رواية غوثهم الفصل المائة وستة وستون 166 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة وستة وستون
رواية غوثهم البارت المائة وستة وستون
رواية غوثهم الحلقة المائة وستة وستون
“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الواحد والثمانون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
سبحان ذاتك لا ندٌ
و لا مَثلٌ و لا شبيهٌ ولا جُزءٌ ولا عددُ،
أمام بابكَ كلُ الخلق قد وقفوا،
و هم ينادون يا فتاحُ يا صمدُ،
فأنتَ وحدكَ تُعطي السائلين،
و لا ترُد عن بابك المقصودِ من قصدوا
سبحانك، سبحانك ،سبحانك جل جلالك يا الله
أمام بابكَ كلُ الخلق قد وقفوا،
وهم ينادون يا فتاحُ يا صمدُ،
فأنتَ وحدكَ تُعطي السائلين،
و لا ترُد عن بابك المقصودِ من قصدوا
سبحانك، سبحانك سبحانك جل جلالك يا الله
_”نصر الدين طوبار”
____________________________________
يُقال في الوداع السلام..
لكن أين السلام وبلادي تُغربني وتعلن عليَّ الحرب؟
أين السلام وأنا لازلت شابًا وحالي في موطني يشبه الأسير في الكرب؟ فهل أنا المُخطيء لأني تمسكت بموطني أم أن الخطأ كان منذ بداية الدرب؟ اليوم أتى وداعي بغير سلامٍ، وأتى صوتي بصراخٍ دون كلامٍ، اليوم ودعت كل ما أملك ولم ألوح حتى بكفي وسلامي، وإنما أنا المتكلم والعالم لم يفهم يومًا كلامي..
فاليوم أكتب من وسط غياهب الظُلمات والهزائم في ليلةٍ ظلماء قامت بقسم ظهري لنصفين وظلت الروح عالقةً ما بين الحياة والموت؛ فلا هي ارتاحت ولا أراحت..
وبرغم ذلك سوف أكتب عن الهزيمة والنصرِ،
وعن الظلام والنور، عن الصفح والقمع
عن الشيء وما يغايره، لعلي وأنا أكتب عن النظير
ألقاه، فهل لي أن أكتب عن الظلم كي يُقابل حديثي بالعدلِ؟
يقولون في الوداع سلامًا، فسلامًا على قلبٍ لم ير يومًا سلامًا في حياته..
<“كانت الحقيقة مخفية الملمح والهوية”>
الحقيقة لم تكن شمسًا ساطعة..
وإنما هي مخفية الملمح والهوية،
والخديعة ضوءٌ ساطعٌ تم تسليطه على دروب الباحثين عن راحةٍ مخبوءةٍ، فخدعوه وقالوا أن الحق موجودًا فقط لمن يبحث عنه، وذاك الباحث في مسلكٍ خاطيءٍ ما إن يتوه سوف يرفع رأسه من جديد كي يُتابع الضوء الساطع ظنًا منه أنه سيرشده؛ لكن منذ متى والخديعة تُرشد باحثًا عن حقٍ؟..
كل شيءٍ انقلب بمقدار طرفة العين ورُبما أقل، البيت أنقلب رأسه على عقبه واحتشد الرجال من نقطة المنتصف حول بعضهم وزئير صوت “إيـهاب” يهز أركان البيت فيتلجلج كل ثلبتٍ أمامه، كانت حالته أقل ما يُقال عنها أنه أسدٌ جُرِحَ وسط غابته من ضبعٍ جبانٍ لم يملك حتى جُرأة المواجهةِ، ظل يبحث خلف كل خيطٍ رفيعٍ قد يوصله لكنه فقد كل أملٍ ما إن تتكرر النتائج من جديد ويلقى الهزيمة في طريقه تُعيده مُتقهقرًا حيث نقطة البداية كأنه لم يدب الدرب بقدميه قط..
بحثوا كل الشباب ومن فيهم “مُـحي” الذي تولى مهمة البحث في حارة “العطار” ولم يترك إنشًا فيها إلا وترك بصمة بحثه عن رفيقه، كل مكانٍ كان يخطر بالبال أو لم يخطر حتى بحثوا فيه ولم يجدوا أثرًا له، ذهب “يـوسف” إليهم وظل معهم يتولى مهمة البحث في خطٍ من المنطقة بأكملها و”تَـيام” و “مُـنذر” يبحثان في النصف الآخر لكن دون جدوى عادوا جميعًا لفناء البيت مصطحبين خيبة الأمل مجرورةً في أذيالهم..
ارتمى “إيـهاب” على عاقبيه مُلقيًا بثقل جسده وهمهِ على نفسه ثم رفع كلا كفيه يضعهما فوق رأسه كما الفارس الذي خانه جيشه في المعركةِ حتى جواده تركه وحده وفر هاربًا قبل اضطرام النيران، عاد “يـوسف” ووقف أمامه يخبره بقلة حيلة:
_للأسف الكافيهات كلها مرحهاش النهاردة، و “ضُـحى” أكدت أن آخر مرة شافته فيها إمبارح وهو بيشوفوا شقتهم مع بعض، وبحاول أكلم “سـراج” بس موبايله مقفول و “عـزيز” ميعرفش هو فين، قوم قعدتك كدا مش هتحل حاجة.
رفع “إيـهاب” رأسه بالتدريج يعيد الحديث في سمعهِ ثم سأله مستنكرًا وهو يردد الكلمات من جديد أو كأنه استعارة جزءًا من الحديث:
_”سـراج” تليفونه مقفول؟ و”عـزيز” ميعرفش هو فين؟..
انتبه له “يـوسف” وثبت عينيه الثاقبتين عليه بتركيزٍ شديدٍ وحينها تحولت نظرات “إيـهاب” وتاه عن واقعه في لحظةٍ أخرى وترك نفسه لعقله يذهب به في رحلةٍ لماضٍ فات منذ أسبوعٍ..
“مُـنذ مـا يُـقارب الأسبوع”..
كان “إسماعيل” يقف في فناء البيت بجوار “سـراج” الذي كان يتحدث معه منذ العديد من الدقائق المارة عليهما سويًا في وقفتها تلك وقد مر “إيـهاب” بالقرب منهما فاستمع لحديث “سـراج” حينما كان يقول لشقيقه بإلحاحٍ:
_فكر بس أنتَ ومالكش دعوة، أنتَ هتشتغل في المصلحة دي بالمؤهل بتاعك وأنا بالفلوس ولو ظبطت معانا نجيب الباقي ونكبر شغلنا، قولت إيه بقى؟.
حينها تجاهل هو الموقف وانتبه للمكالمة الهاتفية التي في يده تعود للعمل وقد استمع لرد شقيقه الذي رفض قبل تكملة الحديث والكلام في هذا الشأن مما أدى لإثارة تعجبه وغرابته:
_لأ يا عم فكك مني خالص في الشغلة دي، أنا كدا مرضي أوي والحمدلله مستورة بزيادة أوي، عندي المكان بتاعي وشريك في واحد تاني، دا غير شغل الخيول وتجارتي مع الحج، ملهاش لازمة وجعة الدماغ دي يا “سـراج” وقلق وحوارات ملهاش أول من آخر، بلاها وخلينا كدا أحسن.
كانت تلك هي الذكرى التي ما أن تعود لسكنها في العقل تُلهب الحواس بأكملها وتُقاد النيران في القلب بسبب عودتها، التهبت نظرات “إيـهاب” واتقدت عيناه بشرٍ وهب منتفضًا من موضعه وأنطلق كما السهم يقصد الوجهة المُحددة، لاحقه “يـوسف” الذي ركض مُسرعًا وولج معه السيارة حتى دون علمٍ بهوية تحركه، فقط سار معه على عمىٰ كما يُقال والآخر يتأهب بكل حواسه لشرٍ من المؤكد أنه سوف يبتلع الجميع في جوفه إن حدث ما تأكد منه هو…
أوقف السيارة التي قادها بسرعةٍ جنونية أمام بيت “سـراج” ثم ترجل منها بخطواتٍ واسعة يضرب الأرض أسفله حتى ولج الحديقة التي تجلس بها “نـور” وخلفه كان يسير “يـوسف” الذي كانت خطواته أقرب لركض الخيل في ميدان منافسةٍ حاميةٍ، وقد وقف الأول في مواجهة “نـور” يسألها بجمودٍ وغلظةٍ ولم ينتبه لتلك الصغيرة التي تجلس معها:
_جوزك فين يا “نـور” ومبيردش ليه؟.
حينها انتبهت له وهوى قلبها من موضعه وهي توزع نظراتها بينهما ثم قالت بصوتٍ مهتزٍ وقد حقًا تسرب إليها الخوف من مجرد الطريقة التي يتحدث بها معها:
_معرفش…هو قالي إنه عنده شغل وممكن يتأخر فيه، حصل إيه يا “إيـهاب” ومن إمتى أنتَ بتكلمني كدا وتدخل بيوت الناس في وقت متأخر زي دا من غير ما يكون راجل البيت موجود؟.
حديثها وفلسفتها وديباجتها لن تفيده بشيءٍ لذا اندفع في وجهها وكأن العقل طار من مكانه وأضحى مكانه فارغًا لاسيتعاب الجديد من الكوارث فباغتها بقوله الأقرب للصراخ:
_علشان لو اللي بفكر فيه صح وجوزك عمل اللي عمله من غير يمين أنا هخليكِ تترحمي عليه وتلبسي الأسود طول عمرك من غير حتى ما أتدارى وأنا باخد روحه إن شاء الله حتى أتسجن في لحظتها، جوزك مش هيبطل داء الوساخة وهيفضل طول عمره ديله زي ديل الكلب، أنطقي هو فين؟..
هدر فيها بصراخٍ جعل جسدها يجفل إثر زعقته فتدخل “يـوسف” تلك المرة بهدوءٍ يخبرها عن الحقيقة المخبوءة خلف الدفعة البدائية الصادرة من الآخر ويُبرر لها سوء التصرف بقوله:
_حقك علينا يا “نـور” بس “إسماعيل” مش لاقيينه ولا لاقيين أثر ليه، و “سـراج” نفس الموضوع برضه مش عارفين نوصله، هو مكلمكيش وقالك هو فين؟ أو حتى سابلك معلومة؟.
توسعت عيناها ما إن وصلها حديث “يـوسف” وأول ما بدر إلى ذهنها كانت خطفة لهاتفها الموضوع فوق الطاولة أمامها ثم فتحته على المراسلات الخاصة به فوجدته أرسل لها رسالة صوتية بنبرةٍ بدت غريبة كأن من يحدثها بغريبٍ عنها ولم تعرفه حين قال:
_”نـور” أنا عندي شغل كدا كام يوم برة السمان، مصلحة بظبط ليها علشان ألحق أعوض الخسارة اللي فاتت، خليكِ عندي باباكِ وخلي “چـودي” معاكِ وخلوا بالكم من نفسكم، ومش عاوزك تقلقي عليا، كام يوم وراجع.
زاغ بصرها وهي ترفع عينيها تلتقي بعينيهما وحينها خطف منها “إيـهاب” الهاتف يرى توقيت الرسالة وما إن وجده بنفس توقيت اختفاء شقيقه _بالتقريب وليس إلا_ اتقدت عيناه بجمراتٍ مُلتهبة ترسل شررًا ثم ضرب الهاتف فوق الطاولة وهدر بعنفٍ:
_مبروك عليكِ لقب أرملة.
هوى قلبها من جديد ونزل الدمع مدرارًا بخيبة أملٍ وأول ما فعلته هي كان دفاعًا عن زوجها ببكاءٍ حتى ولو لنفسها قبل الآخرين:
_”سـراج” مستحيل يعمل كدا يا “إيـهاب” ولا يمكن يسلمهم صاحبه بعدما كل المشاكل اللي بينكم أتحلت، أنتَ لو مش واثق في صاحبك وعشرة عمرك بس أنا واثقة في جوزي إنه معملش كدا ولا حتى يفكر فيها.
طالعها باستهزاءٍ وتهكم بنظراته ثم أولاها ظهره وهتف بتأكيدٍ لحديثه السابق واستعان بماضٍ يُذكرها بما حدث سابقًا كي تنتبه هي:
_شكلك ناسية إنه سبق وعملها وسلمه ليهم لما كنت مسجون، بس لو عملها وأنا حر نفسي يبقى غبي علشان مش هفكر مرتين قبل ما أسحب روحه منه وكلامي مبيتكررش مرتين ورا بعض.
أنهى حديثه وخرج كما جاء يضرب الأرض أسفل منه كأنه يسير فوق حممٍ بُركانية ولم يكترث بنظرات “چـودي” المصوبة نحوه بخوفٍ وخيبة أملٍ كأنها حقًا لم تعرفه أو حتى تُعاشره وتعتبره شخصها المفضل، صدمها مرتين وهي واقفة بجوار زوجة خالها، أول مرةٍ بالفعل وثانيهما برد الفعل نحوها..
أما هو فكان مسكينًا يُعايش ما لم يستطع رجلٌ في موقفه أن يُعايشه وهو يرى نصف الروح مفقودًا دون أن حتى يُنذَر هو بذلك، سُلب منه نصف الروح وبقى النصف الثاني يرثي ضياع وفقدان النصف الأول..
اليوم؛
وفي طرفة عينٍ
وبغير وداعٍ، رحل عن الفؤاد
حبيبٌ كان بمقامِ كل حبيبٍ
ومن بعده لن نجد حبيبًا
يملأ مكانه، فربما يبقى مكانه
شاغرًا ورُبما يعود..
____________________________________
<“كانت الكارثة الكُبرى في فعلٍ فعلناه سهوًا”>
هناك بعض الأفعال نفعلها سهوًا عنَّا بخطواتٍ غير محسوبةٍ..
نفعلها لأجل الفعل ذاته وليس إلا، ولم يكن الأمر برغبتنا، لكن هذا الفعل الذي نقم به سهوًا بغير حسابٍ في وضعٍ ما رُبما يصبح هو المتحكم فينا بعد كل شيءٍ، هذا الفعل الذي كلما وقفت أمام مرآتك ستتمنى عودة الزمن بك كي لا تقم بذاك الفعل الغبي، لكن لا الزمان يعود ولا الفعل يُرجع عنه…
مر الليل وسار..
بدأ الفجر يبزغ ومن بعده تشرق الشمس وتكشف المخبوء في الأمر الذي لم ينكشف حتى الآن، طريقٌ طويلٌ في الصحراء شقته سيارات الدفع الرُباعي حتى وصلت أخيرًا لمدينة “الواحات” بجمهورية مصر العربية، بقعة قديمة وسط تلك المدينة تعد أثرًا طرازيًا ومن المؤكد في الباطن سنجد الأكثر، لذا كانت عليها عين الاختيار حينما جهز “ماكسيم” لخطته الجديدة ومفتاح خرائطه تلك المرة كان “إسماعيل” كما كان في السابق …
ترجل من سيارته يشمل البيت ومحيطه بعينين ثاقبتين حتى أتت سيارة أخرى ووقفت أمامه وترجع منها رجلٌ ثم قال بلهجةٍ أجنبية:
_It’s done, Mr. Maxime
_” تم الأمر سيد ماكسيم”.
ابتسم بثقةٍ ورفع رأسه بشموخٍ ووضع كلا كفيه في جيب بنطاله ثم أومأ موافقًا وأشار بعينيه لمن يحدثه فتحرك من أمامه وأشار لرجاله وفي تلك اللحظة نزلوا من السيارة وفي يدهم حملوا “سـراج” الذي اختطف هو الآخر على أيديهم بسبب “ماكسيم” الذي شعر لتوهِ ببوادر النصر الأكيد ولا مفر من تلك المقابلة الحتمية له من النصر من بعد الهزائم؛ حتى ولو كانت الخديعة هب السبب في ذلك، كان الأمر غريبًا على الجميع، بينما هو فسياسته مبدأها واحدٌ مهما مرت السنون وزادت الأعوام وهي
“فَـرِق تَـسُد” وهو فرق بين الأصدقاء كي يَسد بأفكاره ويحصل على ما يريد..
مرت ساعة عليه وعلى رجاله تم خلالها وضع كلًا من “سـراج” و “إسماعيل” داخل البيت ووقف يشرف عليهما من علياءه ثم اقترب يراقب ملامح كليهما بتشفٍ وبالأخص “سـراج” الذي تورم وجهه وبدت الكدمات واضحةً فيه إثر الضربات التي سقطت فوق وجهه، حينها أمسك “ماكسيم” دلوًا باردًا ثم ألقاه فوق وجه “سـراج” الذي انتفض من غشي عقله وشهق بفزعٍ وأول ما واجه بعينيه كانت نظرات “ماكسيم” الثاقبة وهي ترمقه بانتصارٍ شهيٍ ثم تصنع الدراما والشفقة عليه بقوله:
_حبيب خالو إيه اللي حصلك؟ حد جه جنبك؟ عرفني وأنا أشيله من على وش الدنيا بس أنتَ متزعلش، وشك بيوجعك؟.
كان “سـراج” يتنفس بحدةٍ ونظراته تسرد عن حاله حتى ولو لم يبدِ هو ذلك وقد التقط “ماكسيم” نظراته والهلع في عينيه فابتسم باتساعٍ أكبر ثم أشار على الفراش المجاور وقال برفعة أنفٍ وشموخٍ طاغٍ عليه كأنه يفعل كل ما يريد في وقت ما يود:
_بص جايبلك مين؟ حبيبك وصاحبك، عارف إن من بدري فيه كيميا بينكم رهيبة، وطول عمركم سركم مع بعض، الحقيقة كان نفسي أربيك وكان نفسي أوجعك في اللي يخليك تتقهر طول عمرك، علشان كدا خلتني بعيد عن “نـور” و “چـودي” وقولت اللي يوجعك بجد إنك تتطرد من رحمة “نَـعيم” واسيبك منك لـ “إيـهاب” علطول وهو يخلص منك القديم والجديد، تفتكر هيسمي عليك لما يعرف إنك السبب في اللي حصل لأخوه؟..
توسعت عينا “سـراج” وتحجرت عيناه بغير تصديقٍ وهو يطالع رفيقه المُسجى فوق الفراش وقد انخلع قلبه من موضعه وهو يحاول فُكاك نفسه من المقعد لكن كف “سـراج” ثبته موضعه وهو يقول ببسمةٍ أثارت استفزازه واشمئزازه على حد السواء:
_أقعد بس، دا زمانه دلوقتي قالب الدنيا عليك وبيتمنى موتك كمان، معلش بقى حقك عليا أنا خليها عندي بس كان لازم أضرب عصفورين بحجر واحد، الأول نفتح المقبرة اللي هنا، وأخد حقي منك على المصالح اللي وقفت فيها، عمومًا ربنا يقويك بقى على اللي هتشوفه لما ترجع من هنا، هتلاقي مراتك قالبة عليك، وبنت أختك حياتها هتتدمر وتتكره بسببك، وصحابك كلهم هيدوك ضهرهم، صدقني الحياة هتخرب فوق دماغك، وبكدا أكون خدت حقي منك تالت ومتلت…
توقف عن الحديث حينما طُرق الباب فعاد يبتسم بظفرٍ وهدر بنبرةٍ عالية يأمر الطارق بقوله الذي لم يعبر سوى عن فتح أبواب الجحيم:
_أدخل يا مولانا..
وهذا المُدعى “مولانا” لم يكن إلا رجلًا من مُدعين الدين يستغل علمه بصورةٍ خاطئة ولم يقدر تلك الهبة التي وهبها الخالق له، رجلٌ لحيته كبيرة ناصعة البياض لم تقبل الشك في هوية صاحبها وإنما هي تدل على الصلاح والخير، لكن القلب وما به فالخالق وحده هو المُطلع على النوايا وخباياها وما فيها..
ولج واقترب من “إسماعيل” النائم ومد كفه يستقر به فوق جبين الآخر ثم قرأ بعض الكلمات المُبهمة أو تلك التي لم تكن دلالاتها واضحة وحينها أجفل جسد “إسماعيل” وتراقصت جفونه وأنامله، فابتسم بظفرٍ ثم التفت لـ “ماكسيم” يهتف برفعة رأسٍ:
_اللي عاوزه هيحصل، هنقدر نسخره..
وهُنا فُتِح الباب الأول من أبواب الجحيم..
هُنا انفجر بركان الكلمات الأول يبتلع بحروفه كل الطمأنينة التي تسكن القلب ليحل محلها الخوف والقلق ويبقى الاضطراب ساكنًا في الحنايا ويظل عالقًا في جدران القلب، حينها صرخ “سـراج” وحاول أن يقترب من “إسماعيل” لكن حضور الرجال صد عليه حركته وخمدت نيران دفعته بضربةٍ تلقاها فوق رأسه اسكتته، بينما مُدعي الدين الملقب “مولانا” فأمر الرجال بحمل “إسماعيل” نحو القبو الداخلي المتواجد بجوار المقبرة..
اليوم الغمام سكن السماء..
الشمس وإن أشرقت ستظل آشعتها خافتة،
اليوم التاريخ يموت ويحل محله الحاضر المُميت،
اليوم الحُلم يُقتل في مهدهِ، ويوضع بمكانه
الكابوس الموحش والقاتل، لكن ربما تشرق الشمس
من جديد، ورُبما تبقى الغمام ظاهرة..
____________________________________
<“كأن رفيقًا للروحِ؛ إن لم يكن هو كل الروح”>
مع شروق الشمس في اليوم الجديد..
رُبما يحدث لك أمران لا ثالث لهما، حيث تتمنى في حالةٍ ما أن يبقى الزمان عالقًا ولا يمر أو حتى تسير منه ثانية واحدة، وإما أن يمر أقصى سرعاه كي يمضي ذاك الشيء الذي يعرقل قلبك عن الطمأنينة، لكن الأمر الثالث الذي لم تحسبه أنتَ؛ أنك قد تتمنى أن يمضي الوقت ثم يتوقف أو ربما العكس لحتى يحين موعد عودة الطمأنينة الهاربة من القلب..
أشرقت الشمس وبدأ اليوم الجديد بكارثة الأمس..
فكان كل شيءٍ ليس على ما يُرام، غياب “إسماعيل” تسبب في كل شيءٍ مريرٍ على الجميع وبمن فيهم وإن لم يكن على رأسهم “نَـعيم” الذي شعر بفاجعة الأمر وهو ينتظر قدوم “إسماعيل” لكن بغير جدوى مر انتظاره، والحبيب لم يعد حتى الآن..
ونظير ذلك كانت “ضُـحى” تجلس في غرفتها تحتضن ذراعيها فوق الفراش وذكرى اللقاء الأخير لم تنفك عن عقلها، كانت وقتها تشعر بشيءٍ غريبٍ وكانت تتمناه لو يكون كاذبًا، فمنذ يومين تحديدًا بيوم الخميس كانت معه في شقتهما تتطلع على التجديدات التي أحدثها هو بعدما طلبت هي منه، كانت لحظة سعيدة عليهما حينما وقف بجوارها يسألها بثباتٍ ورفعة رأسٍ وزهوٍ بالنفس:
_إيه رأيك بقى في ذوقي؟ قولتلك الشغل دا هخلصه كله في أسبوع وأقل كمان مع العمال مصدقتينيش وقولتي عليا بهري في الكلام ودلوقتي أهو بنفسك شوفي كل حاجة تمام إزاي يا مطرقعة؟ ياكش نعجب بس والحاجة تعجب.
التفتت حينها له وهندمت قميصه وهي تقول برقةٍ مفتعلة قصدتها وهي تتحدث معه:
_الحاجة تعجبني دي مش مهم، إنما أنتَ عاجبني فدا شيء مفروغ منه يا حوكشة، هو فيه حاجة تملا عيني غيرك ولا حتى يعجبني حد غيرك؟ شكلك مش فاهم حاجة خالص.
ضحك حينها بسعادةٍ ثم وضع كلا ذراعيه فوق كتفها وقال بنبرةٍ ضاحكة يُمازحها أو هكذا قصد أن يظهر حديثه معها:
_أنا فعلًا مش فاهم، بس حاسس، حاسس بيكِ أنتِ وبس، هانت وكلها شهر خلاص والبيت دا يزيد دفا وحلاوة بوجودك فيه، مش قادر أصدق إن فاضل شهر بس وأنا مسحول كدا كل يوم بس كل ما برجع آخر اليوم وأفتكر آخرتها برجع تاني أفرح وأقول مش مهم، بكرة لما تنور بيتي هننسى أنا وهي كل أيام التعب دي، تفتكري هتكمل زي ما اتمنيت؟.
لمعت عيناها بوميضٍ يشبه وميض النجوم في السماء الكاحلة، اختصته وحده دونًا عن العالم بأكملهِ وطافت بعينيها في ملامحه الطيبة كما تقول هي ثم تنهدت وقالت بنبرةٍ هادئة كانت أسمى صفاتها العاطفة:
_هتكمل لو أنتَ مصدق وعاوزها تكمل، إحنا مش عاوزين نعمل حاجة غلط، إحنا حابين بعض وعاوزين نتجوز ونبني لبعض بيت يخلينا نعيش فيه ونبدأ الحياة سوا، صحيح الحياة مش هادية ولا هي حتى بتطبطب على حد، بس ساعات بنقابل ناس بس علشان هما يطبطبوا علينا، متقلقش وكمل فرحتك زي ما أنا مش شايفة غير فرحتي كدا وبس معاك أنتَ، ولا إيه رأيك؟.
كانت تتفلسف بحديثها كي تواري عن قلبه أي خوفٍ وقلقٍ، بينما هو من مجرد نظرة في عينيها المُهتزتين التقط خوفها هي الأخرى لذا ضمها له بكلا ذراعيه يشاركها المشاعر ذاتها ثم مسح فوق ظهرها وقال بأملٍ تمناه ألا يخفت أو يقل حتى مع مرور الوقت عليهما:
_ربنا يكمل فرحتنا على خير، وأشوفك قريب أحلى عروسة بالفستان الأبيض، خلاص جهز وقرب يوصلك البيت، حافظي عليه، سواء لدلوقتي أو بعدين وسواء أنا صاحب النصيب أو غيري خلي بالك منه، علشان من أول ما شوفته حسيته أتعمل مخصوص علشانك أنتِ مش حد غيرك، يا رب تكمل…
كان يشعر قبل أن يحدث..
كان قلبه يخبره أن الأمر لن يمر بتلك السهولة التي اعتادها مؤخرًا، كان على درايةٍ كافية بما تُخبئه له الأيام، ولأن جملته كانت تقول أن القلب يشعر بقلب حبيبه، قلبها كان يشعر بقلبه فأرادت أن تطمئنه، بينما هو فتلك الرجفة التي دبت في أوصاله جعلته يشدد عناقه عليها حتى تسلل إليها الخوف منه لها هي، تمامًا لو كان جسدها مجوفًا لتلقي كل ما يحمله بداخله ثم ينتقل إليها هي، فيتقاسمان الشيء ذاته معًا حتى ولو كان الشعور القاسي الذي لم يمر..
بكت وهي تجلس وحدها وقد ولج لها “عُـدي” وما إن لمحها في تلك الحالة اقترب منها ثم ضمها لصدره فوجدها لمرتها الأولى تتخلى عن قوتها ويبدلها بضعفٍ حاد وهي تبكي بين ذراعيه وتصرخ وتنتحب باكيةً، فقال هو بحنوٍ يواسيها رغم معرفته أن الكلمات لن تُفيد بشيءٍ:
_وآخرة العياط دا إيه طيب؟ العياط مبيرجعش حاجة، هيرجع من تاني، متقلقيش أنتِ، بعدين تفتكري حد في طيبة “إسماعيل” دي ممكن يتأذي؟ دا أطيب من قلب العيل الصغير، حتى لو عاوزين يأذوه صدقيني ربنا هينصره عليهم، دا “إسماعيل” حبيبك الطيب.
في تلك اللحظة صرخت هي بملء صوتها تعبر عن قهرها بقولها الذي بدا متألمًا تمامًا كما قلبها الذي يتألم لفراق حبيبه ونصفه:
_وعلشان هو طيب الدنيا هتفعصه، محدش هيسمي عليه وهو تحت أيديهم يا “عُـدي” ولا حتى هيفكروا يرحموه، أنتَ متعرفش دا حصله إيه من صغره، من يومه مشافش يوم عدل ولا أتهنى بحاجة في حياته، تعب وطول عمره عايش مكسور، والدنيا مبترحمش اللي زيه، دا حقه مين هيجيبهوله؟ مين هيدافع عن غلبان زيه حياته بتتبهدل، كان معايا وكان حاسس باللي هيحصله، قلبه كان وجعه وهو قدامي، وقلبي حس بوجع قلبه وعملت نفسي مش واخدة بالي، ياريتني كنت خدت بالي..
ظلت تصرخ وتنتحب باكيةً في عناق شقيقها بينما “فـضل” فوقف على أعتاب غرفتها يستمع لحديثها وقلبه ينتفض لأجلها حزنًا ووجعًا عليها، بدأت الأمور تتضح أمامه والأسرار المخبوءة تنكشف لديه، حينها خرج برأسٍ منكسٍ ثم جلس على الأريكة بجوار زوجته يسألها بتيهٍ أو ربما ضياعٍ:
_هو إزاي كل دا كان غايب عننا؟ اللي فهمته من إمبارح إن فيه ناس مستقصداه علشان مكشوف عنه الحجاب وينفع يتسخر واللي عليه يخدمه وينفذ أي طلب؟ عارفة يا “أسماء” دا معناه إيه؟ معناه إن بنتك ضاعت وضيعت نفسها، لو دا بجد والموضوع زي ما أنا فهمت، يبقى “ضُـحى” كدبت عليا وكسرتني، وكسرت نفسها باللي هي عملته كمان..
لاحظت زوجته ضياع حاله وشغلته فربتت فوق كتفه تؤازره وتقف مرصادًا لفكره بقولها:
_بالله عليك متزعلش نفسك، وخلينا في المهم، الواد الطيب اللي زي النسمة وعمره ما زعل حد بكلمة واحد ولا بصة عين، وقع في إيدهم وربنا يسترها عليه وينجده منهم، دا “يـوسف” يا حبة عيني هو والشباب مش ساكتين وقالبين الدنيا، بدل ما تشغل بالك بكلام ممنوش أي فايدة، فكر في “إسماعيل” اللي يا حبة عيني ملهوش حد ومعهوش حد هناك، أدعيله واعتبره ابنك ولما يرجع أعمل ما بدالك فيه، ياكش تطلقها منه، بس هو يرجع..
وفي الحقيقة هو صمت عن الحديث وسكت، لم يجد ما يُضيفه لكلماته ردًا عليها لذا صمت بثقلٍ وتنهد وكأن كل شيءٍ يعمل بعقله توقف حتى العقل ذاته لم يعد بكامل قواه كي يفعل شيئًا جديدًا، فقط وقع تحت وطأة الصدمة، والصدمة كان لها بالغ الأثر..
____________________________________
<“إن لم تبحث عن حقك مرة، سيضيع منك ألف مرة”>
هي مرة واحدة يُسلب فيها منك حقك..
وإن لم تبحث عن هذا الحق فلن يعود لك، وإن لم تسع كي تسترده فلا تحزن حينما يضيع منك ألف مرة، وفي كل مرةٍ ستكون أنتَ المُلام لكونك لم تسع لحقك، فالحق باقٍ، ويحتاج لساعٍ، وأنتَ ما عليك سوى المُجازفة فقط لأجل استرداد حقك..
اليوم كان يسير ببطءٍ تحت وطأة الانتظار الممل، البحث لازال جاريًا عنه والعودة لم تُشيء، تدخلت الشرطة بعد بلاغٍ تقدم به “نَـعيم” ظنًا منه أن الأمر كما المرة السابقة داخل مُحيط “نزلة السمان” لكنه لم يعلم أن الأمر تخطى حدود فكره وحدود مدينته أيضًا، وفي تلك الاثناء عاد “يـوسف” ويكاتفه في عودته “أيـوب” الذي لم يتوان عن دوره في دعمه للعائلة والوقوف بجوارهم تزامنًا مع مجيء موكل البحث من الشرطة الذي مط شفتيه بيأسٍ وهو يقول آسفًا:
_للأسف مفيش أي كاميرات موضحة حاجة، الطريقة الوحيدة اللي خرج بيها “إسماعيل” من هنا على حسب كلامكم هتبقى إنه أتحط وسط التكسير اللي خرج من البيت دا في العربية اللي محملة الحاجة، لأن دي من ساعة ما خرجت من البيت وهو البيت حركته طبيعية ومحصلش حاجة غير لما الرجالة خدت بالها وبدأوا يدوروا، دا اللي ظاهر وللأسف أنا بتحرك من غير ورق ولا إذن ولا أي حاجة بس دا علشان خاطر الحج “نَـعيم”.
رفع “نَـعيم” أحد كفيه يضرب رأسه به ثم أغمض جفونه يأسًا وهربًا من هذا العالم الذي يُحيط به، بينما “إيـهاب” فهب منتفضًا ثم وقف أمام الرجل يُحييه باقتضابٍ ثم تحدث بجمودٍ يقول:
_تُشكر يا باشا، حق أخويا أنا هرجعه، وأخويا نفسه أنا هجيبه، ومتطلعش إذن ولا حاجة يا باشا، عندي أنا دي، متشكرين ليك، نورتنا.
لاحظ الآخر جمود طريقته ففضل أن ينسحب من المكان ويترك هكذا شيئًا كبيرًا يحتاج للكثير من العمل الدؤوب كما أنه رأى أن تخصصه لا يُكافيء هذا الشيء، هو يحتاج لجهات أكبر في التخصص والتخصيص، لذا ترك كل شيءٍ بعد بسمة اعتذارٍ قدمها لهم ورحل، ليعقب رحيله صوت “إيـهاب” يهدر بغضبٍ:
_أنا مش عاوز الحكومة تتدخل ولا حد ليه دعوة بحاجة، أنا مش عيل صغير علشان أقعد وحد يرجعلي حق أخويا لحد عندي، بس وربنا المعبود أنا مش هسكت للي كان السبب مهما كان هو مين، و “إسماعيل” هيرجع هو وحقه في ساعة واحدة، ودي كلمة اتقالت وهتعلق من رقبتي فيها، يا غير كدا خلوني أقعد في البيت ولبسوني طرحة وأولول جنبكم علشان أنا مش راجل ومش عارف أحمي أخويا وأجيب حقه…
أنهى حديثه ثم اختفى من المكان في طرفة عينٍ مما جعل “نَـعيم” يسكت عن نقاشه ومجادلته، فمن غيره سيشعر بكليهما إن لم يكن هو الذي عايش معهما القصة منذ بداياتها وأدرك الحكايا نقطتها الأولى حتى الأخيرة؟ هو وحده من يقدر قيمة المشاعر التي يشعر بها “إيـهاب” لذلك لم يُجادله وإنما تركه يفعل ما يُطفيء نيران قلبه ويُهديء غضب ثورته العامية، وفي المقابل التفوا الشباب حول “مُـنذر” و “تَـيام” اللذان عادا لتوهما من الخارج فقال الثاني بخيبة أملٍ في إيجاد أي شيءٍ:
_للأسف الكاميرات اللي حوالين البيت كلها مش جايبة حاجة، هي عربية التكسير بس اللي اتحركت من هنا ودي أكيد “إسماعيل” كأن فيها وسط الشكاير اللي خرجت من هنا علشان كدا محدش شك فيهم ولا حس باللي حصل، دا أكتر شيء منطقي حدوثه لأن أي احتمال تاني غير كدا وارد بنسبة قليلة أوي، فكدا مقدمناش غير إننا نروح ندور ورا الرجالة دي.
في تلك اللحظة كان “إيـهاب” بالفعل انطلق كما إنطلاق السهم من القوس كي يُصيب هدفه وخلفه ركض كلًا من “أيـوب” و “يـوسف” كي يقوما بإلحاقه قبل أن يحدث أي ضررٍ له أو يتسبب هو في ضررٍ لغيره في لحظة تهورٍ غير محسوبة الفعل، وقد قاد هو سيارته يشق بها الأسفلت أسفل إطارات السيارة، بينما سيارة “يـوسف” لحقته بكليهما حتى أوقف هو سيارته عند مقهى شعبية متهالكة ظهر عليها أثر مرور الزمان وما فعله بها، ثم اقترب من أحد الرجال وسحبه من سترته أمام الجميع الذين شُلَت ألسنتهم عن الحديث..
بينما هو فطارت أعمدة العقل لديه ولم يجد إلا ركامًا فوق بعضه مما يدل على بعثرة نفسه وكل شيءٍ فيه حتى هو نفسه لم يكن في حالٍ يسمح بالنقاش أو حتى الجدال ورد الكلمة بغيرها، فهدر في الرجل بعدما ألصقه في الجدار ورفع مديته يستقر بها فوق عنقه:
_ورب الكعبة لو لاوعت معايا في الكلام لأكون شاقق رقبتك نصين قدام الكل ومش هيفرق معايا، الرجالة **** اللي كانوا في البيت وشغالين معاك فين؟ ومين اللي باعتهم يدخلوا البيت وياخدوا “إسماعيل”؟ ولو فكرت تخفي كلمة عليا، أنا هخفي روحك من جسمك، أنطق يالا مين باعتهم؟.
كاد الرجل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أسفل قبضتي “إيـهاب” لكنه تحامل على نفسه وتمالك كي ينطق بما يعرف وقال بصعوبةٍ بالغة الأثر عليه وعلى صوته الذي أخرج الحديث مُرغمًا:
_أقسم بالله وعظيم بيمين أنا معرفش حد فيهم، دول ناس قالوا إنهم صنايعية وشغلهم كله في المشال والحط بس، وبياخدوا أقل من الباقي علشان جايين من البلد ومش لاقيين حتة تأويهم بقالهم أسبوعين، قولت خلاص يحملوا مكان العمال وشغلهم وأهي عمولتهم قليلة مش كتير، لكن ورب الكعبة هما اختفوا من إمبارح وحتى عمولتهم مخدوهاش، دا أنا قولت طمعوا في تكسير السيراميك وباقي الحاجة يا باشا…
ضربه “إيـهاب” في الحائط خلفه كتعبير منه عن الغضب الذي يسكن فيه ثم أخفى مديته داخل جيبه وقبل أن يتحرك قيد أنملةٍ أتى “مـيكي” بدراجته النارية ثم أوقفها أمامه وقال بلهفةٍ وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه بعدما فقدها في الركض خلف “إيـهاب” من مكانٍ لآخرٍ:
_لقيت واحد من اللي كانوا في الشقة إمبارح، والرجالة خدوه وبيروقوه لحد ما أنتَ تيجي وتشوف صرفة معاه، بس تعالى بسرعة يا عمهم.
وما تلى ذلك كان الركض من “إيـهاب” وهو يلحق دراجة “مـيكي” الذي عاد وقادها كي يرحل بها للمكان الذي أخبر وأدلى عنه، وقد لحقتهما سيارة “يوسف” الذي دق قلبه بخوفٍ، فيما قال “أيـوب” بقلقٍ من كم الأحداث المتصاعدة لبث الخوف في قلوبهم:
_هو “إيـهاب” ممكن لو عرف حاجة تانية، يعمل حاجة؟ علشان بس نلحق نتصرف قبل ما يودي نفسه في داهية، وضعه ميطمنش وكل ما يسمع حاجة يتحول وعلى الحال دا هيجراله حاجة لو مهداش شوية وبطل التوتر المفرط دا، آخرتها إيه طيب؟.
سكت “يـوسف” عن الحديث لبرهةٍ ثم ثبت عينيه على الطريق أمامه وقال بأملٍ في رحمة الخالق كأنه يرجو شيئًا يعلم أن تحقيقه يكون صعبًا في مثل تلك المواقف:
_ربنا يسترها عليه وعلى أخوه، لأن لو فاكر إن حد ممكن يهدي “إيـهاب” أو يقدر حتى يتكلم معاه كلمتين تبقى غلطان، الوقوف قدام القطر أهون من الوقوف دلوقتي قدام “إيـهاب” يا “أيـوب”.
مرت دقائق بعد ذلك وصلا فيها خلف “إيـهاب” الذي ولج كما الإعصار يقترب من الشاب المضروب الذي ما إن لمحه فزع وصاح بصوتٍ عالٍ يعبر عن خوفه وقلقه واضطرابه:
_بالله عليك يا باشا ما تقرب مني، أنا مش قادر والله وهقولك كل حاجة، الراجل اللي جالنا هو اللي طلب مننا ننط على المصلحة دي، طلب مننا من أسبوعين إننا ندخل الشغلة دي ونعمل اللي هو يقول عليه، وقالنا منتصرفش قبل ما شغلنا يبان طبيعي كأننا عمال جُداد، واتفق معانا في أي يوم نلاقي الوقت فيه مناسب ننفذ وناخد الباشا الصغير، وخدناه إمبارح أنا والرجالة وسلمناه ليهم والله ما أعرف حاجة تاني..
وبخفة الريح وسرعة الفهد بعد هذا الحديث أنقض “إيـهاب” عليه يقبض على عنقه بكلا كفيه ثم هدر فيه بغضبٍ أعمى وصوتٍ جهورٍ أعرب عن ضيق النفس التي لم تعد تتحمل أكثر من ذلك:
_خدتوه إزاي من الشقة؟ ومين الراجل دا اسمه إيه أخلص؟.
ابتلع الشاب ريقه ثم تحدث بصعوبةٍ إثر الكفين المحاوطين لعنقه بتلك القوة الصعبة التي تشبه وضع الصخور فوق الأرض:
_كان معانا حباية حطناها ليه في ساندويتش وعزمنا عليه، وهو لما اتكسف مننا خده علشان متزعلش ولما وقع من طوله، حطيناه في شوال ولبسناه ليه ونزل آخر بعد الطوب والرطش…
حينها طارت ثوابت العقل وأندفع “إيـهاب” يضرب الشاب عدة ضربات وكأن الحديث ما إن وصله غرس فيه السكين وظل يطعن ويطعن بغير شفقةٍ أو رحمةٍ، كان الأمر في غاية الصعوبة عليه وهو يتخيل ما حدث مع شقيقه وحينها أندفعت غرائزه بأكملها للشر وهو يردد بقهرٍ وصوتٍ عالٍ كأن العقل غاب عن عمله:
_دا أنا هلبسك الكفن يا ابن **** أنتَ وهما، بقى الواد علشان طيب وخاف يزعلكم منه دي آخرتها يا ولاد *** دا أنا هشرب من دمكم كلكم…اسمه إيه يالا؟ أنطق بدل ما أجيب راسك في أيدي، الزفت اللي كلمكم كان اسمه إيه، أنطق…
مع كل جملة أو سؤالٍ كان يباغته بضربةٍ حتى نزفت الدماء من وجه الآخر وتألم كامل جسده وفي تلك اللحظة أبعده كلًا من “أيـوب” و “يـوسف” فوقف “إيـهاب” يتنفس بعنفٍ وقبل أن يهجم على الشاب من جديد زمجر بحدةٍ فأجفل جسد الشاب ثم قال الاسم الذي كان أثر ذكره كارثيًا:
_اسمه “عاصم الراوي” يا باشا هو دا اللي أتعامل معانا وخلانا ناخد الباشا وهو اللي بعت لينا رجالته علشان ياخدوه مننا بعد ما نبعد عن المنطقة خالص، بس والله يا باشا معرفش خده وراح بيه فين، هو سلمنا الفلوس ومشي.
في تلك اللحظة كانت الطعن في صدر “يـوسف” الذي توسعت عيناه وكذلك فعل “أيـوب” الذي شُل عن الجواب هو الآخر، ولم يكن من بينهم يستعد لفتح أبواب الجحيم مثلما فعلت نظرات “إيـهاب” الذي بدل عينيه بالجمرِ المُلتهب وكرر الاسم باستنكارٍواضحٍ كأنه حقًا يتأهب لإعصارٍ يبتلع فيه كل شيءٍ من أخضر ويابسةٍ:
_بتقول “عاصم الـراوي” !!.
أومأ له الشاب وهو يعود للخلف بخوفٍ منه وفي تلك اللحظة تبادلت النظرات بين الثلاثة بغير فهمٍ واستنكارٍ وشتاتٍ، فتحدث “يـوسف” بقسوةٍ كأنه ضغط على نفسه كي يتحدث ويظهر بهذا الثبات:
_من غير ما تبصلي، لو طلع هو فعلًا يبقى محدش هياخد روحه غيري يا “إيـهاب” وأرجع حق “إسماعيل” منه، بس قبل ما نتصرف نتأكد علشان دي مفيهاش هزار أو لعب، دي بموت وروح لازم تتاخد لو هو فعلًا اللي عمل كدا، هتبقى دي ناهية “عـاصم” معايا وتبقى بكل اللي عمله في حياته، ولو هو عمي ودمه هو دمي أنا وأبويا، مش هييجي عندي في غلاوة “إسماعيل” ومش هستخسر روحه في أني أرجع حق أخويا منه..
سكت “إيـهاب” عن الحديث وكأنه لم يجد ما يُقال في هاته اللحظة، فبماذا يُجيب وهو يتلقى الصدمة وراء الأخرى، ماذا يفعل وهو بصدد أن يصبح مجرمًا بحقٍ وعلى مشارف أن يسلب روح أحدهم ويتأهب لفعلها منذ الأمس، حتى أنه يتتوق لرؤية خاطف أخيه وجهًا لوجهٍ كي يحرق وجهه هذا، حتى وإن كان من فعلها هو “عـاصم” كما أخبره الآخر لن يتوانى في سلب الروح منه وإنما سيعلن لأجل شقيقه الحرب الدامية الذي لا يقبل فيها إلا بالنصر وفقط…
____________________________________
<“في بعض الأحيان لا يتوجب أن تنكشف الحقائق”>
تلك الحقائق المخبوءة التي لم تُكشف بعد،
في بعض الأحيان لا يتوجب لها أن تنكشف، وإنما الأفضل أن تبقى مخبوءة بين رماد الحرائق قبل أن تصبح وقودًا هي بذاتها تُلهب الحرائق، فهي حقائق بظهورها ومعرفة أساسها تضيع كل الثوابت ونفقد كل ذرة صبرٍ في الأمر لتصبح بعد ذلك الحواس مُلتهبة أكثر للمزيد من النيران التي تأكل في نفسها وفي الآخرين معها تحت مسمى “كشف الحقائق المخبوءة”…
كانت قلقة منذ الأمس ولم للراحة سبيلًا،
كانت ساهرة وعيناها لم ينفك عنهما البكاء بعدما رحل “إيـهاب” وتركها وحدها تُعاني الويلات باتهامه لزوجها أنه قام بخطف شقيقه، سهرت باكيةً ولم تجد من يعاونها إلا معاون زوجها في العمل “عـزيز” وحينها حاول هو أن يصل لأي شيءٍ يُطمئنها لكنه لم يستطع رغم ذلك، وفي تلك الأحايين لجأت لوالدها الذي بدأ العمل واللجوء لمن يساعده حتى يعلم أين هي الحقيقة الغائبة عن الأعين…
أتى “عـزيز” وفي يده هاتفه وولج بيت والدها فوجدها تتحدث في الهاتف مع أبيها لكنها ما إن لم لمحته اقتربت منه تسأله بحواسٍ متأهبة ونظرات تسرد القلق وفقط:
_طمني يا “عزيز” عرفت توصل لحاجة؟.
أومأ لها موافقًا ثم قام بفتح هاتفه على مقطعٍ مأخوذٍ من كاميرا في شارعٍ ما بعد تراقص سيارة زوجها فوق الطريق ومصارعته مع أخرى، قطعت عليه واحدةٌ منهما الطريق ونزل منها مجموعة من الرجال يخطفونه من السيارة ثم ألقنوه درسًا قاسيًا وأبرحوه ضربًا وهي تتألم لأجله حينما وجدته يعجز عن الدفاع عن نفسه وبكت بصوتٍ وهي تنتحب، فتحدث “عـزيز” بأسفٍ:
_للأسف دا معناه إن “سـراج” مخطوف هو كمان زي “إسماعيل” واللي خطف الاتنين مصلحته واحدة وهي إنه يخليهم يقعوا في بعض، الفيديو دا أنا واخده من مخزن على الطريق اللي “سـراج” بيمشي منه ممكن تسلميه لوالدك وهو يتصرف، أنا بعت منه للحج “نَـعيم” و “مُـحي” علشان يصدقوا إن “سـراج” معملش حاجة ويدوروا عليه زي ما بيدوروا على “إسماعيل” كمان، متقلقيش هيرجعلك..
تمسكت هي في تلك اللحظة بأملٍ كاذبٍ وهوت فوق الأريكة تزامنًا مع هبوط دمعاتها حزنًا وكمدًا على زوجها الذي وقع في المكيدة المصنوعة له، والأمر الأكثر صعوبة عليها هي فكرة أنه تم وضعه في صورة الجاني في حين أنه المجني عليه..
بينما في مدينة الواحات..
كان “ماكسيم” يقف في المقبرة بجوار “إسماعيل” الذي استعاد وعيه وأدرك كل شيءٍ حوله وقد تأهبت حواسه في انتظار مصيره المجهول، بينما الآخر فجلس أمامه ثم قال بعتابٍ وديٍ ليس في محله ولا لصالحه:
_عارف وجودك هنا كلفني وقت وجهد وتخطيط قد إيه؟ كتير أوي يا “إسماعيل” وتعبت بجد، دا أنا لو بقنع لعيب ينقل من فريق لفريق كان زماني خلصت من بدري، بس سيبك أنتَ الواحات منورة بيك، إيه رأيك في المكان؟ قولت أفسحك بدل القعدة جنب الاهرامات اللي بقيت حافظ كل حاجة فيها دي، هناخد طلة أنا وأنتَ على المكان هنا وبعدها نبدأ الشغل علشان أخوك ميقلقش عليك، زمانه يعيني ولع في السمان كلها علشانك..
هوى قلب “إسماعيل” أرضًا وظل مُثبتًا عينيه الجامدتين على وجه “ماكسيم” الذي ابتسم له بشرٍ لمع في المُقل وفي تلك اللحظة ولجوا الرجال بـ “سـراج” في أيديهم مغشيًا عليه والقوه أرضًا، ولحقه الملقب بـ “مولانا” فنطق “ماكسيم” بتشفٍ:
_دا أنا حظي واسع أوي بجد، أنتَ موجود وجاهز ووقت ما مولانا يبدأ الشغل ويقرأ عليك، “حوكشة” هيحضر في ثانية ويعمل اللي عاوزينه كله، أصلك مقري عليك من إمبارح، تعرف إن دي أول مرة أفهم حالتك؟ طلعت يا سيدي ملبوس بجن بيتسخر عادي، وجسمك بيكون وسيط بينا وبين العالم التاني علشان نعرف اللي عاوزينه ويساعدونا، فأنتَ بقى هتكون وسيط بينا وبين الجن اللي حارس المقبرة علشان تتفتح، وبص حظي بقى؟ معانا حد تاني علشان لو طلبوا دم يبقى “سـراج” موجود وأهو أنا أهون من اللي أخوك هيعمله فيك، شوفت بقى الشغلة متعبة إزاي؟.
وزع “إسماعيل” نظراته بين “ماكسيم” و “سـراج” وبين الرجل صاحب اللحية البيضاء ليسقط في جُرف هاويةٍ تبتعله مسماة بالذكرى الماضية، نفس الحدث يتكرر مع اختلافٍ بسيط للأحداث ونفسها ذكرى الأمس المريرة تعود وتستوطن، ونفسه الفتى الضعيف في القبيلة يتجهز لخلع قلبه من موضعه فداءً لأرواحٍ لا تستحق..
في تلك اللحظة ولج شخصٌ لهم وخطى بخطواتٍ هادئة وقرع نعاله يضرب الأرض بخفةٍ وما إن وجده “إسماعيل” ولمحه فرغ فاهه وسأل باستنكارٍ وكأنه أيقن حقًا أن نجاته أصبحت تندرج تحت الصفر ولا يحق له أن يفكر في هكذا أمرٍ:
_”سـامي”…!!
فتحت أبواب الجحيم..
الماضي عاد وبقوةٍ، الفتى الضعيف وحده
بين أنياب القبيلة القاسية،
الحلم البريء لم يعد له مكانًا،
والنجاة تستحيل على ضعفاءٍ
كانوا في أمس الحاجةِ إليها،
اليوم يُسرق التاريخ، وتبتر أجنحة الطيور
ويُنسب الماضي لغيرنا، وفي كل وقتٍ
وحينٍ أصبحت القلوب الشابة عاجزةً..
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)