روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الحادي والسبعون 71 بقلم نهال مصطفى

موقع كتابك في سطور

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الحادي والسبعون 71 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الحادي والسبعون

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت الحادي والسبعون

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الحادية والسبعون

🦋الفصـل العاشـر🦋
~ أمام أبواب المحكمـة ..
وبعد صدور حكم نهـائي بالقضـيـة التي حُسمت لصالح عاصي دويدار وإعلانه شرعًا وقانونًا الوريث الشرعي لشهاب دويدار ، وهزيمـة أعمامه في ساحة الحرب الدائرة بينهم ، يقف شاكـر صارخًا ، يتبع خطوات مراد السريعـة كي يحمي أمه من غدرهم ، وجهر مهددًا :
-وشرفي ما هسيبك يا ابن المحلاوي ، ويا أنا يا أنت .. هتشوف مين فينا اللي هيضحك في الاخر .
بخطوات أشبه بالركض وصل مراد وأمه إلى السيارة التي انطلق سائقها على الفور ، أخذت جيهان نفسها بارتياح من جُملة المخاوف التي استرجعتها أمام القاضي :
-وآخيرًا ارتحت .. آخيرًا السـر اتكشف والحق هيرجع لصحابه ..
لم يخل العبوس من وجهه ، بل سألها ممتعضًا :
-أنتِ ازاي قدرتي تخبي سر زي ده السنين دي كلها ! آزاي ؟! للدرجة دي عبلة كانت مسيطرة عليكم ! كان عقلكم فيـن ؟!
أغمضت جفونها بندم ، وغمغمت :
-أنتَ متعرفش حاجـة يا مراد ، عبلة وأمي كانت كل حياتهم مؤامرات وازاي ينهبوا ثروة واحد زي شهاب ، أنا كبرت لقيتهم كده .. وكنت مجبرة امشي في نفس طريقهم عشان أعيش ..
فرت الكلمات من فاهه لعجزه أمام وصف تلك الحالة من السخط التي انتابته ناحية عائلته .. أكتفي بزفيرٍ قوي تخلص فيه من جملة الإحساس المؤلم وقال للسائق :
-اطلع على المطار يا بني ….
~بمكتب عادل الشيمي ..
يجوب ساحة مكتبـه بغضب يتقاذف من حنجرته صارخًا بإمتعاض ، ركل تلك المنضدة الصغيرة بقدمـه بعد ما أبلغه محاميه بما حدث في قضيـة عاصي دويدار ، تدخل عزمي ليبخ سموم الانتقام :
-عاصي دويدار جاب النهاية وكتب شهادة وفاته بنفسه .. عاصي لازم يموت يا عادل عشان مصالحنـا تكمل ، دلوقتي هيبقى هو الشوكة اللي هتقف في طريقنا العمر كله ..
رفع عادل قبضتـه المشدودة بغل وحقد ينبعث لهبًا من حنجرته :
-هو ومراد المحلاوي ، يستاهلوا الموت ألف مرة ، وديني ما هرحمهم .. أحنا يتلعب بينـا ؟!
في تلك اللحظـة فُتح باب مكتبه ليظهر منه عددٍ لابأس فيه من رجال الشرطة ، حيث تقدم الضابط المختص قائلًا :
-أنت متهم بتهمـة الكسب غير المشروع وتضليل المستندات القانونية ، اتفضل معانا أنت وعزمي بيـه …
تصلبت تعابير وجهه قائلًا :
-ازاي !! مين مقدم البلاغ ده ؟!
-النائب العام بناءً عن مستندات وأدلة هامـة تحت أيده ، اتفضلوا معانا من غير شوشرة …
*******
~الغـردقـة ..
-ناوي تعمـل معاه أيه !
ثم تململت على ظهر القلق والخوف :
-عاصي حبيبي لازم تهدأ وتفكر بعقلك ومتزودش المشاكل ، ولادك محتاجين لك .. فكر فيهم قبل أي حاجة …
هز رأسه بعدم اهتمـام غير مبالٍ للأمر ؛ ثم قال :
-أنا هتصرف متشغليش بالك ..
رمقته بنظراتها المتوسلة :
-أحنا يا حبيبي مش اتفقنـا نرمي الماضي ورا ضهرنا .. ونتعامل بحكمة وعقل ، وأنا واثقة فيك ..
ثم داعبت وجنته برفق بكف يدها :
-أقفل صفحات الماضي دي خالص ، خلينا نركز في الجاي .. عشان خاطر ولادنـا ..
قرر أن يغير مجرى الحديث بينهم لأن نيرانه لا تتقبل أي حكم ومواعظ في تلك اللحظة ، تمتم بثبات :
-النهاردة في كام واحدة جايين هيساعدوكي في شغل البيت ، اختاري منهم اللي تعجبك ، عايزة تشغليهم كلهم مفيش مشكلة ، المهم متتحركيش من السرير فاهمة ! وسيـدة كمان جاية ..
أومأت بطاعة ممزوجة بابتسامة خفيفة :
-بجد دي وحشتني أوي .. عاصي أحنا هنقول للبنات أمتى ، دول هيفرحوا أوي .
تأرجحت عينيه متحيرًا :
-مش عارف ، بس لازم يعرفوا عشان يبطلوا شقاوة ولعب معاكي ..
هتفت بحماس :
-هقولهم النهاردة … ما كملتش كلامك ، عملت أيه في القضيـة صحيح ؟!
اتكئ في جلسته للخلف وقال بضيق وهي يحقد على ماضيـه :
-لعبة قذرة راح فيها ٤٠ سنة من عُمري ، حقيقي عمري ما هسامحهم ولو الزمن يرجع هاخد حقي منهم واحد واحد وأولهم شهاب دويدار ..
ردت بأسف على حالته :
-للدرجة دي يا عاصي !!
-أمى هي زهراء خليل دويدار ، أول ست اتجوزها شهاب .. ومن بعدها ربتني تحيـة ، عمة شمس .. وكل الفيلم اللي اتعمل عليـا كان من تخطيط عبلة و أمها ولا مراة أبوها والله ما فاكر ، عشان بس يكوشوا على كل حاجة ..
ملأت عينيها نظرات الشفقة على حالتـه ، احتوت كفوفـه بحزن شديد يندس بين كلماتها :
-الحق لازم ينتصر في الأخر يا حبيبي .. المفروض تفرح ، محدش له عندك حاجة وحقك رجع لك قدام الناس كلها وأنا ملك وناجح ومش محتاج لحد .
هز رأسه بعدم اقتناع :
-الحق المادي بيروح ويرجع يا حياة .. لكن شعور أن في حتة خالية في قلبك مش عارف تداويها !! كنت اتمنى اتربى على أيدين أمي ، أو حتى ست سوية مش هدفها الماديات وبس .. قضيت عمري كله في عك لحد اللحظة دي مش عارف اتخلص منه ..
بدلت جلستها لتقعد على ركبتيها المثنيـة لتقترب منه أكثر :
-حاسة بيك ، بس ده قدر ونصيب .. مكتوب من قبل ما نيجي الدنيـا دي ..
ثم احتوت كفه بحب وأتعبت :
-أنا جمبك ومعاك ووعد مني هنعيش كل المشاعر الجميلة وبس مع بعض ومع ولادنا .. وعمري ما هزعلك ..
رفع كفها لمستوى ثغره وقبله بحب لا يوصف كمن يقبل كفوف القدر الذي أتى بها لعنده في الوقت المناسب، لم يكتفى بقبلة بل سحبها لحضنه ممتننًا لوجودها معه وقال :
-أنت هديـة القدر ليا يا حياة .. ياريتنى قابلتك من زمان كانت حاجات كتيـر أوي هتتغير ..
داعبته ممازحة كي تكسر روتين تلك النبرة السائمة في صوته وقالت بفكاهة :
-زمان ده اللي هو أمتى بالظبط ؟!!
غمغم مفكرًا بعفوية :
-يعني نقول من ٢٠ سنـة كده !!
-يعني أنا وقتها ٧ سنين ، كُنت هتحب طفلة أخرك تجيبلها بونبوني !! أنت ناسي أن الفرق ما بينا ١٣ سنة ولا ايه !!
ثم عقدت حاجبيها مفتعلة الضيق بمزاحٍ :
-كبرت يا عاصي بيه !!
فرغ فاهه في ذهول وقال بعبثٍ :
-أي كبرت دي !! متهزريش ؟! بنت أنتِ اتظبطي كده بدل ما اظبطك على مزاجي الساعة دي !
انفجرت ضاحكة إثر انفعاله العذب ، وتململت بدلالٍ :
-الله !! بكذب يعني ! ١٣ سنة ولا مش ١٣ سنة !!
قال بازدراء وهو يلوم نفسه بندم :
-أنا شكلي اتساهلت أوي معاكِ إمبارح طـ …
سدت فاهه بسرعة كي لا يكمـل جملتـه التي أصابتها بحمرة الخجل ، صارخة بضحكة كبيرة:
-عاصي بـــس !! متكملش ..
ثم اعتدلت بأعجوبة من إثر الضحك عليها وبتلك الأعين المغرورقـة :
-طيب بجد بقا ، لو كُنت قابلتني وأنا طفلة ٧ سنين ، وأنت شاب عشريني كده ، كنت هتتعامل معايا أزاي ؟!
أمعن النظر طويلًا بعيونها وقال بجموحٍ :
-افتكر أني كُنت هحبها بردو ، لأن سحر العيون الحلوة دي مش بتعترف بالسن .
-أيه يا عم أنت هتسرح بيا ؟!! هتحب طفلة ده ازاي يعني ؟! قول كلام أصدقـه ؟!
تلألأت الضحكات في جنباته وأنامله كعصفورة تتنقل هنا وهنـاك فوق غصون ملامحها :
-أنا لو قابلت صاحبة العيون دي زمان كنت هخطفها وأخبيها من كل الناس وأربيها على أيديـا ، وأعلمها أزاي تكون مطيعـة ومش عنيدة ودماغها ناشفـة زيك كدا ، وأدلعها .. لحد ما تكبر وتبقى أجمـل عروسة في الدنيـا ، وتكون مراتي وساعتها مش هتفارق حضني مهما حصـل .
دانت لها مباهج العشق وذابت في موج كلماته العذبـة ، خاصـة عندما امتزجت كلماته بأنفاس القُبل ، ثارت تلك المتمردة على أوتار قلبـه ، وهبت قائمـة من جواره :
-بقيت بياع كلام واتعلمت البكش مني يا عاصي بيه !!
أمسك بكفها كي يمنع رحيلها ، ثم وثب قائمًا ليبقى بمحاذاتها .. تلاقت الأعين المدججة بتنهيدة حارة انبعثت من صدره ، وبنبرة امتنان أردف قائلًا :
-وجودك جمبي قادر ينسيني نفسي ، لدرجة أني قاعد جمبك هنا بهزر وبضحك وأنا مش شايل هم كل المشاكل اللي مستنياني برة الأوضة دي ، كأن الهموم بتهرب من فوق كتافي أول ما أكون معاكي .
ثم داعبت أنامله خصلة من شعرها وأتبع بعرفان :
-قادرة تخطفيني من العالم كله؛ ليكي أنتِ لوحدك وبس ..
هاج قلبها ببلابل العشق المغردة بين أضلعها وقالت :
-لو جينـا للحق ، أنت اللي خطفت قلبي من العالم كلـه ..
فبعض المشـاعر لا يليق بها إلا العناق ، ختمت جملتها وهي ترتمي بين يديـه وتتعلق بحـبه ممتنة لذلك القدر الجميل الذي جمع قلبين مثلهما .. اندس جسدها الرشيق بين صخور أضلع حبـه التي لا ترويها إلا زهورًا .. ابتعدت عنه بعد ما أخذت قسطًا وافيًا من المشاعر يشبع روحها لبقية اليوم وقالت بتنهيدة خفيفة :
-أسيبك تشوف شغلك .. أنت مريح من إمبارح ..كفاية دلع .
كادت أن تفارق ولكن أوقفها ندائه قائلًا :
-بالليل كلهم جايين هنا ..
-كلهم مين ؟! مش فاهمـة ؟!
رد على مضض:
-مراد وجيهان .. وكمان شمس وتميـم ..
حاولت استيعاب ما يلقيه على مسامعها :
-مش فاهمة!! مراد ؟! طيب وعاليـة ؟!
ثم زفرت بكلل من كثرة أسراره :
-عاصي أنتَ مخبي عليـا أيه تاني ؟!!
-أقعدي أحكي لك ….
******
~بالقصـر …
تقف شمس بمنتصف الغُرفـة على مضض متحيـرة ، مترددة في أمرها ، تركت تلك القطعة القطنية الخاصة بـ تميم وقالت بقلق :
-أنتَ متأكد أننا لازم نروح هناك ؟!
ثم جلست بجواره معبرة عن سبب رفضها بتأفف خفيف :
-بصراحة محرجة من حياة وموضوع نوران !! وكمان كريم مش موافق ! حاسة بحاجة مش مظبوطة بـ روحتنا هناك .
هب تمـيم معترضًا :
-كريم مين ده اللي مش موافق !! هو هيمشي كلمته عليا في بيتي ! طيب عند في كريـم بتاعك ده هنروح كلنا يا شمس ..
سئمت من عناده :
-الله يا تميـم !! ما تسيبك من العناد ده وتركز معايا ؟! أنت شايف الموضوع من زاوية وهو أصلًا من زاوية تانية خالص !
ربت على كتفيها بعجلٍ وهو منغمس في هاتفه :
-قومي يا شمس جهزي الشنط .. قومي الله يهديكي.
كادت أن تلبي طلبه بطاعة لانها ادركت ان النقاش معه غير مُجدي ، ولكن تراجعت كمحاولة أخيرة مستخدمة دلالها الأنثوي :
-طيب أنت مش خايف عليـا أنا والبيبي من الطريق والسفر .
ترك الهاتف من يده على الفور ورسى كفه على بطنها المنتفخة :
-حاسة بحاجة ! في حاجة بتوجعك !!
انخفضت نبرة صوتها بدلال مبالغ فيه :
-دلوقتي لا .. بس ممكن مع السفـر والطريق أممم ولا أنت أيه رأيك !!
ثم غيرت نبرة صوتها لتتحول لحماس جارف يتقاذف لمعانه من ملامحها :
-أحنا هنسمي أيه بجد ! أنا نفسي أوي اسميه مصطفى .. مصطفى تميم دويدار ..
مط شفته بعدم اقتناع :
-حلو مصطفى بس مش عاجبني .. ويلا قومي اجهزي عشان أنا عارف الحركات دي كويس لانك مستعدة ترغي كده لحد الطيارة ما تفوتنا ..
انكمشت ملامحها بـضيق شديد:
-يعني مفيش فايدة بردو مصمم على رأيك !! طيب يا تميـم .. خليك فاكرها .
هز رأسه متقبلًا حججها الوهمية وقال :
-هنبـه على الطيار يسوق على مهله ..
~بالأسفـل ..
-بس أنا عايزة أروح الغردقة !!! وبعدين شمس مش هتوافق تسيبني لوحدي هنا ..
بنبرة طفولـية أصرت نوران على موقفها ، قاطعها كريم معارضًا :
-الله الله يا هانم من أولها كدا كلمتي مش بتتسمع !! وكمان صوتك بيعلي عليا !!
وضعت يديها بخصرها وقالت بتمرد انثوي :
-لا شوف أنتَ بقا اللي من أولها بتأمر وتنهي كأنك اشتريتني !! أنا لسه مالبستش الدبـلة على فكرة .. بقول لك أيه أنا مش بحب الجو ده .. ولا بياكل معايا.
جز على فكيـه بنفاذ صبـر :
-نوران ، بلاش تعانديني ، انا قلت اللي عندي وخلصت كلامي ..
أدركت أن الجدال معه لا يؤدي إلا لطرق مسدودة ، ارتدت وشاح المسايسة تلك المرة :
-طيب أنتَ رافض ليه !
انفجر معبرًا عن سبب رفضـه :
-عشان اللي اسمه ونيس ده !! يعني أنتِ مش عارفة؟! مش هستحمل يبص لك ، أنا هعمل خناقة ومش هشتري خاطر حد ..
ضحكة خبيثة ارتسمت على محياها وقالت بدلالٍ :
-قول كده ، أنتَ غيران عليا يا كيمو ، مش تقول كدا من الأول!!
ثم تمردد بغرور :
-ليك حق ، واحدة في جمالي لازم يتغار عليها وتتشال جوه العين كمان ..
ردت باختصار يبطنه النفـور :
-وأديني قولت ، اهدي بقا ولميها يا نوران !!
طافت حوله كدبور عنيد وقالت واعظة:
-أيه لميها دي ؟! وانا كنت عملت ايه .. طيب وأحنا نعكنن ليه على نفسنا !! أنا عندي اقتراح كده ومنها هنخلي يونس ده ..
قاطعها بغضب :
-ما تقوليش اسمه قدامي بتعصب …
كتمت ضحكتها وقالت بحماس مشتعل:
-اخوة حياة ، يووه خليك معايا ، بص مختصر الكلام ايه رأيك نعمل خطوبتنا في الغردقة ، بجد انا نفسي أوي أعمل خطوبتي في مركب على البحـر .. قول موافق بقا عايزة اروح اجهز الشنط ..
يبدو أن الفكرة راقت له ولكنه يأبى الهزيمة أمام إصرارها ، تمتم معاندًا :
-لا مش موافق بردو ابقى نعمله على النيل ماله النيل !! ماهو ميـة بردو .
أتاهم صوت تميم الأجش من الخلف وهو يقول بلوم :
-أنتِ لسه هنا يا نوران !! يلا استجعلي مفيش وقت ..
نظرت له بأعين تلمح بشيء ما أدركه تميم على الفور ، احتدت نبرته بجدية :
-قلت اطلعي جهزي شنطتك ومش عايز كلام كتير ..
كاد كريم أن يعبر عن إعتراضه ولكن تميـم عنفـه آمرًا :
-وأنت كمان جهز نفسك .. الطيارة كمان ساعتين عشان منتأخرش .
غمزت له نوران بسعادة عارمة وهي تقفز وتصفق كالأطفال :
-أنت أجدع تميم في الدنيا ، كنت فين من بدري ، البيه نشف ريقي ..
********
~بأحد الشقق السكنية ..
-ياما قولت لكم ، ياما حذرتكم أنتوا مش أد واحد تربية اللي اسمها عبلة دي ، أنا عارفاها أكتر منكم ، دي ولية سماوية ..
بحرقة الهزيمة صاحت سميـرة بوجه زوجها وأخيه وشرعت في توبيخهم .. ثم أتبعت :
-عاجبكم كده ، لا حصلنا بلح الشام ولا عنب اليمن يا حسرة … أهو طلع الولد وقش كل الورق .. هاا عاجبك كده يا شاكر يافاهم !!
جهر شاكر بغضبٍ :
-ما تسكت مرتك يا شاهين !! وأحنا كُنا هنعرفوا منين أنه ابن زهرة .. ابن المحلاوي لازم يتربي على حركة النقص دي ..
انفجرت بوجهه بحنق وهي تندب على وجنتيها :
-أنتَ ايه مابتحرمش !! عايز تعاديهم تاني !!
هتف شاهين بسخط :
-أحنا اتغدر بيـنا يا سميرة ، عارفة يعني أيه اضحك علينا من شوية عيال !!
-ده أخرة اللي يبص لفوق .. رقبته بتتكسر يا شاهين ، وده بالظبط اللي حصل لك أنت وأخوك .. ياريت تهدوا بقى وترجعوا لعقلكم ، كفاية خساير لحد كده …
في تلك اللحظة رن هاتف شاكر باتصال تليفـون ، أجابـه على الفور :
-وصلت لعزمي بيه ؟!
رد الآخر بيأس :
-عزمي بيه في النيابة بيتحقق معاها هو وعادل الشيمي ..
تمتم بصدمـة :
-أيه ؟!!!
******
~قبل شهرين ..
-أنا مش واحدة تحت التدريب يا بشمهندس عشان يضحك عليـها كده ، الفايلات اللي على اللابتوب سحبتها ليه !!
بأحد المقاهي المُطلة على النيل ، ألتقت روفان بـ مراد بعد علمها بـما سُرق من جهازها الشخصي ، كانت جملتهـا حادة تحمل لهيب المواجهة وصقيع الاتفاق ، بنبرة ممزوجة بهواء النيـل أرفت جملتها الأخيرة ، استقبلها مراد بهدوء تام فـ سألها :
-وأنا ممكن أعرف أنتِ محتفظة بملفات زي دي ليه ؟!
التوى ثغرها بضحكة خبيثة ثم أردفت متعجبة :
-مش شايفة أن السؤال ده من حقـك خالص .. أنا حرة .
أسبل عينـه مسايسًا :
-اعتبريه سؤال فضـولي !!
دنت منه خطوة سُلحفيـة ؛ وقالت :
-مش مجبرة أرضي فضولك ، بس هـ ….
ابتلعت كلماتها ببسمة خفيفة ومريبـة في آنٍ واحد ، ثم قالت بجدية :
-اعتبرها ضمان ، بضمن نفسي ضد أي تهمة .. عادل وعزمي مش كل شغلهم تمام ، عزمي بـ يعك وعادل بيخلي العك ده قانوني .. واللعب مع الناس دي لازم تكون عينك في وسط راسك وتكون متأمن كويس أوي ..
تفقد ملامحها بنظرة أخيرة قبل أن يولي وجهته للبحـر واضعًا كفه في جيب بنطاله وقال :
-وأنا بعمل زيك بالظبط .. عايـز أكون متأمن وأنا بشتغـل معاهم …
وقفت نفس وقفته وعقدت ساعديها وهواء النيل يطاير خصلات شعرها الشقراء :
-كده يبقى هدفنا واحد .. محدش هيعرف بالفايلات دي ، بس بشرط !!
طلت لوجهته وأكملت :
-من دراستي عنك ، عرفت أن مش مراد المحلاوي اللي يبيع قرايبـه وأهل بيته ، واتأكدت لما قابلت عاصي دويدار من يومين فاتوا في وسط النيـل ..
جحظت عيناه بذهول مما وقع على مسامعه ، فهرولت مبررة:
-متقلقش ، محدش عرف ولا هيعرف .. أنا بحترم الناس المخلصة اللي زيك ، لو كنت بعتهم فعلًا كُنت هزعل ، المهـم …
رد بإيجاز وهو يطالع ساعة يده :
-هااه اللي هو ؟!
-عارفة أن عاصي دويدار مش هيسكت ، وآكيد محضر ضربة جامدة للكل ، بس ده مش هيحصل غير لما أطلع من البلد ، وشيك بـ مليون دولار يكون على مكتبي ، ووقتها هسلمك الورق اللي يودي عادل وعزمي ورا الشمس ..لأنهم مش ناويين على خير لأي حد من عيلة دويدار ..
ثم غمرت بطرف عينيها بخبث :
-ده طبعا ولا حاجة في الملفات اللي أنت أخدتها من عندي .. فكر وهستنى ردك …
#بــاك …
عادَ مراد إلى رُشـده عند هبوط عجلات الطائرة لمطار الغـردقـة على صوت أمه المنادية باسمه :
-مراد !! سرحان في أيه طول الطريق ؟!!
غمغم بعدم اهتمام وهو يلملم أغراضه :
-متشغليش بالك .. استعدي عشان ننزل ….
~بـ ڤيلا عاصي دويدار …
استقبلت حياة “سيـدة” استقبالًا حارًا وهي تعانقها بحب واشتياق و تهتف معبرة :
-أيه الغيبة دي كلها ! حقيقي وحشتيني أوي ، والبيت من غيرك ملهوش طعم ..
ربتت سيدة على ظهرها بامتنان :
-والله أنتِ اللي وحشتيني أكتر يا بنتي ..
أردفت حيـاة ممازحة :
-أنا لو وحشتك كُنت هتغيبي الغيبـة دي كلها بردو !!
بررت سيدة سبب غيابها قائلة :
-البلد ومشاكلها يابنتي ، وأديني أهو رجعت لكم ، مقدرش ابعد عنك أنتِ وسي عاصي …
مالت حياة على مسامعهـا هامسة بارتباك بيـن :
-طيب ادخلي بقا المطبخ أقفي مع البنات اللي جوه ، أنا قلقانة منهم أصلا .. فـ دي مسئوليتك ، عارفة إنك تعبانة من السفر ، بس اعذريني عاصي فاجأني بعزومـة قرايبه على العشا و كلهم جايين بالليل وأنا مش عارفة اتصـرف ..
ربتت على كتفها بهدوء كي تطمئن :
-متقلقيش ، ولسه معانا وقت .. متشليش هم وأنا هظبط لك كل حاجـة ..
أرسلت لها ابتسامة امتنان وهي تمتم بحذرٍ كي لا يسمعهم أحد :
-سيدة ، أنا هتجنن على طبق ملوخية من أيدك ، ممكن تعمليها النهاردة ..
-من عينيـا أنتِ تأمري أمر يا ست البنات ..
همت سيدة للذهاب للمطبخ لترؤس تلك الفتيات الجدد الذي أخصهم عاصي بالشغل بمنزله ، أخرجت حياة هاتفهـا وبمشاعر مثقلة اتصلت برشيد الذي بدأت مكالمتها معه بدون بوادر ترحيبية:
-النهاردة أهل عاصي جايين ولازم تكون موجود !!
رد بتأففٍ :
-مش طرديني من بيتك ، أنا مش راجع يا رسيل ..
احتدت نبـرتها وهي توبخه بجبروت رسيل المصري قائلة :
-اللي هقوله يتسمع وهتيجي ، وجهز نفسك هتتجوز فريال الخميس الجاي .. ورحمة أبويا وأمي يا رشيد لو ما صلحت اللي هببته لا هتبقى أخويا ولا أعرفه ..
قفلت المكالمـة بدون استأذن وصعدت لأعلى لـ غرفة فريال تحديدًا ، فتحت الباب عندما عجزت عن تلقياها ردًا يسمح لها بالدخول .. دلفت للغرفة وهي تنادي عليها كي تخبرها بموعد زواجها من أخيها .. طافت بالغرفة دون جدوى فلم يتبقى لها أثر ، طرقت على باب الحمام بخفه منادية باسمها بعد ما تسرب القلق لأوصالها .. فتحت الباب وامتد نظرها للداخل فلـم تجـدها أيضًا .. عقدت حاجبيه بذهول متسائلة :
-هتكون هي راحت فين ؟!!!
تراجعت للخلف وأخذت تفتش فالغرفة التي وجدتها خاليـة من ملابسهـا وكل أغراضها ، اعترتها الحيرة حتى التقمت عينيـها تلك الورقة البيضاء الموجودة فوق الكومود .. أقبلت عليها حياة وفتحتها .. حروف متشابكة بخط اليد وبعض الكلمات التي غمرها الدمع :
-” أنا مشيت يا حيـاة ، مشيت ومحدش يدور عليـا لأني مستاهلش .. من يوم ما دخلت بيتك وأنا كنت ناوية أخليه جحيم ، جاية انتقم وأخد حق فريد أخويا ، بس هدفي مكنش رشيد خالص ، أنا كنت جاية وعيني على جوزك .. كنت عايزة ادمرك و أدمر حياتك ، جوزك للاسف مدانيش سكـة مالقتش قُدامي غير رشيد ، كنت فاكرة كده هنتجوز أسرع ، بس غلطت و أديني بدفع التمن ، أنا مستاهلش إنك تخسري أخوكي عشاني كلامك أثر فيا أوي .. أنا مشيت ورايحة عند خالتي في الصعيد أقعد عندها ..سامحيني وسامحي فريد كمان … فـ﷼ ”
يقال أن الإدراك يُشبه النوم .. كالنوم تمامًا ؛ لا تدري متى جاء ومن أين تسرب إليك ، لكنك تصحو مع ضوء الشمس متسائلاً كيف غبت عن وعيك.. كيف خضعت لجبروتـه .. جلست بهدوء على طرف الفراش وهي تتلقى صدمة جديدة من نوعٍ أخر .. انكمشت ملامح وجهها ولم تردف إلا كلمة واحدة الجميع يعلمها ولكننا نظل تائهين بين دروبها عمرًا كاملًا .. بتنهيدة الأسى :
-ليــه ؟!
~بالأسفـل ..
بخطوات ثقيلة جدًا وببطن منتفخـة في أشهر حملها الأخيرة تسير عاليـة ببطء ناحيـة المطبخ على لحن أنفاسهـا المُتعبـة والمرهقة من عناء الحمل ، اندفعت لعندها سيدة وهي تسندها بلهفة وتجر أحد المقاعد الخشبية كي تجلس فوقه :
-ياست عالية ، وحشتيني والله ، أيه نزلك بس وأنتِ تعبانة كده ..
تحدثت بنبرة تحمل تأوهات الوجع والألم :
-اتخنقت من السرير يا دادة ..
-طيب ارتاحي يا حبيبتي .. كلتي ولا أجيبلك حاجة تسندك ؟!
تمتمت بخفوت :
-لا مش عايزة أكل ، ممكن كوباية عصير برتقال ، عايزة حاجة مسكرة ..
لبت سيدة طلبها على الفور :
-هعملهالك بنفسي .. بس كده !!
******
~فـ مصنـع عاصي ….
وخاصة بالجـزء المحتـرق من المصنع ، يجلس يسـري مربوطًا بأحد المقاعـد الخشبيـة وعلى فمـه شريطًا لاصقًا .. اقتحم عاصي المكان بجبروت يحمل غضبـه الشديد من يسـري ، تابعه كمال وعدد لابأس به من الرجال .. بدأت خطواته السريعة تتمهل عند اقترابه منه وهو يتحدث بتلك النبـرة التي تحمـل عاصفـة يمكن أن تفتـك بـ يسري في الحال .. صرخ بوجهه قائلا بصوته المرعد :
-بتبيعني أنا يا يسـري دا أنت نهايتك على أيدي !!
تدخل كمال ممسكًا به :
-عاصي باشـا أهدى ، وسيبلنا أحنا الطلعة دي ..
سيل من النظرات الغامضـة والمجهولة ممتد بين عيني عاصي ويسري ، أومأ عاصي بهدوء يحتوي على إبهام مريب ، أخذ نفسه بارتياح ثم دار حول المقعد الجالس فوقـه يسري ، طأطأ قليـلًا وشرع بفك الحبل الذي يقيد حركة يده .. تقدم أحد الرجال ليتولى المهمة عنه ولكنه تراجع بنظرة من عيني عاصـي .. فرغ من تحرير يدي يسري المغلولـة ثم رفع الشريط اللاصق عن فمــه .. توجع يسري قليـلًا وعيني تتأرجح بتشتت مترقبًا رد فعل عاصي المنتظر..
وقف عاصي أمامه بعد ما شد السلاح من خصر أخد الرجال الواقفين وصـوبـه نحو رأسه قائلًا :
-هاه ، وقولتلـهم أيه كمان عني !!
ثم رفع حاجبه ممزوجة بضحكة خبيثة ارتسمت على محيـاه عندما قرأ ارتباك يسـري ، تبدل غريب ومهيب من شخص مثله يواجـه عدو له .. لف السلاح بيده ورماه لصاحبـه مبتعدًا خطوة وقال جاهرًا :
-بقى تتجوز ومتعزمنيش على الفرح يا يسري ، عجبتك قعدة الشرقية ولا ارتحت من شغلنا ؟!
زفر يسـري بارتياح وهو ينفض الأحبـال عنه وينهض ضاحكًا ليعانق قائده وهو يقول ممازحًا :
-جت فجأة يا بُص !!
عانق الرفاق بعضـهم تحت أمطار النظرات الضبابيـة من أعين الواقفين .. ضرب عاصي على ظهر مساعده ورفيقـه بامتنان :
-ليك وحشـة يا أخي ، بس بأنامة من يوم ما بعدت عني وأنا حياتي كلها اتعدلت !!
-أدينا رجعنا وهنرجع أيام الشقاوة من تاني ياباشا …
-مع نفسـك .. يلا عندنا شغل يهد جبال !!
تدخل كمال باندهاش لما يراه ، كيف لعدو يلحقه منذ أشهـر وعند العثـور عليـه يتعانقان هكذا :
-عاصي بيه ؟! هو في أيه ؟!
ضحك منه ملء الفم وقال :
-في أن يسري ميبعش عاصي دويدار مهما حصـل ، ولو على رقبته ..
ما زال كمـال تحت سطو اندهاشـه بأعينه الجاحظة :
-طيب كان أيه لزمتها نجيبه متجرجر كده !!
رد ببرود :
-عشان معزمنيش على فرحه ابن الـ****….
#فلاش باك …
قبل عـام …..
بأحد مستشفيات الأمراض النفسـية والعقليـة ، منذ تلك اللحظة التي دخلت فيها عبلة لتلك الغرفة وهي لم تردد إلا اسم عاصي .. تصرخ باسمه كي يأتي لهـا ، ولحسن حظها عرفها واحد من طاقـم التمريض عندما كانت تتبرع بأموالها للأعمال الخيرية ، هنا توصل لرقم ابنها ” عاصي دويدار ” وأبلغـه بأنها تهذي باسمه وعليـه أن يأتي ربمـا يساعدها في تجاوز تلك الحالـة العصيبة … تردد كثيـر في الذهاب إليها حتى قاده فضوله أن يقابلها ربما تُصلح أمرًا ما بحياتـه المنقلبة رأسًا على عقب ..
وبعد تفكيـر طويل …
يجلس على طرف مخدعها يتحمل هذيانهـا وفقدانها لعقلها الذي ذهب مع مهب الريح حتى سئم من تلك الثرثرة الغير مُجدي ، يتأهب للذهاب حتى نادته قائلة بحالة من التيـه :
-أنا كذبت ، ولسه مصدقـة الكذبـة ، أنت مش ابن تحيـة .. تحيـة خطفت جوزي مني ، تحية كانت بتستغلك عشان تاخد جوزي وبس ، أنا قتلتهـا عشان هي تستاهل تموت ، هي خاينـة ، خبت عليا حمل زهرة وراحت تخدمها ولما ماتت خدتك وربتك وحبت جوزي ، أخدتكم أنتوا الاتنين مني كانت هتدمر حياتي وتبقى هي سيدة البيت .. بس على مين قتلتها …
بأعين تهدل على أسوار الحيرة :
-زهرة مين ؟! عبلة أبوس أيدك ركزي ، زهرة دي مراة أبويا وماتت أنا فاكر ، فاكر كل ده .. أي علاقتي بيهـا !!
ضحكة غريبة انشقت من ثغرها وهي تتمتم بهذيان :
-زهرة تبقى أمك ، خالك إبراهيم لو فتح بؤه واتكلم هموته وأحرق قلبه على ولاده .. زهره أمك ، أنا مابخلفش …..
~ بعد عدة أيام من ذلك اليـوم …
اتصال هاتفي من يسري :
-عاصي بيـه أنا لقيت إبراهيم دويدار وأكد كل كلام عبلة وماصدق عشان يشهد .. الرجل تعبان أوي وشكله في آخر أيامه .. لازم نتحرك ونرفع قضيـة عشان نلحقه قبل ما يروح مننا …
هز رأسـه مدبرًا :
-لا يا يسـري ، أنا مش هرفع دعوى إثبات نسب .. أنا هحرك اللي يرفعها وحقي يرجع لي باشا وأنا قاعد في مكاني !
صعد يسـري سيارته قائلًا :
-لا رسيني كده عشان نظبط اللعبـة سوا !!
قفل باب الغرفة كي لا تسمعه حياة وقال :
-لسه بتقابل ولاد دويدار وبتنقلهم أخباري !! عايزك بقا تزود العيار وتشكك في نسبي كمان وكمـان وهديك كل الأدلة.. وأنا هراقب الجو من بعيـد ..
استغـرب يسـري لحديثه قائلًا :
-لا بردو ما فهمتش !!
اختصـر عاصي الحوار قائلًا :
-أنا هسيب الدنيا كلها لتميم بمزاجي وهمشي ، واعرفهم إني بايع ومستغني ، بس عشان لما أرجع يكون على حق ومحدش صاحب فضل عليـا أو يتهمني بالتزويـر وما شابه .. ركز معايـا بالحرف عشان الغلطـة هتودينـا ورا الشمس …
#بــاك …
يسيـر عاصي برفقـة يسـري إلى سيارته السوداء ، ثم وقف مليقًا أوامـره على آذان كمال قائلًا :
-هبعتلك رقم تليفون شيرين دويدار ، عايزها تمسك مديرة العلاقات العامة في فرع الشرقيـة .. وكمـان تروح لشاكر وشاهيـن وتسلمهم إدارة الشـركة مقابل ٤٠٪؜ من الأرباح ، وتفهمهم أن عاصي دويدار بيفتح معاهم صفحـة جديدة ..
كاد أن يصعـد سيارتـه لكنه تراجع :
-وكلم المحامي ، يقسم أملاك دويدار على الورثـة ويكتب نصيب كل واحد بيع وشرا مني .. وعاليـة تاخد نصيبها بالكامـل ..
مازال كمال في حالة من الذهول لم يستطع تخطيها ، أومأ بالإيجاب مندهشًا بدهاء رجل مثله وقال :
-تمام يا باشا ….
******
~عودة إلى القصـر
-مامي أنتِ بتعيطي ليه ؟! أنتِ مضايقة ؟!
أردفت تاليـا سؤالها الآخيـر عندمـا رأت العبرات تسيل من مقلتي رسيل بدون إرادة منهـا .. جففت دموعها سريعًا وقالت بابتسامة مزيفة محاولة تجاهل أمر فريال وقالت :
-لا يا حبيبتي مش مضايقة ولا حاجة ، بالعكس أنا جاية أقولكم على خبـر هيبسطكم أوي .
تحمست داليا وهي تقترب منها بفرحة :
-يلا قولي بسرعة ..
تأرجحت عيني حياة اللامعة وهي تداعبهم بفرحةً:
-مستعدين !! أقول يعني ؟!
-يس ، قولي بسرعة ..
-جاهزين !!
ثم أخذت نفسًا طويلًا وهي تعانق بطنها وقالت :
-أنتو مش كان نفسكم في بيبي تلعبوا معاه ، أحب أعرفكم أن أخواتكم موجودين هنا وبعد كام شهر هيجوا ويصدعونا ونلعب معاهم كلنا ..
فرحة عارمة قفزت بملامح الصغار وهن يهللن بسعادة تتقاذف من بين كلماتهن .. عانقتهم حياة بحب وضمتهن إلى صدرها وقالت :
-هنكون أسعد عيلة سوا ، وكلنا هنحب بعض .. أنتوا هتحبوهم أوي مش كده !!
تدخلت داليا متسائلة :
-كام بيبي هنا ؟!
أومأت تاليا بسعادة وقالت :
-وهما ولد ولا بنت ؟!
هزت حياة كتفيها بجهل منها :
-لسه معرفش إذا كانوا ولد ولا بنت !!
ثم داعبت انف داليا برقة :
-هما ٢ يا لمضة وبس ، زيك أنتٍ وتوتا كده ..
ضحكت الصغيرة بتلك الضحكة اللذيذة وقالت :
-طيب هيجوا بعد كام يوم !!
-بردو مش عارفة ؟! بس أحنا مستنينهم مش كدا ؟!!
صوت رنيـن جرس البـاب ، فهتفت سيدة قائلة للبنات المنشغلن بالمطبخ :
-ركزوا أنتوا ، هفتح أنا البـاب …
أخذت عاليـة كوب العصـير بيدها واتبعت خطوات سيدة كي ترى هويـة الطارق .. فتحت سيدة الباب ففوجئت بمراد يحمل على عاتقيه باقـة ورد كبيـرة وتقف جيهان ورائه بوجـهٍ عابس ، توزعت نظرات سيدة هنا وهناك بين عالية الواقفة بعيدًا ومراد الذي يقف أمامها ، هتفت عالية قائلة:
-مين الـ جيه يا سيـدة ؟!
ظهر مراد من الباب ليقف ثابتًا أمامها لا يعرف من أين سيبدأ ، سيل جارف من النظرات التي تحمـل العتـاب واللوم والشوق والحب والإعتذار ، جمة مشاعر معقـودة بالقلب لا تقرأها إلا أعين مغرمـة ، بقلب يعتصر ألما متسائلة ؛ وما جدوى الحب إن كان وقت الشدائد غائب !! سقطت كاسـة العصيـر من يدها عندما ألتقت بحبيب قلبـها العاصي .. رمى باقة الورد لسيـدة وهرول لعندهـا كي لا تتأذى قدميـها …
جاءت رسيل من أعلى بصحبـة الفتيات متسائلة من أعلى :
-مين الـ جيه يا سيـدة .. ؟!
قد يحدث وتتصلب قدماك متأملًا بلا أي ردة فعلٍ تُذكر لأن المشهد أصغر من أن يستفزك وأكبر من أن تتجاهله وتمضي .. اخترق الجميع وذهب لعندها وحملـها بعيدًا عن فتات الزجاج المهشم .. مازالت تحت سطو الصدمة التي انستها كيف سيكون العتاب !!
دارت رسيل جهة الفتيات وقالت بحنو :
-ممكن نرجع الأوضة وتلعبوا ، لأن ده كلام كبار مش هيصح نشوفه !! ممكن ؟!
استقبلا طلبها بطاعـة وذهبا تلك الفراشتين ليلعبان بغرفتهم ، قطعت رسيـل دراجات سُلم بيتها وتلاقت عينيها بعيني جيهان التي تحمل تارًا قديمًا ، ولكن خيبت رسيل أملها الشرير واستقبلتها بابتسامة مرغمة :
-أنتِ في بيتي اتفضلي …
جثا مراد على رُكبتيـه تحت أنظار عاليـة التي ترتعش من هول طلته المباغتـة ، وضعت في صراع محتدم بين قلبها المشتاق وعقلها الرافض ، وصغيرتها المتعبـة ، مال على كفوفها وقبلهمـا بحرارة :
-أسف ، وحقك عليـا .. وكل كلام الدنيـا مش كفاية .. سامحيني ياعالية سبتك في أكتر وقت صعب .. وحشتيني أوي ..
سحبت كفـوفهـا المرتعشة ووبخته :
-أبعد عني ، أنا مش طايقـة أبص في وشك يا مراد ..
رفض تمردها قطعًا وهو يجبرها أن تنظر له :
-لالا .. لا يا عاليـة أنتِ فاهمة غلط ، أنا عمري ما بعتك أنتِ وأخواتك، عمري ما اقدر ، كل اللي حصل ده …
هبت صارخة بوجهه :
-كذب تاني ؟! هتكذب تاني ؟!! ومستني اسامحك تاني … مراد أنتَ ..
تدخلت حياة في حوارهم بهدوء :
-حبيبتي ، مراد هو اللي ساعد عاصي يثبت نسبه لباباه .. الموضوع مش زي ما أنتِ فاهـمة ..
اهتزت عينيها بشكٍ عندمـا وقعت جملة حيـاة على مسامعهـا ، فأكملت حياة قائلة وهي تشير نحو غرفة عالية :
-مراد ، أوضة عالية دي .. خد مراتك واتكلموا براحتكم ..
ثم ربتت على كتف عاليـة :
-عشان خاطر بنتكم اسمعيـه يا حبيبتي ..
كادت أن تقف ، ان تهرب ، ألا تواجه حتى ولو كان مقصده خيرًا ، فلا يوجد عذرًا واحدًا لهجر قلب المحب ، ألا تعلم بأنه يحترق شوقًا كل ليلة ؟!! لاحظ عدم اتزانها فحملها بدون تردد ، فنهرته مصرة غير مهتمـة بصدح قلبها المتراقص الذي عاد لموطنه للتو بعد أعوام من الغربـة :
-متلمسنيش !! نزلني يا مراد ..
تجاهل ثرثرتها وعنادها وسار قاصدًا غرفة واحدة تجمع قلوبهم المتفرقة .. تقدمت رسيل لـ جيهان وقالت مشيرة ناحية غرفة بالدور الأرضي :
-أوضة الضيوف هنا ، ممكن تتفضلي ترتاحي شوية ….
~بغُرفـة عاليـة ….
بنظرة مثقـلة تُعلن فيهـا ‏ألا تنتظر اعتذارًا، ولا ردّ اعتبار، ولا استعادة حق، ولا تصحيح مواقف بُترت القلب .. بنظرة تعلن فيها عدم الرغبة بـ عودته .. لقد تعافت منه واكتفت بصغيرتها تمامًا لم تـغفر ، ولكن تعافيت وتعلّمت …. قفل مراد الباب وعاد إليهـا بهدوء .. أمسك بكفيهـا بحنان بالغ وقال :
-عالية .. بصي لي عشان خاطري ، أنا عمري ما كنت هعمل حاجة ازعلك .. عاصي اللي طلب مني أبعد عنك عشان متتأذيش ، محدش يقرب لك ويبعدك عن أي مشاكل ..
صمت للحظات منتظرًا منها أي رد ، ولكنـه يأس من جوابهـا ، فأكمل :
-والدتك كانت عارفـة كل ده ، وهي اللي اكدت عليـا متكلمش .. متصعبيش عليا الدنيا أكتر ماهي صعبة ..
رمقتـه بنظرات متهرية وقالت بصوت متهدج بالبكاء :
-يعني كلكم اتفقتوا عليا !! كلهم اتفقتوا على وجع قلبي .. كلكم فكرتوا في مصلحتى الا انا عيلة صغيرة متعرفش حاجة نخبي عليهـا !! أنت شاركتهم في وجعي ، مجاش في بالك أنا نايمة بالليل لوحدي حاسة بايه ..
سحبت كفيهـا من قبضته بامتعاض وأكملت :
-بلاش دي ، مفكرتش في الطفلة اللي بتكبر في بطني دي يوم بعد يوم وأنت مش موجود وانا مش أقولها أيه لما تيجي الدنيا !! حتى ولو لعبـة ولا اتفاق يا مراد ، أنا عمري ما هسامحك ولا هغفرلك ، أنا محدش عاش معايا وجعي ومش مضطرة أعدي السخافة دي بسهولة كده !!
بذهول من جفائها :
-يعني أيه يا عاليـة ؟!
ردت بحزمٍ :
-يعني اللي سمعته يا مراد ، أنا خلاص رتبت حياتي أنا وبنتي ، وأنتَ ملكش وجود فيها ..
ما زال تحت تأثيـر صدمته من تلك القسـوة المندلعـة من شدقها وقال برفض قاطع :
-مش بمزاجك يا عاليـا .. مش بمزاجك ، الكلام ده مش هيحصل وبنتنا هتتربى وسطنا .. أنا متأكد أن الكلام ده مش من قلبك ..
أغرورقت عينيها بالعبـرات وقالت بحزن :
-خلاص خلصت يا مراد .. خلصت .
-مفيش حاجة ابتدت عشان تخلص يا عالية !!
~بالأسفـل …
-سيدة أخبار الأكل أيه ؟! كله تمام ، في حاجة ناقصـة ؟!
أردفت حياة بقلق وهي تُشرف على الطعام والتحضيرات الخاصة باستقبال ضيوفهـا .. ربتت سيدة على كتفها :
-كله تمام ياحبيبتي ريحي أنتِ واقفة من الصبح على رجليـكِ .. أنا عاصي بيه موصيني عليك ، كده هيزعل مني !
اتسعت ابتسامتها بفرحة :
-هو قال لك !!
-طبعا قال لي ، أنا جيت من البلد طايرة عشان مين يعني ؟! روحي ارتاحي..
تقبلت نصيحتها وقالت :
-لا هروح أجهز عشان خلاص شمس وتميم على وصول ، جهزي السُفرة واستلمي أوردر الحلويات ، الحساب هتلاقيه بره على الترابيزة ..
خرجت من باب المطبخ فألتقت بعاصي العائد للتـو .. ركضت إليـه وعانقته بلهفـة وقالت بعتب :
-كل ده بره !!
مسح خصرها المرسومة بكفيه وقال معتذرًا :
-الشغل مش بيرحم ..
ثم نظر بوجهها :
-رشيد جاي ورايا ..
أومأت بخفوت ثم قالت بهمس :
-مامت مراد قاعدة في الأوضة جوه .. وعالية ومراد في أوضتها فوق ، بس مفيش أي صوت ليـهم ويارب تسامحه بقا ..
ثم اتسعت ضحكتها وأكملت بتلك الأعين اللامعة :
-قلت للبنات إني حامل ، فرحوا أوي ..
وسرعان ما انكمشت ملامحهـا وتفوهت :
-وحاجة كمان بخصوص فـ
قاطعها قائلاً بمزاح :
-أيه كُل ده بالراحة عليا !! المهم أنتِ مش في سريرك ليه !! أنا مأكد على سيدة …
ضحكت بصوت مكتوم وقالت :
-عشان الضيوف ما يصحش ..
ثم تحمست وقالت :
-تعالى خد شاور بسرعة عشان تميم وشمس راح السواق يجيبهم وعلى وصول ..
أمسك بكفهـا وسحبها خلفـه برفق متجهـًا نحو غرفته ، في تلك اللحظة جاء المندوب المختص بتسليم أوردر الحلويات الذي استلمته سيـدة …
مرت قرابـة النصف ساعة فرغ الثنائي من أخذ حمامهم الدافئ معًا ، يقف عاصي أمام المـرآة يختار رابطة عنقـه أما عنها تقف ملتفحة بالمنشفة البيضاء حائرة أمام اختيار أحد الفستانين حتى زفرت ممتعضة وهي تمسك بالفستانين وسألته :
-حبيبي ألبس أيه ؟! الموڤ ولا الازرق ..
ألقى نظرة سريعـة ثم أشار على اللون ” الموڤ ” :
-ده جامد .. واستعجلي يالا ..
تركت الفستانين من يدها ، وتسللت لتكون عازلًا بينه وبين المـرآة ، تدلت يده عن رابطة عنـقه ليتيح لها الفرصة بربطها اتكأت على طرف التسريحة ورفعت بحيرتي عينيها الزرقاء لعنده وسألتـه :
-مبسـوط !! يعني ارتحت بعد حكم المحكمة !!
مط شفته مُفكرًا في السـؤال ثم أردف :
-أنا عمري ما عرفت أكون مبسوط غير معاكي .. بس أقدر أقول لك ارتحت ااه ..
ثم استقر كفه على بطنهـا :
-ارتحت عشان افوق لك أنتِ والجوز الجديد اللي جاي ..
ما حدث أنه أصبح بقلب لم يعد يخاف ، ظفر بوضع المسافات بينه وبين كل من حوله ، مضى كالقطار دون أن يترك شيئًا منه مع أحد ، أطالت النظر بعينيه المقمرة كمن يُناضل من أجل اختطاف لحظة واحدة هادئة وسعيدة يختبئ بقلبهـا .. ما زالت تعبث برابطـة عنـقه ، تنهد بمشاعرها الجياشـة متتوقـه إليه ؛ فسألها بمكـر :
-مش مرتاح للنظرة دي .. مالك !!
ابتدرت عيناها بنظرة اعتراف تفصح عن أنه أكثر الأشياء حبًا لروحها ، قالت :
-بفكر أزاي ممكن أعوض الملامح الجميلة دي ..
ثم وضعت كفها على قلبه وأكملت بنفس النبرة :
-والقلب ده عن كل الأسى والأيام الصعبة اللي شافه .. !
تغلغلت يسارها بجدائل شعـره من الخلف ودنت أنفاسها من تلك الملامح كأنها تود تعطيرها بعبير الحب ، همهمت لـه بمشاعر جياشـة وعظام صدرها تعلو وتهبط تحت أنظاره :
-تعرف ، أنتَ الرجل اللي مسكت قلمي وبدأت اكتب عنه ، أنت اللي كنت رسماك في خيالي وبحلم تكون معايـا العُمر كله ، كنت بتخيـل حاجات كتير أوي مش هينفع تكون غير معاك وبس ، ياما كلمت نجوم الليـل عنك .. ودلوقتِ أنا ممتنة للقدر اللي جمعني بحبيبي الخيالي ، وبقى واقف بين أيديا وليا لوحدي …
كمن ‏غرس نجمةً في خياله فأصبحت قمرًا يضيء عالمها المعتم ..طوق خصرها بساعده لتصبح جزءًا لا يفارقـه ذائبًا في تلك الموجة العاتية التي هجمت على قلبـها دفعـة واحدة .. تفاقمت ضربات قلبهـا وبللت حلقها الذي جف من ولعة تلك المشاعر النارية :
– أقول لك على أخر سـر في قلب رسيل ..
-سر عليا !
بمخالب امراة ثورية اضناها العشق ؛ اعترفت :
-أنا لسـه فاكرة كويسة أول اليوم اللي رميت فيه الفلوس قُدامي مُقابل إني أكون معاك لـ ليلة واحدة ..
بلعت ريقها فبرزت تلك العروق ، تلعثمت ثم أتبعت :
-أنا شوفت الحب في عينيك وقتها بس كنت بتكابر قدامي ، كنت بسأل نفسي طول الوقت يا ترى أي أحساس مشاعر الحب اللي هتطلع من راجل جبروت زي ده ! كان عندي فضول رهيب أعرف ..
ابتسامـة خفيفة شقت ثغره وهو يسألها بخبث :
-ورفضتي ليه وقتهـا ؟!
-عشان أنا طماعة ، كنت عايزاك ليا كُل ليالي عمري ، مش لليلة واحدة وبس .. ولقد كان ..
ثم اندلعت منها ضحكة رقيقـة وهي تعبث بزر قميصـه الأبيض :
-جيت تصطاده اصطادك .. ولا أيه رأيـك ؟!
صعدت أنامله لأعلى ، خاصة لمربط ذلك الوشاح الملتف حول جسدها المُغري لقلبه دومًا ، وهو يقول معترفًا :
-من خمس دقايق بس كنت فاكر نفسي أذكى واحد في الدنيـا دي ، طلع فيه اللي سابقة عاصي دويدار بمراحل …
-تربيتك يا بُص .
بقبلة خفيفة كانت من نصيب وجنتها اعترف :
-أنا بحبك ..
تذكرت حينها اعتراف فريال القاسي ، وتمتمت له بيقين :
-دي الحاجة الوحيدة اللي الزمن بيثبتهالي يوم بعد يوم …
إمرأة قادرة أن تنقل الضـوء من شمعـة لشمعـة ، من قلبه لعقله لجميع جوارحـه ، سُكـر بملاذ القُرب الذي لم يقاومـه ، لأول مرة يراها مُقبـلة عليه بتلك المشاعر الفياضة حد ردها للقبلة بقُبلتين ، لن تدوم سكرات حبهم الأبدي طويـلًا إثر صدور صوت ” التلكسات” التي تُعلن بوصـول أخيه وأسرته .. بشيء يشبـه انفصال الروح عن الجسـد ، انفصل قلبهمـا ، وهي تقاوم ذلك القلب المتراقص والأنفاس المتسابقة منها ، استندت على التسريحة خلفها وقالت بصوت مُتعب ، ومدجج بالإرهاق :
-تميم وصل ، انزل عشان تستقبلهم ، مينفعش تتأخر عليـهم .
فمن يرسل شخصًا إلى أسمى درجات العشق ويتركه بنتصف الطريق كيف يبقى جيدًا في حياته دون اضطراب مما فُتل ، أقبـل إليها وطوقها بيساره وأمسك كفها بيمينـه متسائلًا :
-أنتِ كويسـة طيب ؟!
-لا …
بنظرة تعلن رفضـها ، وأنها لست بحالة جيدة أن يفارقها ويبتعد عنها .. اعتصـرت كفـه كي لا يتركها .. تلاقت أعينهم وكأنها تعزف لحنًا لدرويش :
فـ بعضي لديَّ وبعضي لديك
و بعضي مُشتاقٌ لِبعضي فهلّا أتيت !!
كمن لامس السماء فثارت بالفعل عاصفة في كيانها أنقلبت إلى موجٍ متراقص يرفض بُعده ، جذبها إليـه بضحكـة خفيف ثم قال بصوت خافت :
-كُنا بنقول أيـه ؟!!
*******
~بالأسفـل ….
احتشـد الجميـع ، و هبط مراد بصحبة عالية من الغرفة بوجهٍ عابس بعد ما يأس من كثرة المحاولات معها التي أعلنت عصيانهـا للعودة .. صافحت عالية شمس والبقيـة ثم أمرت سيدة :
-ميـة وعصير يا سيدة بسرعة ..
حضن تميم صديقـه بشوقٍ :
-كُنت متأكد أنك متعملش حاجة زي كده ..
ضحك مراد بثقـل :
-مبروك علينـا كلنـا ..
التفت تميـم متسائلًا :
-أنتَ هنا من بدري ؟! فيـن عاصي ..؟!
همس كريم بأذان نوران الجالسة واضعة ساق فوق الأخرى ، وبتلك النبرة الحادة :
-نزلي رجلك دي ، ومتضحكيش ، ومتسلميش على اللي ما يتسمى ده ، وعدي اليومين دول على خير أحسن ما نعديهم في التخشيبة ..
تمتمت بتمرد تحذيري :
-كريم مش بحب الجو ده !! انبسط وفك كده ، أنت شوفت البحر حلو ازاي !
لكزها بغضب :
-تقولي حاضر وبس ..
حدجت أنظارها بإعتراض :
-ليه !! أنت جايبني من سوق العبيد !! ده بدل ما تسمعني كلام حب وتدلعني ، قاعد بتبيع وتشتري فيا !!
ثم أشارت بسبابتها محذرة بصوت خفيض :
-كريم أنا بحذرك .. تغير أسلوبك ده معايـا وإلا ..
-بالجزمة على دماغك ، عشان أنا لا طايقك ولا طايق اللي اسمه بقدونس ده ولا طايق الغردقة كلها ، فـ لميها يا نوران بدل ما أزعلك ..
وضعت كفها بخصرها كالأطفال :
-ولا تقدر تعمل أي حاجة .. ومش لامة حاجة ، هي و متبعترة كده عاجباني ..
نظرت لهم شمس كي يتوقفان عن ألاعيبهما الطفولية التي لم تهدأ طول الطريق .. هامسة بعتب :
-انتوا مش هتبطلوا جنان !! بطلوا بقا ..
بغُرفـة عاصي ؛ انتهى من ارتداء سترته الرمادية متغاضيًا عن رابطة عنقـه التي سحبته من قلبه لعندها ، ارتدى ساعة يده بعجـل ثم عاد للجالسة بمنتصف مخدعه وقبل رأسها بحنانٍ قائلًا :
-هستناكي تحت ..
ربتت على كتفـه بهدوء ينعكس من دواخلها وقالت بابتسامة خفيفة :
-تمام ياحبيبي .. مش هتأخر ..
خلال نصف ساعـة ؛ احتشد الجميع بساحة البيت الواسعة التي تنتمي لعاصي ، تقف حياة على رأس السفـرة فـ ضجيج من الكؤوس والملاعق والصحون .. خرجت جيهـان من غُرفتها أخيـرًا .. وانضمت حياة إلي أصواتهم الضاحكـة وجمعتهم المميزة التي اهدرت عمرًا كاملًا من الطمع والكراهية بين الأبناء .. اقتربت جيهـان بخطوات ثقيلة بثقل ما تحمله بقلبها ثم قالت حياة :
-العشا جاهز اتفضلوا ..
هتفت جيـهان بتوجسٍ :
-استنـوا … لازم نتكلم .
وقف الأغلبية إثر تلك الملامح الشاحبة التي تتحدث بها جيهان .. مدت صورة لأمراة تحمـل نفس ملامح عاصي وقالت بصوت هدر :
-دي ليـك ..
أخذ الصورة وتفقد ملامحهـا ، فاقتربت حيـاة منه وشهقت بخفوت إثر التشابه الكبير بين عاصي وتلك المرأة ، أكملت جيهان :
-دي زهراء دويدار ، أمك ، سرقت الصورة دي من عبلة قبل ما تحرق كل حاجة ، هي وشهادة الميلاد .. افتكروها ضاعت ، بس أنا احتفظت بيها ، معرفش ليـه ، بس الأكيد كُنت واخداها كـ وسيلة ضمان ضد غدر أختي في أي وقت !!
لم يظهر حزنه إلا بملامحه المنعقدة وتلك القبضـة الحديدية التي ضمها كمن يقبض على جمرٍ ولست حقائق ، احتوت رسيل ذراعـه كي يهدأ ، كي تبلغه بطريقة أكثر لطفًا أنها هنا بجواره ومعـه ..
تأملت جيهان جميع الأوجه وقالت بأسفٍ :
-أنا عارفـة أنك عارف بكل حاجة ، بس وفاة خالك ابراهيم هي اللي لقبت كل حساباتك .. وأنت هنـا عشان تعرف أنا هنـا ليـه !!
أسـرع قائلًا باشمئزارٍ :
-عايـزة تغسلي أيدك من دم مهـا مراتي ، مش كده !!
ثم انفجر جاهرًا :
-مهـا اللي كانت بتصارع المـوت أنتوا قدمتوها قربان له ..
استند بوهن على ظهر المقعد المبطن وقالت بحزم وخيم :
-مهـا مكنش عندها أي سبب يمنع الحمل ، كُنت أنا وعبلة بنحطلهـا أدوية تضعف بطانة الرحم عشان متخلفش .. ولمـا عاندت وخلفت ..
ثم انفجرت باكيـة :
-مها مماتتش من مضاعفات الولادة ، هي ماتت عشان أنا حطيت لها السم في المحلول ..
وقف مراد أمام أمه بنظرات السخط والغضب:
-ليه !! أيه يجبر انسان انه يقتل ليه ؟!!!
صرخت بوجهه مبررة أفعالها :
-كنت فاكرة لو مها مشيت أختك هتتجوز عاصي وتأمن مستقبلنا كلنـا .. الطمع عمي عيوننا يا بني ..
ثم اقتربت من عاليـة بهزلٍ :
-حتى أنتِ ، هدير هي اللي فبركت صورك عشان تتجوزي مراد .. أنا ظلمتكم أنتوا الاتنين وكان لازم أعمل حاجة صح ..
وقفت أمام كريم وهي تبث شكواها لتسند على ساعده :
-ربنـا أخد حق مها وبناتها اللي اتيتموا ، وأخد حق عالية اللي ظلمتها ، وابتلاني في هدير .. هدير بعد يومين هتدخل تعمل عمليـة جديدة وآخر أمل ليها انها ترجع تمشي على رجليهـا .. أنا تخلصت من كل ذنوبي علشان ارجع بس أشوف بنتي بتمشي تاني ..
لم تخل الأعين من سهام الخسة والاستحقار التي انهالت على جيهـان .. استندت عاليـة على رسغ تميم أخيهـا وهي تغمغم ببكاء مكتوم :
-تميم أنا عايزة اطلق ….
ولكن امتزجت عبراتها وأوجاعها بصرخة مرتفعـة أخرست جميع الألسن ، وقطعت سيول النظرات الساخطة وهي تضغط على معصم تميم بطلق الولادة وتتلوى وجعًا وبيدها الأخرى تمسك بطنهـا :
-آه ، الحقوني …….
“••••••••
قيـل بأن الألم هو أعظم مُعلـم ومهذب للنفس البشرية ، لكنه قد يترك بقلوبنـا أعمق الدروس وأغور الجروح التي يمكن أن تظل تنزف عمرًا بأكمله .. خرج كُل من عاصي وتميـم ومعهما شمس وراء مراد الذي حمـل زوجتـه وركض بهـا لأقرب مشفى بمساعدة أحد رجال عاصي .. تبقى كريـم ونوران بحديقـة البيت القريب من البحر الذي يتلاطم أمواجه فتغيري قلوبهـم بالحب ..
جلست حياة بجوار جيهـان المقوسة فوق أحد المقاعد والتي شُلت حركتهـا إثر مواجهتها لمصائب العُمـر ، باتت كمن يقف أمام المرآة متجردًا من ثوب الستـر .. اقتربت منهـا حيـاة وكادت أن تربت على ظهرها ولكنهـا تراجعت إثر ذلك المشهد المهين الذي اتفقن فيه نسوة المحلاوي ، وسددن الضربات القاسيـة لبطنهـا من قبـل .. بتلقائية لمست جوفها الذي ذكرها بالألـم وقالت بهدوء :
-المفروض تفرحي ، لسـه عندك فرصـة ترجعي فيها لربنـا عشان يسامحك على كل اللي فات ..
ثم بللت حلقـهـا بتوجسٍ :
-أنا كمان مسمحاكي على فكرة ، وبجد اتمنى هدير ترجع تمشي تاني وتشوف حياتهـا مع حد يقدرها بجد ..
فهزت كتفيها بقلة حيلة :
-أنا مش عارفة ممكن أساعدك أزاي .. بس حقيقي اتمنى مضيعيش الفرصة من أيدك ومتخسريش ولادك أكتر من كده ..
~بالحديقـة …
-طيب أنت هتفضـل ساكت كده لحد أمتى ؟! كريم بجـد كلنا عارفين أن الموضوع صدمة بالنسبـة لك ، ودي مامتك ، بس هنعمل أيه ، اللي حصل حصل .. زعلك مش هيغـير حاجة ..
جلسـت نوران بالمقعـد المجاور له ثم أردفت قائلة جملتها الأخيـرة كي تهون عليه مرارة وقسوة تلك الـكارثة التي حلت على رأس كريم وأول اختبار فعلي يواجههم معًا .. الحقيقة هي أن الصدمة تضخم غالبية الشعور، تصاعد العاطفة، وتفاقم التعب، وتكبـر من حجم الألم، وهذا ما عانى منـه بصدمتـه في أمه ، الشخص الذي من المفترض ألا يؤذيـه أبدًا .. رد بنبرة مبطنـة بالآسى :
-أنا حتى مش قادر أسألها هي عملت كـده ليه !!
أرتدت ثوب الحكمـة لأول مرة وقالت :
-“كل أفعال المرء مبررة ” سواء كانت خير أو شـر .. تعرف يعني أيه ؟! يعني وقت ما هو عملـوا كدا كان ليهم دافـع عامي عقولهـم عن التفكير للحظة هل ده صح ولا غلط .. الإنسان عبيد حاجته ، فادية الله يرحمها كانت تقول لنـا كده …
كادت أن يعارضها معبـرًا عن مشاعره المضطربـة ، فـ لم تسمح لـه قائلة بإصرارٍ وهي تضع أناملها على فمه :
-كريم .. أحنا لسه هنشوف ياما في الدنيـا دي ، مش مع أول صدمة هنقف عندها كأنها نهاية الدنيا .. ااه دي مامتك ومحدش هيلومك ، بس هل زعلك هيرجع الـ فات !!
‏لا بأس بإعادة تقييم بعض العلاقات ، بتلك النظرات التي تبدلت من مُقلتيـه لهذه المجنـونة والتي تبنى أمرها مهمـا كانت العواقب ، إلا إنه بالفعل اختار الشخص الصحيح الذي يشاركه الضحك والشجار ، ويهون عليـه حِدة أسهم المصائب .. أحست بالقليـل من التوتر إثر نظراته الإعجاب .. فأدركت أمر سبابتها الراسية على شِدقـه فـ سرعان ما اهتزت متراجعة وسألته :
-بتبص لي كده لي !!
ما قبل سؤالها بدقائق قليلة كانت ” حياة ” تقف عن بُعد تراقبـهم وتراقب تلك النظرات المتبادلة بين الاثنين والتي لا تخلـو من صاعق العشق الواضح للأعمى .. تحمحمت بخفـوت وبابتسامة خفيفة ثم قالت :
-أيه يا حلوين !! مش هنقوم نروح لعاليـة ؟!
وثبت نوران بحماس :
-وأنا بقول كده ، متحمسة أوي أشوف البيبي ..
شجعتها حياة مردفة :
-طيب يالا بينـا ..
ثم نظرت لكريم وقالت بـ إحراج :
-مامتك مصممة تمشي ، بتقول عندها طيارة بكرة .. ممكن تكلمـها ..
ثم أخذت نفسًا طويلًا وأخرجت به زفيـر الماضي :
-دي مامتك يا كريم ، حاول تنسـى ، محدش هيقدر يغير الماضي ده قدر ومكتوب ، خليك جمبها على الأقل .. هي موجـوعة بجد ..
هتفت نوران مؤكدة كلام حياة:
-بقوله كده من الصبح ، وزي ما شايفة .. البيـة ودن من طين والتانيـة من عجين !!
ثم ضربت برفق على كتفـه كي توصل لحياة رسالة مـا :
-متخيلة إني هعيش مع البـوزالممدود ده باقي عمري !!
ناظرتها حياة بتلك النظرات الفضولية :
-مش فاهمة؟!
ردت نوران بخفة روح تنفي علمها بطلب حياة السابق و قالت :
-أنتِ متعرفيش أن كريم اتقدملي ، وشمس وتميم وافقوا .. ازاي متعرفيش بجد ؟!
ثم شهقت مفتعلة الدهشة :
-وعاصي كمان ميعرفش ؟!!
تقبلت حياة الأمر على الرحب والسعة وقالت بفرحة :
-ألف مبروك ليكم ، أيه يا عم كريم حد يبقى معاه القمر دي ويكشر كده .. المهم حددوا ميعاد الخطوبة عشان نعملها هنـا بعيد عن زحمة القاهرة ..
هبت نوران متمسكة باقتراحهـا :
-عين العقل والله يا بنتي ، لسه كنت بقوله كده ..
نهض كريم مختصـرًا حبال تحاورهم الممتد :
-طيب هروح أقف مع مراد ، عشان مايبقاش لوحده ..
حياة بتلقائية :
-هجيب مفتاح عربيتي ونروح كلنـا ، دقيقة بس .
انصرفت حيـاة من جوارهم ثم تدخلت نوران هامسـة بلطفٍ ربما يُلهيـه عن أحزانـه ولو قليلاً :
-أيه رأيك فيا وانا بقولها خطوبتنا وكريم اتقدملي وكلنا موافقين .. عجبتك !
عض كريم على شفته السُفلية :
-أنتِ مصيبة حياتي.. أمشي أمشي لما أشوف أخرتها معاكي أيه !!
*******
~بالمشفـى …
يقف عاصي وتميـم بالخارج لا يستمعون إلا أصوات صرخات عاليـة التي تعاني من آلام الوضع وعناء الطلق الطبيعي مع تلك الإبر التي تزيد من حدة الألم الذي سحب روحهـا مع تلك الصرخات المندلعة من رحمها ، صرخ عاصي بتوتر شديد خيم ذكريات الماضي على عقله متسائلًا وهو يضرب الحائط :
-هما بيعذبوها ليـه كل ده ؟! أنا مش فاهم ؟! ما يولدوها وبخلصـوا .
خرجت شمس من الغرفـة وهي تزيل الماسك الطبي وترمقهم بأعينيها العسليـن ، فاندفع تميم نحوها :
-شمس هي هتفضل تعبانة كده لأمتى ؟!
ربتت شمس على كتفـه قائلة :
-حبيبي ده الطبيعي ، وكمان لأن جالها الطلق الدكتور مش هينفع معاها Cesarean delivery .. الدكتور مديها حقن عشان تسهل الولادة .. هتبقى بخير متقلقش ..
ثم ربتت على كفه وقالت :
-طمن عاصي ، أنا هدخل أقف مع مراد جوه ..
جاءت حيـاة بصحبة نوران وكريـم .. أقبلوا عليـهم بلهفة :
-عالية عاملة أيه ؟!
قرأت حياة ملامح زوجها المرتبكة التي تعاني من هاجس الفقد .. من شبح ذلك المشهد العصيب .. تجاهلت الجميع وسؤالها عن عالية ودنت منه ممسكة بكفه المثلجـة الذي أخذت تدلكهما بحرارة كي تدفأ حتى تفوهت باضطراب :
-حبيبي ، تعالى معايا ممكن .. يلا ياعاصي .
أعظم ما قيـل فـ وصف الحب ، هناك شخصان مليئان بالأضرار والخسائر يَترُكان العالم جانبًا و يُحاولان ترميم بعضهما البعض بُهدوء و لُطف .. أجبرته أن يسيـر معها مرغمـًا ولم تفلت يده أبدًا حتى وصل الثنائي إلى أعتاب المشفى التي يفصلها عن البحر سور حديدي .. اتجهت إلى أحد المقاعد العامـة بصمت حتى تلاقت أعينهم ، أعينه المدججة بلعنـة الماضي ، وعينيها المُمطرة بغيث الحنيـة ..
بدون أي مقدمات عانقـته عانقًا حارًا وهي تمسح على رأسه تارة وعلى ظهره طورًا .. حضنها كان لقلبـه ‏ كمكان آمن يهرب إليه بإستمرار ‏كي يرتاح من أسفار هذا العُمر التي تُلاحقه .. عندما تضيق الحياة على قلب المرء منا فلا يريد سوى أن يضع رأسه في حجر دافئ قرب شخص يخبره دائما أن الأمور على أحسن ما يرام أن تسد يد القبل أُذن قلبه عن صوت رصاص الهموم أن تنسيه طراوة الحب ضراوة الآلام ، ماذا يأمل الإنسان سوى أن يستريح في حضن من يحب حين يفر مِن حزن مرعب ..
كأنها تريد أن تخبره بطريقة أكثر لُطفًا وحبًا :
-ها أنا هُنا بجانبك حينَ يكون العالمُ قاسياً سأطوي يديَّ لحمايتك ، انا سلامُكَ حينَ تشتعل حروب ذاتكَ ياحبيب عُمري ..
بثت وميض الكلمات الهادئة بمسامعـه وهو مازال بين يديها الأمنه ، لتقول بـ هدوء :
-حبيبي أنا حاسـة بيك ، أهدى عشان خاطري ، أول مرة قلبك يتنفض كده في حضني .. أنا جمبك ومعاك ، متقلقش عالية هتبقى كويسة ، عاصي عاصي .. بص لي ..
فارقت حضنـه بصعوبة لتخاطب عينيه الجاحظة ، مررت كفوفها فوق ملامحـه وقالت :
-حبيبي لازم تتخطى أزمة مها .. مها اتوفت عشان في حد دبر لده .. مش بسبب الولادة .. كل الستات بتمر بالحالة دي طبيعي ، وأنا يوم هكون منهم ، مش عايزة أقلق عليك وأشيل همك .. عالية هتبقى كويسة ، وساعة وهتشيل بنتها بين أيدك وهتبقى أحن خالو في الدنيا دي .. ممكن تهدى عشان خاطري.. أهدى ..
مسحت على ملامحـه بكفوفها وأكملت :
-أول مرة أشوفك كده ، لا متهزرش أنا مستقوية بيك .. بص أعمل زيي ، خد نفس طويل وخرجه من بؤك بهدوء .. جرب ، صدقني هتهدى …
امتزجت به مرة آخرى وصار عطره عطرها ، تلك المرة ضمهـا بقـوة وباح عن وجعـه :
-نفس الشعور يا حيـاة ، نفس العجز .. نفس كل المشاعر اللي بكرهها حاسسها .. كأن كل ده كان إمبارح .
جذبته كي يجلس على المقعد الخشبي .. وأخذت تربت على كافة أجزاء جسده بلهفة أم تحوط على صغارها من برودة الذكريات المؤلمة .. وقالت بنبرة حنونة :
-يا روح قلبي كل ده ماضي .. خلاص ماضي وراح ، ممكن تهدا وتنساه ..
ثم أغرورقت عينيها بالعبرات وقالت :
-أنتَ كده قلقتني ، أنا هدخل ازاي عمليات وأسيبك بالحالة دي .. عاصي مش عايزة أشيـل همك من دلوقتي .. عشاني فك كده ، مفيش حاجة كله هيبقى تمام ياحبيبي والله .
ثم اندست بحضنه وضمت كفه :
-أي رأيك أعزمك على قهوة ونقعد قُدام البحـر نشربها سوا .. رد عليا بقا متسبنيش هتجنن كده ..
ثم رفعت جفونها مع ابتسامة ساحرة :
-هجيب قهوة وفشار وبطاطا سخنـة !! موافق .
كادت أن تنهض ولكنه أمسك بها مشيرًا بعينه كي تجلس ، مع همسة خفيفة منه :
-ارتاحي ..
ثم أشار لصاحب الكُشك المجاور لهم الذي أقبل مُلبـا وقال :
-أومرني يا بيـه … معاك مسعود .
سبقت حياة مردفـة وقالت بشغفٍ :
-شامة ريحة قهوة جامدة جدًا ، ممكن تجيب لنا اتنين ..
-تحت أمرك يا هانم …
كاد أن ينصرف ولكنها أوقفته متبعة شهوة وحمها :
-استنى يا مسعود رايح على فين .. عربية البطاطا والدرة الـ هناك دي تبعك !
-دي تبع أخويا ، بس أومري ..
ردت بحماس واشتهاء :
-هاتلنا بطاطا سخنة كتير .. و درة مشوية كتيـر بردو ، وشيبسي بالخل والملح .. كيس جامبو .. وزيه كمان بطعم الفراخ عشان بحبه ..
حدجها عاصي بنظـرة غامضة تعني تسأله ” هل ستأكلين كل هذا ” تجاهلت نظرته وأكملت :
-بعد كل ده بقا تجيب لنا كونو أيسكريم بالشكولا نختم بيهم .. ووو
تدخل عاصي حاسمًا :
-روح هات القهوة والبطاطا أنتَ يا مسعود ..
ثم انتقلت عينيه لعندها بعتبِ :
-هتاكلي كل ده !! وياريت حاجات مفيدة ، حياة مش عايز عك ابوس دماغك دي !
أسبلت عينيها بنظرات طفوليـة قاصدة تشتيت مخاوفه وانشغاله بها ؛ وقالت بمهارة :
-عاصي ، أنا حامل .. يعني أكل اللي عايزاه .. وبعدين كنا هناكل سوا .. أحنا تلاتة في واحد !
رد بضيق :
-كلي حاجات مفيدة، لكن شيبسي وايس كريم ومش عارف أيه !! أيه الطلبات الغريبة دي ؟! وبعدين أنا مضمنش جودة الحاجات اللي هنا ، بكرة أجيب لك الـ عايزاه .
زاغت عينيها بعيـدًا متجاهلة صياحه حتى رست على عربة الكبدة الواقفـة بعيدًا عنهم وقالت باشتهاء :
-الله!! عاصي قوم هات لي كبدة وحواوشي ..
نفذ صبـره من دلالها وطلباتها الزائدة قال متأففًا :
-قومي روحي يا حيـاة أنتِ أيه جابك ..
تشبثت بذراعه الذي ضمته إلى صدره وقالت بدلالٍ مبالغ :
-الله !! أنت نسيت إني حامل ، والمفروض آكل أي حاجة نفسي تروح عليها ، ده اسمه وحم يعني مش بمزاجي ..
-تمام ، اتوحمي على حاجات عليها القيمة ، اخرتها عربية كبدة يا حياة !!
هزت كتفيها ببراءة كي تخلي مسئوليتها :
-ولادك وطلباتهم ، بتزعق لي أنا ليـه .. ولا انا الحيطة المايلة بتاعتكم !! مش كده !!
دومًا ما تفوز أحاديثها بالحب والدلال ، لديها موهبة جبارة في جعل الأفئدة تنسى همومها كأنها لم تكن .. شعرت ببدء نجاح مخططها وهو تشتيته عن الماضي وعن أكر عالية ، استسلم لرغباتها قائلًا :
-وبيتوحموا على أيه كمان ، أما نشوف أخرتهم .. ؟!
مالت برأسها على كتفه وتملأ أصابعها فراغات كفه وقالت بهيام :
-حاجات كتير .. لو قولتهم هتنفذهم !
هز رأسه مدركًا أن جولة التمرد الانثوي الخاصة بها بدأت للتـو ، زفر بدون صوت وقال بضيق:
-قـولي على طول ياحياة..
بعد رأسها عنه لتثني ركبتيها وتتكور تحت أبطه وتقول بنبرة طفولية :
-دي مش طلباتي ، لازم تعرف أن دي طلبات ولادك مش أنا خالص ..
لامست وجهه كي يطل عليها ، يطل على نور قلبه وقالت :
-عايزين يشوفوا ابتسامة باباهم ، مش بيحبوا الوش المكشر ده ..
شبح ابتسامة خفيفة بدا على محياه وهو يقول :
-والله أنتِ مالكيش حل !! شايفة أن ده وقتـه يعني !.
-شوفت أديك رفضت أول طلب ليهم ..
ثم أشاحت ببصرها نحو مسعود المقبل عليهم وأكملت :
-أومال لو عرفت باقي طلباتهم … ؟!
أخذ عاصي القهوة والبطاطا الساخنة من يدي مسعود وشكره ، ووضع في يده بعض النقود الورقية التي لا تقارن بثمن القهوة قائلًا :
-والباقي عشانك يا مسعود ..
نظر لقيمة الفئات الورقة بيده وقال :
-بس ده كتير يا بيه والله !! ربنا يكرمك ويخليك لك الهانم ..
ما فرغ من حواره الروتيني والمعتاد مع مسعود والكثير من الرجال العاملين الذين لا ينسى حقهم ، عاد إليها فوجدتها تلتهم قطع البطاطا الصفراء بشراهة .. غمغم قلقًا :
-طيب على مهلك أقوم أجيب لك تاني ؟!
اكتفت بإصدار إيماءة خافتة وهي تأكل البطاطا كالأطفال ، أخذ يراقبها بعيون معجبـة حتى ضرب كف على الأخر مع ضحكة خفيفة وقال :
-أنا ربنا يصبرني ..
سقطت أعينها على ابتسامته الهادئة وهو يرتشف القهوة ، فبادلتـه ببسمة انتصار وقالت :
-تعرف أن ضحكتك دي عندي أحلى حاجة في الدنيا !
سألها مداعبًا :
-أحلى من البطاطا ؟!!
رمقت البطاطا بشك ثم قالت بجدية مفتعلة :
-تعرف أن ضحكتك دي احلى تاني حاجة في الدنيا بعد كوز البطاطا ده…
لم يتمالك نفسه إلا وهو ينفجـر بضحكة عاليـة وصلت لمسامع قلبها قبل آذانها، تضاعفت سعادتها لفرحة لا توصف ، فلم تنسى يومًا اعترافه بأن الهموم تهرب من فوق عاتقه عندما يكون برفقتهـا .. لمعت عينيها بضياء العشق الذي وقعت فيه من جديد ، صافحت ضحكاته قلبها ، فتبعثـر منها كامل رشدها وإدراكها لتقول بشرودٍ :
-بحبك ….
-ايه ؟!
ثم مسحت على وجهها بخجل وبررت :
-أنت عشان ترضى ولادك ، تزلزل قلبي !!.. أنا مش أد الضحكة دي ياعم أنتَ !! لا ارجع كشر تاني كده لحد ما نرجع بيتنـا ..
سحبها لحضنه ، فمالت برأسهـا على صدره وبعد ما قبـل رأسهـا قال :
-كملي طيب .. أي طلبات البهوات دول كمان .. ؟!
ثم لحق نفسه :
-غير الكبدة عشان دي مستحيل ..
مجرد حضن منه يملأها بشعور لذيذ ، أحساس بمذاق الونس والحنين وكأن الطمأنينة تحلق فوق ظلها والأمان كعصفور على أكتافها المُتعبة .. رفعت عيونها المدججة بالحب لعنده وقالت بتمنى :
-عايزين يبقوا بحضنك طول العُمر ، متتصورش وأنا ساندة عليك أنا حاسه بايه ..؟!
رغم بخبث :
-هما بردو ؟! تعالى هنا ؛ أنتٍ ليكي فترة كده شقية بزيادة ، أيه الحوار ؟!
شعور احتوائك لمن تحب ، و الحاضن لِفرحته ودقات قلبه وحُزنه وحبه ، كمن يقدم ميثاقًا بأنّك رُكنه الآمن من ضجيج العالـم .. كادت تجيبه بوجهها المحمر ولكن قطعهم أحد حراسه لينقذها من دهائه قائلًا :
-عاصي بيه ، آسف بس قعدتك هنـا والمدام مش صح ، أحنا مش عارفين نأمنك والمكان مفتوح من كل النواحي ..
هز رأسه متفهمـًا :
-عندك حق يا بكر .. يلا ياحياة ..
هنا جاءهم اتصال هاتفي من شمس تبلغهم بخبر ولادة عاليـة ، فاستقبلته حياة بفرحة كبيرة ألقت بها بين يديه صارخة :
-عالية والبيبي بخير .. يالا نشوفهم ..
همس بمسامعها قائلًا وهو ينهض ليسير بمحاذاتـها :
-على فكرة ، كل مرة بتبهريني أزاي قادرة تشتتي همومي بذكائك ..
ثم أمسك بكفها بقوة مسرعًا الخُطا :
-مش بحبك من فراغ ….
********
~عـودة لڤيلا عاصي ..
بعض الأخطاء لا تُغفر حتى ولو عض صاحبها على قلبـه ندمًا ودمًا ، لأنها بسهـولة لا يمكن لها أن تُصلح شيء ، لا يمكن أن ترمم شروخ الماضي .. لا يمكن أن تعيد الحياة للحياة بعد ما سُلبت منها ؛ حملت جيهـان حقيبتها الجلديـة وهي تتعكـز على أثاث الغُرفـة متأهبة للرحيل ، للعودة لتلك الفتاة التي ربتها على سُم الأنانيـة والطمع ، واستباح كل ما تريد حتى ولو كان بطُرقٍ غير مشروعة .. تلك الفتاة المحتجزة بالمشفى متهيئة لعمليتها الجديدة ..
جلست على طرف التخت للمرة الأخيـرة وبأيدي منتفضة مسكت جوالهـا لتكتب رسالة نصيـة أخيرة لابنها التي أشبعته قسوة ، كادت أناملها ان تتنقل فوق الحروف ولكن ثمـة شعور تعجز عن وصفه الكلمات ..
غيرت رأيها وحذفت كل ما كُتب ثم ضغطت على زر التسجيـل الصوتي :
-مراد حبيبي أنا راجعة لأختك ، كان نفسي أشوف بنتك وأحضنها ، عارفة أن وجودي هيعكر عليكم فرحتكم عشان كده همشي .. هستناك تبعتلي صورتهـا ..
ثم سالت دموعها وأكملت بحرقة :
-احكي لها عني كُل خير حتى ولو بالكذب ، قولهـا إني بحبها حتى من قبل ما أشوفها .. هتوحشوني كلكم .. قولهم يسامحوني وأنت كمان سامحني .
فرغت من تسجيل الصوت لابنها وقامت بارساله ، ثم انتقلت لمحادثة كريم وقالت :
-أنا عارفة إنك مش طايق تبص في وشي .. وأنا مش هلومك ، حبيت أقول لك أنا موافقة تتجوز من البنت اللي بتحبها ، ولو عايـزني احضر فرحك هستنى دعوتي .. هتوحشني يا حبيبي ربنا يسعدك .. وسامحني أنتَ كمان عشان بعدتك عن البنت الـ بتحبها ..
انتهت من رسالتهـا التي عادت لمصر من أجلهـا ، ألقت الهاتف بحقيبتها بفتور وحملت حقيبتها وغادرت تلك الغُرفـة تاركة عالمهم اللذين دفعوا فيه سنوات العمر كي يناولوا قسطًا من السلام والحب ..
الحياة ستكون جميـلة أن لم يُخلق الصراع والأذى ، كان الجميع سيعيش بسلامٍ لو تمتع كل منا بسلامه النفسي وتقبل شعور الهزيمة بنفسٍ راضية ، ولكن كيف ؟! كيف وبناء الأرض جاء كعقوبة لبني آدم لعصيانه !!
بنيت الأرض كمنفى ، كساحـة قتاليـة لا تُرحم ؟
كيف نبحث عن السلام وأول قصـة في تاريخ البشرية كانت هي قتـل الأخ لأخيه !! عن أي سلام تأمل قلوبنا الحمقاء !!!!
*******
~عودة للمشفى …
-طيب يا جماعـة أنا شايف أن قعدتنا هنـا ملهاش لازمـة ، ولا أيه ؟!نسيب عالية ترتاح .
هتف كريم بجملته الأخيرة والجميع ملتف حول عاليه شبه مغيبة عنهم إثر المخدر .. طبع عاصي قُبلة طويلة على جبين أخته النائمـة ثم اقتربت منه حيـاة وربتت على كتفه :
-قلت لك هتبقى زي الفـل ..
ثم نظرت لجميعهم وقالت :
-طيب أيه أنتوا ناويين تباتوا هنا ، كفاية مراد معاها ، نمشي ونرجع لهم الصبح ..
أيدتها شمس قائلة :
-معاكي حق ، بس مراد يرجع ، أخد البنوتة هو وتميم للدكتور ..
أخذت تهذي عالية بكلماتٍ غير مفهومة جعلت عاصي يجثو على ركبته كي يمكنه سماعها قائلًا بلهفة :
-عايزة أيه يا حبيبتي ، أنا جمبك ..
أخذت تهذي بدون وعي :
-فين ماما ؟! مراد ، أنا .. خليه يطلقني ..
تدخلت شمس موضحة :
-عاصي هي مش في وعيها ، ده تأثير البنج .. والأحسن نسيبها ترتاح وخلوا مراد بس معاها ، يمكن يحاول يصلح اللي حصـل ..
تفهم حديث شمس مرحبًا ثم قال :
-تمام ، يالا يا كريم أنتَ ونوران عشان نروح البيت .. وأنتِ يا شمس السواق مستنيكم تحت ، تعالى مع تميم ..
فأكملت حياة :
-أنا مجهزة أوضتكم وكل حاجة تمام ، أعملـوا حسابكم هتقعدوا معانا كام يـوم ..
فُتح الباب فطل منه تميم ومراد بدون صغيرته ، فتلهفت نوران متسائلة :
-هي فين ؟!
رد تميم :
-في الحضانـة بس عشان البنت اتولدت قبل معادها ..
اخترق مراد صفوفهم وجثا بجوار عاليـا وأخذ يمسح على رأسها بعد ما غطى ذلك الجزء المكشوف من شعرها ، أخذ يهمس ببلابل العشق وهو يقبل أناملها :
-يالا فوقي بقـا ، فوقي عشان تشوفي بنتنا ، عايـز أقولها أنها زي القمر ، كلها أنتِ ..
ربت تميم على كتفـه :
-حمدلله عـ سلامتهم يا مراد ..
فأكمل عاصي بنبـرة جازمة :
-شيلها في عينك لحد الصبح ، ولو زعلتها وغلاوة عالية ما هطلعك من الغردقة على رجلك ، عايز أجي ألاقيك مصالح مراتك ومخليها مغيرة فكرة الطلاق دي ، عشان لو رجعت لقيتها مصرة على رأيها هنفذه .. فاهم .
لكزته حياة بخفة ، وهمست :
-بالراحة عليه مش كده !!
ثم رفعت صوتها :
-يالا بينـا أحنـا ..
أمسك كريم يد نوران وخرج الثنائي أول واحد كي يستفرد بها مُلقيًا قائمـة مطالبه :
-اسمعيني ، هنروح عند عاصي ، تباتي مع بناته ، مفيش حاجة اسمها أوضة لوحدك ، ومتنزليش الصبح غير لما أكلمـك وأقولك انزلي ..
فاض صبرها من تحكماته :
-من يوم ما خطبتني وأنت بقيت خنيق موت ، ايه يا كريم !! فين كيمو الروش بتاع زمان !!
داعبت أنفاسه ملامح وجهها وقال :
-لما يتقفل علينا باب واحد هتشوفيه .. أما دلوقتِ تسمعي كلامي لحد ما نمشي من هنا ..
خرج عاصي وحياة خلفهم ، فتمتمت حياة له بفضول :
-عرفت أن كريم خطب نوران !
عقد حاجبه مشدوهًا :
-ده أمتى ده !! أنا سمعت حاجة زي كدا قبل ما يسافر ، هو جد جديد !
ضمت ذراعه وهما يغادران المشفى وقالت :
-هى قالت لي النهاردة ، وكنت فاكرة اعتذر من شمس عشان موضوع يونس ، بس مالقتش الوقت المناسب .. المهم طمني عليك دلوقتِ .. أحسن !
على أعتاب المشفى أعطاه أحد رجاله مفتاح السيارة المصفـوفة ، ثم همس لها وطوى همومه عنها :
-أنتِ جمبي لازم أكون أحسن ..
ثم جهر مناديًا على كريم :
-كريم ، هتركب معايا !!
تدخلت حياة قائلة كي تتيح لهم الفرصة للعشاق الجدد أن يبقى معًا ، ثم قالت مقترحة :
-كريم أنتَ معاك مفتاح عربيتي ، ارجعوا أنت ونوران سوا ، وأنا وعاصي هنتحرك قدامكم …
اقترحت نوران قائلة :
-طيب نستنى تمـيم وشمس ناخدهم معانا ..
-ماشي يا نوران ..
جزت حياة على فكيها وسحبت عاصي ليصعدا السيارة :
-البنت دي غبية أوي ؟!
ما أن جلست بالمقعد الأمامي بجواره ، وهي تعقد الحزام أكملت :
-تبان ذكية وفاهمة كل حاجة ، وهي بتغرق في شبـر ميه …
كاد أن يدور سيارته ولكنه تراجع متذكرًا أمرًا هامًا وقال بـ حسم :
-انزلي …….
*******
~السـاعة الثالثـة فجـرًا
بغُرفـة الضيوف الخاصـة بتميـم وشمس ، تتمدد في منتصف فراشها وهي تدلك بنطنها المنتفـخـة برقـة كي تستريـح من مشقـة اليوم .. فرغ تميم من أداء الصلوات المتراكمـة عليـه ، وما طوى سجادة الصلاة تحرك لعندها متوليـًا المهـمة بدلًا منهـا .. أعطت له أنبوبة الدهان الطبي واسترخت تمامًا وهي تتنفس بارتيـاح ، همس قائلًا وهي يحرك يده بحركات دائرية :
-لازم الطفل يحس بوجود وحب أبوه كمان ..
أخذت أنفاسها تهبط وتصعد بهدوء تام، منتشية بإحساس الحنان المنبثعة نحو صغيرهما :
-مكملناش كلامنـا ، أنا عايز اسميه اسم جديد ، وفخم ..
اعتدلت بهدوء ثم قالت :
-زي أيه ؟!
-معـز .. معز تميم دويدار ..
انقعدت ملامحها باعتراض :
-لا طبعًا .. مفيش الكلام ده ، ومحدش هيسمي ابني غيـري !!
-وانا مش أبوه وليا حق اسميـه ؟! ولا أنا ضيف شرف معاكم هنـا ..
عاندته بإصرار:
-لمـا تبقى تحمل وتتعب وتطلع عينك ، ابقى سميـه انت .. مش هسمي ابني معز انا !!
ساد الصمت لبرهة أحست بـ خطأها وانفعالها ، فبررت معتذرة :
-سوري ، نسيت أننـا مش في بيتنـا ، ممكن نأجل الكلام في الموضوع ده لما نروح !
رد بحـزم :
-الموضوع منتهى ، هو معز خلاص ..ومش عايز كلمة زيادة يا شمس ..
رفعت حاجبـها متعرضة :
-والله ، تصدق أنا غلطانـة ، طول الطريق قاعدة بفكر ازاي استغل الجـو الحلو ونسهر سوا وننبسط ، لكن الظاهر أنك مش وش نعـمة ..
ثم شدت الوسـادة وقفلت نور الأباجورة وقالت بجدية :
-نام يا تميـم ..
لوهلة تراجع عن عناده نادمًا :
-ايه نام يا تميم دي ؟! قومي يا شمس وقوليلي كنت ناوية على ايه ..
-قولت نام يا تمـيم !!
حاول استعطافها واستلطاف الأجواء بينهـما وقال :
-طيب بلاش معز مش لازم ، وقومي متضربيش أم الليلة دي ، أنا غلطان ياستي …
******
~بغُرفـة عاصي ..
يسود الظلام الغـرفة إلا أشعـة ضياء القمر المنصبة بغرفتهم ، أبت ان تقفل الشبابيك والنوافذ تلك الليـلة وفضـلت أن تنام على عطره وضوء القمـر .. اعتدلت في نومتها لتجعل وجهه مقصد رؤيتها ، فتلاقت أعينـهم التي فر منهـا النـوم لأسباب كثيـرة ، اندست بين ذراعيـه وسألته :
-منمتش يبقى بتفكـر في حاجـة .. أيه مطير النوم من عينك ..
-عيونك الحلوة دي ..
من أجمل سمات الحب لأي قلبين أنهما يقاسمان كُل شيء ، كُل شيء حرفيًّا لن يفعل أحدهم شيئًا بمُفرده ، يتشاركان البيت والأريكة والطعام ولحظات الحب والأرق وكافة التفاصيل ، الاثنان أمان بعضهم البعض ، يهرب الخوف تمامًا من بينهـما ، وحينما ترهقهم الحياة ، يختبئان بين أذرُع بعضهما طالبين الراحة فقط .. في كنف الحُب تُشيع جنازة الحزن والقلق لأنـك ستكون برفقة مَن يبث السعادة في كُل أرجاء روحك …. جذبها لعنده لتكون أقرب وأقرب وبعد تقبيله لكفها قال :
-اليوم مكنش سهـل النهاردة خالص .. بحاول انسى وأنام ومش عارف ..
-حبيبي أحنا مش اتفقـنا ، جيهان وصلحت جزء من أخطائها وسافرت ، وعاليـة قامت بالسـلامة .. وأنت نايم في حضن الست اللي بتحبها وهي بتموت فيك ، وكل الـ بتحبهم معاك في البيت ، أيه ممكن يزعلك تاني ؟!
تسللتت كفوف تحت ملابسها الخفيفـة ليتحسس نبض صغاره وقال :
-بفكر في دول .. وأزاي ممكن احميكم من المعركة اللي مستنية توقع عاصي دويدار بره .. حياة ؛ أنا أعدائي في السـوق كتير ، وخايف تـحصلي حاجة ااا …
سدت ثغره بأناملها كي لا يكمل جملتـه المتشائمة ، وقالت :
-أنتَ وعدتني أنك هتكون بخير عشان ولادنا ، دول ٤ ولاد مش هعرف أربيهم لوحدي .. أنا مش هسمح لك تروح مني لأي سبب .. انا روحي دي تروح معاك فيها..
قبل وجنتها بلطفٍ ثم قال مغيرًا مجرى الحديث :
-المهـم أن الدكتور طمني عليكِ وبس..
-صممت بردو أننا ننزل ونكشف ، شوفت صورتهم كانت حلوة ازاي في السونار .. عاصي تتوقع هيكونوا ولاد ولا بنات .. ولا الاتنين !! أنتَ عايـز ايه !
-صدقيني مش بفكر غير في سلامتك ..
ثم رفع تلك الحمالة المتدلية عن كتفها وقال :
-المهم منمتيش ليه ؟!
-بصراحة ، جعانـة أوي ، وسيدة عاملة شوية جمبري ومكرونة وهـم ، تيجـي ننزل ناكل !
عقد حاجبيـه متسائلًا :
-الساعة دي !
تحمست أكثر ونهضت بخفة من حصار حضنـه وشدته بإصرارٍ :
-عاصي أنا حامل ، وأكل في أي وقت .. افكرك تاني ، أنا تلاتة في واحد !!
طاوعها ووثبت معهـا وهو يتناول سترته القطنيـة ليرتديها وقال :
-البسي حاجة متنسيش أحنـا مش لوحدنا هنـا ..
أومأت بطاعة ثم عادت له متسائلة :
-عاصي ، أنتَ والدكتور كنتوا بتتوشوشوا في أيه ؟!
غمز بطرف عينه :
-كلام رجالة بقا ، مالكيش دعوة انتِ ..
رمقتـه بعناد :
-هاكل وأقررك .. دلوقتي جعانة مش هقدر اجادل معاك ..
*******
~بالمشفى …
-بنتي فيـن ؟! حياة ، عاصي … آه .
بصـوت وهن تمتمت عاليـة بجُملتـها بعد ما فاقت من نومها وتعبها .. نهض مراد على عجل وفتح النـور بلهفة :
-أنتِ صحيتي ؟!
تأوهت في فراشهـا محاولة الاعتدال وهي تلهث من عناء رحلتها ؛ رحلة وهن على وهن .. استعانت بكفه كي تعتدل من نومتها :
-بنتي فين ، عايزة أشوفها.. مش المفروض أرضعها ، هما خدوها فين ..
ربت على كتفها بحنان :
-بنتنا زي القمـر ، أهدي وهعمـل لك كل الـ عايزاه ..
سحبت كفها من كفه الخشن الذي ذكرها بقسـوة غيابه وقالت بضيق :
-عايزة أشوف بنتي ..
-حاضـر .. هجيبهالك حالًا ..
لم يكاد يتحرك من مكانـه فأتت الممرضة حاملة الصغيرة بين راحتي يديها بعد ما طرقت الباب وقالت :
-لازم ترضع من الأم ..
ارتجف قلبها الذي اغتسل بالثلج ، لم تجد سواه لتطلب مساعدتـه .. وضع الوسادة خلف ظهرها ثم أخذ الصغيرة من يدي الممرضة فقالت :
-أنا بره لو احتجتوا أيه حاجـة ..
اقترب منها كي يضع الفتاة بيدها برقة تنافس رقة النسيم وهو يدندن بخوف :
-على مهلك ، خلي بالك ..
حاولت مرات كثيرة أن تعدل وضعية يدها وتحمل صغيرتها بحكمة .. ساعدها في ضبط رأس الطفلة .. تبادل الثنائي النظرات الحائرة التي قطعها مراد قائلًا :
-يالا يا حبيبتي رضعيهـا ..
أحست بهيبة الارتباك والعجز وقالت بقلق :
-أزاي ؟! انا مش عارفة ..
مال إليها ووضع كفه فوق ظهرها لتستريح في جلستها وقال وهو لا يعلم أي شيء ولكن فطرة الأبوة كانت تقوده :
-يالا وأنا هساعدك ..
عانت كثيرًا من الكيس الطبي الذي ترتديه حتى تدخل هو الآخر وحل الأمر .. فك عنها ذلك الرداء وشرعت في عملها وغريزة الأمومة تتدفق من قلبها .. لامست تلك الجائعـة حليب أمها بلهفـة وهي تصارع كي تنال منه قدر المستطاع .. أغرورقت عيني عالية بالعبرات والضحك متناسيـة كل شيء وقالت بصوت متعطش للسعادة :
-مراد ، الله دي بترضع .. شايف !!
لم يتمالك نفسه وزمام حبـه فانحني ليُقبل الاثنين ، قبلة كانت من نصيب وجنتهـا والأخرى كانت من نصيب ذلك الجزء الذي يمد الصغيرة بالحياة والحب …أحمرت وجنتيها بخجـل انفجر من بين ملامحها الفارحة ، تلاقت أعينـهم المتعطشة للحب حتى ختمه قائلًا :
-وحشتيني أوي .. كل حاجة فيكي وحشتني .. عاليـة عشان خاطري تعالى ننسى الـ فات ..
ثم داعب وجه صغيرته وقال :
-عايز غالية بنتنـا تتربي في حضننا ، أنا مبقاش ليا حد غيركم بعد النهاردة !
تمتمت باندهاش :
-غاليـة ، أنتَ هتسميها غاليـة يا مراد .. !!
-أنا بالفعل كتبتها غالية وبكرة هسجلها ؟! عشان يبقى عندي بنتين عالية وغالية .. غالية مراد المحلاوي..
اتسعت ابتسامتهـا متقبلة الاسم على الرحب والسعة :
-جميل غالية ، عجبني..
طبع قُبلة اعتذار أخيرة بداخل راحت يدها وقال:
-اتفقنا .. مفيش زعل تاني وهنفتح صفحة جديـد ..؟!
منذ أول لقاء بيننا أدركت أن هناك قصة جديدة يسطرها القدر على جدار قلوبنا ، أن وجودك معي سيشكل فارقًا عظيماً في حياتي شعرت بأنني معك سأكون أقرب للكمال وبأنك وبطريقة ما ستخلق أثراً عظيماً في قلبي .. بللت حلقهـا معترفة ببكاء :
-وأنا كمان ماليش غيرك .. بس …
اندفع قائلًا وهو يتلقى عِبراتها على ابهامه :
-أشش من أولها نكد وزعل والبنت بترضع كده !! لا بقولك أيه أنا مش عايز بنتي تطلع نكدية الغي العياط ده من حياتك خالص ..! سيبك من الكلام وتعالى نتفرج على غاليـة ..
غير مكانه من أمامها ليبقى بجوارها ، وبالأخص لتبقى جار قلبـه الذي عاد له النبض مرة أخرى بوجودها … حوط كتفيها فتلقائياً استندت برأسها على كتفـه وقالت :
-أنتَ كمان وحشتني أوي …
******
~عودة للقصـر ..
انتهت حياة من وضع الطعام بـ ” الميكرويڤ” ثم اقتربت منه الجالس على أحد المقاعد الخاصـة بالطاولة التي تتوسط ساحة المطبخ .. تدلت كفوفها الرقيقة من فوق كتفـه بـ هدوء ، ساندة ذقنـها على كتفـه وقالت بهمس :
-أنت كويس !!
ترك الهاتف من يده إثر لسمات تلك القطة الشقية التي لا يقاوم قربها رجل يافع مثله وقال :
-معاكِ أهو .. أنتِ اللي مش مبطلة حركة وده مضايقني ، ممكن تريحي نفسك ؟!
بقبلات دافئة متوزعة بجدار عنقه تعلن فيها اعتراف قلبها بإنه امسك بيد الرجلَ المناسب ، الرجل الذي تستحقه .. ثم قالت بخفوت:
-أنتَ ليه ماقولتش أن فريال حاولت تقرب منك .. !
هز رأسه متفهمـًا :
-لو قُلت لك كان هيحصل أيه ؟! أنا هقولك ، هتنكر وتقلب الترابيزة عليا وأخسر أخوكي والشك يدخل ما بينـا .. وبالتالي علاقتنا هتتهز فـ هنحقق لها الـ عايزاه ..
ثم شد كفها لمستوى ثغره ليقبله وأكمل :
-أنا عارف الأشكال دي ، دي حلها تتساب لحد ما تفضح نفسها بنفسها ، وأهو الـ عملت حسابه حصل ..
لفت ذراعيها حول عنقـه وقالت :
-على فكرة هي مشيت ، راحت عند خالتها وقالت مش هترجع تاني .. واعتذرت عن كُل حاجة .. وكانت كاتبه في كلامها أنها فعلًا جاية تنتقم مني فيك .. بس أنت صديتها ..
ثم ضمته إليـه وقالت بامتنان :
-عاصي ، شكرًا ليك .. شكرًا ليك لأن للحظة دي مفيش واحدة عرفت تنتصر عليا ، شكرًا لأنك مدتش واحدة الفرصة تهيني وتقلل مني …
دار بمقعده الجلدي لتتبدل الأدوار ، وبدلًا من احتوائها لكتفيه ، باتت كلها بداخله جسده ، وتحت حصاره ، رفع جفونـه لعندها وقال بنظرة تُقر باكتفائه بهـا :
-أعمل أيه في قلبي ؟! اكتفى بيكِ وقفل عليكِ بضبة ومفتاح .
مالت بكُل جسدها لعنده وقالت :
-تعرف أن مفيش أجمل منك بعيني .. ولا حد أسعد مِني وأنا معاك ..
ثم اندفعت بكل مشاعرها لتزرع زهورًا وليست قُبلًا على كافة ملامحـه ، كانت قبلاتها هادئة ، بتأن تعرف أين ستذهب ، وما ستفعل بقلبـه ؟! كادت أن تفجر عشقها الأكبر بملاذ قلبها ولكن جرس الفرن الكهربي قطع عليـهم تلك اللحظة الهنيـة .. ابتعدت عنه بدلالٍ وبعتبٍ مفتعـل :
-عاصي ، بطل بقا الحركات دي .. عندنا ضيوف في البيت ، أحنـا مش لوحدنا !!
-ده أنا بردو ؟!
ثم فرت كالأرنب العنيد من حضـنه لتُخرج الأكل ، رصت الجمبري بالأطباق ، ثم فتحت الثلاجة فوجدت قطع الحلوى المغرية وسألته :
-تاكل جاتوه معايـا ؟!
لازال يقاوم رغبتـه فيها ، تلك الهشية التي تنفتح وتقفل لرؤيتها فقط ، تحمحم مستجمعًا شتاتـه وقال ساخرًا :
-هاتي اللي عندك ياحياة خلينا ناكل وننام ، عشان شكلك مش ناوية تجيبها لبر …
رصت الأطباق أمامه بفرحة لا توصف ، ثم جلست وشرعت في التهام الطعام بشراهـة وكأنها في سباق مع أحد .. رفع حاجبـه متعجبًا ثم تناول شوكته وشرع في تناول وجبته ببطء .. لم يمض وقت طويل حتى انتهت من طبقها كاملًا وواصلت فقرة الحلويات .. وما فرغت من تناول قطع الكيك ، أمسكت مرة أخرى بشوكتها لتشارك عاصي في طبقـه ، وقالت :
-شوية جمبري وهم !
-أنتِ شهر كمان بالحال ده ، مش هعرف أشيلك تاني!!
عقدت حاجبيها مندهشة :
-ده ليـه بقا ! ياحبيبي افهم أحنا تلاتة .. قدامك دي تلاتة فالأكل بتاعي وبتاعهم .. وبعدين تعالى هنـا هو أنا تخنت ؟!
القى نظرة فاحصة عليها وقال بإعجاب :
-بصراحة ، أنتِ احلويتي أكتر وو .. بعدين أقول لك ..
لملمت الأطباق سريعًا مفتعلة الزعل :
-بعد أيه ! وسع كده ، وبعدين حتى لو تخنت كله فدا ولادي حبايبي ..
اتجهت ناحيـة الحوض ووضعت الأطباق بداخله وغسلت يدها بفتور فباغتها بحضن طويلٍ من الخلف ، وهو يعتذر عما قاله :
-متقلقيش معاكي لـ١٠٠ كيلو زيادة .. فكُلي براحتك ..أنا كده كده بحبك ..
ثم أزاح شعـرها عن ظهرها ليتأمل الحوت المرسوم فوق كتفهـا وقال :
-أنا كل ما أشوف الحوت ده ببقا عايز أكلك وأكله ..
تململت بدلالٍ :
-عاصي بطل بقـا ، وابعد عشان بجد قفلتني ..
لمس حوتها المرسوم بشدقه الهائم لثوانٍ فشعرت أنّ نجومًا صغيرة هبطت من السّماء وتحلّقت حول أثر لمساته ، لمس عنقها لثوانٍ معدودة . . فصار وجهها قمرًا منيرًا .. نسيت صنبور المـاء مفتوحًا وهي تذوب معـه كعود من الريحان يتمايل على لحن الهوى .. أفرط بمداعبتها وهو يخبرها بأنفاسـه المحترقـة :
-أنتِ أزاي قادرة تكون أم وأخت وبنت وصاحبة وزوجة وعشيقة سرية بقابلها كل ليلة .. أزاي قادرة تكوني كل دول في شخص واحد ..
كادت أن تجيبـه ولكن من فرط المشاعر التي تسربت لروحها فقدت القدرة على النطق .. اعتصرت معصم يده كي يتوقف بث اللمسات الحنونة لجوفها ، ثم دارت بصعوبة بين قبضة يده والتفت ذراعيها حول عنقه وهي تلهث من جملة المشاعر العذبة التي تروي فؤادها :
-عاصي .. أنتَ حبي اللي عشت أرسمه في خيالي سنين طويلة ، أنا هنا عشان أكملك .. اسد فراغات قلبك ، انضفه من فضلات الماضي .. أنا حبيتك بقلب كل الستات اللي أنتَ شايفهم فيـا .. أنا مستعدة أكون أي حاجة تسعدك ..
ثم طوقتـه بوهن وأكملت وشوشة لقلبه :
-أنت الحُب الـ عمري ما هندم عليه أبداً، أنت بالنسبة لي أعظم حاجة دخلت قلبي ..
ثورة صاخبـة من العشق اندلعت في كيان الحبيبان اللذان يكملان بعضهما البعض ، آهات مكتومة وصوتًا واحدًا ينبعث وترين مختلفين ، تلك اليتيمة التي وجدت فيه حنان الأم وأمان الأب وشقاوة الأخوة ، ليغمدها بجسده كأنه متعمدًا ترميم شروخ روحه بحب تلك الفتاة التي تذوق معها كيف سيكون حنان الأم ، وخوف الأخت .. واحتواء الزوجة .. ضمها معصمـه ورفعها عن الأرض قليلًا كي تجلس على سطح الطاولة .. في تلك اللحظـة سمع صوت صخب بالخارج ، فعاد له رشده وشدها من كفها وقفل صنبور الماء قائلًا بحذر :
-في صوت بره .. ظبطي نفسك ..
عقدت حزام منامتها الطويلة حول خصرها وشربت كوب من الماء ظنًا منها بانطفاء نار الحب بكيانهـا .. سحبهـا برفق للخارج بعد ما أشار لها أن تحتفظ بهدوئها، تمددت أنظاره للخارج كي يفحص المكان ، فوجدها قطة دخلت من النافذة المفتوحة وتعبث بالمنزل ، نظر لها بضحكٍ :
-القطة دي انقذتنا .
ثم سحبها عنوة خلفه :
-تعالي تعالي ، أنا نسيت إنك حامل أصلًا .. كنتِ هتودينا في داهية ..
توقفت على أعتاب السلم لتأخذ نفسًا عميقاً ويهدأ روعها قليلًا ، ثم أشاحت بنظرها معلنة عجزها :
-عاصي بجد مش قادرة اتحرك .. أعصابي كلها بايظة ..
انحنى قليلًا وحملها بين يديه محذرًا :
-طيب متعمليش صوت ..
بحذرٍ شديد عاد الثنائي لغرفتهما ، ركل الباب خلفه ووضعها برفق بمنتصف فراشهما كاد أن يفارقها ولكنها تمسك بملابسـه قائلة :
-بتبعد عينك عني ليـه ! مش مجبر على فكرة .
تمتم ضاحكًا :
-حياتي أنتِ هرمونات الحمل دي مبوظة الدنيـا معاكِ .. أنا خايف عليكِ .. لحد ما نعدي الشهر التالت بس ..
-مش الدكتور طمنك !
-طمنني …
ثم تململت في نومتها بهدوء وهي تضمـه إليهـا ببطء وكأن هناك علة بروحها لا يداويهـا غيره :
-وقالك أيه كمان ؟!
غاب عن وعيه ذائبًا بسحر عينيها وهو يتأقلم على امتلاكها وامتزاج أرواحهم بلغات العشق التي لا يفهمها سواهم :
-هو مين !!
طمأنينة القلوب الحَقيقة هى تلك الروح التي تمتزج بروحي فتداوي كافة الأوجاع وتجدد خلايا الحب من جديد ، فهو موطني الذي يقبلني ويتقبلني رغم كُل شيء ،ويعود إلي وأعودُ إليهِ مهما حدث ، نحن الاثنان داء ودواء بعضنا لأخر العمـر …..
~صبـاحًا
فتـح عينيـه إثر لمسـاتها الحنونة التي تغلف القلب بالسعادة والحيـاة ، آخيـرًا أشرقت شمسها برؤية عينيـه اللاتي استقبلتهما بابتسامة :
-صباح الخيـر يا حبيبي ..
أردف بصوته النائم :
-لسه ما نمتيش لحد دلوقتِ يا حيـاة ؟!
-لا نمت شوية ، ومعرفش ليـه حسيت بإنك واحشني وعايزة أشبع من ملامحك ، فصحيت .. ومعرفتش أنام تاني ..
رفع رأسه النائمة ليستند على الوسـادة وقال معاتبًا :
-وبعدين فيكي !! مش هتبطلي دلع !!
ثم نظر لها بلهفة بعد تذكره لطيف تفاصيل الفجر بينهم ووضع يده فوق بطنها :
-أنتِ كويسة !
سئمت من خوفه المتكرر عليها ، حيث أجابت بمزاح :
-كويسـة جدًا كمان .. وبعدين أيه بطلي دلع دي !! اعتبرها تعويض عن الليالي اللي كنت تباتها في الشغل وناسيني خالص ..
رد بعفوية :
-عشان كنت غبي ..
-لا ماتقولش كده ، أنت أعظم راجل في الدنيا .. قوم يلا عشان نروح لعالية نطمن عليها ونجيبهم..
رفع الغطاء من فوقه وقال :
-حاضر يا ستـي ..
هرول إلى الحمام ، ونهضت هي بحماس لتختار له بدلتـه .. ثم وضعت ملابسه القطنية على معصمها وعادت لعنـده .. وضعت تلك الملابس في مكانها المعتاد ثم دخلت ذلك الصندوق الزجاجي وأخذت منه تلك الفرشاة لتساعده ، فأردف متعجبًا:
-ده أيه الرضـا ده كله !!
عبرت عن مشاعرها بحيرة :
-مش عارفة .. بس أحساس جوايا مش عايز يفارقك للحظة ، ممكن نروح نجيب عالية وترجع متروحش الشغل النهاردة .. خليك قاعد معايا ..
دار لوجهها وشدها تحت الماء معه وقال :
-أنا جمبك أهو ، هروح فين ؟!
-لا خليك جمبي على طول ..
-ومش هتزهقي ؟
-عمري ما أزهق منك ..
مرت قرابـة الساعة ؛ فكانا عاصي وحياته بالسيارة في طريقهم للمشفـي ، طول الطريق متشبثـه بكفـه كأم تخشى أن تفقد صغيرها وسط الزحمة .. بين كل كلمة والأخرى تأخذ نفسًا طويلًا تطرد فيـه شبح المخاوف التي تحيط بقلبها ولم تفهمها .. كل فترة والثانية تتقابل أعينهم وسرعان ما تنفصل عن بعضهـا .. عند بوابـة المشفى طلبت منه أن يصف سيارته جنبًا وهبطت راكضة من جواره تتقيأ .. هبط خلفها بلهفة وضمها تحت شجرة بالطريق :
-طيب مفيش أي حل للترجيع بتاع كل صبح ده !! بالراحة طيب ..
جفف ثغرها بالمناديل الورقية ، فأجابته بصوت متعب :
-طبيعي يا حبيبي متقلقش ..
من الخلف هناك شعاع ليـزر مصوبًا لمنتصف ظهـر حيـاة ، وفي تلك اللحظة التي ضمها إليـه كي تهدأ من صوت أنفاسها المتصاعدة .. خرجت تلك الرصاصة العدائيـة عن مخبأها لترسـو بمنتصف جسد أحدهما ….

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى