إلى والد “عمرو”.. زوج إبنته :
-إسمع يا عز.. إبنك واقف قصادي. بيتحداني. أحسنلك تعقله.. إسمعني كويس و منغير ما تقاطعني.. إبنك لو ماعقلش و طلق بنتي بهدوء و بدون مشاكل.. منغير يمين.. مش هايلحق يندم إنه ماسمعش كلامي.. سلام يا عز !
و أغلق الخط و هو يزفر بشدة …
-إيه يا سفيان ! مالك عصبي كده ليه ؟ .. قالتها “وفاء” بصوتها الهادئ
-قالك إيه عز ؟
إلتفت “سفيان” نحوها و رد بضيق شديد :
-أنا ما صدقت حياتنا تستقر شوية. مش عارف إيه إللي قلبها كده فجأة.. ليه إللي حواليا بيدورا دايماً على المشاكل ؟ مانعرفش نهدا الشوية الفاضلين دول ؟!
ضحكت “وفاء” و قالت :
-إيه إللي حصل لده كله بس ؟ عز رافض الطلاق هو كمان ؟
سفيان بلهجة مستوحشة :
-مايقدرش يرفض. و مايقدرش يعارضني في أي حاجة.. ده مرعوب على إبنه. و كده كده عمرو هايطلق ميرا أنا مش شاغلني الموضوع ده
وفاء بدهشة : الله ! أومال إيه إللي شاغلك طيب ؟ ضاغط على أعصابك أوي كده ليه إيه السبب ؟!!!
زفر مرة أخرى و هو يلقى بهاتفه فوق الطاولة الصغيرة …
سار صوبها و جلس في كرسي مجاور لها، ثم قال بصوت مهموم :
-هاقولك يا وفاء !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
فرغت “ميرا” من حمامها الساخن و خرجت إلى غرفتها، جففت شعرها و صففته أولاً، ثم إرتدت أجمل الثياب و تزينت و تعطرت بأفخم عطورها
ألقت نظرة رضا على إنعكاسها بالـمرآة، الآن هي جاهزة لملاقاة حبيبها… جاهزة لملاقاة “يوسـف”
إذ أخيراً قد سمح لها والدها بإستضافته مجدداً، بعد ما يزيد عن العشرون سنة، يلتقيان من جديد و تصحو علاقتهما الميتة بل و تنتعش أيضاً
بوجود ذلك الجنين الكامن برحمها.. الأمل الذي دب فيها الحياة مرةً أخرى، أخيراً يعود إليها حبها القديم، يعود ليملأ حاضرها و الباقي من مستقبلها
تعتبر “ميرا” نفسها أكثر الناس حظاً في هذه الحياة، فهي لديها “سفيان الداغر”.. أبيها الحبيب المخلص لها على الدوام، و الحامي و المدافع، و الضاغط حتى الموت على أعدائها و على كل من يضمر لها شراً !
مرت بالخارج أمام غرفة “يارا”.. وجدت الباب موارباً، فتوقفت و هي تمد رأسها بفضول لترى ما إذا كانت بالداخل …
-بتدوري على حاجة يا حبيبتي !
شهقت “ميرا” بفزع، حين أتاها ذلك الصوت من خلفها على حين غرة …
إستدارت، لتجد “يارا”.. إذن لم تكن بالداخل !!
كانت تبتسم لها بتهكم ظاهر، بينما كانت الأخيرة مرتبكة بشدة فحاولت أن تبدو طبيعية قدر المستطاع و هي تقول لها :
-أهلاً يا. مرات أبويا.. السخرية هي سلاحها الأمثل في هذه المواقف كالعادة
-أبداً. ماكنتش بدور على حاجة. أنا كنت نازلة أشوف دادي و كمان يوسف جاي !
تعمدت أن تشير إلى مجيئ حبيبها “يوسف” بصراحة أقرب للتبجح حتى تثير حنق زوجة أبيها، أو تغيظها بمعنى أصح
إلا أن الأخيرة إبتسمت لها أكثر و هي تشيح بيدها بالهواء، ثم أزاحتها بلطف من طريقها و ولجت إلى غرفتها …
-من حقك طبعاً تعيشيلك يومين يا حبيبتي .. قالتها “يارا” هازئة بها، و أكملت و هي تفتح باب شرفتها الكبيرة على مصراعيه :
-إحلمي كمان. و حبي. و موتي بحبك.. قبل ما تموتي بحاجة تانية
كانت قد تبعتها “ميرا” إلى الداخل، إحتقن وجهها بدماء الغضب و هي ترد عليها بخشونة :
-إنتي بتهدديني يا يارا ؟ إنتي نسيتي نفسك ؟ إنتي فاكرة أصلاً إنك ممكن تقربيلي أو تعملي أي حاجة و بابي موجود ؟ فوقي يا حبيبتي. سفيان الداغر رجعلك و لا لسا مش مستوعبة ؟!!!
قهقهت “يارا” بقوة قائلة :
-يا عيني على سفيان الداغر. العــو إللي دمرلي حياتي. طبعاً مش بنكر إنتصاره عليا ! .. و إلتفتت لها مستطردة بإبتسامة شريرة :
-بس المرة دي إنتصاري عليه أكيد يا حيلة أبوكي. لا تكوني فاكراني هاسيب تاري زي ما هو فاكر إني مش هقدر عليه.. أبوكي قادر. عارفة و الله.. بس قسماً بربي. لو كان آخر يوم في عمري. مش هموت قبل ما أحسره عليكي. عليكي إنتي. لأن إنتي بس إللي هاتكسريه و هاتقضي على هيلمانه ده كله
و ضحكت من جديد
كظمت “ميرا” غيظها بعناء و هي تقول ببرود متكلف :
-أعلى ما خيلك إركبيه يا يارا. و لو إنك لو كنتي تقدري تعملي حاجة كنتي عملتيها من زمان.. لكن إنتي طول عمرك قليلة الحيلة. و مستسلمة. و هاتفضلي طول عمرك كده. مهما حاولتي مش هاتبقي أد لعبة الشر بتاعتنا
إبتسمت لها بوداعة و لم ترد، إنما مشت صوب الخزانة الضخمة.. فتحت حقيبة صغيرة مخفية أسفل كدسة ملابس، ثم عادت إليها و هي تخبئ شيئاً خلف ظهرها …
-عايزاكي تفتكري الكلمتين إللي قولتيهم دلوقتي حالاً. إوعي تنسيهم. عشان ساعة قضاكي يكون وشي الجميل ده آخر حاجة تشوفيها في حياتك إن شاء الله !
طالعتها “ميرا” بمقت شديد، كم تود الفتك بها، هذه أمنيتها الآن !!!
كانت “يارا” تقرأ مشاعر غضبها هذه من عينيها و وجهها، كانت في قمة الإنتشاء، حتى أظهرت لها ما تخفيه …
عدة بطاقات “فوتوغرافية”، ناولتها إياهم و هي تقول :
-خدي يا حبيبتي. ملي عينك كويس أوي !
حبست “ميرا” أنفاسها فور إطلاعها على محتوى البطاقات… حملقت بصدمة في كل واحدة، لم يكن ما تمسكه في يديها الآن سوى فضيحة !!
أجل فضيحة مدوية …
إنه ملخص رحلتها الإستجمامية برفقة عشيقها في عدة لقطات من الصور… بدءاً من إستقلال الطائرة و حتى غرفة الشاطئ المفتوحة ذات النظام البدائي كما أخبرها “يوسف” !
و لكنه أخبرها أيضاً أنها معزولة، و أن من المستحيل أن يتلصص عليهما أحد، إذن كيف حصلت “يارا” على هذا التقرير المفصل للرحلة ؟ كيف إستطاعت تصوير حتى أدق اللحظات الحميمية المخزية بينهما كالتي تراها الآن !!!!
ماذا لو رآها أحد ؟ بل ماذا لو رآها “عمرو” فقط ؟؟؟!!!!!!!!
-إيه رأيك يا روحي ؟ عجبتك ؟!
أفاقت “ميرا” من صدمتها بصعوبة …
رفعت وجهها إليها و أخذت ترمقها بنظرات عنيفة، ليقر وجه “يارا” و يغمرها شعور هائل بالإمتنان، لقد أفصحت عن مخططها الإنتقامي باكراً.. لكن يكفيها ما تراه الآن، رد فعل “ميرا” هذا أفضل ما يمكن أن تحصل عليه حتى تشفي صدرها المغلول قليلاً ..
-شوفتي بقى إن حبستي هنا مامنعتنيش أكشف نجاستك و و××××× ! .. كانت الشماتة واضحة بأعين “يارا” و صوتها
-مش أبوكي بس إللي قدر يوصلك. أنا مش بلعب زي زمان. و يبقى عيب عليا بعد العمر ده لو ما إتعلمتش حاجة من أبوكي.. تخيلي كده لو الصور دي وقعت في إيد حد ؟ في إيد عمرو مثلاً ! و تتخيلي ليه ؟ قريب جداً هاتوصله. و هايكتشف خيانتك يا ست أبوكي. شوفي بقى ممكن يحصلك إيه إنتي و أبوكي. أصل ربنا يكفيكي شر راجل إكتشف إن مراته بتخونه. ما بالك بقى لو شاف خيانتها بعينه و بالتفصيل زي كده !
و أشارت بعينها للصور بين يديها …
عاودها الضحك مجدداً فإستدارت ماضية صوب الشرفة مرةً أخرى.. بينما لم تكن “ميرا” تشعر بنفسها، و الدماء الملتهبة تندفع إندفاعاً قوياً بشرايينها
كانت عيناها تجوس أرجاء الغرفة على غير هدى، حتى وقعت على ذلك التمثال الخزفي الصغير !
لم تعرف كيف وصلت إليه يدها، و كيف طارت هي نحو “يارا” التي لم تنقطع عن الضحك …
سكت صوتها فجأة، سكت تماماً
بفعل ذلك الشيء الذي تحطم فوق رأسها بمنتهى العنف، ليطرحها أرضاً مضرجة بالدم !!!!!
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
-يعني إنت قلقان عليه بجد ؟! .. قالتها “وفاء” بتساؤل لا يخلو من الدهشة
لينظر لها “سفيان” مؤكداً ما قاله :
-طبعاً يا وفاء. ده إبني. هو عشان عاش بعيد عني يبقى خلاص ماليش علاقة بيه ! .. و أردف بضيق شديد :
-أنا عارف إني سيبته و عيشت مفضل عليه أخته. و يمكن هو ده إللي مضايقني.. بنيت شخصية ميرا. و طلعت ببني غلط أساساً. مش مهم. المهم تكون كويسة و مبسوطة.. لكن هو ! أنا ماعملتلوش أي حاجة. ماعلمتوش و لا حاجة. و فوق كل ده طلع بشخصية مشوهة. ميرا ماعرفتش تحتويه. و أمه قضت على منظرها في عنيه. و أنا.. أنا بيتعامل معايا عادي. لا وضعي بيستفزه و لا مريحه. وجودي زي عدمه يعني !
وفاء بجدية : ماتنساش إن ظروفك كانت أسوأ من ظروفه. و مع ذلك قدرت تكمل و رتبت حياتك. عملت كل حاجة لوحدك.. سيبه هو كمان يخرج من أزمته و يرتب حياته لوحده زيك
سفيان بإستنكار : مين ده إللي يبقى زيي ؟ الواد ده عمره ما هايبقى زيي يا وفاء. ده وارثلي قلب أمه. عاطفي و نحنوح.. إنتي مابتسمعيش صوته و أغانيه إللي كلها محن و تلزيق ؟
ضحكت “وفاء” من كلامه و قالت :
-الولد حساس. دي مش حاجة وحشة يا سفيان !
سفيان بحنق : لأ وحشة.. و لازم أنتبهله شوية عشان ينشف عن كده. أخلص بس من مشاكل أخته و بعدين هــ آ ا …
-إلحقنا يا سفيــان باشا !!! .. قاطعه هتاف إحدى مستخدمات المنزل
إعتدل في جلسته صائحاً :
-إيه في إيه ؟!!
الخادمة بشحوب تام :
-الست يارا نزلت المطبخ تطلب فنجان قهوة. عملته و طلعت أوصلهولها في أوضتها.. لاقيتها واقعة في الأرض غرقانة في دمها و الست ميرا عندها !
لم ينتظر “سفيان” تتمة عبارتها و إنطلق مسرعاً للأعلى في إثره “وفاء” …
وصل إلى غرفة “يارا” يكاد صدره ينفجر من شدة اللهاث !
توقف نبض قلبه لحظة، عندما تأكد من إدعاء الخادمة.. فها هي “يارا” ملقاة أمامه فوق الأرض و حولها بركة من الدماء …
-دآآآآآآآآغر. دآآآآآآآآآآآآغر ! .. كان هذا النداء الجهوري لإبنه
ربما لم يفهمه من حوله، و لكن الإبن قد حضر فعلاً.. في غضون ثوان كان هنا !!!
أما الأب فقد توجه صوب إبنته صارخاً بعنف :
-عملتي إيه ؟ عملتــــي إيــــه ؟؟!!! .. و قبض على ذراعيها بإيلام
-ليه كده ؟ ليه تعملي فيها كده ؟ ليــــه ؟؟؟؟
كانت الصدمة مسيطرة على الجميع، حتى “الداغر” الشاب، إهتز داخله لمرآى هذا المنظر.. تلك السيدة التي إكتشف بعد سنوات طوال أنها أمه، و التي نبذها عندما علم، و أسمعها أقسى الكلمات التي قد تسمعها الأم من ولدها
ربما تكون فارقت الحياة الآن، بنسبة كبيرة جداً، فالمشهد مريع !!!!!!
كان يقف كالصنم، وراء عمته “وفاء”، كلاهما يراقب “الداغر” الكبير، و هو يحاول مع تلك المسكينة :
-يارا.. يارآآآ إنتي سامعاني ؟.. كان راكعاً بجوارها و قد تلوثت ثيابه بدمائها
أمسك وجهها بين كفيه بقوة قائلاً بصرامة :
-مش هاتموتي. مش هاسيبك تموتي ســامعة !
و إلتفت نحو إبنه …
-تعــالى هاتلي أمك على تحت.. يـــلا بسـرعة !!
تحرك الإبن مع الأمر، و كأنه كان بحاجة إليه… حمل أمه على ذراعيه و تبع أبيه مهرولاً بساقين مرتعشتين، كان ينظر في وجه أمه الغارق بالدماء.. لا يعرف لماذا إنتابه خوف مفاجئ، خوف شديد !
على الطرف الآخر …
لا تزال “ميرا” على وضعها، مر الوقت و لم يطرأ عليها أي تغيير.. إلى أن وصل “يوسف” و ولج بنفسه غرفة “يارا” متبعاً إرشادات المستخدمين
أصابته الصدمة هو الآخر، و هو يسير نحو “ميرا” مدققاً النظر في بقع الدماء المنتشرة فوق الأرض… لوهلة ظن أن بها شيء فخرج صوته هاتفاً :
-ميرا ! حبيبتي إنتي كويسة ؟!!
و وقف مقابلها ممسكاً بكتفيها، أمعن النظر فيها مطولاً يستكشف ماذا حل بها فلم يجد ما يشير إلى سوء، هزها بقوة و هو يعيد سؤاله بإلحاح أكبر :
-في إيه يا ميرا ؟؟؟ إيه إللي حصل ؟؟؟!!!
أفاقت من ذهولها بصعوبة و حملقت في عينيه متمتمة بغير إستيعاب :
-يارا ماتت !
إرتد “يوسف” بوجهه قائلاً بصدمة أكبر :
-إيه ؟ يارا ماتت ؟ ماتت إمتى و إزاي ؟!!!
أجهشت “ميرا” بالبكاء فجأة و ردت عليه من بين دموعها :
-أنا.. أنا إللي موتها. أنا إللي قتلتها يا يوسف. أنا !!!
صدمة أخرى، لكنه إبتلعها فوراً و إنخرط في تهدئتها و هو يضمها إلى صدره بقوة قائلاً :
-طيب إهدي. إهدي يا حبيبتي.. إهدي و إحكيلي إيه إللي حصل. أنا جمبك و مش هاسيبك أبداً إطمني ! …………. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع …
الفصل الثاني والعشرون
_ صفحة جديدة ! _
إستيقظت “يارا” بعد وقت لم تحسن تقديره …
كانت قدرتها على إستعادة وعيها شاقة إلى حدًا ما، و كأنها تدفع صخرة عملاقة تغطي جسمها كله.. كان الأمر بالغ الصعوبة
لكنها نجحت بالأخير …
-إمممم ! .. إنبعث من داخلها هذا الأنين المتألم
كان “سفيان”… الإبن، إبنها.. جالساً على مقربة منها مستغرقاً في تفكير عميق
فور أن سمع صوتها أفاق و قام لها …
فتحت عيناها ببطء و هي ترسل يدها لأعلى حيث رأسها الأشبه بقمة بركان.. هذا ما شعرت به !!!
-لا لأ نزلي إيدك ! .. قالها “سفيان”… الإبن
و هو يقبض على يدها و يعيدها مكانها بحزم
-راسك مربوطة و الخياطة مابقالهاش كتير !
حبست “يارا” أنفاسها، حين سمعت صوته قريباً منها هكذا …
أدارت وجهها و تطلعت نحو المستوى الذي جاء منه صوته، لتراه ماثلاً أمامها، حقاً، هو بنفسه
إنعقد لسانها و هي تنظر إليه بعدم تصديق، فإرتبك الأخير و هو يغض طرفيه عنها عابساً، و قال :
-ماتقلقيش. الدكاترة قالوا إنك كويسة. بس نزفتي كتير و محتاجة تقضي إنهاردة هنا عشان يهتموا بيكي كويس. و نتيجة الآشعة المقطعية هاتطلع بعد شوية. و الدكاترة متطمين بردو !
لم يسمع منها رد عما قاله، لم يستشعر أي ردة فعل عنها.. فرفع وجهه بتردد و نظر لها، ليجدها لا تزال تحملق فيه بنفس النظرات غير المستوعبة …
-إنتي كويسة ؟ .. سألها “سفيان” بصوته الهادئ
-إنت بجد هنا ؟!! .. تمتمت “يارا” بدهشة شديدة
-معقول إنت هنا جمبي ؟ أنا عايشة و لا ميتة ؟؟!!
إبتسم “سفيان” بسخط قائلاً :
-لأ عايشة.. ماتخافيش الداغر الكبير طالما وعدك إنك مش هاتموتي يبقى مش هاتموتي !
و هنا إنتبهت “يارا” على نفسها أكثر، فأخذت تتلفت حولها مستكشفة غرفة المشفى النظيفة هذه و باحثة عنه في آن …
-هو فين ؟ .. تساءلت “يارا” يتوجس و هي تباشر البحث عنه بنظراتها
سفيان بفتور : كان هنا. لسا ماشي من شوية راح مشوار و هايرجع تاني. و عمتي وفاء نزلت تجيب قهوة و طالعة .. ثم قال بإهتمام :
-هو إيه إللي حصل بينك و بين ميرا ؟ إيه إللي خلاها تعمل معاكي كده ؟!!
نظرت له من جديد و آثرت الصمت للحظات، ثم قالت :
-عبد الرحمن ! إنت لازم تبعد يابني.. لازم تمشي. إللي جاي دمار. نار مش هاترحم حد. محدش هايرحم حد. لا أنا هارحم. و لا أبوك هايرحم. و لا أي حد فينا.. سيبنا لبعض و إمشي يابني. روح لجدتك. خليك مع إخواتك البنات مالهمش غيرك يا حبيبي
-آسف بس هو إيه إللي إنتي بتقوليه ده يعني !! .. قالها “سفيان” بإستنكار، و تابع :
-أنا مش فاهم حاجة.. إيه إللي ممكن يحصل أسوأ من إللي حصل ؟!
يارا بجدية : هايحصل. صدقني هايحصل. أنا زيك مش فاهمة كل حاجة. بس حياتي معاهم علمتني لو طال جو الغموض ده أكتر من اللازم.. يبقى أكيد في كوارث هاتحصل. و في وسط إللي هايحصل هاتكون فرصتي يابني. فرصتي عشان أخد تاري و تارك
عقد حاجبيه و هو يصيح بغضب :
-تار إيه إللي بتتكلمي عنه ؟ و عايزة تاخديه من مين ؟ مش كفاياكي بقى إللي عملتيه طول حياتك ؟ إنتي مش عايزة تنضفي أبداً ؟ مصممة تبقى زي ما عرفتك آ ا … و بتر عبارته
هذه المرة لم يستطع النطق بها، لم يشأ جرحها بهذه الطريقة مجدداً.. بينما كانت تنظر إليه بصمت، جاهزة للإستماع إلى كل ما سيقوله …
-كمل يابني ! .. قالتها بهدوء
فار الدم بعروقه في هذه اللحظة، ليغمغم عبر أسنانه :
-إنتي مش محتاجة تشوهي صورتك في عنيا أكتر من كده. إهمدي شوية لو مش عايزاني إمحيكي من راسي للأبد
أطلت بعض الدموع من عيناها و هي ترد عليه بصوت أبح :
-طيب إنت عايزني أعمل إيه ؟ قولي يا حبيبي. عشانك أنا مستعدة أعمل أي حاجة. أتنازل عن حقي. أو أموت نفسي حتى. بس تسامحني.. أقسملك بالله أنا عملت كل ده عشانك. إنت كنت محور تصرفاتي و حياتي كلها !
و خانها تماسكها فأخذت تجهش ببكاء مرير …
تمالك “سفيان” نفسه أمام ضعفها هذا، لكنه شد كرسي و جلس بجوارها قائلاً بوجوم :
-بصي أنا ماليش علاقة بالحرب إللي كانت بينك و بين عيلة الداغر. و بقول كانـــت لأنك هاتبطلي تدبري في خطة الإنتقام بتاعتك. مش إنتي بتقولي إن كل ده بسببي و عشاني ؟ أنا مسامح و بعفيكي من لعبة التار دي. إللي إنتي عايزة تنتقمي منهم دول يبقوا أبويا و أختي. مش هاتفرحيني أبداً لما تآذيهم.. بالعكس. يمكن لو عملتي كده تلاقيني أنا إللي جاي أخد تارهم منك !
يارا بإنفعال : أبوك إيه و أختك إيه إللي قاعد تكلمني عنهم ؟!!
إنت شوفت أبوك ده إمتى أصلاً ؟ و أختك السافلة الخاينة دي إيه إللي بتدافع عنها ؟ كان أولى تسامحني أنا و تدافع عني بقى. إنت بتعمل فيا كده ليه يابني ؟ إوعى تخليني أشوفك زيهم. دي الحاجة إللي هاتقضي عليا بجد. مش ضربة على الراس من المحروسة أختك أو رصاصة في صدري من مسدس أبوك !
زفر “سفيان” مطولاً و قد كان يشيح بوجهه للجهة الأخرى، لكي لا ترى الصراعات الكامنة بعينيه… نظر لها بعد برهة و قال بصوت به نبرة حدة :
-إللي لازم تعرفيه إن أنا مش زي حد. لا زيك و لا زيهم.. أنا زي ما أنا. مش هاتغير. مانكرش إني حاولت أغير نفسي الفترة إللي فاتت. بس مقدرتش. و مش هقدر بردو أسيب حد فيكوا يآذي التاني و أقف أتفرج. محدش هايعمل حاجة للتاني طول ما أنا عايش. سفيان الداغر أبويا. و ميرا أختي.. و إنتي أمي !
توقف قلبها عن الخفقان في هذه اللحظة، ليعاود ضرباته في اللحظة التالية بقوة شديدة بينما تقول بعدم تصديق :
-إنت قلت إيه ؟ سمعني تاني أرجوك قلت إيه ؟؟!!
تآفف “سفيان” بضيق :
-مش وقته بقى الشغل ده.. إسمعيني كويس بس. أنا مستعد أفتح معاكي صفحة جديدة. لكن بشروط !
يارا بتلهف : أشرط يابني. أشرط زي ما إنت عايز !!!
صمت قصير… ثم قال بلهجة مقررة :
-هانحاول نصلح إللي بينا كلنا. و لازم نصلحه.. لإني إستحالة أقدر أعيش معاكوا الحياة إللي إنتوا عايشنها دي !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
لا تزال “ميرا” محاطة بأحضان “يوسف” الدافئة، لم تنقطع عن البكاء تماماً
لكنه ظل يهدئها و يحملها على السكينة و الإطمئنان …
-يا حبيبتي عشان خاطري كفاية عياط. أكيد باباكي هايتصرف. و بعدين إنتي ماكنتيش حاسة بنفسك زي ما قولتيلي. بس. إهدي !
ميرا بنشيج مكتوم :
-لو ماتت.. Junior سفيان. مش هايسامحني. مش هايسامحني أنا عارفة يا چو !
-قصدك Father سفيان هو إللي ماكنش هايسامحك أبداً يا قلبي !!!
إنتفض كلاهما على صوت “سفيان”… الآب، كان يقترب منهما بسرعة ملحوظة !
إبتعد “يوسف” عن “ميرا” فوراً و قام واقفاً على قدميه، بدا عليه التوتر الشديد عندما شاهد “سفيان الداغر” مرةً أخرى.. بعد ما يزيد عن العشرون سنة ….
-آ أهلاً يا باشا ! .. تمتم “يوسف” بإرتباك شديد و هو يمد يده للمصافحة
تجاهله “سفيان” الآن و هو يقف قبال إبنته قائلاً بوجه مكفهر :
-إيه إللي خلاكي تعملي فيها كده يا ميرا ؟ إنطقي و قوليلي !!
ميرا بلهجة نائحة :
-هي ماتت يا دادي ؟ خلاص يارا ماتت ؟ أنا قتلتها يعني ؟!!!
أمسك “سفيان” بكتفيها و هزها مكرراً سؤاله بحدة شديدة :
-إتكلمي يا ميرا. عملتلك إيه يارا عشان تعملي فيها كده.. إنطقي بقولك !!
و تحت ضغطه عليها بدأت بقص ما حدث عليه… كيف إستفزتها “يارا” و ما جرى بينهما و أدى إلى فقدان “ميرا” لأعصابها حتى صار ما صار !
-إنتي غبية. فاهمة يعني إيه غبية ؟ مهما أعمل معاكي هاتفضلي زي ما إنتي. ليه ماجتيش تقوليلي كده ؟ بدل ما تخبطيها على دماغها بالطريقة دي و كنتي هاتموتيها
لمعت عيناها عندما سمعت إشارته الضمنية لتحسن حالة “يارا” و قالت :
-هي عايشة يا دادي ؟ يعني بقت كويسة بجد ؟ بليز رد عليا !!
سفيان بغلظة : يارا مالهاش علاقة بالصور إللي شوفتيها. هي حبت تغيظك بس و إنتي صدقتيها. أنا إللي بعت وراكي إللي يجبلي كل أخبارك إنتي و البيه بتاعك ده
و نظر نحو “يوسف” فجأة، و قال بصوته القاسِ :
-إنت إيه إللي مقعدك في أوضتها ؟؟؟
يوسف بتلعثم : آ آ ا أنا كنت بهديها بــ آ ا …
-شششش خلاص ! .. قاطعه بصرامة، و قال آمراً :
-أقعد
إمتثل “يوسف” لأمره و هو يتمتم لنفسه متعجباً :
-دي عيلة مجنونة !!!!!!!! ……… !!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع …
الفصل الثالث والعشرون
_ أكرهك ! _
كانت “ميرفت” تشد بكلتا يديها على يدي حفيدها… كانت عينيها تحملقان فيه بقوة، تكاد تجزم أنه ليس حقيقياً !!!
بينما كان يطالعها بنظراته الرقيقة راسماً على ثغره إبتسامة عطوفة.. سحب يده من بين يديها برفق و أخذ يربت على كتفها بلطف متمتماً :
-إزيك يا جدتي ؟ إزي صحتك ؟!
ميرفت و هي لا تنفك ترمقه بذهول :
-كويسة يابني. كويسة أوي عشان شوفتك.. إنت عارفني ؟
سفيان بإبتسامة : طبعاً.. إنتي جدتي ميرفت. ماما بعتتني ليكي.
ميرفت بتلهف : أمك ؟ يارا ؟ بنتي مالها جرالها حاجة ؟!!
سفيان مطمئِناً : ماتقلقيش ماما كويسة. هي كانت عايزة تطمن عليكي فأنا قولتلها إني هازورك بنفسي و أطمنها.. و كمان كنت عايز أقولك حاجة مهمة. و محتاجك تفهميني بالراحة و تسمعيني بموضوعية.
ميرفت بقلق : في إيه يابني ؟ قلبي مش مستحمل قولي إيه إللي بيحصل !!
إبتسم “سفيان” لها و ربت على يدها بلطف، ثم راح يخبرها بما ينوي عليه و ما سيتم رغم أنف الجميع.. لأنه قرر و إنتهى …
-إيه إللي إنت بتقوله ؟؟؟ .. هتفت “ميرفت” بغضب معلقة على خطة حفيدها النكراء
-بعد ده كله عايزهم يرجعوا لبعض ؟ إنت يابني مش عارف إيه إللي حصل بينهم؟ محدش قالك ؟ و هانروح بعيد ليه.. إنت أكبر دليل على الذل و الظلم إللي وقع على أمك سنين.
تنهد “سفيان” قائلاً بفتور :
-أنا عارف كل حاجة.. بس وجهة نظري بتفرض عليا أمنع الحرب الدايرة بينهم سنين زي ما حضرتك قولتي. أنا مش هقدر أسيبهم يولعوا في بعض. هي أمي و هو أبويا. إفهميني من فضلك !
قطبت “ميرفت” جبينها منزعجة، لم يعجبها ما يمليه الحفيد العنيد عليها و على إبنتها.. فحتى لو وافقت إبنتها، لن توافق هي أبداً، لن تكرر الجرم نفسه مرةً أخرى، لن ترتكب ذلك الذنب بحقها من جديد …
-هي أمك موافقة على كده ؟ .. تساءلت “ميرفت” بجمود
سفيان بحزم : هاتوافق. محدش هايعارضني فيهم ماعندهمش إختيار.. يا أنا يا التار إللي بينهم. أنا مش هقدر أعيش معاهم الصراعات دي.
زفرت “ميرفت” بضيق شديد و قالت :
-إعمل إللي إنت عايزه يابني. أنا كده كده رجلي و القبر و مايهمنيش غير راحة بنتي و إنها تعيش في سلام و أمان بس.
سفيان برقة : بعد الشر عنك.. إطمني. أنا معاها. و لا أنا مش كفاية في نظرك ؟ مقدرش أحميها ؟!
عبست “ميرفت” بعدم رضا و لم ترد عليه، فضحك بخفة و إنحنى مقبلاً يدها ثم قال :
-إطمني خالص. أوعدك إني هاصلح كل حاجة. و المرة الجاية لما أجيلك مش هاكون لوحدي. الإتنين هايكونوا معايا .. و أردف و هو يقوم واقفاً :
-أستأذنك بقى لازم أمشي. في مشوار تاني مهم لازم أعمله.
تطلعت له قائلة :
-مش تستنى يابني شوية لحد إخواتك ما يرجعوا من مدارسهم ؟ على الأقل يشوفوك !
وعدها قائلاً بإبتسامته العذبة :
-هارجع تاني.. أوعدك !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
مر شهر و لم يغادر منزله… بل لم يتزحزح خارج غرفة النوم أبداً
كان يقضي النهار و الليل متكوماً فوق فراشهما، يحتضن وسادتها المعبقة برائحتها و يتشممها حتى تتخمه فلا تستطيع أنفه تمييز أي روائح أخرى غير رائحتها !
لا يدري ألهذا الحد كان يعشقها ؟ ما الذي فيها يجعل كل رجلاً يراها يكاد يفقد عقله و يصاب بالجنون ؟؟؟
أنه قابلاً على الموت تقريباً… إذ أن جسمه صار أنحف مما كان عليه كثيراً، و العظام قد برزت في وجهه و شفتاه تشققتا من قلة مخزون المياه في أوردته و شرايينه
لم يعد له أنيساً في خلواته سوى المدخنات بشتى أنواعها، و الحبوب المخدرة !!!!
هل ستقضي عليه بهذه الطريقة ؟ و هو يقبع هنا عاجز منتظر.. قدومها أو رحيله !
وقف والده أمامه.. كان منفعلاً بشدة و هو يطيح بلفائف التبغ و حبوب المخدرات بعيداً، في البداية لم يسمعه “عمرو” بفعل وقوعه تحت تأثير ما يتعاطاه
لكنه أفاق فجأة و هو يشهق مذعوراً، بسبب دلو ماء بارد إنسكب بقسوة فوق رأسه ..
أخذ جسمه ينتفض بينما يرفع وجهه متطلعاً للفاعل،ليس هنا سوى الخادمة التي تطبخ له يومياً طعاماً لا يؤكل، لكنه يكتشف أنه والده …
-بابا ! حضرتك رجعت ؟ ماقولتليش ليه كنت أستناك في المطار ؟!
كان صوته يختلج من شدة البرودة و الضعف الذي ألمّ به.. حدجه أبيه بنظرات محتقنة و هدر فيه غاضباً :
-إيه إللي إنت فيه ده ؟ دي أخرتها يا بيه ؟ قاعد بتحشش و تبلبع بلا أزرق على دماغك ؟ مابتردش على مكالماتنا و حابس نفسك هنا وسط القرف ده كله عشان إيــه ؟؟؟؟
فتح “عمرو” فمه ليتحدث، لكنه لم يجد ما يقوله أو يبرر به أفعاله المشينة… أغلق فمه ثانيةً و أطرق رأسه بسرعة حين بدأت عينيه بذرف الدموع، و تمتم بصوت خافت مختنق :
-ميرا سابتني.. عايزة تطلق !
عز بعصبية : ما في داهية. طلقها و ريح نفسك إنت عاوز منها إيه ؟ إنت ناسي لما إتجوزتها كانت إيه ؟ جاي دلوقتي تضيع نفسك عشانها لما حبت تسيبك و تريحك منها ؟!!!
نظر “عمرو” إلى أبيه من جديد و قال دون أن يحاول إخفاء دموعه المنهمرة :
-أنا بحبها يا بابا.. هي فعلاً زي ما إنت بتقول. لما إتجوزتها ماكنتش أول واحد في حياتها. بس دي كانت غلطة غصب عنها. مش بمزاجها.. أعمل إيه طيب ؟ حبيتها. حبيتها أوي. مش هقدر أبعد عنها. لو سابتني هاموت !
-تموت إيه ؟ إنت إتجننت يابني ؟ فوووق. ماتنساش نفسك إنت مش قليل. بالعكس. إنت كتير عليها أصلاً.. و جذبه من ذراعه ليوقفه و هو يقول :
-قوم. قووم معايا !
-على فين ؟! .. تساءل “عمرو” بتوجس
عز بصرامة : على بيت سفيان الداغر. لازم نخلص الموضوع ده إنهاردة.
-هانخلصه إزاي يعني ؟؟!!
عز بغضب : هاطلقها. سامعني ؟ هاطلقها. أنا مش هقعد أسمع تهديدات فارغة من راجل قذر زي ده و أفضل ساكت. ده إنسان واطي ماعملش حساب للعشرة و الجمايل إللي غرقته بيها. دلوقتي يجي يهددني أنا و بيك !!!
عمرو متوسلاً : معلش يا بابا. سامحه المرة دي عشان خاطري. أنا حاسس إن ميرا أعصابها تعبانة عشان كده باعد عنها فترة لحد ما تهدا. موضوع الحمل و الخلفة مآثر فيها أوي. أكيد هو كمان مضايق عشانها. ما هو ابوها بردو.
-بقولك إيه أنا نزلت من لندن مخصوص عشان أنهي المهزلة دي. مش هارجع إلا بيك و بعد ما تطلقها رسمي و شفوي قدامي كمان !
رجاه “عمرو” بحرارة أكبر :
-يا بابا أرجوك بلاش. لو فعلاً مصلحتي تهمك إسمع كلامي. ميرا مش مراتي بس. دي حب حياتي. أنا مش هقدر أعيش منغيرها. أقسملك بالله مقدرش !
عقد “عز” حاجبيه بشدة و قال بضيق :
-دي آخر مرة همشي وراك. فاهم ؟ غلطة أول مرة عمرها ما هاتتكرر. لو الهانم رفضت ترجعلك المرة دي شاهد ربي و عالم.. كلمة واحدة لو مارمتش عليها اليمين هاتبقى لا إبني و لا أعرفك.. سامــع ؟؟؟
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
يفتح “سفيان”… الإبن.. باب المطعم الفاخر لأمه حتى تلج، فمرت أمامه بالفعل و عينيها لم ترتفعان عنه
فقد جاءها اليوم صباحاً و أبلغها بوجوب التجهز جيداً من أجل سهرة مسائية برفقته.. و أصر عليها أن تتأنق و تتجمل كأحسن ما يكون، و ها قد فعلت ما قاله لها
فهي الآن ترتدي فستاناً محتشماً يليق بسنها و صحبته، صحيح أنه قرمزياً فاقع اللون، و له فتحة لا بأس بها عند منطقة الصدر، و ضيق نوعاً ما على وسطها.. لكنه محتشم إلى حدٍ ما !
و زينتها الصارخة ملفتة قليلاً، و تسريحة شعرها الثائرة فاتنة، لكنه هو من طلب منها ذلك… ماذا عساها تفعل ؟ يجب أن تنفذ مطالبه كلها ما لو أرادت عفوه و صفحه عنها !!!
-إحنا إيه إللي جابنا هنا يا عبد الرحمن ! .. قالتها “يارا” و هي تطلع إلى المكان الراقي و الرواد النبلاء من حولها
ساعدها “سفيان”… الإبن.. على خلع معطفها المصنوع من الفراء الثمين و هو يقول بصوت هادئ :
-دلوقتي هاتفهمي كل حاجة. مستعجلة ليه ؟
و فرقع بأصبيعه، فأتاه عامل و أخذ منه المعطف ليضعه في المكمن الخاص.. أمسك بيد أمه في اللحظة التالية و سار بها بخطوات متهادية نحو طاولة مخصوصة
كان “سفيان” متأنقاً بدوره، وسامته فاضت عليه بشكل كبير هذه الليلة فسرعان ما إستقطب الأنظار و عرفه الملأ على الفور، و لولا أنهم مثله من ذوي الطبقة الرفيعة لكانوا هرعوا إليه طلباً للإلتقاط الصور و توقيع الكروت و المناديل …
لم تكن “يارا” تركز على شيء في هذه الأثناء سوى سيرها، كانت تخشى على نفسها السقوط بهذه الجزمة ذات الكعب العالٍ، لكنها وصلت معه إلى الطاوله بسلام.. أخيراً
إبتسمت و هي ترفع وجهها بحركة عفوية، لتجمد فجأة.. عندما تلتقي عينيها بعينيه… ليس إبنها، لم يكن هو.. بل أبيه، زوجها السابق، المجرم السافل !!!!
-إنت ! .. تمتمت “يارا” و قد تلاشت إبتسامتها ليحل العبوس الشديد محلها
إبتسم لها “سفيان”… الأب.. و لم يكن يقل عنهما شيئاً،كان في أبهى حالاته، حيث بدا رغم شيبته و ملامحه الهرمة جذاباً، و كأنه جمرة تشتعل في أوج الشتاء ….
-إيه الحلاوة دي يا قلبي ؟ إنتي إيه ؟ فرسة كده علطول مابتكبريش !!
كان إطراؤه البذيئ من شأنه أن يطربها كما كان يفعل في سابق عهد علاقتهما، قبل أن تعرفه على حقيقته، لكنها إشتعلت غيظاً و هي تحول نظراتها نحو إبنها قائلة :
-هو في إيه يابني ؟ إنت جايبني هنا عشان أشوف الراجل ده !! .. و أشارت بسبباتها نحوه في حركة دونية
كبت الأب ضحكته، بينما يرد الإبن بلهجة مهذبة :
-ماما ! لو سمحتي. ممكن تهدي و تقعدي.. خليكي فاكرة إنك وعدتيني. قولتي إنك هاتعملي أي حاجة عشاني.
هكذا أخضعها إبنها بمنتهى البساطة، بنطقه تلك الكلمة التي تتوق مسامعها إليها… لم تجد بداً من الإذعان له، لكنها كانت متضررة بشدة.. سحب لها كرسي، فجلست على مضض و هي تتحاشى النظر إلى الشيطان الكبير !
كان يتابعها بناظريه مسروراً بما يعتمل فيها من غضب و حقد عليه، جلس في هدوء هو الآخر منتظراً مآل الوضع على يدي إبنه… فهو نوعاً ما يعرف مضمون الجلسة و ما ينوي عليه الإبن، لكنه يجهل شيئاً ما في خاطره، حتماً سيعرف كل شيء الآن …
-ماما أنا جمعتك إنتي و بابا الليلة دي عشان عايزكوا ترجعوا لبعض !
و كأنها كانت تجلس فوق قنبلة، إنفجرت الآن …
-نعم !! إيه إللي إنت بتقوله ده ؟؟؟ .. صاحت “يارا” منفعلة
زجرها إبنها بتحذير متمتماً :
-صوتك من فضلك. إحنا في مكان عام !
يارا مغالبة مشاعرها العنيفة :
-ما إنت مش سامع إنت بتقول آ ا ..
-أنا مش بطلب منك ! .. قاطعها بحزم
-أنا بقولك إللي هايحصل لو عايزاني أفضل موجود في حياتك. في حياتكوا إنتوا الإتنين .. و نظر إلى أبيه مكملاً :
-أنا عمري ما هاكون طرف في لعبتكوا دي. و الحرب إللي بينكوا لازم تخلص. إنتوا إيه مابتتعبوش ؟!
ضحك الأب قائلاً :
-الكلام ده تقوله لأمك يابني. أنا أديتها أكتر من فرصة.. بس هي إللي عنيدة و العند بيورث الكفر زي ما بيقولوا !
إنفجرت “يارا” فيه :
-إنت كمان ليك عين تتكلم يا آ ا ..
-قلت صوتكوا بقآااااا ! .. صاح الإبن بغضب شديد و هو يضرب الطاولة بقبضته
ساد السكون للحظات و الناس جميعاً ينظرون نحوهم.. هدأ الوضع تدريجياً ليعود الإبن قائلاً بغلظة :
-أنا مش هارجع عن موقفي. الليلة لو مارجعتوش لبعض يبقى تنسوني خالص إنتوا الإتنين. هامشي و مش هاتشوفوا وشي تاني.
أمسكت “يارا” بذراعه و هي تقول بصوت ملؤه الآسى :
-إنت كده بتعمل فيا زيه يابني. بتدبحني و بسكينة تلمة.. طيب إفرض سمعت كلامك. هقبله تاني إزاي بالسرعة دي ؟ إستحالة أسيبه يقرب مني أو يكون جمبي في طرفة عين كده.
الإبن ببرود : أنا ماقولتش هاتتجوزا تاني الليلة. ماتخافيش أنا حريص على مشاعرك بردو و إتفقت مع بابا إنه هايكون شخص كويس معاكي و هايعاملك معاملة تانية خالص. هايكون واحد تاني غير سفيان الداغر إللي تعرفيه.
ألقت “يارا” نحوه نظرة شك قائلة بصوت هامس :
-ده يتغير ! ده يبقى واحد تاني ؟!!
منحها الأخير إبتسامة جوفاء، بينما يخرج الإبن شيئاً من جيب سترته و هو يقول :
-علاقتكوا هاتبدأ من جديد. هاتتعرفوا على بعض من أول و جديد. زي أي إتنين في العالم هايتقدملك دلوقتي و هاتتخطبوا. فترة صغيرة تتعرفوا و بعدين تتجوزا.. و أنا جبتلك شبكتك !
و أظهر لها محبس الزواج اللامع و هو يقول آمراً :
-هاتي إيدك !
نظرت “يارا” له بعدم إقتناع، حاولت أن تثنيه عن رآيه قائلة :
-يا حبيبي. إفهمني أرجوك.. إحنا ممكن نصلح علاقتنا أوكي عشانك. لكن نرجع لبعض تاني ده مستحيل صدقني.
-مافيش حاجة إسمها مستحيل. هاتي إيدك بقى ! .. صاح “سفيان”… الإبن بنفاذ صبر
زفرت “يارا” بقوة و قد كانت تحبس الدموع بعينيها بجهد شديد.. لكنها أعطته يدها في الأخير و هي تشيح بوجهها للجهة الأخرى، لا تريد أن ترى ذلك الوغد !!!
مد الإبن علبة الذهب الصغيرة لأبيه قائلاً بالنفس اللهجة الآمرة :
-إتفضل حضرتك.. لبسها الدبلة.
نظر الأب له ببلاهة و إلتقط محبس الخطبة منه قائلاً بإستنكار :
-شبكة و خطوبة و أنا قاطع الـ60 ؟ بعد ما شاب ودوه الكُتاب ؟ ده إيه الليلة السودا دي !!
الإبن بضجر شديد :
-خلصوني بقى. ماتحسسونيش إني عايش دور الخاطبة إنتوا أصلاً كنتوا متجوزين في إيه !!
و هنا إبتسم “سفيان”… الأب بخبث قائلاً :
-كل خير يابني. و ماله خطوبة خطوبة.. المهم الفرسة ترجعلي تاني. حبة قلبي دي وحشاني أوووي !
و مد يده قابضاً على كف “يارا”، سحبه بقوة من يد الإبن فشهقت بفزع، ما لبث أن إستحال غضباً و هي تطالعه بإشمئزاز، بينما رنت ضحكته المجلجلة بالمكان و هو يدفع بالمحبس حول بنصرها الأيمن و هو يقول :
-ليكي عندي هدية تانية قلبي. الكلام ده مش مقامك بس لما نطلع من هنا. بعد ما ناخد سهرتنا .. و رفع يدها إلى فمه ليقبلها و عينيه في عينيها
-بكرهك ! .. لم تنطقها بلسانها
بل حركت بها شفاهها ليقرأها و يعلم جيداً ما تكنه له من مشاعر، فما كان منه إلا أن إبتسم بوداعه و شدها و هو يقوم واقفاً على قدميه :
-طيب يا داغر ! أنا هاخد أمك أرقص معاها شوية. إطلب العشا على ما نرجع .. و لف ذراعه حول خصرها هامساً بحميمية :
-يلا يا روحي. هاخدك في حضني طول الليل و أرقصك. جايز تفتكريني !
مالت “يارا” صوب أذنه و همست بدورها بصوت أكثر مرارة :
-عمري ما نسيتك عشان أفتكرك !!………….. !!!!!!!!!!!!!!!
يتبع …..
الفصل الرابع والعشرون
_ شوق ! _
خلعت “يارا” مئزر الإستحمام و تركته يسقط عن كتفيها فوق أرضية الحمام الرخامية.. كان المغطس مليئ بالمياه الساخنة و الأبخرة تتصاعد منه بكثافة تكاد تغشى عيناها
أمسكت بعلبة الصابون ذي العلامة التجارية الفخمة و أضافت للمياه سائل الـBubble Bath و رفعت ساقها الواحدة تلو الأخرى لتمدهما داخل المغطس
خفضت جسمها بروية حتى إستقرت أسفل المياه، غمرتها الفقاعات الوردية حتى وصلت إلى ذقنها، كانت تضع منشفة مطوية خلف رأسها، عملت على تهدئة أعصابها قدر إستطاعتها فأغمضت عيناها و إسترخت على الأخيــر و هي تستنسق بقوة عبير السائل الشذي …
لحسن الحظ أن لها غرفة خاصة بها في هذا البيت، فيما مضى كانت تتقاسم الغرفة و الفراش معه، لكنه تكرم عليها الآن و سمح لها بالإستقلالية بعيداً عنه لعلها تصفو و تهدأ من ناحيته !!
يا له من مسكين …
ربما تفعل ذلك فقط حين يمر الجمل في سم الخياط.. أنها ترتدي خاتمه كرهاً، مجبورة عليه و تشعر بثقل هائل حول بنصرها الأيمن، لماذا يفعل إبنها هذا بها ؟ ينصر الرجل الذي ظلمها و حرمها حقها فيه !!!
ألم تقص عليه ما جرى لها على يديه ؟ لماذا هو قاسي القلب هكذا ؟ هل ورث ذلك عن والده ؟ قسوة القلب و الجفاء !
و مع ذلك فقد كتب عليها الشقاء دائماً، أصبحت متأكدة أنها لم تكن يوماً سيئة الحظ.. بل هذا قدرها، أو ربما ذنب زوجها الثاني، تكفر عنه بهذه الطريقة، بعودتها إلى “سفيان الداغر” من جديد ….
-صباح الفل عالفل !
شهقت “يارا” بفزع عندما سمعت صوته قريباً جداً منها !!!
فتحت عيناها دفعة واحدة و أدارت وجهها بسرعة و هي تحرص بشدة على ألا يظهر إنش واحد من جسمها أمامه، رأته يقف فوق رأسها مباشرةً
فأحمّر وجهها غضباً و هي تهتف بعنف :
-إنت إزاي تدخل عليا كده يا بني آدم إنت ؟ مافيش تمييز خالص ؟ هي زريبة ؟ إتفضل إطلع بــرااااا !
إبتسم “سفيان” بوداعة قائلاً :
-إيه الإنفعال ده كله يا حبيبتي؟ ماحصلش حاجة أنا كنت جاي أصحيكي عشان نخرج نفطر برا سوا بس لاقيتك هنا و صاحية الحمدلله .. و تفرس فيها بجرآة مكملاً :
-و شكلك حلو أوووي و إنتي قاعدة في الماية السخنة أم رغوة دي. مش ممكن تعزمي عليا أجي جمبك البانيو واسع على فكـ آااه آاه آه !
بتر عبارته ضاحكاً حين بدأت تقذفه بأدوات الإستحمام و هي تصرخ به :
-بــراااااااا. إطلع بــرررااااا بقولك إمشــــي !!
أخذ يتراجع للخلف و هو لا يزال يضحك :
-حاضر حاضر طالع. إهدي بس.. هستناكي برا يا حبي. ما تتأخريش عليا.
و خرج مغلقاً باب الحمام خلفه …
كانت “يارا” تشتط غضباً في مكانها و شعرت بسخونة أقوى من المياه التي تحتض ثناياها، فقامت واقفة في لحظة، خرجت من المغطس و هي تنتشل منشفة كبيرة من أحد الرفوف المحاذية
لفت جسمها بإحكام و لم تهتم بتجفيف شعرها
خرجت من الحمام حافية القدمين، لتجده ينتظر بالخارج كما قال لها …
-إنت أو×× إنسان شوفته في حياتي ! .. صاحت “يارا” ثائرة و هي تقبل عليه بخطوات واسعة
-الله الله الله ليه الغلط ده بس ؟ .. ردد “سفيان” مركزاً نظراته على عري جسمها المغري
أرادت أن تصفعه حين وصلت إليه، لكنه سرعان ما تنبه لنيتها و أمسك بيدها قبل أن يهوى كفها على خده …
-إيــه يا حبيبتي ! هدي أعصابك مش كده مالك بس ؟!!
حاولت تخليص يدها من قبضته و هي تصرخ بعصبية :
-سيبني. سيب إيدي يا حيوان. إبعد عن وشي مش طايقاك. يا أخي ربنا ياخدني أنا عشان أخلص منك !!!
سيطر عليها بسهولة و حبسها بين ذراعيه قائلاً بلهجة مرحة :
-يا قلبي بالراحة على نفسك.. ليه بتعملي كده ؟ إحنا مش مخطوبين دلوقتي ؟ أنا بحاول أكون لطيف معاكي زي ما وعدت الداغر الصغير. أبقى غلطان !
يارا بغضب : الخطوبة دي عند أمك. عارف أمك يا سفيان ؟ إنت عمرك ما هاطول مني حاجة. على جثتي. روح دور على واحدة غيري.
-مافيش خطوبة يعني ؟ تقدري تقولي كده للداغر الصغير ؟!
-إنت عايز مني إيـــه ؟ و إيه إللي عايز توصلهولي ؟ إنت عمرك ما حبتني. إنت كنت عايزني عشان حركت رجولتك. عشان رغبتك فيا. إنت ناسي كنت بتعاملني إزاي ؟ فاكر ليلة ما إتجوزتني ؟ فاكر يا باشا ؟!!!!
شرد “سفيان” في الماضي للحظات و هو يقول بإنتشاء واضح :
-فاكر.. فاكر يا حبيبتي. يا لهوي ده كأنه إمبارح. الـDressing room. السرير الضيق. و البيبي دول المخرم. و صوتك إللي كان ملعلع معايا طول الليل يا لهوووي كنتي تجنني !
كزت على أسنانها بغضب شديد :
-إنت حقيقي مش بني آدم و لا عندك نقطة دم و لا ذرة إحساس !!
-كفاية إني ماتجوزتش عليكي ! .. تمتم لها مبتسماً
زفرت بقوة و حاولت الفكاك منه مجدداً، ليقبض عليها أكثر و يشد على كفها بأصابعه القاسية مستطرداً :
-أصلي كنت هلاقي مزة زيك فين ؟ شوفي سايبك بقالي أد إيه ! إحلوتي أكتر. آه مليتي شوية بس جسمك لف و إدور زيادة. شعرك تقل و طول. عيونك وسعت. بشرتك شدت.و لا جوز رجلينك دول.. و هبط بنظراته ماسحاً تفاصيلها بشهوة مستعرة
-الواحدة فيهم و لا أحلى من دبوس بطة مستوية بتنادي آكالها !!
رمقته بنظرات مشمئزة و هي ترد عليه بسخط شديد :
-و شوف أنا سايباك بقالي أد إيه ! عمري ما قابلت لا بعدك و لا قبلك راجل في وقاحتك و دماغك القذرة دي. يا أو×× خلق الله .. ودفعته عنها بكل ما أوتيت من قوة
-إطلع بــرااااااا !
إلتوى ثغره بإبتسامة شيطانية و هو يشملها بنظراته الحيوانية… حك طرف ذقنه بإبهامه و هو يقول بلهجته الخبيثة :
-ماشي طالع. عشان خايف عليكي بس. أحسن تاخدي برد و لا تستهوي بالفوطة إللي على جسمك دي. بس راجعلك تاني أكيد .. و أرسل لها قبلة في الهواء
-أورفوار يا روحي !
-طلعت روحك إن شاء الله !!
فضحك و هو يستدير مغادراً غرفتها، بينما بقيت مكانها ترمق إثره الفارغ بنظرات متخاذلة… متحسرة !!!!!
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
-چو ! بليززز بقى .. قالتها “ميرا” متوسلة و هي تحاصر “يوسف” بين حائط الغرفة و الباب
يوسف و هو يحاول إبعادها بأقصى ما يمكنه من لطف :
-ميرا قولتلك ماينفعش. إنتي واخدة بالك إحنا فين ؟ إبعدي عني يا حبيبتي من فضلك أنا مش ناقص أبوكي !
تعلقت برقبته قائلة :
-حبيبي أنا لو هاموت مش هاسيبك إنهاردة. إنت وحشتني أوووي بقالي شهر مش باشوفك.
أخذ يربت عليها و هو يقول بهدوء لعلها تتفهمه :
-يا قلبي أنا كنت بعيد عشانك و الله. خلاص خلصت إجراءات الطلاق و سيبت البيت لمراتي. دلوقتي بجهز بيتنا إحنا بقى عشان في أقرب وقت ننقل فيه أنا و إنتي.
ميرا عابسة : و ده عذر يعني ؟ هنت عليك تسيبني كل ده أنا و إبنك ؟! .. وأمسكت بيده لتضعها فوق بطنها ذات الستة أشهر
إلتصقت به كثيراً و هي تهمس أمام وجهه بأغواء :
-إبنك زعلان منك و مخاصمك !
إزدرد ريقه بتوتر و هو يرد عليها :
-أنا مابعرفش أقاومك. إنتي عارفة كده كويس.. فماتحاوليش معايا يا ميرا أبوس إيدك. تخيلي لو أبوكي دخل علينا في أي لحظة !
ضحكت “ميرا” و قالت و هي تبتعد عنه بضع خطوات :
-طب هو أنا عملت حاجة ؟ أنا كنت بقولك إن إبنك مخاصمك بس. مش كده يا سفيان ؟! .. و نظرت إلى بطنها
و هنا علق “يوسف” فوراً و هو يتبعها مسرعاً :
-لأ sorry إستني كده ! سفيان مين ؟؟!!
إلتفتت له و أجابت بتلقائية :
-سفيان يا بيبي. إبننا !
يوسف بإستنكار شديد :
-إبن مين ؟؟؟ بقى إنتي عايزة تسمي إبني أنا سفيان ؟!!!!!
-و فيها إيه يا چو !
-فيها إيه ؟ بقى مش عارفة فيها إيه ؟ عايزة تسمي إبني سفيان يا ميرا و بتسأليني فيها إيه ؟ و الله عال ده إللي ناقص فعلاً !
-بتقول حاجة يا يوسف ؟!
جمد الأخير حين أتاه صوت والدها من الخلف فجأة …
لتبتسم هي مخففة من وقع صدمته و التوتر الذي إنتابه بشدة
-مش عاجبك إسمي و لا إيه ؟
إستدار “يوسف” ليرد عليه بإبتسامة متوترة :
-لأ إزاي يا باشا ! ده حلو أوي. أنا أطول أسمي إبني سفيان ؟ و الله لو جت بنت حتى هاسميها سفيان بردو.
لم يرف لنظراته الثاقبة جفن و هو يقول مبتسماً بإلتواء :
-طيب معلش إتفضل من هنا دلوقتي.. أصل جوزها إتصل دلوقتي و زمانه جاي في السكة. و مش حلو لما يجي يشوفك قاعد معاها في أوضتها !!
بُهت “يوسف” في هذه اللحظة، عندما ذكر “سفيان” مجيئ زوج “ميرا” …
-في حاجة و لا إيه يا باشا !! .. تساءل “يوسف” بصوت أجش
سفيان ببرود : أبداً. أنا كنت طالبه يجيلي أصلاً من فترة بس هو ما كانش حابب يجي منغير أبوه و أمه. أبوه رجع من حوالي شهر و أمه لسا راجعة إنهاردة.
يوسف بوجه مكفهر :
-بس ميرا هاتقابلهم إزاي و هي كده يا باشا ؟!
فهم “سفيان” ما يرمي إليه و قال بجدية :
-أنا هاتصرف. ماتقلقش إنت.. يلا بقى مع السلامة !
أطلق “يوسف” نهدة عميقة و ألقى نظرة نحو “ميرا”، ثم إتجه نحو باب الغرفة و رحل !!!
-لآخر مرة هاسمحلك بالمسخرة دي !
أفاقت “ميرا” من شرودها على صوت أبيها، أزاحت عيناها عن باب الغرفة حيث مر “يوسف” عبره للتو… نظرت له بإستفهام، فكرر بحدة شديدة :
-لو شوفت المسخرة دي تاني مش هايحصلك كويس.
ميرا ببراءة : في إيه بس يا دادي ؟!
إستشاط أبيها غيظاً و قال بخشونة :
-إتلمي يا ميرا. إتلمي هاموتك و الله .. و أكمل و هو يدير ظهره لها ليذهب :
-10 دقايق و تكوني جاهزة. إلبسي واسع و إوعي تنزلي غير لما أجي Check عليكي !!! ……………… !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع …
الفصل الخامس والعشرون
_ حقيقة مؤلمة ! _
تقابلا في الجراج… حيث شرعت “يارا” في إستقلال إحدى السيارات التي عمد “سفيان” إلى إهدائها إياها حتى تتمكن من الغدو خارجاً وقتما شاءت
بينما كان الإبن داخل سيارته الفارهة فعلاً، إلا أنها لم تنتبه لوجوده بادئ الأمر حتى أطلق لها زاموراً و صوّب نحوها ضوء السيارة عدة مرات
إلتفتت له “يارا” قبل أن تضع المفتاح بالسيارة، ضيقت عيناها و هي تنظر عبر الضوء فرأته و هو يجلس خلف المقود مرتدياً نظارته الشمسية الأنيقة …
-رايحة فين ؟ .. هتف الإبن من مكانه متسائلاً
إبتسمت “يارا” عندما لمست في نبرته الجلفة شيئاً من الإهتمام لأمرها، و ردت عليه :
-رايحة الشركة الأول و بعدين هافوت على الـGallery أشوف أخباره إيه. و إنت يا حبيبي على فين كده ؟!
ترجل “سفيان”… الإبن من سيارته في اللحظة التالية، مشى ناحيتها وئيداً و قال و هو يشملها بنظرات متفحصة :
-و إيه إللي إنتي لابساه ده ؟ فستانك ده ضيق أوي و قصير كده ليه ؟ ده فوق الركبة. إنتي مش سقعانة !!!
إزدادت إبتسامتها إتساعاً حين رأت الغضب المكبوت في عينيه و قالت بسعادة :
-إنت بتغير عليا يا روحي ؟
سفيان بضيق : من فضلك بلاش الإسلوب ده. و بلاش روحي و قلبي و الجو ده أنا مابحبوش .. و أكمل بحدة :
-ثم أنا أساساً من حقي أعلق على منظرك ده. على الأقل إحترميني و إحترمي سنك المفروض إنك Community Lady (سيدة مجتمع ) و كل الناس عرفاكي يعني لازم تراعي صورتك في عيونهم.
يارا بإبتسامة عريضة :
-يا حبيبي إنت تعلق زي ما إنت عايز. و عنيا حاضر هاطلع أغير الفستان أي آوامر تانية ؟؟
أشاح عنها عابساً و قال بإقتضاب :
-أنا هستناكي عشان أوصلك. إتفضلي و ياريت ما تتأخريش.
يارا بحب : مقدرش أتأخر عليك أبداً. ده أنا أتمنالك الرضا ترضى يا حبيبي .. و إستطردت بخبث :
-و بعدين أهي فرصة نمشي أنا و إنت و نسيب البيت لأبوك و أختك. عشان لو ولع بيهم نبقى في الآمان سوا.
نظر لها في هذه اللحظة قائلاً :
-إيه إللي بتقوليه ده ؟ مش فاهم تقصدي إيه ؟!!
إلتوى ثغرها بإبتسامة ماكرة و رفعت يدها لتربت على خده بلطف قائلة برقة :
-ماتشغلش بالك إنت بالحواديت دي. هي مشاكل أختك طول عمرها بتتحل عشان أبوها في ضهرها. كل مرة بتبقى أصعب من إللي قبلها و كل مرة أقول مش هاينفع. خلاص قفلت عليهم.. يرجع أبوك يفاجئني و يظبطلها كل حاجة. مين عارف. جايز يقدر يعمل حاجة تاني المرة دي !
نظر لها بعدم فهم، فإبتسمت مجدداً و هي تقول :
-يلا يا روحي أنا طالعة. 5 دقايق و رجعالك !
و إستدارت ماضية إلى البيت ….
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
-لفي ! .. قالها “سفيان” بغلظة و هو يقف في غرفة إبنته عاقداً ذراعيه أمام صدره
أطاعت “ميرا” أمره و أخذت تدور حول نفسها ليراها جيداً و يقرر ما إذا كان هذا الرداء الواسع يستر مكمن الجنين الذي إكتمل تقريباً ببطنها
إستغرقه الأمر بعض الوقت حتى أصدر أمره لها ثانيةً :
-خلاص أقفي.. كويس الفستان ده. بس حطي شال كتفك و ضميه على صدرك كده. و ماتنسيش إنك المفروض عيانة و مكتئبة. مش عايز حد منهم ياخد باله من أي حاجة فاهمة ؟
ميرا بجدية : أوكي دادي. ماتقلقش أنا هاتصرف كويس !
سفيان مغالباً إنزعاجه :
-طيب يلا. يلا عشان وصلوا خلاص .. و جعلها تمر أمامه أولاً
هبطا سوياً، و كانت الإبنة تتأبط ذراع أبيها.. وقف الضيوف عندما دخلا إليهم في غرفة الصالون
كانت عائلة الزوج متواجدة، الأم و الأب يقفان بجواره و هو بينهما، عيناه لم تفارقا “ميرا” فور ظهورها أمامه، بينما الأخيرة تسير إلى جانب والدها و هي تتحاشى النظر إليه تماماً
و كم كانت بارعة في آداء دور المريضة و المجني عليها في آن… إلى درجة جعلته ينظر إليها و هو يشعر و كأن طعنة نجلاء إخترقت صدره بقسوة !!!
-أهلاً بيكوا يا جماعة ! .. كان هذا صوت “سفيان”
رحب بضيوفه و هو يشير لإبنته في مكان جلوسها بجواره، ثم راح يصافحهم باليد …
-أهلاً يا عز.. حمدلله على السلامة يا مدام مدلين .. و توقف للحظات أمام “عمرو” يطالعه بنظراته الثاقبة
-إزيك يا عمرو !
تطلع “عمرو” إليه و مد يده ليصافحه بدوره قائلاً :
-تمام يا باشا.. كويس الحمدلله.
-طيب الحمدلله. إتفضلوا أقعدوا .. و إستدار ليجلس إلى جانب إبنته
فما كان من”عمرو” إلا أن عمد إلى تهدئة أبويه و حملهم على التذرع بمزيد من الصبر فقط من أجله، فأذعنا له على مضض و جلسا متضررين …
ليضع “سفيان” ساقاً فوق ساق و هو يسألهم بدماثة :
-تشربوا إيه بقى !
و هنا تكلم “عز” أخيراً، فخرج صوته يزخر بالحزم و الشدة :
-إحنا مش جايين نضايف يا سفيان. إحنا جايين نطمن عليك و ناخد ميرا.
عقد “سفيان” حاجبيه :
-تاخدوا ميرا ؟ تاخدوها على فين يا عز ؟!
-على لندن ! .. قالتها “مدلين”
و قد كانت لهجتها تعادل نفس مشاعر الغضب و التصميم في صوت زوجها
لم يحيد “سفيان” نظراته عن “عز” و هو يقول بصوته الهادئ :
-والله يا عز إنت عارفني. ماحبش حاجة في حياتي أد إستقرار العيلة و سعادة الراجل مع الست بتاعته. أنا أحب ما عليا إن أشوف بنتي مبسوطة مع جوزها.. أهي عندكوا أهيه. أسألوها لو كانت موافقة تقوم تمشي معاكوا حالاً أنا طبعاً مش هامنعها هي حرة !
عز مستهجناً : مش هاتمنعها ! أومال مين إللي طلب من عمرو يطلقها ؟ مش إنت إللي قولتله كده بعضمة لسانك ؟ و كلمتني تهددني يا إبني يسيب بنتك يا الموضوع ياخدله سكة مش هاتعجبنا ؟ مش ده كان كلامك ؟!!!
إبتسم له ببرود قائلاً :
-إحنا ولاد إنهادرة يا عز. سيبك من كلامي أنا. قدامك صاحبة الشأن أهيه .. و أشار نحو إبنته :
-إسألها لو تحب تقوم تمشي معاكوا أنا عن نفسي هاكون أسعد واحد في العالم. أومال إيه ؟ دي حياة بنتي و إستقرارها.
حدجه “عز” بنظرات محتقنة و لم يفه بحرف بعد ذلك لشدة غضبه …
-ميرا ! .. هتف “عمرو” فجأة
إرتعدت “ميرا” بخفة عندما سمعته ينادي إسمها… تشجعت و رفعت وجهها الخالي من مساحيق التجميل لتنظر في وجهه
لوهلة أصابها الذعر، حين شاهدت عيناه الغائرتان بشكل ملحوظ مثير للفزع، و الهالات السوداء تحيط بهما، ،و نحافته التي لم ترها عليه من قبل أبداً …
كان “عمرو” يراقب نظراتها و تمكن بسهولة من قراءة مشاعرها المصدومة، فإنتهز الفرصة و أردف متلهفاً.. كان صوته يغص لشدة إرتياحه عندما رآي التعاطف في عينيها :
-ميرا يا حبيبتي. أنا جاي إنهاردة عشان أخدك و نرجع بيتنا. لو عايزة نسافر مع بابا و ماما و نسيب هنا خالص أنا موافق. هاعملك كل إللي إنتي عايزاه. بس ترجعيلي تاني.. أنا مش عارف أعيش منغيرك.حياتي مالهاش أي طعم و لا لازمة و إنتي مش فيها. إرجعي معايا يا ميرا. إرجعي و أوعدك إني مش هاخليكي تملي من الوقت أبداً. مش هاحسسك بأي زهق أو حزن. هاعمل المستحيل عشان أسعدك. بس ترجعي بليز !
لم تعرف “ميرا” كيف شعرت بدموعها تنهمر كالشلالات من عينيها و هي تستمع إلى كلامه، كانت تخشى أن ينفضح أمرها بسبب أي سلوك قد يصدر عنها، فهو هكذا كان يضغط على مشاعرها بكل قوته، بحيث لو أنه أراد أن ينتزع منها حقيقة الأمر لأعترفت له بكل سهولة !!!!
-أنا آسفة يا عمرو ! .. قالتها “ميرا” بصوت أبح
أدركت أن لا منفذ من هذا المأزق سوى أن تقول له شيئاً يؤذيه، يؤلمه،حتى يرضخ لرغبتها و يطلقها دون محاولة أخرى للتصالح.. و قررت أن تستغل دموعها في إكمال مسرحيتها الجهنمية، فتابعت و هي تملأ صوتها نشيجاً حاراً :
-أنا مش هقدر أرجعلك. أنا حاولت كتير أصبر نفسي و أقبل أستمر في حياتي معاك. جيت على نفسي كتير. كنت شايلة جمايلك معايا و حاطة معاملتك الكويسة ليا قدام عيني. إنت عمرك ما أهانتني. عمرك ما عملت فيا حاجة وحشة. و صدقني أنا بحبك أوي و بحترمك. و دايماً كنت شايفاك كتير عليا. كنت شايفة نفسي محظوظة أوي عشان إنت جوزي.. بس ربنا حرمني في حياتي معاك من الخلفة. معاك عمري ما هقدر أبقى أم. أنا تعبت من تجاهل المشاعر دي يا عمرو. إنت عاجز. بس أنا لأ. مش هقدر أظلم نفسي أكتر من كده سامحني !
و إختنق صوتها بالبكاء، فقامت من مكانها بلحظة و ركضت هاربة بعيداً عن وجهه المصدوم المجروح …
كان “سفيان” في قرارة نفسه يصفق بحرارة لإعجابه بإسلوب إبنته، لقد أصابت الهدف تماماً… و الآن حان دوره هو !
-كويس إنك شوفت و سمعت بنفسك يا عز ! .. قالها “سفيان” مخاطباً والد زوج إبنته
كان “عز” منشغلاً بتفقد حال إبنه، تركه لأمه التي راحت تهدئه و تواسيه و نظر للأخير في اللحظة التالية و هو يقول بصوت خشن :
-ده جزاء إبني ؟ ده جزاء المعروف إللي كان بينا يا سفيان ؟ بنتك تكسره بالطريقة دي و تقوله الكلام ده ؟!!
سفيان بصرامة : زي ما عمرو إبنك ميرا تبقى بنتي. و زي ما بتخاف عليه أنا كمان بخاف عليها. أنا طبعاً مش مستغني عنها. إنت عارف كويس إنها محور حياتي كلها. و عارف أنا ضحيت بإيه عشانها. عشان كده بعد الكلام إللي قالته أنا ماعنديش كلام تاني !
عز بغضب : إللي هو إيه بقى إن شاء الله ! أصل بنتك قالت كتير و أهانت إبني قدامك و إنت قاعد و ساكتلها.
قام “سفيان” واقفاً و قال بهدوء :
-مقامك و مقام إبنك محفوظ يا عز. بنتي ماتقدرش تهينك و لا تهينه و لا أنا أقبل بكده. بس هي سمعتكوا الحقيقة إللي للآسف مؤلمة بالنسبة لكوا. و مع ذلك أنا مش هقدر أعارض رغبتها. لو كان الطلاق هايريحها فإنتوا مضطرين تقبلوا. و خلص الكلام لحد هنا .. و إبتسم مضيفاً :
-شرفتوني أوي بجد !!
يتبع ….
الفصل السادس والعشرون
_ فرصة أخيرة ! _
سارت “يارا” خلف إبنها حول متاجر الألبسة في هذا السوق التجاري الفخم… ظنت بادئ الأمر أنه ربما يود إبتياع بعض الأغراض لنفسه
لكنها سرعان ما تبينت أنه لم يكن يتوقف إلا أمام “فاترينات” الملابس النسائية !!!
-هو إحنا بنلف على إيه يا داغر ! .. هتفت “يارا” و هي تميل برأسها قليلاً صوب إبنها
كان يعلق يدها على ذراعه، ما أن سمعها تقول ذلك حتى إلتفت لها قائلاً بإستغراب :
-أول مرة أسمعك تناديني بالإسم ده ! أومال فين عبد الرحمن ؟!
يارا بتبرم : أعملك إيه يابني. حسيت إنك ماحبتش إسمك إللي إختارته لك. و في نفس الوقت أنا ماحبتش أناديك بإسم إللي مايتسماش فقلت الإسم ده أهون شوية !
إبتسم “سفيان” و قال :
-لأ مش أهون و مش محتاجة تغيري أي حاجة إختارتيها ليا. ناديني عبد الرحمن عادي أنا حبيت الإسم جداً.
أشرق وجهها بإبتسامة كبيرة و ما كان منها إلا أن قبضت على مؤخرة رأسه و جذبته بقوة لتقبله على خده مغمغمة :
-حبيب أمــه يانـآااااس حبيبي و الله حبيبي !
وبخها “سفيان” بلطف :
-إيه إللي بتعمليه ده إحنا وسط الناس هايقولوا علينا إيه !!
يارا بغبطة شديدة :
-فرحانة بيك يا حبيبي و الناس يقولوا أم و إبنها طبعاً.
سفيان بسخرية : إستحالة يكون ده منظر أم و إبنها. ده إنتي أصبى مني !
ضحكت بمرح، ليستطرد بجدية :
-ثم إن الناس لسا مايعرفوش إنك أمي. أنا عامل حسابي الحفلة الجاية هاخدك معايا و أطلعك على الـStage و أقدمك للكل.
يارا و قد فهمت الآن :
-آاااااه يبقى عشان كده ملففني معاك من الصبح.. عايز تشتريلي حاجة مناسبة أحضر بيها حفلتك صح ؟!
سفيان محافظاً على إبتسامته :
-لأ غلط. أنا جايبك هنا و بلففك معايا عشان أختارلك بنفسي فستان الفرح !
و هنا فغرت فاها مذهولة …
-هه ! فستان فرح ؟ لمين يابني ؟!!
-ليكي إنتي يا حبيبتي. إنتي نسيتي إنك مخطوبة لبابا بقالك 5 شهور ؟ أظن كفاية أوي كده على فترة الخطوبة. خصوصاً إن ميرا إتطلقت و إتجوزت يوسف و إنتوا لسا مخطوبين. طب ده ينفع ؟
تحول مزاج “يارا” تماماً في هذه اللحظة و قالت له بصوت جاف :
-إنت لسا مصمم يابني ؟ لسا عايزني أتوحل في حياة أبوك الشيطان ده تاني ؟ ده أنا ما صدقت خلصت منه !
حاوط “سفيان” كتفها بذراعه قائلاً بصوته الهادئ :
-إسمعي يا ماما. أنا وعدتك إن مافيش مخلوق في الدنيا هآيذيكي تاني طول ما أنا عايش. لازم تثقي فيا أكتر من كده.. لا سفيان الداغر و لا غيره يقدر يقربلك. على جثتي !
-بعد الشر عليك ! .. صاحت بتلهف
أطل العذاب من عينيها و هي تتطلع له قائلة بآسى :
-إنت ماتعرفش ده عمل فيا إيه ؟ أنا مش خايفة منه. أبداً. أنا بس مش قادرة أنسى إللي عمله فيا من هو بعيد عني. أومال لو رجعتله تاني إيه إللي هايحصل ؟!!
طمأنها ممسداً على ظهرها برفق :
-و لا هايحصل أي حاجة صدقيني. إحنا مش عايزين أكتر من فرصة أخيرة. أنا مش طالب منك أكتر من كده. لو فعلاً بتحبيني أدينا فرصة نتجمع كلنا و نعيش مع بعض حياة طبيعية.. ده لو فعلاً بتحبيني زي ما بتقولي !
رمقته بنظرة مطولة و قالت بصوت مثقل بالمشاعر :
-لو فعلاً بحبك ! ده أنا مابحبش في حياتي حد أدك. إنت روحي إللي كانت ضايعة مني يا عبد الرحمن. و لما لاقيتك ردت فيا تاني.. أنا مش عايزة حاجة من الدنيا غيرك.
إبتسم من جديد و قال :
-يبقى خلاص إحنا متفقين.. زي إنهاردة الإسبوع الجاي كتب كتابك على بابا. و هايكون في بيت تيتة ميرفت.
شخصت عيناها و هي تنظر له بقوة :
-كتب الكتاب عند مين يا حبيبي ؟ انت كده عايز تيتة ميرفت تولع فينا كلنا !!
قهقه “سفيان” بمرح و قال بغمزة :
-ماتقلقيش. انا مظبط كل حاجة. كل اللي عليكي انتي تجهزي نفسك و تحاولي تصفي من جواكي اي حاجة ناحية بابا. لأني عايزك في اليوم ده احلى و اجمل عروسة.. عايزك تبقي فرحانة من قلبك.
أشاحت بوجهها عنه و هي تهز رأسها يائسة و تمتمت بخفوت :
-الواد ده هايجبلي شلل !
-بتقولي حاجة يا حبيبتي ؟
نظرت له ثانيةً و قالت مبتسمة :
-سلامتك يا حبيبي. يلا نكمل رحلة البحث عن الفستان.. يلا يابني !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
جلست “ميرا” فوق سريرها الوثير بمساعدة أبيها… كانت تتآوه و هي وضع يد خلف ظهرها و أخرى أسفل بطنها المنتفخ بشدة
بسط “سفيان” الغطاء السميك فوقها، ثم شد كرسي و جلس على مقربة منها …
-خلاص يا دادي مش قادرة ! .. قالتها “ميرا” معربة عن آلامها المبرحة
ربت “سفيان” على يدها قائلاً بلهجة مقتضبة :
-هانت يا ميرا. إستحملي شوية كمان. الدكتور هايجي بكره يشوفك و إن شاء الله المرة دي ولادة.
نظرت “ميرا” حولها متأملة المعدات الطبية التي أحضرها والدها من أجلها خصيصاً لكي تحظى بالرعاية التامة دون الحاجة للذهاب إلى المشفى، إنقبض قلبها مجدداً و هي تقول بصوت مرتعش :
-أنا خايفة أوي دادي.. خايفة. أنا مش هاولد طبيعي زي ما قال الدكتور.
سفيان بجفاف : ماتخافيش يا ميرا. في الحالتين هاتبقي كويسة. و بعدين الموضوع كله مش هاياخد نص ساعة و هاتقومي بالسلامة.
أطلقت نهدة عميقة من صدرها و هي تقول :
-كان نفسي يوسف يبقى معايا. مش عارفة هاعمل إيه من غيره بكره !
-ماينفعش يكون معاكي. مش إحنا إتفقنا ؟ مش هاتشوفيه خالص إلا بعد ما تولدي بفترة. أنا لسا مش متأكد إن كان عمرو بيراقبنا و لا لأ. بس عمري ما هغامر بإنه يكتشف بأي طريقة إللي بيحصل هنا. حتى الدكتور بتاعك بيدخل و يخرج بطريقة خاصة.
ميرا بإمتنان : دادي. إنت بجد أعظم أب في الدنيا. إنت عملت حاجات كتير أوي عشاني. إنت كنت عايش ليا أنا و بس.. دادي. أنا مهما أقول مش هقدر أوصفلك بحبك أد إيه. أنا كنت أكتر بنت محظوظة في الدنيا دي. عشان طلعت لاقيتك إنت أبويا. إنت عندي بكل الناس. محدش يقدر يملا مكانك أبداً و لا حتى يوسف !
كان “سفيان” يستمع لها صامتاً مقطباً، حتى فرغت …
قام من مكانه متجهاً نحو الشرفة المفتوحة، وقف يستنشق نسمات الهواء الباردة في هدوء، بينما تطالعه “ميرا” من مكانها بنظرات مستغربة
لكنه ما لبث أن قال بصوت عالٍ واضح دون أن يلتفت لها :
-يمكن كنت فعلاً أب كويس ليكي يا ميرا. يمكن قدرت أحميكي كويس و أعيشك حياة مستريحة و سعيدة.. بس الأكيد إن أنا ظلمتك. ظلمتك و آذيتك أوي. أي حاجة وحشة عملتيها لنفسك. أنا كنت سبب فيها !
و إستدار نحوها فجأة …
كانت تنظر له بتعبير متصلب غير مقروء، ليتابع على نفس النحو :
-بداية من عيشتك في أمريكا مع أمك و إنتي صغيرة. سيبتك معاها و رجعت على هنا عشان أنتقم. في الوقت إللي كانت بدأت تدمن فيه.. تصوري. كان عمرك يادوب سنة و نص. لما حطتك على ترابيزة القمار و كانت هاتبيعك في دور Strip poker عشان إزازة ويسكي. لولا إتصالاتي و عيوني إللي كانت عليكي و إنتي معاها. قدرت أمنعها !
صمت قليلاً يراقب تعابير وجهها التي راحت تختلج آلماً الآن، و أكمل :
-بس حتى لما روحت و جيبتك هنا.. لما غفلت عنك شوية بس. ضيعتي مني. كنت فاكر إنك جمبي يعني خلاص في آمان. بس للآسف !!!
و أخذ يقترب منها ببطء، جلس مقابلها على حافة الفراش و رفع كفاه ليحيط بوجهها الشاحب …
-إنتي مش وحشة يا ميرا. إنتي بريئة زي ما إنتي. أنا إللي عملت كل حاجة. أنا إللي ضايعتك مش مرة و لا إتنين.. كذا مرة. غلطتك بس إنك حبتيني و طلعتي شبهي في كل حاجة. و يمكن ده إللي خلاني أحبك أوي كده. أكتر من نفسي حتى.. إوعي في يوم من الأيام تكرهي نفسك بسبب أي حاجة حصلت. دوري في حياتك كان سلبي. بدل ما كنت أربيكي كويس و أعيشك حياة طبيعية. حبيت أقويكي و أطلعك قاسية زيي. لكن في دي بردو فشلت يابنتي !
و هنا إنهمرت الدموع من عيناها لكنها لم تفقد إتصالها بنظراته… طفق يكفكف لها دموعها بكفيه و هو يقول بلهجة صادقة :
-أنا كان لازم أقولك الكلام ده دلوقتي. عشان تفوقي و تبدأي حياتك الجديدة صح. أنا خلاص مش عايز حاجة تاني من الدنيا و مش ضامن أكون معاكي بكره و لازم آ ا ..
-بليييززز كفاية ! .. قاطعته بغصة مريرة
إرتمت عليه متجاهلة آلامها الشديدة، و إنفجرت باكية على صدره و هي تغمغم بنشيج خشن :
-أنا مقدرش أعيش منغيرك أصلاً. في حد يعيش منغير روحه ؟ إنت روحي يا دادي !!
ربت “سفيان” عليها و قال يهدئها :
-طيب إهدي يا حبيبتي. إهدي خلاص.. أنا دلوقتي جمبك أهو. و بكره ولادك يكونوا حواليكي و يوسف و الداغر الصغير و يارا. إنتي عمرك ما هاتبقي لوحدك أبداً. أنا مش ممكن أسيبك لوحدك.
حاول إبعادها حتى لا يؤذيها هذا الوضع، لكنها رفضت تركه و تمسكت به أكثر، فتنهد و ضمها إليه بدوره و يكرر على مسامعها العبارات المهدئة :
-كله هايبقى كويس.. المرة دي مش كلام يا ميرا. حياتنا كلها هاتتغير أوعدك. أوعدك يا حبيبتي ! ……… !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع …
الفصل السابع والعشرون
_ فرصة أخيرة ! _
أصبح على أتم الإستعداد لكي يذهب و يعقد قرانه مرةً أخرى عليها …
تلك البذلة الأنيقة التي يرتديها، هي نفسها التي إتداها يوم زفافهما، لقد إحتفظ بها كل تلك السنوات.. و ما زال وجيهاً وسيماً كما كان في السابق، لا ينقصه شيء تقريباً
لكن بلى !
بالطبع ينقصه.. فهو مضطر للذهاب بمفرده، فإبنته فرغت من ولادتها حديثاً، إبنته الغالية “ميرا” أنجبت له منذ يومين فتاة جميلة، حفيدة أصر أن تحمل نفس إسم أمها
و لولا تصميم إبنه على وجوب الإسراع في إتمام الزواج لما كان يتركها الليلة أبداً و هي في فترة النفاس الأولى و بدون زوجها “يوسف” أيضاً، ألم يكن هو الذي منعهما عن بعض خشية إلفات النظر !!
-إيه الوجاهة دي كلها يا عريس !
إبتسم “سفيان” حين سمع ملاحظة أخته الغزلية
كانت تقف عند عتبة باب غرفته
إستدار لها في اللحظة التالية، فأخذت تتأمل الإطلالة الداكنة بالكامل التي عمد إليها… إن الأسود خُلق له حقاً، لا يمكن أن يكون هناك لون أكثر حدة و شراً منه غير الأسود، أنه مثله تماماً !!!
-دي أقل حاجة عندي يا فوفي .. قالها “سفيان” بإبتسامة مغترة
ردت “وفاء” له الإبتسامة و قالت و هي تقبل نحوه :
-أنا طبعاً عارفة. بس صدقني.. شكلك إنهاردة صغران أوي. كأني رجعت 23 سنة لورا. فاكر ؟ يوم جوازك !
أومأ قائلاً : فاكر يا وفاء. عندك حق. الذكريات زي ما تكون بتتكرر بتفاصيلها.
و هنا توقفت أمامه مباشرةً، طفقت تعدل له هندامه و تضبط ربطة عنقه و هي تقول بصوت ناعم :
-الذكريات بتتكرر.. و إوعى تنسى. إن كل حدث مهم في حياتك بيكون له علاقة بفرح. أو مناسبة كبيرة أوي.. مش حاجة غريبة دي يا سفيان !
و هنا عقد “سفيان” حاجبيه عندما عجز عن فهم مقصدها و قال :
-مش فاهم قصدك ! حدث زي إيه مثلاً ؟!
إبتسمت “وفاء” مجدداً و تنهدت قائلة :
-و لا حاجة. ماقصدش حاجة يا حبيبي.. حنيت للماضي فجأة بس !
رفع حاجبه و هو يرمقها بنظرة إستخفاف ثم قال بصوت أجش :
-الماضي ده كان كله وساخة. إيه إللي يخليكي تحنيله تاني يا وفاء.. مش قولنا ترميه ورا ضهرك ؟
علت زاوية فمها بإبتسامة ملتوية و هي ترد عليه بثقة :
-هارميه يا سفيان. مسيري في يوم هارميه و هانسى كل حاجة.. أنا وعدتك !
سفيان بجفاف : هانشوف ! .. ثم قال و هو يتجه نحو منضدة الزينة ليأخذ سلسلة مفاتيحه :
-لو ماكانتش ميرا في الحالة دي كنت خدتك إنتي و هي معايا. بس معلش هاتقعدي معاها لحد ما نرجع كلنا. الداعر الصغير من الصبح عند أمه و أنا هاروح لوحدي.
تنفست “وفاء” بعمق و قالت بوداعة شديدة :
-ترجعوا بالسلامة يا حبيبي.. ماتقلقش خالص. ميرا في عنيا !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
داخل ميناء المطار الجوي …
توقفت عائلة الوزير السابق أمام أكشاك التفتيش، وضع كلاً منهم حقائبه فوق سير الفحص و بقوا في الإنتظار
كانت البرودة شديدة هنا، فشرعت السيدة “مدلين” بإرتداء معطف الفراء خاصتها، لتقع عيناها صدفة على إبنها الواقف خلفها تماماً
جمدت فجأة، حين لاحظت دموعه تسيل على خده ببطء بينما هو لا يلقي بالاً بأي شيء، و لا يعبأ حتى إن رآه أحد …
وكزت “مدلين” زوجها دون أن تحيد بنظراتها عن الأخير، لينظر “عز” حيث تنظر و يرى هذا… لوهلة إنتابته صدمة سرعان ما إستحالت لغضب شديد
لكنه كبح مشاعره كلها بصعوبة و مد يده نحو إبنه هاتفاً :
-عمرو إنت كويس ؟!
أفاق “عمرو” حين شعر بيد أبيه تربت على كتفه، أدار وجهه لينظر إليه و قال و هو يكفكف دموعه بسرعة :
-نعم يا بابا ! أنا كويس في حاجة و لا إيه ؟!
زفر “عز” قائلاً :
-عينك مالها ؟
إغتصب “عمرو” إبتسامة و هو يرد عليه :
-مافيهاش حاجة ده بس عشان الجو برد أوي هنا.
و دق هاتفه في هذه اللحظة، شرع في إخراجه من جيب معطفه، بينما أعرض والده عنه مهتماً بمباشرة الإجراءات
فتح “عمرو” الهاتف ليجد رسالة نصية من رقم مجهول، كانت مرفقة بمجموعة صور… إجتذبته الصور أولاً و فوراً
كانت لزوجته السابقة.. “ميرا”
ها هي تتوسط فراشها في حجرتها في بيت والدها، و لكن ما هذا الذي تحمله على يديها، و في لقطة أخرى يقبع بجوارها، و في أخرى بين أحضانها، و لماذا تبدو بهذا الإعياء
سرعان ما إكتشف “عمرو” أن الذي معها في الصور لم يكن سوى طفلاً… و لكن طفل من هذا ؟؟؟؟؟؟
لم ينتظر إجابات عشوائية من عقله و إنتقل لنص الرسالة…. ” مش دي مراتك بردو ؟ لأ قصدي طلقيتك ؟ إللي معاها في الصورة دي بنتها لسا والداها من كام يوم. مش إنت طلقتها من 3 شهور و لا إيه ؟!! ”
سقط الهاتف من يد “عمرو” .. إنتبها له والديه على الفور و سارعت أمه إليه …
-إيه يا حبيبي مالك ؟ إنت كويس ؟!!!
كانت تمسك بذراعه و تحاول أن تجعله ينظر لها، لكن الصدمة التي خلفتها تلك الرسالة منذ لحظات لم تمنحه فرصة التفكير أو التعاطي مع أي شيء، فإنطلق بسرعة البرق متجهاً خارج المطار …
-عمـــرو.. عمــــــرو.. عمــــــرو !
لم يستجيب لنداءات والده أبداً، بينما أمه في أقصى حالات الإنهيار و كاد أن يغشى عليها فعلياً و هي تلتقط هاتفه و ترى تلك الرسالة …
-إلحقه يا عز. إلحقه بسرعـــة !
و في هذه اللحظة إستقطبا نظرات جميع من حولهما بسبب صراخ الأم الملتاع !!!!!!!!!
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
لأكثر من ساعة حتى الآن، ما زال “سفيان”… الأبن يقف في غرفة جدته و وسط أختيه و والدته، يحاول عبثاً إقناع الجدة بالخروج معهم
لكن ليس أمامها خيار، لابد أن تخرج …
-يابني سيبني في حالي بقى قولتلك مش هاخرج ! .. قالتها الجدة للمرة المئة
-إنتوا مش خلاص كتبتوا الكتاب ؟ سيبوني في حالي بقى.
كانت نفسها تفيض بالضيق، إلا أن الحفيد لم ييأس،فركع أمامها و أخذ يستميلها برفق :
-عشان خاطري يا تيتة. مايصحش بابا يكون قاعد برا و إنتي مش عايزة تقابليه.. ده في بيتك عيب. مش كفاية ماحضرتيش كتب الكتاب !
ميرفت بإنفعال : و مش طايقة أشوف وشه ياريت يحس على دمه و يغور من هنا .. و تطلعت إلى إبنتها قائلة :
-بقى هو ده إللي سامحتيه بعد ما عمل فيكي ده كله ؟ و جوزك إللي موتيه بحسرته. رؤوف الزيني كان عمل فيكي إيه يا بريئة يا شهيدة ؟!! تستاهلي كل إللي يجرالك !!!
لم تتحمل “يمنى” سماع المزيد عن والدها، ففرت هاربة من وسطهم و هي تكبت بكائها… بينما “يارا” مطرقة الرأس و الشعور بالخزي يملأها
لقد فعلها “الداغر” مجدداً، لقد إنتصر عليها كالعادة.. الليلة تزف له بهذه البساطة و بذاك الرداء الأبيض الأنيق و كأنها عروس حقيقية !!!
حاولت “يسرا” أن تؤازر أمها و تخفف عنها قدر إستطاعتها، على الطرف الآخر “سفيان”… الأبن يقول بصوت خشن و قد نفذ صبره :
-أنا زهقت من دور المصلح إللي مابيخلصش ده. في إيه مالكوا كلكوا ؟ عاملين نفسكوا ملايكة و إنتوا أكتر ناس شايلين جواكوا و رغبة الدمار هي إللي بتحركّوا ؟ براحتك يا تيتة مش عايزة تتصافي مع أبويا إنتي حرة. بس من بكرة أمي و إخواتي هايجوا يعيشوا في بيت الداغر و طبيعي هاتكوني معاهم. أنصحك طول الليل بقى تحاولي تمرني نفسك على الخطوة دي.
و هب واقفاً فجأة …
-يلا يا ماما !
أمسك بيد أمه و شدها خلفه للخارج، فظلت “يسرا” تجلس بجوار جدتها، لم تتبعهم …
كان “سفيان الداغر”… الأب، يجلس هادئاً في الصالون و قد بدا أنه إستمع للحديث العائلي بالداخل، لكنه لم يكن مستاءً على الإطلاق، بل إنه كان يبتسم و كأنه يشاهد عرض مميز …
-مش يلا بقى يا حبيبتي ؟ .. هتف “سفيان” و هو يمد يده لزوجته
قام واقفاً على قدميه ليستقبلها …
-الليلة دي مش هانروح البيت. أنا عازمك برا و عاملك مفاجأة حلوة أوي !
كان يلتهمها بنظراته، فقد بدت فاتنة كثيراً الليلة و هي أشبه بالملاك الشيطاني هكذا.. يا له من تناقض !!!!
كانت لا تزال متمسكة بيد إبنها و تشيح بوجهها عن الأخير في آن.. فشهقت فزعة عندما جذبها من ذراعها على حين غرة
تآوهت بخفة و هي تصطدم به، ليضحك و هو يقول مطوقاً خصرها بذراعه :
-أنا مش مصدق نفسي و الله. أخيراً رجعتيلي تاني. خلاااص مش هابعد عنك تاني أبداً ! .. و رفع يدها إلى فمه ليقبلها
في نفس اللحظة يدق هاتف “سفيان”… الأبن
إستغرب عندما إكتشف أن “يوسف” هو الذي يتصل به، فهو عادة لا يهاتفهه إلا للضرورة القصوى !!!
في النهاية لم يتركه ينتظر طويلاً و رد :
-آلو.. أيوة يا يوسف.. في حاجة ؟.. مالها ميرا ؟.. تعبانة إزاي يعني ؟.. طيب.. طيب أوكي خلاص.. باي !
و أغلق معه …
-في إيه يابني ؟ .. كان هذا صوت “سفيان”
بالطبع كان يتابع المكالمة منذ سماع إسم زوج إبنته، صب كل إهتمامه على ردود إبنه المبهمة لكنه لم يخرج بشيء …
نظر الإبن في وجوه عائلته قائلاً بتوتر :
-ده يوسف بيقول إننا لازم نرجع البيت دلوقتي حالاً !
يرن هاتف أبيه بنفس اللحظة، ليرد فوراً دون أن يلقى بالاً لهوية المتصل :
-آلـو ! .. كانت زمجرة شديدة تعلو في حنجرته
و آتاه الرد الذي أطلق الوحش الكامن بداخله في طرفة عين :
-إلحق بنتك يا سفيان. إلحقها حالاً عمرو رايحلها. هايقتلها !!!!! …………. !!!!!!!!!!!!!!!!!!
يتبع …
الفصل الثامن والعشرون والأخير
_ فرصة أخيرة ! _
أوقف “يوسف” سيارته على جانب الطريق ليرد على إتصال “ميرا” …
-إيه يا حبيبتي ! أخبارك إيه دلوقتي ؟!
جاء صوت “ميرا” محملاً بالآلم :
-مش كويسة خالص يا يوسف. عندي مغص جامد و أنطي وفاء كانت هنا مش عارفة سابتني و راحت فين !!
يوسف بقلق شديد :
-أنا لسا قافل مع أخوكي. قالي إنهم راجعين دلوقتي. معلش يا حبيبتي إستحملي شوية كمان أنا هاين عليا أجيلك حالاً بس إنتي سمعتي آوامر أبوكي… طيب إنتي تعبانة أوي يعني !
-مش أوي هي العملية تعباني بس. كنت محتاجة حد جمبي.
-يا حبيبتي مسافة السكة و كلهم هايرجعوا ماتقلقيش ..ثم حول مسار الحديث كي يلهيها عن الآلم قليلاً :
-المهم قوليلي البرنسيس بتاعتنا عاملة إيه ؟ my little ميرا !
سمع ضحكتها الحلوة و هي ترد عليه بعناء :
-كويسة حبيبي. أكلت و نامت as angel ( زي الملاك ) !
يوسف بحب : نوم الهنا. وحشتوني أوي إنتوا الإتنين.. عارفة ؟ حاسس إني أول مرة أكون أب. و رغم إني مسمي بنتي الكبيرة ميرا. بس بنتي إللي منك حاسستني إن الإسم ماينفعش غير ليها هي و بس بعدك.
أحس إبتسامة في صوتها و هي تقول :
-ربنا يخليك ليا و ليها. يوسف أنا بعيش أحلى أيام عمري دلوقتي. كل أحلامي تقريباً إتحققت. مش فاضل غير لمتنا سوا.
قال واعداً : هايحصل يا حبيبتي. هانتلم قريب جداً. و ماعنتش هاسيبك أبداً !
و إنتبه فجأة لمكالمة أخرى دخلت على الخط، فأعتذر منها :
-ميرا حبيبتي. معايا مكالمة تانية هارد عليها و هاكلمك تاني. باي يا قلبي .. و أغلق معها ليتلقى الإتصال الآخر
رد بلهجة أكثر تهذيباً عندما إكتشف هوية المتصل :
-آلو ! سفيان باشا.. أهلاً.. في إيه إللي حصل ؟ إيـــه ؟؟؟!!!!
و رمى الهاتف من يده في اللحظة التالية، لينطلق بسيارته فوراً متجهاً إلى قصر آل”داغر” ….
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
شعرت “ميرا” أن آلام الجرح في تزايد لا تهدأ أبداً …
كان الطبيب قد كتب لها آدوية و مسكنات، كانت حقيبة العلاج هنا بجوارها.. لقد إختفت عندما جاءت إليها “وفاء” منذ قليل
أين هي “وفاء” ؟ أين هي عمتها ؟!!!!!
ألقت “ميرا” نظرة على رضيعتها النائمة في سلام، ثم تحاملت على نفسها و قامت من السرير بصعوبة… راحت تتوكأ على أثاث الغرفة و هي تتآوه بصوت عالٍ و تنادي على عمتها :
-أنطــي وفـاء.. يا أنطـــي.. إنتي فيـــن إلحقيني بليييزز !
و لكن ليس هناك من مجيب !!!
واصلت السير و هي تجر قدماها جراً للخارج لتذهب و تبحث بنفسها عن “وفاء” …
……………………………………………
في مكانٍ ما بالقصر …
كانت تسمعها جيداً، كل نداءاتها سمعتها، و كانت الإبتسامة تملأ وجهها و هي تستسيغ نبرات الآلم في صوتها… كانت تحمل في كلا يديها طوق النجاة لها و آداة الإنتقام في آن
ذلك الهاتف في يدها اليمنى، يدق و هو على وضع الصامت، من المتصل ؟.. إنه “سفيان” طبعاً، الأخ الدنيئ و الأب العظيم
قررت أن ترد عليه لمرة قبل أن تقدم على خطوة الخلاص التي لطالما إنتظرتها …
-آلو ! .. هكذا أجابت “وفاء” إتصال أخيها بمنتهى الهدوء و الثبات
آتاها صوته ثائراً من وسط ضجيج شديد :
-وفــاء.. إنتوا كويسين ؟ في حاجة حصلت عندكوا في البيت ؟ ميرا كويسـة ؟!!!
وفاء بوداعة : إحنا كويسين يا حبيبي. كله تمام و ميرا زي الفل. إيه حصل حاجة و لا إيه ؟!
لاحظت في صوته إرتياحاً جزئياً و هو يقول :
-الكلب إللي إسمه عمرو عرف موضوع ميرا و كان جايلكوا على البيت. بس أنا لحقته في نص السكة و البوليس هنا معانا. يوسف كمان موجود أنا هاسيبهم ياخدوه على القسم و جاي أطمن عليكوا بنفسي. يلا سلام مش هتأخر !
كانت تعابير الهدوء قد محقت بلحظة عن وجهها فور أن أخبرها بذلك، لم تفيق إلا على صفير إنقطاع الخط… إحتقن وجهها بدماء الغضب و ألقت بالهاتف بعيداً
تمسكت أكثر بما في يدها الأخرى، بتلك السكين ذات النصل الحاد.. عادت عيناها تلتمعان من جديد و الإبتسامة تتكون على ثغرها مرة أخري
أغلقت درج الآواني، و إستدارت مغادرة المطبخ بخطوات ثابتة …
……………………………………………
تصل “ميرا” إلى الطابق السفلي عندما فرغت من التفتيش عن عمتها بالأعلى… لكنها أيضاً لا تجد أثر يدل عليها هنا
إنما ظلت تنادي بإصرار يخالطه التعب …
-إنطي وفااااء.. يا أنطي فيــنك ؟!!!
-أنا هنا يا روحي !
جمدت “ميرا” للحظة حين سمعت صوت العمة أخيراً
إستدارت لها ببطء لاهثة، وجدتها تقف عند حافة الرواق المؤدي لقسم مباشرة المنزل.. كانت تعقد يديها خلف ظهرها، فبدت و كأنها تخفي شيئاً ما !!!
-إنتي فين يا أنطي ! .. قالتها “ميرا” بصوت كالأنين
-أنا كنت بدور عليكي. إلحقيني يا أنطي محتاجة أخد العلاج بتاعي تعبانة أووي.
رمقتها بنظرة تعاطف قائلة :
-تؤ تؤ تؤ ألف سلامة يا روحي. أنا حالاً هاريحك خالص. هاريحك للأبد ! .. و أظهرت السكين في هذه اللحظة
نظرت لها “ميرا” بعدم فهم، لم تستطع تبين نيتها الجلية في عينيها فقالت بصوت متحشرج :
-إيه إللي في إيدك ده يا أنطي ؟ هو في إيه ؟!
و هنا إستوحشت نظرات الأخيرة و هي تمشي نحوها وئيداً و تقول بصوت كالفحيح :
-في إيه ؟ عايزة تعرفي في إيه يا ميرا ؟ حاضر أنا هاقولك.. في إن إنتي و أبوكي دمرتوا حياتي. هو سرق عمري بقعدتي جمبه. و إنتي. إنتي جيتي سرقتي روحي. إنتوا الإتنين مجرمين. و محدش هايخلص الناس منكوا و من شروركوا غيري. سامعة يا بنت أخويا ؟
لم تتزحزح “ميرا” من موضعها رغم تقلص المسافات بينها و بين عمتها، رغم الخطر المحدق بها.. أرادت أن تعرف ما في نفسها، لعلها متآذية بسببها و بسبب أبيها
لم تسلم “ميرا” لخوفها و أودعت ثقتها الكاملة بعمتها و هي تقول مغالبة مشاعر الآلم :
-إيه إللي حصل بس يا أنطي ؟ دادي زعلك في إيه ؟ طيب أنا زعلتك في إيه ؟ أنا آ ا …
-إنتي دمرتيــني ! .. قاطعتها بصراخ مصم
كانت قد توقفت على بعد خطوة واحدة منها، حملقت فيها بقوة و صاحت بغلظة شديدة :
-لولا ظهورك في حياتي. كان ممكن إنهاردة أكون في حتة تانية خالص.. كان ممكن يكون عندي ولاد مثلاً.. كان ممكن.. كان ممكن سامح يكون عايش. معايا.. مش ميت. بسببك إنتي سامح مات. الراجل الوحيد إللي حبيته مات. فرصة عمري الأخيرة ضاعت بسببك و بسبب أبوكي. إنتوا الإتنين دمرتوني. حياتي إنتهت من زمان إوعي تكوني فكراني عايشة.. إوعي يا حبيبتي. ده إنتي إللي عيشتي حياتك عالأخر. إتجوزتي و حبيتي و خونتي جوزك و خلفتي.. و كله بعلم أيوكي و مساعدته ليكي. حتى و إنتي ماشية غلط كان واقف في ضهرك. لكن أنا. أنا موتلي سامح. موته بسببك. كله بسببك إنتي !
تعاظم الآلم أكثر في تلك اللحظات مع تراكم مشاعر الآسى السالفة لكل السنوات الماضية و تحديداً تلك الفترة التي ذكرتها “وفاء” …
لم تعرف “ميرا” أتعزيها أم تعزي نفسها !
لكنها قالت في الأخير :
-أنا آسفة ! .. خرج صوتها هامساً
لتضحك “وفاء” بقوة …
-لأ بجد ! آسفة ؟ و أنا قبلت آسفك يا ميرا !
و قطعت المسافة بينهما بخطوة، و غرست السكين بسرعة في صدر إبنة أخيها …
طوقت كتفها بذراعها لئلا تسقط، بينما تحرك السكين قليلاً لتسمح للهواء بالتغلغل داخل القلب ….
إنتفضت “ميرا” حابسة أنفاسها و تشبثت بيد عمتها، ثم خمدت نظراتها الواسعة تدريجياً حتى أسلمت الروح بالنهاية !!!!!
و هنا تركتها “وفاء” لتسقط تحت قدميها، أخذت نفساً عميقاً و هي تتأملها وسط بركة الدماء الآخذة في التوسع هذه
لقد ماتت… “ميرا” ماتت… قلب “سفيان الداغر”.. بل روحه… حياته كلها… الآن هي جثة هامدة !!!!
يا للروعة !
كم أحبت “وفاء” هذا الشعور… كم أحبته بصدق
إنحنت صوبها في اللحظة التالية، أستلت السكين من صدرها و نهضت ثانيةً… علت إبتسامة الإنتصار وجهها أخيراً
مشت نحو باب المنزل الرئيسي بتؤدة و السكين في يدها يقطر دماءً ساخنة.. إصطدمت فجأة بمادة صلبة عند الباحة، كانت شبه غائبة عن الوعي من شدة الإنتشاء
عندما رفعت وجهها إكتشفت إنه أخيها، لقد جاء… ها هو يقف مقابلها صدره يعلو و يهبط بتناغم مستمر، لابد أنه وصل إلى هنا على جناح السرعة إذن !
إبتسمت له بهدوء، بينما يرمقها بنظرة متسائلة ثم يقول :
-في إيه يا وفاء ؟ مالك ؟!!
إتسعت إبتسامتها، ثم إستحالت ضحكات مجلجلة، رفعت يدها الممسكة بالسكين الملطخ بالدم و هي تقول بمرح كبير :
-رآااااحت. رآاااحتله يا سفيآاااان. البقية في حياتك ياخويا.. و عقبااالك !
-إنتي بتقولي إيــه ؟ .. صاح بها بخشونة
أمسك بكتفيها بقوة …
-إتكلمي عدل.. في إيـه يا وفــاء ؟!!
هدأت عن الضحك فوراً و إتسمت تعابيرها بالجدية، دفعت له بالسكين متمتمة بشماتة واضحة :
-دي عشان سامح يا سفيان.. سامح. فاكر سامح ؟!
نظر “سفيان” إلى السكين ثم لها، رفض عقله ترجمة جملتها إلى الإستنتاج البديهي… دفعها بعيداً عنه في هذه اللحظة، إنطلق مسرعاً للداخل و هو يهتف بأعلى صوته :
-مــــــيرا… ميـــــرا.. ميــ ! .. و سكت فجأة
حين إصطدمت قدمه بشيء بجوار الدرج …
خفض رأسه ليرى هذا !!!!
حملق بصدمة في جسم إبنته المسجى أمامه غارقاً بالدماء …
-ميرا ! ..همس “سفيان” و قد تهاوت قدماه في لحظة
ركع إلى جانبها، إستطاع أن يشعر بحرارة دمائها التي لوثت ثيابه …
مد يداه صوبها، هزها برفق مكرراً همسه :
-ميرا !
بطريقة ما، عرف أن الوقت قد فات.. وقت ماذا ؟ لا يريد أن يفكر بها حتى !!!
كانت جثة الإبنة متكومة على وجهها، فدس يديه تحتها و رفعها ليسندها على ركبته… أزاح بيده المدماة الشعر عن وجهها
لتتضاعف الصدمة عندما يرى شحوبها التام، و إنطفاء عيناها النصف مغلقتين… إنفجر صوته صارخاً في هذه اللحظة و هو يضمها إلى صدره المتشنج :
-لاااااااااااااااااا.. ميــــــرآااااااااا.. ميــــــرآااااااا ردي عليااا. لأ مش ممكن.. لألأ. لأ.. لأاااااااااا. ميــــــرآااااااا. ميــــــراااااااااااااا !
و لم يعد يرى شيئاً تقريباً، فعيناه صارتا رطبتين، لا تنفك الدموع الملتهبة تنهمر منهما…حيث بدت بلا نهاية، إلا لو لحق بها !
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
ما أسرع النهايات !
و ما أفظع ما آلت إليه !!!!
من يصدق ؟؟؟ بعد كل هذا ينتهي الأمر على ذلك النحو… و ليته إنتهى !
في صبيحة يوم العطلة… كان نهار جيد جداً، فرآى إبنها أنها فرصة لإجتماع عائلي هناك في حديقة البيت الغنّاء، لعل ذلك يساعد أبيه على الخروج من حالته السيئة، و لو قليلاً
كانت “يارا” في طريقها إلى البيت، بعد أن ذهبت لإحضار الصغيرة من عند والدها.. عقب سماحه لها بأن تأخذها هي و تربيها في بيتها، و سيكون مرحباً به أي وقت يريد رؤية إبنته
حملتها “يارا” في السرير النقال خاصتها، و دخلت بها إلى المنزل… لوّحت لإبنتيها “يمنى” و “يسرا” حيث كانتا تجلسان في الشرفة العلوية تتناولا الفطور معاً
رأت من بعيد وسط الحديقة إبنها يجلس أمام والده مولياً لها ظهره، ذهبت إليهما فوراً
كان الإبن يتحدث إلى الأب كعادته دون أن يرد عليه الأخير، فهو قلما يتحدث مع الآخرين …
-بابا ! لو سمحت لازم تفطر. عشان العلاج.
و هنا وصلت “يارا” …
-صباح الخير ! .. هتفت مبتسمة بإشراق
نظر الإبن لها و لفت إنتباهه ما تحمله على يديها …
-صباح النور.. إيه إللي في إيدك ده يا ماما ؟!
شدت “يارا” كرسي بجوار زوجها و قالت :
-دي مفاجأة. روحت جبتلكوا ميرا و جيت !
تطلع “سفيان” إليها فوراً، خرج السؤال المعتاد عبر شفتيه كأنه يطرحه لأول مرة :
-فين ميرا ؟
-حضرتك إتكلمت أخيراً ! .. قالها الإبن متلهفاً
نظر “سفيان” له و قال مستغرباً :
-إنت مين ؟!
بُهت الإبن و قال مرفرفاً بعينيه بإرتباك :
-أنا ! أنا سفيان.. الداغر الصغير. إبنك. و دي أمي يارا !!
و أشار نحو أمه
نظر “سفيان” إلى “يارا” من جديد و قال :
-أيوه أنا عارف يارا.. فين ميرا ؟ فين بنتي يا يارا ؟!!
إبتسمت “يارا” له ببساطة، أزاحت الأغطية عن الرضيعة و حملتها من السرير الصغير، ثم قامت واقفة، مدت يديها بها صوب جدها قائلة :
-أهيه.. ميرا أهيه يا سفيان !
دقق “سفيان” النظر في تلك الرضيعة الجميلة، إنها حتماً تشبه إبنته.. لكنها ليست هي، فإبنته كبيرة …
-ميرا كبيرة يا يارا ! .. قالها “سفيان” محتداً
يارا بلطف : هي دي ميرا يا سفيان.
نظر لها بدهشة و قال :
-صغرت كده إمتى و إزاي ؟!!
هزت كتفيها قائلة :
-هي كده.. و كده أحسن يا سفيان. عشان تكبرها على إيدك من أول و جديد. إنت مش كان نفسك تقضي معاها طفولتها ؟ إنت كنت قولتلي كده. فاكر ؟!
عاد يتآمل وجه الطفلة من جديد، شعر بإنجذاب كبير نحوها، بدفء يتولد بمرور اللحظات بينهما، فنطق أخيراً :
-فاكر !
و من دون أن تضيف “يارا” كلمة أخرى، ناولته إياها، ليحملها هو على ذراعيه بحرص مصوّباً نظراته إلى وجهها البريئ… و لأول مرة بعد تلك الليلة المشؤمة يبتسم
إبتسم لها فقط، و بدأ يخلق معها لغة تواصل خاصة، لغة لا يفهمها سواهما …
رمقته “يارا” بنظرات راضية، و خبطت على كتف إبنها مشيرة له برأسها لكي يتبعها… قام “سفيان”… الإبن من مكانه و لحق بأمه
أحاط كتفيها بذراعه و هو يقول بإمتنان حقيقي :
-إنتي أعظم ست في الدنيا !
ضحكت “يارا” و قالت :
-حبيبي أنا ماعملتش حاجة. أي حد غيري كان ممكن يعمل كده.
-بعد موت ميرا على إيد عمتي وفاء كان شبه مدمر. لولاكي.. ساعدتيه. و إنهاردة متهيألي إنك ردتيله الروح تاني !
تنهدت “يارا” بعمق و توقفت عن السير.. إستدارت في مواجهة إبنها و قالت بلهجة هادئة :
-موت ميرا أختك.. و سجن عمتك.. و حالة أبوك دي.. بعد كل إللي حصل ده أنا حسيت إن ربنا خادلي حقي. رغم إني حاولت أخده طول السنين إللي فاتت.. كان درس ليا. درس بعمري. إن مهما حصلي ماحاولش أبلد مشاعري و أخلي قلبي حجر و أظلم حد زي ما إتظلمت.. إوعى تكون فاكرني شمتانة في أبوك يا عبد الرحمن. أبداً.. أنا بفهمك الرسالة إللي وصلتلي بعد العمر ده كله إللي قضيته شاغلة نفسي بفكرة إنتقام خسرتني كتير و ماكسبتش منها حاجة. و في الآخر حقي جه. و كان هايجي كده كده منغير ما أعمل أي حاجة. كل إللي ظلموني ذنبي خلص فيهم قدام عيني.
عبس قائلاً : بس دلوقتي بابا أضعف من إنه يظلمك أو حتى يخلص فيكي أي حاجة !
نظرت “يارا” نحو زوجها الذي إنشغل كلياً في عالم إفتراضي آخر مع نسخة إبنته المصغرة… إبتسمت و هي تقول برقة شديدة :
-أنا عارفة.. أنا مش عايزة منه حاجة خلاص. مش عايزة بس غير إني أفضل جمبه. أساعده.. و نكبر سوا ميرا الصغيرة.. مش هاتبقى بنته لوحده. هاتكون بنتي أنا كمان !
تــــــمت .
نتمنى لكم قراءة ممتعة زوار مدونة كامو الأعزاء
ولطلب اي رواية من اختياركم راسلونا على قناة التليجرام من هنا —-> مدونة كامو للقصص والروايات
أو على رسائل الصفحة الخاصة بالموقع على الفيس بوك من هنا —-> كامو للراوايات والقصص
وللمزيد من الروايات الرائعة يمكنكم تصفح الموقع والبحث عن أي رواية ترغبون بقراءتها من هنا —-> مدونة كامو