روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الخامس والسبعون 75 بقلم نهال مصطفى

موقع كتابك في سطور

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الخامس والسبعون 75 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الخامس والسبعون

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت الخامس والسبعون

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الخامسة والسبعون

🔥الخاتمـــــة🔥
‏لقـد شبه قيس ليلته بضوء الشمس، تشبيه دافئ وحنون ومتجدد بقلبـه ككل نهار تطلع بهِ شمسه :
‏”وإن متُ من داءِ الصبابةِ أبلغا ‏شبيهةَ ضوء الشمسِ مني سلامِيا ”
ولكـن حُبـه بات يُنافس عشق قيس ، وأطلق عليـها الحيـاة بأكملهـا مهما فر منها فهو في فضائهـا آيضًا ، لم يمت بداء حُبها بل حيا به :
” لقـد عصى قلبي وغوت مذاهبـه ،
وعلى خدي البحـر كُتبت نجانتي و سُلميِ ،
وبـكِ تركتُ الماضي بمـا يحملـهُ
وجئت تائبًا
مُرحبًا بحُبك
الذى أغوى قلبًا مُذنبًا
يريد جنتـهُ
فـ لم يمت ليصـل
بل أغرم بـ إمراة منسوجة من حرير الفردوس
فباتت حياته وحلوهُ ”
#نهال_مصطفى .
*******
وصـل عاصي لمنزلـه بالغردقـة بصُحبـة أطفالـه وزوجتـه .. كانت تحمـل ريان على كتفها وهو الأخر يحمل ركان وكل منهما مُمسكًا بفتـاة .. جاءت سيدة تركض من المطبخ مرحبة بعودتهم وأخذت تذيع كآبة المنزل بدونهم .. في تلك اللحظـة حضر رشيد ويونس وتعلو ملامحهم علامات الحيرة والفضول .. فتدخل رشيـد متسائلًا :
-عاصي أيه الموضوع الـ مينفعش يتأجل ده !!
أشار لسيدة آمرًا :
-نادي حد يطلع الشُنط دي فوق يا سيدة ..
ثم أتبع :
-تعالو نقعد في المكتب جـوة نتكلم !
تدخلت تاليا المتشبثة بيده متسائلة بفضول طفولي:
-هنيجي معـاكم يابابي !!
بادل صغيرته بابتسامـة خفيفة وقال:
-هتيجـو معانـا يا روحي ..
مالت لعنده متحيرة :
-عاصي فـ ايه ؟!!
-تعالي هتعرفي ..
جلس الجميع بغرفة مكتبه فوق الطقم الاسود الجلدي اللامع .. وضعت حياة صغارهـا بالعجلة الخاصة بهم وجلست بجوار الفتيات .. تدخل يونس متسائلًا :
-قعدنا !! وبعدين ؟!
رمى لعندها ابتسـامة خفيفـة ثم عاد مرتسمًا ملامح الجدية على وجهه متحمحمًا :
-رشيـد بمـا إنك توأم رسيـل ، وأخوهـا الكبيـر .. تسمح لي اطلب أيدها منك ..
باتت علامات الاستفهام تتقاذف فوق روؤسهم وتتأرجح الأعين المتحيـرة والتي تحاول استيعاب ذلك الطلب الغريب !! بملامحها التي زينها الحُب مثل القمر تضيء الكونَ بجمالها ، ضحكت بخفوت ممزوج بالتعجب وهي تهز رأسهـا باندهاش :
-عاصي !! أنتَ بتعمل أيه يا حبيبي؟!
فأكمل يونس متعجبًا :
-بجد هو في أيه !! أبو ريان إحنا قربنا نجوز ولادكم !!
تبدلت ملامح رشيـد مستمتعًا بدوره كوكيـل لأختـه .. متخذًا دور وليهـا ، اتكئ على مقعده للخلف وقال بجدية :
-والله يا عاصي أنتَ فاجئتني بطلبك ده ، زي ما أنت شايف أنا أختي مش بتفكر حاليـا فـ الجواز ، بس ..
فقاطعـه عاصي متوسلًا متقنًا دور العريس :
-لا أبوس أيدك أسالها أهي ، أنا ممكن أقعد معاها وأقنعها بيا كعريس لُقطة مترفضش ..
ثم دار لعندها بعد ما انزلقت غمزة خفيفة من عينيه لعندها وقال :
-ولا أيـه يا عروسـة!!
برقت عينيها بذهول :
-عاصي بتتكلم بجد !!
رد بثقة :
-طبعا بجـد .. مش نفسك في فرح وفستان واطلب أيدك ونعيش جو المخطوبين ده !! وأنا اشتريت ..
ثم نظر لرشيد محافظًا على ابتسامته اللطيفة وأكمل :
-شوف يا أبو نسب ، أختك هتجي لها الشبكة الـ تعجبها وهيتعملها أكبر فرح ، وهيتكتب لها قايمة جديدة وكل طلباتك أنا جاهز لها ..
هز رشيد رأسـه وقال :
-والبيت ؟!
عاتبته رسيل بمزاح :
-رشيـد !!
رد الأخير بطاعة :
-نغير العفش والديكور ، ولو حابة بيت جديد خالص أنا موافق ..
عقد رشيـد حاجبيه :
-طيب نفكر ونسأل عليك كويس ونشوف ..
ضرب يونس كف على الآخر وهو يطالع أخته :
-دول اتجننوا رسمي !
كتمت حياة ضحكتها وهي مستمتعة بهذه الأجواء ثم نظر لها عاصي متسائلًا :
-وانتِ كمان هتفكري يا عروسة !!
هزت رأسها بالنفي حيث طالعت فتياته وقالت بدلال :
-هاخد رأي حبايب قلبي الأول ..
ثم داعبتهم بلطف وقالت بخجل يغمره الضحك :
-بنات ، بابكم طالب إيدي وعايـز يتجوزني .. أيه رأيكم ؟! شايفين إنه عريس لُقطة يعني ميترفضش ولا نرفضه يمكن يجي الأحسن منه !!
انكمشت جبهته معترضًا :
-حياة ، اظبطي نفسك !!
-الله !! ده كلام بنات أنتَ مضايق ليه ؟! سيبني اتكلم مع صحابي براحتي .
ثم نظرت لهن الغارقن فـ الضحك وقالت مستعينة برأيهم :
-هاه يا حلويــن !! ايه رايك يا توتا !
هتفت تاليـا بحماس طفولي يتدفق من عينيها ولوحت بذراعيها :
-أنا موافقة عشان بابي أحسن واحد في الدنيا كلها .
أشاد عاصي فارحًا :
-بنت أبوها بصحيح ، البنت دي بتفهم ، تربيتي .
ثم نظرت لداليا بعد ما طبعت قُبلة رقيقة بجدار عنق تاليـا :
-ورأيك يا دودو !!
وضعت الصغيرة سبابتها بفمها وقالت بشـكٍ :
-مش عارفة ، بس ممكن تستنى وتتجوزي واحد تاني ولو مش عجبك أهو بابي موجود ..
-استبن يعني!!!
ثم هتف عاصي مستنكرًا :
-البنت دي بنت كـ***
انفجر الجميع بالضحك وأخذت حياة داليـا بحضنها وغمرتها بالقُبل وقالت متدللة :
-دودو دي تربيتي ..
رد معترضًا :
-انجزي ، مش هكرر عرضي مرتين !! هشخب كلامي في دقيقة!!
ظلت تتهامس مع داليـا كأنها صديقة من عُمرها لبرهة من الزمن حتى اتفق الاثنان على رأي واحد .. فتفوهت داليـا مردده بثقة :
-خلاص أنا موافقة عشان مامي قالت لي انها بتحبك مش هتعرف تتجوز حد غير بابي .
كست الفرحة معالم وجه الجميـع ، فأردف عاصي بسؤاله الأخيـر :
-هااه وأنت يا يونس !
رد هو الأخر متعجبًا وبنبرة مزاح :
-يعني مهم أوي رأيي يعني مثلا لو قولت لا هيجرى أيه !! عاصي أنت أخر القعدة دي هتاخد مراتك وتطلعوا أوضتكم !! يبقى أيه لازمته رأيي !!
رد مبررًا :
-لا مش هيحصل ، أنا جيت لحد هنا عشان أطلب أيدها منكم فـ بلدها ونقرأ الفاتحة .. وزي ما أنتوا عارفين باقي شهرين عـ مدرسة البنات ، ومش هعرف أنقلهم القاهرة الا بعد السنة ما تخلص ..
تدخلت مستفسرة :
-عاصي أنتَ ناوي على أيه !
أشار لها متفهمًا حيرتها وأتبع :
-أنا وتميم ومراد داخلين مشروع جديد وتقيل ، ولازم أكون موجود فـ القاهرة ٢٤ ساعة .. وأنتِ يا حياة هتكوني قاعدة هنـا مع الولاد واعتبرينا مخطوبين بجد .. وحتى زياراتي ليكـم هتكون في وجود أخواتك ..
ثم أشار لأخيها راجيًا :
-رشيد ، مش هوصيك ، أختك خطيبتي وبس من الساعة دي !! أنت فاهمني ؟!
وثبت من مكانها لعنده بإعتراض فوقف أمامها ليهدأ حيرتها :
-عاصي !! أنت عايز تسيبنا هنا وتزورنا بس !! لا أنا مش موافقة طبعًا ، بطل هزار .
قَبل جبينها بحنيـة وأخذ يمسح على رأسها بلطف :
-مش عايزة فرح !! اعتبرينا هنتجوز من أول وجديد .. والجواز ده له شروط معينة .. أنا عايزك تعيشي كل التفاصيـل الـ بتحلمي بيها ، هاجي أزوركم ، وعلى طول هنتكلم في التليفون ..
ثم مال متهامسًا بأذانها :
-عايز أجدد حُبنا ونبدأ من جديد !!
غمغمت متسائلة بدلالها الذي صهر الحديد بنبرة خفيضة :
-هتقدر تبعـد عني !!
تدخل رشيـد آنذاك متحمحمًا ليقطع حوارهما وهو يسحب أخته من حضن زوجها وقال بنبرته الأجشة :
-طيب بس نحترم المسافات !! تعالى كده يا رسيل ، وأنت نورتنا يا عاصي بيه ! هنفكر ونرد عليك .
اتسعت ابتسامة عاصي وهو يطالعه بامتنان :
-أنا عايز من ده طول فترة الخطوبة ، عايزك الشوكة الـ هتقف فى زوري كل ما أقرب من أختك ..
ثم توسل له ممازحًا :
-رشيد أنا أملي فيك !!
ربت رشيد على كتفـه بتفاخر :
-بس كده !! دانا هطلع عليكم القديم والجديد!
فانضم لهما يونس قائلًا بجدية مصطنعة:
-تمام يا عاصي بيه ، قبل ما تيجي تشوف ولادك وأختي اتمنى تبلغنا قبلها ونقولك مواعيدك تناسبنا ولا لا .. ومفيش زيارات بعد ١٠ بالليـل ، عشان أحنا بننام بدري .
فتدخل رشيـد واكمل وهو يطالع ساعته :
-السـاعة بقيت ١٠ وماينفعش تقعد أكتر من كده !
عض على شفته متحسرًا لشروط أخوتها حتى مال معاتبًا :
-عاجبك الـ بيحصـل فيـا ده !!
تحامت بظهر أخيها وقالت :
-مش أنتَ الـ عايز ، اتفضل استحمل .
ثم هز رأسه متقبلًا على مضض طقوس لعبتهم الجديدة فجثا على ركبتيه ليُقبـل صِغاره ويودعهما .. ثم عانق فتياته وقبلهما بحب ودفء وقال ناصحًا :
-مش عايز شقاوة ونسمع كلام مامي .. اتفقنا ..
كانت تنظر دورها على أحر من الجـمر ، جاء لعندها ثم سحبها من كفها لتقترب ، أول ما فعله نزع خاتم جوازهما من يسارها ووضعه بيمينها ثم قبل ظهر كفها بدفء .. اتسعت ابتسامتها وهي تعيش منه لحظة جديدة من الجنون كادت أن تطير أخر ذرة من عقلـها .. بادرت مرتمية بين ذراعيـه وعانقته بشـدة وهو تهمس له عن مدى اشتياقها له.. فتدخل رشيد جاهرًا بامتعاض :
-أحنا اتفقنا على أيه !! يونس وصل عاصي بيه لحد الباب ..
ابتعدت عنـه ضاحكة وهي تجفف دموعها وقال راجية :
-هكلمك كل شوية اطمن عليك ..
اكتفى بطبع قُبلة على رأسها قبل أن يرحل ثم سار مع يونس لباب وهو يطلب منه متوسلًا خائفًا من أن يهزمه الحنين :
-يونس مش هوصيك ، لو لمحتني جيت هنا ورجعت عن كلامي اضربني بالنار .
غمر الضحك الاثنان فعاتبه يونس بمزاح :
-والله طول عمري بقول حياة أختي الكتابة والروايات أكلت عقلها ، بس واضح انها أثرت عليك أنت كمان .
ربت عاصي على ظهره قائلًا وهو يتأهب لصعود سيارته :
-بكرة لما تحب مش هنعرف نفوقك ، ليك يوم يا بطل …
•••••••••••••
مـر شهران على هذا الاتفاق ..
انغمست رسيـل بحياتها الجديدة مع صغارها ، وامتحانات البنات والاهتمـام بشغلها الذي أصرت عليه بعد محاولات كثيرة حتى اقتنع .. وبآخر اليـوم تقفل باب غُرفتـها لتنفرد بـ تلك المُكالمة التى تنام عليها كل ليلة حتى تستشعر بأنفاسه ووجوده معها .. مكالمة يملأها الضحك والهزار وسرد أحداث اليوم الطويل وكيف مر اليوم بدون عناق بعضهما لبعض .. والكثير من رسائل الحُب التي كانت تتغلغل ساعات عمله فتشق تلك الابتسامة على محيـاه .. عاد الاثنان بالعمر لعشر سنوات ماضية ، هناك فتاة مراهقة صاحبة الثامنة عشر عامًا تُغازل حبيبها الذي ينتظر كلماتها على أحر من الجمـر ..
وفي تلك الليلـة التي تسبق ليلة زفاف العرسان وألتقاءهم بعد أشهر الغياب .. شدت الغطاء فوق صغارها النيام بمهدهما ، ثم عادت لتختها وتأكدت من غطاء الفتيات اللاتي يرقدن مكان أبيهم بجوارها .. سحبت هاتفـها وسارت على طراطيف أصابعها نحو الشُرفة التي فتحت بابها بحذرٍ وقفلته بنفس الحذر ، جلست على مقعدها وهاتفته ، فاستقبـل مكالمتها بلهفة ممزوجة بالعتاب :
-فينك طول اليـوم وبرن ومش بتردي !! حياة أي حركات العيال دي !
كتمت الضحك وهي تبرر له :
-الله ! مش عروسـة وبجهز عشان الفرح .
جز على فكيـه كي لا يسمعه السائق :
-تردي عليـا وتقوليلي أنا فـ المكان الفلاني ..
ظلت تأكل بطرف شفتها السُفلية متدللة :
-وصلت ولا لسه !!
زفر دخان غضبه وقال :
-نزلت من الطيارة وفي طريقي للفنـدق أهو ..
غمغمت بنفس النبرة الخفيضة :
-وأنا جهزت كُل حاجة عشان الفرح ..
ثم تنهدت بارتيـاحٍ :
-وآخيرًا بكرة هنكون مع بعض ، أنا بجد مش مصدقة ، شهرين يا عاصي !! عملتها أزاي دي ؟!
تحمحم بخفـوت وهو يُراقب الطريق حولـه ثم قال مغيرًا مجرى الحديث:
-متناميش ، نص ساعة وهقول لك تنزلي ..
تمتمت بمزاحٍ :
-ومش خايف أخواتي يشوفك !!
جز على فكيه متوعدًا :
-أخواتك دول أنا هربيهم عـ الـ عملوه فيا ، نعدي بكرة بس .. مش هرحمهم .
وضعت ساق فوق الأخرى وهي تضحك بصـوتها الدفين :
-طيب جاي ليـه !! ولادي نايمين ومش هعرف أسيبهم وانزل أشوفك .
رد بإيجاز:
-خلاص هطلع لك ، وتبقي أنتِ الـ اخترتي ..
ردت معترضة على تهديده :
-لالا خلاص ، فات الكتيـر مش باقي غير كام ساعة ونكون مع بعض .
-أيـوة كده ، اتظبطي ! أقفلي ، معايـا مكالمة شغل وأرجع اكلمك ..
أردفت متدللة :
-هستناك ..
قفلت معه المُكالمـة ثـم فتحت ” نوت ” هاتفها الحديث من ماركة ” جلاكسي Z fold5 ” الذي أحضره لها قبـل شهريـن ممسكة بالقلم الألكتروني وشـرعت في تدوين دقات قلبها المفعمـة بسعادة تعجز الكلمات عن وصفهـا .. أخذت تفكر للحظات قبل أن تكتب حرفًا ، أخذت نفسًا طويـلًا وبدأت بالكتابة :
“‏”كل ما أتذكره من بعد موت أمي أنني كنت أركض ، اختبأ باحتياجات أبي وأخوتي ، انشغل بها عن تقبُلي فكرة رحيلها وأنا نائمة بحضنها ، عبثي وراء رجل وقعت فريسة لمكايده ، يعد رحيل أمي مثل الكابوس الذي عشت لسنوات طويلة أعاني منه ومن لعنته التي أصابت قلبي ، لذلك أبذل قصارى جهدي كي أعتني بطفلتيه حتى يحين اللقاء بأمهـا واسلمها تلك الأمانة بنـفس راضيـة تمامًا ..
ولكني لم أتوقف إلى الآن عن تذكر ما يؤلمني من حين لآخر ..جاء ذلك العاصي لقلبـي بوقته المناسب ، تجرعت معه أسمى معانٍ الحُب وأجملهـا .. كانت كل محاولاتي فقط، أريدُ أن أنجو بهذا الأحمرِ الرّطْب”قلبي” فكانت النجاة على كفيـه ..
بالغـد ستكون أول ليلة بعد ستون يومًا من الغياب وفراغ جيوب قلبي منـه .. لم أنكر بروعة تلك التفاصيل التي عيشتها معه ونحن ننسج نوعًا جديدًا من الحب تحاوطه تلك اللهفة المؤجلة .. كيف سيكون مذاق اللقاء الأول بعـد أيام الشوق والحنين !! كيف سأعبر له عن مدى شوقي لعينيه بعد ما عجزت كلماتي عن الوصف !! كيف سيكون لقاء الشمس بالقمـر بعد عصور من الفُرقة !! ”
أخذت نفسًا طويلـة وهي تتحسس نبض قلبها المتراقص وتعض في شفتها السُفلية بتلك الخفة التي ترفرف بها روحها .. مررت عينيها عما كتبته ثم عادت لتواصل تدوين كلماتها :
“تتجلى أعظم صور الحُب في غيابٍ وافـر الحضـور .. لم أنكر خلاء جسدك من الغُرفة ولكنك دومًا موجود، دومًا ما تحاوطني من كُل صوب وحدب .. أشم عطرك فتُسكر أنفاسي كمثل لحظة فريدة تجمعنا معًا .. ارتدى ملابسك وأنا أحادثك بالهاتف فيصاب جسدي بتلك القشعريرة الدافئة التي تنتابني عند رؤيتك بالضبط .. وعندما يبلغ بي الشوق مبلغه لتقبيلك لدي بدل قمرك أربعـة جميعهم يحملون تفاصيلك .. أ لم أخبرك بأن قلبي مُحاط بك أينما كُنت !! إنك رجل مصنوع من ذكرياتي فلا تُراهن ”
تركت الهاتف من يدها وهي تتنفس بارتياح وتراقب شاشتها المُضيئة بابتسامة هادئة تغمرها اللهفة والحماس وأعين ينعكس بها لمعة النجوم ولكنها لم تكُف عن ذلك ، تناولت أصابعها الهاتف وأخذت تُسجل جملة جديدة لتنضم لدولاب كتاباتها :
-“” نسيت أمرًا هامًا ، نسيت أن أحدثكم عن ذلك الرجل .. الذي أيقظني وجهَه مُنذ اللقاءِ الأول وأيقنت أن هُناك حكايات كثيرة ستُنسج من عينيه اللاتي اتخذتهن مصدرًا لهيامي وإلهامي ..
كان لعوبًا ذكيًا وحاسمًا لا يتراجع أبدًا .. لم يَبدُ كأي رجلٍ إعتاده هذا العالم لقد كان مميزًا منذُ البداية حتى قسوته كانت مميزة وشهية آيضًا ، وفي تلك اللحظة التي اكتب بها آمنت خلالها بأنه وطن دافئ لغُربتي “”
مع آخر كلمـة لوصفه ظهر اسمه على شاشـة هاتفهـا ، بحماس سحبت الشاشة وهي تقول بنبرة مفعمة بالحيوية :
-حبيبي وصلت فين ؟!
-انزلي .. بس البـاب الخلفي مش حابب حد يشوفني ..
وثبت من فوق مقعدها :
-حالًا ..
عادت للغُرفة ثم تناولت وشاحها الصوفي الذي رمته على كتفها ليُغطي سترتها القطنية ذات الحمالات الرفيعة التي تعلو بنطالهـا الواسع الفضفاض .. ركضت بخفة فتاة مراهقة لتُقابل حبيبها السـري في ساعة متأخرة من الليل .. فتحت الباب الصغير بالمنزل لتصبح بالحديقة الخلفية للبيت ، ثم همت راكضة نحو الباب الحديدي الصغير الذي يقف وراءه .. سحبت ترباسه بحذرٍ حتى هلّ هلاله أمامه ، تناست كُل شيء وكأرتطام سباح ماهر بموج البحر ارتمت هي بين يديه بقفزة مفعمة بالتودد واللهفة صارخة بخفوت بحضنه وشعرها الطويل الذي يطوق أكتافهما :
-وحشتني !!
ما أن عادت لمكانها بقلبـه فأسقطت عنه عنـاء البُعد ومشقة عمله ، وخف حِمل الدنيا من فوق رأسه ، حاوط خصرها بذراعيه القوية القابضين عليـه وهو يذوب بذلك العطر الذي ملأ منه جيـوب صدره .. لامست أقدامها الأرض من جديد لتُملي عينيها من رؤيته التي كانت قبل عشرة أيام وهي تبث الحب بأناملها بين ثنايا ملامحـه مردفة بتلك التنهيدة المدججة :
-أخيرًا .. يعني خلاص دي أخر ليلة هنام فيها بعيد عنك .. تعرف أن البُعد ده خلاني أحبك أكتر واكتشفت تفاصيل مهمة أوي مخدتش بالي منها قبل كده .
اكتفى بقطف ثمرة التوت من فوق فمها القُرمزي وهو يربت على ظهرها وقال محذرًا :
-طيب نأجل كل الكلام ده لبكرة ؟!
-ليه يعني ؟!
عقد حاجبه مداعبًا :
-خايف يخلص ..
-متقلقش عندي غيره كتير فوق ما تتخيل .. قدرك وقعك من واحدة كاتبة مدمنة تفاصيل..ومدمنة لوجودك ..
تحمحم مستردًا رشُده كي لا تُسكره بعذوبة كلماتها أكثر ، وقال ممازحًا وهو يتفتنها :
-واضح أن هواكِ جاي على غيابي !! ملينـا وأحلوينا شوية .
تقلصت ملامحها بضحك معترفة بجريمتها الكُبرى التي اقترفتها طوال فترة غيابه وقالت بتفاخر :
-وكمان فـ كرش صغير أد كده .. عشان مش مبطلة أكل .. انا بقيت أكل ورا أربع عيال ياعاصي .. متخيل!!
رفع حاجبه مندهشًا :
-كمان !! كده يقولوا عليـا كنت مجوعك !!
أردفت متدللة :
-تؤ .. هقولهم وأنا جمبك بنسى الأكل والشُرب ، وجودك مشبعني .
طبع قُبلة جديدة بين حاجبيها مفعمة بأنفاس الشوق التي لسعت قلبها ثم سحبها برقة للسيـارة وأخرج صندوقًا متوسط الحجم وفوقه عِلبة سوداء قطيفة ومعه باقة حمراء من الورد وأهداهم لها قائلًا :
-كُل سنة وأنتِ معايـا ..
عقدت حاجبيهـا مندهشة ومنبهرة بما رأته :
-عاصي !! كل ده ليا بمناسبة أيه ؟!
-بجد مش فاكرة !!
-لا النهاردة كام ؟!! أنا مش عارفة أفكـر فـ أي حاجة غير يومنا بكرة !!
قفل زر بذلته متكئًا على باب سيارته المقفول وقال بصوت المتمهل :
-زي النهاردة مـن تلات سنين بالظبط ، خرجت لي حورية البحر من المية !
هبت شاهقة غير مستوعبة مرور الأيام بهذه السُرعـة تركت العُلب بالأرض بتلك المشاعر التي احتاجها طوفان الهوى وهي تتعلق برقبته غير مصدقة :
-ياخبـر !! أنا ازاي نسيت اليوم ده !! تعرف أن ده يوم ولادتي الحقيقية .. أنا على أيديك اتكتب لي عمر جديد وحياة جديـدة يا أحلى قدر حصل لي ..
-طول العمر وأنتِ جمبي ..
كانت تنبض بحضنه تفيض حُب وسعادة ، كان عليه أن يضمها إليه أكثر ليستمع لنبض قلبها بصدره أكثر وأكثر .. فأسدل الليل وشـاح نجومه على أكتافهم المُتعانقة .. ثم همس لها قائلًا :
-البوكس الكبير فيـه شوكليت جاية مخصوص من سويسرا عشانك .. والورد للورد طبعا .. والـnecklace عايز أشوفه عليكِ بكرة ..
لم يكن احتضانه كافيـا لوصف سعادتها فوضعت الكثير من القُبلات على وجنتيه كما إعتادت أن تُقبل صغارها وقالت وهي ترتجف من فرط الفرحة :
-عاصي بجد ، هحبك أكتر من كده أيه تاني !!
مال متهامسًا على آذانها بعد ما أغواه شبح حبها وقال متيمًا :
-ما تفكك من هنا وتعالى نهرب سوا …
فـ تلك اللحظة جاء رشيد من الخلف وهو يضرب كف على الآخر وهو يصيح معترضًا بعواصف غضبه :
-كمان بتستغفلوني !! أنت هنا بتعمل أيه ؟
تحمحم عاصي مستردًا وعيـه وهو يتمتم :
-انت طلعت لي منين بس !!
ثم زفر معتذرًا :
-حقك عليا يا سيدي ، أختك عندك أهي وأنا ماشي .
-استنى هنا !! هي وكالة من غير بواب !! أحنا مش متفقين أن مفيش مجي بعد ١٠ بالليل ، وكمان فـ السر !! مفيش احترام لكلمتي خالص ! لما أبوظ الجواز هتنبسط!
كتمت حياة ضحكتها وهي تُراقب تمتمات عاصي التي ختمها قائلًا بتوعدٍ :
-وحياة أختك الـ واقفة تضحك دي لهطلع عينك .. استنى عليا بس ..
تدخلت حياة راجية :
-معلش يا رشيد ده جايب لي بس هدية ، سامحه المرة دي !
أسبل عينيه متوعدًا لهـا وهو يتأهب ليصعد سيارته السوداء :
-واستنى عليا أنتِ كمان .. خلي رشيد ينفعك .
•••••••••
كانت تنتظر مرور السـاعات حتى ارتفعت صيحات الفرح وتجاوبت مهللة بكل الأرجـاء .. انقلب حال البيت الهادئ الذي لا يعرف إلا صوت ضجيج ولعب صغاره إلى معلب كورة قدم ، الجميع يركض خلف الساعات كي ينجز مهامه ..
وصلت العائلة بأكملهـا لمنزله وكل منهما بات منجزًا لمهامه واستعداداته قبل غروب الشمس .. ونفس الحال للعمالة اللذين يتسابقون كي ينتهوا من تجهيزات الحفـل .. وجاءت مختصة التجميـل لتزين العروس ..
تجلس حيـاة أمام المراة مرتدية قميصها الأبيض القصير مستسلمة لشغل الفتيات بشعرها ووجهها .. وبين كُل لحظة والأخرى تلقى أنظارها على صغارها اللذين يلهون بالخلف وحولها ويصيحون بلعب وسعادة ..
شرعت الفتـاة بوضـع مستحضرات التجميل علي وجهها ولكن أوقفتها حياة للمرة الثالثة مترجية :
-بليـز .. أرضع ريـان الأول وهرجع لك نكمل ، هو لازم ياكل دلوقتي..
ثم صاحت منادية لأحدى الخادمات :
-شوفي لاما تشرب أيه يا صابرين …
تناولت صغيرها من الأرض متجاهلة ضجر فتاة التجميـل وتعطيلها كل فترة .. أخذت تُقبل صغيرها بمشاعر فياضـة وهو تلهو معه وتضاحكه معبرة عن حبها الجياش .. جلسه بأحد الزوايا وشرعت في إطعام صغيرها الذي يقبل على صدر إمه بالضحك والحماس الذي يزين وجوههم ..
انتهت لاما من شُرب العصيـر ثم ذهبت لعندها :
-مادام حيـاة يلا !!
فرغت حياة من إطعام ريان وقالت بتوسل :
-بصي باقي ركان ، متقلقيش ريان بس الـ بيحب يرضع طبيعي لكن ركان بيرضع من الببرونة عادي ، بس لازم أنا أرضعه بنفسي عشان ما يغرش من أخوه ، أصل النفسيات دي مهمة أوي عند البيبز وهي الـ بتطلع أشخاص سوية أو غير سويـة ..
ثم غمغمت بإحراج يغمره الضحك :
-أجيب لك تتغدي !!
جزت الفتاة على فكها راسمة ابتسامة مزيفة وهي تتوقد غضبًا وقالت :
-لا خالص ، على أقل من مهلك …
••••••••
~بغُرفـة كـريم .
-كيـمو أحنا ممكن بعـد فترة كده نعمل زيهم ، بصراحة الفكرة مجنونـة مـوت وعجبتني ..
أردفت نوران جُملتهـا وهي تفرد فستانها فوق السرير ثم اتجهت نحو كريم الجالس على الأريكـة وأكملت حديثها بإعجاب :
-عاصي ده من وقت ما شوفته وأنا انبهرت بجمال أمه ، رجل زي ما قال الكتاب ، عارف أزاي يبسط الست الـ معاه !
قفل شاشة هاتفـه وعلى محياه ابتسامة شاحبة :
-وأنا بجلدك في البيت !! ما تلمي نفسك ..
تنهدت بتمنى وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها :
-مضطرة أعرفك سر كمان عني ، أنا بقع في عزام الرجل الأربعيني بسرعة .. السن ده له سحر خاص ، نضج وحلاوة وشياكة ووقار ، باشا في نفسـه ..
عمز بطرف عينه متقبلًا جنانها الذي اعتاد عليه وتناغم معـه قائلًا بمزاح :
-طيب وبتوع العشرينات ، مالهمش من الحُب جانب !!
ردت بتدلل :
-لما تبقى أربعيني هحبـك أكتر ..
ربت على ركبتها برفق :
-قومي طيـب خليني أكلم لامار !
ضاقت عينيهـا متدكزة :
-مش دي البنت السورية صحبتك ، المضيفة !! صح ؟
-اه هي ، جايـة الأسبوع الجاي ، وعايزة تجيب لك هدية ، بفكر معاها .
زامت فمها وبملامح متقلصة يكسوها الضحك :
-أنا حاسة إنك بتخوني وأني المفروض أخد موقف جدي وكده ، بس مادام هتجيب لي هدايـا كلمها كلمها ..
كانت أن تنهض ولكنها تراجعت متذكرة :
-كيمو قولها تجيب لي بادي لوشن معاها ..
جذبها عنوة لعنده وانحنى بقُربها :
-يعني مش خايفة أنها تخطفني منك .
أصدرت صوتنا نافيـا يكسوه الدلال المفرط وقالت :
-تؤ ، عشان أنتَ مش بتحب حد غيري ..
داعب بأنفـه أنفها وقال بملامحها الضاحكة لحياتهم التي يملأها الهزار والضحك مع هذه الفتاة المفعمة بالمرح وهو يغمز بطرف عينه :
-ما تيجي نأكل مانجـا ..
واندس الجمال بينهما في كلمات لا يدركها غيرهما ، عالم خاص بهمـا وبلغته المميزة التي لا يتحدث بها سواهم .. خرت ضاحكة بين يديـه بملامحها المتقلصة من برودة نسيم الحُِب بينهم وهي تقضم شفتها السُفلية بغنج :
-تعالى ناكل مانجا ..
نوع خفي من اللطف بين زوجين يُسهلان الحيـاة على بعضهمـا حتى ينطبق عليهمـا المثل ، تزوجت لأرتاح لا لحمـل متاعب جديدة وقيود آخرى، الزواج أن لم يكن راحة ومتسع ورفيق روح لم يحضر الضحك الا بينهما فلا تتزوج ..
•••••••••
~بغُرفـة تمـيـم ..
يجثو على ركبتيه يسنـد كفـوف صغيرهُ ليعاونه على السيـر المتعرج ويشجعه هاتفًا :
-عاش يا طاطا خلاص وصلنا وصلنا يا بطـل .. متتهزش أثبت يا طاطا ..عاااش .
حتى انتهت مسافة مفرش الأرضية التي يخطو مثلها يوميًا ليدربه على السيـر ، هلل فارحًا بابنه وهو يحمله ويرميه بالهواء ثم يتلقاه فارحًا :
-أيه الحلاوة دي !!
غمر الضحك أرجاء الغُرفة بين الأب وابنه المُشاكس فتلقاه على ساعده وهو يقبله ويلقى أنظاره على تلك النائمـة بكلل صاحبة البطن المنتفخة ذات الخمسة أشهر ، فقال :
-تيجي نشـوف شمس مالها عشان شكلها تعبـانـة .
وضع صغيره فوق السرير بجوار أمه ، وشرع بالمسح على شعرها متسائلة بحنو :
-مالك يا شموسـة ؟!
تمتمت بهزل وهي ترفع جفونها لعنده :
-مرهقة بس من السفر والحمـل .. بجد يا تميم تعبت ، لا عارفة أكون معاك أنتَ ومصطفى ولا عارفة اركز فـ شغلي .. حاسة بتعب وإرهاق شديد ، أنا متعبتش فـ حمل مصطفى كده .. البنت دي متعبة أوي .
-ممكن متشليش هـم أي حاجة وارتاحي بس .. أنا ومصطفى زي الفل أهو ومستنين شمس الصغيرة كمان تيجي بالسلامة ..
قبلة أشبه بقطرة مطر كبيرة وقعت على جبهتها كانت أشبه بيد حنونة تربت على روحها .. تنفس بارتياح وهي تتمسك بكفه :
-تمـيم أنتَ أحن أب في الدنيا ، فعلًا يا بخت ولادي بيك .. ويابخت قلبي بحنيتك دي ..
قبل طراطيف أصابعها بنعومة وقال :
-أنتوا عيلتي يا شمس ، أنا ماليش غيركم ، أنا مش هكون بس أبو العيال دي ، أنا أخوهم الكبير وصاحبهم وابنهم الـ اتولد على أيدهم أول ما جم .. أن جينـا للحق أنا الـ يابختي بيكم .. لإنكم مليتوا عليـا حياتي .
اعتدلت من نومتهـا لتسند على صدره وهي تحمل صغيرهما ليتوسط مجلسهم وقالت بحب :
-ربنا يخليكم ليـا وكل أيامنا تبقى جميلة ..
‏نيابة عن ليالٍ الماضي المُظلمة ، أهلاً بالغد الذي سينبت في جبين القلوب نجمات جديدة وستشرق الشمس من رحم الليل فـ تُضيء عتمتنا .. ومن اليوم تتورق في ليالٍ الوحدة أيام مكدسـة بالحب والدفء …
•••••••
~بغُرفة مراد ..
-مراد ، بليـز أمسك غالية.. مش مبطلة عياط وأنا تعبت وهي مش مبطلة ، دماغي دي هتنفجـر خلاص مش قادرة ..
ترك الهاتف من يـده وأخذ صغيرته بحنيـة وشرع في مداعبتها حتى هدأ صوت بُكائهـا في دقائق معدودة ثارت اندهاش عاليـة :
-أنتَ عملت فيها أيه !! أنا من الصبح بحاول معاها لحد ما خلتني أنا الـ عيطت .
لفح ابنته على كتفـه وأمسك ذقن عالية التي تقف أمامه متحيرة وقال بمزاح :
-هي كانت عايـزة حضن باباها بس .. وأهو أول ما جات هديت ..
ثم غمر بطرف عينه :
-طالعالك .
داعبت الابتسامة ثغرها وقالت :
-انا زنانة زيها كده !! لا ..
-ومين قال إنك زنانة !! بس لما بوحشك بتعملي زيها كده بالظبط.
ضربته برفق على كتفه معاتبـة:
-أنتَ بتقول أيـه !! بطل بقا ..
طوق خصـرها لتصبح جزء لا يتجزأ منه وقال مغازلاً:
-أبطل أيه !! أنكري ..؟! لما أقول لك عندي شغل بتفضلي تلفي حوليـا زي النحلة كده .
كتمت صوت ضحكتها كي لا تُزعج صغيرتها النائمة :
-مراد ، أنتَ بكاش موت .. أنا بس بكون زهقـانة ومش لاقية حد يسليني غيرك ..
عقد حاجبيه ممتعضًا :
-يسليكِ !! وكمان قرطاس لب ماشي ياستي ..
ضحك الثنائي معًا حتى مال على مسامعها متهامسًا:
-افتحي الشنطة دي هتلاقي هدية هتعجبك ..
لمعت عينيها على لحن اسم الهدية التي قادرة أن تسعد كُل اثنى حتى ولو كانت تملك ميراث العالم .. ركضت كالطفل لتفتح تلك الحقيبة الصغيرة فوجدت عبلة صغيرة ، فتحتها بلهفة فوجدت ظرفًا وبجواره قِلادة من الماس مكتوب عليها ” غاليـة” انبهرت بجمالها وهي تقفز كالأطفال ثم تابعت بفتح الظرف وهي تسأله:
-ده بردو تبع المفاجأة!!
-افتحي؟!
فتحت الظرف فوجدت بداخله ست تذاكر سفـر ، الأولى تحمل تأشير السفر لمكـة لأداء مناسك العُمرة ، والثانية للمالديف .. افتر ثغرها وشعرت بفيضٍ من السعادة عانق قلبها واشتعلت نظراتها بفرحة ناطقة :
-مراد!!! لا ؟! معقولة ؟! هنسافر سوا !!
ثم مدت ذراعية لتحضنه بعرفان وهي تقفز كـ حبة الفشار على مسرح فرحتها ، فتمتم بصوت حنون ناطقًا :
-بصراحة فكرت نقلد عاصي ونعمل فرح ، ولا نسافر .. فلقيت السفـر أنسب لينا وأهو بداية جديدة لحياتنا ننسى فيهـا كُل الـ فات ..
أعلنت مشدوهة :
-مراد ، أنا بحبـك ….
•••••••••
مرت ساعـات اليـوم حتى حلت الساعـة الثامنـة مساءً ، جاء عاصي برفقـة رجاله ، كل من يسري وبكر وكمال الذين يتفقدون بالحفل بأعين متسعـة .. ترك الجميـع بأسفـل وصعد لغُرفتها ليحضر عروستـه .. دخل من باب الغُرفة وهو يتفقد ذيل الفستان الذي يجسد تفاصيل جسدها الممشـوق والمحدث بقلبه فتنة كبرى حتى وصل لتلك الطرحة البيضاء التي تكسوها من رأسها للكاحـل .. أشار لأخر فتاة بالغُرفة أن تُغادر .. شرعت عيناه تتأمل تلك الحوريـة الواقفـة ممسكة بباقة الورد .. يقترب منها شيئًا فشيئًا بتلك الخطوات التي تعمدت الهرب من الحب لسنوات .. ليُقبل بلهفة الكون نحو حورية البحر التي لا تغوص إلا في أعماق بحور الحُب ..
وقف أمامها ورفع الطرحـة التي تُغطي وجهها و لا تمكنه من رؤيـة ملامحهـا بحرية ، رُفعت الطرحة فرفعت معها جفونها فتنهد تنهيدة شاعرًا سيبدأ بكتابة قصيدة مولودة من رحم عينيها تلك التي ‏حفظت خرائط السماء من كثرة التطلع بها ، حتى استدلت على مخابئ الغيـوم ومنازل القمر .. في تلك اللحظة علم من أي بحر ‏تستمدُّ النجوم ‏لونها الزجاجيّ الفاتن ، ‏آآه من عينيها .
قال حكيم ذات مرة :
عندما نكتبُ عن النساء، علينا أن نغمس الريشة في قوس المطر ونزرع سطورها بنثار أجنحة الفراشات ..
يبدو أنه كتب ذلك النص لكِ وحدك ..
‏تفتحت بروحها زهور الربيع و تراقصت الفراشات التي رفرفت على قلبها لأجل نظراته الهائمـة ، وحل النور على أيامها برفقته، تقاسمت الطيور حصتها من صوتها العازف على أوتار تلك المشاعر التي غمرت كيانها وهي تقف متوجـة لملكها وملك فؤادها ، فتمتمت :
-شكلي حلو !
تأملها بتلك النظرة التي عجزت عن وصف جمالها ، لقد كان من الاولى أن تكوني كحمامة بيضاء، رسالة مُعطّرة من يدي شاعر مُغرم أو وردة ياسمين في وسط باقة من الورد ، فمن الظلم أن تكوني أنتِ بشرًا قد يَحزن أو يُجرح أو يتألم .. جف حلقـه من تكدس الكلمات به فلمس تلك الشفاة القرمزيـة التي افترق عنها لمدة شهرين كاملين ، شرع أن يفضي ما بقلبـه من شوقٍ فداعب طرمة فمها الكرزيـة مساومًا لثغرها على القُبل المتعطش إليها.. فـ همّ بقطف الكرز من فوقهـا بهدوء وتهمـل كمن يروض الفراشة قبل الإمساك بها .. كُل جزء من ثغرها نال حَقه عِوضًا عن أيام البُعد والجفاء ، وكأنه أراد أن يُخبرها بطريقة مـا أو بأخرى تلك للصدفـة التي جمعتني بكِ وأتت بكِ لهنـا ، وهذه لإنك أنتِ ، وهذه أيضا لابتسامتك الساحرة ، و هذه لجمالك الذي خضع له الحُب ، وأيضًا هذه للملامح التي لا يليق بها إلا القُبل .. وآخرهم كانت كـ دعوة صريحة من رجل ظمآن أراد أن يروي حلقه من فُراتك العذب … فلقد كان لهـدوئه الساحر آثار البركان ببدنها يفوق مائة ثورة مندلعـة ..
أصاب الدوران رأسها فاهتزت بين يديـه فستندها بكفه الراسي على ظهرها متسائلًا بخوف :
-مالك !!
تشبثت برأسها ضاحكة وهي تتنفس بارتياح :
-أنا كويسة ، دوخت فجاة بس !! مش عارفة في ايـه .. ؟!
رفع حاجبـه مستنكرًا :
-دايخة أيه بس من أولها !! متهزريش .. اليوم لسه هيبتدى ..
ثم أمسك بكفها وسحبها برفق :
-يلا ننزل !!
تابعت خطاه لمنتصف الغرفـة حتى تكرر ذات الدوران الذي لم يفارق رأسها منذ بضعة أيام ولكنه مصحوبًا تلك المـرة بالرغبـة في التقيؤ .. تركت يده وركضت للحمام متألمـة وهي تحاول التخلص من ذلك الشعور المؤلم .. لحق بها قلقًا :
-حياة أنتِ كويسة !!
مسحت فمها بالمناديل الورقية وهزت رأسها :
-واضح خدني برد من البلكونة إمبارح .. بقيت أحسن متقلقش !
نظر لها بشـك :
-متأكدة !!
ردت بثقة :
-تمام والله خلاص .. يلا ننزل .
وصل العرسـان لسـاحة الحفل تحت جمهرة الأصوات وتصفير كريم ونوران وصراخ عاليـة وحماس شمس وتميم وكل منهما يصفق بحرارة .. أرسلت لهما حياة الكثير من القُبلات بالهواء وهي تقف بجوار الرجل الذي اتفق عليه عقلها وقلبهـا وبناته الممسكين بالورد .. حتى شرعت صوت الموسيقى لأحدى الأغنيات الأجنبية ..
على طاولة العائلة ، مالت نوران نحو مسامع زوجها متهامسة :
-كيمو !! أيه كُل الفساتين الحلوة دي !! إحنا هنعاكس للصبح ..
لكزها معترضًا بضحك :
-أنا راجل وأعاكس براحتي ، أنتِ تعاكسي بنات ليـه !!
قفلت عين وفتحت الأخرى وقالت معترفة بخطأها :
-يعني أعاكس رجالة !!
هز كتفيـه غير معترضًا :
-اذا كان كده ماشي ..
أطلقت صفيرًا ناعمًا وهي تتفقد مجلس الرجال خلفها :
-أيه كُل البدل السودة الجامدة دي!!
ألقى نظرة للوراء ثم عاد معارضًا :
-دول كلهم مخلفين أدك ، بقول لك تعالى عاكسي معايا بنات أرحم ..
تمايلت على كتفـه وهي تضربه برفق ويضحكا معًا حتى تدخل تميـم متسائلًا :
-ضحكونا معاكم ..
تنهـد كـريم قائلًا بخبث :
-هقولك يا تيمو ، أنتَ مش غريب بردو ، كان في مرة قُطة بتخربش اه بس بتتكسف من خيالهـا ، ومن وقت ما علمتها أزاي تأكل أيس كريم مانجـا ، بقيت قُطة شيرازي وبتعض كمان ..
شهقت بخجل وهو تشير بسبابتها نافية ما يقوله :
-كريم أنت بتقول ايه !! لالا تميم متصدقهوش ، الجدع ده بيقول أي كلام وخلاص .. أنت ازاي تطلع كلمات السر بتاعتنا بره !!
-ما تحترمي نفسك ، أنا جوزك على فكرة !!
تبادل كل من شمس وتميم الابتسامات الخفيفة حتى تحمحم تميم قائلًا بتوسـل :
-الطريقة لتيمو حبيتك ، أنا جبت كل فواكه الموسـم وزي ما أنت شايف ! نفس البوز .
تدخلت شمس معترضة :
-وايـه بقا الـ مش عاجبك يا بيشمهندس !!
لحق تميم نفسـه ويقبل يدها قائلًا :
-ماليش بعد أم طاطا .. هو أنا ليا غيرك ..
ثم مال على آذانها متهامسًا :
-بغزي العين يا عبيطة !! كلهم عملوها مرة إلا أحنا عملناها مرتين !
تدخل مراد قائلًا :
-الواد كريم ده من وقت ما اتجوز وكل أفكاره بقيت زي ما أنت شايف .. مش عارفين نلمه ..
فتعمد تميم أن يثير استفزازه :
-وعلى أيه يا مارو ، أهو كله كلام مفيش أي نتيجة خالص !! أنتَ حد قالك هتبقى عم قُريب !!
لكز نوران معاتبًا :
-عاجبك كده أهي الحفلة بقيت علينـا .. أنت يا حلو منك له مش كده ، دي منطقة أعراض ..
-تستاهل ، عشان تقول عليا قطة تاني !!
لفت أنظارهم ركض حيـاة لبعيد ووقوفها بأي جنب لتتقيىء مرة أخرى ، أسرعت شمس وعالية لترى ما بهـا أما عن كريم مال متهامسًا لزوجته بضحك مقلدًا صوت ” القرموطي ”
-واضح أن كرستين حامل يا جون يا أخويا ..
بضحكة رقيعـة انفجرت من جوف نوران إثر جملته الأخيرة التي لاحظها مراد قائلًا بعتب :
-هتموت والع أنتَ ومراتك من التنمر بتاعكم ..
التفتت الأعين صوب حياة التي بدّ عليها التعب والإرهاق حتى تدخل عاصي متسائلًا :
-حياة أنتِ حامل !!
جحظت عينيها بذهول :
-لا طبعا يا عاصي ، مش حامل لا .. قولت لك دور برد .
ربتت شمس على كتفها وقالت له :
-عاصي طيب اقعدوا وأنا هخلي سيدة تعملها حاجة دافئـة .. عشان بس محدش ياخد باله ..
ركضت تاليا وداليـا لعندها بلهفة :
-مامي are you okay !!
مسحت حياة على روؤسهن :
-لا يا حبايبي .. أنا بخير ، خلو بالكم بس من ريان وركان مع الناني .. وأنا هابقي كويسة .
استمرت الأجواء بالحفل ما بين سخرية نوران وكريم الغير منتهيـة ، وحالة حياة المُتقلبة من كل حين للآخر ، واهتمام شمس وعاليـة بالمعازيم وما بين رقص العائلة والأجواء الأسرية التي خيمت على المكان وفرحة الجميع والأهم سعادة حياة التي كانت عروس الحفـل .. حتى مرت أجواء الحفل بسلام ولم يبقى الا أهل بيتـه .. أمسك بكفها وقبل وقال :
-يلا بينـا !!
-عاصي على فين !!؟
أطلق زفيرا تحمسي :
-هنروح اليخت !
-والولاد !!
-نوران هتبات معاهم .. حياة مش عايز كلام كتير يلا .
تشبثت بكفه متوسلة :
-طيب بليز استنى أرضع ريان ، وأنيمهم واطمن على البنات ونمشي .. بليز يا عاصي عشان قلبـي يكون مطمن ..
وافق على مضض :
-طيب يا ستي .. اتفضلي .
تركته وذهبت للمربية وحملت ريان ثم طلبت منها أن تأتي بـ ركان والبنات .. تحركت صوب غرفة نومهـا وهي لم تكف عن تقبيل صغيرها الذي فارقته ليوم كامل ولم تكف عن سيل الاعتذارات المتواصل له .. ما كادت أن تجلس على طرف مخدعها فجاء عاصي من الباب فطلبت منه :
-عاصي ، ممكن تساعدني افتح الفستان بس ..
عض على شفته وذهب لعندها ليشد سحاب الفستان كي تتمكن من إطعام صغيرها .. جاءت المربية حاملة ركان وخلفها الفتيـات يركضن ، أخذ عاصي صغيره منها وأمرها أن تنتظر بالخارج .. وضع ركان بجوارها ثم سار ناحية النافذة ليُدخن سيجارته ربما تستطيع أن تحرق غضبه أخذ يترقب حنانها المفرط على الجميع .. رغم أنها مازالت مرتدية فستان الزفاف الا أنها كانت ذات قدرة فائق للاعتناء بالأربعة أطفال .. رغم عنه وهو يراقب جنونها وخفة ظلها وتلك الطفلة الخامسة بينهم تبسم وهو يلتقط لها صورة بعدسة هاتفـه وهي تركض خلفهم .. ما لبثت أن تغير ملابس الفتيات فتراجعت إثر بكاء ريان الذي لا يرتوي إلا من ثدي أمه.. عادت صارخة بكلل وهي تشرح له العلة:
-ريان مش بيرضع غير طبيعي .. عكس ركان خالص..بجد تعبني معاه.
اتسعت ابتسامته وقال بغمز :
-بيفهم زي أبوه ..
أحضرت عُلبة اللبن الخاصة بركان وطلبت منه ان يرضعه حتى تُطعم ريان وهي تصيح منادية :
-تاليا أنتِ ودودو يلا نوم .. كفاية سهر لحد كده ..
مرت قرابـة الساعة وهو ينتظر أن تنيم صغارها .. حتى تنهدت بارتياح وهي تضع ركان بمهده :
-وآخيرًا !!!
اتجه هو ليشد الغطاء فوق البنات بعد تقلبيهن ثم أغلق النور العالي مكتفيًا بنور الأباجورة .. جاءت لعنده وهي تجر ذيل طرحتها وقالت :
-خلصت ..
اكتفي بضحكة طفيفة على هيئتها وقال :
-يلا بينـا…
ما كادت لتخطو خطوة فتراجعت راكضة لتأخذ أقراص منع الحمل قائلة :
-قبـل ما أنسى …
-يلا يا ستي ..
وصل الاثنان للأسفل فظل باحثًا عن نوران حتى وجدها هي وكريم أمام ” البوفيه ” يتغزلان بالأطعمة الشهيـة .. فجهر من الخلف بنبرته الحازمة :
-نوران .. تباتي مع البنات فوق في الأوضة ..
تدخل كريم معترضًا :
-نعم!! وكريم رجل كنبة واقف ! أنا لسه عريس ومش موافق.
ربت عاصي على كتفـه وبنبرته الجدية المبطنة بالضحك:
-كُل عيش في البيت ده يا حبيبي ..
فتدخلت حياة موصية نوران على صغارها وهي تشرح لها ما تفعله بالضبط .. اتسعت عيني الأخيرة بذهول وهي تشد كريم الذي يتشاجر مع عاصي وقالت :
-تعالى احفظ معايـا ..
استقل عاصي وحياة السيارة التي قادها بسرعة فائقة وكأنه يتسابق مع ضوء الشمس قبل أن يفسد ليلتهما .. بعد عدة دقائق صف سيارته جنبًا ونزل منها بدون أي كلمة تترجم تصرفه .. انتظرت عودته بفضول قاتل حتى عاد بعد قليل فسألته :
-أنتَ نزلت الصيدلية ليه !!
مد لها العُلبة الصغيرة وشرع بقيادة سيارته من جديد ، فتشت بمحتوى العلبة مندهشة :
-ده تيست حمل !! ليه !!
رد بإمتعاض :
-نوصل اليخت وتعمله !!
-عاصي بس أنا مش حامل ، آكيد كُنت هعرف يعني!!أنا مش غبية للدرجة دي؟!
جز على فكيـه :
-بردو تعمليـه ..
ردت مجبرة :
-حاضر ، سوق بالراحة بس ..
سُئل أحد الحكمـاء ذات مرة :
-متى يبــدأُ الحُب ؟!
فأجاب بتلك اللمعة التي لا تُفارق الأعين عنـد ذكر مصطلح الحُب الذي لم يُخلق قلبٍ إلا ولُسع بناره :
-يبـدأ الحُب يا ولدي عندمـا ينتهي الحماس .. فـ لهفة البدايـات ليسـت حُب ، فالإنسـان لا يُحب بإسبوعٍ أو شهـرٍ ، لا يمكنك أن تقول إنك تُحب البحر وأنتَ تقف على الشاطئ ، لهذا يجب أن تخوض في أعماقه ، وتضـربك أمواجـه ، تشـرب من مياهه المالحـة ، تجرح أقدامك بصخره .. فتلمس عيوبه ، وترى ظُلماته وقسوته ، وتعرف كيف يكون غضبـه ، وبعدها فقط إما أن تُحبه كله .. أو تكرهه كُله .
#لقائلها ..
•••••••
وصل عاصي وحيـاة للمينـاء الذي تُرص فيه العديد من المراكب الفاخرة التي تنتمي لملكيـة عاصي دويدار جميعهم ينزينهم الأضواء ومعالم الاحتفال بقدومـها إلا مركبة واحدة كانت الأجمل والأكثر تميزا من بينهم ” يخت الحيــاة ” ، ذلك المرسى الذي ستبدأ عنده حياتهـم الجديدة بكُل معالم الفرح والسعادة كما ابتدت من قبـل ، فكان مرسى لبدايتهما ونهايتهما .. وقفت شاهقة وهي تتأمل هذا الفصل الساحر من الجمال ، والمفرقعات والألعاب النارية الملونة التي تزين السماء .. تركت كُل شيء ولجأت لحضنه كي تعبر عن سيل المشاعر العظيمة التي سرت بقلبها ، عانقته بكل لهفة وحماس وأعلنت انبهارها :
-أيه الجمال ده ، يجنن يا عاصي .. يجنن .
لأول مرة يراها بهذا الحماس الطفولي الجميل الذي غمر قلبه بأسمى معاني الحب .. فحاورها قائلًا وهو يتأهب لحملها بين يديه :
-أنا مستعد أدفع عمري كُله مقابل الضحكة الحلوة دي بس ..
تغنجت بين راحتي يده وهي تعانقه بضحكة أحدثت أكبر الفتـن بقلبه وتمتمت بهيام وهي تشبث بهِ أكثر :
-وأنا عمري ما هعرف أضحك من قلبي كده غير معاك ..
بعض الخطوات التي قطعها كي يقترب من مرسى المركبة ، رفعها قليلًا بذراعيه وكأنه يُقيم وزنها من جديد ، حيث قال ممازحًا بحاجبيه المنعقدة :
-دول أكتر من عشرة كيلو زيادة ؟!
أطلقت ضحكة عالية مدفـونة بحضنه وهي تضربه برفق :
-ده الفستان مش أنا .. وبعدين شيل وأنت ساكت ، الحاجات دي بتتنظر .
بحرصٍ شديد قطع المسافة الفاصلة بين الميناء والمركبة بخطوته الواسـعة حتى رست أقدامـه على سطح المركبة وقال مُداعبًا بنبرة متخابثة:
-لا وعلى أيه !! كله ليـا وبتاعي فـ الأخر ..
تغنجت بخفة وقالت بثغرها الذي لم تُفارقـه الابتسامة:
-نزلني !!
لبى طلبها بدون جدال ثم تهامس قائلًا :
-نتعشى !!
أومأت بالموافقة وهى تتمسك بكفه مُتبعـة خُطاه للطابق العلوي من المركبة .. رجل أنيق كالصخرة وكانت تُزينه غيمـة شتاء لا تُمطر إلا فوقها .. بخطوات خفيفة صعدت السُلم وهي تمارس طقوس مختلفة تمامًا وكأنها بالفعـل أول ليـلة لهمـا معًا بالعمر .. وقفت أمام الطاولة المرشوشة بالورد الأحمـر والشموع وصوت الكَمان الذي يطرب قلبهـا وقالت مشدوهة :
-واااو !! أيـه الجمال ده !! عاصي أنا بجد مش مصدقة نفسي حاسة إني طايرة ، دا لو حلم أنا مش هكون مبسوطة كـده .
وقف أمامها وهو يداعب تفاصيل وجهها السعيد وقال بلطفٍ :
-وأنا جمبـك كُل يوم هيعدي لازم يكون مميز .. يالا نأكل .
أبت متدللة وهى تبسط ذراعيها البضة على كتفيه :
-مش جعانـة أوي ، ممكن نرقص الأول .. القمر في ليلة تمامـه والنجوم بتضحك ، والبحر هاديء ومتسلطن بحبنـا ، وبيني وبينك مرة نفس الست العجوزة قالت لي ، الرقص تحت القمـر في ليلة تمامه مثياق أبدية للقلوب ..
طوق خصرها الذي يداعبه شعرها متوليًا هذه المهمة الممتعة ، وفي أحد زوايا فمها قطف تلك القُبلة الشهية وهو يتمايل معها على صوت الكمان ، متسائلًا :
-وقالت لك أيه كمان الست دي !!
رفعت ذقنها حد كتفه ليتجاور ثغرها المنتفخ من القُبل بمسامع قلبه وقالت مُغرمة :
-قالت كمان في أسطورة بتقول أن الانسان لمـا بيتولد حياته زي الهلال بالظبـط بيكون لوحده تايـه في الكون بيـدور عـ نصـه التاني لحد ما يلاقيه فـ مكان ما ووقت معين .. فيـظهرلنـا قمر مُكتمـل زي ما بنشـوف … وعـارف ده معنـاه أيه !!! أن مع اكتمال القـمر مرة كُل شهر في اتنين عُشاق بيتجمعـوا .. ومع رجوعه لهـلال مرة تانيــة فـ اتنين عشـاق بيتفرقوا ..
ضمها أكثر لحضنه يذراعه الذي يراقصها بهِ وكأنه يدعوها بلغة جسده إليه كي يسد فراغات روحه متهامسًا بعد ما رفع أنظار لذلك البدر المنير فوقهما وقال:
-شكلي هبتدى أصدق كلامها ..
ثم حاصر خصرها بمرفقـه الأخر وشـرع في ترتيـل كلمـات الأغنيـة الأقرب لقلبه والذي قرر أن تُهدى لها في مثـل هذا اليوم ، كاشفًا هوايته الجديدة والتي لا يلجأ عندها إلا عندما يتوقد الحب والشـوق بقلبـه .. على لحن الكمـان بدأ في ترنيم كلماته بصوته العذب مغنيًا ” يا كُل العُمـر يا عمري ” .. اتسعت حدقة عينيها من وقع الصدمة وذلك الصوت الجميل الذي اندلع من جوفه اكتفت بتنهيدة طويلة انفضت بحضنـه وهي تعانقه أكثر مستمتعة ببراعة أحساسه وصوت مُغنيـًا لهاني شاكر :
-يا كل العمر يا عمري يدوب عمري
ولا يغلى يا روحي عليك
بحبك لو قريب مني
وأحبك لو بعيد عني
وأحب أسهر ليالي هواك
وأحب أنده لبكرة معاك
وتوحشني وأنا وياك
وڪأنّ جسدها قد عتق بالخمر أينما حضنها ثملـت ، قبل أن يبـوح بهوى قلبـه بآخر مقطع من الأغنية ضمها أكثر ليرفع قدميها عن الأرض فتُحلق في هواء هواه .. وأكمـل :
-أصاحب مين وغير حبك ماليش أصحاب
وأكلم مين وغير قلبك ماليش أحباب
أصاحب مين وغير حبك ماليش أصحاب
وأكلم مين وغير قلبك ماليش أحباب
فارق وجهها كتفه مشدوهًا ليتلقى بمنطبة على طير الحب الحاضر بقلبه ، ففتحهما ببطء على صوت صياحها المتحمس :
-أنا أزاي معرفش أن صوتك حلو أوي كده ؟! أنت أصلًا أزاي تخبي عني حاجة زي دي !!
عقد حاجبيه متستمتعًا بالتحدي المتبادل بينهم وقال وهو يقلد نبرتها :
-أصل مرة ست عجوزة قالتلي لما تحب واحدة يابني متحرقش كل ورقك قدامها ، لازم كل فترة تكتشف أن لسه في جديد عندك ..
انفجرت ضاحكة وهي تتذكر نفس الجملة التي قالت من قبل عند كشفها لهواية الرقص أمامه ، فختم جملته متسائلًا :
-كده كـام كام ؟!
-بطلت أعد ، أنا موافقـة إنك تغلبني على طول كده ، خلاص أنا استسلمت يا عاصي بيـه .
هام بسحر حوريته التي طوقها القمر بهالة الحب فزادت جمالًا فوق جمالها ، فهامس قائلًا بولهٍ :
-أنا مش قادر أصبر دقيقة كمان .. تعالى ننزل .
قبل أن ينتظر رأيها سحبها خلفه متدليـًا لأسفل حيث اتجاه غرفتهمـا وبخطواتـه الواسعة التي كانت تتبعها ركضًا وهي تضحك طالبة منه :
-عاصي الفستان ضيق ، استنى طيب هقع ..
فتح باب الغُرفـة بكُل ما يحمله من شـوق دام لستين يوم ، فالـيوم جاء وقت النحر ، نحر فيه جميـع الجسور بينـا ، الليلة أنا وأنتِ والحُب بغرفة واحدة .. جذبهـا كمن لم يتلقي بنساء من قبل كي يفض براكين حبه بها فارتطمت بسياج صدره صارخـه بضحـك متعجبة من لهفته المراهقة التي أحدثت زلزالا بكيانها معاتبة بدلالٍ :
-عاصي !!
امتدت يده لسحاب فستـانها وهي يتوقـد حُبًا بأنفاسه التي تعلن بأن ما يكمن داخله حريقة لم تكفيها ليلة واحدة لتخمد ، فجأة انسكب دلو الشك فوق رأسـه وفأصاب بالتجمـد قائلًا بغـلٍ يملأه :
-فين الـtest الـ جبته ؟!
قطمت على شفتها بإعتذار :
-نسيته في العربية ، سوري !!
كور قبضـة يده بغيـظ وقفل جفونه متخذًا نفسًا طويلًا كي يهدأ وهي يعض على شفته السفلية بإغتياظ ، فقال :
-غيري لحد ما أروح أجيبه ..
وقفت أمامه رافضة ذهابـه :
-عاصي أنتَ مش واثق فيـا ليه !! بقول لك مفيش حاجة صدقني!
-لا مش مصدقك ..
فضاقت عينيه بعدم تصديق وهو يقول :
-مش مستعد نقضي باقي الليلة في المستشفى .. غيري ومش هتأخر ..
فأوقفتـه قائلة :
-طيب هات شنطتي معاك ، عشان شريط الحبوب فيهـا ونسيته هو كمان ..
رفع حاجبه مندهشًا :
-كمان !!
بررت موقفها :
-الله ، نسيت .. ليا شهرين مش باخد حاجة ..
أومئ متفهمـًا :
-تمام يا حيـاة ..
خرج عاصي من الغرفة وهي يلعن حظه سرًا أما عنها ركضت للتأمل تفاصيل هيئتها أمام المرآة بفرحة تتقاذف من أعينها .. ذلك الفستان الرقيق الذي ينحت تفاصيل جسدها الممتلىء قليلًا وأصبح أكثر جاذبية وفتنة وتعلوه طرحة زفافها البيضاء التي تكنس الأرض ورائها ، والعقد الماسي الرقيق كإطلالتها والتي يزين فراغ فستانها المتعري من أعلى .. ظلت تقفز وتتنقل بالغرفة كفراشة تدلل على بستان من الورد .. ثم ركضت لـ تفتح خزانة ملابسـه وشرعت بالحيرة فـ اختيار ما سترتديـه .. مجموعة من ملابس النوم البيضاء ، أمسك بقميص قصير للغاية ويعلوه ” روبًا ” يصل لركبتها ولكنها تراجعت ، وأخرجت منامتها البيضاء الحريرية المتكونة من بنطال فضفاض وستره واسعـة من نفس النوع .. رفعت حاجبها بإعجاب :
-هي دي !! ونخلي التاني كمان شـوية ..
نزعت وشاح رأسها الطويل وألقتـه على السرير ثم أخذت ملابسها واتجهت للحمام كي تستعد لمجيئه .. مرت دقائق معدودة حتى عاد عاصي حاملا بيده بعض الحقائب .. في اللحظة التي فتح فيها باب الغرفـة ، فتحت هي الأخرى باب الحمـام بشعرها المنساب الذي استمد سواده من ظُلمة الليل والذي يكسو ظهرها بأكمله ويتجاوزه .. ما أن سقطت أعينها عليها تنهد بشرود متحيرًا من أيد تؤكل الكتـف ، فسُرعان ما عاد لرشده وهو يمد له جهاز اختبار الحمل وقال :
-قبل أي كلمة ، اتفضلي أعمل ده ..
أخذته من يده ضاحكـة وعادت للحمام مرة ثانية ، أما عنه بدأ في خلع ملابسـه وألقاه بعشوائية على عكس كونه شخصًا منمقًا للغاية ولكنه أراد أن يتحرر تلك الليلة من كل القيود .. فتح خزانة ملابسه وأخرج منها بنطالًا لونه أبيض فضفاض ثم تناول سيجارة وأشعلها بجوار أحد نوافذ ” اليخت ” .. خرجت حيـاة من الحمام وهي تسير على طراطيف أصابعها المطلية باللون الأحمر القاتم الذي يشبه حمرة شفاهها وهى تخطو بدلال فيتراقص خُلخالها .. تركت الاختبار على الطاولة الخشبية وذهبت لعنده وهي تتمايل بشعرها الحريري يمينًا ويسارًا .. وبثغرها المبتسم وشدت السيجارة من يده :
-مش حابة ريحتها النهاردة ..
دارت أمامه لتطفئ السيجارة بقلب المطفأة فعادت لتجد نفسها بين ذراعيـه وتحت عينيه المقمرة بحبهـا .. لُطخت ملامحها بحُمرة الخجل وقال بخفوت :
-وحشتك !!
رد مشدوها بجمالها وهي ينثر بذور حبه على ملامحها :
-فوق ما تتخيلي !
-تفتكر اليوم الـ صحيتك فيه من النوم لإني مش عارفة أنام من كتر ما أنتَ واحشني !! أنا الشيطان كان بيقولي قومي يابنت اهربي وروحي لعنده ويحصل الـ يحصل .
كان يذوب بين تفاصيلها الساحرة فتمتم :
-من النهاردة مش هبعد عنك تاني ، والليلة دي وعد من عاصي دويدار هتنسي فيها كُل الـ فات ..
كادت أن تستسلم لدعوته الصريحة ولكنها ترنحت متدللة :
-استنى !!
رد بملل :
-في أيه تاني ؟!!
وشوشت له :
-نتيجة التيست لسه .. بس ممكن نعمل حاجة أحلى لحد ما يظهر ..
-حاجة أيه الـ هتكون أحلى منك ؟!!
أردفت بتلك النبرة الحنونة وهي تمرر كفوفها على وجنته :
-أنتَ شربت النهاردة ؟!
ألقى نظرة على كفها الذي يستقر على وجنته وقال بنفس النبرة الهادئة التي ما زال محافظًا عليها :
-أنا وعدتك .
ارتسمت الضحكة على محياهها لصدقه معها ، فأتبعت متسائلة :
-بتعرف تصلي .. قصدي أننا نصلي سوا ..!!
مال ثغره بابتسامة مبطنـة بالحسـرة واعترف :
-بعرف أصلي يا حيـاة ..
ثم أمسك بكفهـا ليجلسا معًا على طرف فراشهم و أكمل :
-وهتصدقيني لو قُولت لك إني كُنت حافظ أجزاء من القرآن !!
بعينين تتوهج بالغرابة ، مع حاجبين منعقدين :
-ده بجـد !!
أكمـل متذكرًا تفاصيـل ماضيـه المُشتتة :
-سنـة ٩٩ دخلت كُلية التجارة ، وهناك كُنت شاب مراهق وطايش .. تعرفت على جماعة من الأحزاب الدينية المتشددة .. و الـ للأسف بنسميهم أخو..ان ، فضلت معاهم سنـة وشهرين مجالس وخُطب وتحفيظ قران ، لحد الخبـر ما وصل لعبلة …
بد اليائس على ملامحه مع تنهيدة طويلة تحمل الأسف :
-مش عجبها الحال ، بلغت عن الشباب دول ومعرفش خرجتني ازاي ، وكان أول تهديد ليها أننا مش هينفع نعرف شهاب دويدار ، ده سر ما بينـا ..
تمتمت مستوفرةً :
-وبعدين !!!
شد عُلبة السجائر المركونة على سطح الكومود ورمى واحدة بفمه كأنه يود حرق بعض التفاصيل التي تذكرها ولكنه تراجع إثر رغبتها في عدم حبها لتلك الرائحة ، فأتبع بنبرة مؤسفـة :
-ركبت معاها العربية وخدتني على بار ، كباريـه ، وقالت لي ده مكانك ومكاننا وسط الناس الهاي .. بلاش تنزل من مستواك وتقعد مع ولاد الحارات الشعبية والمُتخلفيـن ..
تعالى جؤجؤ صدره الممتلىء بدخان الماضي وهو يواصل ذكرياته المؤلمة :
-يومها شربت أول كأس واتعرفت على ولاد الناس الأكابر زي ما هي مفهماني .. تاني يوم روحت لوحدي وحبيت الجـو والانبساط الـ فـ المكان ، خلاص ده مكاننا أنا كُنت غلطان !! ماهي عملت لي غسيـل مُخ .
رشح جبينه ثم أطرق بأسف ليزحزح عينيها من عندها وبدّ عليه الارتباك وهو يتمتم :
-يومها لمست أول بنت يا حـياة .. وبقيت واحد تاني ، أخدت الكُلية في ست سنين او سبعة مش فاكر منا مش فاضي حياتي بقيت سفر وسهر وشُرب وستات متعديش ..
برح به الماضي فأخرجه في صورة زفيرًا قويًا من الدخان الذي يحرق صدره ونظر لها :
-لحد ما توفي شهاب دويدار .. افتريت يا حياة بمعنى الكلمة ، سُلطة وفلوس وستات زي الرز لحد ما تميت ٣٢ سنـه واتعرفت على مهـا ..
غادرت مكانها وجثت تحت مظلة عينيه ممسكة بيدها وكأنها تذكره بها وبسعادتهما معًا وأن كل ما مر كان ماضٍ ، فأطرقت بخفوت :
-حابب تكمــل ؟! لو هتضايق بلاش ..!
رد وكأنه بحاجة للبوح :
-خلتني أحبها بس مخلتنيش اتغير عشانها ، كانت بتحبني كـده زي منا ، وتقبلت أن دي حياتي خلاص ومش هتقيدني ، فاتمديت بقا ومابقتش عامل حساب لحد … لحد ما جيتِ أنتِ !
اتسعت ابتسـامتها وتلألأت عينيها ، وقالت بغنج :
-عملت أيه مميز عشان تقرر أنك هتتغيـر عشاني .
مسح على رأسهـا وقال معترفًا :
-لقيت نفسي معاكِ .. طير حُر شاف السما بعد سنين طويلة كان مسجون جوه قفص ..
ثم رفعها لتتخذ من ساقيه مجلسًا وهو ينظر إليها مأخوذًا وأردف متسائلًا :
-عايز أعرف رأي حضرة الروائيـة مراتي ، أيه هو الحُب الـ يخلي رجل يحب ست واحدة من بين كُل الستات دي !!
أحست بالفخر بسبب أعتزازه بموهبتها وحماسه لمعرفة رأيها .. طوقته بحنان زاخـر وقالت بهزار :
-يمكن أنا وأنت اتقابلنـا في زمانٍ تاني غير ده ، وكُنا بنحب بعض .. ولما التقينا في الدنيـا الحُب ده اتجدد من تاني وحسينا أننـا نعرف بعض من زمن ! ده رأيي الروائي ، تحب تسمع رأيي الشخصي ؟!!
كان كفه متوليًا مهمة ملاعبة خصرها بحرافيـة وكأنه يُخدر فراغ الأيام الخالية منه ، كـ يد لامست آلتها الموسيقي العتيقة بتعطش وهو يتابعها باهتمام ويركز في حركة ثغرها المثير الذي يخشى أن يؤذيه بقُبلة متهورة منه ؛ وقال :
-أنا دايمـا بحب اسمع لك .. قولي .
اكتفت بترك قُبلة برقة النسيم على أرنبـة أنفه وشعرها كالستارة التي تُظلل عليهما ثم سندت جبهتها فوق جبهته وبنفس النبرة التي تحمل حرارة الشوق وهي تعبث بأناملها الناعمة بعظام كتفه :
-أنتَ عارف أن حواء مخلـوقة من ضلع آدم .. من ضلع جمب قلبه بالظبط ، وكانوا عايشـين مع بعض فـ الجنـة .. لمـا نزلوا الأرض ، ليه ربنـا نزل كل واحد منهم في مكان مختلف ؟! وتعبـوا عشان يلاقوا بعض .. ليه منزلوش سوا !!
-ليـه ؟!
أكملت بنفس النبرة المتغنجة :
-دي كانت إشارة للحيـاة يا عاصي وده قانونهـا الـ هتكمـل عليـه لنهاية الزمان ، لكُل آدم حواء خُلقت من ضلعـه فـ السماء .. بس لما بنلمس الأرض تعرف أيه بيحصل ؟!
اعتدلت فـ جلستها لتُطلع عينيه بالأخص وأكملت بنفـس النبرة الهادئة :
-بنتوه من بعض ، كُل واحد بيفضـل تايـه في الحياة ودروبها بيدور عـ الجزء الناقص جواه ، والجزء الـ ينتمي له ، فـ الـ ربنا مقدرلهم لُقاء فبيتلاقوا وبيعيشوا أجمل معاني الحُب ، حب من الجنة .. وفـ الـ بيتلاقوا بس بيكملوا حياتهم مع ناس تانيـين مش شبههم وبيتقتل الحُب على إيدهم .. وفـ الـ بيقضي عمره كله بيدور ومابيـوصلش .
ثم عانقته وكأنها تعانق الصدفة التي جمعتهمـا :
-وإحنا كُنا محظوظين ولقينا بعض ، حتى ولو متأخر .. المهم اتلاقينا .
ينظر إليها مأخوذًا حتى أنها لم تمهله الفرصة للرد متسائلة :
-لكن السؤال هنا ، هل هتفضل تحبني للأبد ؟!
كانت مداعباتها الحنونة وأنفاسها الهادئة تتسرب لبدنه كـ ذبذبات كهربائية ، حتى قال:
-افتكر الـ زيك مش هيليق بيها غير الحُب الأبدي .
بنبرة هادئة غارقة في غيبوبتها السعيدة قبل توهج الجمرة بينهما ، وهي تقفز بشغف :
-هنقوم نصلي الأول .. يلا .. حابة أوي أجرب الشعور ده معاك .. زي مشاعر كتير لسه هنجربها سوا الليلة دي ..
فرغ الاثنان من طقوس الوضوء بضربات قلبهما الهادئه وحمامات السلام التي عششت فوق قلوبهما .. ارتدت حياة روبًا طويلًا يغطي قدميها وظلت تبحث عن وشاحًا تغطي به رأسها حتى استعانت بأحد مفارش الطاولة البيضاء .. وهو الأخر كانت حركاته هادئه عكس قلبه الذي يرتجف .. يرتجف من هول اللقاء الأول بينه وبين ربه بعد فراق عشرين عامًا .. فرشت حياة مفرشًا أبيضًا نظيفًا بالأرض بدلًا من سجادة الصلاة بعد ما ضبطت اتجاه القِبلة مستعينة بجواله .. ثم أشاحت بعينيها الزرقاء له وقالت بتوجس مبطن بالحماس :
-يلا !!
قفل أزرار قميصـه الأبيض وشد أكمامه وهو يقترب ببطء شديد وقلب متراقص .. وقف كإمام لها ووقف على يمينه تبعد عنه بمسافة خطوة للخلف .. رست أقدامه الوردية التي تبرز منها العروق القوية متأهبًا للصلاة .. وقف مشدوهًا لبضعة دقايق يستوعب هول الموقف حتى رفع كفيـه لعند آذنيه مُعلنًا الصلاة بخجل من لقاءه الأول مع المولى عز وجل :
-الله أكبـر ..
رفعت كفيها فوق عظام صدرها بوجهها الباسـم وعينيها الممتلئة بالعبِرات خاصة عندما تذكرت ذلك الموقف وصلاة الفجر وراء أبيها وكل المشاعر الآمنة التي كانت تغمرها حلت اليـوم على دكة خُطاه .. لم يكن صوته عذبًا فقط بالغناء ولكن كان أجمل بالقـرآن خاصة وهو يرتل الآيات الصغيـرة المترسخة في عقولنـا مهما مرت الأعوام ، ولكن لحظة الوقف خلفه تضاهي جميع أعوام العُمـر ..
مارس طقوس الصلاة كإنه لم يُفارقها يوم ، نفس شعور الرهبة الذي سكن فؤاده قبل عشرين عامًا وبنفس ذكريات ذلك المسجـد القديم الذي كان يجمع صُحبتهمـا .. ولكن اليوم تقف خلفه أحد حوريات الجنـة تلك التي هذبت قلبه بأرقى أنواع التربية .. ما فرغ من صلاته حتى إنه لم يلتفت إليها فعاد ليُطيل السجـود كانت لا تسمع إلا صوته همهماته مع ربـه ، ربما إنه يطرق بابًا جديدًا للتوبه !! أم يعتذر عن سنوات الغياب !! أم يعد ربه بإنه لم يكن أخر لقاء وسيتردد على بابه كثيرًا ؟! ربما كان يدعو بأن يهدي قلبه العاصي؟! أم يبارك له في حياته الجديدة وحبه !! أم يحفظ صغاره !!! لا تدري ولكنها لم تقطع خلوته ، تركته ساجدًا ثم انسحبت بهدوء وألقت نظرة على اختبار الحمـل فلـم تجد إلا خطًا واحدًا باللون الأحمر .. ابتسمت برضا ثم تركته وتناولت قرصًا من أقراص منع الحمـل قبل بدء ليلتهما وتركت الشريط أيضًا بجوار المختبـر .. تحررت من ملابسها حتى عادت لعنـده وجلست بمكانها نتظر قدومـه .. بعد سجوده الطويـل رفع رأسـه آخيرا فتحركت لتجلس بمحاذاته واضعـة كفيها على ركبتيه المثنيـة بامتنان :
-تقبـل الله يا حبيبي !! صوتك كان جميل أوي .. أنا كل يوم مش هصلي غير معاك ..
قَبل جبهتها :
-يا ريت بجـد ، لو يوم لقتيني نسيت أو انشغلت فكريني .. اتفقنا .
-حاسس بإيه !!
تنهد بارتياحٍ :
-أنا عُمري ما كُنت مرتاح زي كده ، عارفة زي غيمة سودة كانت فوق قلبي لسنين طويلة وفجاة مابقيتش موجودة .. عارفة أحساس الـ اتولد من أول وجديــد ؟!
تأرجحت عينيـها بإعجاب :
-وأنا أول مرة أشوفك مرتاح كدا .. ربنا يريح قلبك وبالك العمر كله ..
أومأت بحماسٍ مع ابتسامتها الخلابة وقالت بمزاحٍ :
-التسيت بيقول أن مفيش حمل ولا حاجة .. عشان تثق فيـا بعـد كده .. أنا خلاص بقيت خبرة فـ المواضيع دي !!
شعر بالارتياح وهو يطبع قُبلة جديدة على وجنتها :
-الليلة لو كانت اتضربت كُنت هزعلك .. يعني كده الدار أمان !
أطرقت بخفوت :
-الدار مش أمان .. الدار مشتاقـه لسُكانها .
كاد أن يغتنم الفرصة لينعم بها ولكنها قاطعته بسرعة :
-عاصي أنتَ ليـه صممت نبعد عن بعض الفترة دي كُلها ، يعني فيها أيه لو كنا مع بعض وعملنا فرح وكل ده الحاجات دي وأحنا سوا ؟!
عقد حاجبيه معترضًا :
-وده ينفع بردو !! دي حسابات تخصنا إحنا كرجالة ، متشغليش بالك أنتِ؟
تاهت في بحر ألغازه :
-يعني أيـه !! مش فاهمة ؟
تجاهل سؤالها الأحمق ودقت سـاعة اللقاء فلم يعد يتحمل دقيقة أخرى في سنوات البُعد عنها .. فترك الزمام لعينيه أن يتحدثا ، هل يمكنني أن أدخل الحياة من باب عينيكِ الآن .. ‏أن أهزم التنهيدة بعناقك ، أمشي إليكِ بقدمين سليمتين دون تردد وبكامل رغبتي إلى حتفي بين يديكِ ، أدرك جيدًا أنني إن دخلت حجرتك الصغيرة سوف أخرج منها مقتولاً بكل أساليب الحب ؟!
كانت أنامله تعزف بالكلمات على أوتار قلبها ، ونفس الحال لأناملها التي تدلك تقاطيع صدره الظاهرة ، تدلك برفق فيتوقد جسده أكثر وأكثر وتتوهج منارات قِبلاته أكثر فأكثـر .. معها تحرر من قيود الزمان والمكان والأرض التي تجمعهما .. كانت تتراجع للخلف سَكرة لا تعى أين هي وما ستفعله !! ، باهتمام جذب الوسادة ووضعها خلف ظهرها كي لا تصطدم بالطاولة الصغيرة .. كانت تتراقص تحت يديه كروضة اقحوان تحت المطر وهو كان بارعًا في تفجير كل زهور الشوق المنكمشة بكيانـها .. فدبت أول رجفة بقلبها والتي تتذكرها أكثر من طريق بيتها ..فلا تعلم أكانت تلك الرجفة خاصة بـحلاوة الحب أمِ الأحلى من الحُبّ الحبيبُ ؟!! كان ذكيًا للغاية يُغني حبًا ..ويعزف قصائدًا على أوتار جسدها .. يرسم ثمرات الشوق على وديان قُربها ، وكأنه يمنحهـا بصورة أو بأخرى وطنًا لا يعرف معنى الهجران بعـد تلك اللحظـة .. شعر بهزيمتها واستسلامها ففسح مجالًا لتسترد أنفاسها من بين القُبل الطويلة .. تسلل كفــه لتحت ركبتيها المثنيـة والأخر وراء ظهرهـا وحملها بين يديـه وهي هزلـة تتشبث بحضنـه كطفلة نائمة تتمتم بهمهمات حبه المتوقد .. وضعها برفق على ذلك التخت .. الذي سيشهـد على حرب أبدية لحياة الحُب الأزلية والتي سيوقع عليها الآن بختم سلطان الهوى .. تراقصت جفونـها فتلاقت أعينهم الفائضة من اللهفة لتخبره بطريقة خاصة بهما أن ” أيها العصي حياتك فاقها الشوق! ” ومن هنـا بدأت طقوس المعركـة الروحية على خدود الحُب الذي طوق قلوبهـما .. لتُخبره بجملتها الأخيرة قبل أن يذهبا لعالم الحُلم سويًا :
-ولو كَـان ليا الف حيَاة ، بردو هحبك فـ كّـل حـَياة الَف مـرة .
••••••••
~بغُرفــة عاصي .
تنام ” نوران ” بجوار تاليـا وداليـا ، وأجبرت كريم أن يقيم معها بنفس الغرفة ، فرشت له مرتبة بجوار السرير عمومًا وبجوارها خصوصًا .. استيقظت داليـا من نومها وهي تتفقد هويـة النائمة بجوارها ، وربتت على كتفها لتوقظها:
-نوران ، مامي فين ؟!
ردت نوران بصوت مفعم بالنوم :
-نامي يا حبيبتي الصبح هتيجي ..
زفرت داليـا بملل :
-طيب قومي هاتي لي ميـه .
تململت نوران بنومتها رافضة :
-الصبح بردو ، يلا نامي !
أصرت داليا بإلحاح :
-نوران عايزة أشرب ميه قومي هاتي لي .
مدت نوران كفها لكريم النائم تحتها بالأرض وقالت بضيق :
-كريم قوم هات ميـه للبنت ..
ربت على كفه بكللٍ وهو يتقلب في نومتـه :
-قوليلها الصبح …
فلكزته بإلحاح :
-قوم بجد أنا مش قـادرة ..
تأفف كريـم وهو يضع الوسادة على رأسه :
-نامي ربنا يهديكي !!
وثبت نوران بجزعٍ وهي تجر في أقدامها جرًا :
-يعني يا دودو هنزل تحت أجيب ميه !! ما تنامي بجد .
أشارت داليا على الثلاجة الصغيـرة :
-في ميـه هنـا ..
سارت نوران بأعينها المقفولة وفتحت الثلاجة لتُخرج قارورة الماء الزجاجية وهي تحت سطو نومها فانسابت الزجاجة من يدها لترتطم بالأرض وينتشر فتات زجاجها بكُل مكان ، فزع كريم على مصدر الصوت وهي يلومها :
-يخرب بيتك !!
في تلك اللحظة جاء صوت بكاء صغاره النيام ، فأغرورقت عيني نوران بعتب وهي تقف في منتصف قطع الزجاج المنثور :
-لا كريم الحقني دول كمان صحيـوا !!
وثب كريم حائرًا بين صوت بكاء الصبيان وخوف الفتيات وتلك التي تقع في بئر الزجاج لا يمكنها التحرك .. ارتدى نعاله الخشبي وذهب لعندها ليحملها كي لا تؤذى قدميها .. و تركها على طرف السرير مؤكدًا :
-متقربيش عشان الإزاز !!
ثم دار حائرًا تائهًا بالغرفة :
-ده ننضفه ازاي ؟!
نهضت تاليا مقترحة وهي تُشير لأحد الضلف :
-أونكل كريم المكنسة هنـا ، ماما دايمًا بتنضف بيها لما نوقع أكل !
أخرج المكنسـة الكهربائية من مكانها وقال بتحير :
-سكتي العيال دي !! أنتِ هتتفرجي عليـا ؟!
شغل كريم المكنسـة وشرع في تنظيف الأرض من فتات الزجاج بعنايـة كي لا يؤذى أحد .. حملت نوران ريان وتركتـه على الفراش ثم جاء بركان ووضعته بجواره وسالت البنات :
-بيسكتوا ازاي !!
جاءت تاليـا مقترحة :
-مامي بتنيمهم على بطنهم كده وبتطبطب عليهم بشويش ..
فتدخلت داليا مقترحة :
-لا يا نوران هما جعانين ، عايزين ياكلو .. أكليهم ، بس ريان لازم يرضع طبيعي زي ما مامي بتقول ! رضعيه بقا .
انعقد حاجبي نوران باندهاش وهي موشكة على البكاء :
-دي أعملها ازاي !! كريم تعالى ألحقني .
فرغ كريم من كنس الأرضية ورجع المكسنة لمكانها .. ثم أقبل لعندهم وهو يقول :
-حياة مجهزة الرضعة لكُل واحد أهو .
توترت نوران وهي تدور حول نفسها بارتباك :
-طيب أنت امسك واحد وانا همسك التاني .. صح كده .. وأنتِ يا توتا اقعدي جمب أونكل كريم ولغوشي عليه عشـان ميعيطش .. وأنتِ يا دودو تعالى جمبي ..
حملت ريان وشرعت أن تُطعمه ولكنها توترت خائفة :
-كريم انزل اصحى شمس تتصرف معاهم ، أنا بجد خايفة ..
زفر كريم بأعتراض :
-لا يا نوران .. اعتمدي على نفسك في حاجة بقا .. أعملي زيي أهو .
رمقته بتوجس :
-ركان هادي .. خد ريان وهات ركان ..
جز كريم على فكيـه :
-نوران متعصبنيش !!
-أنتَ بتزعق لي ليه !! أنت السبب في كل ده ، لو قمت جبت مية بسكات ، مكنش كل ده هيحصل ..
ثم زفرت بامتعاض :
-أقول لك عقابًا ليك ، هترضع الاتنين ، اتفضل .
تدخلت تاليـا قائلة :
-نوران أنا جعانة عايزة أكل .
فأكملت داليا :
-وأنا عايزة أشرب ميه يا نوران .
رمقتها بذهول وهي تلعن حظها :
-يادي نوران والـ جابوا نوران .. هي حياة ازاي بعقلها كُل ده ! اكل وشُرب ورضاعة !! أنا دماغي هتطير خلاص .
أصرت تاليـا :
-جعانة يا نوران ، اتصرفي .. أعمليلي أي ساندوتش .
-أنتِ بتقومي كده في نص الليل بتاكلي عادي !! وحياة بتأكلك .
ردت تاليا بفرحة :
-اه ، وهي كمان بتاكل معايا .. بتقول عشان ريان بيأكل أكلها فهي بتجوع بسرعة زيي .. وبتعملنا باستا بالجمبري والوايت صوص تجنن !!
-ده الفجر !!؟؟
ردت تاليا ببساطة :
-في كل وقت .. مامي الـ يهمها نكون مبسوطين وبس .
تأرجحت عيني نوران بحسرة خاصة عندما شرع ربان في البكاء مرة ثانية وقالت لكريم :
-أحنا مش هنأجل الخلفة لحد ما أخلص جامعة ، أحنا هنلغي المشروع كله ، كريم أنا أعصابي تعبت بجـد .
ما كادت أن تنهض ولكنها تراجعت بسرعة :
-كريم أقول لك روح اتجوز عليا أنا مش هنفع في أي حاجة بجد !
••••••••
~ مع شـروق الشمـس .
خرج عاصي من الحمـام بعد ما ابترد للمرة الثانيـة وهو يجفف شعرها بالفوطة الصغيرة التي رماها فوق بطنها ممازحًا :
-لسه متحركتيش ، قومي بطلي كسـل .
تغنجت صارخة بدلال :
-بس بقـا ، مش قادرة بجـد .. أنتَ عملت فيا ايه ؟!
هز كتفيه لا مباليًا بذنبٍ :
-أنا معملتش حاجـة ، أنتِ الـ قلبك بقا خفيف من الركنة .
وثبت مفزوعة وهي تعارضه وتتبع خُطاه للمرآة :
-أنتَ بتقول أيه !! لا بص لي كده ، حاسة في إهانة وتلقيح عليا !
شرع بتصفيف شعره وهو يغمز بطرف عينه:
-لا مش حيـاة الـ أعرفهـا ..
ضربته بقضبـة يدها بغلٍ وقالت موبخة :
-والله رخم ، وبتكذب كمان .. ومش هتعصبني لا .. أنا واثقة في نفسي جدًا .
أطلق صفيرًا خافتًا وهو يتحاشى النظر إليهـا ، فتأوهت غاضبة :
-عشان الرخامة دي هسيبك وأنام ..
رد بثقة :
-هصحيكي ..
تحدته بدلال :
-مش هصحى .. مش أنا قلبي خفيف !! طيب استحمل بقا ..
كادت أن تركض فأمسك بمرفقها بسرعة لتعود لعنده ففي تلك اللحظة أصاب الدوار رأسهـا فتأوهت متوجعة :
-آآآه !!
-مالك .
رفعت جفونهـا بتكاسل :
-دوخت تاني !! لا لا في حاجة غلط ، أنا مش مظبوطة .
طوق خصرها وتمسك بها جيدًا ثم قال :
-طيب تعالى ارتاحي .. على مهلك.
مددت على طرف السريـر ، فانحنى ليضع الوسادة وراء ظهرها ، فلم يخلٌ من مداعبتها متهامسًا :
-بجد قلبك الـ بقا خفيف ولا الجولة كانت تقيلة عليكِ !!
لكمتـه في كتفه بغيظٍ:
-بس بقـا .. بطل رخامـة .
اكتفى برسم ابتسامة واسعة على محياه وهو يقـول :
-هعملك حاجة دافيـة تشربيهـا .
ردت ساخرة :
-أيه الحنيـة دي كُلها !
رد بمكر وهو يسير ناحية ركن القهوة :
-برمى شبك يمكن يطلع بسمك .
ردت متعبة متفهمة مغرى تلميحاته :
-لا انسى .. روحني لولادي !!
رد مستنكرًا :
-ولادك مين !! مفيش خروج من هنا غير لما أرضى عنك .
ثم ولى رأسه لعندها وقال :
-أنتِ شيلتي التاتوه ليه !
ردت بارتياح :
-شوفت فيديـو إنه حرام .. والفترة الأخيرة رجعت انتظم في الصلاة تاني عشان البنات يتعلموا ده وميغلطوش غلطتنا ، عشان كده شيلتـه .. بس لو يهمك أوي أنا ممكن أرسـم حنة .
شعرت ببعض التقلصات ببطنها فلم تنتظر رده بل أسرعت راكضة نحو الحمام ولم يصله له إلا صوت تقيؤها .. ترك ما بيده كي يلحق بها ولكنه توقـف بجانب الطاولة التي كان عليها جهاز اختبار الحمل .. تجمد فكره لجزء من الثانية وهو يتأمله حتى لاحظ وجود الخطيـن الذي يعلن حملهـا .. عض على شفتـه ساخرًا :
-بقول في حاجة غلط !!
ثم صاح مناديًا :
-أنتِ يا ست خبرة ..
تركه مكانه ثم عاد إليها وسندها وهي تخرج من الحمام ويبدو عليها الإرهاق :
-عاصي بجـد أنا مش مظبوط ، معقولة أخدت برد !
هز رأسه مستنكرًا وهو يوصلها للفراش مرة ثانية :
-أو حامل مثلًا !!
ترنحت بتمـرد :
-يووه بقا يا عاصي !! بردو مصمم ؟!
أطلق ضحكة ساخرة والقى لها اختبار الحمل قائلًا :
-لحد ما تشوفي ده ، هستناكي فوق عشان نفطر .
امتدت أناملهـا لتفحص النتيجة الإيجابية مرة ثانية فصرخت متمردة على ذلك الحدث :
-عاصي لا !!! خد هنا أنتَ سايبني مع الكارثة دي لوحدي !! عاصي طيب إزاي !!!
لكنه غادر الغرفة وهو يضحك ويضرب كف على الأخر متمتمًا وهو يشعل سيجارته :
-أهم حاجة الثقـة الـ بتتكلم بيها ! وأنا مُغفل وبلعت الطُعم !!
ارتدت فستانها الأزرق الطويل ولملمت شعرها بعشوائية وسارت خلفه وبيدها الاختبار وحبوب منع الحمـل .. ركضت لأعلى وهي توبخه :
-أنتَ ازاي تسيبني وأنا بكلمك !!
ثنى سيجارته بقلب المطفأة وهو غارق فـ الضحك :
-الهانم بتاعت الثقة !! أنا نفسي أعرف ، الحاجات دي كل الستات بتعرفها ؟! أنتِ فين من كل الستات دي !
جحظت عينيها وهي تجلس بجواره :
-عاصي أنا مصدومة بجد !! أنا كنت بأخد الحبوب في ميعادها .. وكمان الـبـ….
فابتلعت بقية حديثها متذكرة قصة حملها الأول:
-استنى ، بدأت أفهم ، معقولة قصة الحمل الأول اتكررت .. الدكتورة قالت لي ده اسمه حمل غزلاني .
ثم تشبثت برأسها :
-لالا ، الجهاز ده غلط .. طول ما أحنا مع بعض أنا كنت بأخد الحبوب في وقتها .. حتى شوف الشريط فاضي ازاي !
خطف الشريط من يدها ورماه بالبحر ، فوبختـه :
-أنتَ بتعمل أيه !!
-ملهوش لازمة بقا ، حياة حبيبتي أنتِ بتستهبلي !!
-عاصي أنتَ بتقول ايه !! أنا بجد مصدومة !
عقد حاجبيه بخبث :
-مش ريان وركان لما جم كنتي بردو بتاخدي نفس الحبـوب دي !!
غمغمت :
-اه بس كنت ساعات بنسى ، لكن أنا ليا ٨ شهور منستش ولا يوم !
انفجر ضاحكًا على ملامحها المشدوهة من إثر الصدمة ، فقال مداعبًا :
-عارفة ليه بتستهبلي ؟!! عشان جوزك ما تنفعش معاه الحبوب دي ، مشروع فاشل .
رمقته بذهول يحمل الشكوى:
-عاصي !! أنت بجد مبسوط ؟! أنتَ متخيل أنا داخلة على أيه؟! خمس عيال يا عاصي .. هتجنن يالهوي !!!
ردّ ببرود متعمدًا إثارة غيرتها :
-وممكن يبقوا ستـة .. أنتِ وحظك ! أصل أنا مش بخلف غير بالجوز .
وضعت أناملها على فمه متحسرة :
-لا .. ما تقولش !! حرام عليك بجـد .. أنا أيه الـ عملته في نفسي ده ياربي ..
ثم ربتت على كتفه بترجي :
-أنتَ كنت رميتني للسمك يومها أرحم ليـا من الـ بيحصل ده ..
لم تهن على قلبـه أن يُلقيها فريسة للأسماك وضمها لحضنه وهو يتنفس رائحتها وقال :
-أعملي حسابك ، كل سنـة من ده ، كل سنة عايز ضيوف جديدة تنور أوضتنا .
ردت مستنكرة :
-أنتَ مش متجوز أرنبة !!
سند ذقنـه على كتفها وقال هامسًا :
-بس أنتِ متجوزة عاصي دويدار ..
حدجته معاتبة :
-عاصي !! أنتَ بتتكلم بجد !!
-وجد الجد كمان .
ثم وضع تلك الخصلة المتطايرة وراء أذنها وقال بشموخ :
-حياة أنا كنت غلطان لم منعتك تخلفي طول الفترة دي ، أنا بكبر وعايز اسمى يتمد كمان وكمان .. أنا مش عايز أمشي بحراسـة .. أنا عايز أمشي بولادي ، ولاد عاصي دويدار .
ثم ختم جُملته بقبلة خفيفة على جدار عنقها وأكمل ممازحًا :
-هتقدري ولا أجيب الـ تساعدك!!
غازلتـه متدللة وهي تتكئ بظهرها على سياج صدره وهى تخفض كفيه لمستوى بطنها التي تضم مضغة جديدة من حبهما وقالت :
-أنت هتقدر تخلف من واحدة غيري !!
رد متعمدًا إثارة غيرتها :
-ما أنتِ الـ هتربيهم .
سايسته قائلة بمزاح :
-لما أقتل أمهم !! اذا كان كده ماشي .
-شوفتي فاهمك ازاي!
دارت إليه بنيران غيرتها وهي تتمسك بياقه قميصه المفتوح:
-سؤالي واضح ياعاصي بيـه ، هتقدر تخلف من واحدة غيري !
-أنا لو حابب أخلف دستة ، فعشان بس أنتِ هتكوني أمهم .. غير كده ميلزمنيش .
اتسعت الضحكة على محيـاها وغمغمت :
-بحـبك ..
قبل جبينها ثم ضمها إليه لتستند برأسها على صدره قائلًا :
-مبروك الحمـل يا أم ريان .. عايزك ترتاحي خالص .. وكُل طلباتك مُجابـة .
-الله يبارك فيك يا أبو ريـان .
وبنفس الابتسامة رفعت عيونها لعنـده وقالت :
-الولاد وحشوني ، يلا نرجع لهم .
-نطمن الأول على الحمل ونروح .. يلا قومي .
كادت أن تقف متمسكة بيده وهي تقول بسعادة :
-اليخت ده كل ما أجي فيه لازم أكون حامل !! أنا بدأت اتوغوش !مش هاجي هنا تاني .
انحنى متهامسًا بتحدٍ :
-أنتٍ مش هتيجي غير هنا ..
ثم غمز بطرف عينه :
-أششش عندنا فريق كورة لازم نكمله .
‏”كل الشعراء قبلي، كل القصائد قبلك، كل قصص الغرام قبلنا، لم تكن إلا مقدمات لقصتنا، وكل ساعةٍ مرت من الدهر ليست إلا تنبيه على اقتراب موعدنا.”
#لقائلها ..
~مساءً …
رجع عاصي وحيـاة لمنزلهمـا الممتلىء بـ العائلة بعد ما ذهب للمشفى وتأكد من صحة الحمل الذي أيدته الطبيبة والذي يبلغ عمره التسـعة أسابيـع .. منحت حياة طاقم الخدم إجارة هذا اليـوم لقضاء وقت عائلي مميـز وخاص بهم .. قضت ساعات طويلة من صغارها وهي تتمم على مطلباتهم من مأكل ومشـرب وملابس واستحمام وغيرها .. وكان عاصي جالسًا مع تميـم ومراد يتناقشون في تفاصيل مشروعهم الجديد والضخم حتى مالت الشمس إلى المغيب ..
~بغُرفة عاصي .
تجثو حياة على رُكبتيها تصفف شعر تاليا بعد ما فرغت من ضبط شعر داليـا .. مررت الفرشاة على شعرها الناعـم وهي تضع ” التوكة ” المتناسقة مع ملابسها وهي تدندن ببعض الألحان حتى جهرت متحمسة بعد ما ضبت فورمة رأسها :
-توتا ، بصي عليـا كده !!
دارت تاليـا لعندها فشرعت حياة بضبط قُصة شعرها المتدلية على جبهتها وقالت بإعجاب وهي تقبلها :
-ده ايه الطعامة والجمال ده كله .. ياروحي أنا على القمر بتاعي .. !
ثم ركضت بسـرعة وأحضرت قلم حُمرة الشفاة الوردية وجثت مقابلها وهي تلون ثغرها بذلك اللون اللامع فـ زامت تاليا ثغرها بفرحة ثم تابعتها داليـا لتزين وجهها بنفس الحمرة وقالت بشغف :
-أحكولي ، نوران عملت فيكو أيه وأنا مش موجودة .
شرعت تاليا بسرد تفاصيل أمس وهي تضحك وتقلد كلمات نوران بالضبط ، فأتبعت داليا رواية أحداث الليلة بنفس المرح والزجاج المهشم الذي نظفه كريم ، وبكاءها طول الليـل وشجارها المتواصل مع زوجها الذي كلفته المسئولية كاملة، فختمت جملتـها بترجي :
-مامي ، ممكن مش تسيبينا تاني ..
انكمشت ملامح حياة المعتذرة وهي تقبلها بحنو زاخر :
-ده كان يوم واحد بس .. خلاص أوعدكم مش هيحصل تاني أبدًا ، وأي مكان نروحـه هتكونوا معانا .. اتفقنا ..
عانقتها داليـا بامتنان:
-أنا بحبك أوي أوي يا مامي ..
فُتح باب الغُرفـة فهّل منه عاصي وهو يشيد بإعجاب :
-ده أيه الأحضان دي كُلها من غيري ؟!
أقبل عليه ريان الذي يحبو بحماس مرحبًا بعودة أبيـه فانحنى في الأرض ليحمل طفله وهو يقبله :
-ريان باشـا .. وحشتني يا ولاه .
ثم ركل الباب ودلف للداخل متسائلًا :
-ركان فين ؟!
طافت عيني حياة بالغرفة تبحث عنه ثم وثبت كالملدوغـة وهي تلوم نفسها :
-يا خبر !! في الحمام ..
ركضت بلهفة لتأتي بصغيرها الذي يعشق اللعب بالماء وهي تحمله صارخة بعتاب يبطنه الشكوى عندما وجدت ملابسه مبللة بالماء :
-ركان !! حرام عليك بجد .. أنتَ بتعمل فيا كدا ليه بجد !! طيب أنا مش بصعب عليـك !! أنا بنت ناس والله عـ المرمطة دي كلها ..
ثم خرجت به بعد ما قفلت الصنبور وملابسه يتقطر منها الماء وتشكو همها لزوجها :
-شايف ابنك !! عاصي أنا لسه محمياه !! عاجبك كده عناده !!
رد ضاحكًا وهي يجلس صغيرته على ساقـه :
-هيطلع عنيد لمين غير مامته يعني !!
ردت بنبرة مبطنة بالضحك والعتب معًا وهي تخرج ملابس جديدة له :
-وليه مش لباباه !!
-عشان أنا عمري ما كُنت عنيد ، بس اتعلمته منك .
-علمتك حاجة أهو ، عد الجمايـل .
انشغلت في تغير ملابس ركان وانشغل هو في محاورة بناته ، شرعت تاليا متسائلة :
-بابي أنتوا سبتونا ومشيتوا بالليل ، روحتوا فين !!
أصدر إيماءة طويلة حائرًا باحثًا عن رد مناسب :
-كان عندنا شغل مهم أنا وحياة .. وأدينا رجعنا أهو ..
فغمغمت بفضول :
-أحنا هنسافر أمتى ، خلاص أخدنا الأجازة .
ضم صغيرته بحُب وهو يختلس النظر من تلك المتقوسة على الفراش أمامه تبدل ملابس ركان كلؤلؤة بداخل صدفتها وقال :
-نسـافر ، عايزين نروح فين ؟!
فكرت طويلًا ثم قالت :
-مش عارفة ، المهم نسافر كُلنا وخلاص.
-خلاص سيبوني أرتبها وهنسافر مع بعض ..
تدللت صغيرته متسائلة :
-بابي ، شعري حلو !
أطلق صفير انبهاره :
-يجنن ..
فتساءلت الأخرى بنفس الدلال وهي تزوم ثغرها :
-اللب ستيك لايق عليا ..؟!
ضاقت عينيه وهو يطلع رسيل بنظرة حائرة وبعد ما قطف قبلة بطعم الورد من فاه صغيرته :
-ده لايق جدًا كمان .. بس أنا عايز أقول لكم خبر دلوقتِ .
اتسعت أعينهـم بحماس :
-خبر أيه ، قولنا بسرعة ؟!
ضاقت عينيه إثر تلك الضحكة الواسعة التي رُسمت على محياه بعد ما خطف نظرة سريعة من ملامحها :
-مامي حامـل ، يعني بعد كام شهر فـ بيبي جديد هيجي يلعب معاكم .. مش عايزين نتعبها وأي حاجة نطلبهـا من الناني ! ممكن .
صاحا الاثنتان بفرح وقالت أحداهما :
-واو !! بجد يا بابي ؟! يارب يكون البيبي girl عشان تلعب معانا .
فرغت حيـاة من ملابس ركان فحملته وضعته بالأرض ليلهو مع أخيه ، وركضت لتقفل باب الحمام جيدًا وانضمت حوارهم وهي تأخذ داليـا من حضنه وتضعها على قدميها برفق :
-لو girl أنتوا الـ هتختارو اسمها .. مش كده يا بابي .
فسألت تاليا الجالسة على ساق أبيها :
-ولو boy ؟!
أردفت بصوت دافئ وهي تناظره :
-بابي هو هيختار اسمه .
قبل وجنة صغيرته ثم قال :
-يلا انزلوا ألعبوا تحت مع طاطا وغاليـة .. وأنا ومامي هنغير ونحصلكم .
ردت تاليـا بطاعة :
-okay ..
كادت أن ترحل مع أختها ولكن أوقفتهما حياة قائلة :
-استنوا ، فين حضن بابي الأول ، أحنا اتفقنا على أيه .
ارتمن الاثنتان بحضن أبيهما بعد تذكرهما لهذا الاتفاق الذي عقدته حياة معهما كي تجعل وصال الحب دائمًا بقلوبهما .. انتظرت حتى انصرفا البنات فنظرت له مبررة :
-على أد ما تقدر أحضنهم وأملى قلوبهم حُب يا عاصي .. وهما كمان لازم يتعودوا أن حضنك ملجأهم في كل وقت .. حتى بعد ما يكبروا .. ده أجمل وأقوى حب ممكن تقدمه ليهم في الحياة ..
لمعت عينيه ببريق الانبهار وهو يتساءل متعجبًا :
-المفروض أحبك أد أيه تاني !!
-أنا طماعـة ومن حبك مش بشبع ..
ثم غيرت مجرى الحديث متسائلة :
-الشغل تمام !!
قبـل كفوفها بحب :
-كله تمام وزي ما أنا عايز بالظبط .. ودي أهم حاجة .
-طيب يلا خد الشاور بتاعك .. أكون رضعت ريـان .
ما كادت أن تتحرك فتراجعت تشكو منه :
-ابنك اتعلم يعض على فكرة .
عقد حاجبيه مستنكرًا :
-بيعض فين بالظبط عشان كده هنقطع على بعض !!
لكمة كتفه بقبضه يدها بغلٍ :
-بطل بقا القاها منك ولا من ابنك .. وسع كده عايزة أنزل تحت .
أحكم قبضته عليها بعد ما قطف قبلة خفيفة من أرنبة أنفها وقال متخابثًا :
-معرفتش بردو بيعض فين ؟!
انفجرت بضحكة مُلطخة بحُمرة الخجل :
-عاصي ، وبعدين فيك !!
داعب بأنفه أرنبة أنفها قائلًا بمزاح :
-بطمن بس .
اتسعت ابتسامتها معترفة :
-لا اطمن .. وسيبني بقا عشان انزل للبنات اجهز معاهم العشـا .
لم يبتعد إنشًا عنها بل زاد قُربه :
-تمام امشي !!
تسارعت ضربات قلبها وهي تعارض قُربه :
-عاصي همشي ازاي وأنت ماسكني كده !
عقد حاجبيه راسمًا ملامح الجدية على وجهه:
-حياة أنا عملت أيـه غلط المرة دي !
اعتدلت في جلستها المائلة وقالت باهتمام :
-ليه يا حبيبي بتقول كده !! حصل ايه ؟!
ما زال محافظًا على ملامحه الجادة وقال :
-ليه المرة دي واحد مش توأم !!
اتسعت عينيها بذهول لجديته المبالغة بالأمر وقالت بعدم تصديق :
-لا استنى !! أنتَ بتتكلم بجد ؟!
ثم تأففت بارتياح :
-والله خضتني .. انا غلطانة إني قاعدة بتساير معاك أصلًا ..
ثم وثبت قائمة متجاهلة ضحكته الخفيفة على لهفتها :
-هات الولاد معاك مش هقدر أشيلهم ..
فغمغمت :
-هيجنني هو وولاده يا ربي .. أنا بنت ناس على فكرة .
هبطت حياة لأسفـل وهي تضرب كف على الأخر تضحك تارة وتصمت طورًا على أسلوبه وكلماته التي دومًا ما يراوغ بها .. اتجهت للمطبخ فوجدت شمس وعالية يجهز قطع اللحم للشوي .. فقالت معتذرة :
-أسفة يا بنات اتأخرت عليكم .. عندي ٤ قطط فوق ونمر كبير هيجننوني قُريب خلاص .
ضحكا الاثنتان عليها فأردفت عاليـة قـائلة :
-أنتِ كفاية عليك عاصي .. بالذات وهو رايق ، كُنت بشوف معاملته مع عبلة كان مجننها .. أنتِ من جبال يا بنتي والله .
فتدخلت شمس واعظة :
-لا خليكي مسيطرة كده ، بلاش دلع عشان الرجالة دول لو ادلعوا مش هنعرف نكلمهم بعدين .
حدجتها حياة ضاحكة :
-الله يكون فـ عونك يا تميم .. بالراحة يا حبيبتي ، كله بالدلع والكلمة الحلوة بيمشي .. وبعدين لو مدلعتوش أنا مين هيدلعه يا دكتورة ؟!
جلست عاليـة على أحد المقاعد بفضول يغلفه التردد :
-حياة ، أنتِ تعرفي أنا كُنت فاقدة الأمل في عاصي ، حاولت معاه كتير يتغير معرفتش .. عندي فضول أعرف أنتِ عملتي أيه !
كانت تغسل يديها بالماء الفاتر فأطلقت ضحكة خافتة وتنهدت بارتياح مردفة :
-حبيته من قلبي يا عالية ..
فعارضتها مستفهمة :
-مها كمان حبته بس متغيرش !!
كشفت على إناء الرز المطهي وتذوقت القليل منه ثم قالت :
-الحُب لوحده من غير ذكاء مش كفايـة .. يعني مثلًا الرجالة دول زي الطيور المُهاجرة بالظبط ، مش بيحبوا يعيشوا فـ أرض واحدة ، بيتنقلوا من مكان لمكان مع فصول السنة وبعدين يرجعوا لوطنهم .. أزاي بقا تطمني أنه هيرجع تاني لوطنه !! ماهو آكيد هيشوف الأحلى في مكان ما .
ترك الاثنتان ما بيدهما وانتبهن لنصائحها ، فجلست على طرف المقعد وأكملت :
-كوني له الفصول الأربعـة من غير ما تحسسيه بده .. خليه فاكرة نفسه طير حر محدش مقيده بس فالحقيقة هو بيطير في فضاءك أنتِ ..أبسط مِثال يا هانم أنتِ وهي .. يوم موضوع الرقاصة ؛ الـ حصل أن كل واحدة فيكم طردت جوزها وأعلنت عليه الحرب ، مع أن الرجالة ما أجرموش يعني ، ربنا خلقهم كده بيميلوا لكل حاجة حلوة لازم هيبصوا .. عايزينهم يخالفوا الفطرة يعني !!
كادت شمس أن تعارضها ولكن حياة أصرت أن تُكمل حديثها ومعتذرة بشياكة :
-عارفين أنا عملت أيـه !! قومت ورقصت له ورقصنا سوا وقضينا ليلة من أحلى أيامنا مع بعض .. صحى الصبح مش فاكر الرقاصة دي ، كل الـ بيدور في دماغه تفاصيل الليلة اللي فاتت وبس .. وأنا متأكدة لو جبت له سيرة فرح نوران مش هيكون فاكر حاجة غير وقتنا الحلو مع بعض .. اتعلمي عالجي المواقف بينكم بالضحك والهزار وحبة دلع .. يا ستي ما تدلعي هتكسبي ثواب والله .
ثم نظرت لشمس :
-اتفضلي يا شمس .. عايزة تقولي أيه .. ؟!
غمغمت بتوجس :
-أنتِ معاكِ حق ، أنا الـ بقيت مسجونـة في قيود الماضي والتربية ومش عارفة أطلع منها .. اتربيت على الغلط غلط والصح الصح .. محدش فهمني أن الغلط دلوقتي صح بعدين مع شريك حياتك .. وده الفخ الـ أغلبنا وقع فيه .
أردفت حياة متفهمة :
-البيئة بتفرق فـ التربية جدًا ومش هقدر ألومك والمفروض تميم يتفهم كده ، أنا عشت حياتي كلها وسط أجانب وحياتهم والبساطة الـ بيتعاملوا بيها ..الناس دول بيعرفوا يبسطوا نفسهم بجد .. أنا اتكلمت مع مختلف الثقافات والعقليـات لحد ما كونت شخصيتي.. بقيت عايشة بشخصيتين ، بنت السوق الجامدة مع باباها ، والفراشة الـ مش بتحلم غير بريحة الورد مع كتبها .. لحد ما قابلت عاصي ..
ثم أطلقت ضحكة خفيفة وأتبعت :
-اصطادته بذكاء رسيـل ، وكلبشته بحُب حياة .
دخلت نوران تصيح من الخارج :
-الاكل يا جدعان ، الرجالة الـ بره دول لو مأكلوش هيتعشوا بينا .. ما تنجزوا بقا .
تبادلن الضحكات فتقدمت حياة قائلة لهم :
-طيب أنتوا أشووا اللحمة برة وأنا هنا هعملكم شوية سلطات للمشاوي مش هدوقوا أحلى منهم ..
ثم أتبعت :
-نوران عاصي لو بره بليز نادي عليه عشان يساعدني .
تقدمت نوران مستعدة للمساعدة :
-ما أساعدك أنا ، أنا فاضية .
طالعت شمس وعالية بنظراتها الإرشادية :
-هي ماسمتعش الكلام من اوله ..
ثم نظرت لنوران ممازحة :
-ياستـي أنا عايزة جوزي يساعدني الله!!
تأرجحت عيني نوران بعدم فهم :
-أنا غلطانة ، متزوقيش طيب .
بعد مرور عدة دقائق جاء عاصي مرتديًا ملابسه الرياضية السوداء وأول ما فعله فتح الثلاجة وسكب كوبًا من العصير وقال لها :
-نوران قالت لي إنك عاوزاني .
فرغت من غسل الخُضار بالمصفى ثم قالت متدللة :
-هعمل سلطات كتير ، ممكن تساعدني وتقطع دول .. وكمان بتلكك عشان نقعد مع بعض .
شد المقعد ولبى طلبها مرحبًا :
-بدل ما أنا قاعد في وش تميم ومراد ، زهقوني شُغل .
ضحكت متدللة وهي تجهز له و أدوات السلطة وقالت :
-شوفت بحس بيـك إزاي .
~بالخـارج .
يلعب كريم ونوران بالكرة مع البنات في أجواء يملأها المرح والضحك .. وعلى الجهة الثانية يقف مراد بجوار عاليـة يشوى معها قطع اللحم على الفحم ويذوقان طعمها باستمرار .. أما عن شمس وتميم يجهزان مائدة الطعام ويقومان برص الأطباق أمام المقاعد الخشبية بالحديقـة ، فأردفت تميم مقترحًا :
-بفكر نشتري بيت هنـا .. الجو مع صوت البحر عالم تاني ، جنة على الأرض .. أيه رأيك ؟!
تركت ما بيدها متحررة من قيود الماضي متبعة نصائح حياة ودنت منه بأعين لامعة:
-أي مكان هنكون فيه سـوا ، هيكون جنة يا حبيبي.
انكمشت ملامح تميم بذهول لتلك النبرة الجميلة التي لم يعتادها ، تحسس درجة حرارتها بصدمة :
-شمس !! أنتِ سخنة ؟!
ضحكت بخفوت وهي تتمسك بملابسه برفق :
-لا متقلقش أنا كويسـة .. وكمان عندي فكـرة لو عجبتك نعملها .
ما زال تحت صاعق صدمته :
-كمان !! لا في حاجة غلط ، هوا البحر ضربك في دماغك تحبي نشوف دكتور !
لكمته برفق معاتبة :
-بس بقا .. هرجع في كلامي عشان الطريقة دي .
-لالا أنا فـ عرضك ، اثبتي .. قولي فكرة أيه ؟!
بللت حلقها وهو تقضم في طرف شفتها السُفلية وقالت :
-بفكر نسيب طاطا مع نوران ، ونروح أي أوتيل أو القرية السياحية بتاعتكم هنا نقضي ليلة هاديـة سوا بعيد عن الدوشة .. أيه رأيك ؟!
رد بحماس شديد وهو يحاوط كتفيها:
-ودي عايزة رأي !! المهم الليلة الهادية دي فيها رقص !
انكمشت ملامح وجهها وهي تبعد عنه :
-اسكت يا تميم .
رد مشدوهًا :
-أسكت ايه !! أنا غلطت في أيه طيب.!!
انشغلت برص الأطباق عنه وهي تقول :
-انسى كل الـ قـولته !
رد بحسرة :
-انسى ليه ؟! أنا ملحقتش أفرح !! ياشمس استنى بس .
~بالجهـة الأخرى ..
-مراد ، هنمشي بالليـل ولا الصبـح !
كان يهوي فوق اللحم بالمروحة اليدوية ، فتفقد المكان حوله وقال متهامسًا :
-أيه رأيك نسيب غالية مع كريم ونوران ، وافسحك شوية في الغردقة !!
لمعت عينيها بسعادة :
-بلاش نرخم عليهـم حرام ، كفاية ولاد عاصي إمبارح .
وشوش لها معترضًا :
-عاصي إمبارح وإحنا النهاردة !! فين المشكلة ؟!
ابتلعت ضحكتها بغنج وعاتبه :
-مراد ، كريم لسه عريس مترخمش بقا ..
حسمت ملامحه الأمر :
-تؤ .. أنا هتصرف ، متقلقيش أنتِ .
~بالمطبخ .
-وكده كُل سلطات المشاوي خلصت.. وطبعا أنتَ لسـه مخلصتش سلطة الخُضار .
قالت جملتها بنبرة موبخـة وهي تشد السكينة من يده وشرعت بتقطيع الخيار ولكزته بمداعبة لطيفة ، فأكملت :
-لأن طبعـًا عاصي باشا مش مركز خالص ، مرة بيبص عليا مرة بيتكلم في التليفون مرة يفتش فالتلاجة .. وكده مش هنتعشى .. أعمل فيك أيه !!
مسك قطعة من الخيار ووضعها بـ فمهـا متسائلًا:
-أنا عملت كُل ده !!
تناولت الخيار من يده وقالت بمزاح :
-شايف أنا خلصت كام نوع سلطة !! وأنتَ لسه بتقطع فـ الخيار !! أنا معرفش اعتمد عليك خالص كده .
داعب خصرها من تحت شعرها المنساب برفق وقربها منه وهو يتأملها بإعجاب معترفًا :
-كُنت بتلكك عشان تيجي تقفي جمبي نفس الوقفة دي !
باغته بدهاء :
-أنا أصلاً ناديت عليك ، عشان الوقفة دي !
لا أحد يعرف تفسيرًا دقيقًا للحب ، أ هو حرب طاحنة من المشاعر التي يعيشها الإنسان، أم أرضًا مقدسـة خُلقت للسلام لا تطأها إلا قدمي العاشق ؟!! أم أنه فصلاً رائعًا من الجنون يشبـه فصول السنة الأربعـة ، بكُل فصل يحوي طقوسه الخاصة ؟! أم أنه مباراة كرة قدم الجميع يركض وراء شيء لا يعرفه على أملٍ أن يأتي بجول الفوز ؟!!
وثب قائمًا ليحوط عليها بذراعيه المستندة على سطح الطاولة وتغرق أعينه في ظُلمة شعرها .. وقال :
-لعبـة القط والفار دي هتنتهي أمتى !!
تململت متغنجة :
-وتنتهي ليه !! ولا عشان توم دايمًا بيخسر زيك !!
لكز كتفها بكتفه القوي بمزاح وقال :
-ده بمزاجي بس ..
تأوهت قليلًا من كتفها وقالت بدلال وهي تلف بين يديه لتضع قطعة من الفلفل الحار بفمه مستغلية تركيزه الشديد معها ظناً منه بإنه خيارًا :
-مش كل حاجة بالعضلات على فكرة !!
كاد أن يجيبها وهو يمضغ الخضار الذي وضعته بفمه فـ برقت عينيه مندهشًا وهو يركض ناحية كوب العصير :
-حياة أنتِ اكلتيني ايه !! ده فلفل !! يخرب عقلك !!
انفجرت ضاحكـة وهي تعود لتُكمل السلطة وتقول :
-شوفت انها مش بالعضلات خالص على فكرة !!
وضع الكوب على سطح الطاولة بغلٍ :
-صبرك عليا ..
أخذت قطعة من الخيار ودنت منه وكأنها تقدم صك اعتذارها ، ما أن رمتها بفمه وضعت ذراعها فوق كتفه متدللة :
-الخيار هيبرد بؤك .. المهم ، هتقولهم برة إني حامل ولا نستنى شوية ؟!
لكت اللقمة بفمه :
-والله عايز أقول بس خايف من العين .
-مادام قلت للبنات واجب نعرفهم .. البنات ممكن يتكلموا بصفي نية !
ضاقت عينيه متوعدًا :
-بمناسبة صفي النية ، ليلتك مش فايتة النهاردة معايا عشان تأكليني فلفل تاني .
راودت فمه على القُبل وقالت باعتذار :
-بالغلط !
عاصي بعدم تصديق :
-لا يا شيخـة !!
ثم تهامس متوعدًا :
-فتحتِ باب تكوني أده .
-أنتَ ناوي على أيه !!
ثم تمسكنت بدلال مفرط :
-عاصي أنا حامل !!
-ابتدينا بقا !!!!
هنا جاءت تاليا ركضًا لعندهما ففرقت تقاربهم وقالت :
-بابي يلا عشان الاكل جهز .
حدجته بعتب :
-شوفت ، بتيجي عشان تعطلني وبس !
احتشـد الجميـع حول الطاولـة الممتدة والتي تحتوى على أشهى أنواع اللحوم المشـويـة والسلطات اللذيذة التي أعدتها حيـاة .. كل واحد جلس بمقعـده وقف عاصي على مقدمة الطاولة التي يرأسها بجوار حيـاة وقال :
-قبل ما تأكلوا ، في خبر حلو..
أطرقت بخجـل ثم مسك كفها مُعلنًا :
-حياة حامل !!
تعالت أصوات الفرحـة والمباركات إلا تميم الذي تدخل مستفهمًا :
-من يوم يا جاحد !! عملتها ازاي دي ؟!
لكزته شمس بعتب كي يصمت ولكنه تهامس مبررًا :
-أهو سبقنا أهو .. ارتحتي؟
تدخلت نوران مستفسرة :
-نسأل الأسئلة المهمة ، المرة دي اتنين ولا واحد !
مازحها كريم ضاحكًا :
-سؤال مهم فعلًا ، أصل عاصي بيجيب بالجوز !! كام المرة دي يا قائد !!
تدخل تميم مازحًا :
-هما ممكن يكونوا أكتر من اتنين !! عاصي أخويا ويعملها .
فهتف مراد قائلًا بلطف :
-ما كفاية قـر على الراجل .. قولوا ماشاء الله !
ثم نظر إليه قائلًا بترجي :
-ما تقولي الطريقـة عايزين نخاوي غالية !
فباغته كريم قائلًا وهو يرمي بعض الكلمات على نوران :
-بندخل من بوابات غلط طيب !!
لم تتوقف حياة عن الضحك الهستيري من نكات الجميع حولها ، فتدخل عاصي بهدوء وهو يجلس على مقعده :
-احترم نفسك منك له !! أنا قولت هي عين ورشقت .. عموما بعد كام شهر هيبقى عندنا خمس عيال ها ، خمس عيال عشان نزيح العين دي !
ثم مال إليها وقال :
-الغلط طلع مش مني عموما !! المرة الجاية فكريني نبخر قبل ما نعملها !
ضغطت على يده كي يصمت وهي تجلس بجاوره
تدخلت عالية مباركة :
-مبروك يا حياة .. يتربوا في عزك أنتِ وعاصي ..
ثم نظرت لأخيها قائلة :
-مبروك يا حبيبي ، وأبقي بخري كتير بقا عشان العين هنا كلها عليكم .
ضحك الجميع وتدخلت شمس لتهنئها :
-مبروك يا حيويـة .. ربنا يقومك بالسلامة .
مال كريم ناحية نوران متمتمًا :
-وأحنا هيباركولنا أمتى !
شرعت بأكل اللحمة بشراهة وقالت بلا اهتمام :
-بعد ما أخلص جامعـة ..
-بعينك !! أنا خلاص عايز أبقى أب زيهم .. اتصرفي ولا اتجوز عليكِ .
طالعته بابتسامة كبيرة وهي تضع اللحمة بفمه :
-اتجوز عليـا …
على الجهة الأخرى مال مراد ناحية آذان عاصي الجالس بجواره قائلًا بحذر عن أمور الشغل :
-صاحبك استوى وبقا على آخره !!
وضع عاصي قطعة اللحمة بفمـه ثم قال بنبرة انتصار :
-يستاهل ، عشان يقف قصاد عاصي دويدار تاني !
استند مراد بمرفقه على سطح المائدة وأكمل :
-تفتكر هيسكت ويعدي خسارته !
رد الأخر باختصار :
-أنا جاهز لأي ردة فعل .. مراد انزل بالسعر من بكرة .. واضرب على الحديد وهو سخن .
تدخلت عالية متسائلة :
-حياة ، أخواتك فين !! مش معانا يعني .
انتهت حياة من ملء طبق تاليا وداليـا والتفت لعالية لتجيب على سؤالها :
-يونس بيستلم شُنحة من الجمارك .. ورشيد مشغول مع خطيبته في تجهيزات البيت والفرح .
أبدت شمس إعجابها بسلطة الدقوس الباردة :
-حياة السلطة رهيبة !! ملهاش حل .
-بجـد !! بالهنا يارب .. هابقى أقولك طريقتها .
ثم دارت لتملأ طبق عاصي الذي وجدته يحوي كمية قليلة من الطعام ، وقالت بحبٍ :
-بالهنـا يا حبيبي .
اكتفى باحتواء كفها بامتنان ثم قال بهدوء :
-يلا كُلي أنتِ كمان ..
مرت دقائق معدودة من الأكل والضحك والمداعبات وبعض الأحاديث الجانبية عن العمل والكثير من نظرات الحب المتطايرة بالمكان .. حتى جاءت فكرة مجنونـة برأس نوران ووثبت قائمـة وهي تربت على كتف كريم :
-كيمـو ، تعالى معايـا ..
تعالت الحيرة وجوههم حول تصرف نوران الجنوني .. حتى تساءل تميم قائلًا :
-المجنونة دي هتعمل أيه !!
مرت دقائق قليلة ثم جاء كريم حاملًا ” سماعة ” كبيرة ووصلتها نوران بهاتفهـا وقالت بحماس :
-هشغلكم أغنية والكل يقوم يرقص ..
حدجتها شمس بعتب :
-نوران !! كريم ما تشوف مراتك !
هز كريم رأسه متفهمًا وهي يشد الهاتف من يدها :
-حاضر هشوفها هتشغل أيه !! وريني كده !!
زفرت شمس بضيق لتشكو لتميم :
-والله الاتنين أجن من بعض ..
صاحت نوران بحماس وهي تختار الأغنية :
-دي دي يا كريم …
وقع اختيارها على أغنية عامر منيب ” بينـا نعيش ”
-من أول يوم فـ لقانا، خدني هواك ، عشت معاك .. أحلى سنين عمري يا غالي ..
تركت الهاتف من يدها فوق السماعة وشد زوجها لساحة الرقص معًا .. ثم تابعها عاصي وحياة اللذين تشاورا بأعينهم .. مال مراد لعاليـة :
-تيجي !!
لبت دعوته على الفور بحماس :
-يلا !!
نظر تميم لشمس الجالسة خائفًا من رد فعلها :
-نسقف لهم طيب !!
لم تمنع نفسها من الضحك فمدت له كفها وقالت :
-لا مش هنسقف ، هنرقص معاهم ..
ومع دقة صوت عامر وهو يقول :
-بان على طول أيه جوانا لمـا العين جات في العين ولا حسيت باللي جرالي ..
كانت تُطيل النظر اليه وهي تشاور بسبابتها لعينيه وتردد كلمات الأغنية بكل مشاعرها وكأنها تهدي الكلمات إليه .. فجهر صوت الغناء الذي قرب الأحبة من بعضهما :
-بينـا نعيش ، ده العمر ليلة ما تقوليش نستنى ليلة دي الأيام جمبك جميـلة وعمري يا غالي لقيته معاك ..
الجميع يُراقص حبيبه حتى توأميه لدغ الحب قلوبهما فوقفا يتراقصان مثلهمـا ببراءة الطفولة .. حتى أشارت حياة لعاصي أن يلتفت لهن ثم ارتمت على كتفه ضاحكة ، فأشار إليهن كي يقتربان ويرقصان معهما .. كان يراقص ثلاث جميلات في آنٍ واحد ..
أما عن مراد فكان لديه عاليته وغاليتـه اللاتي اكتملت حياتـه بوجودهمـا .. كانت ابنته على كتفه وبالكف الأخر يراقص زوجته التي أخبرها همسًا :
-أنتوا أحلى حاجة فـ حياتي ..
جاء صوت الغناء ناطقًا في اللحظة التي دار تميم شمس فيها تحت يده لتعود لحضنه :
-قربلي كمان يا حبيبي ، سيبني أعيش .. نفسي أعيش ليلة ما كانت على بالي .
ما أن عادت لحضنه همس لشمس حياته المظلمة قائلًا :
-هنهرب الليلة دي ولاا .
اتسعت ضحكتها بحماس وهي تنظر لصغيرها الذي يلهو مع أطفال عاصي :
-نهرب ..
كانت رقصات كريم مثيرة للضحك مع زوجته التي جذبها لحضنه قائلًا :
-الليلة هناكل مانجا للصبح .. آخيرًا لا فيه عيال عاصي ولا زنهم.
ما كاد أن ينهي جملتـه فجاءت شمس لعند أختها المتراقصة والتي تحلم مع حبيبها بليلة هادئة عوضًا عن ليلة أمس ، فقال راجية بعجل لتلحق بتميم :
-نوران، هسيب طاطا معاكي الليلة دي .. أصل تميم عنده شغل مهم برة ومش هعرف اسيبه لوحده .
أردفت جملتهـا وهرولت خلف زوجها .. ما كادت نوران أن تتلقى الصدمة فجاء مراد لعنده معتذرًا وهي يرمي بحضنه غالية :
-كيمو أخويا الجدع ، غالية ضيفتك النهاردة .. هاخد عالية افسحها والصبح هتلاقينا هنا ..
ثم ربت على كتفه :
-الأخوات لبعضيها وأنتَ عمها بردو .
لم يمهله مراد الفرصة كي يفيق من صدمته فلوح بيده لعاصي الواقف مع حورياته معلنًا رحيله .. برقت عيني نوران وكريم بذهولٍ لينطقان في نبرة واحدة :
-هو في اي !!
فأتبعت كريم مُكملًا :
-عليا النعمة الجوازة دي منظورة !! خدي كده البنت دي .. انا ماشي .
هتفت منادية بترجي :
-كريم متسبنيش لوحدي ، تعالى هنا !!
••••••••
فـ الثالثـة فجــرًا .
نهضت حياة بهدوء شديـد من حضن زوجهـا النائم بجوارها وبعد ما طبعت قُبلة خفيفة على كتفـه العاري انسحبت بخفـة وهى تمسك بكفها روبها الحريري الطـويل الذي كان يلامس الأرض ويُجر وراءها وهي تسير على أطراف أقدامها الحافية الوردية التي يُزينها خُلخالًا من الذهب .. وصلت أمام باب الشُرفة وارتدت ذلك الروب فوق منامتها القصيرة للغاية قبل فتح باب ” البلكونة ” لفت الحزام الناعم حول خصـرها وربطته جيدًا ثم وقفت أمام البحر لتودعه قبل عودتها للقاهرة في الصباح الباكر ..
لاشيء يبقى حبيسًا لدينا .. حتى الذكريات في دواخلنا أن حلت علينا أيامنا الجميلة تنجلي لتصبح كأنها شيئًا لم يكن إلا ما أردنا نحن أن نتمسك بها بقوة كالتي يعصف بها الموج ويتضارب مع بعضه البعض الآن ..تلك القوة التي حتما ستضعف لكي تجعلنا نترك ما كنا نتمسك به ليُعكر صفوانا كما يهدأ الموج ويكف عن التلاطم ليبقى البحر ساكنًا أمنًا نبقى نحن فارغين من الداخل من شبح الماضي اللعين فدعه يذهب حرًا طليقًا لقد حل بنا الحب فلا حاجة لنا بتفاصيله المُخيفة .
مع صوت تلاطم الموج صدح برأسها صوت الطفلة التي تركض نحو أبيها قائلة بحماس لتهتف بجملته المميزة والتي حفظتها :
– يا معلم .. البحر عالي والموج بينادي علينـا والسمك مستنيننا.. مش يالا بينـا قبل الصيادين ما ياخدوا رزقنا !
وضعت كفيها على قلبها النابض بمرارة الذكرى الأليمة وهي تتعلق بيد أبيها متحمسـة لنزول البحر ككل يوم بدون ملل ، نظرت للسماء التي تحضن جسد أبيها ثم للبحر الذي غدر بها بعد ما منحته كل الثقة كأن طباع البشر تسربت له .. تنهدت وكأنها تتمنى حقا أن يعود بها الماضي لتضم أبيها بحنانٍ ، بلهفة الغريق الذي وجد كمشةً من الهواء في رئة الموت ، أن تمحو شمس النهار الذي غادر فيه أبيها ، ‏مَن سواها يستعذبُ هذه المشقّةَ ، ويشتعلُ من شدة الأسى ، وسط هذا الكوكب الظالم والمظلم والذي يحاوطه غلاف جوي من الغدر .. عانقت أعينها السماء وقال باشتياق:
-وحشتني يا معلم قنديل .. كنت اتمنى تكون معايا وتشوف أحفادك .. كنت هتبقى أعظم جدو ، زي ما كنت أعظم أب ..
فاقت من كومة أحزانها على احتوائه لها وهو يدفن القُبل المُعطرة بجدار عنقها متسائلًا :
-منمتيش ليـه ؟!
ابتلعت أخر عبرة بعينيها وقالت :
-بودع البحـر وحياتي هنا وبابا .. كُل حاجة هنا ليها ذكريات معايا .. تفتكر هقدر أعيش بعيد عن الغردقة والبحر ؟!
أردف بجدية :
-حابـة تقعدي ؟!
-حابة أكون في المكان الـ هتكون فيه وبس .
ثم تنهدت وطالعت نجوم السماء بشغف :
-اليوم كان جميل ، ولمة العيلة والفرحة .. حقيقي أنا هبذل كل جهدي عشان أحافظ على اللمة دي لحد أخر يوم في عمري.. لازم ولادنا وولاد تميم يطلعوا وأيديهم فـ ايدين بعض .. مش عايزة أكرر خطأ عبلة وجيهان !! العيلة حلوة .. مش عايزة ولادي يتربوا لوحدهم .
تأوه بمرارة وهو يؤيد حديثها :
-عبلة وجيهان !! حقدهم هو الـ فرقنا ، حتى لو كنا مع بعض .. كانت النفوس مش صافية .
-الـ فات مات يا حبيبي .. أحنا لسه العمر قِدامنا وهنصلح كُل ده ..
ثم ابتعد عنه بخفة فراشة وقالت :
-أنا خلصت روايتي الجديدة .. وهتنزل المعرض الجاي .
-وأنا هعملك حملة دعايا محصلتش .. لازم العالم كله يعرف هي مين حياة المصري .
تمسكت بكفوفه بامتنان وقالت بحماسٍ :
-تحب أحكي لك عنها !
شد أحد المقاعد بالشُرفة وجلس عليها وأخذها لعنده وهو ينصت لها باهتمام :
-احكي يا شهرزاد .
جلست على ساقـه وأخذت نفسًا طويلًا ثم شرعت قائلة :
-البطل والبطلة اتقابلوا على مركب ..
رفع حاجبه مندهشًا بتصنع :
-وكان اسمهم عاصي وحياة!!
ضحكت بخفوت ثم أكملت :
-اسمهم عاصي ورسيل ، هو سماها حياة بعدين .. عاصي ده كان حظه من اسمه ، مفيش حاجة في حياته كانت صح .. لحد ما قابل حورية البحـر وابتدت قصة حبهم بين اتنين بينهم اختلاف السما والأرض ..
ثم أتبعت بتركيز:
-وبعدين ؟!
-محدش فيهم كان ينفع يروح لعالم التاني .. لا هو كان هيتأقلم ويعيش معاها في البحر .. ولا هي كانت هتقدر تعيش في العالم بتاعـه .. تعرف أيه الـ حصل بعد كده !
-ياريت !!
-رغم اختلافهم الشديد الا أن الحُب كان منطقة أمان لقلوبهم .. هو مشي خطوة وهي كمان مشيت له خطوة لحد ما تلاقوا في نقطة واحدة والاتنين اتأكدوا أنهم مش هينفع يرجعوا لحياتهم مرة تاني .. حياتهم بدأت مع بعض من هنا .
ألقى تحية الحُب على جنينها براحة يده الراسية على بطنها :
-وبعدين ؟!
تنهدت بحماس :
-من هنا بدأت حيـاة العاصي ..
بس واجهتهم مشكلة صغيـرة أد كده ؟!
انكمشت ملامحه :
-ياساتر !! مشكلة أيه ؟!
عانقت كتفيـه بحُب يفيض من مُقلتيها :
-حياة كانت طماعة فـ حبها .. وكانت عايزة عاصي يبقى ليها وبس .
اعترف قائلًا :
-هو كان ليها وبس على فكرة !
أصدرت صوتًا نافيًا :
-كانت عايزاه زي أبطال رواياتها،زي ما كتبت كده ..
كُن
لــي
كمـــا
أهـــوى .. 🤍
كان هناك شيء ما في عَينيها أو وَجهُها أو كُلها يفتح لَك أبواب الجنة أو تخرجك منْ عتمة سجنك إلى الحياة الزاهية .. فأردف مستمتعًا بحديثهما معًا :
-وحصل أيه !
-أنها عاشت معاه حُب الروايات والخيال ، وأجمل ما كانت بتتمنى كمان .. وهو ؟!
تنهد كأنه يعيش ويتنفس الحب معها :
-هو رجع للحيـاة على إيديها ..
حبك كان لي بطعم الحياة .
‏كل الشعراء قبلي، كل القصائد قبلك، كل قصص الغرام قبلنا، لم تكن إلا مقدمات لقصتنا، وكل ساعةٍ مرت من الدهر ليست إلا تنبيه على اقتراب موعدنا …..عن موعد لقاءنا الذي تهيأت له السماء بنجومها وأفلاكها ، ونفذ البحر خطة القدر المكتوبة من قبل أن تأتي لهنـا:
-عشان كده وثقت قصتنا ، أحنا هنمشي بس الحُب عمره أطول مننا .. لازم العالم كله يعرف قصة العاصي و حيـاته .. زي ما لسه بيحلف بقصة القيس وليلته ..
ثم مالت برأسها على كتفه وقرأت على مسامعـه جملتها الأخيرة التي ختمت بها روايتها :
-‏تعلم إنني كتبتُ عنك كثيراً لدرجة أنّي جعلت الجميع يُصاب بالفضول لمعرفة من أنتَ يا رجل !!
من أنتَ الذي فُتحت لحبه أبواب حبي الموصدة التي لم تُفتح لأنسٍ قبله أو بعده..
وها هو القدر الحنون ، لقد جاء بك لعندي واليوم ساكتب لك بدلًا عنك .. أحبك كثيرًا .
#حياة_المصري
وداعًا لحيـاة عاصي دويدار… 🤍
#النهــايـة .
26/9/2024.
نتقابل في روايـة آصرة العزايزة ” صعيدي” 🔥
1/10/2024 …
#نهال_مصطفى 🖇️

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى