رواية فوق جبال الهوان الفصل الخامس 5 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان الجزء الخامس
رواية فوق جبال الهوان البارت الخامس
رواية فوق جبال الهوان الحلقة الخامسة
بعد مراقبةٍ حثيثة لعدةٍ دقائق في محيط هذه المنطقة المزدحمة بالمركبات المختلفة والمــــارة، وقع الاختيار على أحد بعينه، للقيام ضده بهذه الخطوة الجريئة، فالأخير كان مشغولًا بالحديث في هاتفه المحمول، وهو جالس في المقعد الأخير الملاصق للنافذة بالحافلة الصغيرة. تأهب “شيكاغو” في جلسته على محرك دراجته البخـــارية، غطى وجهه بطرف وشاحه، ثم حركها ببطءٍ إلى أن أصبح على مسافةٍ قريبة منه.
لسوء حظ هذا الفتى، كان يشعر بالاختناق من الزحام، فتعمد طرح جانبه الأيمن عبر النافذة، ليصبح ذراعه الممسك بهاتفه بارزًا لمن بالخارج، وانشغل في الحديث مع الطرف الآخر، دون أن ينتبه لزوج الأعين المراقبة له.
أعاد “شيكاغو” من جديد تقييم الموقف في رأسه، وحدد وجهته التي سينطلق ناحيتها بمجرد أن يتم مهمته، فالأجواء تقريبًا مهيأة للشروع في إتمــام ســــرقته.. حينما حانت اللحظة المناسبة، زاد من سرعة الدراجة، وفي غمضة عين اختطف من بين أصابع الفتى الصغير هاتفه الجديد ليزيد من سرعته، ويهرب في الحال.
استطاع سماع صراخه ينادي مستغيثًا:
-حــــرامي يا ناس، موبايلي اتســــرق.
في التو انحرف بدراجته عبر زقاقٍ جانبي، ومنه إلى آخر ليتجنب بحرفيةٍ أي محاولة لإلقاء القبض عليه. أصبح بعد برهةٍ بعيدًا عن الخطر، فأبطأ من سرعة دراجته، ونظر بتفحصٍ إلى غنيمته التي ظفر بها، راح يقلبها يمينًا ويسارًا وهو يحادث نفسه متسائلًا في تحير:
-يجيبله كام البتاع ده؟
لم يحاول التخمين كثيرًا، ووضعه في جيبه، ليعود إلى مقر إقامته، من أجل الترتيب مع شريكه لبيعه، والاستفادة من المبلغ الذي سيجنيه من ورائه في الترويح عن نفسه.
…………………………………..
أتـــاه أخيرًا التكليف الرسمي بحضور ذلك التدريب الهام، والذي سيعقد في إحدى قاعات المؤتمرات بواحدٍ من الفنادق الشهيرة في العاصمة. تحمس كغيره للتواجد هناك، وجلس مع باقي زملائه يتفقون فيما بينهم على ما يجب فعله للاستفادة بكل المنح المصاحبة لذلك. قال أحدهم كنوعٍ من الاقتراح:
-احنا نخلص تدريب الصبح، ونقضيها سهر بالليل.
رد عليه “راغب” ممازحًا:
-هو هيكون فينا حيل؟
لكزه في كتفه قائلًا بزهوٍ:
-يا ابني احنا بنتعامل معاملة VIP .. فرصة نستفيد بكل حاجة في الفندق.
سأله آخر في فضولٍ:
-على كده هتقول إيه لمراتك؟
التفت “راغب” تجاهه، وأجابه بملامحٍ جادة:
-مش هجيب سيرة طبعًا إنه في أفخم الفنادق، وهفضل أزن إنه حاجة فقر ووجع دماغ.
استغرب من تحامله عليها، وتساءل:
-ليه كده؟
قال بوجهٍ ممتعض:
-هتفضل تقولي خدني معاك، وأنا مش ناقص خانقة.
تصنع زميله الضحك، وقال وهو يسترخي في جلسته على المقعد:
-على رأيك الستات طول عمرها غاوية نكد ومشاكل.
بينما تساءل آخر عن شيءٍ يخص العمل:
-أومال هنعمل إيه في آ…؟
لم يبدُ “راغب” مهتمًا بمتابعة باقي الحوار، فقد انشغل باله في كيفية الترتيب لغيابه، ووضع زوجته أثناء ذلك. بالطبع تبادر إلى ذهنه إرسـالها للمكوث عند ذويه، لهذا استأذن للقيـــام بمكالمة ما ضرورية، فخرج إلى الرواق، وبحث في هاتفه عن رقم والدته ليتصل بها.
على عكس ما توقع، تفاجأ بوالدته –السيدة “نجاح”- تتذمر من الأمر:
-لأ يا “راغب”، مش هينفع معايا الكلام ده.
اندهش من رفضها القاطع هذه المرة، وسألها في استغرابٍ:
-ليه بس؟
أتاه صوتها مسترسلًا في الشرح:
-بصراحة كده أنا طالعة مع أبوك رحلة تبع النادي بتاعنا، ولو مراتك جت أعدت معانا، هنضطر ناخدها، وأنا مش عايزاها تيجي، هتفضل تبص لكل اللي بنعمله، وتبقى كابسة على نفسنا، وتعد علينا خطواينا.
اعترض على ظنونها السيئة تجاهها قائلًا بشيءٍ من التحيز:
-بس هي غلبانة، ودايمًا بتقوم بطلباتك، مافيش حاجة لو اتفسحت اليومين دول معاكو.
سمع نبرتها الحادة تُعلمه:
-ما تفسحها إنت على حسابك.
رد محتجًا:
-ما الجاي يدوب على أد اللي رايح.
علقت عليه في إصرارٍ:
-مش مشكلتي يا “راغب”، وبعدين دي وش فقر، وهتقول لأمها، ويفضلوا يؤروا علينا، واحنا مش ناقصين حسد، ولا نتنش عين.
سألها في تحيرٍ، وهو يتابع بناظريه أحد الموظفين المار بجواره:
-طب والعمل؟
جاء تعليقها فجًا بعض الشيء:
-ما تتنيل تفضل في بيتها، هيجرالها حاجة يعني؟
لوى ثغره متمتمًا بخفوتٍ، محاولًا عدم إظهار ضيقه:
-أنا مش متعود أسيبها لواحدها، وفي نفس الوقت مش عايزها تروح عند أهلها، الحتة اللي هما أعدين فيها صعبة شويتين.
غمغمت “نجاح” في غير مبالاة:
-الموضوع ما يخصنيش، أنا عايزة أغير جو مع أبوك، واصطفل إنت مع مراتك.
نفخ مليًا قبل أن يرد:
-ماشي يا ماما، اللي تشوفيه.
من جديد عاودت التشديد عليه لئلا يتراخى في وعده لها:
-أوعى بس تجيبلها سيرة عننا، سامعني يا “راغب”؟ لو هي عرفت يبقى منك، وساعتها هزعل.
على مضضٍ أخبرها:
-طيب.
أنهى معها المكالمة، وظل باقيًا في الرواق، ويده موضوعة على طرف ذقنه، راح يحكه لبعض الوقت، مستغرقًا في تفكيره، قبل أن يكلم نفسه حاسمًا المسألة:
-خلاص خليها تفضل في البيت، وأهي تعتبرها بجميلة إني وافقت على طلبها ده.
……………………………………
حينما تشرد كل شابة وتسرح بالخيال، تتمنى تحقيق الكثير من الأحلام، كان من أبسطها إقامة ليلة زفاف خياليـــة، يتحاكى الجميع عن مدى روعتها، وحضور كل المعارف والأقارب لتهنئتها؛ لكن ذلك أصبح مستبعد الحدوث، بل إنه صار من المستحيلات الآن بعدما تبخرت كل الأحلام، وسارت كالســـراب في الصحراء الجرداء.
لم تنضب دموعها أو تخف بالرغم من مرور الكثير من الوقت على تركها بمفردها في هذه الغرفة التي شهدت على اغتـــيال براءتها، وتحويلها إلى امرأة وضيــــعة قسرًا. لم تختر هذا المصير المشؤوم؛ لكنها سارت بإرادتها في الطريق الذي أودى بها في نهايته إلا ما لم تتوقع حدوثه، أمنت بعهود الحب، ووضعت ثقتها فيمن لم يحافظ على وعوده، فأصبحت كالمغيبة وانساقت وراء المجهول، حتى هوت في مستنقع مظلم، لا تعلم متى يمكنها النجاة منه.
تلفحت “مروة” بالغطاء، محاولة إخفاء معالم جسدها، كانت لا تزال على رجفتها، تبكي بأنينٍ وحـــرقة خسارة كل شيء، لم يترأف بها “كرم”، ولم يعبأ بما تعانيه من ظلم واضطهاد، ورغم يقينه من عفتها إلا أنه مضى للنهاية فيما عقد العزم عليه، حتى ظفر بمبتغاه، ونال مآربه.
انتفضت بهلعٍ حينما فتح باب الغرفة فجأة، ظنت أنه قد عاد لممارسة طقوس الغرام؛ لكن خابت توقعاتها، وجاءت فتاة أخرى تجهل هويتها، حملقت فيها بعينين ضيقتين حينما ولجت إلى الداخل وعلى ثغرها ابتسامة صغيرة، انكمشت على نفسها عندما رأتها تدنو منها قائلة في ودية تتناقض مع طبيعة الحياة القاسية هنا:
-ست “سمارة”، كويس إنك صاحية، أنا جاية آ…
ذلك الاسم البغيض الذي منحها إياه، كرهت سماعه، فهو يذكرها بمصيرها الملــــعون، اعتدلت في رقدتها، وقاطعتها صارخة بحدةٍ:
-محدش يقرب مني.
توقفت الفتاة في منتصف المسافة إليها، وبررت سبب وجودها بالحجرة لئلا تسيء فهمها:
-كوبارتنا باعتني ليكي علشان أساعدك.
نظرت إليها بعينين حائرتين، وكأنها لم تتفقه بعد إلى هوية ذاك الذي تتحدث عنه، فأوضحت لها من تلقاء نفسها:
-كبيرنا “الهجـــام”، اللي إنتي نايمة على فرشته.
اللعـــين الذي اقتحمها ودنس طهرها! أصابها الغثيان، وانقلبت سحنتها لمجرد ذكرها لاسمه، ناهيك عن شعور الألم الذي ما زال يعصف ببواطنها، فدمدمت من بين شفتيها في اهتياجٍ:
-الحــيوان، القـــذر!
صدمت الفتاة من نعتها المسيء إليه، وتوجست خيفة من سماع أحدهم لسبابها، فذلك يعني الوقوع في مشكلة خطيرة، في التو هرولت عائدة نحو الباب لتغلقه منعًا لتلصص الغير عليهما.
لم تكن “مروة” قد لمحت ما تحمله في يدها، فتجمدت نظراتها على الثياب النظيفة التي معها، والفتاة قد استدارت لتخبرها بلهجةٍ شبه آمرة:
-اغسلي جسمك بالمياه، والبسي الهدوم دي.
مهمتها كانت محددة، إعدادها وتزيينها لتظهر في أبهى طلة، ولتكون على أهبة الاستعداد حينما يتم استدعائها من قِبله.
تكرار نفس التجربة، ومعايشة نفس الأحداث المؤلمة، لمجرد إشباع رغبة أحدهم في استباحة ما تمتلكه بغض النظر عن كونه مشروعًا من عدمه جعلها أكثر نفورًا واشمئزازًا.
رفضت الانصياع لها، وقفزت من على الفراش باحثة عما يساعدها على الفكاك من هنا، وإن عنى ذلك التضحية بنفسها. ألقت نظرة سريعة على أنحاء الغرفة، فوقعت عيناها على مرأة التسريحة، فبها ما يصلح للاستخدام، لم تفكر مرتين، واتجهت نحوها، ثم أمسكت بزجاجة عطر ضمن المجموعة الموضوعة عليها، ضربتها في الحائط ليتهشم زجاجها في الحال، وينسكب عطرها الثمين على جلدها وكذلك الأرضية. لم تهتم بالقطع الذي حز في جلدها، ولا بالدماء التي سالت في راحتها، استخدمت الطرف الحاد كأداة إما للزود عن نفسها أو القضاء عليها، فكلا الحالتين لن تخسر نفسها مجددًا.
شهقت الفتاة في ذعرٍ حينما رأتها تتصرف بجموحٍ، وسألتها وهي تتحرك صوبها بتوجسٍ قلق:
-إنتي بتعملي إيه يا ست “سمارة”؟!
أطلقت عليها تهديدها العلني بلا ندمٍ:
-أنا هموت نفسي.
برقت عيناها ذهولًا، فأكملت “مروة” في صوتٍ مختنق، وعيناها تعاودان البكاء مجددًا:
-منكم لله يا ظلمة، حرمتوني من حياتي، وضيعتوني…
ثم انخرطت في نوبة بكاءٍ عنيفة ومتحسرة وهي لا تزال تهسهس:
-أنا مش كده، أنا بنت ناس.
حاولت الفتاة إقناعها بالتوقف عما تفعل، ورجتها:
-يا ست “سمارة” بلاش كده، هتودي نفسك في داهية، الكوبارة عايزك.
تمسكت أكثر برغبتها في استدعــــاء ملك المــــوت، وصرحت مؤكدة:
-المـــوت أهون عليا من إني أعيش في العـــار!
تطلعت إليها في حيرةٍ وخوف، عجزت عن منعها من التصرف بتهورٍ، لتقرر بعدها حاسمة أمرها في الحال:
-ما بدهاش لازمًا أبلغ كبيرنا.
ثم اندفعت إلى خـــارج الغرفة ركضًا باحثة عن صاحب النفوذ والسلطة لتبلغه برغبة امرأته الجديدة في الانتحـــــــــار.
تجمدت “مروة” في موضعها، وتضاعفت رعشتها، لم تتوقع أن تنتهي بها الأمور إلى ذلك، بكت، وارتفع نحيبها، حتى كادت تسقط الزجاجة المكسورة عن يدها؛ لكن ما لبث أن طرأ ببالها فكرة أكثر جنونًا، لما لا تعاقب المسيء بدلًا من تحمل الذنب وحدها؟ أليست هي الضحية؟ ألم يتم جبرها على البقاء معه؟ استحوذت هذه الفكرة على كامل تفكيرها، وقررت مواجهة خصمها وإجباره على دفع ثمن جرائره في حقها.
…………………………………………
في الهواء الطلق، وتحديدًا فوق سطح هذه العمارة، استلقى “حمص” جالسًا على أريكته القديمة، مستمتعًا بارتشــاف كوب شايه الساخن، وتدخين سجائره المفضلة، سرعان ما سلط أنظاره نحو باب السطح، عندما دفعه “شيكاغو” بقوةٍ ليفتحه، ثم اتجه إليه، ليجلس في مواجهته على مصطبةٍ قديمة، أصدر خشبها صريرًا مزعجًا بمجرد جلوسه عليها. سأله الأول في استرخاءٍ:
-أعملك شاي في الخمسينة؟
تجاهل إجابته، ومد يده بالهاتف المحمول ليعطيه له قائلًا في نبرة متحمسة:
-شوفلنا صرفة في العدة دي.
أخذه منه، وراح يفحصه بتدقيقٍ شديد، ثم سأله، وعيناه لا تزالان تدوران عليه:
-إنت وقعت على الحتة دي منين؟
أجابه في تفاخرٍ:
-نشلته من واحد وهو بيتكلم في الميكروباص.
استحسن مبادرته غير المتوقعة مبديًا إعجابه به:
-يا ابن اللاعيبة.
تابع “شيكاغو” كلامه في تبرمٍ:
-ما الحالة ضنك وجيوبنا مأشفرة على الآخر.
تساءل “حمص” مستفهمًا وهو يغمز له بطرف عينه:
-إيه الكلام؟ هنرجع للسرقة تاني؟
رد عليه في سخط ساخر، وقد تجهمت تعبيرات وجهه:
-هو احنا كنا بطلناها أولاني!
لم يجادله كثيرًا، ورد وهو يزيل بطاقة الهاتف من مكانها المخصص به:
-زي ما تحب.
تابع “شيكاغو” مضيفًا في غموضٍ مثــير:
-في دماغي حوار كده، لو ظبط هنطلع منه بسبوبة عجب.
تحمس رفيقه لمشاركته الأمر هاتفًا:
-أيوه بقى، شغل الجمجمة، وخلينا نتنغنغ!
مرة أخرى تساءل “شيكاغو” مستوضحًا:
-ما قولتليش هتديه لمين؟
بعد لحظةٍ من التفكير أخبره:
-مافيش غيره “سِنجة”، هو اللي يعرف بتوع الموبايلات المســـروقة، ليه سكة معاهم.
زم شفتيه قليلًا، وقال:
-بس خليه يجيبلنا فيه سعر حلو، العِدة شكلها جديد، وتستاهل.
هز رأسه معقبًا:
-ماشي الكلام.
………………………………………….
في حفاوةٍ شديدة، ومشاعر أخوية صادقة وعميقة، استقبل “الهجام” شقيقه الأصغر الذي أنهى لتوه فترة احتجازه بالسجن، ليصطحبه إلى الباحة الرئيسية لمنزله وهو يلف ذراعه حول كتفيه معاتبًا إياه:
-بقى “زهير الهجام” يجي التَبَّة كده على الساكت؟
أخبره “زهير” في هدوءٍ:
-إنت عارفني ما بحبش الدوشة.
هنأه من جديد وهو يربت على ظهره:
-مبروك عليك الإفــراج.
نظر إليه “زهير” بنظرة موحية قبل أن يقول:
-أنا عارف إنك لبستها لحد تاني علشان تطلعني منها.
ابتسم قليلًا، بل على العكس لم ينكر شكوكه، وأكد له:
-ما أنا مش هسيبك تعفن في المخــــروبة دي…
لم يبدُ مقتنعًا بتصرفه، فتابع “كرم” الكلام بعدما اختفت ابتسامته:
-وبعدين احنا ورانا شغل برا أهم.
أفســـد عليه لحظة الصفاء الخاصة مع شقيقه صراخ الفتاة المستنجد:
-اِلحق يا كوبارتنا، في نصيبة هتحصل يا كبير.
التفت ناظرًا إليها متسائلًا في ضيقٍ:
-في إيه يا بت ما تتكلمي؟
من بين لهاثها، أخبرته بصوتٍ متقطع
-الست “سمارة” عايزة تنتــــــحــر!
لم تهتز له عضلة، وقال في استخفافٍ هازئ:
-وجاتلها الجرأة دي منين؟
في حين سيطرت الحيرة على “زهير”، وتساءل وهو يوزع نظراته بين شقيقه وتلك الفتاة:
-مين دي؟
وكأن شأنها لا يعنيه البتة، فقال وهو يستحثه على السير معه:
-هفهمك بعدين.
تحيرت الفتاة في كيفية التعامل مع هذه المسألة الحرجة، وتساءلت بترددٍ:
-العمل إيه يا كبيرنا؟
اخشوشنت نبرته وهو يعنفها في غلظةٍ:
-إنتي مش شايفاني أعد مع أخويا؟
رد عليه “زهير” في قلقٍ شبه ملحوظ:
-يا عم سيبك مني، وقوم إلحقها.
استمر على عدم مبالاته مرددًا في تبجحٍ:
-كبر دماغك، تروح واحدة.. ييجي مكانها عشرة.
أغاظه للغاية تصرفه غير المسئول، فراح ينذره بغير تساهلٍ:
-“كـــــرم”! اتصــرف وحل الليلة دي، إنت عارف مبدأي، ماليش في اللي يضر لا العيال ولا الحريم، ومش هسكت.
بدا وكأنه يستهزئ به بشكلٍ ما عندما علق عليه:
-طول عمر قلبك رهيف ناحيتهم.
في غير خوفٍ أخبره:
-كفاية واحد طالع قاسي القــلب، مش هنبقى احنا الجوز.
أومأ برأسه هاتفًا بعد زفرة سريعة:
-علشان خاطرك بس.
…………………………………….
بعض الندبات يمكن أن تُشفى مع الزمن، والبعض الآخر لا يمكن محو آثارها المؤلمة حتى من الذاكرة، وكانت تلك إحداهن. أسرع “كرم” مع شقيقه في خطاهما نحو غرفة النوم، ولج الأول إلى الداخل ملقيًا نظرة متأنية على “مروة” التي حشرت نفسها بالزاوية وهي لا تزال ممسكة بزجاجة العطر المكسورة، تبعه شقيقه الأصغر، وتطلع إليها بغرابةٍ وفضول، فمن نظرته التقييمية الأولى أدرك أنها تعاني الويلات بتواجدها هنا، خاصة إن كانت متورطة مع زعيم هذه المنطقة.
صاح “كرم” في نبرة آمرة، ونظرة ازدراء ساخطة تطل من عينيه:
-إرمي يا بت البتاع ده من إيدك.
مجرد رؤيته بهيئته المتسلطة، أصابها بالمزيد من النفور والكراهية، انتفضت خلايا جسدها، وصرخت في وجهه بحرقةٍ عظيمة:
-إنت ضيعتني يا ظـــالم! منك لله، ربنا ينتقم منك.
منحها نظرة احتقار صريحة قبل أن يقول في تهكمٍ:
-شوف البجاحة، جيالي من عند “توحيدة”، وعايزة تعملي فيها شريفة وطاهرة!!!!
تقدم “زهير” في خطواته ليصبح مجاورًا له، وسأله بصوتٍ خفيض:
-إنت عملت معاها إيه؟
أدار شقيقه وجهه ناحيته، وتطلع إليه بنظرة ذات مغزى، ليردد بعدها بلمحةٍ من التفاخـــر:
-اللي فهمته وجه في دماغك.
لم يكن بحاجة لتفسير كلماته المتوارية، وسأله مباشرةً:
-بالحلال ولا؟
تقوس فمه مجيبًا في غير مبالاة:
-هو أنا بتاع الحـــلال؟ ليلة وانقضت، أنا حتى مش فاكر اسمها إيه.
عبارته الأخيرة كانت مستفزة للغاية، فاستثارت أعصابها، وجعلتها على شفير الجنون، لتصيح في هيــــاجٍ أكبر:
-أه يا جبــــان، يا واطــــي.
ثم اندفعت تجاهه، قاصدة إصابته برأس الزجاجة المكسورة في عنقه؛ لكنه نجح في تفادي ضربتها بغير عناءٍ، ليمسك بها من رسغها، ثم مد يده الأخرى وقبض على ذراعها، فأصبحت واقعة تحت أسره تقريبًا، حاول تثبيط مقاومتها بقوةٍ، وقال في تحدٍ مغيظٍ لها:
-يا بت إنتي مش أدي، ما تعرفيش أنا مين.
استمرت في شحذ قواها الحانقة للانقضاض عليه، وراحت تصيح في غضبٍ أشد:
-اللي زيك لازم يمــــوت.
جاء رده مستخفًا بها:
-كتير قالها قبلك، بس ولا واحد قدر عليا.
حاولت، وظلت تحاول بكل طاقاتها لإفلات يده، وبلوغ جلد عنقه، ومع ذلك باءت كافة محاولاتها بالفشل، ليتمكن في النهاية من نزع الزجاجة من يدها، ويلقيها أرضًا، ثم قبض على عنقها، وضغط بأصابعه عليه ليخـــــنقها، فانحشرت أنفاسها، وباتت تصارع للبقاء على قيد الحياة.
في التو تدخل “زهير” لإنقاذها من بين براثنه قائلًا في جديةٍ تامة:
-“كــرم”! انهي الحوار ده من غير مصايب.
لم يحل يده عنها، وأخذ يزيد من ضغطه لتشعر بقرب هلاكها، فابتسم في نشوةٍ لرؤيتها على تلك الحالة المُـــستميتة، وتكلم ببرودٍ تام:
-خليني أجيب أخرها معايا، وأبقى ريحتها من الدنيا بحالها.
قبل أن تزهق روحها، استطاع “زهير” فك أصابعه عن عنقها، وإبعادها عنه بدفعها للخلف، فانطرحت أرضًا من إثر الدفعة الخشنة، وراحت تسعل بقوةٍ محاولة التقاط أنفاسها، بينما وقف “كرم” يهددها:
-ولا أقولك الأحسن أقص لسانها بس، حاجة بسيطة تعرفها أنا مين بالظبط.
منعه من الاقتراب منها مجددًا وهو يكلمه في ضيقٍ:
-خلاص سيبها، ورجعها عند “توحيدة”.
صاح معترضًا في تذمرٍ:
-ليه عايزهم يقولوا إني طلعت خيخة؟ حتت حُرمة مش قادر عليها؟!!
قال في تحيزٍ:
-ما كفاية اللي إنت عملته فيها.
لم تيأس “مروة” من تكرار المحاولة، بمجرد أن استعادت انتظام أنفاسها أمسكت بالزجاجة المكسورة، واستندت على مرفقيها، لتنهض من رقدتها حتى تنقض عليه، ومع ذلك لم تفلح هذه المرة أيضًا، بل إنه سدد لها لكمة مباغتة في وجهها أفقدتها الوعي في الحال، وأسقطتها على الأرضية. بصق فوقها، وكاد يهجم عليها، لولا أن منعه “زهير”، وأبعده عن محيطها، لينعتها بسبابٍ لاذع.
بصعوبةٍ تمكن من إخراجه من الغرفة، ليستمع إلى “كرم” وهو يهدر في ضيقٍ:
-لولا إنها بت غبية وخام كنت شردتها، وخليت الكل ينهش في جتتها.
استرعى وصفه لها انتباهه، فوقف قبالته، وطالعه بنظرة مستريبة، ليقطب جبينه متسائلًا في غرابةٍ:
-قصدك إيه؟
أوضح له ببساطةٍ:
-كانت بسلوفانها لسه.
وكأنه صدمه بالحقيقة التي لم يتوقعها، فهتف مستنكرًا بشدة:
-كمـــان؟!
استطاع أن يرى شبح تلك الابتسامة المزهوة الذي لاح على ثغره عندما أضاف:
-الصراحة كانت أول حاجة تيجي عدلة من عند “توحيدة”….
ضاقت عيناه باستنكارٍ، بينما استمر شقيقه في الاعتراف له:
-وبيني وبينك.. وأنا لسه ماشبعتش منها.
في التو أخبره “زهير” بلا مزاحٍ:
-لو البت دي فضلت هنا يبقى لازم يكون في بينكم ورقة جواز، حتى لو عرفي
زجره “كرم” بتعصبٍ:
-جرى إيه يا “زهير”؟ إنت جاي تعمل عليا شيخ؟
رد عليه في تصميمٍ:
-إنت عارف إني ماليش في النجـــاسة، ولا بقبل بيها.
رمقه بهذه النظرة القاسية قبل أن يعقب عليه:
-بس أنا عاجبني الحوار كده، وبعدين هي اللي جت عندي بمزاجها.
بدا كما لو كان يحدثه عن امرأة فاضلة، تشتهر بحسن أخلاقها، غير تلك التي عاهدها منذ زمن، ويحفظ عن ظهر قلب حقيقتها المؤسفة، استهجن “زهير” كلامه مرددًا في انزعاجٍ:
-هو أنا مش عارف “توحيدة” بتجيب اللي شغالين عندها إزاي؟!!!
سئم “كرم” من جدالهما السقيم، واستطرد في حزمٍ:
-قفل على الحوار ده، أنا دماغي وَنت منه.
همَّ بالتحرك؛ لكنه استوقفه بالإمساك به من ذراعه، ليطلب منه في جدية:
-رجعها من مطرح ما جت، ده الأحسن طالما مالكش في سكة الحلال.
كان يعلم تمام العلم أن شقيقه لن يكف عن إثارة هذا الأمر طالما أنه يخالف أهوائه والقواعد التي يفرضها على نفسه، لهذا كان من المريح له أن يرجئ النقاش فيه إلى أن يتغافل عنه أو ينساه، فقال متجاوزًا الحديث في شأنها:
-هشوف، وتعالى ناكل لقمة.
سأله في لمحةٍ من التعاطف:
-وهتسيبها كده مرمية؟
نفخ في غير صبرٍ، ثم رد بسخطٍ:
-يعني هتروح فين؟
طلب منه في جديةٍ:
-شوف حد يطمن عليها.
هز رأسه مرددًا:
-ماشي، خلينا بس فيك دلوقت.
ثم استحثه على السير معه بعيدًا عنها ليكملا حوارهما الجاد عن الأعمال العالقة التي تخص مصالحهما.
………………………………..
طيَّع الأمور لصالحه، وحول مجراها في اتجاه جعله يبدو وكأنه صاحب الفضل في إسعادها وتحقيق رغباتها، حيث أخبر “راغب” زوجته فور رجوعه من عمله بموافقته على بقائها في المنزل، وعدم إرسالها للإقامة عند أبويه، لتبتهج وتسر من قراره الذي أراحها للغاية. احتضنته “إيمان” في امتنانٍ، وسألته في غير تصديقٍ وعيناها تلمعان في فرحة:
-بجد يا “راغب”؟ إنت بتتكلم جد؟
أبعدها عنه قائلًا بتأكيد وقد بدأ في حل عقدة رابطة عنقه:
-أه طبعًا، ما أنا ما يهونش عليا أزعلك.
عاودت ضمه قائلة في سرورٍ:
-ربنا يخليك ليا، هو أنا بحبك من قليل.
تحولت نبرته للعبثية وهو يسألها:
-ومافيش بقى مكافأة حلوة ليا؟
تدللت عليه قائلة بترحابٍ:
-اللي إنت عايزه يا حبيبي، اطلب وأنا أنفذ.
سكت لهنيهةٍ، ثم قال وهو يرمقها بهذه النظرة الطامعة لما يلبي رغباته:
-طب أنا عايزك ترقصيلي شوية؟
ابتسمت في خجلٍ، وقالت وهي تهز رأسها إيجابًا:
-من عينيا.
استلت رابطة عنقه التي حلها من ياقة قميصه، لتلفها حول خصرها، ثم تراجعت عدة خطوات للخلف لتسأله في استحياءٍ:
-عشرة بلدي، مظبوط؟
قال في إيجازٍ وهو يجلس على الأريكة متخذًا وضعية المشاهد:
-أيوه.
وأدار المسجل الالكتروني مستخدمًا جهاز التحكم عن بعد، ليبحث عن أغنية مناسبة لتتمايل عليها في خفة وليونة، وحين وجد ضالته تركها تفعل ما تجيده برشاقةٍ وتدلل، ليظل يُطالعها بهذه النظرة المفتونة حتى تأججت به الرغبة، وصار أكثر لهفة عليها.
………………………………………
فضَّل هذه المرة أن يأتي بمفرده، ليكون حديثه معه مباشرًا وموجزًا، بعدما تلقى دفعة من المال لتأدية هذه المهمة التي بدت إلى حدٍ ما سهلة ويمكن إنجازها بشيءٍ من التهديد والتخويف.
اقتحم “سِنجة” المخبز بتبجحٍ، ورفع من نبرته هادرًا في خشونةٍ وتحفز:
-شوف يا حاج “درويش”، هما كلمتين أنا جاي أقولهم وأمشي…
تفاجأ الأخير بوجوده، فقلما تعامل معه، ونهض من على كرسيه ليواجهه في ضيقٍ، خاصة مع هروب الزبائن بمجرد رؤيتهم لذلك البلطجي بالمكان، تابع كلامه إليه على نفس الوتيرة:
-عم “فهيم” ترجعله حقه، يا إما هتلاقي الفرن ده سقفه في حلقه.
في التو عرف سبب تواجده، وقال بغير اكتراثٍ ضاربًا بعكازه الأرضية:
-إنت جاي تهددني ياض إنت؟ هو إنت ما تعرفش أنا تبع مين؟
تحداه في جراءة كبيرة، مستفزًا إياه عن عمدٍ:
-لأ عارف كويس، واللي إنت محمي بيه ما يجيش مداس في رجل كوبارتنا.
استشاط غضبًا من تهديده السافر، وهدر في عصبيةٍ:
-طب اتمشى من هنا بدل ما أخلي رجالتي تحطك على السِير، وتسويك مع العيش.
قابل كلامه بمزيدٍ من التحدي:
-ده آخر ما عندك؟
أكد له بلا خوفٍ مطوحًا بعكازه في وجهه:
-أه، ووريني إنت والكوبارة بتاعك هتعمل إيه؟
استخف به مرددًا في تجبرٍ:
-زي الفل، ما ترجعش تعيط بقى يا حاج، وتقولي حقي برقبتي.
زعق فيه بغيظٍ:
-انجر ياله من هنا!
ثم نادى على عماله بوجهٍ مشتعل من الغضب:
-اكرشوه برا الصــايع ده.
انصاع العمال لأمره، وتجمعوا حوله على هيئة هلالٍ لطرده خارج المخبز؛ لكنه أشهر مديته في وجوههم محذرًا إياهم:
-إيدك لأقطعهالك منك ليه!
ترددوا في هجومهم عليه، خاصة أن “سِنجة” كان بارعًا للغاية في استخدامها، ويجيد إصابة خصومه من المرة الأولى، ورغم ذلك غادر المخـــبز بعدما أطلق سبّة نابية لكونه يعلم جيدًا أن الكثرة تغلب الشجاعة، فمهما كان جريئًا ومقدامًا، هناك بعض المواقف التي تتطلب الحكمة فيها. غضب “درويش” مما اعتبره تخاذلًا مشينًا من قبل عماله، وراح يعنفهم في سخطٍ وهو يضربهم بعكازه:
-مالكم؟ بقى حتت البرص ده خايفين منه؟
تولى أحدهم الكلام عن البقية مبررًا:
-يا حاج ده واد شراني، واللي وراه أشـــر منه.
وكزه في ذراعه متمتمًا من بين أسنانه:
-وأنا مش هسكت عن اللي عمله ابن الـ …. ده!
……………………………….
أرادت تعويض والدتها الغالية عن المعاملة الفظة التي تعرضت لها في منزلها قبل وقت سابق على يد زوجها، كان من غير المستحب أن تعتمد فقط على مكالمة هاتفية روتينية لاسترضائها، لهذا قررت مفاجأتها، واستغلال فرصة سفر “راغب” للذهاب لرؤيتها، وتمضية بعض الوقت بصحبة عائلتها التي تشتاق إليهم كثيرًا.
تأنقت “إيمان” في عباءة محتشمة، من اللون البيج الفاتح، واستوقفت سيارة أجرة لتطلب من سائقها إرسالها لأقرب نقطة تَذكُرها عن عنوان العائلة الجديد بالقرب من الوحدة الصحية الرئيسية لهذه المنطقة. وأثناء ذلك قامت بمهاتفة أمها، انتظرت ردها عليها بصبر نافد، بمجرد أن سمعت صوتها سألتها في لهفةٍ وشوق:
-عاملة إيه يا ماما؟ وحشاني أوي.
ردت الأخيرة باقتضابٍ:
-كويسة.
سألتها في صوتٍ رقيق:
-إنتي لسه زعلانة مني؟
على نفس النهج الجامد قالت:
-عادي.
رجتها في نبرة شبه مستعطفة:
-بالله عليكي يا ماما ما تضايقي من اللي حصل، إنتي عارفة “راغب” لما بيرجع من الشغل بيكون على أخره.
أخبرتها في ضيقٍ محسوس في صوته:
-فضينا من سيرته.
استطردت “إيمان” قائلة بحماسٍ:
-طب أنا عايزة أشوفكم.
سألتها في استغرابٍ مطعم بالسخرية:
-معقولة جوزك سمحلنا نيجي عندك؟
بالكاد سيطرت على مشاعرها المتحمسة وهي توضح لها:
-لأ، أنا اللي هجيلكم.
استطاعت سماع اللهفة في نبرة والدتها وهي تسألها لتتأكد مما سمعت:
-بجد؟
أكدت لها بابتسامة أشرقت كامل ملامحها:
-أيوه، ده “راغب” بنفسه اللي موصيني أعمل كده، وبعدين أنا بكلمك من التاكسي، قدامي شوية وأوصل عند الوحدة الصحية، بس مش عارفة مكانكم فين بالظبط بعدها.
في التو علقت عليها “عيشة” بنفس النبرة اللهفى:
-أنا هبعتلك “دليلة” تستناكي هناك، وهي هتجيبك لحد عندنا.
ردت عليها دون أن تفتر بسمتها:
-ماشي يا ماما.
………………………………
حُسم الأمر بإعادتها إلى المكان الذي جاءت منه، ريثما يوفق “الهجام” أوضاعه معها، فإن أراد الاستمرار في هذه العلاقة عليه أن يوثقها بشكلٍ ما، وإلا لتركها لحال سبيلها، وكف شأنه عنها، فما كان من الأخير إلا أن رضخ –على مضض- لرغبة شقيقه احترامًا لما بينهما من روابط أخوة أصيلة ومتأصلة. جاءت “خضرة” لأخذها بناءً على التعليمات الصادرة، ولضمان تنفيذ ذلك، ذهب “زهير” معهما، وجلس في المقعد الأمامي للسيارة، تلك التي كان محركها يزمجر بصوتٍ مزعج، مما اضطره لإخبار السائق بضرورة إرسالها للصيانة للكشف عن العطب بها وإصلاحه.
مالت “خضرة” على “مروة” لتهمس في أذنها بصوتٍ خفيض:
-اقسم بالله إنتي محظوظة، لولا الريس “زهير” كان زمان خبرك اتقطع.
حانت من الأخيرة نظرة خاطفة نحو المرآة الجانبية للسيارة، لتتطلع إلى وجه ذلك الشهم الذي أخرجها من جحيم شقيقه، فلم تتبين ملامحه بسبب الزجاج المغبر، استمرت تلك الثرثارة في الهمس لها بشيءٍ من الحقد والحسد:
-مين أدك دلوقت؟ الكوبارة راضي عنك، وأخوه واقف في صفك.
تصعبت بشفتيها بعدها، وأكملت حديثها في نفس النبرة الخافتة:
-لأ، وكمان راجعة عند الست “توحيدة” في تشريفة ما تحلمش بيها أي بت….
أخرجت “خضرة” من بين شفتيها تنهيدة حالمة، قبل أن تقول في نبرة مُتمنية:
-يا ريتني كنت مكانك!
……………………………..
في تلك الأثناء، أسرعت “دليلة” في خطاها بعدما ارتدت ثيابها الرياضية لتلتقي بشقيقتها عند الوحدة الصحية التي تقبع بالقرب من الطريق الضيق المؤدي في نهايته إلى آخر يفضي للشارع الرئيسي الذي تقع بنايتهم في امتداده. احتضنتها في تشوقٍ واشتياق، ونظرت إليها بسعادةٍ قبل أن تخاطبها في سرورٍ:
-مش قادرة أقولك ماما فرحانة إزاي إنك جاية النهاردة.
ظلت على ملامحها الوديعة وهي تخبرها:
-وأنا كمان والله.
تساءل “دليلة” في قليلٍ من الشك:
-بس إزاي “راغب” سابك تيجي عندنا؟
تلبكت من سؤالها، وقالت في ترددٍ بائن في نبرتها:
-أصله آ.. سافر يومين تدريب تبع شغله…
ثم سكتت للحظةٍ، وأضافت وهي مطرقة لرأسها:
-والصراحة هو ما يعرفش إني جاية عندكم.
غامت تعبيرات وجه “دليلة” معلقة في ضيقٍ:
-بقى الحكاية كده!
مدت “إيمان” يدها لتمسك بكف شقيقتها، ورجتها في حرجٍ:
-أوعي تقولي لماما لأحسن تزعل، أنا مفهماها إن “راغب” باعتني أصالحها.
بامتعاضٍ عقبت:
-اطمني، ماما مش ناقصة نكد.
تأبطت كلتاهما ذراعي بعضهما البعض، وسارتا على مهلٍ في الطريق الضيق، قبل أن ينتقلا للآخر، و”إيمان” تتساءل في اهتمامٍ:
-وبابا إزيه؟ صحته عاملة إيه؟
تنهدت “دليلة” قبل أن تجيبها في شيءٍ من الإسهاب:
-الحمد لله، كل يوم بينزل، بيفضل غايب طول النهار، ويرجع على الغدا، وبعدين ينزل تاني.
سألتها مستفهمة:
-بيروح الفرن اللي مشارك فيه؟
هزت كتفيها مرددة:
-الظاهر كده، بس الصراحة أنا معرفش مكانه فين لسه…
نظرت إليها بتحيرٍ، فأكملت “دليلة” موضحة بابتسامةٍ ساخرة تجسدت على زاوية فمها:
-أصل ماما مش عايزاني أتجول في المنطقة، إنتي لو تشوفي نوعية الناس اللي فيها هتعرفي إن هي معاها حق.
ظهرت أمارات التأفف على وجه “إيمان” وهي تخبرها بلا مجاملةٍ:
-بصراحة شكل المكان بيئة أوي.
أحنت شقيقتها رأسها في أسفٍ، وقالت:
-بلاش تيجي على الجرح، أنا مستحملة بالعافية.
مدت يدها الأخرى لتربت على كفها قائلة في تفاؤلٍ:
-إن شاء الله تنقلوا من هنا قريب.
حررت زفرة سريعة من رئتيها ليتبعها قولها:
-يا ريت، نتمنى ده.
في تذمرٍ منزعج تساءلت “إيمان” وهي ترفع ثوب عباءتها لئلا تتسخ:
-هو المجاري طافحة في كل حتة كده؟
أجابتها شقيقتها بعبوسٍ:
-مافيش صرف أصلًا هنا.
على قدر المستطاع حاولت “دليلة” إبعادها عن بِرك مياه الصرف الراكدة، وذات الرائحة المنفرة، وتجنب مركبات التوكتوك التي تتسابق وتتزاحم مع باقي السيارات، لتجعل الحركة في غاية الصعوبة، مما جعل الاثنتان عرضة للرذاذ المتناثر من مرورهم على تلك البرك. شهقت “إيمان” صارخة في فزعٍ عندما مر إطار سيارة بعينها على تلك البركة العميقة، ونثر كمية كبيرة من المياه غير النظيفة على عباءتها، فأغرقها وأفسد هيئتها في الحال.
اغتاظت “دليلة” مما حدث لشقيقتها، وهدرت في غضبٍ منفعل وملوحة بيدها في الهواء:
-إنت غبي؟ أعمــــى؟ مش شايف الناس اللي ماشية في الشارع؟ داهية تاخد أشكـــالكم!!
صوتها الصارخ والمهين وصل إلى مسامعه بالرغم من ارتفاع زئير المحرك، فسلط “زهير” عينيه الثاقبتين على المرآة الجانبية الملاصقة لموضعه، لينظر إلى صاحبته الباحثة عن المشاكل، رآها من زاويته، تنحني قليلًا نحو أخرى تلطخت عباءتها، محاولة تنظيفها. ضرب بقبضته على الباب المعدني، وأمـــر السائق بنبرة لا تُرد:
-وقف العربية عندك ………………………………!!!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية فوق جبال الهوان)