رواية فوق جبال الهوان الفصل الثالث 3 بقلم منال سالم
رواية فوق جبال الهوان الجزء الثالث
رواية فوق جبال الهوان البارت الثالث
رواية فوق جبال الهوان الحلقة الثالثة
من بعيد، بدت الهالة المحيطة به وكأنه شخصية مثقفة، غير عُـــدوانية، راقية إلى حدٍ ما، تتحاور بالمنطق والعقل، بسبب إنهائه لتعليمه الجامعي، وحبه للمعرفة والعلم، وما أكد على ذلك اهتمامه الدائم بالقراءة ومطالعة الكتب المختلفة الموجودة في المكتبة الملحقة بالسجن؛ لكن في حقيقة الأمر كان هذا هو المكان الوحيد الذي اعتاد أن يُجري فيه صفقاته السرية، ويرتب لإدارة كافة الأمور الهامة دون إزعاجٍ من الآخرين.
جلس “زهير” بشيءٍ من الشموخ على طاولته القريبة من النافذة، يستمتع بتسلل أشعة الشمس عبر زجاجها المفتوح، وفي يده هذا الكتاب، شرد يتأمل الحديقة المتواضعة عبر القضبان المعدنية، أما أمامه فاستقر أحد النزلاء يتطلع إليه بترقبٍ، فقد كان يخشى من احتمالية رفضه التدخل في حل معضلته العويصة، وخصوصًا وهو محتجز هنا، وعاجز عن التصرف بأريحية مثلما كان بالخارج وفي يده زمام السلطة. ازدرد النزيل ريقه، وسأله بحذرٍ:
-إنت مردتش عليا لسه؟
دون أن يكلف نفسه عناء النظر ناحيته أخبره بعجرفةٍ:
-ما أنا ما شوفتش منك أمارة.
زوى ما بين حاجبيه متسائلًا:
-قصدك إيه؟
هذه المرة حملق فيه بنظرة قوية ثابتة قبل أن يخبره مباشرة:
-حسابي يتحط فيه الفلوس، هتلاقي كل مشاكلك اتحلت.
امتعضت ملامح الأخير في استياءٍ، ولاحظ “زهير” ما انعكس على تعبيراته، فأعلمه بلهجةٍ صاحب القرار الأول والأوحد:
-ويا ريت ما تضيعش وقتي تاني طالما مش جاهز، لأن وقتي مش ببلاش.
نهض من على مقعد معقبًا في وجومٍ:
-ماشي الكلام.
قبل أن ينصرف النزيل، حذره مبتسمًا في مكرٍ:
-وما تنساش إنت بتتعامل مع عيلة “الهجام”، واحنا مش أي حد.
حدق فيه، وهز رأسه معلقًا باقتضابٍ:
-فعلًا.
غادر بعدها المكان، ليعود “زهير” إلى مُطالعة كتابه في هدوءٍ، وكأنه لم يقم بإجراء أي اتفاقٍ من الأساس، ربما يظنه البعض أنه على النقيض مع شقيقه الأكبر؛ لكنه كان يحتكم إلى صوت العقل أولًا قبل الاندفاع بتهورٍ في تيسير شئونه، مستفيدًا بسنوات تعليمه الممتدة حتى انقضاء دراسته في كلية التجارة. في بعض الأحيان يطغى عليه الجانب الإنساني، فيجعله يتردد، وربما يتعاطف مع البعض، ورغم هذا لم يعارض قرارات شقيقه حينما يُصدرها، إلا إذا تطلب الأمر تدخله للتصرف برويةٍ، كلاهما كانا يكملان بعضهما البعض بشكل مشوق وغريب.
…………………………………….
ظلت قبضتاها ممسكتان بطرفي الملاءة القديمة، ترفض إزاحتها عنها، وكأنها درعها الوحيد الذي يحجب عنها الأعين الشامتة فيها، برغم كونها أصبحت بداخل هذا المنزل الملــــعون، إلا أنها ما زالت تشعر بأنها مجردة مما يسترها. اصطحبتها “خضرة” إلى الغرفة التي استفاقت فيها قبل برهةٍ، وأجلستها على طرف الفراش، لتواسيها في نبرة جمعت بين قدرٍ محدودٍ من التعاطف، والمزيد من اللوم:
-عيني عليكي يا حبيبتي، قولتلك من الأول دخول الحمام مش زي خروجه.
لم تجرؤ على رفع رأسها والنظر إلى من حولها، فالجميع قد شهد على فضيحتها العلنية، وعلى تدنيس سيرتها النقية بوقاحةٍ فجة، وكأنها حقًا شابة سيئة السمعة، فكيف لها أن تحظى بالاحترام من جديد؟ أصغت “مروة” إليها وهي لا تزال تخاطبها في حماسٍ يناقض ما يعتريها الآن من مشاعر ذليلة ومقهورة:
-وبعدين يا حلوة إنتي متعانة للكبير، وده يا بخته اللي تنول شرف الأعدة معاه.
التشوش الذي استحوذ على عقلها بعد تجربتها الأليمة والصــادمة جعلها عاجزة بقدرٍ كبير عن تفسير ما ترمي إليه من عباراتٍ، ورغم هذا لم تنطق بشيءٍ أو تستعلم عن مقصدها، ظلت صامتة، تبكي بحرقةٍ، والرجاء يحدوها أن يكون ما تعايشه مجرد كابوس لحظي ستستفيق منه في أي وقت. أضافت “خضرة” وهي تلكزها في كتفها بخشونةٍ طفيفة:
-واحدة غيرك كان المفروض تبوس إيدها وش وضهر إنها جت مع الست “توحيدة”، وهي بتقدر اللي معاها.
افتعلت الضحك، فبدت ضحكاتها مزيفة وسخيفة قبل أن تقول:
-بكرة تدوقي الشهد، وتودعي الفقر.
من بعيد راقبت “وِزة” ما تعرضت له هذه المسكينة من ظلمٍ واضطهـــاد، فشعرت بالأسف عليها، وانتظرت ابتعاد هذه اللئيمة عنها لتحضر بعض الثياب لها لتدنو منها قائلة في صوتٍ خفيض، ونظرة حذرة تطوف في أرجاء الغرفة:
-ما تسمعيش كلامها…
انتبهت لها “مروة”، وتطلعت إليها من خلف سحابة الدموع التي تحتل حدقتيها، لتجدها مستمرة في حديثها الخافت:
-لو جتلك فرصة تهربي من هنا، اعملي كده وانفدي بجلدك.
لم تتوقف عن البكاء، و”وِزة” تواصل إفراغ ما في جعبتها من مشاعر ناقمة ساخطة:
-دول أبـــالــسة، مايعرفوش ربنا.
لاحظت “خضرة” وجودها بالقرب من كنزهما الثمين، فاتجهت إليها بخطواتٍ سريعة تسألها في تحفزٍ:
-بتزني في ودانها بإيه يا بت؟
في التو عمدت إلى تغيير الموضوع بسؤالها المتذلل:
-مش هتكلميلي الست “توحيدة” عن ابني؟
بجمودٍ واضح أخبرتها، وهي تدفعها بيدها للخلف:
-حوارك ما يخصنيش.
توسلت إليها في إلحاحٍ:
-ده أنا حبيبتك، ساعديني الله يكرمك.
زمت شفتيها متمتمة في تجهم:
-وأنا ماليش حبايب، ويالا ابعدي عنها وشوفي وراكي إيه.
اضطرت “وِزة” للانصياع لها، وتراجعت مبتعدة عن “مروة”، لتسمع “خضرة” وهي تدمدم:
-نسوان فاضية.
رغمًا عنها كبتت “وِزة” مشاعرها الأمومية في صدرها، وراحت تردد بين جنبات نفسها في رجاءٍ:
-مسيري أعرف طريقك يا ضنايا، وأرجعك لحضني.
…………………………………….
بقي على وجومه وشروده بعدما غادر محيط المخبز، فقد كان يعتمد على الربح القادم منه لادخــاره من أجل الانتقال لمنطقة سكنية أفضل؛ لكن حديث “درويش” هدم كافة آماله، بل وجعله عرضةً للتشاحن معه وتصعيد الأمور لشيء خطير. انتشله من سرحانه رنين هاتفه المحمول. انقبض قلب “فهيم” عندما وجد زوجته تتصل به، لا إراديًا ظن أن ذلك البغيض نفذ تهديده، ومكروهًا قد وقع لإحدى ابنتيه، فأجاب على الاتصال في جزعٍ:
-خير يا “عيشة” في حاجة حصلت؟
اندهشت من اللهفة التي كان عليها وهو يسألها، ومع ذلك تغاضت عن سؤاله، لتُعلمه:
-أنا هاخد “دليلة”، ونروح لبنتك “إيمان” شوية.
ما زال زوجها على خوفه، فتساءل بنفس النبرة المتوجسة، وكامل وجهه يعكس قلقًا متعاظمًا:
-هي كويسة؟ حصلها حاجة؟ ما تتكلمي.
استغربت أكثر من طريقته المريبة في السؤال عن أحوالها، وأكدت له:
-هي بخير والله…
تنفس الصعداء، وأصغى إليها بقدرٍ من التركيز وهي تخبره:
-بس إنت عارف صعب تيجلنا هنا، وأنا عاوزة أشوفها، وأقعد معها شوية.
وافق على طلبها مبديًا شرطه الإلزامي:
-ماشي، روحي، بس ما تطوليش.
أطاعته بلا جدالٍ:
-طيب.
أنهى معها المكالمة ليعيد وضع هاتفه داخل جيب بنطاله القماشي، وتابع سيره المهموم ليلتقي مصادفةً مع “كيشو” الذي هلل مناديًا باسمه وهو يلوح بيده في الهواء:
-عم “فهيم”.
وكأن في رؤيته نجدة من السماء، فأقبل عليه هاتفًا في صوتٍ عبر عن مدى احتياجه إليه:
-“كيشو”، ابن حلال، أنا عايزك في حاجة مهمة.
لم يرفض مطلبه، ودعاه للجلوس معه قائلًا:
-طب تعالى نتكلم على القهوة.
هز برأسه موافقًا:
-ماشي.
اتجه الاثنان إلى المقهى القريب، لينادي “كيشو” على الصبي الذي يعمل هناك ليعد لهما كوبان من الشاي حتى يصغي بتركيزٍ إلى ما يريده منه.
…………………………..
بعباراتٍ بسيطة ومفهومة، راح يسرد ما تعرض له من عملية يمكن وصفها بالاحتيال لنهـــب حقه الشرعي، ولم يقاطعه “كيشو” طوال حديثه، إلى أن فرغ تمامًا، حينها لوى ثغره بعبوسٍ، وفرك طرف ذقنه بيده مرددًا في امتعاضٍ:
-حوارك ده في مشاكل، وناس هتزعل من بعض.
تعبيرات وجهه أوحت بمدى تعقيد الأمور، وتيقن “فهيم” أكثر من صدق حدسه حينما أعطاه تلميحًا بدا غامضًا إلى حدٍ ما:
-وخصوصًا إن الحاج “درويش” تبع جماعة “العِترة”.
حدق فيه متسائلًا:
-مش فاهم، مين ده كمان؟
شرح له ببساطةٍ:
-الدنيا نواحينا متقسمة زي مناطق، وكل منطقة ليها كبير، واحنا كبيرنا “الهجام”، وهو مش أد كده مع “العِترة”، إكمنه عمل كام دقة نقص معاه.
انقبض قلبه في توجسٍ، وسأله:
-طب والعمل إيه؟
نفخ بصوتٍ مسموع قبل أن يقترح عليه:
-بص، احنا نحاول نشوف واسطة خير يحللنا الحكاية، جايز تخلص من غير مشاكل.
في التو أكد له “فهيم” مشيرًا بيده:
-وأنا والله ما عايز مشاكل من الأساس، بس ده حقي، وصعبان عليا يروح مني كده، ومابقاش قادر أخده.
تعاطف معه، وعقب بجديةٍ:
-سيبلي الحوار، وأنا هتصرفلك فيه.
بدا ممتنًا لمبادرته بالمساعدة، وأخبره:
-ربنا ييسرلك الأمور، وأنا مش هنساك طبعًا.
في شيءٍ من المجاملة رد:
-تعيش يا عم “فهيم”.
ثم فرقع بإصبعيه ليستدعي صبي المقهى من جديد، ليميل الأخير عليه، ويهمس في أذنه ببعض العبارات غير المسموعة، في التو تغيرت تعبيرات وجه الصبي، ومع ذلك قال في طاعة:
-ماشي يا “كيشو”، هبلغه.
………………………………
عرجت على أحد محال بيع الحلويات الشرقية الشهيرة، وابتاعت لابنتها منه ما لذ وطاب، وخاصة ما تشتهيه لنفسها، قبل أن تصعد إلى منزلها القريب منه لتقوم بزيارتها دون أن تهاتفها مسبقًا لتعلمها بقدومها؛ لكنها كانت مضطرة لفعل ذلك لتفاتحها في المسألة الهامة التي جاءت خصيصًا من أجلها. فرحت “إيمان” لرؤيتها مع شقيقتها، واستقبلتهما بحفاوةٍ وترحاب، ونظرت إلى العلب الكرتونية المغلفة بالأشرطة، وعاتبت والدتها في رقةٍ:
-مكانش ليه لازمة تكلفي نفسك يا ماما، خير ربنا موجود، و”راغب” مش مقصر معايا.
ابتسمت قائلة بوديةٍ:
-ما إنتي عارفة أبوكي موصيني.
بادلتها الابتسام، وقالت في حبورٍ:
-ربنا يخليكم ليا يا رب.
ثم التفتت ناظرة إلى “دليلة” التي كانت تتمدد باسترخاءٍ على الأريكة المريحة وهي تعبث بهاتفها المحمول، لتسألها باهتمامٍ:
-عاملة إيه يا “دوللي”؟ مبسوطة؟
رفعت عيناها عن شاشته المضيئة، وعلقت بضجرٍ:
-بتتريقي؟
اكتفت بالتبسم لها، فتابعت “دليلة” في سخطٍ:
-مش هتكلم، بس احنا في حتة بيئة أوي، مش هاقولك على الحكايات اللي بتحصل فيها، دي ولا الأفلام.
تطرقها للحديث عن هذا الأمر تحديدًا مهّد لها الكثير، فاستغلت “عيشة” الفرصة لتصرف ابنتها الصغرى، فأمرتها:
-خشي اغسلي الأطباق لأختك، بدل ما إنتي أعدة كده.
في التو أظهرت تبرمها مرددة بضيقٍ:
-هو شغل هنا وشغل هناك؟!
شددت عليها أمها بلهجتها الآمرة:
-يالا، اتلحلحي.
على مضضٍ نهضت من موضع جلوسها، وسارت تجاه المطبخ لتؤدي مهمة غسل الصحون وتنظيفها، ما إن اختفت عن ناظريها حتى انتقلت “عيشة” بجوار ابنتها لتهمس بخفوتٍ جادٍ للغاية:
-“إيمان”، عايزاكي في كلمتين؟
استغربت من تبدل حالها، وسألتها بقلبٍ وجل:
-خير يا ماما؟
ازدردت ريقها، وتابعت مباشرة:
-ينفع تخلي “دليلة” تقعد معاكي هنا؟ المكان اللي احنا فيه صعب أوي، وأنا خايفة عليها من العالم الواغش اللي عايشين فيه.
استطــال وجهها لحظيًا، فقد استشعرت الحرج من مطلبها رغم أهميته، خاصة مع انزعاج زوجها مؤخرًا من انتقال العائلة لهذه المنطقة المتدنية في كل شيء، ومع هذا أخبرتها بترددٍ محسوسٍ في نبرتها:
-مش عارفة “راغب” رأيه هيكون إيه؟
لو لم تكن مضطرة إلى هذا لما لجأت إلى مساعدتها، في شيءٍ من الإلحــاح طلبت منها:
-حاولي تقنعيه، ده وضع مؤقت، وأنا هزن على أبوكي ليل نهار لحد ما ننقل من المنطقة دي.
بهتت ملامحها نوعًا ما، وراحت تقول بحياديةٍ، رافضة إعطائها الرد النهائي على هذه المسألة الشائكة:
-مقدرش أوعدك يا ماما، بس هعمل اللي عليا.
استدارت الاثنتان بوجهيهما نحو باب المنزل عندما سمعتا صوت المفتاح يُدار في قفله، تأهبت “عيشة” في جلستها، ووضعت ابتسامة وقورة على محياها عندما رأت زوج ابنتها يلج من الباب، على عكسها وجمت ملامح الأخير حينما وجدها جالسة بالصالة، وردد في نبرة مستنكرة، وكأن وجودها غير مرحب به:
-حماتي!
نهضت لتُحييه قائلة في نبرة أليفة:
-إزيك يا “راغب” يا ابني؟
عاملها بجفاءٍ صريح:
-كويس.
قبل أن تنبس زوجته بكلمةٍ تفاجأت به يأمرها في نبرة صارمة:
-تعالي يا “إيمان” عايزك لحظة.
ارتعدت أوصالها من طريقته الجافة، واستطردت في طاعة:
-حاضر.
خرجت “دليلة” من المطبخ حينما سمعت صوته، وراحت ترحب بعودته في عفوية:
-حمد لله على السلامة يا “راغب”.
نظر إليها من طرف عينه، ولم يرد، وانصرف بعصبيةٍ نحو الردهة، فتطلعت إلى والدتها بحرجٍ، فما كان من الأخيرة إلا أن قالت بتفهمٍ مخاطبة شقيقتها الكبرى:
-روحي يا “إيمان” شوفي طلبات جوزك.
لم تكن “عيشة” صغيرة في السن، أو حتى محدودة التفكير لتدرك من طريقته المتغطرسة في التعامل معهما أنه غير راضٍ عن هذه الزيارة المفاجئة، وتمنت أن تخيب ظنونها بشأنه، ويكون انزعاجه عائدًا لضغوطات العمل وليس لرؤيتهما هنا.
……………………………………..
قدمت ساقًا وأَخرت الأخرى وهي تتبعه في خطواته السريعة المنفعلة إلى داخل غرفة نومهما، أغلقت الباب ورائهما، لئلا تستمع الضيفتان إلى مشادتهما الدائرة، والتفتت ناظرة إليه في توجسٍ خائف، لتجده يصيح في غضبٍ جم، وبصوتٍ يكاد يخترق الجدران:
-إنتي ما قولتيش يعني إن أمك جاية؟
اقتربت منه، ورجته في نبرة خافتة:
-من فضلك وطي صوتك.
تعمد أن يكون صوته مسموعًا، وإلا لما أشعر ضيفتيه بنبذه لهما، لذا هتف بتهكمٍ مستاء:
-يعني ده اللي همك؟
ضاقت نظراتها المستعتبة ناحيته، فتابع لومها بتشنجٍ وهو ينزع عنه سترته ليلقيها أرضًا:
-وطبعًا إنتي مظبطة معاها، على اعتبار إني مش موجود في البيت.
على الفور دافعت عن اتهامه لها وهي تنحني لتأخذها:
-والله هي اللي جت من نفسها، حتى ما اتصلتش.
وجه إصبعه إليها مستأنفًا كلامه في سخطٍ:
-دلوقت أنا عاوز أخد راحتي في بيتي، وطبعًا هي وأختك ما هيصدقوا يطبوا علينا كل شوية.
ردت عليه في عجزٍ:
-طب أعمل إيه يا “راغب”؟ أقوم أطردهم؟
حل رابطة عنقه، وأخذ يفك أزرار قميصه، ويشمر عن كميه وهو يخاطبها:
-معرفش، اتصرفي.
وقفت أمامه قليلة الحيلة، فواصل الكلام بعصبيةٍ:
-ده بيتي، وأنا من حقي أرتاح فيه، مش ألاقي ناس غرب أعدين ومبرشطين فيه.
وصفه كان دنيئًا، فوبخته بحذرٍ:
-بس دول أهلي، مش حد غريب، عيب الكلام ده.
قال بعنجهيةٍ وتسلط:
-ماليش فيه.
……………………………….
بالخارج استمعت “عيشة” إلى المشاجرة المحتدمة بين الزوجين، فصوته الحانق كان يصلها بوضوح رغم الأبواب الموصدة، وكذلك ابنتها، فشعرت كلتاهما بالحرج الشديد من فظاظته. آنئذ اضطربت أفكار “عيشة”، فإن كان يبدو مزعوجًا للغاية لمجرد القيام بزيارة عابرة، فماذا إن اقترحت عليه ابنتها ما جاءت حقًا من أجله؟ أفاقت من استغراقها في تفكيرها العميق على صوت “دليلة” وهي تهمس لها:
-ماما، واضح إن في خناقة بين “إيمان” وجوزها، الظاهر إنه مش مبسوط من جيتنا.
قالت بلا ابتسامٍ:
-استني لما أختك تيجي نسلم عليها ونمشي.
هزت رأسها مرددة:
-طيب.
بعد عدة دقائق، خرجت “إيمان” من الداخل وهي تلصق بوجهها ابتسامة متكلفة، وزائفة، جلست بجوار والدتها قائلة:
-منوراني يا ماما.
تفاجأت بها تنهض من على الأريكة لترد في جمودٍ مريب:
-تسلمي يا حبيبتي، يدوب نمشي.
قامت بدورها، وتعلقت بذراعها هاتفة:
-ما لسه بدري!
بنفس الأسلوب الجامد أخبرتها:
-علشان نلحق أبوكي.
أحست من طريقتها بوجود خطب ما، فسألتها في حرجٍ:
-إنتي سمعتي “راغب”؟
لم تنبس أمها بكلمة، ففطنت إلى ما حدث، وراحت تبرر لها:
-أوعي تكوني زعلتي منه؟ هو ما يقصدش، بس هو لما بيرجع من الشغل بيكون مضايق ومتعصب من الضغط طول اليوم وبيكون على آخره.
ظلت على تعبيراتها الجامدة وهي تخبرها:
-سبيه على راحته…
ثم انحنت عليها لتقبلها من وجنتيها قائلة في صوتٍ خافت:
-خدي بالك من نفسك، ومافيش داعي تحكي معاه في اللي طلبته منك
شعرت “إيمان” بالاستياء لتسببها في إحزان والدتها وشقيقتها، فحاولت الاعتذار منها وهي تمسك بذراعها:
-يا ماما استني بس، أنا أسفة والله.
استلت يدها منها، وانصرفت سائرة تجاه الباب، لتتجه بعدها بناظريها إلى شقيقتها تطلب منها:
-كلميها يا “دليلة”، وخليها متزعلش مني.
أومأت برأسها قائلة باقتضابٍ:
-حاضر.
لحقت بوالدتها التي خرجت من المنزل على عجلٍ وهي تجرجر أذيال الخيبة، لتغلق ابنتها الكبرى الباب بعد ذهابهما. استندت بكفها على الإطار الخشبي، ونكست رأسها في خزي، لتهسهس مع نفسها في ضيقٍ، والحزن يعتصر قلبها:
-ليه بس كده يا “راغب”؟
……………………………………..
كانت في غمرة الحديث عن مآثره، وقدرته الفائقة في ضبط المتمردين عن سُلطانه، ليشعر بالرضا والانتشاء عن حاله، وبالتالي يغدق عليها بالمشاعر الفياضة، فيسعد كلاهما، وينالا مبتغاهما، كل على طريقته الخاصة، لذا ظهرت علامات الغضب والحنق على وجهه حينما أفسد عليه مضطجعه مجددًا مجيء تابعه “سِنجة” في بيت “توحيدة”، ليخبره بوجود من يبغض بالمنطقة، ومعه فئة من الخارجين عن القانون ومعتادي الإجــــرام، كدليلٍ على تحفزهم واستعدادهم لافتعال الشغب بالأرجاء. حاولت “توحيدة” إيقافه قبل أن يتهور، وتوسلته:
-استنى بس يا معلم “عباس”، إنت عارف إنه بيجرك للمشاكل.
نهرها في غلظةٍ:
-خليكي هنا يا ولية.
أحضر ما يحتاج إليه من أســلحة بيضــاء، وخرج من البيت متجهًا إلى حيث ينتظره هذا المقيت، لتعنف “توحيدة” تابعه بحقدٍ:
-كان لازم تقوله يا “سِنجة” وتعكر مزاجه؟ ده من الصبح في دوشة وحوارات.
رد عليه في جديةٍ قبل أن يلحق به:
-لازمًا يا ست الحارة، وإلا هيتعلم علينا جامد.
ضمت كفي يدها أمام صدرها، ورددت في قلقٍ كبير:
-ربنا يعديها على خير.
ثم اتجهت إلى الشرفة بعدما أحكمت ربط إيشارب رأسها، لتتابع من الأعلى تطور الأوضــاع بين الفئات المتلاحمة.
……………………………….
على ناصية الشارع الضيق، تقدم أحدهم على أقرانه الذين جاءوا معه، ووجهه الغائم والمملوء بالندوب والسجحات يلتف يمينًا ويسارًا للبحث عن أحدٍ بعينه. كان “شِحْتة” يحمل في إحدى يديه سكينًا ضخمًا، وفي اليد الأخرى سلسلة معدنية غليظة، ضرب بطرفها في الأرضية الترابية مهللًا بصوتٍ جهوري رن صداه في الأنحــاء:
-يالا يا حتة مافيهاش راجــــل.
بمجرد أن شاهده المارة، فروا من أمامه مهابةً منه، في حين هتف أحد أصحاب المحال التجارية محذرًا البقية:
-ده في عوأ هيحصل في المكان، خلونا نقفل الدكاكين.
ساد الهرج والمرج، وارتفعت الصيحات المرتاعة والمستنكرة، وصوت “شَحْتة” لا يزال يجلجل بإهانةٍ فجة:
-إنتو أخركم تلبسوا طُرح.
خرج “عباس” من مدخل العمارة، وحك نصـــل سكينه الممتد بطول ذراعه على الجدار الإسمنتي ليحدث صليلًا حادًا وهو يرد عليه في تحدٍ سافر:
-مين ده اللي جاي يعمل نِمرة هنا؟
ثم أطلق ضحكة هازئة، قبل أن يستفزه بكلماته المتعمدة:
-“شِحْتة”، طب يا ريته كان حد تاني غيرك!
استشاط غيظًا من استحقاره المقصود، وراح يرد عليه بنفس أسلوبه:
-أهلًا بـ “عباس” الزفر، خــــدام سيده.
بدا وكأن المكان قد خلا إلا من الجمعين المتحفزين، كلاهما يقفان في مواجهة بعضهما البعض، وعلى أهبة الاستعداد للانقضاض في أي لحظة، ينقصهما فقط إشارة البدء. تحرك “عباس” تجاهه بغير خوفٍ، واستطرد في استخفافٍ:
-الله، ده إنت بقالك صوت، وبتزعق كمان.
تقدم “شِحْتة” للأمام وهو يتهمه علنًا:
-بقى أنا تسرق الونش بتاعي وتفكه وتبيعه في الوكالة؟
أكد له اتهامه بسخريةٍ مستفزة:
-وأســـرقك إنت كمان كلك على بعضك، وأبيع جتتك حتت، بس يا ريت ألاقي اللي يشتري لحمك النـــجـــس.
…………………………………………..
في تلك الأثناء، بالكاد وافق سائق سيارة الأجرة على إيصالهما لأقرب نقطة للدخول إلى هذه المنطقة النائية، فمركبته لن تتحمل الحركة فوق الطرقات غير المعبدة لكونها بحاجة للإصلاح، ناهيك عن خوفه من تعرضه للسطو والتثبيت من معتادي الإجرام الذين يتربصون بضحاياهم في الأزقة الجانبية هنا.
ترجلت “دليلة” من السيارة، وعاونت والدتها على النزول بعدما دفعت للسائق أجرته، لتسير كلتاهما بتؤدةٍ وتمهل حتى بداية الطريق المؤدي إلى البيت، تعجبت الاثنتان من هدوء الأرجاء على غير العادة، وكأن المارة والمتسكعين قد اختفوا فجــأة من النواصي، ما إن اقتربت كلتاهما من محيط الخطر، حتى أبصرتا حشدًا من أناس غاضبين مدججين بأنــواع مختلفة من الأسلحة البيضاء.
شهقت “دليلة” مذعورة، وأحست بقلبها يهوي فزعًا بين قدميها، لتتساءل في خوفٍ:
-هو إيه اللي بيحصل هنا يا ماما؟
دون مقدمات تمهيدية، اندلعت المشـــاجرة، واندفع الجميع في كل اتجاه يحاولون إصابة بعضهم البعض بوحشيةٍ، وأصوات الصراخ والصياح الغاضب تزلزل من حولهم. هنا صرخت “عيشة” من هول المفاجأة:
-يا ختاي!
أمسكت بابنتها من معصمها، وسحبتها للخلف باحثة عن موضعٍ للاختباء وهي تهتف بها:
-إداري يا “دليلة”.
كان من الصعب العثور على موضع آمن، خاصة مع ركض أتباع الفئتين في كل زاوية للإمساك بأي شيءٍ يصلح للاقتتــــــال العنـــيف. لحسن حظها تفادت “عيشة” بأعجوبةٍ قفصًا كان مرميًا باتجاهها، وصرخت وهي تختبئ خلف أحد الأكشاك:
-يا نصيبتي!
تطايرت الزجاجات الفارغة في الهواء، وتهشمت على الجدران والأرض محدثة دويًا مخيفًا، فزعت “عيشة”، وارتعدت “دليلة”؛ لكن الأخيرة رغم خوفها هتفت بتلقائية وعزم:
-ماما، احنا نطلب البوليس.
نظرت إليها أمها مصدومة، وما زاد من ذهولها قيام ابنتها بسحبها معها من خلف الكشك لتسألها بنبرة مرعوبة:
-إنتي بتعملي إيه؟
أجبرتها على الركض معها في الاتجاه المعاكس، ذلك المؤدي في نهايته إلى قسم الشرطة، وأخبرتها بما انتوته بصوتها اللاهث:
-احنا الأحسن نروح عند القسم، ده في آخر الشارع.
لم تستطع الاعتراض عليها، فأسلم شيء في الوضع الراهن، هو الفرار من هنا بأي وسيلة.
…………………………………
على وجه السرعة، وبناءً على استغاثتها الفورية في قسم الشرطة، تم استدعاء فرقة أمنية للذهاب معها إلى منطقتها الشعبية، لفض الشجار الدائر هناك، والقبض على كافة المتورطين فيه، ولكون نطاق المشاحنة قد اتسع وشمل عدة أزقة جانبية، تمكنت قوات الشرطة من القبض على البعض منهم، بينما نجح الغالبية في الفكاك، ليصعد أحدهم فوق سطح إحدى العمائر، ثم صـــاح مهللًا ومكررًا ليلفت انتباه الجميع:
-الدبابير جت، الدبابير جت.
انتشرت الصافرات هنا وهناك لإنذار كافة المتلاحمين، فصاح آخر يأمر المتواجدين:
-كله يخلع أوام.
في لمح البصر، تفرق أتباع الاثنين سريعًا للاختفاء عن أنظار رجــال القانون، وكأن المشاجرة لم تحدث من الأساس، بينما سار “عباس” عائدًا إلى بيت “توحيدة” متسائلًا في سخطٍ، وهو يمسح الدماء العالقة بيده على قميصه الممزق من الشجار:
-مين ابن الـ…. اللي طيرهم من عشهم؟
رد عليه “سِنجة” وهو ينحني ليلتقط بعض الأسلحة البيضاء الملقاة في طريقه سيره ليأخذها كغنيمةٍ لنفسه:
-محدش لسه عارف.
تكلم آخر من ورائه:
-عيونا هتبلغنا يا ريس.
توعد “عباس” بحنقٍ، وقد تناثر الشرر من عينيه الحمراوين:
-مسيره يقع في إيدي، وهخليه عِبرة، ده إن مكانش الريس الكبير هيعلقه في نص الحتة.
قبل أن يطأ بقدمه المدخل جاء “عصفورة” ركضًا، ليهتف من بين أنفاسه اللاهثة:
-يا معلم “عباس”، الكوبارة خارج النهاردة.
استدار تجاهه، وهتف في استحسانٍ كبير:
-أهي دي الأخبار ولا بلاش، بينا نستقبله.
بغير تأجيل تحركوا جميعًا عبر المسالك والدروب الخفية للخروج من المكان بعيدًا عن الطرق المتواجد بها بقايا قوات الأمن.
……………………………..
عاد إلى المنزل، وجلس بمفرده، غير قادر على البوح بما تعتمل به نفسه، حتى حينما قصَّت عليه زوجته ما فعلته ابنته لطلب المساعدة من الشرطة لتتمكنا من العودة إلى هنا لم يظهر اهتمامه، ظنت أنه يتجاهلها، فحامت تعبيرات وجهها بين الغضب والتحسر، وراحت تطلب منه في تصميمٍ عنيد:
-إنت لازمًا تشوفلنا أي مكان تاني ننقل فيه غير هنا.
بفتورٍ غريب رد “فهيم” عليها:
-ربنا ييسر.
استمرت على صياحها المنزعج قائلة:
-ده كل لحظة والتانية مشاكل وخناقات، واحنا مش بتوع كده.
تسلح بصمته، وحملق فيها بعينين شبه تائهتين وهي تستأنف الشكاية إليه:
-يا راجل ده احنا داخلين البيت بالبوكس، هيحصل فينا إيه تاني؟
ضجر من تحمل ما لا يطيق منذ مطلع النهار، فقال بصبرٍ نافد:
-خلاص يا “عيشة”، ربك يدبرها، وهشوف.
وكأنها لم تنتبه لحالته المستاءة، فأكملت على نفس الوتيرة المتعصبة:
-وبعدين إنت ممكن تبيع نصيبك في الفرن اللي مش جايب همه ده، وبفارق الفلوس نسكن في مكان تاني.
تطلع إليها بنظرة لم تفهمها، فكيف له أن يحطم آمالها بإطلاعها على الحقيقة المؤسفة، لم يلق هذا به، لهذا رد باقتضابٍ:
-إن شاء الله.
صنفت تعقيبه هذا بكونه نوعًا من الملاوعة، والمراوغة، فسألته في غيظٍ:
-هو إنت بتاخدني على أد عقلي ولا إيه؟
حرر زفرة ثقيلة على قلبه، وأخبرها بحذرٍ لعلها تحل عن رأسه، وتكف عن مضايقته بشكواها المستمرة:
-أبدًا، بس الفرن عليه مشاكل، وعلشان تتحل مش بالساهل.
لطمت على فخذيها نادبة سوء الحظ الملازم لعائلتها:
-حتى ده كمان؟ مافيش حاجة بتيجي سالكة أبدًا معانا؟
قال في رجاءٍ:
-ربنا قادر يدبرها من عنده.
فجــأة صدحت أصوات أبواقٍ، ومزامير، مصحوبة بطرق قوي على الدفوف والطبول، بجانب موسيقى صاخبة لمطربٍ غير مفهومة كلمات أغنيته، ليتساءل “فهيم” في تحيرٍ:
-إيه الدوشة دي؟
رأى كلاهما ابنتهما الصغرى وهي تتجه نحو الشرفة لتتفقد ما يدور الآن، فوجه والدها سؤاله لها:
-في إيه يا “دليلة” عندك؟
تلقائيًا، ظن ثلاثتهم أنها ربما زفة عابرة لإحدى الشابات المقبلات على الزواج، وأهلها وأحبائها يحتفون بها على طريقتهم المعتادة. دون أن تتحرك من موضع وقوفها بالشرفة، استدارت “دليلة” برأسها ناحيتهما، وقالت مفسرة ما التقطته بأذنيها من أحاديث الجيران وأهل المنطقة:
-سامعة الناس بتقول إن في حد اسمه الكوبارة باين طلع من السجن.
زمت “عيشة” شفتيها معلقة بقنوطٍ:
-ودي كمان بيحتفلوا بيها؟
ضحكت ابنتها ساخرة:
-ما احنا في فيلم هابط يا ماما.
استحثها فضولها على رؤية ما يجري، فنهضت بتكاسل من على الأريكة، ووقفت إلى جوار ابنتها بالشرفة، لتشاهد موكبًا مهيبًا مكونًا من عشرات الدراجات النارية، وحشدًا غفيرًا من البشر يتحركون في تماوج مرح وصاخب للترحيب بذلك الذي يقف بزهوٍ وتفاخر على سيارة ربع نقلٍ، ملامح وجهه كانت تضمر شرًا واضحًا، وما عزز من تخمينها رؤيتها للأسلحة الآلية التي أحاطت به، قبل أن ترتفع فوهاتها للأعلى، لتطلق وابلًا من الرصــــــاص الحي. بشكلٍ غريزي، انحنت “دليلة” للأسفل، جاذبة معها والدتها، لتصرخ الأخيرة في جزعٍ وفزع:
-إيه ضرب النار ده كله؟
لم تجرؤ أيًا منهما على الاستقامة، بل تحركتا خافضتين الرأس للعودة في الحال إلى الداخل، و”فهيم” يهتف بتوجسٍ:
-اقفلوا شباك البلكونة دي، بدل ما حاجة تفلت وتيجي فينا.
في شيءٍ من التذمر رددت “دليلة”، وقد عبست قسماتها:
-طب أنا كنت عايزة أتفرج شوية!
وكزتها أمها في كتفها تعنفها:
-هتشوفي الأملة يعني؟ إياكي الشباك ده يتفتح النهاردة.
ركلت بقدمها بلاط الأرضية في تذمرٍ، وألقت بثقل جسدها على الأريكة، لتظل باقية بصحبة أبويها وهما يعاودان النقاش في مسألة البحث عن مسكنٍ آخر.
………………………………..
واصل موكب استعراض القوة تقدمه حتى بلغ المنطقة الصخرية المؤدية إلى ما يعرف بالتَبَّة العالية، حيث مقر إقامة كبير “الهجامة” وأتباعه.
وكأنها أقرب إلى ثكنة عسكرية في تجهيزاتها، فبها كل شيء يصلح لاحتلال بقعة ما بلا مجهودٍ يذكر، وهي أيضًا مقصد لكل باحث عن مأوى وحماية لدى صاحب السلطة والقوة.
خارجها محاط بأطنانٍ من النفايات والمخلفات، لتحجب الأنظار -عن قصدٍ- عما يجري بالداخل، خاصة فيما هو متعلق بتصفية الحسابات، ومعاقبة الخصــــوم، بالإضافة إلى وجود عشرات الأعين المحذرة والمنذرة لأي خطر قد يداهمهم.
مجرد رؤيته جالسًا على كرسيه بمهابةٍ وشموخ تبعث القشعريرة في الأبدان، اصطف الرجال في صفوفٍ طولية، وراحوا يتقدمون واحدًا تلو الآخر لتأدية التحية له، وتقديم فروض الطاعة والولاء، فقال أحدهم وهو ينحني على كف يده ليقبله:
-يا مرحب بالكبير اللي نور الحتة كلها.
تبعه آخر مرددًا:
-منور يا ريسنا.
اكتفى بهز رأسه بإيماءات صغيرة مقتضبة حتى جاء إليه “عباس”، فقام بتحيته من جديد وهو يجلس عند قدميه:
-حمد لله على السلامة يا كبير.
نظر “الهجام” تجاهه متسائلًا بصوتٍ أجش وعميق:
-إيه اللي حصل في غيابي يا “عباس”؟
أخبره بلهجةٍ جمعت بين الجدية والعبث:
-هيكون عندك خبر بالصغيرة قبل الكبيرة، بس الأول نشوف مزاجك ونروقه.
لاحت شبح ابتسامة باهتة على زاوية فمه، ليردد بعدها:
-وماله، الواحد محتاج يتدلع برضوه، ويشيل جلخ السجن اللي علم على جتته.
أشار نحو عينيه كتعبير عن طاعته، وهب واقفًا ليصيح في تهديدٍ:
-الكوبارة رجع، وهيحط على أتخن تخين شايف نفسه فيها.
………………………………..
كانت في وصف حالتها أقرب إلى قربانٍ يتم التضحية به لنيل رضا علية القوم، وها قد أتت لحظتها كسرعة البرق، لم تستوعب “مروة” ما يجري معها، فلم تكن قد استفاقت بعد من صدمة فضحيتها، لتجد نفسها مجبرة على التزين، والظهور بمظهر أنثى فائقة الجمال، لتبدو كعروسٍ في ليلة زفافها، وعليها فعل المستحيل من أجل إسعاد صاحب الكلمة العليا هنا.
أُرسلت مع “توحيدة” شخصيًا، وتابعتها، وبضعة نساءٍ إلى التَبَّة، فقد كُن ضمن الجموع التي جاءت للتأكيد على مبايعة كبير “الهجامة”. أُودعت في غرفة مفروشة بأثاثٍ جديد باهظ الثمن، يتناقض تمامًا مع طبيعة المنطقة المتواضعة في كل شيء. جلست على طرف الفراش ترتجف في ثيابها الخفيفة الكاشفة لما هو مبهج وممتع، وراحت تلفتت حولها بنظرات قلقة مرتاعة، انتفضت شاهقة بأنينٍ خافت حينما رأته بطلته المهيبة أمامها، مجرد مجيئه فعل بها الكثير، ارتعدت فرائصها أكثر، وحدقت فيه برعبٍ واضح.
جذبت الغطاء، وتلفحت به لتتجنب نظراته التي تجردها مجازًا، وهي تشملها من رأسها لأخمص قدميها:
استطاع “كرم” قراءة ما يدور في ذهنها ببساطة، فقال بغير اكتراثٍ:
-شوفي يا حلوة، أنا مش فارق معايا حكايتك، ولا يهمني حتى أعرفها، طالما هتعدلي مزاجي.
فهمت ما يرمي إليه بحديثه الموحي عن سوء سمعتها، فحاولت الدفاع عن نفسها:
-أنا بنت ناس والله، ولولا إنه واحد ابن حـــرام ضحك عليا، كان زماني لسه وسط أهلي.
قهقه ضاحكًا قبل أن يعلق ساخرًا:
-ما كلنا ولاد ناس، أومال يعني جينا كده من الهوا؟
تقدم ناحيتها نازعًا ثيابه العلوية، فهبت واقفة، وأخبرته وهي تتراجع عنه:
-أنا مش عايزة أعمل حاجة حرام أغضب بيها ربنا.
زجرها في استهجانٍ، وبنظرة نارية تطل من عينيه بعدما اسودت قسماته:
-هي “توحيدة” بعتاكي تتوبي عندي؟
أوضحت له وهي مستمرة في تراجعها إلى أن التصقت بالحائط:
-هما جابوني غـــصـــب هنا، أنا عايزة أرجع لأهلي..
نفخ في سأمٍ، وقال بفمٍ ملتوٍ:
-وأنا ماليش في الحلال، واللي بعوزه باخده.
حاصرها عند الزاوية، وقبض على رسغها ليجذبها ناحيته قائلًا في لهجته الآمرة:
-تعالي هنا…
خفض من نبرته، وابتسم متابعًا في نصيحة مستترة:
-والأحسن تخليكي حلوة معايا، بدل ما تتعبي.
لكمته في صدره بأقصى ما تملك من قوةٍ بقبضتها الأخرى، وكأنها بهذا تظهر قدرًا من المقاومة له، ثم استطردت هاتفة بصوتٍ مختنق انتهى مع ختام جملتها ببكائها:
-ما تقربش مني، أنا مش بنت وحشة.
سدد لها نظرة غامضة، طامعة في المضي قدمًا لما هو أكثر من مجرد إظهار التعاطف والمواساة، أرخى قبضته عنها قبل أن يقول بنبرة ذات مغزى:
-وهو أنا عملت حاجة أصلًا؟
انفلتت منها شهقة مذعورة عندما أحاط بها فجأة من خصرها بذراعيه ليلصقها به، أصبحت واقعة تحت أسره، ونظرت إليه بعينين زائغتين، فخاطبها بما جعل الدماء تفر من عروقها بالكامل:
-شكلها هتبقى ليلة كُوبيا النهاردة ………………………………… !!!!!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية فوق جبال الهوان)