روايات

رواية غير قابل للحب الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب الجزء الثامن والعشرون

رواية غير قابل للحب البارت الثامن والعشرون

رواية غير قابل للحب
رواية غير قابل للحب

رواية غير قابل للحب الحلقة الثامنة والعشرون

كان من العبث مقاومة ما أصبح مفروضًا عليك بشكلٍ قسري، خاصة مع هدم كافة الثوابت التي ظننت يومًا أنها جزءًا من كينونتك، في لحظة تم محو ما اعتدت عليه، وأصبحت قناعاتي كالأنقاض المتكومة فوق بعضها البعض، لا جدوى منها مُطلقًا، لهذا تخليت عن صمودي المزعزع، وأبديت موافقتي العمياء على فعل ما يُخالف الإنسانية والقانون. القانون، ترددت الكلمة في فضاءات عقلي وإحساس السخرية متملك مني، منذ متى ونحن نفعل ما ألزمنا به القانون البشري؟ نحن أبعد ما يكون عن تطبيقه، بل إننا أجدنا الانحراف عن طريق الصواب، وارتكاب كل ما هو مخالف. لم أنظر تجاه “فيجو”؛ لكني شعرت به عبر صمته الغريب مصدومًا من قبولي المريب. سألني بشكل مراوغ ليتأكد مما سمع:
-هل ترغبين في التدريب الآن؟
رفعت عيني إليه، وأجبته سائلة إياه بزفيرٍ ثقيل:
-في هذا الوقت المتأخر؟
جاء رده ساخرًا إلى حدٍ ما، وهذه النظرة المدققة تحتل حدقتيه:
-إنها ليست بعملية جراحية!
لم يكن الجو ملائمًا للمزاح، فحياة أحدهم على المحك، أبعدتُ وجهي عن نظراته النافذة التي تحاصرني، ودمدمت بإرهاقٍ وأنا أنهض من مكاني:
-ربما في الصباح الباكر.
وكأنه قرأ ما يدور في عقلي من صراعٍ فكري، فهز رأسه معقبًا وهو يتنحى للجانب ليجعلني أمر من جواره:
-حسنًا، لن نستغرق وقتًا.
كدت أفقد اهتمامي بما يقول لولا أن تابع من ورائي موضحًا، وبما جعلني اتسمر بارتجافٍ في مكاني:
-فتنفيذ عملية الاغتيال سيكون مساء غد.
التفتُ كليًا ناحيته، وسألته بصدمة جلية على تعابيري الذاهلة:
-ماذا؟ بهذه السرعة؟
شبح ابتسامة ماكرة تجلى على زاوية فمه وهو يخبرني:
-بالطبع، ولِما التأجيل إن كنتِ مستعدة لإتمامها؟!
ضغطت على أسناني هامسة في تبرمٍ يشوبه الاستهجان:
-تبًا.
رأيته يتحرك صوب باب الغرفة استعدادًا لمغادرته، أدار رأسه تجاهي ليقول بهدوءٍ:
-سأعلم أبي بالأخبار السارة.
غمغمت في جنبات نفسي بتهكمٍ مرير:
-ويا لها من أخبار!
فور ذهابه، انهرت جالسة على طرف الفراش، واضعة كلتا يدي أعلى رأسي، لا أصدق حقًا أني على وشك التورط في جريمة قتل شنيعة، وإن كانت بأيسر الطرق؛ لكنها في النهاية جريمة، أنا التي أخشى رؤية الدماء النازفة أسعى الآن عن عمدٍ لإزهاق الأرواح؟!
………………………………………….
حين عاد “فيجو” لاحقًا لم يحاول التودد إلي بأي صورة، تركني مستلقاة على جانبي من الفراش دون أن يقرُبني، أوجد مساحة كافية تفصل بيننا، وتجعلنا أبعد ما يكون عن التلامس، بدت بالنسبة لي وكأنها أمتارًا لا بضعة بوصات، للغرابة شعرت حينئذ بالضيق! فرغم كل ما عايشته معه وبسببه إلا أن هناك شيئًا بداخلي يجذبني إليه، يزعجني بشدة كلما شعرت به بعيدًا عني .. تُرى هل يشبه ما أمر به حاليًا في أعماقي ما يعرف في الطب النفسي بمتلازمة ستوكهولم؟ أكاد أجزم أني بت واحدة من هؤلاء الأشخاص الذين تعلقوا نفسيًا ومعنويًا بخاطفيهم أو معذبيهم، فأصبح ما يربطهم معًا لا محبة تلقائية، بل صلة مرضية! فأي عاقل قد يقبل الاستمرار في علاقة كهذه، مُهلكة من كافة النواحي؟! تحيرت، وتخبطت، وازددت تلبكًا، كل الأمور تفضي في نهايتها لما لا أرغب في البوح به، ورغم هذا اعترف به في غياهب بواطني:
-هل نجح في اغتنام قلبي قبل امتلاك جسدي؟
رفضت الإجابة بصراحة عن هذا السؤال المُلح في عقلي، استنكرته، وأنكرته، وأبقيتُ على رفضي الزائف؛ لكن في قرارة نفسي أعلم مدى كذبي ومحاولة تضليل مشاعري التي نبضت وتأثرت بمن لا يقبل بالحب.
أرهقني التفكير، فقررت أن أضع ما يؤرقني جانبًا، واستدعي النوم الذي كان يتردد في القدوم واستقبال دعوتي إليه. أرحتُ رأسي المشحون على الوسادة، وأطبقت على جفني بقوة لأقضي على أي فرصة تدفعني للبقاء مستيقظة، فبدأت بوادره في الزحف نحو عقلي، فأظهرت ترحيبي العارم بها.
……………………………………………
يبدو أن تأثير ضغوطات يومي المملوء بالصدمات قد انعكس في منامي، فكانت أحلامي استرجاعًا لما مررت به، فزارتني الكوابيس المليئة بالمطاردات وأشكال القتل البشعة، تقطع نومي لأكثر من مرة، فكنت أنهض وأنا انتفض تارة، وتارة أخرى أفيق بصراخٍ مكتوم، في المرة الأخيرة أوقظني “فيجو” مبديًا استيائه من إفساد ليلته، وقال في جدية:
-الأفضل لكِ تناول الدواء طالما أنكِ لست بخير.
نظرت إليه بوجه شبه مغتاظ، وأخبرته وأنا أزيح الغطاء عن جسدي لأنهض من جواره:
-سأنام في غرفة أخرى.
اعتدل في رقدته، وسألني في جمودٍ وهو يفرك منابت شعره بأصابع يده:
-وهل هذا الحل الأنسب؟ ستبقين على تلك الوضعية تصرخين وتنوحين، وفي النهاية ستأخذين الدواء.
صحتُ مدافعة عن حالتي النفسية المضطربة:
-أنا لست مثلك، معتادة على القتل والنوم بهناء.
استطرد مصححًا لي وهو يحرك عنقه للجانبين ليفرقع فقراته:
-لم تقومي بذلك بعد، فلما كل ذلك القلق؟
استقمت واقفة في إباءٍ، وأشرت إلى موضع صدري هاتفة بتحفزٍ:
-هنا، يؤنبني…
نظر إلي بنظرة مستفهمة، فأوضحت أكثر:
-ما يُطلق عليه الضمير، ربما لا تملك واحدًا، لكن خاصتي لا يزال يقظًا.
وسَّد رأسه خلف ذراعيه، وقال مبتسمًا قليلًا:
-إنها مسألة وقت ليسكت للأبد.
تحركت من مكاني، لأسير بتعجل نحو المقعد الوثير، سحبت روبي الحريري الملقى على مسنده، ارتديته حول قميصي بعصبية مرددة في خفوتٍ:
-ليت كل شيء بهذه البساطة.
عقدتُ رباطه بنفس القدر من التعصب، وتوجهت لتسريحة المرآة لأسوي خصلات شعري النافرة، نظرت إلى انعكاس وجه “فيجو” في المرآة حين سألني بعزمٍ جاد:
-بما أنكِ استفقتِ من نومك، لما لا نتمرن الآن؟
ارتفع حاجباي للأعلى في دهشةٍ، وسألته بعينين تحدقان في انعكاسه بغرابةٍ:
-في هذه الساعة؟
ظهرت التسلية على قسماته، وشعرت بشيء من المكر المتواري وراء سؤاله:
-أيوجد لديكِ مانع؟
لذت بالصمت وادعيت انشغالي بهندمة ثيابي، فأكمل مبتسمًا على غير عادته الجادة:
-إنه أنسب وقت للتدريب، فقد تحتاج مهاراتك للصقل.
مؤخرًا لاحظت أنه حين يكون بمفرده معي يتخلى عن وجهه الجليدي الجامد، يضع هذه الرسمية السقيمة جانبًا، ويبدو كشخص طبيعي يبتسم ويمازح في بعض الأحيان. نفضت ما راود تفكيري لحظيًا، لأردد في تذمرٍ:
-حقًا؟ أتظن ذلك؟
اكتفى بالإيماء برأسه، وهذه الابتسامة الصغيرة ما تزال تحتل ثغره، استدرت لأواجهه مباشرة، وأنا أقول بنوعٍ من الهزل الساخر، ومستخدمة يدي في الشرح كذلك:
-الأمر كما فهمت ليس معقدًا، سألتقي بـ “سيلفيا” هذه، أصحبها بعيدًا عن الأعين المتطفلة، ثم أمنحها ابتسامة مهذبة، قبل أن أرفع الإبرة وأغرزها في قلبها لتسقط صريعة عند قدمي.
أطلق ضحكة حقيقية قبل أن يعلق، وعيناه تتجولان بحرية ورغبة على ساقي البارزتين:
-إنها إبرة رفيعة..
لن أنكر أن رؤيته يتأملني في نشوة ترضيني كأنثى، خاصة مع علمي الأكيد بعلاقاته الأخرى مع العشيقات اللاتي يعملن في نواديه، كدت أضحك في تلقائية على طرفته عندما أكمل باقي جملته:
-وليس وتدًا خشبيًا تقتلين به مصاصًا للدماء.
بصعوبةٍ وأدت ضحكتي في مهدها، لأنطق بعبوسٍ مصطنع:
-هه، سخيف!
رأيت نظراته تتألق تجاهي وهو يقوم من استلقائه ليخبرني بلهجته التي لا تُرد:
-سأنتظرك بالأسفل ريثما تبدلين ثيابك.
لم يضف شيئًا، وغادر في هدوءٍ لتظل نظراتي معلقة بطيفه الذي رحل، تنهدت على مهلٍ، لأكرر بعدها مع نفسي بندمٍ متزايد:
-ما الذي أقحمت نفسي فيه!
شعرت بالصداع يقتحم عقلي هو الآخر، أكان ينقصني ذلك؟ من فوري لففت حول الفراش، لأبحث في الأدراج الموجودة بالكومود الملاصق لجانبي منه عن دواء مسكن، التقطت واحدًا من الأشرطة التي وصفتها الطبيب “مارتي” لي في وقت سابق، واستخرجت منه قرصًا، ثم تناولته بغير ماء، لأسير وأنا ابتلعه باتجاه غرفة تبديل الملابس حتى أغير قميص نومي بالملائم من الثياب.
…………………………………..
دعكت عيني وأنا أهبط على درجات السلم لأصل إلى البهو، حيث يتواجد به الباب المشترك المؤدي لصالة ممارسة الرياضة الملحقة بالقصر، قلما تواجدت بها، فأنا لست من هواة ممارسة الرياضات العنيفة، خاصة وأن معظم معدات التدريب تخص محبي ممارسة ألعاب القوة وتقوية العضلات. ألقيت نظرة خاطفة على ثيابي الرياضة المريحة، كانت عقدة حذائي غير معقودة جيدًا، فجثوت على ركبتي لأربطها، اعتدلت واقفة، وتابعت المشي إلى هناك؛ لكن يبدو أن أطياف النعاس قد راحت تداعب جفوني، تثاءبت للمرة الثالثة عندما وصلت إلى الصالة. ضربت على وجنتي برفقٍ لأستفيق، ثم دفعت الباب وولجت إلى الداخل، نظر إلي “فيجو” متسائلًا:
-هل أنتِ مستعدة؟
هززت رأسي إيجابًا، فأشار إلي بالتقدم ناحيته وهو يأمرني:
-اقتربي.
امتثلت لأمره، وسرت تجاهه، وقفت على بعد خطوة منه، لاحظت أنه يمسك شيئًا صغيرًا بيده، أمعنت النظر بتدقيقٍ أكبر، بدا كقلمٍ حبري رفيع؛ لكنه قصير الطول، ومصنوع من مادة تشبه المعدن في لمعانه، أشرت بعيني إليه وأنا أسأله مستوضحة:
-ما هذا؟
رفع يده الممسكة بها في مستوى نظري لأنظر إليها عن كثبٍ، وجاوبني:
-الإبرة المطلوب منكِ استخدامها.
تعقدت ملامحي في توترٍ، فأكد لي:
-لا تقلقي، إنها خالية من أي سموم.
رددت بوجهٍ متجهمٍ وبقدرٍ من السخرية:
-أوه، أشعرني ذلك بالارتياح.
لا أعرف إن كان قد ابتسم أم لا، لأني لم أتطلع إليه، حيث تفشت في أوصالي رغبة غريبة تستحثني على ترك التدريب، والعودة إلى غرفة النوم، ثم الاستلقاء بداخل الفراش المريح، تمطيتُ بذراعي لأرجئ على مضضٍ هذه المتعة الجميلة لوقتٍ لاحق، وطلبت منه في غير صبر:
-أرني كيف أوجهها لصدر المدعوة “سيلفيا” حتى أذهب للنوم.
علت قسماته القليل من الدهشة، ومع ذلك لم يعقب. مجددًا وضعت يدي أمام فمي لأخفي تثاؤبي، وعاودت النظر إليه برأس راح يثقل بالتدريج، حاولت بذل جهدي لانتبه إليه عندما تكلم:
-عليكِ أولًا نزع هذا الغطاء الصغير عن السِن المدبب.
أومأت برأسي كتعبير عن متابعتي له، شاهدته كيف أخفى الإبرة في البداية براحته، ثم جعل أصابعه قابضة عليها وهو يشرح لي ببساطة:
-اجعليها ثابتة هكذا، وسدديها مباشرة نحو أي بقعة ظاهرة من جلدها.
تساءلت بعد نحنحة خفيفة:
-وماذا أيضًا؟
أخبرني وهو يشير بيده نحو موضع نهاية الإبرة:
-ثم اضغطي على هذا الزر حتى تفرغي السائل المملوء في الأنبوب الموجود بالداخل.
هززت رأسي قائلة في تفهم:
-حسنًا.
تأهبت حواسي عندما أمرني:
-هيا حاولي.
رفعت حاجبي للأعلى، وسألته في نبرة غير واثقة:
-الآن؟
هتف مستنكرًا كسلي الواضح:
-نعم، ألسنا هنا لنتمرن؟
وضعت يدي على مؤخرة عنقي لأفركه برفقٍ، ثم رددت في تأفف:
-حسنًا.
أعطاني الإبرة، فأمسكت بها مثلما أرشدني، وقمت بتسديدها نحو جانب كتفه بتمهلٍ، فقبض على رسغي وكاد يلويه، تأوهت من الألم وهتفت في ضيقٍ:
-إنك تؤلمني.
أرخى أصابعه عن معصمي، وحذرني بلهجة غير متساهلة:
-نحن لا نمزح هنا، أعيدي المحاولة.
غمغمت لاعنة إياه بلا صوتٍ، وسددت الإبرة في نفس الوجهة؛ لكنه صدها بكفه فأسقطها من يدي، نظرت له مصدومة فأمرني:
-التقطيها وأعيدي المحاولة.
انحنيت لأخذها، ثم كررت محاولتي، أخفقت بالطبع مع مهارته المشهود لها؛ لكن بعد بضعة محاولات تأرجحت بين الفشل والنجاح استحسن تحسن أدائي. أحسست بعد ذلك المجهود بانخفاض طاقتي للغاية، حاولت الصمود وهو يقول بلهجته الآمرة:
-مرة أخرى؛ ولكن بيدك هذه.
نفخت في إرهاقٍ، ومع هذا لم أعصِ أمره، نقلت الإبرة لكفي الآخر، ثم قمت بتسديدها نحو ذراعه في حركة خفيفة، في البداية أخفقت، ثم كررت المحاولة حتى نجحت بعد مرتين من التجربة. أبدى إعجابه باستيعابي، فقال:
-جيد، أنتِ تتعلمين بسرعة.
سألته بتثاؤبٍ:
-هل انتهينا؟
ثم رفرفت بعيني لأجبرهما على البقاء مفتوحة، تمعنت بمجهودٍ مضاعف في وجه “فيجو” عندما سألني:
-أصدقيني القول، لماذا قبلتِ بالمهمة؟
أحسست أن رصيدي من البقاء يقظة أوشك على النفاذ، تساءلت مع نفسي بتحيرٍ وتخبط:
-ما الذي أصابني لأغدو هكذا؟ يا إلهي، سأغفو على نفسي.
تنبهت بصعوبة ملحوظة لـ “فيجو” وهو يتساءل:
-ولا تقولي أنه لأجل شقيقتك، فقد استسلمت لمصيرها.
تشوشت الرؤية لدي كثيرًا، وبدت مضطربة، خاصة مع اهتزاز “فيجو” بشكلٍ مستفز، سألته في ضيقٍ:
-أنت .. لماذا ترقص هكذا؟ كف عن الحركة!
حملق في مدهوشًا مستطردًا:
-ماذا؟
قبل أن أفهمه ما أريد إخباره به، وجدتني أتمايل، وأسقط في أحضانه، تلقفني بذراعيه، وضمني إلى صدره، وصوته يتساءل في إلحاحٍ:
-“ريانا”، هل أنتِ بخير؟
قلتُ ببساطة، وأنا أدع ذلك الخدر اللذيذ يسحبني إليه:
-أريد أن أنام، لا أستطيع فتح عيني.
سألني وهو يهزني برفق:
-ماذا تناولتِ؟
بدا صوتي ثقيلًا، بعيدًا، قادمًا من الأعماق وأنا أجاوبه:
-يبدو أن المسكن قد جلب لي النعاس.
كان صوته يزداد بُعدًا وهو يردد بالقرب من أذني:
-أي مسكن؟
ثقل لساني كثيرًا، حتى شعرت بالأحرف تخرج بصعوبة من بين شفتي حين أجبته:
-ذاك الذي…
عجزت عن النطق بأي كلام مفهوم، كان آخر ما التقطته أذني قبل أن أسبح في ظلامي اللطيف صوته الآسر المنادي لي:
-“ريانا”.
……………………………………………
احتضنت فنجان المشروب الدافئ بين راحتي؛ كأنما أخشى فقدانه، لأقربه على مهلٍ من شفتي، فأرتشف رشفة أخرى منه، استمتعت بالمذاق المرير وأنا أغمض عيني، ما إن ابتلعته حتى عاودت فتح جفني، ورحت أتأمل في هدوء الطبيعة الممتدة على مدى بصري. كان من الجيد حين استيقظت صباح اليوم التالي بعد غفوتي المريبة ألا أجد “فيجو” بجواري، لم أكن لأسلم من أسئلته السقيمة، وربما أيضًا سخريته حين يكتشف أني تجرعت الدواء المهدئ الذي اعترضت على أخذه منذ البداية.
لحظاتٍ من السلام والسكينة تخللتني، فاستعدت القليل من هدوئي، سرعان ما تبدد ذلك وقد لمحته قادمًا من طرف عيني، تملكني الحرج مع وقوفه قبالتي، وقبل أن يبادر بالكلام رجوته وأنا أخفض فنجاني:
-من فضلك، لا تقل شيئًا.
جلس على الأريكة المواجهة لي، واستطرد قائلًا ما توقعت أن يردده على مسامعي في وقتٍ أبكر:
-أنتِ من رفضتِ تناول الدواء، ثم لجأتِ إليه بعنادك.
بررت له تصرفي:
-كنت أظنه مسكنًا للصداع، لا مخدرًا قويًا.
راح ينصحني بصوتٍ شبه هازئ:
-في المرة القادمة إقرأي الوصفة أولًا، قبل أن تضطريني لاستدعاء الطبيب متأخرًا.
قلت مقتضبة في وجومٍ حرج:
-سأفعل.
كنتُ ممتنة لكونه لم يستمر في الحديث عن ذلك الموضوع السخيف، خاصة أني علمت من الخادمة عن قدوم الطبيب “مارتي” على وجه السرعة لتفقد أحوالي بعد أن ظن “فيجو” أني أقدمت على الانتحار للفرار من جحيمه الملاحق لي. انقبض قلبي حين سألني:
-هل لديك الوقت الكافي لتستعدي لحفلتنا الهامة؟
تقلصت أحشائي عندما تطرق لما كنت أخشاه؛ ليلة القتل وسفك الدماء. فقدت شهيتي لتجرع الباقي من فنجاني، ورددت بملامح لا تزال واجمة:
-لن أستغرق الكثير.
علق بإيجازٍ قبل أن ينهض:
-جيد…
تطلعت إليه وهو يمرر يده أعلى رأسه، شردت في تأمله متذكرة ما كان يراود عقلي مؤخرًا من تفاسير غير مكتملة عن احتمالية تعلقي به بالرغم من كافة مساوئه وعيوبه المميتة، يبدو أني أطارد سرابًا خلقته في أعماقي، فالتصق غريزيًا به بدافع ارتباطي الملازم له. لم أنتبه لكوني قد أطلت التحديق فيه، خجلت، وشعرت بانبعاث الحرارة في وجنتي وهو ينظر مباشرة إلي بنظرة نافذة، خفضت من بصري متحاشية إياه؛ لكني سمعته يضيف:
-بالمناسبة، لقد وضعت لكِ الخادمة ثوبًا مميزًا أحضرته خصيصًا لأجلك.
عفويًا رفعت ناظري إليه، فقد استرعى اهتمامه الغريب حفيظتي، وجدته ما زال يُطالعني بنظراته القوية المحاصرة، كأنه يسبر أغواري ويكشف ما يدور في دواخل عقلي، لذا قلت مجاملة وبلجلجة طفيفة لأحثه على الذهاب سريعًا:
-لم يكن هناك داعٍ لذلك، فلدي الكثير من الأثواب الجديدة بالخزانة.
رأيتُ هذه البسمة الماكرة تتجسد على فمه وهو يقول بغموضٍ لم يريحني نهائيًا:
-إنه ملائم أكثر لهذه الليلة الاستثنائية.
كدت أنطق بشيء لأعارضه؛ لكني حبست جملتي في اللحظة الأخيرة، ففي النهاية سأرضخ لأوامره، منحته فقط إيماءة صغيرة من رأسي، ليودعني بعدها منصرفًا إلى عمله.
……………………………………..
كم صدمني رؤية الثوب الأنيق المبهر الذي أهداه لي! ربما لو كان ذا لونٍ داكن لتفهمت طبيعة اختياره؛ لكنه جاء به مناقضًا لما اعتدت عليه منه: ثوبٌ أحمر اللون، سارق للأنظار، ناهيك عنه كونه عاري الظهر، حيث امتدت فتحته إلى الخصر تقريبًا، وله حملات كتفٍ رفيعة، كما أن مقدمة صدره اتخذت تصميمًا مثلثًا، رأسه المدبب تصل إلى نقطة التقاط المفاتن الأنثوية. رفضت وضعه على جسدي حتى جاء إلي، فسألته في حدة طفيفة وأنا أشير إليه بيدي:
-أنت تمزح؟
هز رأسه نافيًا وهو يؤكد لي:
-لا، إنه مناسب.
تمسكتُ برفضي قائلة:
-لا أظن ذلك، حقًا ستجعلني أرتدي هذا اللون الصارخ؟
رد بإيماءة خفيفة:
-نعم.
هتفت في استنكارٍ أكبر غير مصدقة اختياره العجيب:
-كل من في الحفل سيلاحقني بنظراته، كيف سأتمكن من حقنها بالإبرة وأنا مُلفتة للأنظار بثوبي ذلك؟
أخبرني في هدوءٍ:
-هو تمويه جيد لإبعاد الشبهات عنكِ.
ما زالتُ عند رفضي، وأصررت عليه بصياحي المنزعج:
-حقًا؟ أنت تتحدث ببساطة، فلست من سيقتل أحدهم اليوم؟
مد يده ليتلمس وجنتي، داعبها في لمسة رقيقة، وقال مبتسمًا:
-لا تقلقي، ستمضي على خير.
كم بدا مثيرًا للحنق ببساطته الزائدة، استثار أعصابي أكثر حين تابع:
-فقط لأنها مرتك الأولى فأنتِ متوترة.
وكأنه يحادثني عن شيء اعتيادي أقوم به في يومي الرتيب لأقضي به على الملل الذي يصيبني من آنٍ لآخر، استنكرت تساهله في هذا الأمر الخطير، وصحت في غيظ وأنا أهدد بسبابتي المرفوعة في وجهه:
-لا تقل ذلك؟ ولا تجعلني أتراجع!
باغتني بسؤاله الصريح الذي عجزت عن إيجاد الجواب له:
-إذًا ما الذي دفعكِ للقبول؟
جاوبته بنبرة تماوجت قليلًا بين التذبذب والثبات:
-أنت أخبرتني سابقًا بأنه لا مكان للمثالية في عالمنا، وها أنا أتوقف عن اتباع مبادئي.
خفقة عاصفة ضربتني في فؤادي، وقد ألصق فجأة دون مقدمات تمهيدية شفتيه بخاصتي ليعطيني قبلة ناعمة، رائعة، حسية، مؤثرة، ومخادعة، تغطي علي أي نواقص قد رأيتها فيه، بالكاد حاولت التنفس وأنا أحاول صد ما يجيش به من عواطف قوية احتلتني دفعة واحدة، عبر قبلته المتمكنة. تراجع “فيجو” عني لمسافة ضئيلة للغاية، وهمس لي بما أصابني بدفعات متدفقة من الاضطراب المُلبك لكياني:
-استمري على ذلك المنوال، وستفوزين بما هو أكثر من مجرد كونك زوجة للزعيم ………………………………………………. !!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غير قابل للحب)

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى