روايات

رواية غوثهم الفصل المائة وواحد وستون 161 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة وواحد وستون 161 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة وواحد وستون

رواية غوثهم البارت المائة وواحد وستون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة وواحدة وستون

“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السادس وسبعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
إلهي …
قد عصيتك في غفلةٍ مني
وأعلم أن نارك قد أُعدَّت لمثلي
فواندماه على شباباه،
فواذلاه إذا أتيت إليك، وامنكراه من عمل،
واخجلاه من قدومٍ..
إلهي أعلم إني عاصيك
لكني أحاول كي أطيعك..
ربي أعني عليَّ فأني عدوي
ونفسي والهوى والدنيا كلهم ضدي.
_”مقتبس”
____________________________________
رُبما تختلف المُدن لكن القلوب كما هي..
فقلبي بموضعه معكِ أنتِ أينما كنتِ وبقيتي، وكأنني رحلت وتركت نفسي وكلي معكِ وحملت فقط فراغ نفسي ومشيت..
وكأن منذ البداية وكل شيءٍ كان معلومًا أن النهاية عندكِ أنتِ وفقط، فأنا لم أعلم يومًا لما جئت إليكِ أنتِ ولا من بين العالمين طوال العمر الفائت أين كنتِ، لكن ربما تلك المُفارقة هي الشيء الصحيح الوحيد بذاته…
فدونًا عن سائر البلدان أتيت لتلك التي تقبعين فيها بأقصى المدينة ورغمًا عن أنف كل شيءٍ من بين كل الطرقات؛ اخترت ذاك الذي أوصلني إليكِ، ويوم أن أتيتكِ وصلت نادمًا على عمرٍ فاتني من غيرك أنتِ، فياليت لو كان بإمكاني أن أكون أنا بكل الحاضرين معكِ، فياليتني كنت استطع معانقتك في ذاك التوقيت الذي يقسو فيه عليكِ العالم، ياليتني كنت بيتًا دافئًا لكِ يحميكِ من صقيع العالم بالخارج، ياليتني أتيت في سالف الزمان وبقيت معكِ في ذات المكان، لكني أؤمن بالقدر خيره وشره، وربما الشر كان في غيابك عني، والخير كله أنني يوم أن أتيت لأطراف مدينتك أصبحت أنا لكِ ووجدتكِ ضلعًا كان ناقصًا مني..
التهبت الأجواء فجأةً ووقف “أيـوب” بينهما وقد نظر كلاهما لبعضهما البعض بنظراتٍ جامدة وفي تلك اللحظة تحدث “بهجت” بصلدةٍ ردًا على حديث من يُخاطبه:
_تعديها ولا متعديهاش مش فارق معايا، والأولى بدل ما تيجي تبجح فينا وترفع صوتك علينا في مكاننا إنك تروح تربي ابنك وتعرفه الأدب والأخلاق، وزي ما قولت لو فكر يقرب من بنتي تاني أنا هرميه برة الحارة هو وأخوه ومترجعش تزعل يا حج.
ولأنه يعلم الأصول جيدًا لن يقبل أن يكون طرفًا ضعيفًا أمام خصمٍ سيكون معه بنفس المعركةِ ذات يومٍ؛ فأتاه بالجواب الصارم:
_مش هزعل بس مترجعش أنتَ تزعل، ولولا إني عامل حساب اللحظة اللي هحط فيها أيدي في إيدك علشان نكتب الكتاب في يوم من الأيام كنت عرفتك الرد بيكون إزاي، بس أنا بفهم في الأصول يا أبو “جنة” ومقدر موقفك كويس أوي كمان.
حدثه بثقةٍ وعنادٍ كأنه يعلم القادم في الأمر أو ربما أصدر فرمانًا بذلك، ولأن الطرفين يتمتعان بعنادٍ قوي بدا الصراع جليًا في عينيهما وكأن كلاهما يتربص للآخر ويضعه في خانة الضد، وقف”أيـوب” بينهما بتيهٍ يحاول أن يجد حلًا مناسبًا فوجد في تلك اللحظة قنبلة تتفجر في قدوم “مُـحي” و “تَـيام” من جهةٍ و من الجهة الأخرى أتى “وائل” ابن عمها ومعه “مهند” والكارثة في لحظته تلك حتمية لا شك في ذلك..
علم أن القادم لو لم يُقاد بالعقل من المؤكد النيران ستصل لكل الأطراف وتحرق الأراضي الخضراء واليابس معها، وقف يستمع لتحية “تَـيام” التي خرجت منه جامدة كأنه يتاهب لعراكٍ فورما رأى بعينيه “وائـل” مع “مـهند” ولأن “أيـوب” كان حكيمًا بما يزيد عن عمره رسم بسمة هادئة فوق وجهه ثم قال مرحبًا بما يخفي أثار التأهب للعراك:
_نورتوا المكان وشرفتوا أهله، أقعدوا بس خلونا نرحب بيكم.
طالعه “تَـيام” بعجبٍ في أمره فومض له بجفنه بمعنى أن يفهم عليه لكن يبدو أن العناد كان هو السمة التي ظهرت على الآخر كي لا يقبل التفاوض، وقبل أن تلتهب الأجواء كما التهبت النظرات أتى القوي الذي لا يحتاج موقف كهذا غيره هو، حيث ولج “أيـهم” وألقى التحية ونظراته معلقة بمن هم أمامه:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، منورين.
ردوا عليه التحية بينما ذهب هو بعينيه لشقيقه فوجده يستغث به ثم أشار بأهدابه نحو “مـهند” و “تَـيام” ففهم الآخر والتقط مغزى نظراته وبناءً على ذلك قال بديباجةٍ أقرب للعملية في نمطها:
_طب يا شباب بعد إذنكم كدا علشان عاوزين الحُجاج في كلمتين مع بعض، يلَّا يا “تَـيام” خد أخوك واسبقني على الوكالة وأنا هاجيلك بعد دقايق، روح عند “نـادر” وخليك معاه علشان هو عاوزك هناك.
كاد أن يرد المعني عليه لكن قاطعه “مُـحي” بنبرةٍ جامدة كأنه حقًا سأم من كل شيءٍ حوله ويكفيه ضجيجًا لهذا الحد:
_مش هروح في حتة غير لما أفهم هو في إيه؟.
قبل أن يرد عليه “وائـل” ويخرب كل شيءٍ قاطعه “أيـوب” حينما انتهج اللين في كلماته وخاطبه بهدوءٍ:
_مفيش أي حاجة، عاوزك بس تيجي كدا علشان عاوز منك خدمة ليا ومحدش هينفعني فيها غيرك، تعالى بس عاوزك.
أقترب منه “أيـوب” تزامنًا مع نهاية كلماته وفي تلك اللحظة وصل به لخارج أعتاب المحل ثم همس له برفقٍ وهدوءٍ:
_عاوزك تهدا وقبل ما تتكلم كلمة واحدة بس أعرف مين اللي هيتضر بسببها، ولو أنتَ فعلًا بتحبها زي ما أخوك قال وخايف عليها يبقى متلعبش بكلامك في حقها وسمعتها، اسمع كلامي أحسن وأمشي مع أخوك، ممكن؟.
زفر “مُـحي” يخرج الضيق الكامن في صدره ثم أومأ موافقًا بقلة حيلة وكأنه فقد كل الحيل والوسائل التي توصله لما يريد، بينما في الداخل وقف “أيـهم” بجوار الشباب ثم سأل “مُـهند” بنبرةٍ أكثر لينًا:
_نورتنا يا “مُـهند” بس قولي نورتنا ليه في حاجة ولا قولت أخيرًا تيجي تنورنا وتشرب معانا كوبايتين شاي؟.
كان يصبغ كلماته بصيغة المزاح كي لا يلفت الأنظار نحو أي شيءٍ وفي تلك اللحظة جاوبه المذكور بهدوءٍ يخبره بالحقيقة:
_شرف ليا طبعًا بس أنا جاي علشان “وائـل” كلمني وقالي فيه مشكلة مع عمي وجيت قولت أفهم حصل إيه، بس الحمدلله كفاية إني شوفتك أنتَ و “أيـوب” بخير.
ابتسم له “أيـهم” أولًا ثم حرك عينيه نحو “وائـل” يرشقه بنظرات نارية ثم عاد وربت فوق كتف من كان يحدثه وأضاف بلمحة مزاحٍ:
_بقى دا اسمه كلام طيب؟ أنا موجود متقلقش وبعدين مفيش مشاكل ولا حاجة دا سوء تفاهم عابر وهيعدي، كلهم أخواتي وفوق راسي، روح أنتَ شوف حالك كدا وسيبك من المشاكل دي خالص وسيبك من “وائـل” علشان مشاكله كتيرة ودماغه بترميه على الهم.
خلط المزاح بجدية الأمر حتى تبدو نيته واضحة بمرأى العينين وقد وافقه الآخر في القول وودع الجميع ورحل، بينما “أيـهم” فسحب “وائـل” من قميصه ثم ولج به داخل المكان المخصص لصناعة الأواني الفُخارية ثم دفعه بخفةٍ وقال بجمودٍ وصلدةٍ صبغا حديثه:
_اسمع يالا أنتَ علشان لعب العيال مبيجيش معايا سكة خالص، أنا راجل معلم ودماغي كبيرة أفسحك فيها أنتَ وعيلتك رايح جاي، كن وأهدا شوية وبطل فتحة الصدر دي ودخلة شجيع السيما علشان والله العظيم لو طلبت مني أعمل نمرة بيك هخلي الحارة كلها تحفل عليك، واللي في دماغك أنا فاهمه، بس أنتَ مش راجل علشان عاوز تكسر عمك في بنته وتخلي سيرتها على كل لسان وتطلع الواد الجامد اللي بيحل مشاكل العيلة، لو مالمتش نفسك صدقني من غير حلفان أنا هلمك.
طالعه الآخر بعينين ثاقبتين فهندم “أيـهم” له ثيابه ثم هدده بطريقةٍ غير مباشرةٍ:
_أظن كلامي وصل ليك أهو، عاوزك تعقل بس.
وكما يقال أن الأسد مُهاب من الجميع لن يقف أمامه من كان يزعم القطيع في سيرهم، وهذا الذي يقف أمامه لا يسير إلا مع الجبناء لذا خرج بصمتٍ دون أي تراهات أو مزايدات فوق الحديث…
لحقه “أيـهم” نحو الخارج فوجد الرجليْن الكبيرين ومعهما “تَـيام” الذي أصر على البقاء بجوار والده ومعه “أيـوب” الذي أصر على رحيل “مُـحي” نحو عمله من جديد، وقد تحدث “أيـهم” برفعة رأسٍ وشموخٍ يقول:
_أنا طبعًا آسف على اللي حصل كله بس أنا كنت بحاول ألم الدنيا علشان محدش يتضرر والموضوع يكبر أكتر من كدا، بس دا مش معناه إن الموقف خلاص هيعدي، مع احترامي ليكم طبعًا بس اللي بيحصل دا مش هينفع، وكلامي ليك يا عم “بهجت” بالأخص.
طالعه “بهجت” بعينين متقدتين بجمراتٍ ملتهبة؛ فأضاف هو بثقةٍ دون أن بقلل من شأن مَن يخاطبه:
_أنتَ مصمم إنك تحطنا كلنا في موقف صعب، بس إنك عاوز تطرد “تَـيام” وواقفله فدي معناها إنك بتقل مني ومن رجالة عيلة “العطار” كلها، وأنا تقديرًا لبك مش هتكلم، بس هقولك حاجة مهمة وهي إن “تَـيام” الأخ التالت لينا، كلامي وصلك يا حج؟.
سكت “بهجت” وابتلع الحديث داخل جوفه وكأن الحديث الموجه إليه أخرسه تمامًا عن أي كلامٍ يقال، بينما “نَـعيم” فأولًا وأخيرًا لا يريد إلا مصلحة ابنه، فأتى حديثه متوازنًا على كلتا الكفتين ما بين الصارمة والحكيمة بلينٍ:
_وأنا عن نفسي كلامي قولته خلاص، ولادي خط أحمر واللي يفكر يعديه يبقى بيأذي نفسه وزي ما أنا أب مقدر برضه إنك أب علشان كدا بقولك إن محدش هيقرب من بنتك ولا ييجي جنبها، خلاص هي حاليًا مش نصيب ابني ولا تخصه، بس اللي هيفكر يدوس لابني على طرف هو حر سواء الكبير أو الصغير.
وكلامه ليس تهديدًا وإنما هو الصراحة لما تضمره نفسه وينتويه هو بقلبه، وبناءً على ذلك عم الصمت حول الجميع كأنه أطبق عليهم وكأنما حلق الطير فوق رؤوسهم فما عاد للكلامَ مكانًا بينهم، هو الذي لا يقيم وزنًا لجبانٍ ولا ينصت لطعانٍ..
ما إن تكلم أوقف عن الحديث كل لسانٍ..
____________________________________
<“ربما رأيت فيكِ فرصة العمر من بعد المُـر”>
قد ينقسم العمر لنصفين…
النصف الأول يكون درسًا وقد يكون قاسيًا كما هبوب رياحٍ عاتية تباغت حياة المرء من بعد صمتٍ وسكونٍ، وقد يكون النصف الثاني هو العودة لذاك السكون، فبعض الأيام تمضي مثل المُـر وبعضها يكون هدايا وكأنها فُرصٌ بالعمر…
كان يقف بشرودٍ كما عاداته الأخيرة أمام باب الوكالة وفي يده استقر قدح القهوة حتى أنه كان يرتشف منه بصمتٍ تام دون أن يعير العالم أي اهتمامٍ، وكان أقرب لوصفٍ حزينٍ استقر بين صفحات كتابٍ غير مقروءٍ ولم يسمع عنه أحد..
وقد خرج “نادر” من قوقعة شروده على أصوات ضجيج عالية تأتيه من الجهة الأخرى فالتفت برأسه ليجد مجموعة من الشُبان في مقتبل العمر يتشاجرون سويًا بأصواتٍ عالية فتنهد ثم عاد برأسه لسيرتها الأولى فوجد أحد العُمال بالمكان يقف بمحاذاته ثم قال راثيًا حالهم:
_أهو دا بقى الحال بتاع الشباب كلها خلاص، يروحوا يلعبوا بالساعات ويصرفوا فلوسهم في الهيافة ويتخانقوا مع بعض ويسبوا في سيرة أهاليهم واللي جايبينهم علشان حتة كورة والناس كلها تسمع كلامهم وزعيقهم كدا، ربنا يهديهم لحالهم بدل ما القطر يفوت بيهم ويندموا..
كان حديثه متحسرًا ومقهورًا ونادمًا على أيام عمرهم، فذهب “نـادر” بعينيه نحوهم من جديد ليلتقط صورة واحدٍ منهم يعرفه بالشبه أو بقرب الملامح فسأل مستفسرًا:
_هو مش دا “حمدي” ابن عم “عاشور” الممرض؟.
أشرأب الرجل القصير برأسه يلتقطه بعينيه ثم عاد وقال بذات الطريقة القديمة المتحسرة على حاله:
_آه هو يا سيدي، أهو عندك دا مثلًا شاب سايب أبوه وأخته طلعان عين أهاليهم في المستشفيات ومرمطة وبهدلة وأبوه زي ما أنتَ شايف طاحن نفسه ليل ونهار علشان يوفرله حياة حلوة ويخليه ملو هدومه وفي الآخر فلوسه كلها ضايعة في حجز الكرة ومش بس كدا، لأ دا كمان خلص ثانوية عامة ومقدمش في جامعة، دا ضيع السنة على نفسه وأخته وأبوه مقطعين نفسهم علشانه.
في تلك اللحظة أشفق “نـادر” على حالهم وسرعان ما تذكر حياته السابقة التي عاشها في كنف والده المتسلط، تذكر كيف محى شخصيته وأصبح كما الأداة التي لا تتحرك إلا بأمر صاحبها، في تلك اللحظة تحرك نحو “حمدي” ثم وقف أمامه فسكت الآخر عن الشتائم التي كان يسب بها أصدقائه ما إن رآه أمامه، فيما تحدث “نـادر” بلهجةٍ آمرة:
_عاوزك في كلمتين بس مش هنا، تعالى معايا.
وأمره نفذ في الحال بغير مراجعةٍ، سار خلفه الآخر بصمتٍ وفي قرارة نفسه يتعجب من الطريقة والسبب كلًا على حد السواء؛ لكنه سار وذهب معه حيث الوكالة ووقف فيها أمامه فقال “نـادر” بهدوءٍ كأنه تبدل ما إن ولج المكان:
_بص يا بني لو فاكر إنك كدا شاطر تبقى غلطان، حقك تعيش حياتك وتستمع بأيام شبابك دي بس مش من حقك إنك تخلي اللي حواليك حالهم مقهور علشانك، لعب الكورة حلو مقولناش حاجة بس بحدود وعقل، أنتَ عندك ١٨ سنة ومعملتش أي حاجة في حياتك، يبقى الأحسن إنك تتعلم حاجة تنفعك في حياتك.
امتعض وجه الشاب الذي كان يقف أمامه وبانت امارات الغضب في ملامحه فقال “نـادر” بجمودٍ عاد يتلبسه:
_أنا علشان خاطر أبوك هعمل معاك الواجب، هخليك تشتغل معانا هنا في الوكالة من ٩ الصبح لحد الساعة ٦ بليل، وعلى فكرة “أيـهم” اللي قالي أشغل الشباب وأجيب ناس هنا، يعني القرار مش من دماغي، وأبوك عارف حاجة زي دي كمان، قولت إيه؟.
في تلك اللحظة كان الشاب يشعر أن الضغط عليه يفوق كل شيءٍ مقارنةً بأحلامه التي يرغبها ويسعى بدون كللٍ أو مللٍ كي يحققها، فاندفع بقسوةٍ وبغير أدبٍ يقول:
_وأنتَ مالك أنتَ أنا مش فاهم، بتتدخل وتحشر نفسك في حياتي وخلاص وأنا معرفكش، خليك في حالك وقول الكلام دا لنفسك، أنا هكمل في لعب الكورة زي ما أنا عاوز، وقريب أوي كمان هوصل.
ابتسم “نـادر” بسخريةٍ ثم سحب مقعدًا وجلس فوقه ثم قال بتهكمٍ لاذعٍ وكأنما يقلل من شأن من يخاطبه ويحدثه:
_النجاح مش بييجي بالبجاحة وقلة الأدب والافترا على حقوق الناس، النجاح بييجي من جوة الشخص بنفسه وذاته، وأنتَ مش عاوز تحقق أحلام حد غير نفسك بكل أنانية، بس أنا هساعدك وهعرض عليك عرض، هتشتغل معانا هنا ومقابل دا أنا هدخلك نادي من أكبر نوادي مصر، هستثمر فيك هناك وأخليك تحقق حلمك بس أشوف بعيني إنك بقى يعتمد عليك، ها؟ موافق؟.
وهنا الغرض كان مُغريًا للحد الذي العقل يغيب عن مهام الفكر في أي عوارض أخرى أو مفارقات، سكت الشاب ولمعت عيناه بوميضٍ أقرب لموميض لمعة عيني المحارب الظافر في حربٍ لم يبذل فيها أي جهدٍ وقد لمح “نـادر” تلك النظرات فأدرك أن حربه الكلامية مع الشاب وقبل أن يكرر حديثه قال “حمدي” بلهفةٍ قبل التراجع عن العرض:
_موافق، بس لو دي اشتغالة منك صدقني مش هسكتلك، أنا كدا كدا كنت بدور على شغل علشان عاوز حاجات كتيرة لزوم التدريبات، فهجرب لو مرتاحتش خلاص مش هكمل ومش هاجي تاني، تمام؟.
أومأ له “نـادر” ثم مد كفه يصافحه وقال بتأكيدٍ على ما فات وتم الحديث عنه منذ بُرهة وليس أكثر من ذلك مُضيفًا قوله:
_تمام، كدا يبقى اتفقنا خلاص، وعلى العموم متقلقش كل حاجة معمول حسابها وأنا طالما وعدتك مستحيل ماوفيش بوعدي، كلام ثقة؟.
أومأ له الشاب ثم بدأ يتحرك في طور العمل ويفهم ماهية عمله بالتحديد وما طُلِبَ منه كي يبدأ عمله الجديد والحجة القوية التي دفعته لذلك كانت في حُلمٍ جميلٍ وضع فيه كتاب حياته وأهمل كل شيءٍ كي يتابع تحقيق هذا الحلم عن كثبٍ، ولأن الآخر يرغب في بناء جسرٍ من الحياة الجديدة وأول أساسٍ فيها يكمن في تصحيح مسارات الآخرين قبل أن يخوضوا مضمار الحياة القديمة بذاتها..
“بعد مرور ساعتين”
مرت “حنين” من المكان بعد عودتها من المشفى وقد لمحت بعينيها شقيقها يقف بمحاذاة “نـادر” على أعتاب الوكالة فتعجبت هي من الأمر واقتربت منهما تسأل بتعجبٍ بات ساكنًا في الأمر والعينين:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، خير بإذن الله بس هو “حمدي” هنا بيعمل إيه، حصل حاجة وأنا مش هنا ولا إيه؟.
تقدم نحوها “نـادر” وقال ببسمةٍ هادئة بعدما مسح فوق كتف شقيقها:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حصل كل خير بس “حمدي” استلم النهاردة الشغل ومحسوب نص يوم علشان جه متأخر، وعلى فكرة هو شاطر أوي ولقط الشغل بسرعة مننا.
فرغ فاهها وطالعته بدهشةٍ فاتضحت قلة الحيلة في نظرات شقيقها الذي أخبرها بصمتٍ أنه فعل هذا الشيء وفي تلك اللحظة ضحكت بسعادةٍ له ثم أقتربت منه تقول بفخرٍ لأول مرةٍ بحياتها له:
_أنا فخورة بيك أوي فوق ما تتخيل والله، ربنا يوفقك ويكرمك في حياتك وتحقق كل أحلامك اللي نفسك فيها كلها بس لما تريح أبوك شوية وتخليه متأكد إن فيه في ضهره راجل هيسد معاه، وأنا متأكدة إنك هنا هترتاح في الشغل معاهم هنا أوي.
تدخل “نـادر” في تلك اللحظة وقال مؤكدًا بما تفوهت به هي:
_شوفت أهو علشان تصدقني، يلا روح عند “أيـهم” هناك علشان كان محتاجك يديك حاجات مهمة، ولو سألك عرفه أنتَ حابب تكون فين، والمكان اللي يريحك في الحارة اشتغل فيه.
وافقه الشاب ورحل من المكان بعدما أكد على شقيقته أن ترحل وما إن تحرك من المكان طالعت هي وجه “نـادر” على استحياءٍ وقالت بامتنانٍ له:
_أنا مش عارفة أقولك إيه والله بس أنتَ عملت حاجة فرحتني والله، أنا كل يوم بكون ماشية وايدي على قلبي منه ومن عمايله، وكل ما شاب يدخل عليا مجروح ولا متعور قلبي بيقف، متشكرة يا سيادة القبطان والله.
_بلاش سيادة القبطان دي أنا معملتش حاجة تستاهل كل الرسمية دي منك، بس كل الحكاية إني شوفت إنه محتاج يتصاحب على حد كبير ياخد بأيده، بعدين أظن يعني أنتِ ووالدك عملتوا معايا الواجب وزيادة في موضوع مرضي وتعبي دا وكان الفضل بعد ربنا ليكم.
ابتسمت هي برقةٍ له ثم سحبت نفسًا عميقًا وردت عليه بتعقيب بسيطٍ:
_متقولش كدا دا كات واجب علينا وشغلنا، عن إذنك وشكرًا مرة تانية على موقفك دا، أكيد دي حاجة فرحتني ولسه هتفرحهم في البيت هما كمان، سلملي على والدتك وقريب هاجي أشوفها علشان وحشتني أوي، مع السلامة.
أنهت الحديث بوداعٍ من لسانها ونظرة عينيها له وأولته ظهرها والبسمة الهادئة تزين محياها الرقيق، كانت تشعر بالفرحِ والأمان معًا والسبب في ذلك كان هو وليس غيره، بينما هو فكان سعيدًا بحديثها، كان يشعر أنها قالت له ما كان يرغب في سمعه منذ زمنٍ بعيدٍ؛ أنه يستطع أن يسعد الآخرين بل والأكثر فرحًا له أنه يُجيد تحمل المسؤلية كي يصلح أمرًا فاسدًا..
وكأن هذه هي الحياة يا صديقي..
تمر كعمرٍ بأكمله في شقاءٍ، ومن ثم تمر
كليلةٍ واحدة تشعر فيها بالشفاء
وما بين هذا وذاك يمر العُمر
ومعه يُمحى كل المُر..
____________________________________
<“فلنبدأ العمر من جديد وكأننا لم نتعثر من قبل”>
ومن جديد سنقوم ونصعد للقمة…
لن نتأقلم أسفل السفح ونرضخ لوضعٍ يدنو بنا نحو أسفل قاعٍ، وإنما حتمًا سنرتقِ للقمةِ ونقف أمام العالم كما كنا مُقاتلين دون خوفٍ أو حتى انحناءٍ من عالم الجُبناء، سنقف ونتخلى عن ماضينا ونفتح أذرعتنا ونضم الحاضر، فلا بأس من سقوطٍ عابرٍ؛ لطالما كنا سنقف من جديد أقوى…
بدأ الليل يدنو عليهم أو ربما قد أتى بالفعل؛ لكن ضوء الحياة هو ما يخفي وحشته، وهو يتحرك بين الجميع يستقبل الترحيبات والمباركات والتهنئات من الجميع بمناسبة عقد قرانه، وما إن أنتهى عمله تذكر لتوهِ أنه لم يراها اليوم بسبب العمل، فتجهز كي يرحل ثم خرج ووقف في انتظارها عند بوابة المشفى وإذ بها فجأةً تقترب منه بضحكةٍ واسعة كأنها توزعه خلالها الحياة..
وقف يبتسم لها هو الآخر فقالت هي بنبرةٍ ضاحكة يملؤها الحماس الذي خنق صوتها حتى بان ذلك في صوتها:
_هروح معاك زي ما جيت النهاردة ينفع؟.
أومأ لها موافقًا وكاد يخبرها أنه يقف من الأساس في انتظارها كي تذهب معه وفي تلك اللحظة كانت هي الأسرع حينما جلست فوق الدراجة ولحقها هو وجلس أمامها واستعد كي يشرع في القيادة لكن صوت شقيقها قتل تلك المتعة في مهدها حيث ظهر من اللاشيء وقال بحدةٍ طفيفة كأنه يعاتبهما سويًا بقوله:
_والله؟ رايحين فين حضراتكم يعني كدا؟.
التفتت له شقيقته بعينين واسعتين ومن نظرته فهمت ما يدور في خلده فهمست لزوجها بنبرةٍ بالكاد فسرها هو من همسها:
_هنزل علشان شكله متعصب ومش ناقصة كلمتين في جنابي، هبقى أكلمك خليك صاحي لو سمحت، باي.
تركته واقتربت من شقيقها الذي ضيق جفونه نحوها ثم سرقها نحو السيارة وقد لحقته هي بعدما شدت ذراعي حقيبتها وجلست بجواره بجسدها فقط، وإنما ظل قلبها برفقة روحها معه، وتابعتهما عيناها حيث مقر جلوسه وهو يُطالعها بالسيارة وقد ظهر كمن فقد الأمل نهائيًا، كانت ملامحه تسرد حكايا قلة حيلته وهوانه وحزنه كمن تُرِكَ وسط القبيلة في حالة حربٍ..
حرك “جـواد” رأسه يتطلع نحو المرآة فلمحه ولمح شقيقته التي تطالعه وهو يستعد للرحيل بدراجته فابتسم هو بخبثٍ وقبل أن تتحول بسمته لضحكةٍ خافتة؛ أولاها الإذن بقوله:
_لو عاوزة تروحي معاه روحي بس خلي بالك من نفسك، أحسن تقعي من وراه زي ما وقعتي فيه كدا يا “فُـلة” يلا أنزلي بدل ما أرجع في كلامي تاني وأطلع بينا على البيت…
قبل أن ينهي حديثه كانت ركضت بالفعل من السيارة وأغلقت الباب خلفها ثم هرولت بخطواتها نحو “مُـنذر” الذي تابعها بعينين ضاحكتين ما أن أتت خلفه فيما تمسكت هي به وقالت بسعادةٍ بالغة:
_تصدق الراجل دا خسارة في البلد دي؟ خلاني جيتلك.
ضحك لها “مُـنذر” ثم التفت وحيا “جـواد” بإشارةٍ من كفه فابتسم له الآخر وانتظر تحركهما بالدراجة وبعدها تحرك هو الآخر خلفهما بعدما ابتسم بسعادةٍ لأجل شقيقته التي كانت تضحك خلف زوجها وخصلاتها تتطاير خلفها، فشعر حينها أن السعادة تنقسم بين كليهما بتساوٍ، إذا ضحكت هي؛ فرح هو وشعر أن قلبه يحيا ربيعًا من بعد الخوف والظلام..
أما “مُـنذر” فشعر بها تضع رأسها فوق ظهره وحينها سألها بمزاحٍ أقرب للسخرية أو ربما يكون أراد مشاكستها:
_الظاهر إنك متطمنة ليا بزيادة، مش خايفة مني؟.
ضحكت هي كرد فعل على حديثه ثم جاوبته بمزاحٍ بنفس ذات طريقته هو أثناء حديثه معها لكن الفارق أن حديثها كان صادقًا:
_ هتصدقني لو قولتلك أني عمري ما كنت متطمنة في حياتي زي وأنا معاك كدا؟ أوعى تضحك عليا علشان خاطري، أنا مسلماك قلبي وواثقة فيك.
وفي تلك اللحظة وصله صوت الرجاء من قلبها ولم يكذبه، فكيف يفعلها إن كان قلبه يحدثها بالمثل ويطلب منها نفس الشيء؟ كل ما فعله في تلك اللحظة كانت التفاتة من رأسه نحوها وقال بصدقٍ بعدما هدأت سرعته عن السابق:
_وأنا حاسس بيكِ وبقلبك كمان، خليكِ بس معايا.
وهُنا سكتت هي عن الكلام وجل ما فعلته كانت استنادة من رأسها فوق ظهره وصوت ضحكتها الخافتة وصله بكل تأكيدٍ فترك قلبه يضحك هو الآخر وفي قرارة نفسه كان يعلم أن ربما الصواب الذي يمحو كل خطأٍ قد يبدأ من عندها هي لا غيرها..
____________________________________
<“لولا الصعاب لما كنا أدركنا ملل كل سهلٍ”>
كل شيءٍ يمر على كل مرءٍ يترك به الأثر…
فلا يوجد شيءٌ عابرٌ وإنما الكل يترك أثره، لكن في بعض الأحيان يثقل حتى على المرء مجرد النفس العابر، لحظات يترك فيها كل التراكمات تجثم فوق صدره وتُثقل أنفاسه فتصبح أكثر الأشياء سهولةً هي بذاتها ما تُبكيه، حتى وإن أخطأ في اختيار ملعقة الطعام سيبكي آسفًا على ما فاته كله…
رُبما مكان جديد يشهد انجازات أكبر مما سبقت على حياة المرء، وكأن المدن بأكملها تشارك في كل شيءٍ يمر على الحياة، وهو هنا يشهد أكبر التحديات ولن يتحرك من موضعه إلا ما إن ينتهي مما يفعله هنا، ورغم الصعاب واختباره للوحدة من جديد إلا أنه كان يحاول لأجل من يحبهم…
جلس “يـوسف” فوق صخرة رملية بشرودٍ تام وفي يده دفتره الورقي ومعه القلم وتلك المرة بدأ يرسم عائلته بأكملها، وكان يضع جم تركيزه في عيني أمه وفي تلك الصورة التي ظل يحتفظ بها في جيب بنطاله وقد جلس مبتسمًا بالأخص حينما تذكر كيف وصل لتلك المرحلة وأنه لتوهِ أنهى مكالمته معها وهي تطمئن عليه وتستخبر عن أحواله، أهذا هو نفسه من كان يصادق الليل ويرافق الألم؟ أهذا هو ذاته من كان يتلحف ليلًا بالأوجاعِ من أصبح في حاضره يتلحف بدعوات أمه؟…
غرق “يـوسف” في تفكيره حتى قطع خلوته مع نفسه قدوم “ياسين” الذي اقترب منه وجلس بمحاذاته ثم قال بفرحٍ لأجله:
_شوفتك بتبتسم لوحدك قولت أسيبك، بس المرة دي أنتَ متغير بجد وتغييرك باين مش محتاج حاجة توضحه، شوفت العيلة وجودها فارق إزاي؟ ربنا يباركلك فيهم ويعوضك خير عن كل اللي فاتك من غيرهم ويملا أيامك كلها فرح وهنا.
ابتسم له “يـوسف” وأمن خلف الدعاء وفي تلك اللحظة صدح صوت هاتف “ياسين” برقم أخو زوجته فتنهد بثقلٍ ثم فتح المكالمة ليجد صوت الآخر المدعو “وليد” يهتف بصياحٍ:
_أنتَ واخد أختي مني بقالك ٣ سنين وأنا ساكتلك، بس أبوك كمان ياخد البت وبنتها كدا إحنا بنلعب بقى مش بنتكلم جد، وخلاصة القول بقى أنا هروح آخد أختي وبنتها.
ضحك “ياسين” رغمًا عنه ورد عليه بخضوعٍ غريبٍ:
_وماله يا “وليد” مزعل نفسك ليه بس؟ روح بس كمل للآخر وأطلع لأبويا بكل شجاعة كدا وقوله يا عمي أنا جاي عاوز أختي وبنتها، إن ما خلاك تبعت تجيب رجالة عيلتك كلها تخرجك من القسم أبقى مبفهمش حاجة..
ضحك “يـوسف” رغمًا عنه على حوارهما وتابعهما حتى صدح صوت “ولـيد” بغلبٍ على أمره معهم:
_ماشي نسكت لأبوك لحد ما أنتَ ترجع بس ويبقى فيها كلام تاني معاكم، بس متراهنوش كتير على صبري عليكم، خلص شغلك وأبقى تعالى ليا علشان أطلع عليك القديم والجديد.
ضحك “ياسين” ثم أغلق معه الهاتف بعد حوارٍ لم يدم كثيرًا وإنما فقط كانت وصايا على العائلة وذويه و”يـوسف” يراقب كل ذلك ضاحكًا حتى عاد له الرفيق مبتسمًا ثم قال له يمازحه:
_أظن مش هتقدر تتكلم علشان بقيت في موقفه وتلاقيك مش طايق “أيـوب” علشان واخد منك أختك ومخليك لوحدك كدا من غيرها من بعد ما لقيتها في حياتك.
_لأ والله أنا مش طايقهم هما الاتنين علشان قاعدين مع بعض من غيري، حاسس إني عاوزهم هما الاتنين معايا علطول ومش عاوز أغيب عنهم علشان كل واحد فيهم بيديني حاجة بيكون نفسي أحس بيها، هي بتفكرني بالماضي و”يـوسف” القديم اللي مش بحب أنساه وهو بيحسسني إن فيه “يـوسف” تاني جوايا مقبول ومحبوب ومرغوب رغم عيوبه، وأكتر حاجة تفرح أي حد إن صاحبه يقبله زي ماهو كدا ودا اللي هو بيعمله معايا، قابلني زي ما أنا كدا على بعضي..
ربت “ياسين” فوق ظهره مبتسمًا ثم قال بصدقٍ:
_ربنا يبارك فيكم لبعض ويفرحكم بولادكم ويرزقكم بالحياة الحلوة اللي بتتمنوها أنتَ وهو، وقوم بقى أعملي كوباية شاي حلوة من أيدك دي.
تحرك “يـوسف” ببسمةٍ هادئة نحو غرفته وترك هاتفه وأشيائه بجوار “ياسين” الذي فتح هاتفه على صورة ابنته وزوجته وابتسم لهما ثم لثم صورة ابنته الضاحكة بين أحضان أمها وقد صدح صوت هاتف “يـوسف” في تلك اللحظة فالتفت هو نحو مصدر الصوت ليجد الاسم المسجل بـ “بينيولوبي” فرفع صوته يصيح بقوله عاليًا:
_”يـوسف” تعالى في مكالمة ليك من الإغريق..
خرج “يـوسف” وسحب الهاتف سريعًا وقد ابتسم ما إن رأى رقم زوجته ثم قال بهدوءٍ تام يواري خلفه لهفته برؤيته لرقمها:
_دي مراتي.
ألقى جملته بهدوءٍ ثم تحرك نحو الداخل من جديد وفي تلك اللحظة أكمل “ياسين” ما كان يفعله رفيقه وترك الآخر بحريته، حينها تحرك “يـوسف” وفي يده الهاتف يتصل هو بها فوجدها تجاوبه بلهفةٍ حماسية:
_مش متخيل أنتَ وحشتني وأنا مفتقداك في يومي إزاي، طمني عليك أنتَ كويس عندك طيب؟ مرتاح عندك ولا فيه حاجة مضايقاك؟ وليه مكلمتنيش من الصبح؟.
ضحك بيأسٍ من سرعتها وفضولها الذي ساقها بهذا الكم من الحماس ثم سألها بنبرةٍ مزجت بين الضحك واليأس:
_واحدة واحدة يا “عـهد” هجاوب على إيه ولا إيه بس؟ أديني فرصة طيب أعرف أجاوبك وأسأل أنا كمان وأتطمن عليكِ.
لاحظت هي حماسها واندفاعها في الاطمئنان عليه فتراجعت بتقهقرٍ وقالت بضحكةٍ خجلة بعض الشيء:
_شكلي كدا الشخص الأكثر حماسًا.
ضحك هو أيضًا ثم تنهد وقال بنبرةٍ أظهرت هيامه وولههِ بها:
_لأ والله أنتِ الطرف الأكثر حلاوة.
تسارعت نبضاتها خلف بعضها وهي تستمع لحديثه المعسول ورغمًا عنها قالت بشوقٍ كأنها تختص به الحاضر والمستقبل:
_وحشتني أوي.
ولأنه فقير في التعبير ويفتقر للكلمات سكت عن الحديث ودام صمته لبرهةٍ وفجأةً قال بقلة حيلة كأنه حقًا غلبه الشوق لها:
_وأنتِ بصراحة وحشتيني أوي، من زمان محستش إن فيه حد واحشني بس أنتِ طول عمرك بتكون البداية لكل حاجة، تصدقي لسه واخد بالي إني لقيتك قبل ما ألاقي أهلي؟ وسبحان الله كأني كنت بعرف قيمة الحياة بوجودك أنتِ معايا.
تأثرت هي بحديثه لكنها لم تبدِ ذلك، فاستجمعت جزءًا من شجاعتها ثم قالت له توافقه الرأي والمشاعر:
_بقولك أيه بلاش كلام حلو لو سمحت بدل ما أعيط وهرموناتي تقلب عليك، أنا قاعدة بحسب الشهر دا هيمشي إزاي ويا رب يعدي بخير عليا، ربنا معاك ويوفقك وتخلص شغلك بسرعة علشان ترجعلنا بسرعة أكبر وياريت متدلعش لو سمحت في أكل عيشك إحنا هنا مستنيينك..
ابتسم هو مرغمًا ثم أطلق زفيرًا قويًا واتجه نحو غرفته بعد أن لمح “يـاسين” بعينيه يتحدث في الهاتف وما إن ولج قال ارتمى فوق الأريكة ثم قال بأملٍ ألا تُخيْب ظنه:
_ينفع تسهري معايا نتكلم علشان حاسس بخنقه هنا.
_أكيد طبعًا، أصلًا كنت هطلب منك كدا.
هكذا كان ردها عليه حتى شعر هو أن الأمان يتوغل لقلبه ويستأنس هو رغمًا عن وحشة قلبه وغياب الأحباب عنه، يشبه الأمر كأنه أتى بعيدًا عن كل ناسه وعالمه وإذ به يجد كل أحبائه ساكنين في قلبه ومحاوط هو بطيفهم كأنهم يسرون حوله، غرق معها في تلك اللحظة في الحديث وهي معه، وكأن كلاهما يستأنس بالآخر في حضرته وهو يعيش معه بداخل قلبه..
قصته معها تخطت كل قصص العشق..
فكأنها أتت هي بمعنى الحياة لشخصٍ لا يعرف
إلا الموت والغربة، وما إن ظهرت هي بدت الحياة
في عينيه جلية بوضوحٍ وحتى الآن لا زال حائرًا
هل الحياة ظهرت بظهورها، أم أن هي كانت الحياة بذاتها؟.
____________________________________
<“الحياة الجديدة لن تُنسي المرء ما عاشه بائسًا”>
حتى وإن تركنا الحياة القديمة وسعينا للجديد
لن ننسى تلك التي أخذت الكثير منَّا،
ولن نترك حياةً هي تسكننا ولازالت تؤثر علينا، فمن ذا الذي استطع أن ينسى كل ما فات ويبدأ من جديد في عالمٍ؛ كانت أول الأسباب للوصول إليه هي نفسها الحياة القديمة التي سعينا للخلاص منها؟ فنِعم امرءٍ عاش حُرًا من قيد الذاكرة، وبئس فردًا كان أسيرًا في ماضيه..
في اليوم التالي عصرًا..
كانت تتحرك في الحارة بتعبٍ بعد أن ترجلت من سيارتها وشعرت أن ضغط الدماء لديها أنخفض عن المعدل المعقول فأول ما بدر لذهنها هو الذهاب للاطمئنان على صحتها، وقد ولجت “مادلين” الصيدلية تبحث عن “مُـحي” فوجدته مشغولًا مع مجموعة من المرضى ويمسك في يده فتاة صغيرة يحايلها كي يعطيها الإبرة الطبية ويحقنها بها..
كانت الصغيرة تتشبث به باكيةً وهو يهدهدها بقوله اللين:
_بصي، غمضي عينك معايا وأنا هعد من ١ لحد ١٠ وبعدها تفتحي عينك هتلاقي أيدي بقى فيها حاجة حلوة، يلا جربي كدا معايا، يلا علشان أوريكي السحر اللي أنا بعمله بقى..
أذعنت له الصغيرة وسكتت وهي تتمسك بكتفه بينما هو ضمها له ثم حقن الإبرة في ذراعها وقد تخشب جسدها لثوانٍ وقبل أن تفتح عينيها ألقى الإبرة من يده وبدلها بقطعة حلوى بسيطة جعلت الصغيرة تبتسم له وتحتضنه ضاحكةً بملامح حملت معها البكاء والضحك..
ضم الصغيرة لعناقه ومسح فوق خصلاتها ثم سألها بمزاحٍ:
_أنتِ قبل ما تحضنيني سألتي على أخلاقي طيب؟.
ضحك والدها الذي حملها منه ثم شكره بامتنانٍ كونه أقنعها أن تأخذ تلك الإبرة اللعينة التي ما إن تراها هي تشعر كأنها رأت شيئًا مهولًا، كانو “مادلين” تتابعه بحيرةٍ وعجبٍ من تعامله مع الصغيرة حتى قطع شرودها صوت الطبيب يسألها بعجبٍ:
_عاوزة حاجة يا مدام؟.
التفتت له بنصف رأسها وبنظراتٍ تائهة جاوبته:
_عاوزة “مُـحي” لو سمحت.
أومأ لها موافقًا ثم وضع المقعد لها وولج يقف بجوار “مُـحي” الذي أنهى عمله مع الصغيرة ثم انتبه لـ “مادلين” التي جلست بتعبٍ فوق المقعد وأعصابٍ مرتخية تمامًا وطلبت منه أن يقيس لها ضغط الدم في جسدها، وقد فعل هو ما أرادت وما إن فعل مط شفتيه بيأسٍ ثم قال بأسفٍ عليها:
_للأسف ضغطك نازل أوي 90 على 60 ألحقي نفسك بحاجة مخللة بسرعة وأنا هديكِ علاج حلو أوي وياريت تحاولي إنك تبطلي عصبية شوية، محدش هيخسر غيرك أنتِ في الآخر وبس، أتمنى تخلي بالك من نفسك شوية يا “مادلين”..
ابتسمت بسخريةٍ موجعة ثم أخذت منه الدواء لكن قبل الرحيل أقترب الطبيب بنوعٍ آخرٍ من العقار الطبي ثم مد يده لها وهو يقول بهدوءٍ دون أن يكون متطفلًا على حياتها:
_دا علاج قوي جدًا وأفضل من المسكنات من حيث الآثار الجانبية، الصبح تاخدي منه وكذلك قبل النوم برضه، أتفضلي.
طافت بعينيها بينهما ثم أخذت منه العلاج الطبي وبعد جدالٍ بين ثلاثتهم دفعت مقابل الدواء ثم رحلت من المكان بألمٍ بات يتفاقم بداخلها خاصةً بعد يومٍ عصيب مر عليها في العمل وبعد مقابلةٍ مع “عاصم” أسفرت عن استنزاف الطاقة الأكبر فيها..
أما “مُـحي” فخرج يدخن سيجاره على أعتاب الصيدلية بعد فشلٍ في محاولة الإقلاع عن التدخين وقد خانه جسده رغمًا عنه وارتفعت رأسه حيث شرفتها هي كأنه ينتظر وصالًا عابرًا بين عينيهما سويًا؛ كما حدث في العديد من المرات السابقة، لكنه عاد ببصره من جديد نحو الأسفل وبداخله يتذكر كل شيءٍ حدث معه في قصتهما التي أنتهت بفشلٍ مُحتمٍ جعله هنا مستقرًا دون أي فعلٍ ثانٍ…فقط ينتظر والخيبة تلاحقه وكأنه يعلم أن في نهاية الطريق لن يجد إلا الصد والعزوف..
في الأعلى كانت هي فوق فراشها تضم جسدها بكلا ذراعيها وعيناها لا تتوقف عن البكاء، كانت تبكي وتُرثي حالها وهي من المفترض أنها العروس السعيدة، تمامًا كما الفراشة المزودة بجناحين قويين امتلكا مزيجًا من الجمال والقوةِ..لكن بالموضع الخاطيء، فما الفائدة من جناحين في عمق المحيط لا يقويا على صد الموج وتيارات المياه؟..
هي كما الفراشة الحزينة..
لديها جناحان لكنها ترفرف بهما في المحيط
ومع أول صدمة مع تيار الموجات القوية
انكسرت تلك الأجنحة، وفقدت هي الجمال والقوة معًا..
فبهتت ملامحها وذهب لون عينيها الخضراوتين وكأن الزرع فيهما أحترق وأصبح رمادًا، وبانت أضعف من طيرٍ لقى مصرعه فوق السماء السابعة فسقط فوق الأرض..
صدح صوت هاتفها برقم خطيبها فمسحت وجهها وطالعت الهاتف بتعجبٍ من اتصاله بها للمرة الثانية خلال هذا اليوم، على الرغم من عدم إباحة هذا الأمر دينيًا، هو كما هو لازال غريبًا عنها ولا يحق له أن يهاتفها، تركت الهاتف يصدح ختى نهاية المكالمة الثانية منه ونفسها النتيجة بغير ردٍ منها..
بعد مرور دقائق ولجت أمها غرفتها وفي يدها الهاتف وهي تقول بشفقةٍ على حال تلك الفتاة التي تدمرت كُليًا وتبدلت كل أحوالها فلم تعد كما كانت في السابق:
_خطيبك كلمني دلوقتي علشان رن عليكِ مارديتيش عليه وقال إنه قايل لأبوكِ إنه هيكلمك، ردي عليه علشان عاوزك ضروري وبعدها يا ستي أقفلي براحتك على نفسك زي ما أنتِ عاوزة، ردي عليه علشان أبوكِ اللي مش طايقلنا كلمة دا.
أومأت لها بقلة حيلة ولم تناقش أو تجادل وكأنها كانت مناضلة فقدت روح النضال فيها وعادت من جديد ترافق خيبات الألم، صدح الهاتف فجاوبت ببطءٍ ترد التحية باقتضابٍ بلا روحٍ ولا حياة وقد باشرها هو بقوله:
_والدك كان بيقولي إنك عاوزة تنزلي تقعدي في مكان كدا متعودة تقعدي فيه، الحقيقة أنا مش موافق إنك تنزلي أصلًا، المكان أكيد فيه شباب ومختلط ومش شبهنا ومش شبه بيئتنا، الأفضل أنك تستثمري وقتك في البيت أحسن في أعمال صالحة.
توسعت عيناها ما أن تيقنت من الحديث الواصل لها وقد اندفعت هي بحميةٍ بدائية تخبره:
_دا على أساس إني هروح كباريه يعني وأقف ألم النقطة؟ دا مكان محترم وكل الناس اللي فيه هناك نفس النظام وأنا بقعد في الروف فوق في مكان فاضي كله بنات يا بتذاكر با بتشوف شغلها، بعدين بأي حق بتتكلم أصلًا وأنتَ لسه يدوب خطيبي وغريب عني، وزي أصلًا بتكلمني كدا من غير أي وجه حق؟ هو دا الإلتزام اللي حضرتك تعرفه؟..
باغتته بقولها وهو الذي لم يُخيل له أن تكون هي بمثل تلك الجُرأة فاندفع هو الآخر في الهاتف يرد عليها بقوله:
_أظن عيب أوي تعلي صوتك وأنتِ بتكلميني كدا، بعدين الخطوبة معمولة علشان نعرف بعض وندرس الشخصيات اللي هنرتبط بيها، وبالتأكيد مش هينفع نتجاوز عن أخطاء بعض عادي كدا، ياريت تلتزمي بالهدوء والأدب في كلامك معايا..
_هو أنا قليلة الأدب قدامك؟ ما تخلي بالك من طريقتك لو سمحت معايا، وآخر مرة هقولها ليك، أنا في بيت أهلي معززة مكرمة محدش عمره شك فيا ولا في أخلاقي ولا حتى قللوا ثقتهم فيا، بس إنك تكون غريب عني وتيجي عاوز تتحكم فيا في بيت أهلي دا مش هسمح بيه، أنتَ جاي لبيت محترم مربي بنته تربية محترمة، يبقى الجو دا مش نافع خالص، وعن إذنك علشان ألحق ألبس وأنزل، سلام.
أغلقت الهاتف دون مزايدة فوق كلماتها التي أصابته في مقتلٍ وأد كبريائه ووضعه بين التراب، حيث وارى عزته وشموخه خلف التراب المرسول من كلماتها كهبوب الرياح العتية، وما إن أغلقت معه بكت، بكت لأنها حتى حينما وجدت تلك الأحلام لم تجد نفسها القديمة التي من المؤكد كانت ستسعد بما آلت إليه،
لكن فارق التوقيت في كل شيءٍ كان السبب الأكبر في تحويل شتى الإنجازات إلى هزائم..
____________________________________
<“فلتفتح عكا أبوابها استقبالًا للعاشق الأعظم”>
كل أمرٍ يدنو من مرحلة المستحيلات..
هو بذاته من يعطينا المتعة عند الحصول عليه بعد كل الصعاب التي مررنا بها، فكيف ندرك قيمة الأمر لو لم نجرب أكبر المشاعر ألمًا فيه، فإذا أردت أن تعرف قيمة الحب؛ سِل عاشقًا أفنى عمره بأكمله ينتظر قدوم من يُحب، وفي كل مرةٍ كان يضع له الأعذار ويُبرئه من الذنب..
في العمل كان يقف “عُـدي” وسط المتدربين يتابع معهم بتركيزٍ عميقٍ ويباشر عمله بشكلٍ مباشرٍ وقد أندمج فيما يفعل حتى تقدم به الوقت دون أن ينتبه أن معدته لازالت فارغة دون أن يُسقط بها قطعة من الطعام أو رشفة من المياه، أنهى مع المجموعة الثالثة ثم سحب مقعدًا وارتمى فوقه وألقى رأسه للخلف واغمض عينيه هربًا من ألم رأسه والضجيج المنتشر بالخارج..
أخرجه من حالته المُرهقة صوت حمحمة ناعمة جعلته يعيد رأسه من جديد فوجد “رهـف” أمامه تبتسم له وفي يدها علبة الطعام الخاصة بها والكوب الحراري وما أن نظر لها ابتسمت هي له ثم قالت برأفةٍ على حاله:
_قوم يلا علشان تاكل وتشرب القهوة معايا، أنتَ من الصبح هنا وطالع عينك وشكلك ناسي إنك مفطرتش، يلا يا سيدي خلينا ناكل بقى أنا جعانة ومستنياك، ومش هتبدأ مع حد جديد غير لما تاكل.
ابتسم لها بعينيه ثم اعتدل في جلسته بينما هي سحبت مقعدًا ثم جلست بقربه تخرج الطعام لهما سويًا وقد توسعت بسمته فقرر أن يشاكسها بقوله كي يخرج أصعب ما في طباعها:
_شوف الدنيا غريبة إزاي؟ كان زماني مسافر برة بدور على عروسة أتجوزها علشان تعوض قلبي عن المر اللي شافه، بس نقول إيه بقى؟ يلا ربنا يعوض علينا.
حاولت أن تستجمع هدوئها وبناءً على ذلك قالت بجمودٍ:
_وإيه اللي مقعدك يا بابا؟ ما تقوم نتكل على الله وتهوي لينا مكان تاني خلينا نفوق لنفسنا شوية، على الأقل آكل وأشبع من غير ما حد ياكل معايا ويخلص سندوتشاتي وقهوتي.
ابتسم أكثر ثم سألها بنعومةٍ ناقضت كل ما فات عليه من كلامٍ وطريقةٍ حيث كانت كلماته تلك المرة تنتهج سبيل الوقاحة:
_طب مفيش بحبك تانية كدا زي أختها تصبيرة؟ أي كلمة حلوة منك تعوض التصحر اللي عملتيه قبل كدا؟ أكرمينا دا إحنا زباينك حتى مش أغراب عنك يعني.
أخجلها بحديثه فسكتت وأخفضت رأسها للأسفل هربًا منه وقد حرك رأسه يتابع خجلها عن كثبٍ وقرر أن يتوقف عن إحراجها لهذا الحد، بينما هي وضعت الطعام أمامه وناولته كوب القهوة وهي تقول بتوترٍ يحاوطه الخجل:
_أنا طول اليوم واخدة بالي منك إنك ماكلتش كويس وملحقتش ترتاح شوية خصوصًا بعدما “مادلين” مشيت بدري وكملت مكانها أنتَ، ولو أنتَ متعرفش فأنا باخد بالي من تفاصيل كل اللي بحبهم وبهتم أوي يكونوا بخير، فهمت حاجة؟..
سألته بأملٍ أضاء عينيها الزرقاوتين وقد ثبت هو عينيه عليها وقد لمح أدرك المقصد مما تتحدث عنه فقال ببسمةٍ هادئة زينت محياه الصافي أثناء تمعنه بها هي:
_فهمت إنك عاوزة تقولي إنك بتحبيني وواحدة بالك من تفاصيلي بس بشكل غير مباشر، عمومًا أنا كدا كدا واثق فيكِ وفي قلبك كمان، وراضي يا “رهـف” باللي ييجي منك كله، بس خليكِ معايا وأنا أوعدك إن آخر حاجة هفكر فيها هي البعد عنك تاني.
توهجت عيناها فوق توهجها وأحمر وجهها خجلًا ثم قالت له هربًا من تلك المشاعر التي أكدت لها أن من يجالسها الآن هو مالك الفؤاد وسارقه من موضعه وقد، ضحكت بسعادةٍ وهي تخفي عينيها أرضًا قبل أن يقرأ هو العشق المفصوح عنه في نظرات عينيها..
وفي الخارج كان “عاصم” يتعذب بغيابها عنه، كان يشعر بالقهر وهو يراها تتحرك وتخطو وتصول وتجول وهو يتلظى بنيران الهزيمة وحده، فحتى بعد أن أطلق سراحها من حوزته لازال كتفه ينتظر قدومها كي تلقي برأسها عليه وكأن هو يشارك كل ذرةٍ فيه وفي افتقاده لها، فكان أقرب الوصف له هو
“أنا الذي ألقيت سراح طيري،
فما بال كتفي تعب من كثرة انتظار عودته
كي يعود ويتكيء بثقله فوقه..؟”
ولج عليه “سامي” مكتبه فأخرجه من شروده وفي تلك اللحظة انتبه له “عاصم” الذي حمحم بقوةٍ يُجلي حنجرته ثم سأله بعجبٍ في أمر غيابه:
_أنتَ بتغيب تروح فين يا “سـامي” وترجع من تاني؟ بقالك يومين كنت مختفي فيهم ممكن أعرف سيادتك كنت فين بقى؟.
جاوبه الآخر يتشدق بنزقٍ وجمودٍ ألٍ:
_كنت بشوف حل وصرفة علشان ابني يرجعلي من تاني ويرجع لحضني، بس الواضح كدا أني لازم أخلي بالي هو فين وعايش وسط مين، لو فضل الوضع كدا مش بعيد “نـادر” ينسى إنه كان عنده أب في يوم من الأيام، مش هسيبه غير لما يرجعلي تاني ويبقى تحت طوعي زي الأول وكويس أوي إن “يـوسف” مش هنا، إلهي ما يرجع تاني يا رب…
ضيق “عاصم” جفونه فوق الآخر وطالعه بنظرةٍ ارتيابيه وفي داخله كان يتعجب من تلك الأحوال الغريبة التي طرأت فجأةً وبدلت كل شيءٍ في طرفة عينٍ فلم يعد يعلم أي شيءٍ هو الصواب وأيهما هو الخطأ، لكن اليقين هنا كان في الخسارة المعلومة التي لن تعوضها أية مكاسب أخرىٰ..
بينما “سامي” فعاد كما كان متبجحًا في وجه العالم كي يسلب منه كل ما يود ويرغب وإن كان بالحيلة والقوة..
____________________________________
<“وكل الخير كان في تواجدكم هنا في الضلوع بداخل قلبنا”>
بعض الأوضاع لا تُحل إلا بعودة من نحب..
وكأنما الحياة رحلة طويلة نعيشها بين فراقٍ ولقاءٍ ونعود من جديد كما كنا تارةً أغراب ثم من جديد نكون الأحباب..
فكل شيءٍ كان قابلًا للتغيير إلا تلك القلوب التي أحببناها منذ أن أبصرت أعيننا على دروب الحُب وأدركنا من بين كل السبل خير الدرب..
كانت جليسة الحديقة تستأنس بالزهور حتى يعود زوجها من عمله الذي لا ينتهي بل يزداد، فهو خلال اليوم الواحد يفعل ما يمكن لثلاث رجال غيره أن يقوموا بفعله، و “أيـوب” يبدو أن يومه بمقام يومين كي يفعل كل ذلك ثم يعود لها في نهاية يومه ويلقي برأسه فوق ساقيها يخبرها عن يومه المتعب..
لتوها أغلقت الهاتف مع شقيقها في عمله وعادت تشرد في شوقها لعودة زوجها الذي لم يكذب نداءً لقلبها بل ظهر في طرفة عينٍ ومال عليها يضم جيدها بكلا ذراعيه وهو يقول بصوتٍ رخيمٍ توغل لسمعها:
_وحشتيني يا صبر “أيـوب” وكل ناسه، خلصت شغلي بدري وجيت علشان اقعد معاكِ زي ما قولتلك.
ابتسمت “قمر” بسعادةٍ ثم وضعت كلا كفيها فوق كفيه تمسح فوقهما بنعومةٍ وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_إيه يا شيخ “أيـوب” الدخلة دي بس؟.
ضحك هو الآخر ثم لثم وجنتها بعمقٍ وقال بنفس الهدوء:
_فيه إنك وحشتيني بجد، بقالي كام يوم مش ملاحق بس مقدرتش أقصر معاكِ أكتر من كدا، ما صدقت الشغل خف وجيتلك هنا، يلا نطلع علشان بجد مش قادر أفتح عيني وعاوز أنام.
قبل أن تجاوبه ظهر “أيـهم” من العدم ولاح ظله على الحديقة فاعتدل “أيـوب” في وقفته حتى وجد شقيقه يصعد نحو الأعلى من السلم الخلفي فتنهد بقوةٍ ثم أوقف زوجته التي طالعته بقلة حيلة، بينما هو فسألها باهتمامٍ:
_لسه زعلانة علشان “يوسف” مشي؟.
أومأت له موافقةً بملامح أكدت له ما يستفسر عنه وقد لمح هو ذلك في نظراتها فضمها له ثم مسح فوق رأسها برفقٍ وقال بمراعاةٍ بحالتها التي تُخليها هي عنه كي لا يتأثر بحزنها ويبدو أنها فشلت في ذلك، حيث لمح هو حزنها وقرر أن يُقصيه عنها بقوله:
_وأنا مش هاين عليا زعلك، تقدري تروحي تقعدي عند مامتك يومين وتكوني معاها هي والبنات هناك وأنا هبقى أروح آخدك لما والدتك تكون أفضل وقلقها يقل شوية، موافقة؟.
توسعت عيناها بغير تصديقٍ وسألته باستنكارٍ واضح:
_بجد؟ مش هتزعل مني لو روحت أقعد مع ماما يومين؟ والله صعبت عليا وهي مش عارفة تاكل من قلقها ولازم هو يكلمها ويطمنها إنه بخير علشان تقدر تاكل، يمكن لما أكون معاها تطمن شوية.
ابتسم هو بلطفٍ لها ثم مسح فوق وجنتها برفقٍ كأنه يهدهد قطته الصغيرة وقال بعمقٍ أظهر دفء نبرته وكلماته:
_وأنا حاسس بيكِ علشان كدا بقولك بكرة إن شاء الله الصبح هوصلك ليها تقعدي معاها شوية علشان هي متفضلش متضايقة كدا كتير من غيركم انتوا الاتنين، النهاردة بس تعالي نيميني علشان فيه حدوتة حلوة أحلى من المرة اللي فاتت كمان..
ضحكت هي على طريقته حينما سحبها من كفها وولج بها البيت نحو شقتهما يمازحها بالقول وهي تتوقف عن الرد عليه بخجلٍ منه وتعجبٍ من باله الرائق بينما هو فكان كل شاغله الأكبر أن يمحو عن خاطرها كل حزنٍ تلبسها..
في الطابق الأسفل كانت “نِهال” تضم “إيـاد” النائم بين ذراعيها فوق الفراش وقد تذكرت أمر التحدي الذي شارفت على الخوض فيه بعد قليل، وقد تركت الصغير بعد أن تأكدت من نومه ثم تحركت بخطى وئيدة مترددة نحو المرحاض وأخرجت الاختبار من علبته وفي تلك اللحظة تكررت كل الذكريات أمامها من جديد..
فكم المرات التي سبق ووضعت خلالها في هذا الموقف ليست بالهينة عليها كي تخوض مضمار التجربة بسلامة نفسٍ، وإنما الحال كان في كل مرةٍ من سيءٍ لأسوءٍ وهي تحاول وتنتظر لشيءٍ كان الأمل فيه مفقودًا، وتلك المرة قررت هي أن تكون الأخيرة، فإذا لم يحدث ما تتمناه هي، سترضى بما قُدِم إليها ولن تحاول في شيءٍ يستهلك كل طاقتها بدون أي مُقابلٍ يُرضي حرقة قلبها بعد الفشل الذريع..
أجرت الاختبار بأعصابٍ مشدودة وتالفة، وكأنها باتت على يقينٍ أن ما ترجوه لن يأتيها وإنما هي فقط تحاول من باب المحاولة وليس إلا، وبالرغم من ألم المحاولة الثقيلة إلا أننا نحاول فقط لأجل المحاولة وليس لشيءٍ آخرٍ..ولأن المحاولة الأخيرة قد تكون بمثابة كل المحاولات السابقة، حدث ما لم تتوقعه هي بعد أربع سنواتٍ ونصف…
تلون الجهاز اللوحي الصغير أمامها بشرطتين ملونتين كما المدون على العلبة من الخارج وحينها شُلِت حركتها تمامًا، فقط تجمدت بموضعها كما التمثال بلا روحٍ ولا حياة وعيناها ثابتة فوق الجهاز وشلالات الدموع تنفجر من عينيها بغير توقف، كانت تظن نفسها داخل حلمٍ فقط وأن الواقع لم يشهد كل ذلك حتى علا صوت نحيبها وزاد صوتها بشهقات متقطعة ولم تدرك أي شيءٍ حوله، فجأةً حدث ما لم تتوقع حدوثه وقد أخرجها “أيـهم” من تلك المشاعر حينما نادى عليها من الخارج..
فتحت الباب له بلهفةٍ فرآها هو بحالتها تلك فزاد قلقه عليها وقبل أن يسألها عن سبب مظهرها وجدها تبتسم له وتبكي في آنٍ واحدٍ ثم طوقت عنقه بكلا ذراعيها وانتحبت بصوتٍ أعلى وقد ضمها له وهو يقول بقلقٍ تفاقم لأجلها:
_بس خالص، بس وأهدي شوية، مالك يا “نِـهال” مين مزعلك.
حركت رأسها نفيًا فوق كتفه وقالت بصوتٍ بالكاد فسره هو من بين عبراتها المُنسابة:
_مش زعلانة، أنا فرحانة وأنتَ السبب، أنا حامل يا “أيـهم”.
وتلك الجملة كانت كما الربيع الذي أتى من بعد خريفٍ دمر كل شيءٍ في وجهه وجرف أرض العمر، أحيت له قلبه كما حدث معها بسببه هو أولًا وكأن الفرحة بينهما كانت مشطورة لنصفين وكلًا منهما يناول نصفه للآخر كي لا يسعد وحده، وفي تلك اللحظة سكت هو بصدمةٍ وحيرةٍ وتحدثت القلوب لبعضها تقول:
_رُبما كان طريقي ضياعًا..
لكن من وسط الجميع كنت أنتَ
من لم أتحمل منه وداعًا، فكنت يومًا
كالغريب مر صدفةً من حيينا وإذ به
فجأةً أنقذ من الآلام روحنا، فنعم كان العالم
قبل مجيئك هلاكًا وما أن ظهرت أنتَ
أصبحت الأيام تمر خفافًا..
••••••••••••

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى