رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم نهال مصطفى
رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الحادي والثلاثون
رواية غوى بعصيانه قلبي البارت الحادي والثلاثون
رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الحادية والثلاثون
الفصل الواحد والثلاثون
(1) ج2
“أحيانًا لا تحتاج الشخص الذي يعطيك المظلة وإنما تحتاج الشخص الذي يبتل معك .. فمساحة الشعور دومـًا تفوق مساحة العطاء ”
•••••
كم هو مؤلم عندما تعجز عن تحديد نقطة ألمك !أن تفشل بوصلة الأحساس أن تصل لمصدر الصخب ، ومركز النيران التي توهجت بجسدك ، أ يكون القلب .. هل هو السبب ! ولكنه يتألم ويحترق معي و برُمة الحرائق الكائنة بي ! أنه ضحية حدث ما لم يُحدد سببه حتى الآن ، يتقلب على سيخ مصيبة جديد حلت به .. أم هي خطيئة العقل يا ترى ! تلك هي الفجة الكُبرى ، العقل لا يعترف بالأخطاء وجميع طُرقه وأن خالفت القلب فهي تُشيـر للصواب ، هل ساقني عقلي تلك المرة لقعر المُصيبة وجُب الألم ! هل ضحى بي ويأس من حماقتي وترك لي ساحة القتال وولى ظهره ! على من سأستند .. انهارت جميع مصادر قوتي ولم يتبقى بي إلا حُطام إمراة .
مرت الساعات العصيبة على خريطة عقلها فـسلبت منها الشعور والإدراك ، باتت طريحة الفراش لوقت طويل تتأمل سقف الغُرفة الذي شاهد حُروبها وخرابها ، وتحولها من مدينة حضارية إلى عشة تتراكم بها كومة النفايات، فر النوم من بين جفونها ، باتت عينيها لا تنغلق إلا لتعتصر ماء وجع جديد .. ولكن المرة الأخيرة قفلت فيها جفونها كي تسترد حدثًا جديدًا .. سبحت ذاكرتها فوق قمة الوجع وهي تدون سطر من كتاباتها وتكتب كلماتها الملونة بلون البحر والغروب :
-الـ يقدر يغيّب يَومين في الهَوى يقدر يبعِد سِنين ♥️.
ثم تركت قلمها بمنتصف دفرتها ورفعت رأسها لتتنفس هواء البحر وتستمع بصخب أمواجه ، إلا أن تلك المـرة جاء الصوت ممزوجًا بنبرة تتوق إليها ، جذب الكراس منها وارتسمت ابتسامه ساحرة على وجهه وهو يعترف :
-وأنا أهو متحملتش أغيب أكتر من يومين ، والشـوق جابني لعيونك ..
وثبت قائمة برشاقة والهواء يغازل فستانها القصيـر متعمدة إخفاء سعادتها لمجيئه وخطفت منه مُجلد اعترافات قلبها :
-جيت متأخر أوي يا أستاذ قاسم ..
ثم دنت منه محذرة بقلمها الذي ترفعه بوجهه :
-ولأخر مرة بحذرك تقرأ حاجة أنا ماسمحتش تشوفها .
طوق خصرها بنظراته التي انخدعت بها طويلًا وقال بمكرٍ :
-مش مهم ، بس اسمح لي أبص في عنيكي وأنا هفهم كل حاجة ..
دفعته متدللة :
-أكلت كتير من الكلام ده ، اتفضل ارجع مكان ما كُنت .
-منا رجعت أهو ..
ولت ناحية البحر وعقدت ساعديها مترنحة :
-انسى ، مش هتضحك عليـا زي كُل مرة .
كان من نصيب وجنتها قُبلة اعتذار سريعة منه كي ينال رضاها ، تلك القُبلة التي عادت وعيها بشعور من الاشمئزاز القوي وهي تفارق مرقدها كمن أصعقته الصاعقة ترمي الغطاء أرضـًا وتنفجر باكية وهي تدفن وجهها بين كفيـها .
تحسست صقيع قلبها للمرة الثانية ، نفس الوجع ولكن لأول مرة يمنح القلب للعقل أعذارًا ، غاصت في مُقارنـة بينه وبين تلك الهواجس التي اجتاحت عقلها ولم تحدد مصدرها ، لا تعلم ما سبب غضبها منه ربما كان بسبب سن الكبرياء سيوفه عليه ، رغم أن قلبها الذي لم يشن عليه العتب للحظة ، وثبت قائمة تجر في ذيول خيبتها متجهة نحو المرحاض حتى ارتطمت بملامحها المنعكسة والمنكسرة في المرآة ، ملامحها التي تحطمت كزجاج صعقته الريح العاتية ..
تفقدت المكان المقلوب رأسًا على عقب حولها ، والأشياء المبعثرة والمنتشرة بالأرض ، والفوضى العارمـة التي حلت به فلم تختلف كثيرًا عن فوضى روحها .. تذكرت كل شيء وكل ما حدث وكم كانت هي المُبادرة بشكل يخرج عن زمام عقلها وشموخها ، أدركت أنها للحظات فائتة خسرت عقلها وضلت في ظُلمة المشاعر ، تمسكت برأسها ووجهت لنفسها جميع أنواع الذم والاشمئزاز ،تهاوت قطعة قطعة حتى لم يتبقى منها إلا رائحته ، نكست أرضًا وصرخت بنبرة منتفضة وعاجزة عن الاستيعاب :
-أنا أيه وصلني لكده ؟! أيه اللي حصل فيـا ، في حاجة غلط ، آكيد في حاجة غلط !!
استخرطت في البكاء ، وأخذت تتنفس بشكل يشير أنها ما زالت على قيد الحياة ، مدت يدها لتفتح الصنبور فوقها تاركة للماء مهمة إخماد تلك الحرائق التي لا تهدأ ، انصب الماء الغزير فوق رأسها ممزوجًا بملوحة عِبراتها ، ابتلى جسدهـا بحت الماء وأجهشت بندمٍ :
-لم تكن ديارك مأمني ، أنا من توهمت ، والآن اسدد ضريبة حماقتي .
ارتفع صوت آذان الفجر وما زالت بنت البحر تتقلب بموج الأيام القاسية في حضن الماء ، الذي منه وإليه تعود ، استجمعت نفسها وتناولت المنشفة لتجفف نفسها بعد ما تخلصت من ثيابها المبللة ، خرجت إلى الغرفة وتوجهت نحو الخزانة لترتدي أول شيء نالتـه يدها ، لم تهتم بتجفيف شعرها بل تركته يشارك عينيها في البكاء ، طافت عينيها بالمكان حولها ، الغرفة التي تحمل تفاصيله وعطره وصوره ، دخلت في نوبة من الذعر ، وهبت عواصف غضبها لتُطيح بكل ما يخصه ، تهشمت صوره وعطره ونظارته باهظة الثمن ، لم تتوقف عند ما ظهر أمامها بل فتحت خزائنه وفرغتها من جميع ما تحويه ، باتت ملابسه الثمينة مداسًا لجنونها وكرهها الشديد إليه ، أصبح محتوى الخزانة كله بالأرض كالهرم الذي يشبه هرم حزنها الشامخ ، ..
اهتزت كأنما بجوفها معركة طاحنة ، جلست بين كومة الملابس المتكدسة بعد ما رفست بقدمها سترته دافنة وجهها بين رُكبتيها وهي تلوم على البحر الذي حدفها إلى شواطئه التي لا ترحم :
-اليوم رأيت بطش موج البحر بعيني ولكن تلك المرة كان على البـر ، البر الملييء بالأفاعي وأنا ببلاهتي عانقت الحية كي أنجو !
لجأت ” حياة ” إلى النوم لتستريح من تلك المعارك القوية ، قديمًا كان النوم طريق النجاة منا ومن قلوبنا المُضلة ، بمجرد أن ينطفِئ الضوء يحضر النَوم كمُخدر فعال لشِتاتنا ، أما الأن فكلما أطفئنا الأنوار لكي ننام أوقدَ التفكير شموعه حتى الصباح..وهذا ما سقطت في بئره ” حياة ” جميع الطُرق باتت مُهلكة ، جميعها حادة ووعرة ، كافة الطُرق تحمل الموت على جوانبها .. أين المفر !
•••••••
” أمام البحر في الاسكندرية ”
“يعلمك الزمن ألا تلهث وراء ضوء يخفت كي تُعيد وهجه، ولا وصل ينقطع لتصلحه .. كل ما تلاشى من حياتك كان ببساطة ذاك حجمه فيها وانتهى ..”
ظننت أني مُمتحنة فيك ، تقبلت رسائل ووقائع الأقدار ، أخذت الطريق إليك برضاي بعد ما أجبرت عليه ، أمنتُ بأن الخطاوي نصيب ووافقت على نصيبي معك حتى ولو لم تكن حلمي يومًا ما ..
أنا الآن في المنتصف ؛ بين عقلي وقلبي ، ولكن المُريح بالأمر أن قلبي رضخ مستسلمًا لجميع أوامر العقل ، لازلت امتلك السيطرة عليه ، فلم يفقد صوابه هو الأخر ولن يطيح في بحور هواك للحد الذي كنت سأفقد فيه نفسي .. لكني شخص يبغض الاحتمالات والبدائل ، يفتش عن الأمان دومًا ، تراني شخص حينما يشك في مكانته يتخلَّى عنها فورًا.
<قبل أربعة ساعـات>
الكأس لا يمتلئ من نقطة، والإنسان لا يغضب من كلمة، كل القصة تراكمات .. تحملت ما تحملت من عناء خلال رحلتها معه ولكن ختمت قصته معه بعبير الغُفران ، بل يبدو أن للحياة رأي أخر ، كأنها أقسمت أن تفتش الحقائق وتعري الستور للمرء عند رغبته في البدء من جديد ، ظنت أن بمجيئتها إليه ستوقع على مُعاهدة السلام معه ولكن فاح دخان غدر العدو فحرق كل ما عهده لأجله ..
تسمرت ” عاليـة ” عندما رأت هذه المرأة المشبوهة تظهر أمامها ، كانت مطرقة واجمة ذاهلة ، أرادت أن تتكلم ولكن الدموع غلبت كلماتها ، لم يختلف الحال عند مُراد كثيرًا غير أنه لن يبتلع قسوة الحدث بالصمت ويستغرق وقتًا في الدهشة بل صاح مزمجرًا :
-أنت مين ! وأيه جابك هنـا !!
بلغة متدنيـة أردفت المرأة :
-أنت لحقت تنسى يا سيدي !
اندفع مُراد إليه بنيران الحارقة تحت سطو صدمته فيها :
-أنا أعرفك ولا عمري شوفتك يا بتاعة أنتِ ! هتنطقي وتقولي أنتِ مين ومين زاقك عليا وإلا اكلم البوليس يقررك بنفسه !
لم يهتز جفن القلق بالسيدة بل أكملت تدلل ومراوغة عليه ، دفعها مراد بكل قوته وهو يخرج هاتفه ليبلغ الشرطة ، نهضت “عالية” من فورها ، فلم تتحمل الصمت أكثر وقالت باشمئزاز :
-وفر عن نفسك الحركات الرخيصة دي يا بيشمهندس ، الرسالة وصلت خلاص ..
أصبح مُراد في موقف عصيب ، كيف يبرر تلك المسرحية المُحكمة عليه ، نشج بصوت حاد:
-استني يا عالية أنت ِ ..
ثم أمسك بشعر المرأة بقوة وهو يرجها بعنفوان :
-انطقي يا بت أنتِ ، دخلتي هنا ازاي !!
ثم جذبها بعنف متجاهلًا صدح صراخها مُتجهًا ناحية الباب وصرخ :
-دخلتي هنا ازاي !
هنا جاءت عالية التي استجمعت نفسها ونادت عليه بإحتقار:
-ما كفاية تمثيل بقا ، أنتَ مصنوع من أيه !!
التفت مُراد لعالية التي لم تتوقف عن قصف الاتهامات إليه ، وما أن سنحت الفرصة للمرأة أن تهرب ، هرولت مسرعة وفتحت الباب وركضت كي تنجو بحياتها من بطشه ، التفت مُراد بحيرة ، أيركض خلفها أم يقف بوجه تُهم عالية التي لم تمنحه مهلة ليدافع عن نفسه ، اقترب منه متخذًا أنفاسه بصعوبة :
-عالية .. أنتِ آكيد مش هتصدقي الهبل ده ، ده ملعوب عليا وأنا هعرف مين وراه ..
ألتوى ثغرها بسخرية :
-ااه هبل !! تصدق ما حد طلع أهبل وعبيط كمان غيري ! تعرف ليه ؟
مسحت دمعة انبثقت من طرف عينيها سريعًا ثم أكملت بنبرة مخيفة لم يسمعها من قبل وهي تلوح بيدها :
-عشان استسلمت لظُلم عاصي واتجوزت واحد زيك ، ما حاربتش عشاني وضعفت .. عشان صدقت أن جواك شخص نضيف وقررت اساعدك على كده ، ووثقت فيك ونسيت أنكم كلكم عايشين في مستنقع مش عايزين تطلعوا منه ، كلكم زي بعض ، حياتكم كلها عك و أرف ..
حاول أن يتمسك بكفيها كي تهدأ :
-عالية معاكي حق في كل ده بس أهدي ممكن !
دفعته بعيدًا عنها صارخة بانهيـار :
-ما تلمسنيش ، أنت من النهاردة محرم عليا ، أنا مش هقبل جوزي يكون بالقذارة دي ..
أخذت أنفاسها بهدوء ثم تفوهت :
– بس الغلط كله غلطي ، أيوه .. أنا اللي فشلت في اختيار حاجة واحدة في حياتي، بس خلاص يا مراد ، كل ده انتهى ومن اللحظة دي مش هقبل حاجة تحصل غصب عني ، جيه الوقت اللي اصلح فيه كل اللي فات ..
حاول أن يهدأها من نوبة الانهيار التي انخرطت فيها :
-هنفذلك كل حاجة، بس اهدي .. اسمعيني الأول واللي عايزاه هعمله يا عالية .. بس افهميني الأول .
رمقته بسهام الخسة :
-أنا مش قادرة اسمع صوتك ، متتصورش أنا شايفاك أزاي دلوقتي ..
حملت حقيبتها على كتفها وقالت باختناق :
-أنا همشي من هنا على بيتنا ، قصر دويدار .. وورقتي توصلني على هناك يا مراد ..
ثم حدجته بنظرات التهديد :
-ومش هقولك هتحامي في عاصي وهو اللي هياخدلي حقي منك ، لاني وقتها هوريك عالية دويدار تقدر تعمل أيه ..
خرج عن هدوئه وصدمته صارخًا :
-أنت ليه مش مصدقة إني معرفهاش !
ألتوى ثغرها بسخرية :
-وسايب بيتك ومراتك والقاهرة كلها وجاي هنا عشان تقيم الليل ، مش كده ! كفاية يا مراد كذب ، أنا مش صغيرة ولا هيضحك عليا بكلمتين..
ثم دفعته وغادرت المكان بسرعة لانها أوشكت على الاختناق من تلك الاجواء المشحونة بالكذب والخداع ، ركض كي يحضر مفاتيحه ويلحق بها على درجات السُلم ركضًا لانها استقلت المصعد ورحلت .. أتبعها بسرعة فائقة حتى تساوى موعد وصولهم ، تلى خُطاها وهو يهمس باسمها مناديًا بنبرة منخفضة :
-عالية هتروحي فين الساعة دي .. لو سمحتِ استنى ..
تجاهلت ندائه حتى وصلت إلى صف السيارات المركونة ، قبض على رسغها بقوة ولفها إليه :
-كفاية بقا عناد يا عالية !
حاولت التخلص من قبضته بإصرار :
-أنت جاي ورايا ليه !! افتكرت كذبة جديدة تقولها ! ولا ضميرك صحي فجأة !
عض على شفتيه بتفاذ صبر فجره بسقف السيارة المركونة وهو يضربه بقوة وجهر بصوته الشبيه بصوت الرعد :
-أنا لحد اللحظة دي مقدر الموقف اللي أنتِ فيه ، لكن أكتر من كده مش هسمح لك يا عالية ..
حدجته باستهتار :
-تسمح ولا ما تسمحش بقى ، أنت خلاص بقيت شفاف في نظري ، أنت مش فارق لي أصلًا ..
قفل جفونه ليستجمع نفسه وشتاته ثم أطلق زفيرًا قويا نفض فيه غبار كلماتها وقال بنبرة رغم هدوئها الا انها مبطنة بالتحذير والصرامة :
-اركبي يا عالية ..
-مستحيل اركب عربيتك دي ، ولا عايزة أشوف وشك تاني !
جزع من أسلوبها الحاد ، هنا لجأ إلى العنف وتحولت أوامره إلى أفعال ، جذبها بقوة متجاهلًا أصوات استغاثتها وأنظار المارة إلى ودفعها دخل السيارة بالإجبـار ، ما أن استقلى مقعده بجوارها أخذت تثرثر وتتشاجر بطريقـة فوضوية ، تعمد تجاهلها ولكن لم يستطع تجاهل شحنات الغضب المتقدة بجوفها تلك التي فجرها بالسواقة الجنونية، مرت قرابة النصف ساعة حتى صرخت بصيغة آمرة :
-بقولك أقف هنا اتخنقت وعايزة أشم هوا البحر ..
< عودة إلى الوقت الحالي >
نزع مُراد سترته ووضعها على كتفيها من الخلف ليحميها من شر هواء البحر ، وقف بمحاذاتهـا عاقدًا يديه وراء ظهره وقال :
-هوا البحر عمره ما هيداوي الجروح بالعكس ، ده بيفتحها من أول وجديد ..
نزعت سترته من فوق كتفيها وقالت بشرودٍ :
-يمكن بيعمل كده عشان حابب ينضفها من تاني ، شايف أنها اتقفلت غلط ومش على نضافة فـحب يصلح أخطاءنا !
رد بإصرار :
-أنا ما غلطتش يا عالية ومن اليوم اللي بقيتي فيه مراتي وأنا محترمك ، أنا معملتش ده زمان عشان أعمله دلوقتِ !
جفت صُحف قراراتها ورفعت أقلام قلبها كي تمنحه صكًا جديدًا من الغُفران ، أومأت بخفوت :
-زي ما قولت لك الغلط من البداية ، وزي ما حياتنا ابتدت بغلطة انتهت كمان بغلطـة ، عشان كدة أنا مش عايزة اسمع حاجة يا مراد .. الموضوع خلص بالنسبـة لي .
-يعني أيه يا عاليـه !
-يعني طلقني ..
•••••••
” على كوبري قصـر النيل ”
قضى عاصي ليلته في سيارته المركونة جنبآ بعدما انتهى الإستجواب المُتعلق بمقتل المدعو ” قاسم ” وعدم ثبوت دليل يذكر عليه ، خرج من القسم بعد ما ترك شأن محاميه وأمر السائق أن يغادر ليتركه وحده ، هبط من سيارته بعد ما نزع سترته السوداء مرتديًا فقط بنطاله الأسود وقميصه الأبيض وولى ظهره عن العالم وباتت عيناه تشكو السماء والنيل تحته ..
بات طيفها يحاصره كشبح عنيد لا يصرفه حتى آذان الفجر ، بات بريق عينيها يلمع بالنجوم فوقه ، وانعكاس الأنوار في المياه أسفله ، ويحرك الهواء سطح النيل مثلما يُغازل شعرها ، باتت طريدة ذاكرته ، وملازمة إليه كنبض قلبه ، انتقل من جولة التتوق إليها لشوط الهدنة من سطوها المسلح عليه ، وتحولت مشاعره الجامحة إلى أخر ماجنة تُوبخه تارة وتعلن اللوم عليه طورًا .. أخذ يتساءل في نفسه .. ماذا فعلتِ بقلب ناسك عن قُربك !! سلك طريق التعبد مكتفيًا بالطواف حولك ! كيف بلمسة خرت جميع قواه تحت جفونك وبات الليلة صريع هواكِ ! أي نوع من النساء أنتِ شردتي كل ما بي بضحكة واحدة ! كيف لقُبلة منك بللت كل أجزائي ؟!
يعز على قلبك أن اعترف بأنك الركن الهاديء الذي تصالحت فيه مع الدنيا، كلما جئتك مُنطفًا كانت عينيكي تشع نورًا ليُهديني .. وبعد زلزال الليلة والشق العميق الذي أصبح بيننا فقدت الهدوء والهِدية والهدايا وضعت أنا بينهمـا ..
تذكر جُملة أخبرته بها ” مهـا ” من قبل وهى تشبك يدها بيده :
-الحُبُّ هو الجِسرُ الذي بينك و بينَ كُلِّ شيء .. أن مَلكت الحُب ملكت كل شيء ، و أن أضعته ضعت أنت ولم يبقى منك شيئًا ..
أحس بحُرقة قلبه فرفع كفه ضاغطًا على الوجع محاولًا اله ب من مرارة هالشعور لكن لا مفر .. أنصت لصوت الألم الصادح منه :
-تحطم جسرك ، وتحطمت معه ثقتي ،بات وجودك خطرًا عليّ وعلى كبريائي، يعز على قلبي أن أقول بُعدك الذي يحمل كفني قبلته .. واستبدلت قُبَلي بقبري ، الظلمة أهون من خداع نجومك .. وسحر تعويذتك التي طوتني كقطعة صلصال بين يديك .. من أيا ضِلع خُلقتِ ! تراكي خُلقتي من ضلع الحب حتى منحك عصاته السحرية !!
أطلق جياشة قوية وهزأ رأسه بفظاظة كأنه يُلقن عقله وقلبه درسًا :
-لكل بداية نهاية .. فوق يا عاصي ، فوق .. أنت محبتهاش ! واللي كنت عايزه وصلت له ، محتار ليه !! أنت كُنت مفكر أنها ممكن تاخد مكان مها ! البنت دي لازم تختفي من الوجود تمامًا ، خدت أكتر من وقتها وزيادة !
•••••••
” صباحًا ”
انفلق الصباح ، وتوسط قرص الشمس صحن السماء ، لن يتغير الحال كثيرًا عما طواه الليل ، ما زالت “حياة” تجلس في مكانها ولم تتحرك ، أصرت “عالية “على العودة لمنزلها بالقاهرة كي تلملم أشياءها .. قرر “عاصي” العودة إلى القصر آخيرًا بعد ما أخذ قراره النهائي بشأنهـا ..
بغُرفة ” تميم ” الجالس على نفس الطاولة مع ” شمس ” يتناولان فطارهم ، بدأت شمس حديثها برشفة من كوب الماء وقالت :
-اللي حصل إمبارح ده غريب أوي .. يعني حياة تختفي من الحفلة ، عاصي يروح القسم حتى هدير دي متحركتش من البار ، فضلت تشرب كتير أوي والمفروض ده غلط على البيبي ..
أيد تميم أفكارها وقال :
-أنا قلتلك أيه ! راقبي .. وتابعيهم من فوق ، العالم ده زي الألعاب النارية اللي بتتضرب في الهوا تعمل مفرقعات وألوان وأشكال مبهرة ، لكن لو قربتي منهم هتتحرقي يا شمس ..
ثم أطلقت تنهيدة قوية:
-تعرف أن هدير دي بتصعب عليـا ، شخصية مريضة بحب عاصي ، معندهاش مانع أنها تنتقم من نفسها عشان تلفت نظره ، هتندم أوي على العُمر اللي ضيعته هدر ده !
لكل منا صراع يجعل السكوت بداخله صراعًا أبدي ، لزم تميم الصمت مركزًا في حديثها حتى لاحظت شروده وهي تلملم المائدة الصغيرة :
-أنا أسفة رغيت كتير ..
مسك كفها بحنو وسألهـا:
-رايحة فين ؟
انتفض قلبها وهى تشد كفها من قبضته :
-أبدًا بس الكلام أخدنا ولقيتك سكتت ، حسيت إنني ادخلت في حاجات متخصنيش !
-مش شايف أي خصوصيـة ، أنتِ عرضتي مشكلة مهمة وكان لازم افكر الأول قبل ما أرد عليكي ..
تراجعت للخلف بسكون تراقب طريقة كلامه وتبدل معالم وجهه حتى قال :
-العقل في حرم الحب ما بيقدرش يتحكم ..
رفعت حاجبها بعدم اقتناع :
-أزاي ! حتى لو الحُب ده بيأذيني !!
-الحُب نبيل ومذل ، ملهوش منطق .. !
ثم أصدر إيماءة خافتة وتردد قليلًا قبل أن يُكمل بتخابث:
-شكلك عُمرك ما حبيتي قبل كده !
أحمر وجهها بحمرة الخجل :
-هاه .. لا طبعًا أنا مش فاضية للكلام ده ، ده أصلًا كلام فارغ بتاع مراهقين .. أنا هروح اسأل على ” حياة ” ..
شبح ابتسامة خفيفة ارتسم على ثغره ، وأخذ يُطالعها وهى تلملم الأطباق على عجل حتى جاء إشعار على هاتفه الذي تلقاه بلهفة وبعد ما قرأ ما تحويه الرسالة قال باهتمام :
-شمس ، في مشوار مهم لازم نروحه سوا …
••••••
وصل عاصي بزيه المبعثر وقميصه الهارب من طوق حزامه ، تجاهل هتاف ونداء الحرس عائصًا في كينونة قراراته السريعة التي اتخذها ، ركضت سيدة إليه مجرد ما رأته فهتفت بذهول :
-بعد الشر عنك يا بيه !! هما ضربوك في القسم ؟! شالله تنقطع يدهم اللي اتمدت عليك هما ما يعرفوش أنت مين ولا أيه ؟
لم تتفرغ رأسه لسخافات ” سيدة ” التي نسيت أنها تقف أمام عاصي دويدار بفخامته ، تراجعت خطوة للوراء منتظره رده ولكن بدون فائدة ، هرولت خلفه قُرب درجات السُلم :
-تحب أجيب لك فطار تلاقيك على لحم بطنك .. والست حياة هي الأخرى محدش شاف وشها !
وقف فجأة بدون أي مقدمات ثم استدار إليه بزاوية 180 درجة وقال بصرامة :
-شوفي شغلك يا سيدة !
تراجعت برتابة :
-ما هو معاليك شغلي بردو يا بيه ! وأنا بشوفه أهو .. إلا بالمناسبة ، ست حياة مالها !! دي آكيد اتنشت عين من امبارح ، الست كانت حتة قشطة .. هي كده عيون الناس رصاص .. تحب أرقيها يا بيه .
-أحب ماشوفتش وشك النهاردة يا سيدة .
ثم ولى ظهره نحو وجهته ومقصده ولكنه لم يخط خطوة فتوقف إثر نداء أمه :
-عاصي !
رمى بفتور سترته السوداء على جانب السُلم وطالع أمه بحنق :
-لو عندك حاجة عايزة تقوليها أجليها ..
صاحت نبرتها المعترضة :
-طبعا ! وأنتَ عليك بحاجة ؟ عيد ميلادي اللي باظ ، وشكلي اللي بقى زي الزفت والظابط بيسأل عليك ، ولا الهانم اللي طلبت معاها دلع واستعباط في يوم زي ده ! كل ده عادي ؟
ثم اقتربت منه خطوتين :
-أنتَ كنت فين ؟ مرجعتش البيت ليه ، المحامي قال لي أن الموضوع بسيط وو
قاطعها عاصي بحزم :
-وفري كل ده عشان أنا مش شايف ولا سامع حاجة .. ااه بس في خبر حلو هينسيكي عيد الميلاد اللي باظ إمبارح ده ..
احس باختناق قلبه لقراره المعاكس لهواه :
– أنا رديت هدير ، خليها تهدى !
ندبت سيدة على صدرها بدهشـة :
-يا نصيبتي !
جحظتها ” عبلة ” بغضب فتقهقرت تلك المسكينة تهذي مع نفسها وهي تضرب كف على كف ، يبدو أن القرار لم يرق لأمه ، بل اقتربت منه وقالت بضيق :
-طيب خلي الموضوع ده بينا لحد ما اتأكد من حاجة كده .. بلاش هدير تعرف دلوقتِ .
طالعها بعيونه الذابلة من كثرة التفكير وقلة النوم :
-اللي عايزاه اعمليه …
•••••••
وصلت عاليـة إلى شقتها وأخذت تلملم أشيائها وتضب حقائب حكايتها القصيرة معه بعجل ، أخذت ما تحتاجه فقط واستغنت عن كل ما أحضره إليه ، اقتحم الغُرفة وقال بجزع من كثرة محاولاته :
-أحنا لازم نتكلم ، أنا مش هقبل تخترع أوهام في دماغك وتاخدي عليها قرارات ..
رمت بكلل ما بيدها في الحقيبة ، وأخرجت الوجه الأخر لنسل دويدار :
-أنت ما بتزهق ! يعني خاين وكمان بجح !
صرخ بوجهها بحدة :
-متنسيش نفسك يا عالية ومتخليش الغضب يسوقني ويسوقك لطريق سد مفيش منه رجوع ..
تقدمت إليه وواجهته بحزم :
-ايه بتبلى عليك لاسمح الله !! ولا الست اللي لقيتها في شقتك بقميص نوم دي كمان تهيؤات !
-أنتِ ليه مش حاطة احتمالية إني أكون بريء وأن الست دي والله ما اعرفها ولا عمري شوفتها ولا عمري دخلت واحدة ست شقتي !
قهقهت بحزن دفين :
-ااه براڤو صدقت أنا كده ..
ثم لوحت بكلتا يديها :
-أنا شوفتكم بعينيا ! وبصراحة مستبعدش أنك تعمل حاجة زي دي بسهولة ، من غير حتى ما يرمش لك جفن الضمير !لان كلكم واحد وكلكم عايشين في مستنقع مُقرف لا يعرف يفرق بين الحلال ولا الحرام ..
“-أنا مش عاصي يا عالية .. ”
هربت الجملة من مخزن ظلمها إليه والاتهامات التي سددتها بقلبه ، كانت جملته كقنبلة موقوتة فجرت دموعها وصوتها وهي تصرخ بوجهه بانهيار :
-ما تجبش سيرة أخويا على لسانك أنت فاهم ! انت متجوز عالية دويدار ، عارف يعني أيه ! يعني ممكن اقبل أي حاجة منك إلا الخيانة عشان مش أنا الست اللي تتخان حتى ولو كان جوازنا صوري ..
مسح وجهه المحمر من شدة الغضب ثم قال بصوت خافت :
-وأنا مش هقبل أنك تمشي من غير ما تسمعيني يا عالية !
خرج من الغرفة وانشغلت هي بمسح عبراتها ولملمت بقية أغراضها ولكنها فوجئت بأنه يقفل باب الغرفة بالمفتاح ويمنع خروجها بالطريقة القسرية من ذلك السجن الذي اختارته بإرادته ، ركضت عالية نحو الباب وأخذت تضربه بعنفوان :
-دي اسمها حركات عيال وأنا مش هقبل أكون طرف في لعبتك الرخيصة دي يا مراد ، انسى ، انسى أنك ممكن تجبرني أعيش معاك للحظة ..
ثم عادت خبطت الباب بقوة قبل ما تنهار في البكاء :
-سيبني في حالي بقا وارجع للعالم بتاعك براحتك ، أنتو عايزين مني أيه !!!
كأن مراد رفض أن يكون عابرًا في حياتها ، كـخدشٍ بسيطٍ يمكن أن تعالجه بكحولٍ رخيص ضماد تتخلص منه في يومين وسرعان ما يلتئم .. بل أراد أن يكون ندبةً من شجارٍ عنيفٍ وقديم، ندبةً لا تُمحى فوق جلدها للأبد ، ربما هذا هو غرور الرجل ، أو بذور حبه التي تبدأ بجذور التملك …
•••••••
ثمَّة أوقات يكونُ فيها جوابنَا الوَحيد على أيّ شيءٍ يحدث سواء كان رائعًا أو مروعًا هو مُجرَّد تنهيدَة صغيرَة ، تلك التنهيدة التي اكتفى بها عاصي على أعتاب غرفته قبل ما تلمس يداه مقبض الباب .. تردد قبل الدخول ، أحس بزوال جميع قراراته ، وإنصهار غضبه ، وتبخر حالة الحزن التي كانت سببها ، لفح قلبه عطر وجودها بهذه الغُرفة ، لأول مرة يقف في مواجهه عواصف قلبه وجهًا لوجه أمامه ، تأكد أن كل ما مر قبل لقائها كان مجرد أشباه حب ، ولكن ذلك الحب الذي يحدث العواصف ويغرق في دوماته ويتخذ من النجوم خريطة ليصل إليها لم يعهده على إمراة من قبل ..
بلل حلقه الذي جف وهو يتذكر تفاصيل تلك الليلة المسروقة من الزمان ، وتلك الأحاسيس التي عاشها في طوق قُربها ومذاق التوت الذي تذوقه من سحرها ، فصدق تلك المقولة التي تُشيد “لكنّك لن تَتذوق رغيف الحياة حتّى يُطحَنُ قمح قَلبك”
تذكر حديث قديم بينهما بخصوص حزنه من ” عالية ” عندما ختمت نصيحتها إليه كي تحثه بالذهاب ليراضي أخته :
“-لما يفوت الأوان كُل واحد هيعرف قيمة اللي كان موجود معاه كويس .. ”
وصلت رسالة إلى هاتفه من يسري الذي أتم ما أمره به :
” كل حاجة اتنفذت بالحرف ، وحياة هانم العربية هتيجي تاخدها بالليل زي ما أمرت ”
علقت غصة الوداع في حلقه ولكن ابتلعها بنبيذ كبريائه وغروره المخدر الأول لمشاعره التي تتحكم فيه .. انكمشت ملامحه ودخل الغرفة مشدوهًا مما رأه ، ملابسه المبعثرة ، جلوسها بالأرض ، الزجاج المهشم بالأرض ، لم يبقى شيئًا بمكانه ، اتسعت عينيه بدهشة ورهبة إثر قطرات الدم المنبثقة من قدمها ، اندفع إليها بلهفة صرفت أشباح جبروته ونواياه وسألها وهو يفصح قدمها :
-أنتِ كويسة .. !
لم تُجبه بل اكتفت بالصمت والانكماش حول نفسها ، ركض وأحضر علبة الاسعافات الأولية من المرحاض الفوضوي وعاد إليها ليُضمد جرحها ، كانت هادئة مستسلمة تمامًا ، لم يتحرك بها ساكن إلا عيونها ، أخذت تُراقبه وهو يضمد جرحها بحنان بالغ وبحرص ألا يؤذيها ، رفع أنظاره الملهوفة نحوها :
-مين عمل كده ! أنتِ ؟
ما انتهى من ضماد الجرح أحست بالميول له ، أنها تريد أن ترتمي في حضنه لتشكو منه إليه ، أرادت إعادة ترتيب فوضاها وخراب قلبها بعناق طويل منه، تنسات أن الألم منه وباتت تبحث فيه عن الدواء .
كرر سؤاله بحدة بعد ما وضع علبة الإسعافات الأولية جنبًا وأخذ يتفحص الغُرفة:
-أنتِ ازاي تعملي كده ، أنتِ اتجننتي !
ابتسمت بيأس :
-ده بالظبط نفس اللي عملته فيـا ! حولتني لعشه مهجورة هيخاف أي حد يقرب منها ، زعلان أوي على هدومك وحاجاتك ، معلش بكرة تجيب غيرهم ، أما قلبي وروحي اللي أنت خربتهم مش في السوق يا عاصي بيه !
هز رأسه متفهمًا الحالة التي انخرطت بها ، وثب قائمًا بصمت متجاهلًا الرد عليها ومتجاهلًا حنين قلبه لها ، ولى ظهره ليغادر ولكنها هرولت خلفه بدون الاهتمام بجرحها وعاتبته :
-أنت كده مبسوط بعد ما وصلت للي عايزه .. كده رضيت غرورك ورجولتك !
ثم دارت حوله وهي في حالة ذهول :
-أنا أزاي صدقتك ، وأزاي وثقت فيك كده ! أنا اتخدعت فيك للدرجة دي ، أنت عملت كل المسرحية الرخيصة دي عشان توصل للي عايزه وبس !
اندفع سيل الحزن من مُقلتيها وهي تقف أمامه وجهًا لوجه :
-هو سؤال واحد وبس ، ليه عملت فيا كده ! طيب كنت تستنى لحد ما أعرف أنا مين ، وأوصل لأهلي ؟ أنت رجعتني البحر ورميتني للسمك من غير حتى ما تسيب معايا سـلاح أدافع بيه عن نفسي !
ثم حدجته بنظرات العتب :
-أنت كسرتني أوي ، أنا عُمري ما هسامح يا عاصي .. عمري!
لم ينكر تأثره بالحالة التي وصلت لها ولكنه قرر أن يُدافع عن رجولته أمامها :
-أنتِ ليه محسساني إني ضربتك على أيدك ! ما هو كله كان برضاكي !
حرقها بجمر الإهانة في صميم قلبها ، قفلت جفونها لتسكب ماء الضعف وطاحت بوجهه بانفعال :
-أنا مكنتش في وعيي .. العصير ، العصير اللي شربته ده كان فيه حاجة .. بس، بس كل ده ماينفيش التهمة من عليك ، لقيتني لقمة سهلة وقتها وقلت تستغل الفرصة ، وأهي مش واعية بحاجة .. انا بكرهك ، بكرهك يا عاصي دويدار ، وهفضل كل يوم أجدد كُرهي ليك على اللي أنت عملته فيا .
أغضبته إهانتها ونفورها منه للحد الذي اختلط فيه التبرير من التبجيح ، بخ سُمه بوجهها :
-أنت أيه الدراما دي كلها ! هي كانت أول مرة ولا أيه ..
ثم اعتصر رسغها بقبضته القوية وأكمل بصوته الجمهوري :
-متعشيش في دور الضحية وتشيليني الليلة كلها ، واضح أن الهانم ماضيها كان ما يسرش وجاية عندي ترسم دور ستنا الشيخة !
شُل تفكيرها لاستهجانه وسوء أدبه ، طالعته بعيونها الذابلة والحامضة من البكاء :
-أنا مش فاهمة حاجة ، أنت بتقول أيه ؟
دفعها بقوة على السرير فأرتطم كوعها بألم وصرخ عليها :
-القدر كشف لعبتك يا خسارة وأنا اللي اتخدعت فيكي وفكرت أنك ممكن تكوني أم ولاد في يوم من الأيام .. اااه واللي حصل ده بجملة المحطات اللي عديتي عليها ..
يبدو أن كل منهما سبب جرحا غائرا في قلب الأخر لا يداويه إلا الحب ، الحب الذي لا يقبل اللوم ولا العتاب ، لا يحمل إلا راية الشوق والغفران ، احترق كل منهما في نيران أفكاره وانساق وراء اتهامه للأخر دون ما يلتمس العذر أو يفسح مكانًا لغدر الزمن بقلوبنـا ..
••••••
< مسـاءً >
“-زي ما بقول لك كده يا ست هدير ، والله عاصي بيه ردك لعصمته ”
هللت أحدى الخادمات التابعة لهدير بتلك الجملة بعد ما تلقت نواح سيدة وحزنها على تلك الجميلة التي أحبتها ، وقفت هدير مشدوهة لا تدرك ما ستفعله ، تفرح أم تحزن ! تخشى أن يكون هراء يبعثر عقلها أكثر ، مزيج من الفرح والدهشة والقلق ، أخذت تقفز هنا وهناك ثم رمت الخادمة برُزمة من النقود :
-والله تستاهلي كل ده ، خدي حلي بؤك ، وارمي ودنك دي مع سيدة أد ما تقدري !!
الخادمة بفرح :
-عيوني يا ستي …
ارتدت هديـر ” روبها ” وهندلت هيئتها وقالت بصوت مسموع :
-كده بقينا ضراير يا ست حياة ، لازم أزف لك الخبر بنفسي …
< بعيدًا في حي الجمالية >
بأحد المساكن القديمة وصل ” تميم ” بصحبة ” شمس ” بعد ما استعانوا بأحد النجارين لفتح الباب القديم الذي ضاع مفتاحه ، ما انهى النجار عمله دخل تميم ليفتش عما جاء لأجله ، قفلت شمس الباب وراءه وتفقدت المكان بحيرة ورهبة :
-تفتكر هنلاقي اللي جايين عشانه !
رد بأمل :
-الشقة دي فضلت ادور عليها سنين لحد ما وصلت ، يمكن ده وقته يا شمس !
تقدمت خطوة نحو أحد الغُرف ثم تراجعت مُتسائلة :
-أحنا ممكن نلاقي فيران هنا !
صدرت منه ضحكة عذبة على براءتها وخوفها الواضح من الفئران ثم قال بمزاح :
-ده فيران وتعابين وممكن تلاقي كائنات فضائية كمان ..
تنهدت بارتياح ثم وبخته :
-ممكن متهزرش في الحاجات دي ، هيبقى موقف مش لطيف عشان بجد بخاف .
-طيب خلاص خليكي جمبي وندور مع بعض في نفس المكان ..
ثم رفع حاجبه مازحًا :
-عشان ألحق الموقف من أوله .
تبسمت شمس مؤيدة فكرته وشرع الثنائي في البحث عن دليل قطعي كانت تخبأه أمه وأسرارها الدفينة عن قصر دويدار ، غرفة وراء الأخرى حتى المطبخ لم ينج من بحثهم وتفتيشيهم المتواصل ، عثرت شمس على صندوقٍ بأحد ضُلف المطبخ فصاحت بفرحة :
-تميم أنا لقيت ده !!!
تحرك تميم إليها وقال بأمل :
-هو ده اللي بندور عليه …
<عودة إلى قصر دويدار >
مرت الساعات خاصة بعد ما فجرت هدير قنبلتها في وجه حياة التي لا حول لها ولا قوة ، عزمت حياة أن ذلك ليس مكانها ولا ملجأها وأن وجودها هنا إهانه لها ولذاتها ، أحست بالدنوء والظلم والإذلال ، وأنها أصبحت فتاة ليلية لا تختلف عن ضحاياه كل ليلة .
ارتدت بنطلون أسود وسترة سوداء وقررت الرحيل وهجر عرين الأسد والتخلص من قهره ، قفلت الباب بحذر وتسلل بخفة كاللصوص ، أكلت خطاوي الأرض بسرعة هائلة ، كانت تراقبها عبلة من أعلى وهي تشيعها بنظرات النصر :
-وأخيرا خلصنا منك يا ست حياة !
على المقابل وصلت السيارة التي ستنقل حياة إلى الغردقة ، لتغادر حياته بلا عودة ، وصلت حياة إلى الباب الخلفي وهي تفحص المكان وراءها جيدًا ، أخذت تتوارى وراء الجدران كي لا يراها أحد فيفسد مُخططها في الهرب ، كانت هناك أعين خف تتبعها برهبه وخوف ، تتبع خريطة هروبها حتى أجرت مكالمة هاتفية سريعة ثم أكملت تتبع مسار “حياة ” ، قطعت مساحة كبيرة من الحديقة الخلفية حتى وصلت إلى جراج اسطول سياراتها في اللحظة التي كانت تفحص المكان خلفها ولت وجهها لتصطدم بعيونه الصقرية وهو يسألها :
-علي فين ؟؟؟؟!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)