روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الثاني والسبعون 72 بقلم نهال مصطفى

موقع كتابك في سطور

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الثاني والسبعون 72 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني والسبعون

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت الثاني والسبعون

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الثانية والسبعون

🦋الفصل الحادي عشـر 🦋
<الجزء الاول من الفصل >
الأزمات النفسـية المفاجئة مرعبـة ، لا تُبيح لك حرية التصرف كما ينبغي ، لا يمكنك أن تصرخ ، تعترض ، تضحك ..على حين غُرة تتكبـل وينعقد لسانك وتُشل حركتك ، تتجمد بمكانك لدرجة أنك لا ترى ما ترى ..
ضرب الدوار رأسها وانصب بمعدتها فاستندت على جذع الشجرة لتعيد الكرة .. في تلك اللحظة التي توسط فيها شعاع الليزر منتصف ظهرها وبمهارة قاتل محترف يعرف من أين تُسلم الأرواح لملك المـوت ؛ ضغط على زر بندقية القنص في نفس اللحظة التي تكورت فيهـا حيـاة بداخل حضنـه لتتقيأ..
صوت مروع .. مرعب ، صوت رصاصة خرجت من سلاح أحدهم فجرت صرخات عدة من أجواف المارة .. برعب طفلـة بالغابة استمعت لصوت حيوان متفرس ، صرخت متحاميـة بصدره متشبثة بملابسـه ..
أخترقت رصاصة العدو كتفـه ولكن ذلك لا يحرك أنش بجسده كي يظل يحميها ، كي تظل آمنـه في سربـه .. اندست حوريته بين سياج صدره كي لا ترى العالم المخيف وراء حصنها المنيع ..
لحظات مرت ببطء سنوات على قلبها المرتعد حتى شعرت بارتخاء قبضته عليـها ، وزمجرة أصوات الحشد الجمهوري من خلفهـما .. تراجعت ببطء مخيف ، بطء مثقل بمخاوف الفقـد ، بطء يرفض مواجهة الحقائق.. انسحبت يدها المرتجفـة من وراء ظهرها وقبل أن تراها ارتفعت عينيها لعينيه المكدسـة العِبرات وكانها تتوسل إليه أن ينفس أحساسها ، أن يطمئن قلبها المرتعدة .. بتلك الشفاه المرتعشة غمغمت باسـمه وهي تفحص ملامحه المنكمشة من قسوة الوجع :
-عاصي ..
خدعه جسده من شدة الخفقان في تلك اللحظة جعلته يضطر إلى الإتكاء على جذع الشجرة .. احتد الألم عليه حتى شعور ببتر ذراعها ، انعقد الجميع خلفهم فواجهـت حينها الحقائق عندما رأت دمائـه تكسو كفها .. كانت الرصاصـة بكتفه ولكن الآلم يُغرز بقلبها غرزة غرزة .. اهتزت رأسها بالرفض ، رفضًا قاطعًا أن يصيبه مكروهًا ، رفضًا لبعده عنها ، رفضًا لجميع الأحداث المروعة .. تأوهة متحملًا الألم يتكأ على الشجـرة ، آمرًا :
-كلميهم في القصـر يجوا يأخدوكي ..
تقطعت الكلمات في شِدقـه وهو ينهزم أمام الألم :
-مطلعيش من البيت يا حياة ..
-لا ، انا مستحيل أسيبك ..
لم تجد نفسها إلا تضمه إليها وتتوسل صارخة :
-ألحقوني .. حد يلحقنا ..
ثم أخذت تضرب الارض بقدميها من شدة عجزها ، وتواسيه :
-عاصي .. لا ، انتَ مش هتسيبني كده !! عاصي لااا .. ده مش اتفاقنا ..
فتزلزل كيانها بصرخة مندلعـة :
-ساعدوني …
حدث عمره الزمني لا يتجاوز الثلاث دقائق ولكن صداه الألمي سيظل ملازمًا لعمر المرء كظله .. جاء عدد من طاقم التمريـض وهو يركض بالـسرير المتنقـل عندما أبلغ موظفي الأمن أدارة المشفى على الفـور .. حملوا عاصي منبطحًا على بطنـه وهروله به لأعتاب المشفى ..
خرت قواها الجسديـة للحد الذي لم يتبقى منه شيئا حتى أنها عجزت على الإلحاق به .. سير خطوة وتسقط الخطـوة الثانيـة حتى تقدمت لها أحد السيدات بالمكان وساندها في الذهاب خلفه ….
******
~ڤيلا عاصي ..
أزاح تميـم ستـائر الغرفة المُطلة على البحـر مباشـرة متعمـدًا إيقاظ تلك النائمة التي افسدت عليه ليلة الأمس إثـر عنادها .. فتح نافذة الغرفة فداعب هواء البـحر البارد ملامحه المغبـرة بزحام القاهرة .. كان الموج يتلاطم هنا وهناك .. طافت عينيه المنبهرة بروعة وجمال موقع البيت فأغرى الموج ذاكرته فـ تذكـر حدثًا قديمًا بينـه وبين أمه :
-تمـيم ، الموج عالي بلاش تنزل البحر النهاردة ..أنتوا داخلين على ٣ث ومش عايزين أي أصابات تعطلكم .
توسلت إليه أمه كي يتوقف عن نزوله للبحـر ولكنه أجابها بطيش مراهقيـن وهو يتمسك بيدي مراد :
-متخافيش علينـا ، المفروض الموج هو الـ يخاف مننا ..
فتدخل مراد معبرًا عن تأييده لحديث صديقـه :
-متعـة الحياة الحقيقية في موجها العالي ..
ابتسمت مديـحة وهي تتفقد تمسك الرفيقين ببعضهما ثم قالت بنبرة واعظـة :
-متعة الحياة الـ بجد أنكم تواجهوا موجها وصعوباتها وأيديكم في أيدين بعض كده ..
غريب أمر الذاكرة ، يمكنها أن تسافر بك عبر الزمن للحظات تمنيت ولو لم تنته أبدًا ، بنفس الشعور وبنفس اللهفة الماضية .. تعلق في ذيل المستحيل ، ذلك المستحيل الذي لا يمكن تكراره .. وأيضًا تخدعك وتلهيـك وتنسيك أكثر الأشخاص حبًا لقلبك ، أناسٍ بات لقائهم يجتاح إلى الذهاب للعالم الآخر بدون عودة ..
عاد إلي رشده إثر نداء صوت شمس المفعم بالنـوم ؛ تتسائل :
-هي السـاعة بقيت كام دلوقتِ !
رد باختصار بعد ما أخذ نفسًا طويلًا كالعائد من سفره البعيد وقال :
-لسـه ٩ .. كملي نوم .
لاحظت شحوب ملامحـه ، فرفعت الغطاء من فوقها وتحركت نحوه ، مررت أناملها فوق ملامحه المتغيرة وسألته بلهفـة :
-تميم ، فيك حاجة ..؟!
دومًا ما ينقـم المرء منا على تلك الصعوبات التي اغتالت براءته وأيامه الجميـلة ، أجبرتنا أن نكون أشخاصًا غير الذين نتمناهم .. خلقت منا قناع مزيف لا يمكننا انتزاعه ؛ ولى وجهه للبحر وقال بترجي :
-لو كانت أمي عايشة !! ولو كان مراد فضل صاحبي طول السنين الـ فاتت !! ولو مكنتش ضيعت سنين عمري متكتف على كرسي عشان أنجو من شر عبلة .. ولو فعلا طلعت عالية أختى ومن دمي وأحضنها براحتي زي ما كنت .. ولو ..
تأملت وجهه المليء بالدفء ، تلك الملامح الحنونة التي تطمئن قلبها بأن كل شيء سيبقى على ما يُرام .. فقاطعته ناصحـة :
-لو كانت مامتك عايشة كُنت مسيرك هتفقدها في يوم ما جاي وهتعيش نفس الوجع من جديد ..
ولو مكنتش قضيت عمرك متكتف على كرسي عمرنا ما كنا هنتقابل .. وكان ممكن حياتك وقلبك يعصوك وتغويك الدنيا زي ما غوت عاصي ..
ثم استقر كفها فوق كتفـه وأكملت مواسية :
-ولو على عاليـة ، في أختكم حتى ولو الشرع والقانون أنكر .. بس مفيش سلطان ممكن يتحكم في هوى القلب والحب الأخوي الجميل الـ بينكم ..
فـ بللت حلقهـا وأكملت لتختم حديثها :
-كل حاجة بتحصل في حياتنا آكيد وراها حكمة .. وآكيد هيجي الوقت ونعرفها .. ده اسمه” قدر المرء من قبل أن يولد” ، يعني سهم نفذ لطريقه ومفيش حد يقدر يوقفه .. بس نقدر نهون صعوبته على بعض .. ملناش حق نعترض ، بس نقبله زي ما هـو .
زفـر مآسي سنوات عمـره وقال باقتناع :
-معاكِ حق ..
قررت أن تلطف الأجواء المشحونة بعينيـه قليلًا وقالت :
-وبعدين أنتَ بتفكر في كل الحاجات اللي مضايقك .. وناسي أن في ضيف جديد هينور حياتنا كمان كام شهـر !!
فعقدت حاجبيها ممازحة :
-ممكن أعرف فين ابني من تفكيرك !
ابتسـم رغم عنه وولى إليها مصدرًا ظهره للبحر وذكرياته التي لا تَرحم ؛ مسح على شعرها المنسدل بـ كفيـه ثم تربعت قبلتـه على جبينها وقال معترفًا :
-أنتـوا في قلبي وكل ما ليـا يا شمس .. أنت الحاجة الصح الـ جات في الوقت الصح بالتمام ..
ولكن طيف ليلـة أمس حل كالضيف الثقيل برأسـه،غمز بعينيـه مداعبًا :
-تعالى هنا ! أنتِ ازاي ياهانم تستجري وتنامي قبلي ليلة إمبارح ؟!
-الله !! مش أنت اللي صممت على مُعز !! وبعدين اسم ابني هيكون بالاتفاق ما بينـا ..
تجاهل مبررهـا بإصرار :
-ايوة بردو ، ازاي تنامي قبلي وتسبيني كده دماغي تودي وتجيب !
-كُل ما تزعلنـي هسيبك وأنام ، عشان تعمل حساب زعلي من هنا ورايح ..
ثم انكمشت أعينها بنبرة تهديـديـة :
-خد هنا ، دماغك دي كانت بتودي وتجيب في أيه بالظبط ؟! عشان شكلي هسيبك وأكمل نوم ..
أقبـل نحو شمسـه بشغف متجمـد يلتمس الدفء من نورها وقربهـا .. كانت بين حضـنه بغتـة وبدون إذن مسبق توحد ضربات قلبهمـا ، تمسكت أناملها بياقـة منامته وقالت بهمس :
-تميم بطل جنان ، أحنا مش في بيتـنا ..
اقترب منها حد تولى أنفاس مهمة القبـل بدلًا من شفتيـه .. شرعت يداه بالتنقل بحُرية فوق شمسـه الدافئة دومًا وقال بنبرة مبطنـة بالسخرية والهيـام :
-مرة نوران بره ، مرة تقولي تميم أحنا مش في بيتنا .. مرة لازم انزل المستشفى .. وأنا فين من كل ده ؟!
تحولت يديهـا منكمشة فوق صدره لِعناق لطيف وكأنها رفعت يديها مستسلمة ومتنازلة عن جميـع أسلحة منعـه .. سند جبهتـه فوق جبهتها فامتزجت الأنفاس وتوحدت الرؤية فكل منهما لا يرى إلا ملاذه بوجه الآخر .. بادر ببسيل من القُبلات الخفيفـة وكأنه يمهد لعاصفـة عاتيـة .. ذابت شمس في حضن قمرها مستسلمة ، ومستمتعة بمذاق الحُب الشهي الذي يروي قلوبهما المتعطشـة .. كل منهما يعرف طريقه جيدًا في اسعاد قلب الأخر .. فهو لا يميـل إلا لكل ما هو حنون ، كذكريات أمه والقهوة ويديهـا ، فكان حضنها ملجأه الأمان دومًا .. أما عنها فكان يغمرها بقسوته التي تستمد منها القوة لجسدها الهشـم ، فيتسلل لداخلها شعور الأمان كمن يعانق سورًا حديدياً … فجأة تتحول جميعُ الأشياء ناعمة على قلبك بجوار مَن تُحب .. تراجع الجسدان بمهلٍ للوراء حتى لمست ساقيها ذلك التخـت .. جلست فوقـه ببطء متبعًا جميـع خطواتهـا بآهات ملتاعـة تعكس تلك المشاعر المحترقة .. افترق الجسدان المتخدران بسُكر حبهما لبرهـة تمنحه الفرصة لتحرر من كل ما يعيق لقائهـم ، ولكن بعض المشاعر كُتب عليها ألا تَكتمـل ؛ صوت مضطرب وخائف يبنعث من أمام باب غُرفتـه :
-الحق يا تميـم بيـه ..
كمن سكب دلو مثلج فوق جسده وهو يقول نادمًا وهو يتناول سترته :
-أنا لو كنت عارف أن سيدة هنا مكنتش عملت حاجة .. قومي ياشمس ، قومي ، حاسس أني متجوزك مع سيده ..
بنيرانه فتح الباب وهو يعض على شفتيـه :
-هلحق أيه ياسيـدة ! دا انا عايز الـ يلحقني منك ..
بنبـرتها المرتعدة أخبرته :
-عاصي بيه اضرب بالنار قُدام المستشفى .. الحق أخوك بيموت ..
حاول استيعاب ما ترويـه حتى تسائلة مذهولاً :
-ازاي يعني ؟! عاصي !!
*******
~بالمشفــى ..
وخاصـة بغُرفة عاليـة وهي تتناول وجبتها جبرًا إثر إلحاح مراد الذي هتف قائلًا :
-عاليـة الأكل ده كله لازم يخلص .. يلا ..
تمنعت بإصرار ممزوج المزاح :
-مراد ؛ بجد مفيش حد بيفطر فراخ مشوية .. حرام عليك ..
-أنتِ والدة ولازم تتغذي كويس .. كملي دي بس .
تلاقت أعينـهم المغمورة بأسمى أنواع الحب وألطفهـا .. حيث غيرت محور الحديث متسائلة :
-كان يجي لك نوم وأحنا بعيد عنك ! طيب مش بيجي في بالك الحمل تابعني أد أيه ومحتاجة حضنك عشان يهون عليـا الرحلة !!
ثم أغرورقت عينيها بالعبرات :
-قسيت عليـا أوي يا مراد ..
خربشت بأهدابها المبتلة من كثرة الدموع فوق قلبـه .. فهز رأسه متفهمـًا :
-عالية أنت كنت متراقب ، وكمان عمري ما كنت هسامح نفسي لو جرالك حاجة ومعرفتش أحميكي .. التهديدات كانت بتوصل لبيتنا .. كان لازم أبعدك عني عشان اشتت تركيزهم .. ومفيش غير عاصي اللي هيعرف يحميكي ..
ثم مال إلى كفوفها ليغمرهمـا بقبلات إعتذاره وقال :
-وعد مني مش هبعد عنك أبدًا ، وهعوضك أنتِ وغالية عن كل الأيام الـ كنت فيها بعيد .. أنا ماليش غيركم دلوقتِ ، سامحوني عشان نعرف نكمل ..
ردت بنبرة حنونة يحاوطها الغفران :
-أنا عمري ما عرفت أزعل منك .. بس بفضفض ، بسألك بس ..
ابتلعت غصـة أوجاعها وقالت مغيرة مجرى الحوار :
-هما فين لحد دلوقتِ محدش جيه منهم ، وكمان مامي لسه موصلتش!! دي وحشتني أوي .. تعرف كانت تيجي كام ساعة كل اسبوعين وتمشي مابلحقش أشبع منها ..
هنـا وصلت سوزان التي قطعت المسافات كي تكون مع ابنتها .. فتحت الباب بدون استئذان وارتمت في حضنها وهي ترحب بسلامتها .. غمر الشوق قلب الأم وابنتها ولكن جاء اتصال تميم لمراد ليخبره بحذر وهو يركض مغادرًا البيت برفقة يونس ورشيد :
-مراد ، عاصي اضرب بالنار عندك قدام المستشفى.. بلاش عالية تاخد بالها ، روحلهم وأنا جاي في الطريق .
وثبت مراد مفزوعًا وبدون أي مقدمات غادر الغرفة بعجـل كل لا تلاحظ زوجته سبب تعكر ملامحه فينفضح سرهم …
ألقت ” شمس ” آخر أوامرها على مسامع اختها :
-أنتِ وكريم خليكم هنا عشان البنات ، البنات ميحسوش بحاجة يا نوران .. وأنا هروح أقف مع حياه ..
ثم نظرت لسيدة بعجلٍ :
-يلا بينا يا سيدة ….
جاء كريم راكضًا من أعلى وهو يقفل في أزرار قميصـه ملهوفًا حتى وقف أمام نوران متسائلًا :
-حصل أمتى الكلام ده ؟! وعاصي أخباره أيه ؟!
هزت كتفيها بعجز عن جاوبها :
-معرفش معرفش أيه حاجة يا كريم .. أنا قلبي واجعني أوي وخايفة يحصله حاجة، دي حياة تروح فيها .
انتهى من قفل أزرار قميصـه وقال بحماس :
-أنا هروح لهم .. متتحركيش من البيت ..
تشبثت فـ ذراعه قائلة بتوسل :
-شمس قالت نقعد مع البنات .. وأنا بجد خايفـة ، كريم متمشيش ، متروحش مكان خليك هنا .. خليك هنا معايـا .
ثم تأرجحت عينيها بتوجس وهي تعاتب الظروف :
-كريم ، كل الكوارث الـ بتحصل دي عشان بس قررنـا نتخطب !!
قرر أن يهون صعوبة الموقف عليها وهو يدنو منها مداعبًا تلك الخصلة المتدلية من شعرها وقال :
-لو انطبقت السمـا على الأرض .. بردو هنتجوز ، الكوارث معاكِ تهون يا نوري .
ضربته برفقٍ على كتفه بضحكة متفجرة من جُب حزنها :
-خف نحنحة ، الراجل بيموت فالمستشفى ..
*******
~عودة للمشـفى ..
“أنتِ كالبحـر وأنا المُبحر بِك وفيكِ والغريق ”
أهـم جـملة قيلت من قلبـه عندما أخبرته يومًا بأنها تود العودة للكتابة من جديد ، ولكنها طلبت مساعدته في أول جملـة يمكنها أن تفتتح بها قصـة جديدة ، جملة تخصهم وتصفهم لأنـها حتمًا ستكون عنهمـا ..
يجلس أمام مقعد القيادة الخاص ” بـ يخته ” حيث استند على عجلة القيادة بعد ما طافت عينيه بالماء والسماء ثم رست عند عينيها المصبوغة بلون البحر والسماء .. وثبت من مكانه والهواء يطاير قميصه كما تفـعل عيناها بقلبه ، وأمعن نظر بتلك الأعين التي آسرته وقال :
-“أنا المبحـر بكِ وفيكِ والغريق ..
أنت مزيج رسيلي وبحري ..
فيكِ الفرات والأجاج ..
وأن أحبك قبيلة من معشر الرجال ..
فلن يحبوكِ إلا نقطة من بحري ”
رمقتـه بانبهـار يتقاذف من مُقلتيهـا :
-أيه الجمال ده !! أنتَ اتعلمت الشعر فين !
-من عينيكِ ، الـ لو شافهم أكبر شاعر؛ صدقيني هيفضل يكتب عنهم لحد ما يموت ..
رست أناملها فوق وجهـه المحترق من لهيب الشمس أم الحب ؛ أيهمـا أقرب .. وقالت :
-لما بمسك القلـم واكتب بحس أني أقوى واحدة فـ الدنيا ، واحدة مفيش مخلوق ممكن يغلبها في الحوار .. لكن وأنا واقفة قصادك كل الكلام بيهرب مني ، ويتخلى عني .. اللحظة دي بس عرفت إنه مش بيهرب ، هو بيعجز قدام وصف حُبي ليك ..
بصـرخة وجع يضاهي ألف طلق ولادة وألفي حرق بالنار تكورت حياة الجالسة أرضًا أمام غرفة العمليـات حول نفسها كالقرفصـاء .. بانتفاضة روح وانهيار قلب فكيف سيكون حال الجسد الذي يحوى جملة تلك المشاعر القاتلة ..
لاحظ مراد حالة الانهيار التي تدق على أبواب تلك المسكينة فجثا على ركبتيه متفوهًا بهدوء:
-حياة مش هينفع كده ، أجمدي .. عاصي هيبقى كويس .
لم تتكفل بالنظر إليه بل فضلت البقاء في ظلمتها، وبقاء وجهها مدفونًا بين ركبتيهـا ، يأس مراد من حالتهـا ولكن تعلق ببريق الأمل عندما جاءت شمس بصحبة تميم وأخواتها..
جلست شمس بجوارها وضمتها إلى صدرها وأخذت تربت على كتفها بحنان زاخر .. تدخل تميم متسائلًا بصخب :
-أيه اللي حصل يا حياة ومين عمل كده !!
تدخل مراد وسحبه بهدوء بعيدًا عنهم وقال :
-اهدى مش وقته ، نطمن بس على أخوك وكله هيتحل .. أنا عارف مين الـ عمل كده ..
-مين يا مراد ؟!!!
عودة لشمس التي تحاول بشتى الطرق أن تواسي تلك المسكينـة التي تتساقط قواها شيئا فشيئا.. حاولت أن تخرجها عن صمتها :
-طيب حبيبتي اتكلمي ، بلاش تسكتي ، طلعي كل الـ جواكي .. السكوت ده غلط عليكِ ..
رفعت وجهها الشاحب ببطء وهي تطالعها بضباب عينيها :
-كنت بتحامى فيه من شدة الصوت يا شمس ، معرفش أن الرصاصـة في جسمـه هو ..
سيدة مواسية :
-هيبقى زي الفل ياحبيبتي اهدي ..
أمسكت بقلبها وهي تكمل سـرد الحادث المروع وترى بقايا دمه بيدها :
-كنت .. كنت في حضنـه من دقايق .. ودلوقتِ بقيت ما بينا حيطان وفواصل وأوضة عمليات .. شمس أنا مش هعرف أعيش من بعده ، انا ، أنا اصلا حاسة أن هيجرالي حاجة ..
ضمتها شمس مرة آخرى وأخذت تربت على كتفها بحنو ؛ تهامست مقترحة :
-طيب أيه رايك قومي معايا نتوضى ونصلي وندعي له ، هو محتاج دعواتنـا دلوقتِ .. قومي معايا يلا ..
كتائه في الضباب يبحث عن شعاع واحد للنـور فلـم ، اتكأت على المقعد الحديدي المجاور لهـا ومستندة بكوعهـا على شمس وما انتصب طولها اختل اتزانها فـ خرت ساقطـة مغشيًا عليهـا ؛ صرحت شمس مستغيثة :
-الحقيني يا سيدة ، تميم تعالى بسرعة ..
ركض الجميع لـ تلك الفتاة المحبة التي غاب عنها وعيهـا لمجرد تخيلها لفكـرة غياب طيف عشقها عن عالمها ، نزع رشيد سترته السوداء وانحنى ليحمل أختـه جاهرًا :
-فين الدكتور الـ هنا ..
ركض يونس خلف أخته المُغيبـة ، هتفت شمس بخوف :
-انا هروح اشوفها ، خليك هنا مع عاصي …
مرت قرابـة الساعـة وأصعب ساعة على الجميـع ؛ خرجت شمس من الغرفـة التي حُجزت بها حياة في الطابق الأخر متجهة للطابق الخاص بالعمليات وهي تنزع الماسك الطبي عن وجهها متسائلة :
-مفيش أخبار عن عاصي !!
أجابها مراد :
-احتاجوا نقل دم والحمد لله عينته كانت متوفرة فالـمستشفى .. بس لسه الدكتور مخرجش ..
ثم تدخل تميم متسائلًا :
-حياة عاملة ايه !!
أجابت بحزن وخيم :
-للاسف طلعت حامـل و ضغطها واطي جدًا وحالتها النفسية صعـبة أوي ، والدكتور رفض يديها أي مهدئات قبل استشارة طبيب مختص .. والقلق والتوتر غلط على حملها .. علقوا لها محاليـل ودكتور النسـا جوة معاها ..
ثم ضرب الدوار رأس شمس من شدة الإرهاق فاستندت على زوجهـا بضعفٍ ، تلقاها بلهفـة وهو يساعدها فـ الجلوس فوق المقـعد :
-حبيبتي ارتاحي .. هنزل أجيبلك عصيـر ..
-لا أنا تمام ، شوية إرهاق بس ، نطمن على عاصي بس ..
في تلك الأثناء ؛ خرج الطبيب من غرفة العمليات، فأقبـل الجميع نحوه بلهفـة ، فتفوه الطبيب قائلًا :
-الحمد لله اتكتب له عمر جديد ، الرصاص كانت على بُعد لا يذكر من العمود الفقري ، بس ربنا ستر والعملية عدت على خير ..
تدخل تميم متسائلًا بلهفـة على أخيه :
-يعني مفيش خطر على حياته يا دكتور !! هيبقى كويس .
-إن شاء الله …
~بغُرفة عاليـة ..
تجلس سوزان حاملة حفيدتها بين يديها وتلاعبها ، تراودها تلك المشاعر الممزوجة بين حملها لصغيرتها التي لم تراها بعد ذلك الحضن ، وتلك الملاك الصغير الذي يحمل ملامح امه الرقيقـة .. أرفت عالية بقلق :
-مامـا هو مراد اختفى فين ، ده له ساعتين مختفي ..
ردت سوزان بصوت خفيض كي لا يزعج ملاكها النائم :
-آكيد سابنا على راحتنا ، دلوقتِ يجي ..
تمتمت عالية بقلق:
-ربنا يستر ، قلبي مش مطمن .. مامي حضرتك كُنت تعرفي الـ بيعملوا مراد .؟!
أطرقت سوزان بأسف:
-كنت عارفـة ياحبيبتي ، وخبيت لمصلحتك ، حياة البزنيس مطحنة مابترحمش ، بنتحول فيها ١٨٠ درجة ، لازم نتخلى عن اي عواطف ومشاعر عشان نكمل .. أنا فاهمة عاصي ومراد عملوا كده ليه ، وأن دا الصح .. بكرة لما تنزلي سوق الشغل وتشوفي الديابة الـ مستنياكِ هتعرفي هما عملوا كده ليه ، مش قسوة منهم ، بس خوف عليكِ ..
فكرت طويلًا في حديث أمها وأدركت أن ما حدث كان بدافع خوفهم عليها .. تجردت من أحزانها وقالت :
-عارفة لمـا صحيت بالليل ومالقتش غيره معايـا ، حسيت أن فعلا ملناش غير بعض .. مراد دنيته مع مامته وأهله مش أحسن حاجة، فـ بلاش ازود عليه الحمل مش كدا .
ربتت الأم على ساق ابنتها وقالت بإعجاب :
-عين العقل يا حبيبتي ، هو ده الكلام الصح ..
تأرجحت عيني عاليـة بحرج وقالت :
-مامي ، ممكن اسال سؤال ، بس لو هيضايقك بلاش تجاوبي ؟!
-قولي يا قلبي ..
بللت حلقها بتردد ثم سألتها :
-حضرتك لسـه بتحبي عاصي؟! .. أنا كل مرة بشوف نظراتك وطريقة كلامك عنـه ، حتى التسهيلات في شغله الـ بتساعديه فيها طول الوقت ، ده اسمه ايه !
اتسعت ابتسامة الخزى من وجهها وأخذت نفسًا طويلًا يعني أن الحديث لمس جزءًا عميقًا بروحها وقالت :
-أنا حبيت عاصي ، مش هنكر .. فرق السن ما بينـا مش كبير على فكرة متتخضيش ، وحاولت كتير نتجوز ، ويكون معايا راجل زيه يملا حياتي وننجح سوا ، وعبلة كانت تتمادى في إقناعي بـده .. لكن لما رجعتِ لي ومليتي عليـا حياتي ، قلبي استغنى عن كل المشاعر مقابل وجودك ..
مش هكذب وأقولك مش بحبه ، بس اقتعنت أن عمره ما هيكون ليـا ، هو مع الـ اختارها قلبـه …
أشفقت عالية على حال أمها ووجع قلبها وقالت :
-حبيبتي يا مامي ، أنت تستاهلي أعظم راجل في الدنيا يحبك وتحبيـه وأنا واثقـة إنك هتتقابلوا قريب ..
-أنا اكتفيت بيكم ياحبيبتي ، وبغاليـة خلاص ، هعيش معاها الباقي من عمري وأعيش لها كل المشاعر الـ اتحرمت منها فيكي.
*******
~ مسـاءً ..
-عاصي اضرب بالنار ، أنتوا ورا المصيبـة دي ؟!
خرجت شيرين من غُرفتـها بعد معرفتها من كمال مساعد عاصي الشخصي بـ خبر إصابته ؛ قفلت مكالمتها معه فجأة وخرجت منفجرة بأبيها وعمها ، هاتفـة بآخر جُملة ، وثبت سميرة من مجلسها واقتربت منها مندهشـة :
-ازاي الكلام ده ؟! لا طبعا أبوكي وعمك ملهمش دخل !
ثم نظرت لزوجها بأعين تتوسل له أن ينفي ما حدث :
-مش كده يا شاهين ..
تبادل كل. من شاهين وشاكر النظرات الحائرة التي تعكس جهلهم بما وقع على ابن أخيهم .. لم تملهم شيرين الفرصة لتبرئة أنفسهم بل صاحت معاتبة :
-ليه تعملوا كدا !! مفكرتوش في بناته هيبقوا من غير أب وأم ، طيب مش بعتلكم كمال وسابلكم إدارة شركة الشرقيـة !! أنتوا ازاي تعملوا كده في حد من لحمكم ازاي ..
استند شاهيـن على عكازه ليواجه ابنته قائلًا :
-كله إلا الدم يا بنتي ، أنا وعمك مش قتاليين قتلى ، وغير كده موت عاصي من حياته مش هيعود علينا بحاجة ..
اقتربت منه بأعينها الداميـة من أثر البكاء :
-أومال مين ؟! مين له مصلحة في موته غيركم !!
تدخل شاكر ليحسم حلقة الاتهامات الدائرة حوله وحول أخيه :
-انتِ فاكرة واحد زي عاصي ده ملهوش أعداء غيرنا ، دا ألف واحد مستني موته النهاردة قبل بكرة .. إحنـا منعرفش حاجة عنه غير منك دلوقتِ ..
فأكمل شاهيـن متبرئًا من دم ابن أخيه :
-أنا عن نفسي صفحتي اتقفلت مع ابن اخويا وراجع البلد ادير ارضي .. أخويا شاكر لو عايز يكمل في العداوة يكمل ، يكمل بعيـد عني ..
اقتربت شيرين من أبيها مكررة سؤالها للمرة الأخيرة :
-يعني يا بابا حضرتك بعيد عن الـ حصل لعاصي مش كده !! طيب لو كده فعلاً يبقى روح واطمن عليه وانهوا العداوة دي بقا .. عشان خاطرنا يابابا ، أنتَ ماخلفتش ولد نتسند عليه أنا وشهد ، على الأقل يبقى لنـا أولاد عم نلجألهم في أي وقت …
تدخل شاكر معترضًا :
-ده جنان رسمي …
يبدو أن سميرة اقتنعت بحديث ابنتها ، ثم أردفت قائلة :
-بنتك عندها حق يا شاهيـن …
******
~بالمشفــى ..
يسٱلني الليل ٱياا قمري
ٱتغيب حبيبي عن نظري
يسٱلني فتفيض دموعي
في فطري ونسيم السحر
تجلس فوق فراشـها الطبي بمنتصف تلك الغرفة الكئيبة لم تكُف عن البكاء بعـد ، لكل منا نقاط ضعف مهما بلغت قوتنا .. هناك نقطة نقف عندها نرى فيها كم خلق الانسان هشًا .. هشًا جدًا .. كان السبيـل الوحيد لمواساتها صغارها المختبئون بجوفها من وحشـة هذا العالــم ، بكفها المُعلق بإبرة المحلول الطبي ، تجهش باكيـة لا حول ولا قوة لقلبها المنفطر عليـه ، سالت دموع عينيها وهي تتنتفض وتشكو همها لصغارهـا :
-أنا مش قادرة اتخيل يعني أنا وأنتوا كُنا بنودعه إمبارح ، أنا قلبي كان حاسس ، حاسس أن في حاجة هتحصل له وهو كمان كان حاسـس .. يا ترى هو عامل أيه دلوقتِ .. فعلًا كويس زي ما شمس بتقول ، ولا بتصبرني ..
صمتت لبرهة كي تعطي المجال لعينيها أن تخر دموع حزنها وأكملت بنفس النبرة الوهنة المنهارة :
-محدش مهون عليا غيركم ، أنا مش هقدر أخسر كل حاجة مرة واحدة .. أنتوا أمانة عاصي عندي لازم أحافظ عليها .. سـامحني يا حبيبي مش عارفة أبقى جمبك ، بس أنت آكيد حاسس بقلبي ..
أعلم أن كل منا يسكنُ الآخر مهما حالَ بيننا كلَ شيء ، ولكن اليوم أنا عاريـة تمامًا ، متجردة من كل شيء ، بتُ فريسة للخوف ، ابحث عنك بأعين تائه شريد ، كل شيء يرعبني حتى نسيم البحر غاز قاتل بدونك يخنقني .. أين أنتَ ؟! وأين حضنك الذي يحميني من هذا الشعور الحارق .. ؟! أين الطريق إليك !!
‏دلني أرجوك .. كأنك تدلُّ قمرًا تائهًا إلى مداره
أو كطائر مُهاجر إِلى بلاده .. دلني كعبد عاصٍ إلى إيمانه.. دل قلبي الشريد وروحي الضائعة كضياع ليـل طويل إلى شمس نهاره !!
أدركت أن جميع الأشياء الجميـلة ، فجمالها الحقيقي وجودك .. لا جمال بدونك ولا لروح روح في غيابك ….
جاءت شمس حاملـة بعض ” السندوتشـات ” لـ حيـاة كي تسترد قوتهـا ، ببسمة لطيفـة أردفت :
-الله !! اسيبك شوية أرجع ألقاكي بتعيطي بردو ؟! أحنا مش اتفقنا عشان ولادك يا حبيبتي !
ودت بضعف :
-مش قادرة يا شمس ، طمنيني عاصي فاق ولا لسه ، هتجنن وأشوفه ، حتى أبص عليـه من بعيـد بس ..
جلست شمس بجوارهـا ، ومددت لها الخبر المحشـو :
-طيب عشان خاطري كلي ده ، وأنا هشوف الدكتور وأخدك ونروح ، بس كلي عشان صحتك والحمل ، أنتوا محتاجيـن تغذية ..
ردت بشهقة المستغيث :
-اطمن عليـه بس وأنا والله هاكل .. بس اطمن عليـه يا شمس …
~بغُرفـة عاصي..
بعد مرور أكثر من ١٢ سـاعة على عمليـته حرك عاصي جفـون مغمغمًا بكلمـات غيـر مفهـومـة .. اقترب منه تمـيم بلهفـة :
-عاصي أنتَ كويس .. متقلقش العملية عدت على خير وأنتَ كويس .. اطمن ..
تنهد بصـوت متهدج بالكلل :
-حياة فين يا تمـيم .. ؟!
هبط تميم لمستواه وربت على كفه ليطمئنه :
-اطمن حياة زي الفل ، ونزلت تتعشى مع شمس .. شوية وهتلاقيهـا داخلة علينا ..
ارتفعت عيناه المكسـورة معترضًا حديث تميم :
-تميم حيـاة فين ؟! حياة جرالها حاجة ؟! هي مستحيل تسيبني وتروح لمكان ، مراتي فين يا تميم ..
ربت تميم على كتفه :
-طيب أهدى وهفهمك !! حياة كويسة وشمس معاها ، زي ما قولت لك شوية وهتلاقيها داخلة علينا ..
تمتم بصوت متقطعـم وهو يكرر سؤاله :
-مراتي حامل ، حياة والولاد حصلهم حاجة ، قولي يا تميـم !!
-والله حياة والحمـل كمان زي الفل ، أنت بس روق كده وخلي بالك من نفسـك عشان ترجع لنا في أسرع وقت يابطل ..
في تلك اللحظة لم تستطع شمس منع حيـاة من المجيء إليـه وكأن هناك اتصال روحي بقلوبهـم ، ظهرت شمس من الباب ثم تابعتها حيـاة المحملة بالحزن الوخيم ، عند رؤيتها جفونه المتحركة دفعت شمس دون الالتفات لحمل الاثنان .. تناسي الجميع ولم يبقى ألا هو مقصدها ووجهتها .. اندفعت بكلها وبكل ما تحمله من مآسي نحـوه .. جلست على طرف تخته انهارت فوق كفـه السليم متجنبة ناحية كتفه المُصاب ، عدد لا نهائي من القُبلات كانت من نصيب كفـه .. قبلات ممزوجـه بالحب والبكاء .. غمغم بصوت خافت وهو يشعر بارتعاش جسدها :
-حياة أهدي أنا كويس ..
نظرت شمس لتميـم بقلة حيلة :
-مقدرتش أمنعها ..
رفعت وجهها المحمرة إليـه وهي تتفقده بأعين أعمي عاد له بصره للتو :
-في حاجة بتوجعك .. طمني عليك ، أنا كنت هتجنن من الخوف .. روحي كانت بتروح وراك ..
واصلت سيل القُبلات المنهمر منها لكفه ثم عادت مرة آخرى تهذى :
-بعد الشـر عليك يا روح قلبي وعقلي وحياتي كلها .. اتكلم معايا ، قول لي كده حاسس بأيه .. طمن قلبي يا نور عيني ..
لكز تميم شمس واعظًا بهمس :
-ياللي ما عمرك قولتِ لي يا نور عيني دي ! ولا هو الواحد لازم يضرب برصاصة عشان يشوف الشحتفة دي .
لكزته بحذر :
-بس بقا ، ملناش دعوة ..
مدت كفها المُعلق بها إبرة ” الكانولا” لتتحسس درجة حرارته فلم يكفيها ذلك بل مالت بشدقيها وقبلت جبينـه قبلة طويلة وبعدها تدلت على كل عين من عينيه وقبلتهما بتأنٍ .. أوقفها قائلًا عندما لاحظ الضماد الطبي بكفها :
-أيه الـ في أيدك ده !! أنت كويسة ؟!
تدخلت شمس موضحـة :
-حياة ضغطها وطي بس من القلق عليك ، والدكتور علق لها محاليل .. مفيش حاجة تقلق ..
تدخلت حياة مواصلة :
-شوفتك بقيت كويسة والله .. قولي لي أعمل لك .. مرتاح ، قاعد كويس ..
لم تمهله فرصة للتعبير بل شردت بعيناه قائلة :
-انا اتكتب لي عمـر جديد بشوفتك ، تعرف ولادك في بطني هما الـ صبروني لولاهم كنت روحت فيها والله ..
مال تميـم على آذان شمس هامسًا :
-هي حامل في كام واحد ؟! سامع كلمة ولادك دي كتير !
تمتمت بحرص وبصوت خفيض :
-حامل في تؤام ، واسكت بقا .. أقولك تعالى نطلع بره أنت مش هتسكت أصلا ..
غمغم متعجبًا وفارحًا لأخيــه :
-ماشاء الله ، ابقى فكريني نسمي بعد كده ، يمكن تلضم معانا زيهم كده ..
-وده وقته !!
سمعه عاصي المتعب وقال بخفوت ممزوج بسُعال خفيف قاصدًا تميم :
-نهدأ بقا عشان في عين ديناصور هو سبب رقدتي دي ..
تدخل تميم مبررًا بضحك :
-أبدًا والله ، دانا بقولها نسمي ونصلي بس عشان متتحسدوش .. أنا بردو أحسدك ! دانا هبقى عم لأربع عيال مرة واحدة !
تمتم بضحك هدر مبطن بالالم :
-خدي جوزك وأطلعوا يا شمس دا شكلو ناوي يرقدني هنا ..
أردف تميم معترضًا :
-ونخرج ليه !! خلي الـ جبل الجليد يتعلم .. أوعدك مش هنعمل صوت .
نفذ صبرها من مزاحه المتكرر فبعدت عنـه لتقترب من حياة النائمة على صدره :
-حياة كفاية بقا ، عاصي لسه جرحة مفتوح ، قومي ارتاحي شوية ..
ربت على كتفها :
-حياتي ..
ردت بلهفة وعفوية :
– نور عيني ..
-اسمعي كلام شمس ..
قال جملته وهو يقبل أطراف أناملها فـ تلاقت عيني تميم وشمس الضاحكـة ، رفضت بإصرار :
-لا مستحيل أنا مش هتحرك من هنا وأسيبه .. لا ..
ثم توسلت له قائلة :
-عشان خاطري خليني معاك .. أنا مش هقدر أبعد .. اطلب مني أي حاجة غير أني اسيبك ..
*********
” بعد مرور خمسة عشـر يوم ”
خرج عاصي من المشفى وقضـى اسبوع كامل تحت رعاية حياة التي كانت ترعاه كطفل صغير ليست برجل يافع مثـله .. عاد تميـم وأسرته إلى القاهـرة ليباشـر عملـه من جديـد .. وأيضًا عادت عالية بعد ما اطمئنت على سلامة أخيها لبيت أمها التي اتفقت مع مراد أنهمها سيعيشان فيه بقية عمرهما .. شرع كريم ونوران في إعداد حفل خطوبتهما بعد قبوله لجميع شروط شمس المتعسفـة ورفضها التام للزواج إلا بعد عاميين ..
أجرت هديـر عمليتهـا الأخيـرة ومازالت تحت وطأة العلاج الطبيعي بأكبر المستشفيات التي تولى مراد مصاريفها بالكامل …
في الصباح الباكر وقبل شروق الشمس جاءت حياة حاملـة صندوق الإسعافات الأولية وجلست أمامـه على الأريكـه المبطنة التي يجلس عليهـا متكئًا على مسندها .. ربتت على ساقه بحنان :
-حبيبي نغيـر على الجرح !
رد عاصي بملل من تلك الأجواء :
-بقيت كويس حيـاة ، كفاية تعبتك .. ارتاحي أنتِ..
شرعت في فك أزرار منامتـه السوداء متجاهلة مجاملاته الغير منطقية وقالت بحزم :
-كل يوم هنتخانق على الغيـار زي العيـال الصغيرة وبردو كلامي أنا اللي بيمشي !!
ثم وضعت سبابتها فوق ثغره متدللة :
-أنتَ ما بتزهقش !
-أنا زهقت من حاجة واحدة بس ، وهي قعدتي دي وكمان حاسس نفسي متكتف ..
فـ طوقت يمينه خصرها وأكمل بكلل وشوق يحركه بعفوية :
-وضيفي عليـهم كمان أن مراتي وحشتني أوي .
برقت له محذرة :
-بلاش الحركات دي ، كتفـك أهم .. وبعدين نشوف حوار مراتك وحشتك ده ، عشان أنت كمان وحشتها أوي ..
تأرجحت عينيـه بلوم وهو يسحبها إليه لتقتـرب من أكثر فأكثـر :
-أيه مفيش أحساس خالص ، معقولة مش حاسة بيـا ؟! ليه الجحود ده ؟!
جحظت عينيها بحزم :
-عاصي وبعدين بقا ؟!!
ثم غيرت مجرى الحديث قائلة بفرحة :
-النهاردة بدأت في الشهـر التالت ..كده باقي ٦ شهور بالظبط ونشوف ولادنـا .. بجد متحمسـة أوي ..
انتهت من فك أزرار سترته ثم شرعت في نزعها ببطء وحذر شديـد ، برزت أمامها تفاصيل جسده الرياضي فأحس بارتباكها وتعمدها بألا تناظره ، كادت أن تنهض جواره ولكنه أبى ، فأعترضت منزعجـة :
-عاصي !! الجرح ..
ضاقت ملامحه وقال :
-وأنتِ لازم تقومي من حضني عشان تغيري ، خليك كده وشوفي شغلك ..
بد الاعتراض بملامحـهـا ووثبت رافضة اقتراحه :
-ازاي يعني ؟! بطل بقا الحركات دي ، قولتلك لا ..
تأهبت في تضميـد جرحـه برقة الفـراشـه حتى أردفت فارحه :
-الجرح لم كتير عن الأول ..
ثم ختمت جملتها بقبلة طويلة جوار موضع ألمـه فعلت بقلبه ما لم يفعله معادٍ ، وأكملت مهمتها حتى فرغت تمامًا بوضع الشريط اللاصق فوقـه .. نزعت الجوارب الطبيـة وأثناء انشغالهـا بلملمة الادوات باغتهـا بشدة قويـه لتتوسط ساقه المثنيـة فوق الأريكة والأخرى ممتدة بالأرض .. شهقة معاتبـة :
-عاصي راعي إني حامل !!
-وراعي أني على أخري !
أخذت يداه تتنقل بحـرية تامة فوق ظهـرها محاولًا ترويض قطته الشقيـة .. غمغمت بإعتراض محب :
-أنا خايفـة عليك يا عاصي .. نعدي الفترة دي على خير بس ..
داعب أنفها بأنفه بلطف قائلًا :
-بس أنا بقيت كويس على فكرة ..وهثبت لك .
-لا يا عاصي ، كتفك !
شرع في نثر عبير اشتياقـه فوق ملامحهـا الأبيـة التي لانت تدريجيـا وهو يتمتم :
-سيبك من كتفي وركزي معـايـا ..
بدأت أنفاسها في الصعود والهبوط متخدرة بسطو مشاعرهما التي طال صبـرها .. حاوطت كفوفها وجهه وهي تهوى شيئا فشيئا في بحر هواه الذي نصبـه .. ترنحت بجملة معارضـة لمشاعرها الغارقـة :
-عاصي هتتعب والجرح عشان خاطري بلاش ..
ثم فارقته فراق ليست بهين على قلبها المتوق له ومددت كفوفها قائلة بتوسـل :
-قوم ننام كفاية سهر ، أحنا مطبقين من إمبارح..
عض على شفتيـه السفلية ووثب قائمًا بمساعدة كفيهـا ، إلى أن سنحت له الفرصة فجذبها لحضـنـه ليلتقى النجمان لقاءً حارًا لا مثيل له وكأن بقربها ردت الحياة بفؤاده ،أخيرًا باتت ملاكه بين يديـه ساعيـًا لتبديل الكاف لذال ..
مرت قرابـة نصف ساعة من سحر القمر المحوط بقلبهمـا حتى استكانت حرائق قلبها القلقة عليـه لأيام كثيرة .. مررت أناملها على وجهه متنهدة أخيرًا بارتياح لأن حبيبها بجانبهـا ، معبرة عن شعورها :
-كُنت واحشني جدًا .. ووحشني كل ليلة أنام في حضنك كده زي البنت الصغيرة المتشعبطة في حضن باباها ..
-طيب وأيه لازمتها المقاوحة من الأول !
-خوف عليك بس .. أنتَ تمـام ، كتفك فيه ألم أو اي حاجة ! أنت كويس يعني؟!
انفجر ضاحكًا لتذكره أمرًا ما ثار فضولها :
-الله! بتضحك ليه ..
-أصلي اتسألت السؤال ده للمرة التلاتين في نص ساعة بس ..
ثم مال على مسامعهـا هامسًا بشيء ما ثار حمرة الخجل بوجهها لضربته برفق فوق صدره ليكف عن مزاحه :
-بس بقا .. عيب .
لم يكف عن الضحك بل أكمل قائلًا بسخرية يمتزج معها الدهاء :
-يعني المفروض أنا اللي أسأل سؤال زي ده ، الجواب عندك أنتِ يا هانم !!
شعرت ببرودة الخجـل تأكل بملامح وجهها ثم قالت بجزع يبطنه الضحك :
-بطل بقـا .. أقولك ، أنا هسيبك وأنام ..
هز كتفها برفقٍ شديد وهو يسألها متعجبًا :
-مش المفروض كبرنا على كسوف وخجل كل مرة ده !! أنتِ بتتحولي ليـه !
ظلت أناملها تتحرك بخفه وبحركات دائرية فوق صدره العاري وقالت بتوجس :
-مش عارفة.. بكون معاك واحدة مغيبة ، مش أنا .. وبعد ما يرجعي عقلي افضل أقول هو أيه اللي حصل !
-أنا مش عايز عقلك ده يعتب باب الأوضة دي .. فاهمة ..
رفعت رأسهـا مستنده فوق صدره على ذقنها وقالت :
-لا مش فاهمة .. فهمني !!
-عايزك بـ قلبك وبس ..
أرسلت له قُبلة طائرة في الهواء وهمست له :
-بحبك على فكـرة ..
ثم عادت لتستريح على سياج صدره مرة ثانية وسألته :
-مسكوا الـ عمل فيك كده ولا لسه ..
رد باختصار :
-هيتمسك هيروح فين يعني !!
أردفت بنبرة لا تقبل الجدال :
-طبعا مفيش خروج من الباب ده لحد ما يتمسك ، فاهمني .. وده أمر مني أنا وولادك .
عقد حاجبيه بدهاء غير مقتنع ولكنه أراد أن تمضي خلوتهم بسلام :
-الـ تقوليه أنتِ وولادي سيف على رقبتي .
-أيوة كده !!
ثم أوصته قائلة :
-عاصي بليز متتحركش ولو احتجت ميـه صحيني أجيبلك .. أنت تمام مش كده مش محتاج مني أي حاجة !
ابتسامة جميلة على محيـاه وهي بين يديه :
-انا تمام أوي ..
ثم تثاوبت بإرهاق :
-أنا خلاص مش قادرة ولازم انام .. صحيني هااه في أي وقت .
ربت على كتفها العارٍ بحنو مفرط ملبيًا لجميع طلبـاتها .. ظلت بحضنه حوالي ساعـة من هناء الحيـاة .. كل منهما يأمن بالآخر .. طالع ساعة هاتفه فوجدها السادسة صباحًا .. سحب نفسـه بحرص شديد كي لا تيقظ .. وبخطوات متهملـة دخل الحمام ليأخذ حمامه الدافئ ثم خرج بعدها بهدوء شديد وفتح خزانة ملابسـه ، ارتدى بذلته السـوداء بحذر وتجنب رش عطره كي لا يفيق قلبهـا .. أخذ هاتفه بهدوء ثم غادر الغرفة على الفـور ..
استقل سيارتـه السوداء من ماركة مرسيدس وما أن استراح في جلسته أخبر السائق قائلًا :
-أطلع على المطار يا بني …
ثلاثـة ساعات بالضبط ؛ كان عاصـي جالسـًا بالنيـابة بعد تقديمه طلبـًا لـ رؤية عادل وعزمي .. يجلس بشموخ واضعًا ساق الأخرى وبفظاظة قال ساخرًا :
-البدلة البيضـا هتأكل منكم حتـة ..
أردف عادل بسخط :
-عايز ايه يا عاصي ؟! وجاي عشان تشمت مش كده !! بس أحب أقولك إني مش مطول هنا ، مسألـة وقت بس وخارج ..
ضرب على ساقه برفق ثم قال بهيبة :
-بس أنا هنا عشان أعرفكم أن رصاصتكم فشلت في الـ انتوا عايزينه !
ثم أطلق ضحكة ساخرة :
-بقا يا أغبية لما تحبوا تخلصوا من واحد ، تضربوه بالنـار قدام مستشفى ؟! حقيقي مشفق عليكم ..
وفجأة تحول الدب الساخر لوحش كاسر وهو يركل الطاولة بقدمه ويزمجـر مهددًا :
-الرصاصة الـ في كتفي دي ، هحتسبها رد اعتبار ، اللي عملته فيكم بردو مش سهل ، لكن ورب العزة لو اتكررت ولا ألاعيبكم القذرة دي فكرة بس تطول أهل بيتي .. ما هرحم حد منكم أنتوا وأهلكم .. هحسركوا على عيالكم واحد واحد ..
ثم مال ليزرع عينيه الحاحظة بوجه عزمي :
-لازم تعرف أن مراتك وعيال تحت عيني ، حركة غدر واحد هتسمع خبرهم ، وأنتَ أكتر واحد عارف عاصي دويدار ما بيهددش ، بينفذ ……
🦋الفصـل الحادي عشر 🦋
-الجزء الثاني من الفصـل .
“كن لي كما أهوى ”
اليـوم أسطـر نهايـة روايـة جديدة نسجتك من بين سطورها وحروفها كبطل جديد ، وبصورة مختلفة لقلبي وللعالم الذي
يشاركني الحُب فيك ..
يا ترى من تكون في جملة أبطالي !!
ذلك الشخص المحب حد الجنون ، أم ذلك المتعجرف الذي لا يفكر إلا بنفسـهِ !!
أم ذلك التائه الذي لم يجد موطنه لتلك اللحظـة ؟! أم ذلك المحب الذي وعد وأوفى وسلك دروب الهوى كما هوى ؟!
أي منهم تكون ؟!
طرزت من ثوب نظراتك العديـد من الرجال ولكني لا أرى أي واحد منهم يكفيك ويكفي حبي الشديد لك..
أود ولو أكتب لكَ كل يوم وكل ساعـة وكل لحظة أنتَ فيهـا تراود وتروض بالي على حبك ، وكأن الكتابة عنك ولك هي الهواء الذي أتنفسه وأحيا بهِ ..
اعتقد بأنني ساكتب وأسهب بِحبـك وكلامي عنك ولا أخشى أن تكتشف يومًا كم أنا ضعيفة وهشة في كلماتي وفي حبي الذي زرعه الله بقلبي .. تلك الحوريـة التي وصفتها ذات مرة بالجبروت ومرة أخرى بأنها قطعة أثرية نادرة جدًا ، فهي أرق من نسيم الفجر في كنف وكلف عشقك …..
رسيـل المصـري …✍🏻
*******
“~ بعـد مرور عام ”
•بقصـر دويدار ..
اجتمعت العائلـة بأكملهـا لإعداد مراسـم زواج الثنائي الأكثر جنونـًا ، وبعد إلحاح مريب من كريم استطاع أن يأخذ موافقة شمس بقيـام حفـل الزفـاف بعد انتهاء العام الدارسي الأول ؛ بشرط حصولها على تقـدير يرضيهـا ، فوضى عارمـة بالقصـر من أهل البيت لـ طاقم العمـل الخاص بتجهيزات الحفـل ، غير ذلك طاقم الطهاه اللذين يقومون بإعداد جميع وصفاتهم على الفحم في أحد أركان الحديقة ..
كانت البدايـة عند تلك العروسـة المرتبكـة التي لا تضبط خطـواتهـا ، ظلت تجوب ذهابًا وإيابًا بقلق يتقاذف من معالم وجهها وهي تهاتف كـريم بإضطراب وتوتـر حتى تجاهـل مكالماتـها وفوجئت بهِ يفتح باب الغرفة منزعجًا :
-الف مكالمة في الدقيقة !! حصل أيه لكل ده ؟!
ضربت الأرض بساقها الأيمن وقالت بـ صوت متهدج للبكاء :
-انا عايزة ألغي الفرح ، ممكن نأجله لبكرة !!
-نعـم يا روح خالتك ؟! وأنا واخدك المراجيـج !!
قفل الباب خلفه ثم اقترب منها وربت على كتفها بضيق :
-استهدي بالله كده واخزي الشيطان !!
-يا كـريم اسمعني بس .. حاسة اني متوترة وكل حاجة ناقصة ، الميك ارتست عربيتها عطلت على الطريق ، الفسـتان عايز يضيق ، انا حاسة أن دي مؤامرة عشان الفرح يبوظ !
هز رأسه مستخفًا بمشاكلها وهو يرمقها من رأسها للكاحل :
-بلاش فستان وميك اب .. البيجامة البيضـة دي حلوة ..
انفجرت بانزعاج :
-كريم متهزرش !! أنتَ مش حاسس ليـه بالورطـة الـ أنا فيهـا ! طبعًا وأنت عليك بأيه هي بدلة بتلبسها وشكرا على كده .
-عايزاني أعمـل لك أيه طيب !! هبعت حد يروح يجيب الكوافيرة مـ ..
قاطعته بوجهٍ عابث :
-اسمها ميك اب ارتست .
زفر باختناق وهو يكور قبضـة يده من كبحه لمشاعر الغضب وتمـتم بضيق :
-فرقت يعني !!
-اه فرقت حد بيقول كوافيـرة الزمن ده !! أنت عايش فين ؟!
جز على فكيـه بجزعٍ :
-هبعت حد يجيب الست هانم .. ومشكلة الفستان أنا مش عارف المفروض أعمـل فيها أيه !!
ثم صمت لبـرهة وكأنه تذكر شيء ما :
-نوران ، استني .. أنتِ كل الـ شاغل دماغك دي الفستان والميكاب وبس !!
تراجعت خطوة للخلف لتجيبـه بملامحهـا المنكمشة :
-اه ، هي العروسة المفروض أي يشغل دماغها غير شكلها اليوم ده ..
كل يوم يتأكد من حجـم الكارثة التي تنهار فوق عاتقه ولكنه مازال مكملًا السير بصدر رحب .. رفع حاجبه الأيمن مستفهمًا :
-وبس !!
-ما تتكلـم على طول يا كريم ، أنا دماغي مش فاضية تحل في ألغاز دلوقتِ !!
دنى منهـا نفس الخطوة التي ابتعدتها عنه ولكن بنبرة أكثـر هدوءًا وأعين يتوقد منهـا اللهفـة :
-يعني مفيش حاجة تاني خايفة منها ، اطمنك متوترة مثلًا .. وكده .
هزت كتفيها بعدم فهم لمغرى تلميحاتـه :
-لا مفيش ، هتوتر من أيـه ، المهم شكلي يكون حلو النهاردة وبس ..
ضاقت عيني كريم بنظـرة ماكرة وغير سؤاله بنبرة أكثر لينًا :
-طيب أنتِ بعد الفرح والفستان وكل الأجواء الجميـلة ، عارفة هيحصل ايه !
زفرت بوجه ثم قالت بإمتعاض مصحوبًا بالثقة :
-أيه يا كريم أنتَ بتتكلم مع عيلة صغيرة!
تنهد بارتياح :
-أنا ربنا نصرني ، فلوس الجوازة دي حلال..
تأرجحت عينيهـا بحيرة وأكملت ببلاهة :
-هنروح بيتنـا نتعشى ، وننام بقا لإني تعبانة وحاسة إني محتاجة أنام لمدة أسبوع ..
تسمرت معالم وجهه بصدمة محاولاً إدراك جملتهـا .. خيم فطر الحزن فوق ملامحـه وقال ممتعضًا وهو يتأهب للرحيل :
-مش كُنتِ عايزانا نأجل الفرح ، أنا شايـف إننا نلغي الجوازة كلها ….
ثم أخرج هاتفـه بعجـل و أجرى لها حظرًا من كافة مواقع التواصل الإجتماعي:
-وادي بلوك عشان ومش عايز اسمع صوتك النهاردة .
صرخت مناديـة باسمـه ثم عاندت قائلة:
-كريم .. دي اخر مرة صوتك يعلى عليا.. اقولك ، إحنا نلغي الجوازة دي كلها ونرتاح ..
لم يلتفت إليها بل أكمل سيره مغادرًا الغرفة ، فثرثرت قائلة :
-مش كل مرة تسيبني كده وتمشي ، ده مش اسلوب ده على فكـرة !!!
******
“قـبـل أحد عشـر شهرًا ..”
عاد مُراد بعد مرور يوم طويـل في عمـله .. أكل خطوات السُلم ركضـًا متجهـًا إلى غرفتهما التي تحوي قمـرًا جديـدًا نـور حياتهمـا ، فتح البـاب بلهفــة وبعـد ما رمى سترته السوداء على فراشـه اندفع ملهـوفًا ناحية تخت صغيرتـه المصبوغ باللون الوردي .. تبدلت ملامحه عن رؤيتـه للسرير خاليـًا من غاليتــه ..
جهر مراد بصخب مُناديًا بنبرة مرصعة بالقلق والحب :
-عاليـه ، عاليـة ..
ثم طرق باب الحمـام بخفوت وكرر ندائه :
-عاليـة أنتِ جوه !!
فتحت عاليـة الباب وخرجت منـه في كامل أناقتـها وبريقهـا .. بفستانٍ قصير باللون الأبيض يصل لركبتيها ، وشعرها المموج والمتدلى فوق كتفهـا مع الحُمرة الوردية التي تصبغ شيفاها ، قطمت شفتهـا السُفلية بخجـل وهي تقترب نحـوه وقالت بنبرة رقيقة :
-رجعت قبل معادك يعني ..؟!
لم يلتفت لجمالها بعد مازال مشغولًا بفك أزرار قميصه ، فسألها بحماس :
-غالية فين ؟!
لم يمهلها الفرصة لتُجيب وأكمل بنفس الحماس :
-روحي يا عالية هاتيها من عند مامتـك عشان وحشتني أوي .
رفعت حاجبهـا ويبدو أن الغيرة لمست قلبهـا ، أدركت بأنهـا جاءت بضُرة جديدة تشاركها في حبيبها .. خطت قدميهـا لتقف أمامه واضعــة يديها في خصرها بدلالٍ :
-أنت جاي ملهوف كده عشان خاطر غاليـة وبس !!
تعالت جفونها تدريجـيًا لتتأمل جمال كاحلهـا لوجهها مُطلقـًا زفيـرًا قويـًا وبنظرات تلمع إعجابك ، فأردف متنهدًا :
-الحلاوة دي كلها على فين !
ما زالت نبرتها سائمة منه ، فأردفت بجزل طفولي :
-هتكون على فين مثلًا !! هنزل كده الشارع لسمـح الله ؟!
أطلق ضحكـة بإملاق يخـلو من الإدراك :
-لا بجد ، الشياكة دي كلهـا ليـه ؟!
ثم ضاقت عينيـه محاولاً استيعاب الأمـر :
-أنتِ لقيتي نفسك تخنتي شوية قولتي تجربي الفستان وتشوفي المقاس ؛ صــح !
ملأت نظرات الاستياء ملامحها وهي تعض على شفتها السُفليـة لتكبـح غضبها منــه :
-مـراد متجننيش !!
تنهد بملل :
-مالك يا عاليـة ، روحي هاتي غالية عشان ألعب معاها شوية قبل ما أنـام ..
عقدت حاجبيها بإمتعـاض :
-تنام !! يعني يا تلعب مع غاليـة يا إما تنام .. مفيش أوبنشن تالت يعني ؟!
ثم اقتربت منـه بخطوات سُلحفيـة وهي تُطيـل النظر بعينيه الشاردة فـ جمالها السـاحر ، صعد كفيها بهدوء ليستقرا فوق كتفيـه ، باتت حمـرة الخجـل تكسو بقية ملامحـها وكملت بنفس النبرة المنخفضة:
-يعني مفيش وقت لمراتك البعيدة عنك ليها أكتر من٦ شهور .. ولا أنا خلاص هتنسي ..
قفلت جفونها لبرهة ثم فتحها بذهول :
-هما الـ٤٠ يوم عدوا !!
ردت بدلالٍ :
-شوفت !
ختم سؤاله بضحكة خبيثة :
-وأنا اللي مليت من كتر ما بسألك و تقوليلي لسـه لسه !!
ثم تنهد بارتياح :
-ده الواحد نسى إنه متجوز يا شيخة !!
حدجت عينيها بحدة ، مناديـة باسمه ؛ فلحق نفسه قائلًا ؛
-أيوه بردو غالية فين !!
ابتعدت عنه بضيق وهي تدفعه برفق وتقول بإمتعاض وهي تنزل حذائها ذو الكعب المرتفع :
-والله ؟! غالية مع ماما يا مراد ، روح هاتها والعب معاها وأنا أصلا غلطانة إني بفكر فيك وبرتب لليوم ده من اسبوع ..
ألتف ذراعه حول خصرها ليجذبها لحضنه مرة ثانيـة محاولًا ترميم الحدث ، مال على مسامعها وهمهم :
-بهزر معاكِ .. روقي بس ؛ دا اليـوم يوم عيد بالنسبة لي .
تملصت من قبضتـه متمنعـة عنـه :
-وسع كده ، روح قضي أعيادك مع بنتك .. وأنا هحتفل لوحدي ..
أحكم قبضة ذراعيـه على خصرهـا ، ووقف الاثنان أمام المرآة ليردف بهمس بأذانهـا بعد ما رواهم بقُبلة خفيفة :
-وده ينفع بردو ؟!
ردت بتمرد أنثوي وهي تتمايـل كطير ظمأن يطلب من صاحبه أن يرويـه ببعض الحُب :
-قول لنفسك ..
غمغم بكلماته المُدججة بسُكر الشـوق وهو يتنقل فوق ملامحها كفراشة تتنقل في البستان وقال :
-هقولها إنك وحشتيني وإني بحبك وبحب القدر الـ جمعني بأرق ست فـ الدنيا .. وإن الليـلة دي حاسس أنها ليلة فرحنـا ..
وضعت كفيها فوق ذراعيـة الملتفين حول خصـرها وبنبرة سكيرة تحت تأثيـر خمر حضنـه وكلماتـه :
-أنتَ كمان وحشتني أوي ، ووحشني كل لحظه لينا مع بعض .. أقولـك على سـر ، أنا عمري ما عرفت أكون سعيدة غير وأنا معاك ، وفي حضنك ..
لفهـا تحت يديه كالفراشـة الكرنب البيضاء ليلتقيا وجهـا لوجه وتمتزجـا أنفاسهما المدججة بعبيـر الشـوق .. كاد أن يرتشف من مائها ليروي عطش الشهور السابقـة ولكنهـا أوقفته واضعة أناملها فوق شدقه كحاجز بينهمـا :
-مراد ، تتعشى الأول ونتفرج على فيلم سوا ..
قبض على معصم كفها الفاصل بينه وبينها وباليـد الأخـرى شد سحاب فستانهـا حاسمًا قرار اقتراحاتهـا بسياسة :
-وماله …
#بــاك ..
عودة للوقت الحالي ؛ فاق مراد من شروده على صوت نداء عالية المتكرر :
-مـــراد !! أنا بكلمـك ، روحت فيـن ؟
شد ستائر النافـذة التي كان يراقب منها تجهيـزات فرح أخيـه وقال بمزاح وهو يدنو منها معلنـًا رغبتـه فيـها :
-عايزة تعرفي روحت فين ؟!
تراجعت معترضة عن تلمحياته:
-مراد !!
بأعين متلصصة قبـل ذراعيه التي تطوقهـا وقال ليتأكد :
-قولتِ لي غاليـه فين !!
نبس ببنت شفة :
-مراد !!
********
~بالطابـق العلوي ..
#فلاش باك ..
” قبـل سبعة أشهـر ”
بعيـادة النسا والتوليـد ، فرغت الطبيـبة من فحص بطن حياة المنتفخة كالبلون الكبيـر ؛ ففارقت تخت الفحص بعناء وحركة بطيـئة إثر ساقيهـا المتورمة من أسفل ، جلست بصعوبة فوق المقعد المجاور لمكتب الطبية وسالتهـا بتوجسٍ :
-في حاجة يا دكتور ؟!
ردت الطبية بأسفٍ :
-للاسف في ضغط جامد من البيبيز على عُنق الرحـم ، وهو سبب الالم الـ حساه ..
ثم فرغت من تحديد التحاليـل المطلوبة وأكملت :
-حياة ، لازم تعملي التحاليل دي في أسرع وقت ، على يوم الاتنين بالكتيـر لازم تولدي قيصري ..
جف حلقهـا من شدة الخوف وهي تعانق بطنها بقلق وقالت بذهولٍ :
-بس أنا لسه في نص السابع وو
قاطعتها الطبيبة مكملة :
-في حالات طارئة بتواجهنا وخصوصًا للستات الحامل في توأم ، أغلبهم بيولدوا قبل معادهم .. تخلصي التحاليل دي وأشوفك السبت !
أخذت الورقة من الطبيبة بيدها المرتعشة وأردفت بتساءل :
-ممكن حتى نأخرها لأخر الاسبوع ..
ثم بررت موضحة :
-دكتور ، جوزي مسافر الأربع ، وأنا مش حابــة أعرفه بميعاد الولادة .. فممكن من الأربع الجاي نبتدي الإجراءات اللازمـة .. هيكون في خطورة !
تمتمت الطبيبة بدون إقناع :
-طيب مش هوصيكي الراحة التامـة ، متتحركيش من السرير ، ولو حسيتي بأي حاجة غريبة تعالي فورًا ..
حـل المسـاء ؛ فعاد عاصي إلى منزله بالغـردقة ، فوجد صغاره يجلسن باهتمام بصُحبة حياة عارية البطن في منتصف تختـه .. قفل الباب خلفه وهو يحدق بمدى استمتاعهما برؤية قدمي الأجنة تسبح بجوف حياتهمـا ..هتف مستفسرًا :
-في أيه هنا ؟!
تحمست تاليا بفرحة :
-تعالى شوف رجل البيبي يا بابي وهو بيعوم جوه ..
عقد حاجبيه مندهشًا ورمي سترته البنيـة على أقرب مقعد وانضم لمجلسهـم بفضول :
-بيبي أيه اللي بيعوم جوه ؟!
بملامح وجهها الضاحك نادته :
-تعالى كده ، اقعد جمبي ..
ثم سحبت انامل يديـه وحركتهم بصورة دائرية فوق بطنها .. فتلاقت أعينهـم اللامعـة بوهج الحُب وخُتمت ببروز قدم أحد المراوغين ببطنها فانفجرت ضاحكة بتنهيدة متعبة :
-شوفت ..
جملة من المشاعر تغلغلت بقلبه ولا يعلم كيف يمكن التعبير عنها .. شعـور مبهم من الانتماء لروح إمراة ليست من دمه ولكنها خُلقت من جزء مـا بجوار قلبـه .. راقت له اللعبـة فكرر مداعبـة صغاره مراتٍ متكررة متبعًا توجيهات صغاره الذي بات يشاجرهن كأشخاص كبيرة معترضًا بأن لا يمكن لأحد غيره ملامسة بطنها .. حتى فاض صبره منهن فحمل واحدة على كتفه والأخرى أمسك بملابسـها ممزاحًا :
-وبعدين فيكم ؟!!
صاحت حياة معترضة :
-بالراحة عليهم يا عاصي هما مش أدك..
واصل مداعبـة فتياته الضاحكات برفقة أبيهم ويدللهم بحـب ومرح حتى هتف قائلًا وهو يداعب بطن صغيرته المتراقصة بالضحك والتوسل بأن يتركها :
-سبيني أخلص حقي منهـم ..
ثم خفض الأخرى من فوق كتفه لتتمدد بجوار أختها وواصل في تقبيل وتدليـل قطتيه الصغيرتين .. تدخلت حياة بينهم وهي تتمسك بكتفه :
-بس بقا كفاية ، حرام البنات ..
جففن صغاره أعنيهم المغرورقة بدموع الضحك الهستيري اللاتي انخرطن فيه إثر مداعبات ولادهم الظريفـة ، رمقهم بأعين محذرة بضحك :
-عشان يتحدوني تاني ، محدش يقرب من مراتي غيري فاهمين !
جذبتهم حيـاة لحضنها باحتواء أم وقبلت كُل منهما وقالت :
-دول حبايب قلبـي .. ولا تقدر تعملهم حاجة ..
ثم همست بمسامعهما :
-أحنا ٣ يبقى أحنا أقوى مش كده !!
هتفا معًا :
-كده ..
في تلك اللحظة جاء طرق صوت الباب من المربية الخاصـة بيهما ، فتح لها عاصي الباب ، فقالت بهدوء :
-عاصي بيـه ؛ ميعاد نوم البنات جيه ..
تنهد بارتياح وقال بمزاح :
-تصدقي جيتي في وقتك ..
قبلت حياة كل منهما بدفء ومشاعر صادقة وقالت برقة :
-يلا نِدي بابي البوسة بتاعته ونقوله جود نايت !
قبلوهن الاثنتان في نفس اللحظة فكان لكل وجنة منها نصيبٍ بالقُبلة ، ودع عاصي صغاره بحنان زاخر ثم قفل الباب وعاد لحيـاته المتكئة على ظهر السرير .. جلس بجوارها ليطبع قُبلة الشوق فوق ثغرها الوردي .. فبادلتـه نفس القُبلة ولكنها ممزوجة بأنفاس التعب المخفي عنه .. مسح على شعرها ثم انتقل بشدقـه لجبهتها يطبع قبلة آخر أكثر طولًا .. غمغمت كي تلتهي عن الألم :
-أخبار الشُغل أيه .
شرع بفك ساعة يده ثم أزرار قميصـه التي تقيد حركته و أجابها :
-كُله تمام .. أنا ظبطت كل حاجـة هرجع بس من سفرية ألمانيـا ، وهنسافر كلنا أمريكا ، حجزت لك في أكبر مستشفى هناك .. هتقعدي فيها لحد ما تولدي ..
تأرجحت عينيهـا بتردد على أوتار اعترافها أم تصمت !! اكتفت بصدور إيماءة خافتـة ثم سحبت يده لترسو فوق بطنها وأخذت وضعية النوم والاسترخاء وقالت بكلل :
-ممكن تعمل لي مساج لحد ما أنام ..أصل ولادك مش مبطلين شقاوة جوه .. طالعين لباباهم!!
ضاقت عينيه ممازحًا :
-يعني مش لمامتهم !!
#بـــاك …
بـ الطابق الذي يقع فيه جناح عاصي بالقصـر ..
تقف حيـاة شاردة في ذكرياتهما الجميلة أمـام المـراة مرتدية بذلة نسائيـة بيضـاء وتعلق ‏أقراط آذانها المرصعة بأحجـار الماس الملونـة .. وهي تدندن مع الأغنيـة التي علقت برأسهـا الفتـرة الأخيـرة وكأنها كُتبت خصيصًا لأجلهمـا .. وتمتمت بهمسٍ وهي تراقب صورته المنعكسـة بالمـرآة أثناء انشغاله بصغارهمـا بمقلتيها اللامعـة :
-ليه تبقى مين علشان تزورني تقوم تبات
جوا في سواد العين …وأخبيك بالسنين..
يجلس بجوار صغاره اللذين وثقا عهد العشق بين فرس البحر حوريـته .. ويتأملهمـا بشجن وعيون مكدسـة بالحب الأبوي الممزوج بالندم وهو يلامس وجه ريان الأشبه بالقطن الأبيض الناعم :
-أنا أزاي كنت عايز احرم نفسي من النعمـة دي .. !!
ثم هتف مقاطعًا لخلوتها وهو يقرأ الاسم المحفور على الأساور التي يرتديها التوأم المتشابه :
-حيـاة !! راكان نام ..
دارت إليه بابتسامـة خفيفـة وقالت :
-طيب كويس ، دقيقة كمان وهتلاقي ريـان حصله .
قبل كَف ملاكه النـائم ثم ألتفت للآخر فوجده يغرق بالنـوم هو الأخر .. ربت بهدوء عليه ثم قبـل قدمه الرقيقـة وتراجع بحذر ، لقد كان يرتدي قميصه الأبيض و بنطاله الأسود مع رابطة عنقه المنقوشـة .. أقبـل لعندها وهي تغرق بكلمـات الأغنيـة وتتراقص كعود ريحان يغازله الهوى ، تولى مهمـة قفـل عُقدها مصحوبًا بقبلة حارة بجواره كانت سببًا في اندلاع تنهيدة خفيفة من قلبها ثم سألها بصوت خافت:
-بس أيه الروقان ده كله !!
دارت إليـه وهي تروغ كفيـه بأناملها الناعمة وقالت بشجن :
-أنغام منزلة أغنيـة جديدة، وهم ؛ حاسـة أن الأغنية اتكتبت عشاننا ..
ثم خطت آخر خطوة لتبقى بين يديه تحديدًا وقالت :
-في وقت نسمعها سوا ؟!
ضبط مظهر عُقدها الماسي المُلتف حول رقبتها وقال :
-المستعجـل يتأجـل عشانك يا حياة .
أومات بحمـاس وهي تدور لتعيد تشغيل الأغنيـة من جديـد ، رفعت أهدابـها إليه وقالت بصيغة آمرة :
-حاول تحفظ الكلمـات بقا عشان دي هتبقى أغنيتنا المفضلة خلاص..
تركت الهاتف ذو الصوت الهادئ على التسريحـة وعادت لتتوسط يديـه وتتقاسمه ضربات قلبـه ، ثم همت لتعانقـه بخفـة النسـيم كما يعانق الزهور وهي تحاور عينيـه بسيـل متدفق من عشقهـمـا وتردد مع الأغنيـة :
-ھو إنت مين!! علشان في ثانية تشيل حاجات
وتهد رصة ذكريات .. وتلخص العمر في يومين..
ابتسامة رقيقة رُسمت على محيـاه وكأن الأمر راق له ، تسللت يداه تحت سترتها البيضـاء وضمها إليـه أكثر وهو يراقب زهوة تلك الملامح التي تغرد بحبه كعصفور مغرد ؛ مررت ظهر أناملهـا فوق وجنتـه وملامح وجهه وأكملت تمتمـة بصوت خافت جدًا :
-ليه تبقى مين؟! علشان تزورني تقوم تبات
جوا في سواد العين .. وأخبيك بالسنين..
بخطوات بطيئة متمهلة تحركا الاثنان على أوتار الموسيقـى وهو يُراقصـها ببراعـة رجـل مُغرم يعرف من أين تُدلل الأميـرات ، صرخت أنغـام بسؤالها التعجيزي لوصف مدى جرعة الحب بينهمـا :
-يا أخي الشوق ليك واخدني لفين ؟! ومين عنك يرجعني!
قليل منك ما يرويش عين .. ولا كتيرك مشبعني؟!
فتسلطن عليهمـا الحـب والهيـام حتى ختمت المقطع الغنائي بقبـلة خفيفة رست فوق شِدقـه وبالأخص شِفته السُفلية ، ثم تابعتها بغمزة عين من مقلتيها المتيمة قبل أن يُديرها أمامه كالفراشـة ليجذبها بلطف مرة ثانية لتعود لموطنها .. لتعـود بين يديـه .. عادت لمعانقته من جديد ولكن تلك المرة توقفت فيها على طراطيف أصابعهـا وضمته كما تضع الأم ابنها العائد من الغُربـة .. امتزجت خُطى الجسدين وكأنه جسد واحد وهما يستمعان لبقيـة الأغنيـة :
-یا قلبك لو عينيك نايمين
وعن نوم عيني تمنعني
بحبك كل يوم حبين
وأجيب قلبين منين يعني
افترقت رأسها المستندة على كتفه لتلقى بعينيـه من جديد وقالت بولهٍ :
-ساعات فعلاً بحس إني محتاجـة قلبين ، لان قلب واحد في حبك مش مكفي .. قولي الأغنية عجبتك مش كده ؟!
انهارت فلسفة الكلمات أمام جمالها ودلالهـا وأنوثتها الساحرة التي ينهار أمامها سلطان الغرام .. شرع بفـك رابطـة عُنقــه بهدوء فسألته :
-عاصي جميلة ! أنت ليه هتغيرها .. هنتأخر كده والوفد الإيطالي ده مواعيدهم مظبوطـة بالثانيـة ..
فـك أول زر من قميصـه ومال إليها ليفرغ بثغرها طاقة الكلمات التي تسربت لقلبـه فكانت آخر كلمـة قالها وهو ينزع عنها سترتها البيضاء لتقع تحت قدميهـا بهدوء ؛ وارتمت معها تلك المواعيد المهمة عند قدميها صرعًا لا حراك لهم :
-براحتنـا !
شرعت أن تعارضـه بإصرار ؛ فكتم أنفاس تمردها بقبلاته الهادئـة التي كانت من نصيـب ملامحها الغارق بهما كبلبل يتنقل هنا وهناك في روضـة جمالها ، فلـم يمهلها لحظة واحدة تتفوه ببنت شفـة وتعرقل غيث اشتياقـه لها بل أجبرها أن تنبض في قلبـه بنار عشقٍ تلتهـم غابـة بأكملهـا .. ليذوبا الثنائي في براعـة وجمال صوت أنغام وهي تسأله بأخر سؤال قبل أن يُسلب عقلهـا وكأن ذلك السؤال هو مفتاح بوابة الحب بينهما في كل مرة يجمعهما الهوى و بـغنجات من لواحظ :
-بتحبني أد أيه ؟!
بتنهيدة تتهدج حنانًا وحُبًا وهو يزيح تلك الخُصلة عن وجهها النائم تحت عينيـه وجدها ترخي سدول عقلها تحت مرمى أنظاره مستسلمة لموج الحب كما اعتادت أن تستسلم لموج البحر فأخذ يتأمل تلك الملامح الهائمة في سكرة لقاءهم المتجدد كل مرة كأنها أول مرة من اللهفة والحنين والخجل ، فظل قلبه مُعلقًا بطرف السؤال ويتأملها بعجز وحيرة ؛ هل الحب العظيم الذي يتوهج في داخلي كيف يُحشر في كلمة واحدة وهي نعم أحبك ؟!
في تلك اللحظة جاء صوت رنيـن هاتفـه القاطع لتلك اللحظة العذبة التي لم ينعم بها بعد .. فأفترق عنها بصوت مختنق وهو يجيب على الهاتف بمضض ، حتى تفوه بغاز غضبه :
-قُولت جاي ، مسافة السِكة …
وضع الهاتف بجيبـه ثم أمسك بكف تلك الحورية النائمـة على الأريكة والتي تأخذ أنفاسها بهدوء ولكن صداها واصلًا لمسامعه ، شدها من كفها لتفيق من جملة المشاعر التي تكسوها وتُغرقها .. ثم انحنى ليأخذ ” جاكت ” بذلتها المرمي بالأرض وقال بعجـل :
-ألبسي يلا خلينـا نخلص الزفـت ده …
شرعت بارتداء سترتها باختناق وبلـوم :
-عاجبك كده يعني ؟! هتبطل أمتى تصرفات المراهقين دي !
فجر غضبه بوجهها صارخًا :
-حياة أنا مش طايق نـ ..
برقت محذرة وهي تضع كفها فوق فمه :
-أشش الولاد نايميـن !! صوتك يا عاصي ..؟!
عض على شفته السفلية بغضب دفين ثم أخذ حافظة نقوده ومفاتيحه وقال بضيق :
-هستناكي في العربية ، استعجلي مش كل مرة كده تأخرينا .
وبخته بإعتراض وهي تهندم ملابسهـا :
-بردو أنا السبب فـ الأخر !! وأنا الغلطانة .. عادتك ولا هتشتريها !
شدت حقيبتهـا بفتـور وهندمت شعرها بعجـل ثم تابعت خُطاه متوجهة إلى غرفة عاليه ، طرقت الباب بخفوت حتى فتحت لها ، اعتذرت حياة بخجل ، خاصـة عندما لمحت مراد بالغُرفة وعالية التي تتوارى خلف الباب إثر ملابسها القصيرة ، غمغمت بإحراج :
-عاليـة ، ريان وركان نايمين فوق .. ممكن تخلي بالك منهم ، في ميتنج مهم ساعتين بس وراجعة ..
أومأت بسعة صدر:
-من عينيـا يا حبيبتي … هغير هدومي بس واطلع اقعد معاهم ..
ردت بامتنان :
-بجد شكرا يا عاليـة .. وكمان البنات راجعين من النادي بعد شوية .. خلي بالك عشان بيحبوا يشيلوا الولاد وممكن يوقعوهم ..
كادت أن تنصرف ولكنها تراجعت قائلة :
-انا مجهزة كل حاجة ، فساتين البنات وبدل الولاد .. لو اتاخرت خلي سيدة تساعدك .. أنتِ عارفة شمس آكيد مشغولة مع نوران ..
-اطمني يا حبيبتي .. هخلي بالي منهم لحد ما ترجعي .
*******
~بغُرفـة تمـيم ..
-تمـيم تميـم ، ممكن تركز معايا بقا وكفاية لعب مع مصطفى .. يا تمــيم !!
ضربت الأرض بقدميها بجزع إثر اهتمام تميم المبالغ بصغيره الذي بلغ شهره الثامن .. سيل متدفق من القُبلات كان من نصيب وجهه الدائري ناصع البياض قبل أن يضعـه في فراشه ، قائلًا :
-الولا ابن الـ*** مهما قعدت معاه مش بشبع منه .. هو المفروض هيمشي امتى يا شموسة ؟!
برقت عينيهـا بذهولٍ :
-والله ؟!!!
ثم صرخت بوجهه :
-تميم أنا بكلمك .. !! وأنتَ بتقول لي مصطفى هيمشي أمتى ؟! لا بجد !! تصدق أنا غلطانة ؟!!
قالت جملتهـا وتأهبت أن تنصرف من أمامه فأمسك بمعصمها متسائلا:
-رايحة فيـن ؟! استنى هنا .
فجر كبت يومها بوجهه :
-الفستان طلع ضيق عليـا ، وكمان لسه عايزة اروح أقف مع نوران وكمان شقتها عايزة تظبيطات .. وسيدة بتجهز في أكل العرسان تحت ومش هقدر اطلب منها أي مساعدة.. وسيادتك قاعد هنا وبتسألني مصطفى المفروض هيمشي أمتى ؟! انا محدش بيفكر فيا ولا شايل همي خالص ولا بقيت باجي على بالك ..!
ثم انبثقت من عينيها دمعـة تدل على عجزها وقلة حيلتها :
-حقيقي أنا تعبت …تعبت وأنت مش حاسس بيـا ..!!
مسك كفها بهـدوء ليجلسا الاثنان على طرف الفراش وجهًا لوجه ، تلقي تلك الدمعة على طرف إبهامه ثم قال ليهدأ من روعها :
-بس بس .. محصلش حاجة لكل ده .. لو على الفستان متشليش همـه أصلًا فستانك على وصول .. بصراحة فستنانك ده مش عاجبني ، فـ طلبت لك من أسبوع واحد على ذوقي وهيوصل كمان شوية ..
تفرغ فاهها بذهول :
-ايه ؟!!
ثم احتوى كفوفهـا وأكمل :
-والحاجات الـ عايزة توديها الشقة عند نوران ، سيبي مصطفى مع عالية وتعالي هوصلك .. ونخلصها سوا ياستي ..
ثم تنهد بارتياح :
-باقي أيه تاني !!
شاحت أعينها بحيرة وتساؤلات :
-أنتَ حليت أزاي كل حاجة كده بسهولة !!
بادلها بابتسامة خفيفـة :
-عشان تعرفِ إن في حد هنا شايل همك وبيفكر فيكي طول الوقت ، ومش زي ما أنتِ مفكـرة ..
بنظرات إعتراف لتلقي على عينيـه بأنسب وصف يصفه :
-انت بقعة الأمان الوحيدة بهذا العالم ، في كل المرات
التي أرغب فيها الهروب من كل شيء.
لم تجد نفسهـا إلا بحضـنه وهي تتنفس عطره ممتنة لوجوده بجانبها :
-أسفة او عليت صوتي عليك ، ممكن متزعلش مني ، أنا بجد مضغوطـة ومش متحملة .
ربت على ظهرها بعرفان وحب :
-عمري ما أقدر أزعل منك .. أنتِ كل دنيتي يا شموسة ..
فارقت حضنه بابتسامة ارتياح يغمرها :
-ربنا يخليك ليـا ..
رفع كفيها لمستوى ثغره ليطبع فوقهم زهور عشقه ولم يتوقف بهذا القدر بل رمق عينيها بعتبٍ :
-يصح بردو العينين الحلـوة دي تعيط ..
ثم مال نحو عيونها وقبل كل واحدة منهما بتأنٍ ومثلمهما كانا من نصيب وجنتيهـا .. وآخرى فوق رأسهــا وختم صك اعتذاره بواحدة هادئة ليُهدأ من ارتعاشـة شفتيها المنتفضة ، ثم تفوه قائلًا بتشجيع :
-يلا بينـا ….
استقبلت اقتراحه بابتسامة امتنان :
-يلا بينـا …..
******
~بالشـركة …
ظلت تكتب في بعد البنـود المقترحة بالعقـد الجديـد بتركيـز شديـد ينافس تركيزه معهـا وإشاده بأنها أمراة متكاملة حتى بالعمـل لا يفوتها شيء ، رمقته بنظرة معاتبـة وكأنه تسأله : ” لمَ تنظر لي هكذا ؟! ” ثم تحمحمت وقالت بهدوء مترجمة نهايـة اجتماعهم :
-مستر رافايل بيقولك إنه موافق على كل شروطنـا ..
بنظرات تلفت نظر الأعمى وهو يرمقها بإعجاب شديد ممزوجًا ببسمـة خفيفة واضعًا سبابته فوق فمه وقال بثقـة :
-ما هو لازم يوافق ؟!
شاحت عينيها بعيدًا عنه والتفتت إلى الوفد الإيطالي بامتنان :” مبارك لنـا مستر رافايل ”
-Congratulazioni a noi, professor Rafael
تقاذفت نظرات الرضا العرفان من الوفـد الإيطالي وشرعوا بجمع أوراقهم ملقيين رسائل الشكر والتقدير والسعادة البالغة لانضمامهم لهذا الاتفاق ؛ انصرف الوفد واحد تلو الآخر بانتظـام حتى أشار عاصي لمساعدته أن تقفل البـاب ورائها .. تأكدت حياة من خلاء الغرفة عليهما ، فوثبت بضيق يتقاذف من بين كلماتها وهي تفتح تستعد لارتشاف الماء :
-عاصي جرالك أيه !! أنت مش مركز خالص طول الاجتماع وكل ما أسألك على حاجة تقولي اللي تشوفيه ، وطول الميتنج باصص لي وبس ..
فرغت من شُرب الماء ثم وضعت الكوب بغل فوق الطاولة وأكملت بنفس النبرة :
-أدي اللي كُنت خايفة منه ، انا شكلي كده هفض الشراكة معاك ، أنا مش هعرف اشتغل كده ..؟!
وثب بوقار ساطع مفارقًا مقعده الذي يرأس طاولة الاجتماعات ودنى منهـا واضعًا يده بجيبـه وبنظرات بإعجابه قال :
-كده مش عارفة تشتغلي !! دا أنتِ اقنعتيني أنا شخصيًا في ربع ساعة بكل البنود الـ في العقد والـ كلها لصالحنا.. أنا كنت قاعد بتعلم منك وبس ..
حاولت إخفاء ابتسامتها عنه محتفظـة بوجهها الغاضب الذي قرأه بنظرة ، فقالت بثقـة زائدة :
-عاصي أنـا مش هعرف اشتغل في الجو ده .
ثم زفرت بامتعاض :
-عينيك بتربكني يا أخي !!
أمعن النظر بتلك العيون التي كانت بمثابة وطن صغير يرغي بالانتماء إليّه ، دنى منهـا أكثر وقال بجدية مفتعلـة :
-المهم ..
تنهدت بارتياح :
-آخيرًا هتقول حاجة مهمـة ..؟!
-أنا كُنت مركز في حاجة واحدة وبس طول الميتنج ..
ثم لملم شعرها المنسدل على هيئة كعكة دائرية وأكمل :
-الـَ وهي ، الميتنج ده هيخصل أمتى !
كمن يقف بثبات على أرض تهتز من تحتها محاولة إدراك ما يشير إليه وقالت ساخرة:
-والله تعبت نفسك !!
عقد حاجبيه متسائلًا باهتمام :
-أحنا كنا بنقول أيه قبل التليفون ما يرن ؟!
تاهت أفكارها في زحمة تفاصيل يومهم بجهـل ، ثم غمغمت بدهشة :
-أنتَ بتقول أيه ؟!
تنهد بـ اشتيهاء وهو ينحني إليها :
-نكمـل كلامنـا بقا.
ابتعدت عنه بإصرارٍ :
-لا ده جنان، أنا مستحيـل أطاوعك في الجنان ده ، وفي الاخر بطلع أنا السبب في كل الكوارث الكونية الـ هتحصل ..
سُدت مسامعه عن كلمات إعتراضها ، فركت ذلك المقعد الجلدي بقدمه وحملها لتجلس على طرف الطاولـة وبأنفاس عاليـة تتمنى ولو أنَّ الحُب منارة تُرى ، لرأيت في قلبِي مدينة مخصصة لكِ .. هبت معارضـة في حرب تعلم هزيمتها فيها :
-عاصي مش هينفع ، أحنا ف الشركة ..
زفر بضيق ثم رفع سماعة مكتبه آمرًا المساعدة بغضب :
-عندي شغل مهم لازم أخلصه مع مدام حياة ، مش عايز تليفونات ..
ثم قفل الهاتف بضيق ليعود سابحًا في موجهـا العاتي وهو يتمتم بشـوق :
-تعرفي عن عاصي دويدار أنه مش بكمل حاجة بدأها للآخر ..؟!
هناك شخص واحد يخطو معك الصِعاب مؤنساً تتلطَّفُ الأيامُ به وينزع كل أشواك روحك ويستبدلها بورد لا يعرف مذاقـه غيركمـا .. في تلك اللحظة التي شرعت بالتناغم معه متجردة من سترتها البيضاء ووشاح إعتراضها متناسية الزمان والمكان بين يديه ، فـ رن هاتفها بصوته العالي كمن حقن الدماء برأسه فزفر مختنقًا بامتعاض :
-لا مش عيشة دي !!!
تناولت هاتفها بأيدي مرتجفه وقالت :
-دي الناني بتاعت البنات .. هرد .
تبدلت ملامحها سريعًا ثم قالت بعجلٍ :
-جايين حالًا ..
هبطت من فوق الطاولة ومسكت سترتها بيدها وقالت بلهفة :
-عاصي فـ مشكلة مع البنات فـ النادي .. تعالى نروح لهم بسرعة ..
*******
~بغُرفـة عاليـة .
تقف بمنتصف غُرفتها متشبـثة برأسها التي تكاد أن تنفجـر .. من صغاري عاصي اللذان لم يكُفان عن البكاء .. وابن شمس الذي يحبو هُنا وهناك وتساعده غاليـة التي تقف مستندة على المنضدة التي تتوسط الغُرفـة .. وتشد كُل ما يقابلها ليقع أرضًا .. صرخت بصوت فاض منه الصبر :
-غالية بليـز كفايـة كده !!
ثم جلست على طرف السرير وحملت ريان وأخذت تربت على كتفه وهي تعاتبهم :
-أنتوا بتفتكروا العياط مع بعض !!
هدأ ريان قليلًا ولكن زادت ثورة ركان ، تأففت بجزع فـ وثبت ووضعت ريان الذي يصغر ابن شمس بشهرٍ واحد ووضعت حوله وسادة لحمايته ، وترجته :
-أن مش هتقعد مؤدب ومش هتعيط ، عشان خاطري بلاش عياط ..
ثم فزعت راكضـة وحملت راكان على كتفها وأخذت تجوب به الغُرفة ذهاباً وإياباً وهي تربت على كتفه ، ثارت غيرة ريان عندمـا وجد نفسه بالأرض مقيدًا بين الوسادات وأخيه مدللًا على كتفه عاليـة ، رفع الصغير كفها وانفجر بالصراخ ففتحت شهيـة مصطفى الأخر على البكاء .. فتابعتهم غالية وهي تهبط على الأرض باكيـة ولكن كان الشعور مختلفًا عند راكان الذي اسعده صوت بكاء من حوله واتسعت شدقه الصغير بابتسامـة واسعة وهو يتراقص على أصوات بكائهم ، رمقته عالية بقلة حيلة وجثت على الأرض موشكة على البكاء :
-أنتوا لو عايـزين تجننوني مش هتعملـوا كده صح !
فتح مراد الباب وتفقد الغرفة المكدسـة بالأطفال وتتوسطهم زوجته ، ضحك معبرًا :
-ده ايه المهرجان ده !!!
صاحت عاليـة متوسلة :
-مراد تعالى الحقني ….
******
وصل عاصي بِصُحبة حيـاة إلى النادي بوجهه المكفهر ، هبط من سيارته فـ خبط بابها بعنفوان ، لحقت به حياة بخطواتٍ اشبه بالركض :
-حبيبي ، ممكن تهدأ ، نفهم بس فين المشكلة وبلاش عصبيتك دي .
مرتديًا نظارته السوداء مواصلًا سيره بخطواته الثابتـة تجاهل رده عليها فكل همه يصل لتلك السيدة التي أهانة ابنته .. أقبلت المربية عليهم ؛ وبدون بوادر :
-فين السـت الـ استجرت تمـد أيدها على بنتي !!
بنظرات مستاءة كانت من نصيـبه ثم تسللت بينهم بهدوء ووجهت حديثها للمربية :
-قوليلي حصل ايه وأنتِ كُنت فين ؟!
-أنتوا بقا أهل البنات دول !
أردفت تلك السيدة صاحبة الشعر الأصفر جملتها الأخيرة بنبرة تحفز على الشجار بينهم ، رمقها بنظرات ساخطة وأشار بسبابته بنبرة حازمة ساخطة :
-أنتِ قبـل ما تمدي أيدك عليها ، عرفتي هي تبقى بنت مين !!
جثت حياة على ركبتيها وضمت تاليـا الباكية لحضنها وأخذت تـواسيهـا بحنان على هيئة قُبلات دافئة لتهدأ من جسد الفتاة المرتعش :
-خلاص يامامي أهدي !! انا جمبك أهو ..
ترنحت تلك السيدة التي تراقبـه بكبرياء :
-مادام هنمشيها بنت مين ومش بنت مين ، يبقى أعرفك بنفسي ، أا
قاطعها مزمجرًا :
-مش عايز أعرف عشان مش هيفرق لي ..
وبنفس النبرة وجه الحديث لابنته داليا :
-داليـا ، احكي أي اللي حصل بالتفصيل..
شرعت داليـا أن تروي لأبيها القصة بمنتهى الجراءة :
-انا وتوتا كنا بنلعب ، وجيه الباد بوي ده وعايز يلعب معانا وأحنا رفضنا .. وانا وقفت له وقولتله مامي قالت لنا مش نلعب مع حد غريب ..
أصدر إيماءة خافتة وهو يأكل تلك المرأة بعينيها :
-كملي يا روحي ..
ألقت داليا نظرة اخذ فيها أذن حياة وقالت :
-هو بقا يرخم علينـا طول الجيـم ، وانا زعقت له .. راح يا بابي زقني كده ووقعت على الأرض ..
شرعت الفتاة بتمثيـل ما حدث بالضبط ، ثم انحنت وجلبت حجرًا من الأرض وأكملت :
-توتا لما شافتني وقعت مسكت الـstone وضربته !
اطلقت السيدة ضحكة ساخرة :
-دا أنتوا مخلفين بلطجيـة بقا !! والله شايفـة إنكم تهتموا بتربية ولادكـم قبل ما تدخلوهم نادي له اسمه ومكانته زي ده ويضربوا ولاد الناس بالحجارة ..
مالت حياة على المربية:
-أنتِ كنتي فين ؟!
بررت موقفها :
-كنت بجيبلهم أكل ..
أكملت داليـا بجراءة وهي تحكي لوالدها :
-وبعدين يا بابي جات طنت وزعقت جامد ومدت أيدها على توتـا .. ضربتها بالقلم وهي بقيت تعيط ..
توترت السيدة قليلًا وقالت :
-البنت دي بتكذب .. أنـا
أشار بيده ليخرسها وقال بنبرة تهديديـة :
-بنتي مش بتكذب ، وكلمة زيادة في حق بناتي هنسى إنك واحدة ست ..
تدخلت حياة بغضب لتوجه لها العتب واللوم :
-أنتِ ازاي تمدي أيدك على طفل في العمر ده !! أنتِ مجنونة !!
صاحت السيدة بصوتها العالي كي تهرب من ذلك الموقف :
-انتوا شكلكم روباطية بقا !! فين المسئول عن النادي هنا ، الأشكال دي ازاي بيدخلوها كده !!
ركض أحد رجال الأمن نحوهم :
-في حاجة يا عاصي بيه ، أحنا خلاص حلينا المشكلة ؟!
دار إلى موظف الأمن موبخًا بصوته المرعد :
-موضوع أيه الـ اتحل ؟! ازاي بنت عاصي دويدار حد يمد أيده عليهـا وتقول لي الموضوع اتحل ؟!!
ثم مال ناحية ابنها ونزع هويتها ورماها بيد موظف الأمن :
-عضويته تتغلى من النادي هو وأهله ، روح بلغ سامح بيه بكلامي ..
صرخت السيدة بإعتراض ، فقاطعها بحدة:
– أنتِ لسه حسابك مجاش .. اتفضلي اعتذري لبنتي زي ما أيدك اتمدت عليها ، رغم أنه مش كفاية ..
ترنحت السيدة بكبرياء وتمرد وهي تخرج هاتفها :
-لالا ، أنت أكيد مجنون ، أنا هجيب لك الـ يتفاهم معاك ..
رد بفظاظة :
-ياريت ، بدل ما أنا مش قادر اتصرف معاكي بالطريقة اللي تستاهليها .. ااه وياريت الـ هتكلميه عرفيه دول يبقوا بنات مين !! قوليلو بنات عاصي دويدار وبس ..
ثم ربت بغضب دفين على عنق الولد :
-تاني مرة اتعلم تسمع الكلام ومترخمش على بنات الناس ..
ابتعدت السيدة قليلا وهي تتحدث مع زوجها ، غمغمت حياة بعتب :
-خلاص يا عاصي، بلاش تلغي العضوية ، أحنا كده كده راجعين الغردقـة .. كفاية كده !
رد بإختصار :
-إحنا مش هنرجع الغردقـة تاني .. مكاننا هنا والقصر ..
-أيه ؟!!
جاءت السيدة على استحياء وهي تطرق أنظارها أرضًا ولم تسطع مواجهة عاصي صاحب الملامح المرعبة ، نظرت لتاليا بإعتذارٍ :
-متزعليش مني ، أنا لما شوفت ابني بيعيط اتعصبت عليكي ..
كادت حياة أن تتدخل لتقبل اعتذارها ولكن أوقفها عاصي سابقًا الحديث :
-وأحنا مش قابلينه ..
ثم انحني وحمل صغيرته وقال باعتزاز:
-الـ يفكر يزعلك تاني افتحي دماغه هو والـ خلفوه !! سامعة ، بنت عاصي دويدار مابتخفش من حد ..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى