رواية غوثهم الفصل المائة وعشرة 110 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة وعشرة
رواية غوثهم البارت المائة وعشرة
رواية غوثهم الحلقة المائة وعشرة
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الخامس وعشرون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
سُبحانك ربي وجلَّ عُلاك..
سُبحانك تُحيي القلوب بِهُداك..
ربي سُبحانك ما أعظمك..
وللضُعفاء ما أكرمك وكلهُ برضاك..
عباد نحن فقراء وأنتَ الغني الكريم..
نسعى إليك بكل ما فينا
وتصل أصواتنا لسماك..
فسبحانك ربي وجلَّ عُلاك..
سُبحانك تُحيي القلوب بِهُداك..
_”غَــوثْ”
__________________________________
أُخرافةٌ أنتِ غير مرئية تبعد عن عالمنا؟.
فكيف لثمانيةٍ وعشرين حرفًا أن يعجزوا عن وَصفُكِ؟ يبدو الأمر وكأن كل الحروف في اللغةِ وقفت أمامك تعتذر عن عدم قدرتها على صياغة حُسنكِ داخل عبارة واحدة تقوم بإنصافكِ، فثمانيةٌ وعشرون حرفًا، ملايين الأشعار، مليارات الخواطر والعبارات كلهم _كلهم بلا شكٍ_ فشلوا في إيجاد ما يوصفكِ ببراعةٍ، فتبدين كإعجازٍ للغةِ أو رُبما تكونين تحديًا لها أنكِ رغم سكونك لازلتي قادرة على الحديث، في حين أن كل الحديث منها لم يوفي حق كفايتكِ..
فدعيني تلك المرة أسرد أنا ما فشلت في كتابتهِ مراتٍ ومرات، أتعلمين كيف وقعت في الأسر؟ تحديدًا حينما وقعت عيناي على عينيكِ وقامت أهدابك بدور الجُندي المُخلص في اصطياد قلبي وكأنه عدوٌ مُطلقة سهامها نحوه، لكنه كان بريئًا وأقسم لكِ بذلك، لكن بعدما وقع الفؤاد في الأسر وظنكِ بلدةٍ ظالمة، علم أنكِ به عالمة، عالمة الفؤاد وما به، نعم لم تقوليها أنتِ، لكن مُقلتاك أفصحتا وكان الحديث منهما مُقتبسًا من الثُنائي الأقرب للقلب وخصيصًا حينما كتبت “ميلينا” إلى “كافكا” تنصفه على العالم بقول:
“أُحبكَ بكل ما فيك من إنهيارٍ وتشتتٍ وإرتباكٍ”
فمنذ إلتقائي بكِ هكذا كان هو حديث عينيك الصادق في وصفه مُعجزًا في فعله، وكلما تحدثتُ به عنكِ لازِلتُ لم أستطع وصفُكِ، تبدين حقًا خُرافةً وقلبي البريء صدقها وصادقها..
<“كُرهكم لم يكن بيدي، هذه نتائج أفعالكم”>
عجيب هو أمر المرء حينما يترك كل الأشياء تفر من بين يديه ثم يعود نادمًا لعدم استمساكها هي به، والغريب أيضًا أنه يجهل القاعدة المُتعارف عليها بشأن ما يَخصهُ، ففي الأصل والعام أن من ترك شيئًا بمحض إرادته لا يُحق له أن يسأل عنه ويُطالب باسترجاعه، فهل يُعقل أن مَن أخطأ بحقوق نفسه وتهاون فيها أن يُطالب باستعادة ما لم يُحارب لأجله منذ البداية؟…
وقفت “شـهد” أمام “نـادر” تشهد عجزه بعينيها لمرتها الأولىٰ بينما هو فرفع عينيه يُلاقي نظراتها نحوه وقد ألمه الموقف ككلٍ، فهي منذ أن عاهد أيام عمره معها وهي تراه صلدًا وقويًا صاحب هيبة ووقارٍ، عطوفٌ معها وحدها كما الطفل الصغير يُفضلها هي كرفيقته على العالم بأجمعهِ، أما الآن؟ فأقسم هو أن طعنه بخنجرٍ في منتصف ظهره لن يؤلمه بقدر نظرتها له، تبدو وكأنها تُشفق عليه، أو رُبما تفكر في مصيرهما، لا يعلم لكنه لم يستسغ نظراتها..
كان “عـاشور” يعاونه لكي ينقله للفراش بمعاونة “فـاتن” في تحريكه نحو الفراش وقد تطلعت إليها أمـه التي تثبتت عيناها فوق صفحات وجه الأخرىٰ وقد هتفت ساخطةً بعدما استقامت في وقفتها:
_أنتِ بتعملي هنا إيـه؟ ومين دلك على طريقنا؟.
قطع صوتها تواصلهما سويًا بعينيهما وكانت نبرتها حادة همجية مُعبأة بالبغض والكراهية وقد أنتبهت لها “شـهد” بعدما أحادت بعينيها بعيدًا عنه وقد هتفت بثباتٍ:
_جاية علشان جوزي يا طنط، ولا كنتِ عاوزاني أفضل كل دا بعيد عنه ومُغفلة عن اللي بيحصل؟ بعدين إزاي تخبي عليا حاجة زي دي؟ لولا أنكل هو اللي قالي؟.
بالفعل هي تُجيد التمثيل والإتقان في اللعب فوق أوتار الدور المُراد وقد أخرج زوجها تنهيدة مُتعبة من جوفهِ ثم أغمض عينيه لبرهةٍ يسيرة وقد هتف “عاشور” بإحراجٍ من تواجده بينهم كعائلةٍ فهتف بأدبٍ:
_عن إذنكم هطلع أشوف “حنين” وهاجي تاني يا مدام.
خرج دون إنتظار الرد لكنه حقًا لاذ بنفسه من حرب النظرات القائمة بين المُقلِ وخرج ليجد ابنته بالخارج تشعر بالإنكسار في عمق روحها، وبالخسةِ والتقليل من شأنها، وقد جلست تُشبك كلا كفيها معًا وهي تتنهد بثقلٍ بين الفنية والأُخرىٰ وقد جاورها والدها وهو يشملها بنظراتهِ المُتعبة لأجل تلك المسكينة..
بينما في الداخل أقتربت منه زوجته مُتجاهلة بكل عمدٍ قصدته أمـه وتواجدها بينهما وهتفت بثباتٍ أمامه تخبره عن شوقها له:
_أنتَ وحشتني أوي وكنت هتجنن عليك، حاولت كتير أعمل أي حاجة علشان أقدر أتخطى فكرة إنك مش بخير، بس أنا مقدرتش من غيرك يا “نـادر” أنتَ وحشتني أوي، عامل إيـه وبتعمل هنا إيـه.
أبتلع الغصة المتواجدة بمنتصف حلقهِ ورفع عينيه نحوها بصراعٍ جليٍ في نظراتهِ ما بين حُبٍ أنهك الفؤاد وأتعبه وبين عتابٍ صدع الرأس وألمها، ثم هو جريحٌ بين هذا وذاك كمن وُضِعَ بين المطرقةِ والسندان، فوجدها ترتمي عليه باكيةً وهي تمسك جزعه العلوي بكلا ذراعيها وتنتحب فوق صدره وحينها تاذى من نفسه كونه يَحبها، لذا صمت عن الحديث وترك نفسه للقلب الذي أنتصر على العقل..
وقد أغتاظت “فَاتن” من هذا التقارب الغير مرغوب فيه من جهتها وقبل أن تتخذ الهوجائية نهجًا عدلت عن ذلك وتوجهت نحو مرحاض الغرفة وقامت بصفق الباب بعنفٍ ووقفت أمام المرآة في الداخل تُهديء نفسها قد المستطاع وقد فتحت قميصها الأبيض لمنتصفه لتظهر منطقة العنق وما بعدها لمقدمة منطقة عفتها ورآت ما ظهر عليها من آثار ضربٍ مُبرحٍ ترك الكدمات الزرقاء في جسدها..
لم تتألم بما أصابها بقدر ما تألمت عيناها مما رآت، وكأن رؤية آثار ذاك التعدي السافر فوق جسدها أشد وجعًا مما مسها من جراحٍ ضارية، كانت الضربات نتيجة تلاقي حزام زوجها الخشن بملمس جلدها الناعم، وقد أغمضت عينيها وشردت في ذكرى لازالت حية في الوجدان خاصة بأخيها الراحل منذ زمنٍ بعيدٍ….
(منذ عدة أعوامٍ)
في بيت “مصطفى”..
كانت تجلس باكيةً بجوار “غـالية” التي كانت تمسح فوق كفها وهتفت بنبرةٍ عالية تُعرب بها عن غضبها قائلة:
_أنا مش عارفة ليه “عـاصم” أخوكِ ساكت كدا، ولما “مصطفى” يتدخل يقوله أنتَ مش أخوها!! هو يطول أصلًا إن واحد زي “مصطفى” يكون أخوه؟ اسمعي أنتِ هتفضلي هنا معانا و “نـادر” هييجي من عند مامتك ويفضل معاكِ هنا، مفيش طفل هيستحمل يشوف أمـه بتضرب قدامه ويطلع متوازن، يا هيطلع عدواني، يا هيكون ملهوش شخصية، حبيبي بقى بيخاف من الصوت العالي والزعيق ولوحده علطول، حتى “يـوسف” لاحظ كدا.
حينها فُتِح الباب وطل منه “مصطفى” الذي كان يحمل “قـمر” على أحد ذراعيه ومن خلفه ركض “نـادر” نحو أمه تتلقفه بين ذراعيها بإنهيارٍ بعدما حرمها زوجها منه لمدة أسبوعٍ بالتقريب وقد أقترب منها أخوها يهتف بثباتٍ يشبه ذاك المُلازم لابنه:
_أنا جيبته لحد عندك ووفيت بوعدي معاكِ علشان أنا أب ومقدر يعني إيـه مشاعر أم ابنها وحشها، بس دا مش معناه إني مسامحك على اللي بتعمليه في نفسك وابنك، ووعد المرة الجاية أنا هحرمك من ابنك وألتزم بتربيته، على الأقل هضمن إنه يطلع مرتاح نفسيًا.
كان حينها “نـادر” واجم الوجه، متهجم الملامح وقد رآت “غـالية” أثر الضرب في ظهره من الأعلى وقد أمتدت أناملها تتلمس ببنان أطرافها جلد الصغير الذي أجفل من لمستها وتألم وحينها أقترب منه “مُصطفى” ما إن أدرك ذلك يناوله الصغيرة ثم طلب منه بودٍ:
_أدخل عند “يـوسف” يلا وألعبوا معاها بالراحة ومش عاوزك تزعل وغير هدومك وأوعى تنام، شوية وهناكل كلنا وهاخدكم أنتوا التلاتة ونروح نجيب حاجات حلوة.
أوزعه حينها “نـادر” ضحكة واسعة وهو يتلقف الصغيرة بين ذراعيه ثم تحرك بها نحو الداخل وقد أندفعت “غالية” تسأل زوجها بإنفعالٍ:
_هو ضارب الواد كمان؟ حبيبي ضهره أحمر خالص وفيه علامات زرقا، معقول يكون ضربه؟ دا شيطان بجد.
رمق حينها شقيقته بمعاتبةٍ ثم أضاف يتشدق بنزقٍ عقبه بالإنفعال المتقد داخل عينيه:
_دا أحقر إنسان شوفته في حياتي، طلع غيظه في عيل صغير عيط علشان عاوز أمـه، ولسعه بالشمع، أمـه اللي لما وقفت قصادها أمنع الجوازة دي قالتلي المثل قال خد اللي يحبك، دلوقتي بقى عرفتي إنها أمثال خايبة أتقالت علشان تداري على ضعف صاحبها؟ أسمعي!! أخر كلام مش هقبل المناقشة فيه، أنا مسافر أنا و “غالية” كمان يومين، لما أرجع أنا هطلقك منه وابنك أنا ملزوم بيه مع عيالي، ولو خايفة عليا فأنا عندي في ضهري رجالة يموتوا أي حد علشاني، “عبدالقادر” ابن خالتك، و “نَـعيم الحُصري” كبير السمان، حتة عيل زي دا هيخليني أحتار فيه؟ سمعتي الكلام؟ أنا طول عمري راجل واعي وفاهم، بس المرة دي أنا بخيرك يا “فـاتن” يا تختاريني يا تختاريهم هما..
(عودة لتلك اللحظة)
خرجت من شرودها باكيةً حينما زارتها تلك الذكرى وحينها أدركت أن ما آلت إليه الأحوال كانت هي المُتسببة فيها وفي وصول ابنها لذلك الضعف، وقبل أن يقوم بتنفيذ ما وعدها به حدثت الفاجعة الكُبرى حيث الحادث الأليم الذي منذ أن وقع في حياتهم تدهورت الأحوال وتأزمت الأوضاع ليقعوا جميعًا أسفل سطوة القمع والاستبداد وقد كرهت هي نفسها في تلك اللحظة وكرهت ملامحها وحينها نكست رأسها للأسفل تُقر بهزيمتها الفادحة أمام طرفٍ مبدأه يقوم على الخِسة في الحروب..
__________________________________
<“قبل أن تُحارب لأجل الحق، تأكد أنه حقك”>
أتعلم تلك اللحظة التي تعود فيها الحياة لك من جديد؟
حيث تشعر باختفاء الألم من حولك شيئًا فشيءٍ ومن ثم مساورة القهر لكَ وإلتفاف كفيه حول عُنقك يضغطان عليها وأنتَ مثل الغريق تُنازع في تلك الحياة حتى يُغدق الظلام طريقك، ومن ثم يظهر شعاع نورٍ من رحم المُعاناة ويأتي ساحبًا معه طوق النجاة..
في غضون نصف ساعة أنقلب البيت رأسًا على عقبٍ، حيث ظهر البطل المغوار يحمل ابن شقيقه بين ذراعيه وكلاهما يضحك بإنتصارٍ وكذلك عادت الروح لهم من جديد وخاصةً “آيـات” التي ضمته بكلا ذراعيها تتأكد من صدق عودته لحضنها مُجددًا، بينما “إيـاد” فقد راقب كل الإنفعالات عن ظهر قلبٍ يحفظهم جميعًا عدا ملامح واحدة كرهها ونَفِر النظر إليها…
أستقر بين ذراعي “نِـهال” من جديد يتشبث بها حينما وجدها تقترب منـه لكي تطمئن عليه وقد هتفت بنبرةٍ مُختنقة من البكاء:
_عامل إيـه يا حبيبي؟ طمني أنتَ كويس؟.
حينها تأهبت الحواس للقادم وقد وقف “أيـهم” بجوارهِ وقبل أن يمتنع الصغير عن جوابها مالت “نِـهال” عليه تحثه بنبرةٍ هادئة لم تخرج عن مُحيطهما:
_رد عليها مينفعش تسكت كدا غلط.
أغمض الصغير جفونه لبرهةٍ ثم أضاف بحديثٍ مُقتضبٍ:
_كويس الحمدلله، متشغليش بالك أنتِ.
كلماته كانت كسوطٍ من نارٍ طُبِعَ فوق جلدها ولمس بأثاره قلبها وكذلك أذهل الجميع بفعلهِ ورده القوي وحينها تنهد “أيـهم” بثقلٍ ثم أندفع مُنساقًا خلف حِميته البدائية في الدفاع عن ذويه حين هتف مُحتجًا على تواجدها:
_أظن خلاص أتطمنتي على ابنك وعرفتي إنه بخير، يبقى أنستينا ومع السلامة، وجودك هنا مش مُرحب بيه وشكرًا لحد كدا، ابني في حمايتي هنا واللي حصل دا مش هيتكرر تاني.
كان الحديث أمام النساء والفتيات و “عبدالقادر” الذي لم يعجبه ما يحدث حوله لكنه هتف بثباتٍ يُلملم به شتات التبعثر المُحيط بهم:
_يلا يا “أيـهم” خد ابنك ومراتك وأطلع علشان يرتاح، كفاية اللي شافه النهاردة، يلا يا “نِـهال” خدي ابنك في حضنك وأطلعي أرتاحي وأتطمني وهو معاكِ خلاص.
حركت رأسها موافقةً وشددت ضمتها للصغير بين قبضتيها الهُلاميتين وقبل أن يتحرك معها زوجها لمح شقيقه يمر وهو يتحدث في الهاتف فأوقفه ومر للجهةِ الأخرى المُطلة على الجميع من كلا الطرفين وكأنهما في الوسط بينهما وقد تمت رؤيتهم من الجميع حينما أقترب البكري من شقيقه وأضاف أمام الجميع بامتنانٍ لم يبخل في إفصاحه:
_أنا جاي أقولك عيشت، طلعت قد القول ووفيت بوعدك وابني هيبات في حضني الليلة دي، عرفت بقى إن الكبير ساعات بيحتاج أخ كبير هو كمان؟ ربنا يباركلي فيك.
أنهى جملته ثم ضمه أمام الجميع يمسح فوق ظهره بصمتٍ وصلت فصحاته لأبلغ حديثٍ قد يُقال، عناق دافيء بلغ الصمت فيه العنان لكن الحديث لازال لم ينفك عنه بين القلوب وبعضها، وقد أبتعد عنه “أيـوب” يخفي تأثره خلف حديثه المرح بقولهِ:
_خلصت؟ روح خُد ابنك في حضنك وطمنه إنه معاك، وبطل خيابة في الكلام، ابنك ابني واللي ييجي عليه كأنه داس عليا أنا، يلا يا أبو “إيـاد” حمدًا لله على سلامة الغالي.
أبتسم شقيقه له ثم لثم جبينه أمام الجميع ليزداد إحراج “أيـوب” وتوقف عن الحديث فهتف الصغير بمرحٍ يُشاكس عمه أمام الجميع بقوله:
_طلعت خطر وبتعمل قلق عادي أهو، أنا قولتلك أنتَ عامل مؤدب علينا مصدقتنيش، بكرة هقول كل حاجة حصلت هناك.
ضحك حينها “يـوسف” رغمًا عنه حينما طالع وجه “أيـوب” المّحتقن فيما أستأذن منهم “أيـهم” وصعد بأسرته مُتجاهلًا طليقته وكذلك فعل ابنه وصعدت مع زوجته نحو الأعلى تقبض على ابنها بقوةٍ كمن لاقىٰ القمر في منتصف الطُرق وخشىٰ أن يفلت منه..
بينما “نَـعيم” فطالع ابن شقيقه و “إيـهاب” وقد فهم كلاهما سبب الإشارة المُرسلة بغرض الرحيل ثم هتف كبيرهم لنظيره قائلًا بصوتٍ ظهرت فيه الراحة:
_إحنا كدا إتطمنا على الغالي، ربنا يحفظه ويحميه، إن شاء الله هتابع أنا الباقي كله ولو فيه حاجة هكلمك بس دلوقتي بقى خليك برة كل حاجة لحد ما نتأكد إن الدنيا هديت شوية، عن إذنكم الوقت اتأخر ويدوبك نلحق نروح..
تم التوديع منه للجميع وقد تحرك معه ابنه للخارج يقوم بتوصيلهم للسيارة فهتف والده ينصحه بقوله الحكيم:
_أنا عارف إنك ابن أصول وقلبك أبيض، بس خليك معاهم اليومين دول وخليك في الشغل وخليهم يرتاحوا بكرة كلهم، أنا عارف إنك مجدع وابن أصول ومش محتاج لكلامي، وشقتك من بكرة الشغل هيبدأ فيها وهما أسبوعين وهتخلص.
ضحك له ابنه بتفهمٍ ثم عانقه يودعه وهتف بصدقٍ ومحبةٍ خالصتين من قلبٍ صافٍ لأبيه:
_من غير ما تقول مش هقصر في حاجة، وبالنسبة للشقة متشغيلش نفسك يومين كدا هفضى وأخلص اللي ورايا وهاجي أشوف محتاجة إيـه، كفاية أنتَ موجود معايا.
هذا البريء جعل قلب والده يتراقص بين أضلعه بمجرد حروفٍ يُشكلها ويضعها بجوار بعضها فتصبح العبارات في نصابها الصحيح، وقد ضمه والده قبل الرحيل مُمنيًا نفسه بلقاءٍ لن بعقبه الفراق، فالأمر أضحى مسألة أيامٍ فقط ومن ثم ينتقل له ابنه وزوجته أيضًا وسيحدث ما عاش يُمني نفسه به..
رحلوا من البيت ووقف “تَـيام” ينظر في أثرهم بعينين مُرتاحتين لم يعكر صفوهما غير رؤيته لزوجته تقف أمام “أمـاني” والأخرىٰ تُمطرها بوابل الكلمات التي لم تتوقف والأخرى تبدو أمامها كشخصٍ تلقى في بيته كامل الإحترام ولم يعرف كيف يتعامل مع حُثالة البشر أمثالها وقد خطى هو بخطواتٍ واسعة نحوها وقد وقف في مواجهة “أمـاني” التي كانت نظراتها مُتقدة وهي ترمق زوجته التي أختبأت خلفه فيما هتف هو بنبرةٍ هادرة:
_أنتِ بتعلي صوتك عليها ليه؟ وبتتكلمي كدا ليه أصلًا؟.
_أتكلم زي ما أنا عاوزة مبقاش غيرك اللي هيعلمني أتكلم إزاي، أظن هي السبب اللي خليتهم كلهم يبصولي كدا، علشان تكسب بونت على قفايا، جاية علشان أشوف ابني وأخرتها أقف زي الكلبة محدش معبرها!! وأنا أم وقلبي موجوع علشان ابني..؟.
هكذا كان ردها وهي تصرخ فيه بملء صوتها بحمية صاحب الحق رغم عدم أحقيتها به وقد نبشت بفعلتها تلك في ثباته لتخرجه عن طور التعقل حينما هتف يصيح بوجهها:
_أنتِ هتكدبي الكدبة وتصدقيها؟ أم وقلبك وجعك إزاي مش فاهم؟ دا أنا بنفسي اللي ممضيكِ على ورقة التنازل وأنتِ بتقبضي تمنه مننا، عاوزة تتعبري وتاخدي إهتمام ومحبة وأنتِ سايبة اللي ليكِ بمزاجك؟ أنا أعرف إن اللي بيحارب ويتحمق أوي يبقى علشان حقه، مش واحدة سايبة بمزاجها وجاية تردح وتبجح؟ دي كدا قلة أصل، ولو صوتك علي على مراتي تاني، أنا هنسى إنك ست وهرجع شقاوة زمان وأظن أنتَ عارفاني، يلا وقتك معانا خلص.
قام هو باستكمال الإهانة لها وقد برقت بعينيها وهي تُطالعه بنيرانٍ تطايرت من نظراتها ولو كانت النظرات تقوم بمهام القتل لكان أضحى صريعًا ولقىٰ حتفه، بينما هي شملت “آيـات” بنظرةٍ حاقدة ثم تركت البيت وهي ترفع طرف عباءتها واسترسلت في الدعاء عليهم ورفع صوتهم وهي تقول بطريقةٍ سوقية:
_حسبي الله ونعم الوكيل فيكم، ربنا يردلي حقي منكم يا عالم يا ظالمة، أقول إيـه بس، فوضت أمري ليك يا رب، أنصرني عليهم.
بكت وهي تتحدث أمام المارين بالحارة بينما “تَـيام” كاد أن يلحق بها ويُلقنها درسًا لكن كف زوجته منعه وهي تتوسله بقولها راجيةً له:
_بالله عليك لأ، كفاية فضايح كدا وخليها تمشي بقى، بلاش تهين نفسك قصادها علشان هي عمرها ما أحترمت حد، سيبها وربنا يسهلها ويعافينا منها ومن طبعها.
ألتفت لها بكامل جسده يسألها بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
_أنتِ إزاي تسكتي ليها كدا؟ سايباها تغلط فيكِ وكأنك شغالة عندها وهي عمالة تسوق فيها؟ أتعلمي متسكتيش عن حقك قدام حد ملهوش حق أصلًا.
أبتسمت له بقلة حيلة وهتفت بنبرةٍ عادية تفسر له وجهة نظرها أمامه:
_علشان أنا مش شبهها، بعدين هي مش محترمة ومعندهاش أدب ولا أخلاق، لكن أنا مش زيها، أنا متربية وعندي أخلاق ومش هقلل أدبي علشانها، علشان متساواش بيها هي، بعدين هعلي صوتي وأهلل زيها وتبقى وصلت لغرضها إنها تخرج الوحش مني؟، لأ طبعًا ، في فرق رباية وأخلاق مش كل الناس لاقيتها، وأديك شوفت لما أنتَ أتكلمت عيطت ونزلت دمعتين والناس أتعاطفت معاها وبقينا إحنا الحرامية الوحشين اللي واكلين حقها، يبقى خلاص خليلها هي دور الضحية، وخليلنا إحنا دور المثالية.
ضحكت وهي تهتف جملتها الأخيرة وقد ضمها بأحد ذراعيه يُلثم جبينها ثم أسبل أهدابه نحوها يهتف برقةٍ يُمازحها بروحٍ عادت تتلبس طبعه أمامها:
_حبيب قلبي، بقينا جامدين وعندنا ردود جامدة أهو، أثبتي بقى على كدا، علشان أنا بموت في القطط المخربشة.
ضحكت بخجلٍ وفي داخلها كانت أكثر من ممتنةٍ له على موقفه الشُجاع واستبساله في استعادة ابن شقيقها وكيف ظل معهم يُتابع الأمور كافة ثم يعود لها يطمئن عليها، ثم يعود ويجاور والدها، فعل الكثير والكثير ولازال ينعم بقلبٍ رقيق مثل جناح الطير.
__________________________________
<“الفجر يبزغ من جديد، الليل لا يدوم بتاتًا”>
أقبض على ما يَخصك بجمرٍ مُلتهبٍ..
فلا تعلم أنتَ إلى متى سيبقى بجوارك تستمع إلى نبضه وهو يجاور هو نبضك، وقد جلست “نِـهال” بجوار “إيـاد” الذي تولى والده مهمة استحمامه وتبديل ثيابه ثم أعطاه لها من جديد تُسكنه بين أحضانها وهي تمسح فوق خصلاته المتندية فلاحظت حركة جفونه وهي تُطبق فوق بعضها فسألته بنبرةٍ مختلفة المشاعر:
_ساكت ليه يعني من ساعة ما جيت، قولي مالك وحصل إيه يخليك ساكت كدا، مالك يا حبيبي؟.
حرك كتفيه بقلة حيلة وهتف بنبرةٍ مُتعبة:
_اليوم كان صعب أوي، كل شوية دماغي تتعبني وأبقى عاوز أنام بس كنت خايف أنام يعملوا فيا حاجة، فضلت أقرأ القُرآن اللي أنا حافظه وأفتكر كلام “أيـوب” وعلشان كدا أتطمنت شوية، كنت متأكد إن ربنا معايا وأكيد مش هيحصلي حاجة، بس زعلت لما جيت أفتكر أي حاجة تخليني مزعلش، بس ساعتها زعلت لما أفتكرت الموقف اللي بكرهه..
توقف عن الحديث يزفر زفرة قوية مُتعبة من النيران المتشعبة في قلبه الصغير وقد قامت هي بعدلهِ لكي يواجهها وحينها أحتضنت وجهه بكلا كفيها تسأله بوجلٍ وخوفٍ:
_إيـه اللي خلاك تزعل؟ قولي.
رفرف بأهدابه يُمحي أثر الذِكرى من عقله لكنه قرر أن يُفصح عما بداخله لها فهتف بصوتٍ ممزقٍ:
_كنت عاوز أقول للراجل اللي كل شوية يطلع سلاحه إني معملتش حاجة وحشة وإن ربنا هيبعتلي حد يلحقني، وكنت عاوز أتكلم معاه علشان يحبني وميعملش حاجة وحشة، بس أفتكرت لما سمعتها بتاخد الفلوس علشان تسيبني، ساعتها كنت زعلت وأنا بفتكر اللي حصل وإن هي سابتني ومشيت يبقى أكيد هو مش هيحبني، وزعلت أكتر لما جيت ولقيتها، أنا كنت عاوز آجي أشوفك أنتِ بس، وأحضنك علشان كنت خايف وأنا هناك.
ضمته من جديد باكيةً تمسح فوق فؤاده التي تعلم هي في قرارة نفسها أنه يتألم منه وأعتذرت منه بدلًا عن العالم تواسيه بقولها:
_حقك عليا وعلى قلبي من كل حاجة مزعلاك، حقك عليا يا نور عيني والعالم كله في عيني هو أنتَ، أنساها وأنسى كل حاجة، أنا معاك وأنتَ في حضني أهو، عاوز إيـه تاني؟.
أغمض عينيه بسكونٍ تام وكاد أن يُخبرها بألمٍ أن ما تفعله هي يؤلمه أكثر، حنانها الكثير وقلبها الكبير اللاذي قاما بإحتوائه داخلهما كحلمٍ صيفي نُثِرت فوقه زهور الربيع يجعلاه حائرًا وهو يُفكر كيف لها وهي الغريبة عنه أن تفعل ما فشلت أمه فيه، حتى هيئة كلتيهما أوحت بحال الاثنتين في غيابه، وقد وقف “أيـهم” في الخارج يستمع لحوارهما فقرر أن يتدخل بعدما تلبس وشاح المزاح وهتف:
_أنا عاوز أفهم، هدومك مليانة تراب كدا ليه؟ ولا دي أشتغالة منك صح؟؟ أنتَ كنت بتلعب ومحدش جه جنبك؟.
أبتسم الصغير بقلة حيلة ثم فتح عينيه ومازحه هو الآخر بقوله:
_لأ متشغيلش بالك، لقيت المكان مترب قولت أقوم أعمل بلقمتي وأخدلهم المكان وش نضافة، ما أنتَ عارفني بكره الكركبة والعفانة.
حمله “أيـهم” بين ذراعيه وهتف بنبرةٍ مُلتاعة يغلب عليها الحزن بعدما أخطتفه من جوار أمه وأشار عليه يهاتفه:
_أنتَ يا شبر ونص أنتَ تخليني أنا بعد العمر دا كله أعيط؟ خليتني أكلم نفسي وأقف عاجز؟ دا أنا طلعت بحبك أوي وبحب حتى صوتك في البيت، وحشتني يا “إيـاد”..
هتف حديثه بلوعةٍ ثم ضم ابنه لعناقه وكذلك عانقه ابنه الذي قرر أن ينسى ما حدث منذ الصباح وينعم بالقرب من أسرته الصغيرة وقد هتف بنبرةٍ يغلبها النعاس والتعب:
_عاوز أنام في حضنك أنتَ وماما، ينفع؟.
كان يطلب ولم يعلم في تلك اللحظة أنه لو أمر لحصل على الطاعة وقد أقترب به والده من الفراش يتسطحه بصمتٍ ثم أعتدل على جانبه الأيسر وضم “نِـهال” لهما وابنه في المنتصف كلاهما يطوقه بذراعهِ وهو بينهما ينعم بدفءٍ عاد من جديد يملأ حياته..
__________________________________
<“ببدايةٍ جديدة محونا الماضي ومن معه”>
يعيش المرء العُمر بين رحلتين حتميتين..
حيث أحدهما رحلة الذهاب والأخرى رحلة العودة، وما دفعه للأولىٰ هو وهج المشاعر وما أجبره على الثانية إنطفاؤها..
في صبيحة اليوم الموالي..
كانت الأحوال تشبه صبيحة عشية العيد بعد ظهور الرؤية للناس فارحين بما أتاهم من فضل ربهم، وقد هدأت الأوضاع بوصول الصغير لأحضان البيت بساكنيه بعد فراقٍ يشبه فراق النازح لموطنه، وقد أمر “عبدالقادر” بتوزيع وجبات غذائية للناس خارج الحارة وداخلها ثم أخرج صدقة كأنه يشكر الخالق بطريقته على فضله ونعمه التي لا تُحصى ولا تُعد وقد تولى “أيـوب” تلك المهمة بكل حماسٍ وهو يمر على الناس بنفسه يعطيهم ما تيسر لهم من فضل الخالق..
كل شيءٍ حدث منذ فجر اليوم وأنتهى بعد الظُهر بوقتٍ وفيرٍ ولم يبخلوا أو حتى ينظروا لما أعطت أيديهم، هم فقط شعروا بالسعادة وهم يعطون لغيرهم وهذه هي عادتهم من الأساس، لكن عند البلاء يزيد الخير عطاءً من بين أيديهم..
وقد كان “يـوسف” في بيتهِ بعدما قضى ليلته في تعبٍ تفرق في أنحاء جسده بسبب الضربات التي تلقاها لإنقاذ “إيـاد” حتى تعجب هو من نفسه كيف له أن يصبح فولاذيًا لهذا الحد حتى يتحمل جسده كل تلك الضربات بين الحين والآخر ثم يقف كما الخيل الحُـر لا يأبه بالضعف، وقد خرج يتوجه نحو المرحاض يغسل وجهه حتى يفيق ثم خرج وأمسك سجائره يشعل منها واحدة ثم أنهاها سريعًا قبل مجيء والدته من الشقة الأخرىٰ وحينما مـر من جوار الشُرفة وجد “عـهد” تجلس برفقة “قـمر” التي قالت بحنقٍ:
_هي اللي حيوانة وتستاهل إني أبصلها بقرف، بعدين أنتِ مش بتحبي المشاكل بس أنا بعشقها، وهي كل شوية تبصلك بقرف ليه مش فاهمة هو أنتِ ضُرتها؟ أنا أصلًا بكرهها من ساعة ما عرفت هي عملت إيـه في ابنها..
وقف “يـوسف” يستمع لهما وقد أنزوىٰ بعيدًا عن مرأى العينين لكي يسترق بقية الحديث فوجد زوجته تهتف بقلة حيلة وكأنها مُرغمة على ذلك:
_يا ستي بتدخلي نفسك معاها ليه في مشاكل هو أنا أشتكيتلك؟ هي بتكرهني من ساعة ما بقى ليا علاقة ببيت عم “عبدالقادر” بصي أنا هقولك هي بتكرهني ليه، أخوها الزفت دا يبقى صاحب “سـعد” وكان بياخد فلوس منه على أساس يقنعني أتجوزه عن طريق “أمـاني” دي وبدأت تتدخل في حياتي وتتكلم وساعتها روحت أشتكيت للحج وقولتله إنها ملهاش دعوة بيا وبحياتي، وهو الشهادة لله عمره ما زعلني، علطول كان بيقول إني زي بنته، بس هي لما لقيته زعقلها وقالها تخليها في حالها، غلطت فيا وفي أخلاقي وخليتني في وضع زي الزفت..
استحوذت بكلماتها على تركيز “قـمر” وإنصاتها وعلى سمع “يـوسف” الذي فهم عن من تتحدث بتلك الطريقة، لتضيف هي مُرغمة على التكملة:
_للآسف راحت تقول إن عيني من رجالة البيت وبرسم عليهم، مرة أتهمتني إني برسم على “أيـوب” ومرة قالت إني برسم على أستاذ “أيـهم” وساعتها أنا منعت نفسي عنهم خالص و “سـعد” استغل النقطة دي وبقى بيهددني ولما فقدت الأمل إني ألحق نفسي روحت للحج تاني وهو برضه ساعدني وخد صفي، صدقيني أنا ماشوفتش شوية، منهم لله كرهوني في النوم..
هتفت حديثها بألمٍ حينما تذكرت كابوسها المروع الذي هاجمها في الليل وظلت في نوبة هلعٍ على أثره لمدة ساعتين تقريبًا والأصعب أنها أضحت على هذا المنوال المُتكرر قُرابة الأسبوع المتواصل، وحينها أقتربت منها تلك اللطيفة تضمها بكلا ذراعيها وهي تقول بشفقةٍ لأجلها:
_أنسيهم وأنسي كل حاجة خلاص، أنا معاكِ و “يـوسف” معاكِ وهو مستحيل يخلي حد يقرب منك، زي ما أنا إمبارح مخليتش حد يبصلك حتى، واضح إننا أخوات حتى في مشاعرنا ناحيتك، طب تصدقي هروح أضربها علشانك بقى.
ضحكت “عـهد” بين ذراعيها وكذلك “يـوسف” بالخارج فيما هتفت زوجته بامتنانٍ لها كونها حظيت بها:
_أنا أصلًا والله بحبك أوي وبحب إنك بقيتي صاحبتي خلاص وبحس كدا فعلًا إنـك تستاهلي كل خير، عارفة كل الناس كانت بتقعد تفكر مين اللي هيتجوزها “أيـوب العطار” لحد ما عرفنا إنه أنتِ نصيبه، تستاهلوا بعض والله.
في تلك اللحظة ظهر “يـوسف” لهما من العدم وقد أعتدلت زوجته وهي تُناظره فيما تنهد هو بعمقٍ ثم ولج لهما يجلس مقابلًا لهما ثم هتف بنبرةٍ ثابتة وواثقة:
_ولما أنتوا الاتنين حياتكم خراب أوي كدا، مبتقولوش ليه، وأنتِ يا “عـهد” ليه معرفتينيش اللي حصل دا كله وخبيتي عليا؟ وليه وقفتي جلساتك عند “فُـلة”؟ أظن يعني علاجك ملهوش علاقة بحاجة بينا حتى لو غيابي.
رفعت حاجبيها بسخريةٍ وأمالت رأسها للجهةٓ الأخرى تهتفت بتهكمٍ:
_دا على أساس إن حضرتك لما مشيت عرفت حد وقولت رايح فين ولا يا حرام كنت كل يوم بتتصل تكلمنا وتريحنا من التفكير، أسألهم كدا في غيابك حصلي إيـه، ولا إزاي حالي بقى يصعب على الكافر، وخلي بالك أنا ساكتة بس علشان الظروف مش سامحة إني أعاتبك، بس علاج مش هتعالج وشغل مش هبطل..
أندفعت تُمطره بحديثها دون توقف وكأنه ضغط فوق زر بركانٍ لم يكن تجهز لمواجهته لكنها رمقته بسخطٍ ثم عادت للخلف تضم كلا ذراعيها معًا، بينما هو فقرر أن يتجاوز حديثه معها وأنتبه لتلك التي تصنعت البراءة بينهما فسألها بثباتٍ أرعبها من فرط قوته:
_طب الحلوة بقى حصل إيـه يخليها تقف في وش “سـامي” وتبقى تحت رحمته وهو يسيبها علشان خاطر “أيـوب”؟ و يا حظك لو كنت هنا وأنتِ خبيتي عليا ساعتها.
توسعت عيناها بدهشةٍ جلية بينما هو رفع أحد حاجبيه يحذرها من التمادي في الصمت أو الكذب عليه، لذا كادت أن تركض من المكان لكن يده كانت الأسرع حينما منعتها لتناظره بخوفٍ وقد وزعت “عـهد” نظراتها بينهما ففهمت أنه لن يمررها مرور الكرام، بل بالأحرى هو في ذروة الغضب لذا تدخلت بينهما تستجديه بقولها:
_سيب أيدها وبطل تخوفها، شكلك أصلًا يوتر.
أنتبه لها يُطالعها بعينين جامدتين لا حياة فيهما على عكس المعتاد بينما أبتسم لها بتهكمٍ وهتف باستخفافٍ منها وجفاءٍ:
_وهو أنتِ هتعلميني أتكلم مع أختي إزاي؟.
بالطبع هي كارثة كُبرى أن يُصاب بما يصيبه أمامهم، كارثة أن تنضج الأصوات برأسهِ مُبكرًا تنازع بعضها ويقوم هو بترجمة الصراع الناشيء بداخله لعراكٍ حقيقي مع من يقابله، والحظ العسير أوقع كلتيهما أمامـه وقد رمقته “قـمر” بخوفٍ وهو يضغط على رسغها وهتف من بين أسنانه بنفاذ صبرٍ:
_أنـطقي حصل إيـه، ولا أنا لازم أبقى “أيـوب” علشان تعرفيني؟ مش مالي عينك أنا؟ عيل صغير مش هقدر أحافظ عليكِ منهم، حــصل إيــه؟؟..
رفع صوته هادرًا وقد تدخلت “عـهد” تسحب رُسغ الأخرى منه وهتفت بإنفعالٍ في وجهه وقد أثار حفيظتها بما فعل مع شقيقته:
_كفاية كدا خلاص، من إمتى وأنتَ بتعمل كدا وبتنفعل بالطريقة دي عليها، هفكرك دي مين؟ شكلك خلاص للآسف بقيت معمي بالعصبية والإنفعال وكل حاجة عندك خناق وضرب، بس دي مش طريقة أبدًا.
رمقها بشررٍ من عينيه بينما هي لأول مرةٍ تُطالعه بتلك النظرة وكأنها تخبره أنها سأمت منه ومما يفعل، ليقع هو صراعٍ داخلي لحربٍ لم يتجهز لها حتى استمع لأحاديثٍ عِدة داخل رأسه، بين لومٍ ومُعاتبةٍ وكُرهٍ ونفورٍ وكانت النتيجة ألم بالرأس تساقط على العينين وكأنها نوبة داهمته تُهدد ببركانٍ حتمًا سيثور وقد أمسك رأسه كما يفعل دومًا ليحد من ألامها وضجيج أصواتها وحينها لاحظت ذلك شقيقته التي كانت الأسرع حينما أقتربت منه وكعادته البربرية في تلك اللحظة دفعها بعيدًا عنه حتى أصطدمت في الدرابزون المعدني خلفها وقد أنتبه هو لما فعل…
حينها شهقت “عـهد” وهرولت نحوها بينما هو خمدت الأصوات برأسهِ وطال الطنين أُذنيه وهو يرمقهما بغير استيعابٍ وقد أيقن أن هذه الحالة إن لم يُسيطر عليها فمن المؤكد ستمتد أياديها على كل من تطوله، لذا هرب من المكان نحو غرفته يغلقها على نفسهِ وأغمض عينيه يحاول ألا يستمع للحديث، لكنه فشل فشلًا مروعًا وحينها ولج شرفة غرفته يشعل بها التبغ لعله يهرب مما يُعاني منه وقد أدرك أن الأمر لن ينتهى سوى بزيارة لـ “جـواد”..
__________________________________
<“أيُّ هربٍ سنحقق وإن كان ما نهرب منه نسعى إليه؟”>
قلبي العاصي يهوىٰ عصياني،
فكلما طالبته بالفرار منك لجأ إليك، وأي هربٍ ذاك سيحققه وإن كان هو بنفسه يسعى إليك؟ فلا يَهُم إن كان القلب يعصى أمـر صاحبه مادام هو يفعل ما يهواه وأضحى راغبه..
التجربة الأولىٰ دومًا في كل شيءٍ هي درسٌ لنتعلم منه في كل شيء، حيث نُخطيء مرة ونتعلم في الثانية ونتقن في الثالثة، وقد أدركت “ضُـحى” لتوها أن التجربة الأولى كانت درسًا لها وتوجب عليها أن تتعلم منه، حيث خرجت من عملها مع غروب الشمس وقد هاتفت “إسماعيل” الذي أتفق معها على موعد المقابلة لتخرج وتراه أمامها ينتظرها بسيارته رغم تعجبها من ذلك…
فقد هاتفته في وسط عملها المتكدس وطالبته بهدوءٍ وودٍ على غير الحماس والملتهب لديها دومًا:
_فيه حاجات رفايع كدا في الجهاز نازلة أجيبها، يعني طالما موجودين والفلوس موجودة وأنا هخلص بدري النهاردة قولت أروح أجيبهم، وبصراحة يهمني إنك تيجي معايا نجيبهم مع بعض وأهو بالمرة أشوف ذوقك.
حينها توقعت أن يفعل كما المُعظم أو كما فعل خطيبها السابق لكنها تفاجئت به يخبرها بحيرةٍ وبراءةٍ معًا:
_بصي بلاش موضوع ذوقي دا علشان أنا عمري ما كان ليا في الحاجات دي، بس بصراحة يعني برضه متخيلتش إني ممكن أنزل أنقي حاجات زي دي وتكون لبيتي، فهكون مبسوط لو شاركتيني معاكِ..
هل هو دومًا بهذا اللُطف والتهذب؟ هل سيظل معها بتلك الطريقة حتى تتغنى بحبها له، ألم يكفيه أنها أضحت نادمةً على ما أقترفت في حق نفسها قبل مجيئه؟ خرجت من شرودها أمامه وهو يبتسم لها بصفاءٍ ثم فتح لها باب السيارة فولجتها ضاحكةً له حتى جاورها هو يسألها عن وجهتهما فأملته العنوان وحينها شق طريقه نحو هناك..
قاد السيارة نحو الطريق وهي تُجالسه بهدوءٍ على عكس المعتاد بينما هو فكان الحماس ألهبه للقادم، هذا الذي أقسم لشقيقه أن قلبه لا يريد أيًا من فتيات حواء، اليوم أمتلكت قلبه واحدةً منهن وأعلنت سطوتها عليه، حينها سألها عن يومها وكيف سار وكيف أنهت عملها، بينما هي تلك المشاركة كانت مميزة وأكثر بالنسبةِ لها، حيث أنه يتسرب ثم يتوغل دون أن تشعر لداخل قلبها..
وصلا سويًا إلى هُناك حيث ذاك المكان البعيد الممتليء بالعديد من الأفراد وخاصةً العائلات لإنتقاء أدوات الجهاز ومفروشات عش الزوجية، ذاك المكان الذي تُدفع فيه مبالغ طائلة في عدةٍ أشياءٍ قليلة يتم حصرها في دقائق معدودة، وقد تعجب من المكان وتواجد الناس فيه والمواقف الغريبة بين مشاجرات أسرية، وشباب مستاءون من المكان، وفتيات تتحرك بحماسٍ يُنافيها حركة الأزواج، يبدو أن دفن نفسه في قوقعته كثيرًا حتى لم يعد يعلم ما يدور في الخارج..
وقد ولجت “ضُـحى” لمحل يعرض أدوات مطبخية بشتى أنواعها وولجت تنتقي وتأخذ ماشورته فيما تريد وحينما تفسر له هوية الآداة ومهامها كان يضحك مُتعجبًا ثم يعطيها أختياره رغم تعجبه، وفي الأغلب كانت الأذواق تتفق مع بعضها، وأكتشفت حقًا مدى براءته وكأنها أمٌ تسير بطفلها في العامة تعرفه على العالم، وما إن أنهت وملأت صندوق التسوق وتوجهت نحو ماكينة الدفع وكادت أن تُخرج نقودها ظهرت بدائيته حينما أمسك يدها يوقفها عما تفعل ثم أخرج هو النقود من محفظته يقوم بالدفع..
حينها تعجبت مما فعل وهي تُطالعه بذهولٍ بينما هو رمقها بمعاتبةٍ ثم أمسك الحقائب من الرجل وخرج بها من المكان لتسأله هي بإندفاعٍ:
_ليه مخلتنيش أدفع؟ على فكرة أنا لسه قابضة ومعايا فلوس الحمدلله، بعدين أنا مش جايباك علشان تدفع الحساب ولا أنتَ بنك، أنا حبيت ننقي مع بعض الحاجات دي زي أي عرسان بيجهزوا بيتهم مع بعض.
لاحظ هو توترها وفهم أنها تخشى تفسيره لها بصورةٍ خاطئة فهتف بثباتٍ يمحي ظنونها:
_وأنا مقولتش إنك شيفاني بنك، بس أنا راجل وطبعي حُـر، مش هقبل أنك تدفعي فلوس وأنا واقف جنبك لحاجات أولها وأخرها في بيتي، بعدين شغلك دي حاجة تخصك، أنا مش هقصر معاكِ واللي تعوزيه طالما في مقدرتي هجيبه وأعمله..
عقدت مابين حاجبيها تُطالعه بتعجبٍ فأشار لها بالتحرك وهو يقبض على الكرتونة كبيرة الحجم بين يديه ويدعمها بجسدهِ حتى وقف بالخارج أمام مقهى عامة يأخذ فيها الناس قسطًا من الراحة فجلس بها هناك بينما هي شردت في ذكرى بعيدة خاصة بالمدعو “علاء” حينما أنتقت أحد الأشياء المفروضة عليه بالجهاز الخاص بالعروسين وحينما طالبته بأمواله هتف بحنقٍ:
_نعم ياختي؟ ١٤٠٠ جنيه ليه؟ آه فيه بينا اتفاق بس مش شرط أجيب دلوقتي يعني، بعدين أنتِ نسيتي إن دا بيتك أنتِ وسيادتك اللي هتعيشي فيها؟ أنا يدوبك هنام بليل وأصحى أتكل على شغلي، أنا طالع عين أمي بحط ***** أم القرش على القرش علشان نتنيل نتجوز، وأنتِ تيجي تجيبي حاجات هايفة زيك؟ سلام.
حينها قام بإطفاء فرحتها وأضطررت للكذب على أسرتها وأخبرتهم أنها تحصلت منه على النقود بعدما وعدها أنه سيدفعها له في بيته، كما أقنعها بحديثٍ معسولٍ أن هذا البيت قُسمَ لقلبيهما عليها أن تجلب ما تود وهو سيفي دينه لها، تعمقت في الشرود لتخرج على صوت “إسماعيل” يمد يده لها بالعصير ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_أشربي العصير وشوية كدا ناخد لفة نشوف يمكن حاجة تانية تعجبك، وبعدها أغديكِ برة، يلا اليوم كله جاي بخسارة منك، بس فداكِ يا مطرقعة.
ضحكت له وأخذت منه العصير ثم أعتذرت منه بقولها:
_أنا آسفة لو أنفعلت أو ضايقتك لما دفعت الفلوس، أصل أنتَ متعرفش الموضوع دا عملي هاجس إزاي، بعدين بصراحة يعني الأيام دي رجالة مصر كلها شغالة في الاستلواح، علشان كدا حوشت الفلوس دي على جنب، أظن يعني شوفت بنفسك كان فيه كام خناقة جوة.
كان يرتشف من العصير وحينها أنزل الكوب ورماها بضحكةٍ واسعة تبعها بقولهِ الهاديء:
_وهو أنا زي بقية رجالة مصر برضه؟ بصي الموضوع نسبي وليه كذا ظرف ووجهة نظر، يعني ممكن يكون الشاب ظروفه مش سامحة أو غصب عنه قبضه مش بيكفي فبيحس بالضغط شوية، فممكن بكل هدوء يقول إن ظروفه مش سامحة أو يلتزم إنها تبقى دين عليه يسدده، وفيه جزء تاني بخيل ومعفن، يبقى معاه وعنده بس يخاف يجيب علشان ميطمعهاش فيه ويقولك هتتعود، دا بصراحة نوع زبالة، وفيه نوع مش في دماغه بيجيب وخلاص المهم يتجوز وفيه نوع رابع كدا حنين ولطيف لو طلبت نجوم السما هيجيبها، خلي بالك منه النوع دا طيب أوي.
ضحكت على حديثه حينما فهمت مقصده فيما تنهد هو بعمقٍ ثم أضاف من جديد بثباتٍ ورزانةٍ:
_لأ بجد، أنا الموضوع عنده شهامة وقوامة أكتر، طالما معايا وربنا كرمني ليه أبخل؟ يمكن ماكنتش كدا، بس “إيـهاب” بقى ساعة جوازه خلاني أتعلمت منه، ساعتها “سمارة” كانت لوحدها وملهاش حد أصلًا ولما “إيـهاب” طلب يتجوزها وصمم رغم إن كان فيه غيرها كتير، بس هو صمم عليها، ساعتها الحج خاف منه وطلب من “يـوسف” يبقى وكيل ليها ويقفلها قدام “إيـهاب” وساعتها كتبوا ليها قايمة بمليون جنيه علشان يضمن حقها لو قل بعقله أو زهق وطلقها، ساعتها قولنا هيتعصب ويعلي صوته بس ساعتها زود صفر وخلاهم عشرة مليون جنيه، كلنا استغربنا حتى الحج نفسه وساعتها…
ضحك بهيامٍ حينما تذكر شقيقه وأعاد الحديث عليها:
_ساعتها قال عيب يا حج أنا مش ابن حرام ولا راجل ناقص، أنا عاوزها ورايدها وهي عاوزاني، وإذا كانت مأمناني على نفسها وعرضها وشرفها أنا دي بالدنيا عندي، وأنا مأمنها على بيتي وسري وعمري كله وفوق البيعة مديها قلبي كله مش عاوزه، يبقى هبص لفلوس إيه بقى؟ الفلوس دي بتاعة العالم الجعانة اللي عينيهم مشافتش شبع، إنما الرجالة تمنها أصول، وأنا واثق إن أصولي عمرها ما هتوصلها إنها تطلب مني حقها بالطريقة الرخيصة دي.
تنهد ما إن أنهى الحديث فيما أبتسمت هي له وكم كانت ممتنة لذاك المُعلم الفاضل الذي نتجت عن تعاليمه شخصية مثل شخصية خطيبها وبعد مرور دقائق استأنفا سيرهما في المُحيط من جديد وقد وقفت أمام فستانٍ أبيض خاص بالزفاف أمام أحد المحال تطالعه بعينين شغوفتين فيما عاد هو خطوتين لها وقد أبتسم هاتفًا بنبرةٍ ضاحكة:
_شكلك هيكون حلو فيه، لايق عليكِ.
حركت عينيها نحوه تسأله بلهفةٍ:
_بجد؟ هيليق عليا؟.
أومأ موافقًا وأضاف بصدقٍ:
_أنتِ عمومًا بتحلي أي حاجة وواثق إنك هتحليه.
أرتسم الخجل فوق شفتيها وأرتفعت نبضات قلبها تدوي بصخبٍ جعلها تُطالعه بنظراتٍ حالمة في برائته ثم هتفت بصدقٍ أقتبسته من ملامحه:
_أنتَ طيب أوي يا “إسماعيل” وألف واحدة تتمناك.
حينها تلاقت المُقل ببعضها ليرى نفسه جميلًا في إنعاكسه بداخل عينيها وحينها حرك كتفيه بقلة حيلة يجاوبها بصدقٍ:
_وأنا بقى مش عاوز غير واحدة بس من الألف دول، أنتِ.
من جديد يُخجلها بحديثه وقد سارت بجواره وهي تبتسم له وهو أيضًا ثم فتح معها عدة أحاديثٍ خاصة بها وبه ثم خاصة بأحلامها لبيتهما سويًا وتخيلاتها له ولحياتها معه وكأنه دون أن يعلم يُبدد مخاوفها وذكرياتها السيئة حتى كادت تقضي المتبقي من عمرها كما الراهبات، لكنه مـر عليها صُدفةً لتسرق هي قلبه وتتوغل في لُبه وتسكن في جُبه وتُخرِج من الأعماق حُبه..
__________________________________
<“عند عودتنا أكتشفنا أننا لم نقدر على الغياب”>
لما منذ البداية تقابلنا إن كنا لا نستغل اللقاء؟..
سؤال غريب طرحه عقل “رهـف” وهي تجلس في بيتها بعدما أنهت الحديث مع “عُـدي” الذي كان يُتابع معها سير العمل من بعد عودتهم، وحينها فتحت هاتفها تتابع الصور المُلتقطة خلال فترة السفر وقد لاحظت أنه قام بإلتقاط صورةً لها بهاتفها حينما كانت تتحدث في أفتتاحية المعرض..
أبتسمت رغمًا عنها فيما طرق باب غرفتها وطل منه “كامل” شقيق والدتها وقد تركت هاتفها وأعتدلت أمامه تُطالعه بضحكةٍ واسعة جعلته يقترب أكثر منها ثم جلس على الفراش بجوارها وهو يقول بثباتٍ:
_أنا جاي أعرف حبيب خالو قاعد لوحده ليه؟.
حركت كتفيها بقلة حيلة وقد رفع كفه يقوم بإرجاع خصلاتها البُنية خلف ظهرها ثم سألها بعينيه مُطلقًا سطوتهما عليها حتى تنهدت هي بعمقٍ ثم هتفت بقلة حيلة:
_عادي والله، بعدين متبصليش علشان ثانية كمان وهعترف، أنتَ عارفني قدام عينيك الزُرق دول، فلو سمحت متضعفش موقفي أكتر من كدا.
ضحك لها ثم ضمها لصدره وهتف بحبٍ خالصٍ لها:
_أنا طول عمري صاحبك وأخوكِ، وفاهم اللي فيكِ، بقالك فترة متغيرة ومش أحسن حاجة، قوليلي مالك وأنا هساعدك أو زي ما بعمل علطول هسمعلك، أنا يهمني أسمعك أوي.
تنهدت بقوةٍ وأطلقت العنان لحيرتها تخرج منها وهي تقول بنبرةٍ ضائعة أعربت عن تشتتها:
_فيه إن أنا حاسة إني مقسومة نصين وكل نص جوايا ليه حق يعيش وياخد حريته بس مينفعش معاه وجود النص التاني، أنا مش مالكة أدي حق لواحد فيهم بس، ومش مالكة إني أعيش بالكره لواحد فيهم، وأضعف من إني أتحمل كل دا، مينفعش، صدقني يا “كامل” مينفعش حد فيهم يكسب على حساب التاني.
أبتعد عنها يُطالعها بحيرةٍ فوجدها تبكي وهي تنتحب بقوةٍ جعلته يمسح عبراتها بلهفةٍ وهو يسألها بإهتمامٍ تجلى في نبرته بقوةٍ:
_مالك بس يا “رهـف”؟ مين زعلك ووصلك للكلام الكبير دا، أنتِ كلك على بعضك ٢٥ سنة يعني كلامك دا بيقول إن فيه مشكلة كبيرة أوي، حصل حاجة في السفر ضايقتك؟.
حركت رأسها نفيًا وسحبت نفسًا عميقًا وهي تقول بصوتٍ مختنقٍ:
_أنا للآسف بقيت مش حابة نفسي، حاسة إني واحدة خاينة مش أمينة على الذكريات والحب اللي أتسابولي، مرة واحدة لقيت نفسي بميل لحد تاني وبغير عليه وبتضايق لو هو مش موجود وبزعل منه لو مش واخد باله مني وبفرح أوي لما بلاقيه مهتم ومركز وشايل مسئوليتي، بكون طايرة في السما، بس بزعل أوي من نفسي وبحس كأن “حـمزة” مصدوم مني، كأني بخونه وبرمي اللي كان بينا، بس أنا مش كدا خالص والله، أنا غصب عني لقيت مشاعري بتروحله، أنا ببقى متطمنة وأنا معاه، حتى يمكن بتطمن أكتر من وجودي مع “حـمزة” المرة دي أنا حاسة إن فيه حاجة أكبر مني.
رمقها بتساؤلٍ من عينيه جعلها تتنهد بقوةٍ ثم هتفت من جديد ببكاءٍ عاد لمحله وعبراتٍ ظهرت بحدقتيها المُتعبتين:
_كل مرة بحس فيها بحاجة ناحيته أو إهتمام أو أي مشاعر بشوف “حـمزة” زعلان مني كأنه متوقعش إني أخونه كدا، الغريب إني طول الوقت بحاول مفكرش فيه، بس غصب عني بلاقي كل حاجة حواليا بتوديني لحد عنده هو، وهو مشكلته إنه طيب مش حمل وجع مني، خايفة أوجعه وخايفة أضيعه، وبين الاتنين أنا ضيعت مني.
لاحظ خالها ما تُعانيه وما تضمره في نفسها وقد ضمها له يمسح على خصلاتها المسترسلة خلف ظهرها ليجدها تتمسك به بقوةٍ واهية فأضاف هو بحكمةٍ يُريحها قليلًا بحديثه:
_ أنا ملاحظ كدا من الأول ومش هسألك هو مين علشان دي حاجة خاصة بيكِ أنتِ، بس نصيحة مني هقولهالك إن الدنيا مبتقفش على حد، خصوصًا بعد الموت، وإلا مكانتش مامتك كملت وخدت حقكم من عيلتكم وجددت ليكم حياتكم من تاني، ولو بتقف فعلًا كانت مامة “حمزة” وقفت حياتها، إنما هي جوزت بنتها وعملت حفلة لحفيدها وسافرت أتعالجت برة وجوزها أترقىٰ وعاشوا حياتهم، يبقى حرام عليكِ إنك توقفي حياتك عند موت “حمزة” وتدفني نفسك بالحيا، هو لو كان مكانك كان هيعيش حياته ويتجوز ويخلف، بعدين لو أنتِ فعلًا متمسكة بحب “حمزة” مكانش قلبك هيميل لحد تاني غيره حتى لو كان “عُــدي”.
توسعت عيناها حينما هتف هـو اسمه فهي لم تتذكر أنها هتفت هذا الاسم وأفصحت عنه وقد هتف هو بنبرةٍ بها تهكنٍ:
_هقولك عرفت إزاي، من كتر كلامك عنه مع مامتك ومن كتر ما بكلمك ألاقيكي تجيبي سيرته وإنه بيساعدك، اللي أنتِ فيه دا نضج مشاعر، منكرش إنك كنتِ بتحبي “حمزة” أوي كمان، بس كنتِ صغيرة لسه، وكنتِ متأثرة باهتمامه وحنيته خصوصًا بسبب موت والدك، إنما إنجذابك للتاني بقى فمشاعرك بقت عقلانية أكتر وبحكم كشفك لشخصيته قدرتي تبني خلفية كبيرة عن تفكيره وحياته، صدقيني من غير مجاملة أنتِ مش وحشة، ولا خاينة، أنتِ فضلتي سنتين قافلة عليه في قلبك وحرمتي نفسك من كل حاجة، قومي بقى بطلي نكد تعالي نجري شوية بالعجل، يمكن أسبقك.
مازحها بحديثه حتى ضمته مُجددًا وهي تتمنى أن يصبح حديثه صحيحًا وأنها لم تُخطيء في حق نفسها أو في حق حبيبها السابق وقد تفهم هو حالتها فقرر أن يبقى معها حتى تخرج من قوقعة حزنها وبؤسها.
__________________________________
<“إن كُنت أنتَ لا تُريد لكن فغيرك يتمنى”>
إذا كنت غير قادرٍ على المواجهة فيلزم عليك الهروب،
وحقًا لقد هرب “يـوسف” من الجميع ورحل من الحارة قبل أن ينفجر فيهم، فقد أصابه الشتات وضيعه الضجيج، فلم يعد يأمن لنفسه وبالأحرى لم يأمن عليهم بصحبته، بينما “أيـوب” فجلس برفقة الشباب في وكالة والده وقد ظل “تَـيام” يقطع المسافة روحةً وجيئة بغيظٍ جعل “يـوساب” يرفع صوته بحنقٍ منه:
_يابني أقعد بقى حولت أمي، دا أنت وش فقر.
صرخ فيه يوقفه وقد تعجب “بـيشوي” وهتف بضحكةٍ مكتومة يُعاتب الآخر بقولهِ:
_عجبك كدا؟ عمري ما شوفته متعصب في حياتي وأنتَ عصبتهولنا في ثانية، روح يا بعيد منك لخالتك “نيفين”.
أنتشرت الضحكات بالمكان وقد تدخل ” أيـوب” يهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_أنا شايف إنك تهدا شوية علشان الموضوع عادي، أبـوك لقاك بتتعب في المواصلات جابلك عربية بسواق، يعني معملش حاجة غلط، وأنتَ كان نفسك في عربية أهي جاتلك أهيه، بعدين ما عندك “يـوساب” أهو عمك “رأفت” مجابلوش عربية غير لما اتأكد إنه هيبقى دكتور في الجامعة، أحمد ربنا بقى.
ناظره “يـوساب” بتعجبٍ ثم هتف بسخريةٍ:
_أنا بتاخد كوبري؟؟ تشكر يا غالي.
من جديد أرتفع صوت الضحكات وقد مرت “مـارينا” من أمام المكان ولاحظها “يـوساب” الذي استأذن منهم وتحرك نحو الخارج يُراقبها حتى ولجت لشارعها فتنهد بثقلٍ لكونه حائرًا معها لهذا الحد، فلا هو استطاع أن يتحدث معها ولا قوىٰ على إخراجها من ذاكرته وخُلده، هو هنا في مفترق الطُرق في علاقته بها وقد لاحظ أنها ألتفتت لكي تمسكه في الجُرم المشهود وقد تواصلت الأعين ببعضها رغم طيل المسافات بينهما..
في مكانٍ آخرٍ تحديدًا ببيت “العطار”..
بعدما توجهت “عـهد” إلى عملها شعرت “قـمر” بالضيق من تواجدها بالبيت فتوجهت إلى “آيـات” تجلس برفقتها حتى يتغير حالها من بعد رحيل شقيقها الذي يبدو أنه يُعاني من شيءٍ لم تفهمه هي لكنها لن تتركه، وقد أتت بحجة الإطمئنان على الصغير لكن الباب صدح صوته فتحركت هي تفتحه بعدما تركت “وداد” تُكمل صنع العصائر وقد تفاجئت بـ “جـنة” أمامها وحينها توسعت عيناها وهي تفكر كيف تتماسك فيما هو قادم؟..
__________________________________
<“لا تلومن عليهم، من المؤكد هم لا يعلمون قدرك”>
الصمت أيضًا يعتبر لحنًا لكنه حزين،
فمن يستمع للحديث ويقوى على تفسيره من المؤكد سيستمع للصمت ويفسره أيضًا..
كان “نـادر” يلتزم الصمت منذ الأمس تحديدًا منذ أن أتت زوجته وقضت الليلة معه حتى اليوم التالي وهي تحاول خلق الألفة بينهما بالتودد إليه بحديثها الناعم ورقتها القاتلة، لكنه كان وسط هالة من الجمود حيث حاول أن يتصدى لها ويوقف إنجراف مشاعره خلفها، وقد ظلت طوال اليوم تشرف على حالته تارةٍ وتارةٍ أخرى تتودد إليه بقربها وقبل أن تتمادى يوقفها هو حتى أخبرته أن والدتها قادمةً لرؤيته..
جلس في غرفته فوق الفراش بمساعدة الممرض وقد ولجت له “حنين” تناوله الدواء ثم تُعطيه الإبرة الطبية داخل وريده وقد شكرها هو بإقتضابٍ وتعجب من عدم ردها عليه كما أن مرحها تلاشى من وجهها، وكذلك أصبحت أخرى متهجمة الملامح، وقد ولجت زوجته برفقة والدتها وهي تقول بنعومةٍ تليق بفتاةٍ مخملية ابنة طبقة أرستقراطية:
_مامي وصلت يا حبيبي.
رفع عينيه نحو حماته يُحييها بصمتٍ وقد أنسحبت “حنين” من المكان حتى لا تخضع لنظرات زوجته المُتعالية وقد رمقتها الأخرىٰ بسخطٍ وكأنها ودَّت قتلها بعينيها حتى جلست أمها بقربه تطمئن عليه حتى تفاعل هو معها بالحديث شيئًا فشيءٍ وولجت أمه ترحب بها رغم جمودها وإقتضابها المُصدرين نحوها..
دقائق مرت و”شـهد” أتتها مكالمة هاتفية من العمل فتحركت نحو الخارج وتبعتها “فـاتن” التي أنسحبت تُحضر المشروبات لضيفتها فلاحظت المرأة جمود “نـادر” وركود تفاعله فاستنتجت السبب لذا أنزلقت بكفها نحو كفه تتلمسه بحنوٍ وهتفت بهدوءٍ وودٍ:
_مش عاوزاك تزعل نفسك يا حبيبي، أنتوا لسه صغيرين والحياة قدامكم و أنتَ ربنا الحمدلله قواك ونجاك من كل حاجة، العمر قدامكم ولسه الحياة بين أيديكم.
حرك رأسه موافقًا لها ونبس بنبرةٍ خافتة:
_الحمدلله يا طنط، بعدين جلسات العلاج الطبيعي بتجيب نتيجة، الدكتور قالي بس إن دا نتيجة الجبس وفترة الغيبوبة أثرت على الأعصاب والعضلات من قلة الحركة وقفت، الحمدلله على كل حال.
تنهدت هي بثقلٍ ثم هتفت بشفقةٍ على كليهما:
_الحمدلله يا حبيبي، على فكرة “شـهد” تعبت أوي ساعة اللي حصل، وأنا قولتلها إن الخلفة دي رزق وربنا هيعوضكم، وبكرة تقف على رجلك تاني وتملا بيتكم بولاد حلوين شبهكم.
ألقت عليه قُنبلة لم يتحمل حملها فوق عاتقه فكرر خلفها مُستنكرًا كلمتها أو ربما حديثها بأكملهِ:
_خـلفة!! حضرتك تقصدي إيـه؟.
ضمت حاجبيها لبعضهما وهي تجاوبه ببلاهةٍ:
_هو أنتَ مش زعلان علشان “شـهد” كانت حامل وأجهضت؟.
القنبلة الثانية لاحقت الأولى في رد فعلها وقد توسعت عيناه وأنقبض قلبه وهـو يُطالعها بذهولٍ وصدمةٍ ارتسمت فوق صفحات وجهه، وقد أضحى قاب قوسين أو أدني من لفظ أنفاسه الأخيرة أو التحول لغير الآدمية وبالرغم أن الجرح قد سكن إلا أن الروح كانت تأنِ بصراخٍ..
______________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)