روايات

رواية غوثهم الفصل المائة وسبعة وستون 167 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة وسبعة وستون 167 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة وسبعة وستون

رواية غوثهم البارت المائة وسبعة وستون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة وسبعة وستون

“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثاني والثمانون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
رباهُ إنك أنتَ الواحدُ الأحدُ،
و الجوهرُ الفردُ لا حدٌ و لا أمدُ،
رباهُ إنك أنتَ الواحدُ الأحدُ،
و الجوهرُ الفردُ لا حدٌ
و لا عددُ، و كلُ شيءٍ،
فعلمُ الذاتِ مُوجِدُهُ،
و أنتَ وحدكَ بالأسباب تَنفردُ،
يا كاملَ الذات، يا كاملَ الذاتِ
و الأشياءُ ناقصةٌ،
تعنو إليك من النقصِ الذي تجدُ.
_”نصر الدين طوبار”
____________________________________
وبغير وداعٍ أتى الفراق،
فقل لي متى نلتقي ونعبر من بحور الخوف
إلى بر الأمانِ؟ وننعم سويًا من بعد الحرب بالسلام؟
متى اللقاء والقلوب لبعضها بوجعٍ تشتاق؟ فآهٍ لو كان العالم يُقدر أهمية اللقاء فننعم سويًا مع بعضنا بالبقاء؟..
اليوم أشعر أنا كأني لم أكن بأنا، ربما تكون الملامح هي نفسها، ورُبما تكون العين الحزينة هي ذاتها، وقد يكون القلب المتألم هو نفسه، كل شيءٍ سأجده أنا سوف يعبر عني أنا، إلا أنا..
فمن المؤكد لن أجدني أنا نفس الشخص المُحب للحياة،
ولن أكون هو ذات الشخص الذي آمل في العالم أن يحظى بالنجاة، ولا أنا ذاك الطير الذي كلما ضافت به الأرض، رفرف بجناحيه وسكن في سماه، لم أكن بينهم جميعهم أنا،
فالعالم يوم أن أراد أن يغير بي شيئًا غير كل شيءٍ حتى أنا..
واليوم اسأل نفسي التي أكلني الشوق لها متى اللقاء؟
اسألها بعدما أتى فراقي لها بغير وداعٍ..
وحتى وداعي لم يكن فيه سلامًا، وإنما فجأةً تركتني وغادرت،
ومن المؤكد حينما أعود لن أجدني، وإنما سأجد الأوجاع ترافقني
فأنا حتى وإن اغترب عن بيتي ودياري،
لكن غُربة النفسِ تعتريني،
فيا نفسي بربك اخبريني متى اللقاء،
أوليس ظُلمًا أن أغدو غريبًا عنكِ ولنفسى أكون المشتاق؟.
<“اليوم لم أعرف من أنا، فياليت نفسي كانت معي هنا”>
لم أترك بيتي وموطني لكني لم أعرف من أنا..
لم اغترب قط عن مسكني لكن الغُربة لم ترأف بي هُنا،
هُنا حيث موطني وأنا لستُ بأنا، وإنما نفسي تاهت مني
وأتى آخرٌ يسكنني ويكون في عُمق نفسي بديلًا عني أنا
فيا نفسي إن لم تعودي أخبريني أن أكف عن انتظارك
فالانتظار قاتلي وأنا حيٌ أرزق،
برغم أن ذاك الحي ليس بأنا،
ونفسي لم تكن معي هُنا..
الصدمة التي وقعت عليه جعلت الفؤاد يتجمد كما قطعة ثليج خرجت لتوها من مبردها، تجمدت أعصابه وتيقن من مصيرٍ محتومٍ لن يرأف به إن كانت البداية هكذا، فكان “إسماعيل” مُقيدًا في مقعده وهو يرى قدوم “سامى” نحوه بعينين مُتقدتين بكل شرٍ كان يضمره في نفسه، بينما “ماكسيم” فعاد للخلف يستند على ظهر مقعده وهو يشمل الوضع بعينيه ثم التفت لمن ولج لهم يسأله باهتمامٍ عن سبب تأخره:
_أنتَ كنت فين كل دا؟.
جاوره “سـامي” الذي طالع وجه الشابين ثم عاد بنظراته لمن يحدثه وقال مُتباهيًا بأفكاره التي وصلت به لهنا دون أي مثقال ذرةٍ من شكٍ قد يطول سيرته أو وضعه:
_كنت بظبط نفسي قبل ما آجي ولا عاوز “عاصم” يشك فيا؟.
عقد الآخر حاجبيه وسأله بنظراته عن مقصد كلماته فقال “سـامي” بنفاذ صبرٍ بعدما تأفف بضجرٍ:
_قصدي إنه ميعرفش أنا رايح فين ولا بعمل إيه، كدا كدا هو مش مركز معايا، كفاية عليه أوي حزنه على السنيورة من ساعة ما طلقها، مخليه مش واعي ولا مركز في حاجة، حتى علشان أخلع منه ومن الشغل فهمته إني رايح أشوف أرض الساحل بتاعتي علشان فيها مشاكل ولا سألني حتى مشاكل إيه، سكت وبس.
ارتسمت السخرية فوق ملامح “ماكسيم” وهو يشمل وجه الآخر بعينيه ثم عاد لملامحه الباردة التي توحِ بأية تعابيرٍ ثم قال بسخريةٍ لم تتوازى مع صيغة الحوار:
_تصدق مالهوش حق؟ بعدين ماهو معاه حق، حد يطلق واحدة زي “مادلين” وميزعلش؟ دي أيقونة في عالم الفاتنات، جوازها منه خسرها كتير، أولهم أيام عمرها، عارف لو أنا مش واثق من غبائها كان زماني دخلت حياتها، بس العوائق كبيرة أوي.
تعجب “إسماعيل” من الحديث وظل يرمقهما بغضبٍ ومُقتٍ وبُغضٍ حتى وجد أحد الرجال يتحرك من بينهم وجاور “مولانا” ثم قام بجر “سـراج” من قدمه وقام برفعه فوق الأريكة المتهالكة بجوار أحد الأعمدةِ وحينها انتفض قلبه لرؤية صديقه بتلك الطريقة التي ألمت روحه قبل أن يتألم حتى على نفسه، رفع عينيه المكسورتين بقهرٍ ثم هدر بجمودٍ حاول أن يرسمه رغمًا عن أنف حزنه وقهرته:
_لو عاوز حاجة مني يبقى فكني نتكلم راجل لراجل علشان كدا لو رقصت على شعرة من دماغك مش هتقدر تعملي حاجة، خلي “سـراج” برة الليلة دي كلها علشان مش هتحرك خطوة من مكاني قبل ما تخرجه من هنا فهمت؟.
انتبه له كلاهما وأول من تحدث كان “ماكسيم” الذي جاوبه بصلدةٍ آمرة كأنه ولي أمره ويحق له أن يفعل فيه ما يود ويشاء:
_اخرس يا “إسماعيل” أحسنلك متخلينيش أقلب عليك، بعدين الكلام دا قبل ما الشيخ يقرأ عليك ويتحكم فيك هو، بعدين أنا معنديش أي مانع أخليه يخرج من هنا، بالعكس دا أنا هنا برحمه من اللي “إيـهاب” أخوك هيعمله فيك لو لمحه، دا مش بعيد يدبحه ويحط راسه على مدخل نزلة السمان وتبقى علامة زي الخيول اللي عندكم كدا، خايف عليه أوي كدا؟.
أنهى حديثه بجملةٍ تهكمية وهو يشمله بنظرات مزدرية وفي هذا الحين تقهقر قلب “إسماعيل” وأصابه العجز في مقتلٍ وهو يشعر بنفسه كما الطير المغلوب على أمره أن يبقى حبيسًا داخل قفصه مبتور الأجنحةِ حتى وهو بموضعه، حرك عينيه نحو “سـراج” المُلقى فوق أريكةٍ بالية وحينها امتدي أيادي القهر لمركز قلبه كي تنتصف به وهو يعلم أن أمر نجاته لم يكن سوى بإرادة الخالق وحده خاصةً حينما وجد أحدهم يسمح وجه “سـراج” من الدماء بقطعة قماش ناصعة البياض ثم قام بفردها كي يكتب عليها..
امتد القهر بأكبر قدرٍ ونزلت دمعات هاربة من بين حصار أهدابه ولسوء حظه تكررت صورة “أشرف الموجي” المزعوم بلقب والده في ذلك الحين ندم لمجرد فكرة أن أصله ونسبه يرجعان لهذا الرجل الذي تسبب في قهره سواء كان طفلًا أو كان رجلًا، رأى الشيخ يتجهز ويفتح كتابًا يعلم هو جيدًا أن الأمر سيؤول في النهاية لما يريدون هُم لذا بكل قهرٍ صمت ورفع رأسه يردد بتضرعٍ لمولاه بقلبه البريء الذي لازال يأمل في النجاة:
_يا رب…ماليش غيرك يا رب.
ترك قلبه حُرًا يلجأ لربه،
بينما هو بجسده كان عاجزًا فوق المقعد وهو مُكبلٌ بجسده الغير حُر تحت سيطرتهم، ولشدة طيبته كان يأمل في ذرة رحمة قد تكون متواجدة بقلب أيًا منهم، لكن يبدو أن المصير أصبح محتومًا وما أرادوا فعله سيقع فعله مهما بلغ إصراره ورفضه وهذا ما بدأ يتهيأ له من رائحة البخور المُتصاعدة وتهيئة الأجواء للقادم، وحينها استفاق “سـراج” بعد أن ألقوا عليه دلوًا من المياه المُثلجة وحينها انتفض وعاد للخلف يردد بفزعٍ:
_”إسماعيل”…”إسماعيل”..
من مجرد ذكره للاسم اتضح للجميع أن حتى فقده لعقله تحت سطوة النوم كان تفكيره مُنصبًا على رفيقه “إسماعيل” الذي يجلس في مواجهته فوق المقعد وحينها طالعه “سـراج” بأملٍ كاذبٍ تردد لديه لمجرد لحظة عابرة:
_أنتَ كويس؟ عملوا فيك حاجة؟.
حينها حرك الآخر رأسه نفيًا ثم نبس بصوتٍ أعرب عن مدى القهر الذي يسكن قلبه ويمتد لعمق الروح يصيبها بصدعٍ لن يلتحم أو يبرأ أثره من جروحٍ:
_لأ، بس أكيد هيعملوا، ادعيلي ربنا يلطف بيا.
في تلك اللحظة وبمجرد أن أنهى “إسماعيل” حديثه وجد رجلين يقتربا منه ثم قاما بسحبه من فوق مقعده يتجهان به نحو باب المقبرة الحديدي وحينها صرخ “سـراج” بملء شدقه وملأ صوته الأرجاء بأكملها وهو يصرخ مُناديًا على رفيق الروح والأيام ولم يكترث بجروحه المتفرقة في جسده ووجهه حتى سقط من فوق الأريكة راكعًا فوق رُكبتيه وهو يُعايش قهر الرجال لتوهِ في أوضح صوره، حينها قيده أحدهم بينما الآخر كمم فاهه حتى يكتم صوت صرخاته..
أما “إسماعيل” فقاوم وضرب ودفع بقدميه الرجال حتى أتى الشيخ وقام بإبعاد جسده عنهم بمقاومة ثائر منتفض لأجل موطنه قبل أن يتم الاعتداء عليه وفي تلك اللحظة قام “مولانا” ووضع كفه فوق جبينه وهو يرفع صوته بقراءة طلاسم مُحددة غير مفهومة لدى أبناء آدم، وحينها سقط “إسماعيل” أرضًا وهو يصرخ بصوتٍ غليظٍ وحينها تخشب جسده وتجمدت أطرافه ما أن سقط فوق الأرض، فتنهد “مولانا” ثم جثى على رُكبتيه بجواره وحينما سأله “سـامي” عن سبب حالته قال هو براحةٍ من تمكنه في حالة هذا المسكين:
_خلاص بقى جاهز فاضل بس حاجات محددة هقرأها عليه علشان نبقى في أمان ويدخل ويخرج بسلام من غير أذى، بس متقلقش الجن اللي عليه وسيط وهيتسخر عادي ويلاقي طلبنا، بس يا رب المقبرة تطلع عمرانة وفيها حاجة، ميطلعش مشوارنا على الفاضي..
في تلك اللحظة وناهيك عن نظرات القسوة والظفر الواضحة في المُقل الجاحدة مثل قلوب أصحابها، كانت نظرات “سـراج” وحدها أبلغ وأفصح من أي حديثٍ يُقال ويُعبر قهر الرجال وكسر الشموخ ووجع الخيل الحُر في ميدان المعركة، كل شيءٍ كان يجثم فوق صدره وهو مكبل اليدين، عاجز الطرفين، مبتور الجناحين، عيناه تؤلماه بشدةٍ من رؤية منظرٍ بشعٍ هكذا..
فلو سألوك عن العدل
قُل لهم إنما هي دُنيا، ولو كان فيها العدل
مُقامًا؛ لكانوا الأحرار فوق الأرض مدرارًا..
فأين العدل والطفل البريء تغتاله قريته
والرجل اليافع يغرق في كُربته؟
أين العدل في موطني، وأين الموطن
وأنا في أرضه أُعاني كما لو كنت
آتيًا من موطنٍ ثانٍ؟ فأين العدل
وأين هي بلاد العدل؟.
____________________________________
<“ياليتها لم تكن طرقاتنا واحدة، وياليتني ما كنت أعرفك”>
أيعقل أن يجيء هذا اليوم الذي نمر فيه صدفةً بجوار أحبتنا فنراهم كما الغُرباء وكأن طرقاتنا لم تلتق ذات يومٍ؟ أيعقل أن من كان يُشاطرنا الليل هو بذاته من أصبح ليلنا يؤلمنا بدونه؟ هل يُعقل أن من كُنا نخبرهم عن هزائمنا يصبحون هُم الهزيمة بذاتها؟ لا أعلم لما منذ البداية تلاقينا، لكن ما أعرفه حقًا أنك ولو أصبحت غريبًا عني، فهذا القلب لن ينسى يومًا مرورك فيه..
في شركة “الـراوي” قبل نهاية النهار، كان “عـاصم” يجلس في مكتبه بتعبٍ كلما تذكر مرور “مادلين” من جواره منذ ساعةٍ تقريبًا وقد مرت كما الغريبة كأنها لم تعرفه أو حتى لم تتلاقى طرقاتهما ذات يومٍ، لمح في عينيها البُغض وهو الذي يعيش كل يومٍ في وحدةٍ وقهرٍ لم يُخيل له أن يعيش بهما ذات يومٍ، تجرع من الكأس نفسه الذي أسقاه لـ “يـوسف” لكنه لم يعترف حتى لنفسه بهذا الشيء، لذا جلس في مكتبه يحاول أن يصب تركيزه القليل فوق الأوراق الموضوعة أمامه لكن كيف له أن يصب تركيزه في شيءٍ يؤلم القلب وتشاطره الروح وجعًا؟..
خرج من حالته تلك على صوتٍ قَدُمَ من الخارج يصدر جلبةً عالية جعله يرفع رأسه ويبحث بعينيه عن مصدر الإزعاج وفي تلك اللحظة وقبل أن يتحرك قيد أنملةٍ، وجد الباب يُفتَح عليه فجأةً وقد ظهر من خلفه “يـوسف” الذي كان في أصعب حالاته النفسية حتى أن الموقف ذاته كان يشابه واحدًا سبق عليهما وتسبب في دخول “يـوسف” للمصحة العقلية..
وقف “يـوسف” خلف المكتب الذي فصل بينه وبين عمه ثم ضرب سطحه بكفه تزامنًا مع رفعه لصوتهِ بقوله مندفعًا:
_لو أنتَ اللي عملت كدا في “إسماعيل الموجي” واتسببت في خطفه وتسليمه لـ “ماكسيم” صدقني ورحمة أبويا اللي هو للأسف أخوك، أنا روحك دي مش هتكفيني، وهخلص منك اللي راح واللي جاي، علشان بعملتك دي بتخسرني كل حاجة للمرة اللي معرفش عددها في حياتي، فيمين بالله لو ما قولت هو فين وراحوا بيه فين أنا هجيب رقبتك دي تحت رجلي يا “عـاصم”.
حينها اندهش “عاصم” وفرغ فاهه بذهولٍ حقيقي وظل يرفرف بأهدابه كثيرًا بانكارٍ واضحٍ لاستماعه هذا الحديث وقد طرقت بباله ظنٌ جعله يرفع صوته هو الآخر حينما سأله بصلدةٍ وتجرأ عليه:
_وياترى إيه بقى الصنف دا؟ أنتَ شكلك كدا مخك فوت وعقلك طار منك يا “يـوسف” ومبقاش نافع ليك غير مصحة تلمك من هبلك دا، ولا دي حبوب هلوسة بتاخدها وتعلي دماغك على اللي حواليك كلهم؟ مبقاش غيري أنا اللي تيجي تتهمه بالهبل دا؟ تصدق أنتَ مش عاوز غير مصحة تلمك وتلهيك؟.
وقتذاك أندلعت شرارات النيران في رأسه وقلبه وبدون أن يدري بنفسه ضرب المكتب بقدمه حتى اصطدم بعمه الذي التصق في الجدار خلفه وقبل أن يتحرك وجد “يـوسف” يهجم عليه ثم قبض فوق كفيه وطالعه بنظراتٍ مُلتهبة وهو يهدر في وجهه بصراخٍ:
_أنتَ لسه شوفت جنان؟ قسمًا بربي وما أعبد لأخليك تشوف الجنان كله على حق وأنا بطير رقبتك، بقى اللي أنا بعمله شغل جنان واللي بيعمله ابن العالمة جوز أختك بتسميه إيه؟ قيام الليل حاضر؟ براحتك يا “عاصم” وهات آخر ما عندك كمان، بس خليك فاكر لو أنتَ وتربية الغُرز والعوالم التاني طلع ليكم يد في اللي حصل لـ “إسماعيل” أنا مش هسمي على كلب فيكم، وأنتَ بالذات هخليك تلف في الشوارع زي الكلاب تشحت وتمد إيدك، بس صبرك عليا…
دفعه في وجهه قبل أن يتحرك من موضعه، وما إن تركه وقف في المنتصف ثم هدر بجمودٍ كأن نوبته بدأت تهدأ من نيرانها ناهيك عن الحرب المُندلعة في رأسه ولم تكف عن الضجيج وإصدار الفوضى لداخله:
_أنا مش بهددك ولآخر لحظة بتمنى فعلًا ماتكونش ليك يد في اللي حصل، علشان لو على وساختك معايا فأنا قابلها، إنما على وساختك مع اللي يخصوني دي عمري ما هقبل بيها ولا هرضاها، وقصادها روحك كلها مش هتكفيني يا “عاصم” علشان مش على آخر الزمن هقبل إنك تأذي الناس اللي آوتني في حضنهم وفتحولي بيوتهم وقلوبهم في الوقت اللي أنتَ نفسك قفلت فيه في وشي باب بيتي، وبشوقك بقى أنتَ و البيه التاني، بس أقل حاجة اعملها معاكم هي إني أسلمكم لـ “إيـهاب” يجيب منكم حق أخوه..
ألقى الحديث وأنهاه وقبل أن يتحرك للخارج أوقفه عمه حينما هدر بجمودٍ يعبر عن استنكاره للحديث المنطوق من فاهِ الآخر وقد حقًا شعر بالريبةِ تساوره كأنه هو من فعل هذا الشيء حقًا:
_عاوز تصدق صدق، مش عاوز ياكش عنك ما صدقت، بس أنا معملتش حاجة ومالكش علاقة باللي بتتكلم عنه، وعمري ما كان ليا علاقة سواء بيك أو بصحابك أو بحد غيركم أصلًا، وغير كدا تبقى أنتَ فعلًا مجنون ومحتاج إعادة تأهيل نفسي علشان عقلك كدا بقى في خطر والحالة يا حرام بقت صعبة، لو تحب أنا عندي الحل، رقم مستشفى المجانين لسه معايا وهكلمهم علشانك..
تهكم بحديثه الأخير قاصدًا أن يستهزيء به ويُقلل من وضعه وشأنه وفي تلك اللحظة التفت له “يـوسف” بكامل جسده ثم رد عليه الحديث بذات الأسلوب الساخر ذي التقليل من شأنه:
_خليه معاك علشان لما ييجي دورك مغلبش كتير وأنا بدور على مكان يلمك، ماهو أصل أنا ناويها ليك، حتى لو مموتاكش بأيدي ودخلتك كفنك بنفسي، هرميك في مصحة عقلية تتعالج من الجنان بعد اللي هعمله فيك، علشان لو كان فيه حاجة جوايا بدأت تهديني عليكم؛ خلاص صحيت تاني ومش هترحم حد فيكم..
أنهى حديثه ثم خرج من المكان يضرب الأرض أسفله بخطواتٍ واسعة حتى وصل لسيارته وولجها ثم أخذ يضرب رأسه في تارة القيادة حتى تكف عن ألمه وعن الأصوات الصادرة فيه بين لومٍ وعتابٍ وتقريعٍ وهزيمةٍ وانتصارٍ كأنه لم يفرح حتى بعودته للحياة، وجد نفسه عالقًا بين نفسه ونفسه وأي خطوةٍ يخطوها حتمًا سيخسر فيها نفسه..وآهٍ من تلك الخسارة التي تباغت المرء وتداهم أيامه فيخسر فيها كل شيءٍ وعلى رأسهم نفسه
وهو الآن يقف على مشارف خسارةٍ كُبرى
وأكثر مخاوفه أن يخسر في حربه نفسه أمام نفسه..
____________________________________
<“ياليتني كنت معك في كل مُرةٍ، ياليتني صدقتك مَرةً”>
يقولون في واحدةٍ من الأساطير
أن المرء الذي لم يُصادق قلبه لن يقدر على مصادقةٍ أي غريبٍ عنه، ومن لم يستمع لقلبه لن يُنصت لقلوب الآخرين، ومن لم يصدق حديث نفسه لن يعتريه كلام المارين، وفي مرةٍ ما حينما يحدثنا القلب ونكذبه، لن نصدق أي حديثٍ آخرٍ، فلو كان المرء يكذب نفسه هل سيستطع تصديق من هم حوله؟..
ظلت على حالها منذ أن وصلها الخبر، البُكاء يسكن عينيها، الوجع يصول ويجول في جسدها، قلبها يضخ ألمًا وليس دمًا، الحياة فجأةً أصبحت في عينيها مُظلمة والحبيب الغائب عن العين كان ساكنًا في القلب، ولأجله كان ولازال خاليًا الدرب، أما قلبها فكان يتألم لأجله رغم البعاد بينهما، وروحها تشهق كصوتٍ أتى من داخل كهفٍ مُظلمٍ لم يُلمح مافي داخله..
ألقت “ضُـحى” بثقل رأسها فوق كتف “قـمر” التي لم تتركها لو لثوانٍ وإنما هي معها منذ أن علمت بالخبر، فأتت تحمل رأسها فوق كتفها، وتتسلل لقلبها تأخذ منه وجعها، ظلت مُرابطة معها وتضمها بين ذراعيها تستمع لهذيانها وحديثها الغير مفهوم في المطالبة برؤية الحبيب الغائب، حتى تحدثت الأخرى من جديد ببكاءٍ مكتومٍ أخرج صوتها مختنقًا:
_تفتكري هيقدروا يعملوا حاجة ولا زي المرة اللي فاتت مش هيلحقوا ومش هيعرفوا؟.
ألقت سؤالها على “قـمر” التي طالعتها بتيهٍ ونظراتها تسرد وجعًا وحزنًا على قلب رفيقة دربها، بينما الأخرى فكانت توقفت عن الحديث ثم عادت من جديد تقول بضياعٍ ازداد الحزن في أثره:
_عارفة؟ “إسماعيل” قالي إنه من ساعة ما عرفني وهو أول مرة يفرح باللي فيه دا ويحمد ربنا عليه، علشان حس بيا وقبل كدا شاف حلم لينا مع بعض واتحقق الحلم دا وقالي إن هو بيحس بيهم وبيعرف حاجات كتيرة محدش بيعرفها غيره بس بمزاجه، معرفش هو كان كلامه صح ولا لأ، بس أنا بتمنى من ربنا إنه يرجعلي سليم، نفسي ميتأذيش علشان هو مبيأذيش حد في الدنيا دي، يا رب أطلع على حاله دا مالهوش غيرك، كلنا مالناش غيرك..
ضمتها “قـمر” لعناقها ثم مسحت فوق ظهرها ثم كفكفت عَبراتها بكفها الرقيق وهي تُخبرها بحنوٍ قصدت به أن تمسح فوق قلبها المكلوم بوجعٍ وألمٍ ولم تبرأ جراحه بعد:
_وعلشان إحنا مالناش غيره، يبقى مفيش في أيدينا حاجة غير إننا ندعي ربنا يكرمه ويديم ستره عليه ويلطف بيه، عارفة لما “يـوسف” سافر وسابنا شهر لما زعل مننا وقاطعنا كلنا؟ كنت كل يوم بخاف عليه أوي وبتخيل حاجات صعبة بتحصله علشان هو لوحده، بس ساعتها كان “أيـوب” بيكلمني ويطمني ويقولي إن ربنا من ضمن دلائل المعرفة بيه “الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم” والمقصود إن ربنا لا يغفل عن عباده، ومن كرمه على العباد فيه ناس ساعات بيفتكر إن ربنا ملهوش عباد غيرهم لأنه لطيف بيهم أوي، بس ربنا سبحانه وتعالى مدبر الأكوان وخلق كل شيء بحساب، ولما النار حاوطت سيدنا “إبراهيم” ربنا أمرها تكون بردًا وسلامًا عليه، وسيدنا “يـونس” خرج من بطن الحوت، وكل شيء ربنا كتبه بمقدار الخير، فمن غير خوف سلمي أمرك لربنا، خليكِ واثقة في رحمة ربنا عليه، صح ولا كلامي غلط؟.
أومأت لها “ضُـحى” موافقةً بعجزٍ وقهرٍ وقد حركت عينيها نحو فستان زفافها الذي وصلها صبيحة اليوم وظل متروكًا فوق الفراش، ثم وقع بصرها فوق البطاقة التي وصلت مع الفستان وقد كانت مزينة بكلماتٍ فرعونية وكذلك ظهر البطاقة كان مزينًا بنفس الشيء، فقرأت حديثه بعينيها حينما دون لها:
_لم تكوني أول فتاةٍ أراها بهذه الثياب،
لكنكِ الوحيدة التي منذ أن رأيتها تمنيت أن أراها
بهذا الثوب تحديدًا، فلم أر يومًا في حياتي لؤلؤًا
ويوم أن رأيتكِ تمنيت أن تكونِ أنتِ تلك الحبة
من اللؤلؤ ونصيبي الحلو من دنياي..
نزف الدمع من عينيها مدرارًا وهي تُطالع فستان الزفاف المُقرر بعد مرور شهرٍ من الآن ولم يُخيل لها قط أن تنقلب الحياة رأسًا على عقبٍ بين ليلةٍ وضحاها هكذا، فلو كانت تعلم أو حتى يشيء هذا الشيء بنذرٍ في عقلها أو قلبها لكانت ضمت يده بيدها وتأمنه في كنفها من الليل حتى الضُـحى..
في الطابق الأعلى كانت “عـهد” تصنع الطعام لعائلة زوجها وقد عاونتها أمها التي كانت تعلم أنهم لن يقدروا على تناول الطعام، فقالت بقلة حيلة أمام عِناد ابنتها:
_يا بنتي قولتلك مش هياكلوا، محدش فيهم ليه نفس يحط لقمة في بوقه، بتتعبي نفسك على الفاضي، خليكِ معاهم أحسن ونجيب ليهم أكل جاهز علشان التعب دا ميروحش على الأرض.
انتبهت لأمها وهي تتحدث بجوار الطاولة الرخامية ثم التفتت لها وهي تزفر بقوةٍ وتتحدث بنبرةٍ أقرب للإنهاك والتعب:
_يا ماما أهي لقمة موجودة في البيت يمكن “ضُـحى” تقتنع وتاكل وهما يشجعوها، بعدين هنجيب إيه يعني من برة؟ خليني أعمل الأكل أحسن وربك يكرم وياكلوه، بعدين “يـوسف” كلمته من شوية قالي إنه هييجي البيت هنا يغير هدومه بعدها يروح تاني عند عمو “نَـعيم” علشان يكون مع “إيـهاب” هخليه ياكل علشان العلاج.
أومأت لها أمها بتفهمٍ ثم استأنفت عملها وهي تعاونها في الطعام، وقد طُرِق الباب فركضت “وعـد” الصغيرة تفتح الباب له ولأنه لم يكن إلا بأسوأ أحواله لم يكترث بها وإنما باشرها بسؤاله عن شقيقتها بجمودٍ:
_”عـهد” فين؟.
أشارت له نحو الداخل بصمتٍ فأومأ لها ثم ولج نحو غُرفتها مباشرةً وقد تبعته “عـهد” ما إن علمت بأمر قدومه وحينما ولجت وجدته يجلس ضاممًا رأسه المُنكس للأسفل بكلا كفيه، تلك الجلسة التي يجلسها ما إن تكون حالتها في أصعب أطوارها، لذا أقتربت منه تجلس على رُكبتيها أمامه ثم مدت كفها نحو كفه وهي تقول بثباتٍ:
_يمكن اللي فيك كتير وحملك المرة دي طاقته فوق احتمالك بس صدقني كل دا اختبار ليك، أنتَ خلاص اتعودت يا “يـوسف” إن الدنيا مبتصالحش ببلاش، لازم تاخد حاجة قدام كل دا، المرة دي بتاخد منك شوية راحة وأنتَ اللي عليك تثبت إنك تقدر تقف على رجلك وتسد في أي موقف، هي دي تربية عمو “نَـعيم” ليك؟ دي عيبة في حقك وحق “ليل” صاحبك الوفي حتى.
كانت تحاول أن تُخفف عنه ثقل روحه وعظمة حمله، حاولت أن تذكره بأصل قوةٍ بدلًا من أن توعظه بشكلٍ يشبه الأمر والإيلام والمُعاتبة، بدلت ذلك بما كانت تحتاج إليه في لحظات ضعفها وقد رأت في عينيه استجابته لكلماتها، بينما هو تنهد بثقلٍ ثم نطق بنبرةٍ مبحوحة إثر مشاعره المُتراكمة فوق بعضها:
_المرة دي مش عارف هلاقيها منين ولا منين، المرة دي حاسس إن الضعف جاي من جوة أوي كأني مش هقدر أقف، يمكن علشان “إيـهاب” عامل زي الخيل اللي ضهره أتحنى فجأة وأنا متعود عليه علطول واقف وصالب طوله، ولا يمكن علشان عيون “نَـعيم” مكسورة ومش قادر يبص لحد فينا علشان اللي فيهم ميبانش، ويمكن علشان “ضُـحى” مقهورة على فرحة عمرها، يمكن علشان حاجات كتيرة أوي أنا مش قادر عليها..؟
ضمت هي كفيه الباردين بكفيها الدافئين ثم مسحت فوقهما وكأن المثل هو ذاته في قلبه حينما مسحت عليه بقولها:
_هتقدر والله، أنتَ علطول بتقدر وبتعدي كل حاجة مهما كانت هي إيه، اللي يخليك تعدي بكل دا وتقف وتبني نفسك وترفع عينك في وش الكل دا معناه إنك تقدر على أي محنة، مش برضه كان كلامك ليا إن الخيل الأصيل هو اللي يقدر يقف بعد الوقعة، وهو برضه اللي بيقف من تاني بعد ما يقع يا “يـوسف”.
ولأنه أخذ الكثير من صفات “لـيل” فأصبح يشبهه في الكثير من المواقف وكأنه يشبه رفيقه في الفعل ذاته، وقد رق قلبها هي لأجلهِ وأخذت رأسه تضعها فوق كتفها ثم مسحت عليها بربتات خفيفة وهي تقول بنعومةٍ:
_أنا عاوزاك تطمن وتبقى متأكد إنه راجع من تاني وإن كل حاجة هتعدي بخير و “إسماعيل” هيرجع من تاني وسطكم وخليك عارف إن أي حاجة بتحصله فهي نصيبه وربنا مقدره كدا، ولو الدنيا دي كلها مكرت علشان تضر إنسان مش هتضره غير بشيء ربنا كتبه عليه، ولو عاوزين ينفعوه بحاجة، يبقى برضه بشيء ربنا كتبه ليه، إحنا مسلمين وعلينا التسليم لله وحده..
حديثها جعل رأسه يرتفع ويواجهها بعينيه كما الطفل الصغير كان تائهًا وفقد رشده وحينها أكدت ذلك يإيماءةٍ خافتة من رأسها وهي وتؤازره وتسانده بعينيها فيما ألقى هو تلك القنبلة التي يحملها داخل رأسه فوق كتفها ثم أغمض عينيه كي يهرب من تلك الحرب المقامة في رأسه وهو أكبر الخاسرين فيها..
____________________________________
<“اليوم أنا على مشارف اللقاء مع أكبر الخسائر”>
الخسائر الكُبرى تأتي بغير نُذرٍ..
فدومًا نجدها كما الفاجعة تضرب أبوابنا فتُفتح على مصراعيها لها وتلج قاصدة أن تُرهب أيامنا الهادئة، تلك الفاجعة التي نلتقي فيها بأكبر الخسائر كأننا لم نربح قط طوال الأيام..
في بيت “نَـعيم” كان جالسًا بجوار “عبدالقادر” الذي أتى له برفقة الرجال الثلاث “أيـهم” و “أيـوب” و “بـيشوي” وكأنه أتى بجيشه يُحالف جيشًا آخرًا وهذا ما ظهر من خلال حديثه:
_شوف ناوي على إيه أنتَ و “إيـهاب” وأنا معاك أهو والرجالة معايا كمان، محدش فيهم ولا أنا هنتأخر عنكم، اللي بينا مكانش شوية ولا حتى أنا غريب عنك، وفوق كل حاجة إحنا نسايب وعيلة واحدة، وأنا بصراحة بعتبرك في مقام أخويا، ها ناوي على إيه؟.
انتبه له “نَـعيم” الذي أكلت القهرة شموخ نظراته وأعادته ضعيفًا كمن يقف عاريًا وسط الناسِ بغير ساترٍ أو حامٍ له، حيث كانت فاجعته في ابنه المُفضل والركن الهاديء الذي يرتكن إليه كلما احتاج لمن يدعم ثقل روحه، وحينها قال بقلة حيلة وعجزٍ:
_مش قادر أنوي على حاجة علشان مفيش في أيدي حاجة أعملها، هقعد بس استناه يرجعلي وأنا حاسس إني عاجز ومفيش في أيدي حاجة أعملها، اللي وجعني وقهر روحي إنه اتاخد غدر من بينا وإحنا موجودين كلنا، ابني اتاخد من بيتي وأنا فيه ومن غير ما يتعملي أي اعتبار كأني ماليش لازمة ولا عيل صغير مش هيقدر يدافع عن اللي منه، نفس اللي حصل زمان ونفس الوجع على الغالي، بس المرة دي بقى أنا حاسس بالعجز أكتر، علشان دا “إسماعيل” اللي طول عمره واخد دور أبويا وكان أحن عليا من نفسي، ربنا يردهولنا بخير.
تدخل في تلك اللحظة “أيـهم” يربت فوق ظهره ثم قال بثباتٍ يحاول به أن يدعم “نَـعيم” الذي كان يجلس وسطهم هشًا وضعيفًا:
_أنتَ مربي رجالة وليهم وزنهم، ابنك هيرجعلك من تاني متقلقش، بعدين أنا قولتلك لو عاوز أي حاجة أو رجالة عرفنا وأنا أجيبلك حارة “العطار” كلها هنا تقلبلكم المكان محدش فينا هيقولك لأ حتى.
بمجرد أن أنهى حديثه تدخل “بيشوي” وأكمل بدلًا عنه قائلًا بقوةٍ وصلدةٍ كأنه حقًا ينتوي حرق المدينة لأجل الآخر:
_وشوف “إيـهاب” عاوز يعمل إيه وإحنا معاه، “إيـهاب” طول عمره راجل ومسبناش في الزنقة ولا حتى زعل حد منه، بيبقى حاضر قبلنا، وكان معانا لما “إيـاد” رجع ومسابناش، يبقى أقل واجب نردله المعروف ومنسيبهوش لوحده ونكون في ضهره، هو فين بس؟.
أشار له “نَـعيم” برأسه ثم تنهد بثقلٍ وجاوب بصوتٍ مختنقٍ:
_والله يابني معرفش هو فين بس كل اللي أعرفه إنه جه هنا الصبح كان عاوزني يتكلم معايا، وقف قصادي ومقالش حاجة وخرج تاني ومن ساعتها مرجعش، و “يـوسف” عمال يلف في ناحية و كل واحد فيهم في ناحية وأنا قاعد قلبي عاجز من القهر والحزن، كل شوية أخاف عليه أكتر من الشوية اللي قبلهم، كان نفسي فرحته تكمل على خير زي ما قالي هو إنه بتمنى كدا، قلبه كان حاسس ومن طيبته مقدرش يكدب القلب دا، فرح غصب عنه علشان أول مرة يجرب إحساس الفرحة دي، واللي زيه مالهوش في سكك شمال، صريح وواضح طول عمره، بس الدنيا عاوزة الزبالة اللي مالهمش أصل يسلكوا فيها.
ربت “أيـوب” فوق كتفه في تلك اللحظة ثم اقترب منه يلثم جبينه وهو يعلم بتمام المعرفة أن أكثر ما يحتاج إليه هو حضن “إسماعيل” له، لذا قال بهدوءٍ وحنوٍ رغمًا عن حزنه ووجعه:
_ابنك هيرجعلك، استودعه في حفظ الله ورعايته وبإذنه هيرجعلك بخير، مهما كان مكر بني آدم، مستحيل إنسان يتخطى حدوده في المعرفة إلا بإذن من ربنا، ومهما بلغ علمهم وعملهم برضه قليل، “وما أتيتم من العلم إلا قليل” يعني مهما الإنسان عرف واتعلم وحاول ومكر وافتكر نفسه ناصح، فدا بإذن من ربنا الواحد الأحد لأنه هو اللي فتح للعبد أبواب المعرفة دي، تفتكر ربنا الرحيم الواسع هيغفل عن رعاية ابنك؟ طب دا “تَـيام” اللي أنتَ يأست من رجوعه ربنا كرمه وحفظه وحفظله رزقه لحد ما رجع لحضنك من تاني، يبقى تيأس بقى وأنتَ أكتر واحد عنده يقين في رحمة ربنا؟ سيدنا “يعقوب” راح بصره من كتر حزنه على “يـوسف” عليه السلام، من شدة إيمانه ربنا ردله ابنه وهو عزيز مصر، خلي أملك في ربنا كبير، واذكر تسبيحة يونس عليه السلام..
حينها ردد “نَـعيم” بنبرةٍ خافتة ورجاءٍ في رحمة الخالق أن يرحم عطب قلبه وروحه الذي أخذ الألم ينهش فيهما:
_لا إله إلا أنتَ سبحانك إني كنتُ من الظالمين.
رددها البقية خلفه آملين أن يمن عليهم الخالق ويخرجهم من الظلمات للنور وأن ينير قلوبهم وكذلك وجوههم بعودة الغالي على القلوب، كانوا يأملون ويتمنون، والإيمان في قلوبهم كان كبيرًا، والغوث معهم يذكرهم بمواعظ وقصص من الدين الإسلامي كي يربط فوق قلوبهم…
فلما فقد “يعقوب” ابنه “يـوسف”
وراح البصر حزنًا عليه،
عاد له بفضل الخالق سبحانه وتعالى،
ولما حاوطت النار جسد “إبراهيم” عليه السلام
أمرها الخالق أن تكون بردًا وسلامًا عليه،
ولما كان “يونس” في الظُلمات ببطن الحوت،
خرج برحمة الخالق وفضل ذكره وعودته للحق من جديد،
ولما مرت السكين فوق عنق “إسماعيل” لم تذبحه،
وإنما أمر الخالق هو الذي كتب له النجاة،
ولما مرض “أيـوب” عليه السلام
أكرمه الخالق بهبة الصبر وكان صبره دواءً للمتألمين،
فكل أمرٍ يصير بإرادة الخالق وحده،
ونحن المسلمون ما علينا إلا التسليم لله جل جلاله،
فهذا هو المكتوب والمُقدر أن تُعايشه القلوب..
____________________________________
<“رُبما أخطأت في حق نفسي لكن عقابي كان كبيرًا”>
نعم نُخطيء، ونعم نسير في دربٍ خاطيءٍ..
لكن نهاية الطريق أبدًا لم تكن متناسبة مع سيرنا، فمن يُخيل له أن ذاك الطريق الذي حاربنا الجميع كي نسلكه؛ نجد في نهايته جُرفًا يُلقينا من فوق هوةٍ ساحقة لأرواحنا؟ والوقوف بنفس ذات الموضع أبدًا لن يفيد، تمامًا كما الغزال الشارد فوق قمة جبلٍ منحدرٍ، إذا تقدم للأمام سوف يخسر روحه، وإذا عاد للخلف سيخسر طاقته، وإذا ظل بذات المطرح لن يستفيد أي شيءٍ، والأمر بأكمله في اختيار خاطيءٍ لطريقٍ لن يُجني منه أي شيءٍ سوى خسارة أكيدة لنفسه..
اختفى وهرب من الجميع ولم يستطع الهروب من عجزه وإنكسار روحه، لاذ بفرارٍ من بينهم جميعًا لكن أين المفر من حربٍ في رأسه وبداخل قلبه؟ أراد أن يبدو قويًا في عين نفسه، لكن نفسه كشفت له حقيقة ضعفه وإنحناء ظهره وأنه أضعف مما يظن، كان يجلس عند قبر أمه وعيناه متحاوطتان بجمرٍ مُلتهبٍ تشكل في هيئة خيوطٍ متشابكة تسرد حكايا موجعة لعين الناظرين، وقف بجوار القبر بعينين دامعتين وبكل آسفٍ حتى العَبرات خانته وأبت أن تواسيه وتظهر، فظل كما هو واقفًا بموضعه ثم عاد برأسه لذكرى بعيدة…
حينها كان في الثامنة من عمره وتوأم روحه كان في السادسةِ، كان يعمل بورشة حدادٍ من صغر سنه كي يعاون أمه في إعالة البيت بدلًا عن أبيه الذي ترك شئونهم ولم يكترث بهم، وذات يومٍ عاد للبيت وولج بجسدٍ متعبٍ بعد يومٍ كان شاقًا عليه في العمل، فوجد أمه تجلس وتستند بظهرها على خشب الأريكة القديمة وفوق ذراعيها حملت “إسماعيل” النائم ودثرته بشالها..
ولج لها الكبير وابتسم يمازحها بسخريةٍ ومشاكسةٍ:
_ماشي يا ستي براحتك، أبقى أنا طول اليوم شغال وطلعان عيني وفي الآخر أرجع ألاقيكي واخده في حضنك، كأني مش هنا وماليش لازمة، خليكِ كدا مدلعاه هيطلع طري وابن أمه، مش زيي كدا ناشف زي الحديد اللي بشتغل فيه وبقى صاحبي خلاص.
حينها رفعت عينيها الباكيتين له فرأى هو القهر متشكلًا في نظراتها، وما كان عليه سوى أنه اندفع نحوها يجلس على رُكبتيه وهو يتفحصها وقد لمح وجه شقيقه شاحبًا ولون بشرته أصبحت باللون الأزرق الداكن كما أن هناك أصابع كفٍ استقرت فوق وجنته بصفعةٍ مسوية جعلته يشهق بتلقائيةٍ، وحينما رأت أمه نظرات الاستفهام في عينيه قالت بقهرٍ:
_اللي ما يتسمى خده ونزل بيه للشيخ النهاردة ومن ساعة ما رجع وهو بيترعش وعمال يهلوس وكان سخن أوي، نزلت بيه الصيدلية وخد حقنة تسكن جسمه شوية مطرح ضرب الزفت إلهي يتضرب في قلبه ويقف ونخلص منه، كل ما آجي أهرب منه يجيبني تاني، وأنا حتى مش معايا فلوس المواصلات بيكم، هروح بيكم أترمي في الشارع؟ أهي حيطان أويانا لحد ما نهرب منه، ربنا ياخده ويريحني من قرفه..أبوس إيدك يا ابني أنا ماليش غيرك أنتَ راجلي في الدنيا دي، وأخوك زيي، أوعى تغفل عنه لو جرالي حاجة، حطه في عينك ومتخليش جحود أبوك يوصل ليك ويفرق بينكم، “إسماعيل” أمانة في رقبتك وأنا عارفة يا ضنايا إنك قد الأمانة دي، خلي بالك على روحك وروحه…
كانت تتوسله باكيةً بأملٍ ورجاءٍ بينما حينها ضمهما “إيـهاب” داخل عناقه يحميهما ويفرض سيطرته عليهما كي يحفظهما في كنفه بعيدًا عن شرور أبوه الذي لم تطيء قلبه ولو مثقال ذرةٍ من طيبةٍ أو حتى مشاعر أبوية نحو صغاره اللذيْن منذ أن ولدا واشتد عودهما وهما في أشد الاحتياج لجدارٍ يحمل عنهم تعب الطريق وروحهم، أما هو فكان جدارًا لكن يسقط فوق رؤوسهم كلما كانوا في حاجةٍ للأمان أصبح هو القهر الذي يمتد بأياديه فيعتصر قلبيهما من شدة الفقد والعوز..
خرج “إيـهاب” من لحظات ماضيه على قهرٍ أكبر ثم ارتكن على اللحد وقال بصوتٍ محشرجٍ بان فيه القهر والعجز وقلة الحيلة:
_حقك عليا يا “دهـب” بس مقدرتش أوفي بوعدي ومطلعتش قد الأمانة، للمرة التانية ياخدوه من حضني بالغدر، بس المرة دي غفلت عنه ونسيت أكون معاه زي كل مرة، بس والله مكانش بأيدي، كنت مع بنتي علشان متطلعش كرهاني زي ما أنا بكرهه، وبرضه هو السبب في كل حاجة بتخرب حياتي، كأنه جه الدنيا دي بس علشان يقهرني ويوجعني على اللي ليا، حقك عليا بس المرة دي أنا طلعت مستاهلش حتى أني أكون أخوه، عاجز وقليل الحيلة وقاعد حاطط أيدي على راسي ومستنيه يرجعلي، حتى مش قادر أمشى في طريق يوصلني ليه علشان ألحقه..
كان يحمل نفسه فوق طاقتها بالكثير والكثير من الكلام الذي لن يفيد بأي شيءٍ، كان حزينًا ومقهورًا وقلبه لم يعد به مكانًا سوى للآلام والوجع فقط، أراد أن يصرخ ويبكي ويرفع صوته يعبر عن قهره وقلة حيلته لكنه عاد والتزم الصمت وترك صوت أنفاسه المضطربة تتحدث بدلًا عنه وحينها سقط ظلٌ فوقه جعله يرفع رأسه تدريجيًا فلمح “يـوسف” يقف ويطالعه بآسفٍ ثم جلس على رُكبتيه أمامه وهو يقول بقلة حيلة:
_عارف إن اللي فيك صعب ومحدش هيحس بيه علشان دا مكانش مجرد أخ ليك، دا كان حياتك كلها وروحك كمان فيها، بس صدقني القعدة دي مش هتفيد بحاجة أبدًا، قوم وأصلب طولك علشان نشوف حل نرجع بيه أخونا، قعدتك دي لو هتزيد حاجة يبقى العجز والقهر بس، نسيت كلام كبيرنا؟ الخيول لما بتقع وتنكسر مبيقومش منها غير الأصيل بس، أظن عيب أوي بعد كل اللي عيشناه دا نطلع خيول مش أصيلة..
تألمت روحه وتغضنت ملامحه وهتف بوجعٍ حقيقي:
_اللي معجزني إني أصيل، ياريتني كنت قليل الأصل علشان محسش باللي أنا حاسه دا، خايف عليه وهو من إمبارح بعيد عني، واللي مخليني مش قادر أعمل حاجة هو إن “سـراج” لو عملها يبقى غفلني وضربني على عيني وقدام الكل بقيت هفأ، وجعني أوي إن أخويا اتاخد من بيتي وعيني عينك قدام الكل كمان، ليه “سـراج” يعمل كدا؟ دا أنا كنت صفيتله، روحه مش كفاية قدام غدره بأخويا.
ولأن “يـوسف” عاد يترك للعقل فرصته ويقل عن أندفاعية فكره وهوجائية تصرفه، سكت هُنيهة يستمع لصوت أفكاره ثم تحدث بثباتٍ مرجحًا كفة العقل كي تعمل:
_أنتَ متأكد إن “سـراج” يعملها ويخطف صاحبه بعدما ما رجع تاني لينا وبقى وسطنا؟ الحكاية فيها حاجة غلط، رغم إنها محبوكة صح ورغم إن “سـراج” يموت في الشمال زي عينيه بس المرة دي مش مصدق إنه يعملها، علشان تربية “نَـعيم الحُصري” مفيهمش الغدر دا ولا مستحيل يبقى كل دا بيضحك علينا يعني، دا كدا يبقى فيلم هندي هابط، الحل إننا نشوف حل تاني أسلم من الليلة دي كلها.
سكت “إيهاب” في تلك اللحظة وعجز عن الرد حقًا، فلو كان أندفع أمسًا فالعقل اليوم عاد يعمل من جديد ويأخذ فرصته في أداء عمله ومهامه، لذا ترك نفسه لعقله لعله يرشده ويرجعه عن غياهب الظلام التي احتلت فكره، وفي تلك اللحظة صدح صوت هاتف “يـوسف” برقم “عزيز” فاتحه وجاوبه بلامبالاةٍ سرعان ما انقلبت للهفةِ حينما قال الآخر:
_ يا “يوسف” أنا مش عارف أوصل لحد فيكم، “سـراج” ماخطفش “إسماعيل” زي ما أنتوا فاكرين، “سـراج” مخطوف زي “إسماعيل” بالظبط ومعايا الفيديو اللي فيه خطفه، بس “نـور” حلفت عليا محدش يشوفه علشان شككم فيه، “سـراج” ميعملش كدا يا “يـوسف” ولو عرف بشككم فيه هيتقهر، أنا دلوقتي هروح عند الحج “نَـعيم” ولو يهمكم صاحبكم تعالوا شوفوا بنفسكم.
حينها رحل “يـوسف” ومعه “إيـهاب” الذي سار على عماه دون أن يعلم أي شيءٍ سوى أن المتحدث كان “عـزيز” وهذا يدل على ظهور شيءٍ جديد يخص شقيقه ورفيقه، فذهب دون أن يتحدث بكلمةٍ واحدة وولج البيت بجسدٍ مشدودٍ كأنه استعاد هيبته وبدا شامخًا كما الخيل الحُر مرفوع الرأس والهِمةِ، وقد وجد الجميع في عُقر داره و “عـزيز” يجلس على مقربةٍ من “نَـعيم” الذي جلس ممسكًا بعصاه، وقد انتفض “عـزيز” وأشهر هاتفه في وجه “إيـهاب” وهتف بصلدةٍ وحدةٍ كأنه يلومه وينتهج معه التقريع:
_صاحبك أهو بيتخطف من عربيته ويتضرب في نص الليل وهو لوحده وغدروا بيه زي أخوك بالظبط، يمكن أخوك اتاخد من بيته ودا أتضرب واتطحن في الشارع من غير ما حد يلحقه، وياريت وأنتَ بتدور على “إسماعيل” تدور على “سـراج” كمان، وعلى فكرة أنا جاي نفسي علشان “نـور” رفضت حد فيكم يعرف وقالت إن هي مش عاوزة شفقة منكم على جوزها طالما من الأول شاكين فيه، الفيديو معاك أهو وبعتهولك عاوز تصدق صدق مش عاوز أنتَ حر يا “إيـهاب” بس أنا عملت اللي عليا علشان العِشرة اللي بيني وبين “سـراج”، عن إذنكم.
أنهى الحديث ثم رحل كي يتابع مع “عـادل” ما حدث وسار بشأن رفيقه قبل أن يكون رب عمله، كان يشعر أنه لتوهِ أصبح قادرًا على التنفس بعد أن حُبِست أنفاسه بسبب غياب رفيقه وصاحبه عنه، وقد ذهب لبيت “عادل” فوجد “نـور” تجلس باكيةً وهي تحاول أن تبدو بأكبر قدرٍ من القوةِ كي تظل شامخةً دون أن تحتاج لحاجةٍ من أي شخصٍ، وبالأخص الشباب وكأن خذلانهم لها تسبب في وضع الحواجز بينهم..
أما في الخارج بوسط الحديقة فكانت “چـودي” تجلس وحدها ببكاءٍ وهي تجلس أسفل شجرةٍ وتبكي لأجل خالها حتى أتى لها “مُـنذر” الذي وصل لتوهِ من الخارج وولج من الحديقة مُباشرةً كي لا يتقابل مع “نـور” وقد جلس بجوار الصغيرة ومسح فوق خصلاتها فوجدها تلتقط نظراته بعينيها ثم قالت بصوتٍ باكٍ:
_لسه برضه متعرفش هما فين؟.
حرك رأسه نفيًا بأسفٍ فوجدها تغمض عينيها كي لا نبكي أكثر ففاض الدمعُ من عينيها وكان بكاؤها مدرارًا راثيًا حال قلبها وفقدان عزيزها، فمسح “مُـنذر” فوق رأسها ثم قال بحنوٍ:
_بطلي عياط علشان متتعبيش، بعدين هو يعني “سـراج” هيجيله قلب يبعد عنك؟ تلاقيه بس وراه حاجة في الشغل زي ما “نـور” قالتلك، عاوزاه لما يرجع نقوله فضلت تعيط وتربيتك طلعت أونطة؟ دا ياكل وشنا ووشك معانا، بعدين هو إحنا اتفقنا على كدا؟.
حركت رأسها نفيًا ثم هتفت بصوتٍ مزق نياط قلبه قبل قلبها هي:
_ينفع تخلي “إيـهاب” ميعملش حاجة لـ “سـراج” لما يرجع؟.
توسعت عيناه وفرغ فاهه وهو يرمقها بعينين متحجرتين فاستمع لها تنبس بخوفٍ كأن مجرد تكرار الحديث عليه يُخيفها من جديد أو رُبما هي كانت تُنكر تلك الحقيقة المُخيفة:
_أنا سمعته بيقول لـ “نـور” هيموته لو شافه، وأنا مش عاوزة “سـراج” يموت زي بابا وماما، علشان خاطري قوله ميعملش حاجة لـ “سـراج” وأنا مش هخلي “سـراج” يزعله تاني والله خالص، ممكن يا “مُـنذر” علشان خاطري؟.
لتوهِ أيقن أن الأطفال لم يكونوا دومًا أطفالًا وإنما في بعض الأحايين تغلبهم طبيعة نقائهم وكذلك يستمعون لصوت قلوبهم وهي بالرغم من صغر سنها إلا أن قلبها دومًا يملك حاسة قوية تجعلها مُنصة له وتُصدقه دومًا، لذا ضم الصغيرة له ومسح فوق رأسها وظهرها كي يحميها ويحفظها بعيدًا عن الخوف الذي ملأ قلبها ثم حدثها بحكمةٍ:
_مش عاوزك تزعلي نفسك أنتِ علشان دي حاجات كبار مالناش دعوة بيها، ولو على “إيـهاب” فهو مش هيعمل حاجة لـ “سـراج” علشان هما صحاب أوي ومحدش فيهم هيقدر يزعل من التاني، فممكن لو سمحتي متعيطيش علشان لما “سـراج” يرجع يلاقيكِ شاطرة زي ما أنتِ؟.
أومأت له داخل عناقه بينما هو فظل يمسح فوق رأسها وقلبه يتآكل من الداخل بسبب حزنه على رفيق دربه وشريك خطواته وبسبب عجزه في الوصول له وكأنه فقد كل الخيوط التي قد تتضافر وتكون له خيطًا متينًا، حتى معاونيه في الخارج أخبروه بعدم معرفتهم بأي شيءٍ من هذا القبيل عن تواجد “ماكسيم” في مصر أو حتى ماذا يفعل بعد أن عاد لهم من جديد..
____________________________________
<“بُليت بقلبٍ يشعر بكل شيءٍ وهذا هو البلاء بذاته”>
كان قلبي أقوى مني حينما يشعر..
فكلما راوده شعورٌ صدقته أنا، وكُلما استشعر خطئًا شعرت أنا به، وكُلما مر عليه أمرٌ مررت أنا به، فكان قلبي أقوى مني حينما يشعر وأنا الضعيف الذي يهرب من الشيء ويبتعد عنه، لكن اليوم قد سبق السيف العزل، فقلبي شعر، وعيني رأت، والقهر في روحي استوطن..
في منتصف الليل وفي جوف الكهف المظلم المسمى بقبوٍ يحمل في داخله مقبرة أثرية طُرازية عتيقة تحوي في باطنها دليلًا على تاريخ أمةٍ وحكاية دولة وسرد تاريخٍ لن يقدر بثمنٍ، وكان التحضير كاملًا للقادم، فتم وضع “سـراج” مكبل الأطراف ومُكمم الفاهِ فوق مقعده، وأمام عينيه كان صاحب اللحية يقرأ العديد من الطلاسم بلغةٍ غير مفهومةٍ جعلت “إسماعيل” يتلوى فوق مقعده ويصرخ وهو يشعر بشدٍ في جميع أنحاء جسده ورأسه وهكذا تراقصت جفونه وهو يشعر بالوجعِ في عينيه ثم صرخ بملء صوته الذي بدا غليظًا ما إن ظهر عليه الآخر…
حينها هوى قلب “سـراج” من موضعه وتثبتت عيناه على رفيقه وحاول أن يزحف له بالمقعد لكن كف الرجل المجاور له قيده بموضعه فشعر بالخوف والقهر وهو يرى “إسماعيل” يقف على عاقبيه بجسدٍ متألمٍ ثم ولج للقبو المُظلم تحديدًا في تلك الحُفرة التي صنعوها عمال الحفر وقد غاب لمدة دقائق في الداخل ثم خرج بعينين جامدتين وثابتتين بشكلٍ أقرب لجحوظ العينين بشكلٍ بث الرعب في جسد “سـراج” الذي تمنى لو مات بدلًا من وضعه هذا..
بينما “إسماعيل” فتحدث بلغةٍ غريبة غير مفهومة لبني البشر وظهر بشكلٍ جامدٍ يرهب القلوب القوية، فما بال القلوب الضعيفة التي تشعر بالهلع والارتجاف؟ كان “سـامي” يقف بجمود قلبٍ تصلد وأصبح مدهونًا بطبقةٍ من الصدأ غلفت محيطه وعُمق روحه فلم يشعر بهذا المسكين الذي يصاحبه صاحب اللحية بعدما تغيب عقله عن الوعي والعمل وأصبح تحت سلطة الجان، وقد ولج “إسماعيل” ولحقه صاحب اللحية وما إن اقترب من المقبرة ظل يتحدث بما لم يُفهم من الكلام فتحركت الثعابين التي كانت تقوم بحراسة المقبرة وتقهقرت للخلف بل اختفت تمامًا من جحرٍ كان في ركن القبو، وما تلى ذلك كان تحرك “إسماعيل” نحو الباب ثم قام بفتحه للظهر القطع الأثرية اللامعة الخاطفة للأعين والأذهان وتُشده الناظرين رغمًا عنهم، حينها ابتسم الشيخ بظفرٍ وبدا الزهو جليًا فوق ملامحه، ثم خرج من المكان يخبرهم بسعادةٍ لا مُتناهية:
_المقبرة اتفتحت خلاص، والأثار خرجت، كدا هو جاهز نفتح بيه الباقيين بسرعة قبل ما هو يفوق، هنيمه شوية لحد ما نخرج بيه من هنا ونروح البيت التاني، علشان مضمنش لو خرجنا بيه وهو كدا ممكن يحصله إيه، ومعرفش هو نفسيًا قدرة تحمله إيه.
تعجب “سامى” وكذلك “ماكسيم” أيضًا فسأله كلاهما عن مقصده وحينها قال هو مفسرًا الحالة التي يتعامل معها:
_يعني هو حالته حاليًا مستقرة والجن اللي عليه مش مؤذي، بس هو لو عقله رجعله الوعي من تاني بسرعة ممكن يحصله خلل والقلب يقف أو الدماغ يحصل فيها جلطة دماغية ودماغه تقف، فعلشان كدا هقرأ عليه ينام شوية لحد ما نخرج من هنا وهناك أصحيه تاني وأسخره، فهمتوني؟.
أومأ له كلاهما بينما هو فاقترب من “إسماعيل” الذي أصبح تحت طوعه ويسير منصاعًا خلف رغباته بكل طواعيةٍ منه دون أي مثقال ذرةٍ من اعتراضٍ أو توقفٍ أو حتى انتباهٍ لما يحدث معه، لكن الكارثة الفعلية حينما يفيق وينتبه لكل ما صار معه، حتى أن البيت فرغ من الجميع بعد أن تحصلوا على القطع الأثرية وقاموا بنقلها داخل سيارة دفع رباعي تحركت بهم في عمق الصحراء..
كل ذلك رآه “سـراج” بأم عينيه وحينها تمنى لو لم يكن حاضرًا بينهم ويلمح صديقه بهذا الحال الغريب الذي وقع رفيقه تحت وطأته، وقد نقلوه معهم للبيت الثاني حتى لو أحتاجوا لذبيحٍ يكون هو في سد تلك الحاجة لهم وكأن روحه لا تسوي ثمنًا لديهم، أما “إسماعيل” فكرر فعله وولج القبو الثاني يتحدث مع الجان ويخبروه بما يود أن يعرف عن المقبرة وطريقة فتحها وكما المعتاد حصل على خدمته ثم خرج وأخبر صاحب اللحية الذي تحكم كامل التحكم فيه وفي عقله وفي من يحتل عقله..
اليوم أصبح الشاب عجوزًا..
وأصبح التاريخ رمادًا،
اليوم تذهب الحضارة هباءً منثورًا،
وتُسلب صفحات التاريخ،
اليوم وفي هاته اللحظة رأت العين
القهر بكل أركانه يسلب العقول
ويستوطن النظرات وكل ما للمرء
في أرضه حتى نفسه تتم سرقته.
____________________________________
<“ياليت العودة كانت كما الذهاب،
ياليت كنت أنتَ ذاتك في الإياب”>
ثمن العودة أكبر من ثمن الذهاب،
فياليتنا كنا كما نحن في الإياب…
وكأن العودة من الطريق تشمل ثمن التعلم من الدروس التي نتلقاها في الطريق ذاته، فالعبرة دومًا ليست بالخواتيم وإنما هي بما تعلمناه من منتصف الطريق، فياليت العودة كانت حرة من كل قيدٍ كما الذهاب، لكن العودة دومًا أصعب من كل شيءٍ حتى ولو عُدنا حاملين في قلوبنا ذكرى أي شيءٍ، فيكفينا الذكرى؛ والذكرى مؤرقةٌ…
[بــعـد مــرور الليلةِ الثالثة منذ الغـياب]
شارف اليوم الرابع على القدوم بعد انتصاف الليل وحينها كان “إيـهاب” جالسًا بخيبة الأمل يحملها فوق كتفيه كأنها فتاة صغيرة ترفض وداعه واللإنفكاك عنه، كانت “سمارة” تحمل ابنتها فوق ذراعها وقد وقفت تراقبه من على بُعدٍ بعينين أعلنا الشفقة عليه وبالأخص حينما ابتعد عنها وهي وابنتها، لذا اقتربت منه بخطى وئيدة ثم وقفت بجواره وهي تمد ذراعيها بابنتها وتخبره بنبرةٍ مختنقة:
_وحشتها أوي ومش مبطلة عياط علشانك وعلشانه، وهو ربنا يرده لينا بالسلامة، أنتَ أهو وربنا يديك الصحة متحرمهاش من حضنك وهي مموتة نفسها بالعياط كل ما تلمحك ماشي ومش سائل فيها، شيلها يا “إيـهاب” وحطها في حضنك.
وزع نظراته بينهما وقد ثبت عينيه على صغيرته التي أخذت تموء وتبكي وتلوح بكفها الصغير فوق ذراع أمها حتى رق قلبه لأجلها وتذكر كيف كان يحملها “إسماعيل” طوال الليل في أحضانه حتى تنام وتتمسك في ياقة سترته وقبل أن يأخذها منه كانت تستيقظ وتبكي وترفع صوتها بصراخٍ عالٍ..
تذكر روتين شقيقه معها فحملها يضمها لصدره ورغمًا عن أنف شموخه وكبرياء طبعه نزلت دموعه تنحدر بين مُلتقى عينيها وقد ولج في تلك اللحظة “مُـنذر” يتحدث في الهاتف بجمودٍ مع من يحدثه بقوله:
_ها يا “مارسيلو” عرفت زفت الطين “ماكسيم” فين؟.
_الأخبار اللي عرفت أوصل ليها إنه في الواحات في مصر بقاله كام يوم والمفروض إنه راجع خلال وقت قصير مش هيطول علشان فيه حفل تكريم ليه هنا وتتويج لعيلته، وغالبًا هتلاقيه خلال يومين رجع تاني، ولو وصلت لجديد هعرفك..
أغلق معه “مُـنذر” دون أن ينبت ببنت شفة ثم حرك عينيه نحو “إيـهاب” يخبره بقلة حيلة وانشداهٍ طغى على عقله واستيعابه:
_”ماكسيم” موجود في الواحات هنا، بس فين تحديدًا لسه معرفتش، دا معناه إن “إسماعيل” و “سـراج” معاه هناك وأكيد فتح بيهم مقبرة هناك ويمكن أكتر كمان، تفتكر دا ممكن يكون حصل؟.
توسعت عينا “إيـهاب” وفرغ فاهه وسقط قلبه موضعه فكان الألم آتيًا من أسفل رُكبتيه ويشعر به يمتد لقلبه وخلف عموده الفقري، أصابه العجز في مقتلٍ وفقد كل الحيل التي قد تساعده..
بينما في الخارج بقرب البيت وبداخل سيارة متهالكة قديمة خالية من أية بيانات، كان “إسماعيل” فيها بين حالتي الوعي واللاوعي وقد أمتد كف أحد الرجال يحقنه بإبرةٍ طبية في كتفه، ثم فتح الباب ونزل منها بجوار من يعاونه ويعمل معه ثم أخرجاه من السيارة وتركاه وحده في نقطةٍ ما بقرب البيت يقدم قدمًا ويؤخر الأخرىٰ وكأن جسده أصبح ضعيفًا لا يستطع أن يحمله..
وفي تلك اللحظة ولج “مُـحي” بخطواتٍ راكضة وخلفه “تَـيام” أيضًا نحو “إيـهاب” وقد صرخ الأول بملء صوته الذي أعرب عن الفرحة والحماس:
_يا “إيـهاب” أخوك رجع تاني، “إسماعيل” دخل البيت برة.
حينها ركض “إيـهاب” بغير استيعابٍ وضرب الأرض أسفل منه بعدما أعطى ابنته لزوجته التي شدت وشاح رأسها وهرولت في خطاها خلفهم، لتجد “إيـهاب” توقف في نقطةٍ ما خلف “نَـعيم” الذي وقف يمسك “إسماعيل” من كتفيه يسانده وهو يصرخ باسمه كي ينتبه له ويستطع أن يقف على قدميه وقد اقترب منهما “إيـهاب” الذي اختنقت روحه داخل جسده ووقف في مواجهة شقيقه بعبراتِ حبيسة، فانتبه له الآخر وارتمى عليه يهتف بصوتٍ أعرب عن إنكسار روحه وقلبه:
_كسروني…كسروني يا “إيـهابـ..”
والإنكسار هنا يعني إنكسار الروح والكبرياء، كان يعني بحديثه عن قهر الرجال وما أدراك ما قهر الرجال، وهو رجلٌ تم قهره على يد الجبناء، وما تلى حديثه وتلخيصه لوضعه كانت سقطة قوية لجسده مغشيًا عليه فوق جسد شقيقه الذي تلقفه بين ذراعيه وهدر بصراخٍ عالٍ باسمه يعبر عن كسر روحه هو الآخر وإلحاق النصف الثاني بالنصف الأول من الروحِ، فيتشاركان القهر معًا لنفسيهما، والشيء ذاته في روحيهما..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى