رواية غوثهم الفصل المائة وخمسة 105 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة وخمسة
رواية غوثهم البارت المائة وخمسة
رواية غوثهم الحلقة المائة وخمسة
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل العشرون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
إن ضل مني قلبي وتاه في السبل يا ربي.
سأظل مُتيقنًا أنكَ ستهديني في حربي
ربـاه إن القلب قد قسىٰ وأضحى عدوي
لكنك رحيمٌ وستنير النور من وسط كربي.
فرُبما يزداد الظلام عليَّ ورُبما أضل السُبل
كافة، لكن هداك من جديد سيغدق دربي.
_”غَـــوثْ”
__________________________________
لم أظنها قريبة بذلك الحد؛
أن أصبح من بين قصص العاشقين وأكتب مثلهم ذات يومٍ عني وعنكِ بينهم، فمثلي لم يُحب حتى نفسه ولم يألفها، فهل سيفكر في اليوم الذي يعيش فيه مع فتاةٍ يُحبها ويُصبح كما هؤلاء الذين أنصتوا لصوت قلوبهم؟ لكن يبدو أن لكل مقامٍ مقال، وعليَّ أن أسرد مقالي عليكِ، فرُبما هي قصة بها الكثير من الألم، لكن بوجودك تبدلت الحروف كما تبدل الحال وظهر في الطريق الأمل..
تبدأ القصة بفتىٰ صغيرٍ اسمه “إسـماعيل” ذاك الذي منذ أن وُلِد عاش وكُتِبَ عليه أن يحيا في الظلام، فتىٰ هزيل وضعيف لم يملك في الحياة سوى حُلمه البريء وشقيقه المُحارب الجريء، ووصمة سوداء وُصِم بها وكأنها مكتوبة فوق جبينه ليغرق في الظلام من بعدها، ظلام لم يتبعه نورٌ ولا طريق فيه أمل الضُحىٰ، حتى تلاقينا أنا وأنتِ في السُبل يا “ضُـحي”، وقتها عاد القلب البريء، ونجونا أنا والفؤاد من الغريق، كُنا تائهين بين الناس والعالم ووجدنا في رحبكِ الطريق، ومنذ ذلك الحين وأنا ليس بأنا، فغدوت مُتسائلًا كيف لقلبٍ غرق في الظلام والهلاكِ أن يجد نفسه مثل النجوم لامعًا في سماكِ؟ وكيف من بعد كل ذلك الظلام والعتمة وأنا تائهٌ فيهما أن أرىٰ النور بظهور ضُحاكِ؟ فأنتِ يا “ضُـحىٰ” النور من بعد الظلام ومن بعد العتمة الضُحىٰ.
<“لا تنتظروا مني مالم أجده فيكم”>
بعد مرور عدة ساعات…
في موقف تحرك الحافلات السياحية أوقف “أيـوب” السيارة التي تولى هو مهمة التوصيل لهما بها، وقد نزلوا منها يقفوا بقرب الحافلة المُتجهة لمدينة “شـرم الشيخ” وقد شكره “يـوسف” بقولهِ:
_ألف شكر يا “أيـوب” تعبتك معايا وسهرتك.
_لا شكر على واجب خلي بالكم من نفسكم وربنا يقويكم، ومتقلقش، هما هنا في عيني، بسرعة بس علشان ورانا تجهيزات مهمة، متنساش نفسك وتاخدها حِجة، أتلحلح.
هكذا رد عليه حتى ضحك “يـوسف” و “عُـدي” أيضًا، وتم التوديع بينهما وقبل أن يبتعد “أيـوب” لاحظ “عُـدي” إقتراب سيارتها خضراء اللون منهم وقد أبتسم قبل أن تتلاشى بسمته وهو يرى شابًا يكبره بعدة أعوامٍ يقودها ثم أقترب يُلثم جبينها وهي تضحك له، حينها ألتهبت نيرانه وهو يرمقها بغضبٍ من عينيهِ المُشتعلتين وهي تضحك مع الآخر في السيارة بشكلٍ أكثر من ودي ثم ضمته بذراعيها وحينها شعر هو بمرارة الخذلان كونه يغار عليها دون أي وجه حقٍ…
في نفس التوقيت أتت سيارة أخرى يقودها “عـاصم” وتجاوره فيها زوجته وقد أنتبه لهما “يـوسف” وظهر الضيق فوق ملامحه، لكن “أيـوب” جاوره وظل يكاتفه وكأنه يحميه حتى أتت “شـهد” وترجلت من سيارتها لتكون الصدمة الكبرى من نصيب “يـوسف” الذي تجمدت نظراته وتخشبت أطرافه وكأنه غريبٌ في وكر الثعابين، وقد ظل “أيـوب” يجاوره حتى رمقهما “عـاصم” مُزدريًا كونهما بجوار بعضهما كما كان “عبدالقادر” يُكاتف “مُصطفى”؛ يبدو أن الزمان يتكرر بصورةٍ مُغايرة ليلتهب الحقد من جديد ناشبًا في نياط قلبه.
وفي الجوار ترجلت “رهـف” من السيارة وترجل مَن يقودها ووقف بجوارها وهتف يقوم بإلقاء الوصايا عليها بعاطفةٍ ودية هاتفًا:
_خلي بالك من نفسك هناك، مامتك رغم فرحتها بس هي خايفة علشان مش متعودة إنك تغيبي عنها، وهي اللي مطمنها إنك مع “يـوسف” وهو عمره ما هيسمح حاجة تزعلك، خديها فسحة ليكِ وشغل جديد وربنا يوفقك، ولا آجي معاكِ بقى؟.
سألها بنبرةٍ ضاحكة جعلتها تبتسم له وحركت رأسها نفيًا ثم ردت عليه بثباتٍ طفيفٍ تمازحه هي الأخرى دون أن تنتبه للمُقل التي تلتهب من الغيظ خاصةً حينما شبكت كفيها بكفهِ لتُزيد من التهاب الجمر:
_متقلقش عليا، أنا جاية مبسوطة وهخوض تجربة جديدة أتعلم منها وبعدين ما أنتَ عارفني طالما مش قد الحاجة مبدخلهاش من الأول، يلا نزلي الشنطة بقى ولا أنتَ جاي تساعد بالاسم؟.
رماها بضحكةٍ ثم ألتفت يُخرج حقيبتها الوردية يَجُرها لها ثم وضعها بجوارها وضمها بين ذراعيه يمسح فوق ظهرها هاتفًا بحبٍ وخوفٍ حقيقيين لكونها ستسافر بمفردها:
_خلي بالك من نفسك، ومن شغلك ومتجيش على نفسك، الشغل مش هيضيع وأنتِ اللي هتتعبي، والمهم حاولي تتبسطي الكام يوم دول وأخرجي هناك برضه، بلاش تقفلي على نفسك.
كانت في عناقه في وضعٍ لم يُعجب الآخر حتى أخرج سبة بذيئة من بين شفتيه المُطبقتين فوق بعضهما بغيظٍ وكأنه يُبدي اعتراضه على الأمر حتى استمع له “يـوسف” الذي تعجب مما تفوه به أخوه وقد حرك رأسه نحو موضع اتجاه نظرات الآخر وقد ذُهِل حينما رآها تتحدث مع ذلك الشخص فتوجه لهما يهتف بثباتٍ وهو يتدخل بينهما:
_طول عمركم مشككين الكل فيكم، أحترم نفسك شوية يا “كـامل” دا حتى الخال والد برضه، أنا قولت دي واحدة نشطت معاها السياحة وراجعة بلدها.
ضحكت “رهـف” وأبتعدت عن خالها الذي أقترب يُعانق “يـوسف” مُرحبًا به وقد وقف “عُـدي” مُتعجبًا مما يراه وخاصةً من موقف أخيـه الذي أشار له أن يقترب وكذلك معه “أيـوب” وتم التعارف بينهما عن طريق الأول وهو يهتف بنبرةٍ أكثر ودية ذات طابعٍ مُصادقٍ:
_دا “كـامل” خال “رهـف” ويعتبر أخوها الكبير لأنه متربي معاها بس هو مش مستقر هنا بيسافر كتير علشان هو شيف دولي ومطلوب في فنادق كبيرة، ودول يا سيدي أخواتي “عُـدي” ابن خالي وأخويا، ودا “أيـوب العطار” جوز أختي وأخويا برضه.
كان يتحدث بفخرٍ كونه أضحى مالكًا لعائلةٍ يتباهى بها أمام الناس بعدما كان يتيمًا ومجرد غريبٍ في الدنيا والطُرقات لم تألفه المُدن، وقد التمعت أعينه بالفخر أثناء تلك المُهمة وقد صاح “عُـدي” بغير تصديقٍ يُشكك في قرابته بنديمة قلبه:
_أحلف إنك خالها كدا.
تعجب الآخر من العبارة رامقًا له بحيرةٍ حتى هي نفسها توسعت عيناها ذاهلةً مما نطق به لتجد “يـوسف” كما المعتاد ضربه في قدمه خفيةً وقد لاحظهما “أيـوب” الذي طالع ساعة معصمه وهتف بنبرةٍ أقرب للضحك وهو يواريها خلف حديثه:
_طب أنا مضطر استأذن علشان ورايا شغل مهم وفرحان إني قابلت حضرتك يا شيف، إن شاء الله اللقاء يتجدد ونتكلم أكتر مع بعض، عاوز حاجة يا “يـوسف” مني؟.
أنتبه له وأومأ نافيًا ببسمةٍ هادئة ثم أضاف ردًا عليه:
_متحرمش منك، خلي بالك من نفسك.
تحرك “أيـوب” صوب سيارته ثم أخرج منها حقيبة ظهرٍ وعاد لهما من جديد يُعطيها لرفيقه ثم ودعه وودع البقية ورحل وعينا “عـاصم” تتبعانه بتعجبٍ من مدى التقارب بينهما، حتى الملامح تُشبه بعضها كما كانا والداهما يتشابهان سويًا، هذان الاثنان يُشبهان بعضهما في الوسامة والأناقة والجاذبية بخلاف طباعهما المُتباينة.
وقد وقف “عُـدي” يُراقبها وهي تتحدث مع ذاك الرجل ولم يصدق حتى الآن كيف تحكم بنفسه وهو يراها بين أحضانه وقد حمد ربه سرًا أنه لم يتهور كما المعتاد وسكت عن إصدار رد الفعل المُعادي وقد رحل خالها بعدما أوصى “يـوسف” عليها وحينها تعجب “عُـدي” منه وفكر لما لم يقوم بتوصيته هو الآخر؟ ألم يملأ عينيه حتى يوصيه؟.
مرت دقائق أخرى تبعها صعود الجميع للحافلة السياحية ذات الطابقين وهي الحافلة التابعة لشركة السياحة المُتعاقدة مع شركة “الـراوي” وقد جلس كلًا من الأخوين بجوار بعضهما وظلت حقيبة الظهر مع “يـوسف” ولم يعلم بعد ما فيها وقد جاوره الآخر براحةٍ وهو يراها تجلس أمامه ثم وضعت السماعة الكُبرى فوق رأسها وأوصلتها بالهاتف ثم بدأت في الاسترخاء أسفل نظراته وهو يتبعها وكأنه ابنته الصُغرىٰ ويخشى عليها التيه وسط الزحام.
وفجأةً ظهرت “شـهد” تصعد لهما ثم أختارت المقعد الفردي المُلاصق للنافذةِ موازيًا لجلوس “يـوسف” وبجوارهِ رغم محاولة إبداء فعلها طبيعيًا لكنه تجاهلها كأي غريبةٍ تجلس بجواره، من الأساس لم يراها وقد فتح الحقيبة المتوسطة التي يمسكها ليجد في المواجهةِ ظرفًا باللون الأبيض ففتحه ليجد رسالة من “أيـوب” مفداها:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
ربنا يكرمك وتوصل بالسلامة بس متنساش تبدأ الطريق صح، ردد دعاء الركوب وجدد نيتك علشان الشغل، العمل عبادة ولازم تتقنه، مرضيتش أقولك وش لوش علشان ممكن تنسى أصلًا، فقولت كدا أحسن، وهتلاقي عندك سندوتشات حلوة أوي عمايل إيديا علشان عارف إنك مش هتجيب أكل ومعاهم لمون بالنعناع يرطب عليك بس ألحق أشربه قبل ما يسخن، وأبقى شرب الغلبان دا معاك، ربنا يوفقك ويسدد خطاك، ترجع بألف سلامة.
أنهى الخطاب ثم أضاف توقيعه المُميز دومًا:
_مع تحيات الأسطىٰ “أيـوب” بتاع القُلل.
ضحك “يـوسف” بسعادة طفلٍ صغيرٍ قام بمصالحة رفيقه المُميز في الفصل الدراسي وكأنه يسعد لكونه هو من ربح بحبه وقلبه من بين الصف كاملًا، وقد فحص الحقيبة ووجد فيها ما تحدث عنه بسخاءٍ وقد تردد صوتٌ داخله يسخر منه هاتفًا بتأنيبٍ صريحٍ:
_وزعلان أوي إن أختك بتحبه؟ يا شيخ أتلهي دا أنا بحبه.
تعجب هو من الصوت المُتردد داخله وأغلق الحقيبة ووضع فوقها الهاتف وأغمض عينيه أخيرًا قبل تحرك الحافلة وصعود بقية الموظفين والعاملين بالشركة فيما راقبته “شـهد” بإمعانٍ حتى وقعت عيناها على هاتفه لترى صورة عيني “عـهد” في الخلف وتلك الجُملة التي أضافها أسفلها من أغنية قديمة شهيرة أكدت لها أنها عيناها هي:
_”والعيون السود خدوني”.
وقد قام بإضافة حرفها الأول في اللغةِ العربية لتعلم أنه ربما يكون تخطى مرحلة الحُب معها، وقد تذكرت هي كيف في نهاية علاقتهما عند مُفترق الطُرق وقف يتحداها وأخبرها بكل شموخٍ كخيلٍ يمتنع عن إظهار تصدع كبريائه:
_بكرة تشوفي اللي أنا هحبها هعاملها إزاي.
أطلقت تنهيدة مُتعبة من جوفها وتابعته بخيبة أملٍ تؤنب نفسها أنها لم تتمسك به ولو لقليلٍ، لقد تراخىٰ كفاها عن الإمساك به والآن تُعض أناملها من الندم وهي ترى نعيمه يملأ قلب أخرى غيرها، وما عليها سوى الصمت فقط بحسرةٍ لكونها لم تعد صاحبة الحق فيه، بل هُناك أخرى أقام هو الحروب لأجلها ليصبح رابحًا بها.
__________________________________
<“الظُلم منكَ يقتلني، والعفو فيكَ يُحييني”>
الكلمات العابرة التي يُلقيها اللسان في الأغلب لم تكن عابرة، فهي بالتأكيد لها مقصد وغاية لكي تنفلت وتخرج للآخرين، وفي حروب الذات يقوم العقل بدراسة كل كلمة ويُحللها لكي يستنتج الغاية وإن كانت غير مُسماة في بنود الأهداف..
من بعد طلبه منها وهي أنسحبت بعيدًا عنه وصعدت لشقتها تلوذ بنفسها وقد تحرك هو نحو والده في مكتبه بعدما طلبه في غُرفة المكتب يتابعان العمل وأمر “نـادر” سويًا وقد خرج يتوجه نحو شقته في الطابق الثاني وقد صعد ليجدها تحمل “إيـاد” على فخذيها أثناء نومـه وهي تتشبث به وقد جاورها “أيـهم” بعدما ألقى مفاتيحه فوق الطاولة وهتف بإقتضابٍ دون أن يُحيد عينيه عن التلفاز:
_أنا أفتكرتك نمتي، خدتي في وشك وطلعتي كأني مبتكلمش، قلبتي ليه ما إحنا كنا بنهزر قبلها ومبسوطين يا “نـهال” ولا أنتِ لسه خايفة مني؟ تبقى مُصيبة لو بعد كل دا لسه ﻤش مأمنالي.
حركت رأسها نحوه بحدةٍ وهتفت بغير تصديقٍ تُكرر خلفه كلمته الغريبة على سمعها خاصةً بعد كل ما وصلا إليه في تلك العلاقة سويًا:
_أنا مش مأمنالك؟ أنتَ ليه بتدخل الدنيا في بعض؟ قولتلك قبل كدا علاقتي بيك دي هي الحاجة الوحيدة اللي بتخليني أحس إني ست مش ناقصني حاجة، وبيتنا دا أنا عندي استعداد أعيش العمر كله فيه معاك هنا ومخرجش منه برة علشان مفيش مكان بيطمني زي هنا وخصوصًا في وجودك، يبقى بلاش اتهامات ملهاش لازمة.
كاد أن يرفع صوته هو الآخر لكونها تحدثه بكل ذلك العداء وتتهمه رغم انتفاء المقصد ذاته من كلماتها؛ لكن ما اسكته هو تواجد ابنه الذي أجفل جسده نتيجة الصوت وتشبث بها بكفه الصغير وحينها خطفه “أيـهم” من فوق فخذها ثم وضعه في غرفته بعدما أنسحب من أمامها وهي تُناظر أثره بخيبة أملٍ وقد عاد لها من جديد يقف قبالتها وهتف بنبرةٍ جامدة:
_أنا مبتهمكيش يا “نِـهال” ولا بظن فيكِ ظن وحش، بس أنا اسميه إيـه لما أقولك نروح نكشف علشان نخلف وربنا يكرمنا تسيبيني وتطلعي تجري كأني بكهربك، أنتِ حتى مردتيش عليا وسيبتيني كأني بكلم نفسي، رغم إني بحاول علشانك أصلًا، أنا عاوز أفرحك.
أبتلعت هي الغصة من حلقها في وجلٍ وأغرورقت عيناها بالعبرات الحارقة وهي تُطالعه بتيهٍ وسرعان ما أمسكت بطرف خيط الحديث على طرفها فهتفت مُسرعةً وكأنها تهرول خلفه في الحديث:
_علشان أنا مش عاوزة الموضوع دا يتفتح وخلاص نسيته، أنا هنا معاك أنتَ و “إيـاد” مش عاوزة حاجة تاني خالص من الدنيا، لو كنت عاوزة أحس إني ست ومرغوب فيا لشخصي أنا ومالية عين جوزي فأنتَ محسسني بكدا، ولو كان نفسي أجرب إحساس إني أكون أم فـ “إيـاد” عندي كفاية ومش عاوزة غير إنه يحبني ويعتبرني أمـه بجد، ليه مُصمم تفتح في حاجات هتتعبنا؟.
تهدج صوتها وهي تسأله باكيةً حينما داهمتها مجموعة من الذكريات المريرة وهي بدون سلاح في المواجهةِ، حيث لُطمت فوق وجهها بُغتةً بذكريات سيئة كانت تود الهرب منها لكنها تفاجئت بها تسكن فيها وتختبيء بين الضلوع ومع أول ضربة تنبشها يتردد صدى الضربة في الفؤاد..
بينما هو فلم يفهم سبب حديثها وخوفها البائن في عينيها ونظراتها وأنفاسها المُتعالية بتلك الدرجة كأنها تسكن مع وحشٍ كاد أن يفتك بها، وبما أنه كارهٌ لإساءة الظنون والفهم فهتف بإصرارٍ يُعاندها هو الآخر ولم يعلم كيف تسبب حديثه في إخافتها منه حينما تفوه ناطقًا:
_وأنا عاوز أخلف يا “نِـهال” وقريب هنروح مع بعض نكشف ونبدأ العلاج، كدا الكلام أنتهى إلا إذا كنتِ مش عاوزة تخلفي مني بقى ودي فيها كلام تاني خالص.
هوىٰ فؤادها أرضًا من طريقته وحديثه وظلت مَطرحها كشجرة نخيلٍ لم تتزعزع ولو بأعتى الرياح الضاربة؛ ورغم ذلك كانت ضعيفة وهزيلة وهاشة تمامًا خاصةً حينما تجسد الماضي أمام عينيها في زواجها السابق الذي نجت منه نجاة المواطن من القصف المُبرح لأراضي الوطن..
(منذ تقريبًا أربعة سنوات)
كانت تلقت حينها صدمتها الثانية بأمر حملها كغيرها من النساء بعدما قامت بتغيير الطبيب وذهبت لواحدٍ من كبار استشاري طب أمراض النسا والولادة، وحينها علمت أن أمر حملها يصعب حدوثه للغاية، فهي تُعاني من مشاكل عِدة في الرحم والهرمونات في جسدها وتحتاج لتكلفةٍ هائلة لكي تتعالج، وقتها كانت في أشد حالات الضعف والهوان وضُربت في مقتلٍ لكونها حُرِمت من نعمةٍ مثل هذه وبدلًا من تلقي الدعم والتربيت فوق ندبة فؤادها تفاجئت بأنامل تشبه المخالب وهي تُنبش في جُرحها حينما هتف زوجها السابق بمجرد دخوله الغرفة عليها:
_أديني سمعت كلامك وروحت أهو لدكتور تاني، نفذت طلبك علشان متفضليش تزني عليا كتير، بس أقسم بالله لو الكلام الخايب بتاع حريم البيت دا أتقال تاني وأنتِ سكتي وعملتي نفسك من بنها، أنا ساعتها مش هتكسف، وهقول إنك معيوبة مبتخلفيش، وبدل ما تتقمصي أوي كدا من طلباتهم أبقي قومي حركي نفسك علشان كلهم هنا شايلين ومعاهم عيال، سيادتك اللي فاضية.
لم يكن حديثًا بالمتعارف عليه بل هي خناجر أخرجها تطعن في أنوثتها ومشاعرها كأنثىٰ تفتقر لشيءٍ عند مثيلاتها وقد وقفت أمامه تشير على نفسها باستنكارٍ باكيةً بلوعةٍ قاتلة وبالكاد نطقت أخيرًا:
_أنا!! أنا معيوبة وبتقولها حتى من غير ما تفكر ثواني؟ أومال لو مش دا نصيب بقى وقضاء وقدر؟ بعدين أنتَ ليه محملني الذنب كأني السبب في دا؟ دا ابتلاء من ربنا وقريب هيفرجها علينا، بدل ما نصبر وندعي وتقف جنبي تقويني بتعمل كدا؟ بتزود الـوجع أكتر من الأول وأنا جاية مقتولة أصلًا من عند الدكتور اللي مسك سكينة تلمة يدبحني بيها وبكــلامه؟ بدل ما تقف جنبي وتقويني؟؟.
صرخت في وجههه بإنهيارٍ وقد فلت منها زمام الأمور ليركض الحديث معه الصراخ كما الخيل الحُر الذي أبىٰ أن يبقى حبيسًا؛ ليصدمها هو بفعلهِ حينما قبض على فكها بكفهِ بُغتةً ثم هتف بصوتٍ هادرٍ من شفتيه المُطبقتين:
_أقسم بالله لو عليتي صوتك تاني لأكون قاطع لسانك خالص، أقف جنب مين يا حلوة؟ ما أنا ساكت ومستحمل وكل شوية حد يرمي كلمة تحرق دمي لدرجة إن أبويا قالي أروح أكشف، خليتيهم أفتكروني عندي مشكلة ومش راجل، بس طالما اتأكدنا أنا خلاص كدا براءة، اللي يسألني هقوله مبتخلفش وعندها مشاكل، وعلاج ماليش دعوة، أبـوكِ يصرف بقى، ولا أنا هاخدك بعيبك وأحاسب عليه؟.
توسعت عيناها بهلعٍ وهي ترمقه بخدرٍ من مُقلتيها الخاويتين، فهل بعد كل قصة الحب الأفلاطونية بينهما تُقتل على يديه بتلك الطريقة الأكثر من مُهينة؟ بالله تكاد تُجزم أنه لو طعنها بسكينٍ حاد ليزهق روحها لكان أرحم لديها مما نطق وتفوه به، وحينها قررت أن تثأر لنفسها فدفعته بعيدًا عنه وهتفت بحقدٍ دفينٍ تفاقم في قلبها نحوه:
_أنتَ للأسف مش راجل، فاهم الرجولة غلط ومعندكش دم، وأنا خلاص كدا أكتفيت منك ومن العيشة معاك والحمدلله إني مخلفتش منك علشان مربطش حياتي كلها بواحد زيك معدوم النخوة والرجولة.
حديثها الغاضب أتى في غير محله خاصةً للذكر الشرقي حينما يختص الحديث بأمر رجولته وذكوريته وعليه قام بسحبها من خصلاتها وأخرسها بصفعةٍ فوق وجهها وهي تصرخ باستغاثةٍ لتجده كما المعتاد يعتدي عليها بالضرب ثم بالفعل وهي تحاول النجاة بنفسها من بين براثنه لتجده يُكمم فاهها ويكسر كفيها ويفعل ما يريد في تحدٍ سافر منه لها وهي تتضرع للخالق أن تنجو منه ومن أفعاله المُهينة في حقها وحق أنوثتها لكن كضعيفةٍ مثلها وقعت في براثن ذئبٍ يبرر العالم أفعاله تحت بند الزواج؛ فمن المؤكد هي الخاسرة الوحيدة.
وقتها كانت تظن أنها لم تُسمع ولم يعلم أحدٌ بما يصير معها من إعتداءاتٍ لكيانها وأنوثتها لكن وبكل آسفٍ في الخارج كانت أمـه تقف تسترق السمع بعدما ولجت الشقة بمفتاحها الخاص لتضحك بتشفٍ فيها كون ابنها هو المُسيطر هُنا ولن تُسيطر عليه إمرأةٌ وياليتها كما غيرها بل هي عاقرٌ كما الأض المُجرفة لم تصلح للزراعةِ وعليها أن تتحمل العيش كذليلةٍ تسببت في حرمان العائلة من حمل ولي العهد.
(عـودة لتلك اللحظة)
خرجت “نـهال” من رحلتها الداكنة في قلبها وقاتمة فوق روحها وقد تذكرت لمساته المُهينة لها وكيف كان يتلذذ كلما أثبت ضعفها في حماية نفسها وقد مسحت على ذراعيها بهيسترية تزيل أثر لمساته وهي تصرخ باكيةً بقهرٍ بعدما عادت من قطار الذكريات وقد أرتفع صوت نحيبها حتى أنتبه له “أيـهم” الذي كان يُبدل ثيابه وقد ركض نحوها ليراها بتلك الطريقة المُروعة له، فركض نحوها يهتف اسمها مُلتاعًا بفزعٍ يحاول انتشالها من نوبتها وقد أحتضن وجهها بكلا كفيه هاتفًا بحنوٍ بالغٍ:
_”نـهال”!! أنتِ كويسة، بصيلي وركزي معايا، أنا “أيـهم” ومعاكِ أهو، بصيلي وأتأكدي بنفسك، بصيلي يا “نِـهال”.
كان يتوسلها حتى وجدها تنتبه له وما إن تواصلت المُقل ببعضها بكت وهي تُطالعه بعينين صرخ فيهما الوجع مما تحمله بداخلها وقد قرر هو أن يوقف كل شيءٍ حتى أفكاره نحوها وضمها بقوةٍ يُسند رأسها فوق صدرهِ العريض ويُكبلها بكلا ذراعيه وهي تبكي وحينها حرك كفه الكبير مرورًا فوق كتفها وخصلاتها وهتف مُعتذرًا منها دون أن يفهم السبب حتى:
_حقك عليا، أنا آسف والله أكيد مقصدش أزعلك، وربنا أنا مش عارف حتى ليه صمتت وأتكلمت رغم إن الموضوع عادي عندي، حقك عليا يا ستي متزعلش مني، خلاص هتعبرك بنتي الكبيرة وأمري لله، مع إنك طويلة أوي.
لم تجاوبه ولم تُناقشه ولم ترد عليه بل أغمضت جفونها وهي تتمسك بطرف سترته القُطنية بأناملها المُرتجفة وتركت نفسها أخيرًا لمعاهدة سلامٍ مع الذات بأنفاسها الهائجة مثل أمواج البحر حتى أنتظمت أخيرًا ونامت فوق السحابة الهادئة من وسط سماءٍ تملؤها الغيوم المُعتمة، وقد استمسك هو بالعروةِ الوثقىٰ في عهده بعلاقته بها مُخيمًا عليها كالظِلال الآمنة وقد شعر بالندم لكونها نسى أمر تجربتها السابقة التي لم ترحمها وأضحىٰ ما يتمناه أن تعفو عنه.
__________________________________
<“جميلة كما النيل بسمارهِ والصباح بضحاهِ”>
مع بزوغ الفجر قُبيل ظهوره علنًا كانت تلك المسكينة تُعاني من أعراض الحمل في الأسبوع الثاني من شهرها الرابع، حيث يهجرها النوم، وتعاني من الأرق، تتلوى على جانبيها فوق الفراش، تشتهي طعامًا لم تعلم ما هو، تود الصراخ في أحدهم بصوتٍ عالٍ، تشتم روائح ليس لها أي وجود من الأساس، والآن كارثة كُبرى تُناطح عقلها وهي تريد الرقص!! بالطبع تلك مهزلة كبرى، ولم تخمد نيران الفكرة بل شعرت بطاقةٍ غريبة تجتاحها وهي تود أن تتراقص وتقفز رغم عدم قدرتها من الأساس..
تضارب في المشاعر أصابها وقد أنزلقت بكفها نحو كتف زوجها النائم يوليها ظهره تهزه وهي تُناديه بضجرٍ لكونه يُهملها وينام في أصعب أيام حياتها وقد زفر هو بقوةٍ وأطلق العديد من الشتائم الحانقة وهو يُفكر ما اللعنة التي أصابت تلك المخبولة التي تجاوره وقد خطف الوسادة الصغيرة يضعها فوق أذنه يمنع وصول صوتها حتى دفعته في كتفه صارخةً بقولها:
_مــا تــقوم!! هتسيبني في اللي أنا فيه دا لوحدي؟.
زفر بحنقٍ ودفع الغطاء بقدمه ثم أعتدل بحركةٍ عنيفة وواجهها بنظراته الناعسة المقترنة بهيئةٍ جذابة لها بكل آسفٍ وهو ينفعل فيها:
_بت!! أقسم بالله أرميكي في الشارع وأنام لحد الصبح، أنا مش عاوز هبل، مش عملتلك أعشاب قبل ما تنامي ووقفت جنبك في المطبخ أساعدك لحد ما خلصتيه؟ ودخلنا هنا وسألتك عاوزة حاجة قولتيلي نام علشان مشاغلك بكرة؟ بتهبلي ليه بقى؟.
صرخت فيه هي الأخرى وهتفت بحنقٍ:
_هو أنا يعني كنت أعرف إني مش هيجيلي نوم كدا؟ بعدين أنا فيا حاجة غريبة، عاوزة أرقص دلوقتي.
توسعت عيناه بذهولٍ ورفرف بأهدابه يُعبر عن استنكاره ما تفوهت به وقد أنفرجت شفتاه بسخريةٍ وهو يملأ عينيه بملامحها الحانقة وسهامها الحادة المدفوعة من مُقلتيها؛ وقد تشدق ساخرًا بنزقٍ:
_آه وماله، أنتِ حامل في نبطشي؟ ما تحترمي نفسك يا “سـمارة” على المِسا، ناقص تقوليلي أرمي عليا نقطة، بعدين ياختي إلا ما عملتيها وأنتِ حرة نفسك، هتعمليها وأنتِ شايلة كدا؟ أتنيلي ونامي.
كان يسخر منها حتى رمقته بقلة حيلة وقبل أن يوليها ظهره أوقفته بقولها مُندفعة تسترسل في الحديث مثل استرسال المياه:
_أقسم بالله ما بكدب ولا بشتغلك، حاسة إني عاوزة أتحرك أو أتنطط، وزهقانة أوي كأني هطق من جنابي، يا أخي هما مقالوش ليه إن الحمل بيزهق الواحدة كدا، محدش موجود يقولي أهبب إيـه طيب.
أغمض عينيه لثوانٍ يحاول التماسك قبل أن يُخطيء في حديثه وقد تهادت إليه فكرةٌ جعلته يترك الفراش ثم سحب سترته الرياضية “سويت شيرت” زُمردية اللون وأرتداها ثم أوقفها بعدما أمسك كفها لتقف في مواجهته وسحب اسدالها يُلبسه لها دون أن تفهم ما يفعله هو وقد سكتت خوفًا من تقلب ملامحه للجديةِ وقد خرج بها من الشقة ثم ألتفت يخفي مقدمة خصلاتها الظاهرة خلف الحجاب ونزل بها من البناية وهي تتابعه بصمتٍ حتى مرت دقائق عليهما ووجدته يقف بها عند مقدمة اسطبل الخيول وقد أخرج “عـنتر” من موضعه ثم هتف بثباتٍ:
_هنروح نتمشى في الساحة شوية بـ “عـنتر” وتغيري جو وتشمي نفسك، ومتنسيش إنك بتتلصمي بسبب الأنيميا اللي عندك يعني لو رقصتي هيغمى عليكِ فيها دي.
أومأت موافقةً وهي تبتسم له وقد قدرت وتفهمت حجم خطورة مشاعره القلقة عليها، بينما هو أمسك كفها وسار بها مع الخيل البُني اللامع ووقفا في ساحة التدريب وأمسك قطع السُكر يُطعمه في فمه حتى أشار لها بقولهِ ضاحكًا:
_تعالي يلا أكليه، فاكرة ولا نسيتي؟.
عادت للخلف في الماضي حيث تذكرت على الفور بداية علاقتها به حينما كانت تختلس الرؤية له من الخلف وهو يُطعم الخيول ويُدربها ويهتم بها وحينها كان يتجاهلها عن قصدٍ رغم علمه بتواجده خلفه حتى باغتها ذات مرةٍ بظهوره الطاغي عليها ليجمدها محلها وقد مال عليها يهتف بهمسٍ أطاح بثباتها:
_يا رب تكوني أتعلمتي منهم إن كلمتي مبتتكسرش، وإني بمشي بكيفي مش بكيف حد، والجدع اللي جه يطلب إيدك النهاردة دا ينسى إنه يرفع عينه فيكِ، علشان مش هتكوني لغيري، أنتِ تعتبري نفسك مُهرة حُرة وأنا خَيالك.
حرك كفه أمام وجهها روحةً وجيئة وهي أمامه تبتسم بشرودٍ حتى نبهها صوته الذي هتف عاليًا:
_يا عمنا سيبتيني و روحتي فين بكلمك ؟.
ضحكت له رغمًا عنها وهتفت بقلة حيلة وكأنها مُرغمة على الحديث أمامه بتلك النبرة التي طغىٰ عليها صدق المشاعر:
_معاك، والله ما بروح في حتة غير لما بكون معاك.
كانت تلك هي أصدق عبارة تفوهت بها وقد ضحك لها بصفاءٍ ثم ضمها تضع رأسها فوق صدرهِ يُشاهد معها شروق الشمس من مطلعهِ وكأنه يمسك بكل عالمه بين يديه خاصةً بعد موقفها معه حينما أحتوته بعد كشف سره الغامض، بينما هي فسكتت نهائيًا وأرادت أن تأخذه هو مددًا لها رغم حزنها من وحدتها وهي تُعاني بدون عائلةٍ تشاركها فرحتها وتهتم بها، في حين أنه لم يدخر أي جُهدٍ لأجلها، لذا هو حقًا كما العالم بأكملهِ ويحق لها أن تأخذ منه أأمن الأماكن في دُنياها.
في مكانٍ يقربهما خرج “إسماعيل” من البيت يمسك الهاتف بيده وهو يتحدث مع “ضُـحى” التي أبدت تذمرها وحزنها لأجل رحيل شقيقها هاتفةً:
_أنا أصلًا ماكنتش عاوزاه يسافر، البيت هيبقى فاضي من غيره ومش هلاقي حد أخرجه عن شعوره وكدا أنا هخرج عن شعوري، بعدين هي المسافة طويلة أوي يعني عليهم؟ مش بيرد وموبايله مقفول.
تنهد هو وهتف بنبرةٍ ضاحكة يُطمئنها بدفء كلماته:
_متقلقيش يا مطرقعة، بعدين الطريق بالاستراحة بياخد ٨ ساعات وأكتر كمان، يعني أكيد ناموا في الطريق من التعب، بعدين مش دا أخـوكِ اللي أنتِ وهو مموتين بعض طول اليوم وصوتكم العالي جايب لآخر الدنيا، دلوقتي مفتقداه؟ آه من الإنسان وهو مضيع قيمة الحاجة منه؟؟.
ضحكت رغمًا عنها وهتفت تشاكسه مازحةً بقولها:
_أنا غلطانة إني قولتلك والله، عمومًا أنا قولت أتطمن عليك وأرغي معاك لحد ما الفجر يأذن، روح بقى صلي وأتوضا وأنا هدور على حد أرخم عليه، شكلها هتيجي في أبويا، ربنا يقويه بقى الفترة دي.
تنفس هو بصوتٍ ثم تحدث بقلة حيلة لم يعلم لما أراد أن يُخبرها بها في تلك اللحظة لكنه أنصت لصوت القلب الذي أملى عليه حديثه:
_عمومًا أنا بدأت أجهز لكتب كتابنا، حلو أوي خطوبة كام شهر أهو ومرتاحين لبعض، دا إذا ماكنتش مرتاح لحد غيرك في الدنيا، أنا محتاجك يا “ضُـحى” ويمكن بعد اللي حصل أكتر من أي وقت تاني، وبسألك لآخر مرة وبقولك لو هتندمي يبقى أخرجي من العلاقة دي قبل ما تتورطي معايا، أنا مش ضامن مين تاني ممكن يأذيني وفي أي لحظة ممكن يتغدر بيا، بس وربنا أنا لو مالك على قلبي سُلطان أنا ماكنتش أختارت إني أدخلك الحياة دي، أنتِ أجمل من إنك تتأذي كدا بسببي أنا.
في الحقيقة هي أصابتها التُخمة بسبب حديثه وتوقفت عن التفكير بشكلٍ مُرتبٍ ووقعت في حربٍ مابين عقل يعيد التفكير وقلب يُنصت لخليله فقط، وما بين هذا وذاك هتفت بثباتٍ أجادت التحدث به وكأنها تملك كل القوة في تولي مهام الدفاع:
_وأنا معاك ومستنياك، بُص الكلام دا كان زمان قبل ما أتورط فيك وأتعمي في نظري وأحبك، وبما إن مشاعر الناس مش لعبة يبقى مش قدامك غير إنك تخلص ونشوف حل ونجمع القرشين ونتجوز قبل ما صحتنا تروح في العلاقة دي، نكدت عليك الله يسامحك، دا أنتَ سمج بجد، ومفيش سلام، يلا بقى.
ضحك رغمًا عنه حينما أوصلها لتلك المرحلة ولاحظ تذمرها وحنقها وقد تنهد بصوتٍ ولمح شقيقه يقف بجوار الخيل يُطعمه برفقة زوجته وهي تضحك بملء صوتها وقد أرتسمت بسمة فوق شفتيهِ وأخرج هاتفه يلتقط لهما صورةً مع بعضهما، لتصبح الصورة عاطفية حيث وقوفهما سويًا يُطعمان الخيل الذي سكن بقربهما أثناء تهامسهما سويًا وقد صدح صوت أذان الفجر عاليًا يشق الصمت والسكون باعثًا الأمل في النفوس.
__________________________________
<“أنا هنا في كل مكانٍ، أنا الغاية وأنا العنوان”>
في حياة المرء ينقسم الطريق إلى محطاتٍ،
وبعض المحطات فيها يولجها المرء راغبًا، وبعضها مُرغمًا، وبين هذا وذاك هناك محطات غريبة يدخلها بتيهٍ لا يعلم سببه، فلا هو أضحىٰ راغبًا، ولا كان مُرغمًا هو فقط يخوضها من باب اللاعلم بالشيء لعله يعلم قريبًا، لكن من المؤكد أن وسط تلك المحطات توجد محطة واحدة على الأقل يجد فيها المرء ذاته و نفسه..
وصل طاقم العمل الخاص بشركة “الراوي” صباحًا منذ ما يقرب الساعتين لمقر الفندق المقام به المعرض والمؤتمر الخاص بتنمية الشباب وأدوارهم في المجتمع ودعمهم على العمل، وقد وصل “يـوسف” برفقة “عُـدي” سويًا إلى المكان المُخصص ولحقتهما “رهـف” التي نزلت لهما وهناك بمجرد وصول “يـوسف” وقف مشدوهًا محله، لم يصدق ما تراه عيناه حيث وجد صورةً لوالده كبيرة الحجم عند مدخل قاعات المعرض الخاص بالصناعات اليدوية بمختلف خاماتها، وحينها رفع عينيه يتعلق بنظرات والده في الصورة وقرع قلبه بعنفٍ كما تُقرع طبول الحرب..
تنفس بحدةٍ وعلا صدره وهبط تباعًا خلف حركته العنيفة وكأنه خيلٌ ولج السباق بدون إنذارٍ ويبدو أن صورة والده هي العيار الناري الذي حركه من محله ووقتها أبتسم للصورة بفخرٍ وألتمعت أعينه بوميضٍ براق يشعر بالفخر لكونه ينتمي لهذا الرجل الفاضل، وقد جاورته “رهـف” تهتف بثباتٍ رغم تأثر مشاعرها بموقفه الملحوظ:
_دي أقل حاجة تتعمل لشخص زيه، أسس صح ولحد دلوقتي اسمه هو اللي مشغل الشركة والمصنع، رغم إنهم مش كبار زي شركات كبيرة بس تأثيرهم ودورهم أقوى، وعلى فكرة دي كانت فكرة “عُـدي” تكريمًا لعمو ربنا يرحمه، وأتمنى إنك تكون فرحت على قد ما أتفاجئت.
حرك رأسه نحوها بلهفةٍ وهتف بصدقٍ يؤكد ما تفوهت به:
_فرحت أوي، حسيت كأني باخد حقي وحقه كله دلوقتي، إنتصار هادي ومريح أوي وصورته رغم كل حاجة عملوها علشان يمحوا دوره لسه بتظهر واسمه بيتردد، يمكن ميت بالنسبة ليهم، بس هو عايش في قلبي وعمري ما هنساه، ببساطة هو ميتنسيش، وطول ما أنا حي وفيا نفس اسم “مصطفى الراوي” هيفضل منور.
أنهى حديثه تزامنًا مع ظهور “عـاصم” و “شـهد” سويًا لتبدأ نظراته تشتعل غيظًا لكنه نجح في إخفائها أخيرًا حينما هتف “عُـدي” بمرحٍ كأنه لم يكترث بتواجد الآخرين خلفه وقد بدل موضع “يـوسف” ليصبح بجوار الصورة:
_أقف بقى كدا علشان أصورك وأوريها لعمتو و “قـمر” خليهم يفرحوا زيك كدا، وبعدها صورني أنا، دا مش أي حد برضه دا “مصطفى الراوي”.
ضحك “يـوسف” له وهندم سترته الصوفية سوداء اللون وقد أرتدي أسفلها قميصًا باللون الأبيض وأظهر ياقته وأساور القميص وقد أرتدى بنطالًا باللون البيج وكعادته يهتم بمظهره لدرجةٍ كُبرى تجعله جاذبًا لكل الأنظار نحوه، وقف بثباتٍ والآخر يلتقط الصورة له، ثم تدخلت “رهـف” تلتقط لهما صورة سويًا ثم قاموا بتصوير صورة “قـمر” بجوار صورة والدها لكي تصبح ذكرى لها تحتفظ بها في حياتها.
كان “عاصم” يُراقبهم مُستشاطًا منهم ومن ذِكر شقيقه المتوفي حتى ولو بحديثٍ صادقٍ يوفيه حقه وقد ولج للداخل يضرب الأرض أسفله بغيظٍ خاصةً أن “يـوسف” أضحىٰ يملك ما يُمكنه من الشركة ليصبح مُناطحًا له، بينما “يـوسف” فقام بحفظ الصور في هاتفه وقد وقفت “رهف” بجواره لكي تأخذ صورة برفقتهِ كعادتهما وبالرغم من ضيق “عُـدي” إلا إنـه ألتقطها أخيرًا وهو يبتسم بإصفرارٍ لها حتى هتف “يـوسف” بثباتٍ ألبسه وشاح البراءة:
_طب ما تيجوا تتصوروا مع بعض علشان تبقى ذكرى حلوة ليكم بما إننا هنخلص المدعكة دي وينزل لينا صور في الإيفينت هنا، إيه رأيكم؟ يلا دا أنتوا شايلين الشركة فوق كتافكم مع بعض بشهادة الكل.
أحرجهما بطريقته فوقفا سويًا بجوار بعضهما يبتسمان بسمة هادئة وقد قرر أن يتدخل فقام بمناداتها لكي تُطالعه بينما الآخر ظل مُحدقًا فيها وعيناه تفضح نظراته نحوها وهو المشتاق لها حتى وهي تجاوره، وقد أحرز “يـوسف” هدفه وهو يبتسم لهما لكنه لاحظ تعلق نظرات “رهـف” بالآخر حينما نادته فتاةٌ من طاقم العمل تطلب منه استشارة عملية جعلته ينسحب من المكان نحو الداخل لتزفر بإحباطٍ ثم جلست على أقرب حافة، رُخامية تقابلها.
__________________________________
<“قد تكون بداية جديدة، لا تعلمها أنتَ”>
رُبما اليوم، أو رُبما أمسًا
ورُبما في الغد، أو رُبما يومًا من سائر الأيام يُحظى المرء بحياةٍ جديدة تُنسيه ما سبق عليه وعاشه، ورُبما يتناسى هو عن عمدٍ كل ما حدث ويسير مع الأيام يحيا اليوم بيومه دون تحديد هدفٍ مُعين بل فقط يسير خلف السائرين لعله يصل مثلهم.
في منتصف اليوم كان “مُـنذر” في عمله يقوم بدورهِ في تقديم الرعاية الطبية وسط هذا الصرح الكبير وقد أتى لعند غرفة “مـحمود” ووقف أمامها يتعجب من نفسه، فكيف للطبيب أن يخشىٰ المريض والظهور أمامه؟ في حقيقة الأمر هو يخشى من جروحه التي تظهر فورًا عند رؤية الآخر، وكأنه صورة أخرى منه بإختلاف التفاصيل والإنهيار المشحون بداخل كليهما، ولم ينكر أنه تعلم منه الكثير فلولاه لما كان آخذ خطوة الذهاب لقبر أمـه ليخرج البركان الثائر منه ولو بصورةٍ جُزئية..
وقد قرر العدول عن دخوله وأن يتحرك للخارج فقد أنهى كافة أعماله والإشراف الطبي وقد خرج من المشفى يتوجه للخارج استعدادًا لركوب الدراجة البُخارية فوجد “فُـلة” تقف بجوار سيارتها وهي تتحدث في الهاتف حانقةً وقد وقف يتابعها وهو يتسكع في التجهز للرحيل حتى كادت أن تدخل سيارتها لكنها تفاجئت به فهتفت بنبرةٍ خافتة تعتذر لإنفعالها:
_معلش أنا مُتأسفة علشان كنت منفعلة شوية، بس الناس المسئولين عن الأكل هنا معندهمش تقدير لقيمة الوقت وأنا علشان كدا أتعصبت.
أبتسم لها بسمة هادئة ثم هتف بثباتٍ وكأنه يتحدث كل حينٍ بكلماتٍ مُحددة فقط لا يختل عن مقدارها:
_لأ ولا يهمك عادي مفيش مشاكل، بعدين دا حقك طالما الشغل لأنه مفيهوش استهتار والناس هنا للآسف متعرفش قيمة الوقت يا دكتور، عمومًا حصل خير.
تعجبت هي من طريقته وابتسامته واسترساله في الكلمات وهو يجاوبها ويرد عليها وقد أبتسمت هي ذاهلةً من رد فعلهِ معها ثم أمعنت النظر في دراجته السوداء الفاخرة بشكلٍ سارق للأنظار وحينها لاحظ هو نظراتها المُمعنة في الدراجة وقد تنحنحت هي وتصنعت الثبات وهي تسأله بإهتمامٍ خفي:
_هو الموتوسيكل دا بتاعك أنتَ؟.
عقد ما بين حاجبيه وضحك رغمًا عنه وهو يجاوبها بسخريةٍ مُمازحة:
_أومال مأجره؟ ولا ممكن أكون سارقه؟.
ضحكت هي له ثم هتفت مُفسرةً سبب سؤالها الغريب بشأن امتلاكه هذه الدراجة:
_أصل أنا بحب الموتوسيكلات جدًا والأسكودر كمان، وكنت عايشة في السعودية طول عمري ومقدرتش استخدمه هناك، ولما جيت مصر “جـواد” قالي مينفعش، فعلشان كدا بسألك هو بتاعك أنتَ؟.
ضحك رغمًا عنه لمرته الثانية لها ثم قام بتشغيل الدراجة لكي يتحرك وقد هتف بنفس الثبات رغم لمحة المرح الطفيفة المزودة فوق شفتيه:
_لأ، بتاع الحكومة، واللي عند الحكومة مبيروحش.
أنهى حديثه ثم تحرك من أمامها وتركها تقف في أثره متعجبة من موقفه، بالرغم أنه يثير فضولها نحوه، شخصيته تشبه ذاك المُلقب بالغريب، كلاهما يثير شخصية الطبيبة والمُحللة النفسية بداخلها وهي تحاول تفسير أفعاله، لكن هذا يبدو غريب الأطوار، ومُحصن ضد الإختراق، حصنٌ منيعٌ يصعب فهم تكونيه ثم شن الهجوم عليه، وقد تذكرت أمر “يـوسف” و “عـهد” التي أخبرتها أن الكوابيس أضحت لا تُحتمل حتى أصبحت تخشى النوم كي لا تقابل ذلك الوحش.
__________________________________
<“أدام الله ضحكاتك وأبعد عنك الحزن أيها الجميل”>
تملك الفتيات جناحات تجعلها شبيهة الفراشات،
وفي بعض الأوقات يُقاس جمال البيوت بقدر تواجد الفتيات، ويا ليت كل البيوت تملؤها الفراشات برفقة الفتيات.
وقد نزل “أيـوب” الدرج على عُجالةٍ وهو يتحدث في الهاتف مع زوجته في الهاتف وهو يخبرها بآسفٍ عن عدم قدرته في النزول معها:
_مش هعرف والله يا “قـمر” أنا ورايا مشوار مهم في شارع المعز وبعدها مشوار لمركز الصيانة فيه ورق بخلصه هناك، خليها بكرة وهكون موجود معاكِ في أي مكان، بس حقك عليا النهاردة صعب.
كادت أن تُبدي إعتراضها لكنها قدرت مشاغله وكثرة الأمور فوق عاتقه فهتفت بقلة حيلة توافقه رغم شدة إحتياجها له:
_خلاص يا “أيـوب” مفيش مشاكل، بكرة ننزل مع بعض أو لما تفضى خالص، لما تخلص أنا هكلمك، وممكن أنزل مع “عـهد” نجيب حاجات، أنا بعرفك أهو.
تنهد هو وشكرها مُمتنًا لها لكونها تفهمت ما يمر به من ضغوطٍ على عاتقهِ ثم أغلق معها ليمر على الحديقة يبحث عن حقيبته فيها فوجد “آيـات” أمـامه تقول بلهفةٍ وهي تركض نحوه:
_خدني في سكتك، “جـنة” برة مستنياني وهنروح نجيب ليها لبس جديد وهشتري ليا معاها، وصلني لو خارج علشان “أيـهم” مش راضي يعبر حد خالص ومشي وسابني.
تنهد هو بثقلٍ وطالع ساعة معصمه ثم قرر أن يأخذها في طريقه حتى يطمئن عليها ثم يمر على والده ويخبره أن يرسل لها من يعيدها أو حتى يتولى “تَـيام” تلك المُهمة، وقد خرج بها نحو الخارج ينتظران قدوم الأخرى لهما
وهُنا في البناية ولجت “قـمر” برفقة “عـهد” في مطبخ الثانية تقومان بصنع المخبوزات والمعجنات سويًا وقد ملأت الرائحة الشقة بأكملها وهي تنضج بداخل الفرن، وقتها ملأ المرح المكان بينهما حتى قامت “عـهد” برفع صوتها وهي تُغني بعدما أندمجت فيما تفعل وهي تقوم بجمع المكونات مع بعضها:
_حبيبي
مهما سافرت، مهما بعدت ومهما غيبت
يا روح قلبي قريب مني.. حبيبي
مهما سافرت، مهما بعدت، ومهما غيبت
يا روح قلبي قريب مني..
مهما طالت رحلتك، مستنياك
قلبي معاك يا حبيبي في غُربتك
مهما طالت رحلتك، مستنياك
قلبي معاك يا حبيبي في غُربتك..
حبيبي.
أندمجت في الغناء وكأنه يسمعها أو رُبما هي تراسله بتلك الطريقة لعل قلبه يشعر بها، حسنًا هي بالغت في التفكير ويبدو أنها غرقت في العصر الفيكتوري الذي تحبه هي وتحب كل أجواءه حتى وصلها صوته مستمتعًا من هاتف شقيقته لكونه استمع لصوت غنائها:
_حبيب عيوني.
شهقت هي بفزعٍ وألتفتت خلفها لتجد “قـمر” تكتم ضحكتها وقد توقف الحديث على طرفها وهي تُفتش عما يُسعفها فأضاف هو بثباتٍ جعل صوته رخيمًا كأنه يراها:
_مش محتاجة تتكسفي يا “عـهد” علشان أنا اللي طلبت منها في أقرب وقت تكلمني وهي معاكِ، وآسف لو دا حصل من وراكِ بس الغاية تُبرر الوسيلة، وأنا غاوي أسمعك.
أبتسمت هي وزادت نبضاتها ارتفاعًا وقد خرجت تركت “قـمر” الهاتف وتحركت تترك لهما المساحة الخاصة فهتف هو من جديد بصوتٍ ظهرت فيه الراحة التي قلما تتواجد في نبرته:
_أنا مبسوط أوي يا “عـهد” وحاسس إنه هو كمان مبسوط ومن دلوقتي بفكر حالي هيبقى إيـه يوم ما آخد حقي منهم وأقف زي الخيل رافع راسي، اسمه اللي بيتردد من الكل هنا مخليني فرحان، وفرحت أكتر لما سمعت صوتك، دعاكِ وصلني، وصوتك وإحساسك وصلني، خلي بالك من نفسك.
تنهدت هي بعمقٍ ثم هتفت بصوتٍ هاديءٍ ردًا عليه:
_وأنتَ كمان خلي بالك من نفسك وربنا يوفقك، ومتنساش تدعي لعمو كل شوية، أحيانًا الدعاء ليهم بيكون أفضل لغة مننا نتواصل بيها معاهم، ربنا ينصرك وينور طريقك.
كاد أن يُخبرها بأمر “شـهد” وتواجدها معهم لكنه قرر أن يتجاهل الموضوع حتى لا تتعجب هي أو تتهمه بالكذب قصدًا، على الرغم من تيقن الجميع من عدم حضورها، وقد أغلق معها الهاتف وهو يحاول الهروب من تلك الحالة المُشتتة التي أصابته وخاصةً مع ارتفاع الضجيج في رأسه وتضارب الأصوات معًا لكنه سعى أن يتجاهل كل تلك الغوغاء وجلس أمام حوض السباحة وبجواره الدفتر الخاص به ومعه القلم.
وقفت “قـمر” في شُرفة الشقة لكنها تفاجئت بزوجها وهو يمر أسفل البناية ومعه “آيـات” ومعهما فتاة أخرى وما إن أمعنت النظر فيها وجدتها “جـنة” وحينها توسعت عيناها واستثارت غيرتها عليه وهي تراه يسير معهما في الوقت ذاته الذي تحجج لأجل الهروب من النزول معها وفي تلك اللحظة تمنت أن تصبح طيرًا لكي تقفز عليه من الشُرفة وتمسك في عنقه وتهذبه وقد جلست فوق المقعد بضيقٍ وهي تحاول التحكم في أعصابها قبل أن تنفلت منها.
__________________________________
<“أنتَ من صنعت للخطأ طريقًا، فعليك إسلاكه”>
في داخل مقر الجامعة ليلًا بجوار مبنى كلية العلوم..
أنهت “مارينا” مُحاضراتها اليومية مع نهاية النهار وقد وقفت تحمل صندوق الأدوات الخاصة بها والمعطف الأبيض في كتفها وكما أتفقت مع “يـوساب” أن يقلها إلى الحارة معه بسبب حلول الليل عليها، وأن “بـيشوي” أعلنه أمينًا عليها وقد أقترب منها زميلها الخبيث ذاك المُلقب بـ “روماني” ووقف قبالتها يهتف بتهكنٍ يرمي بكلماته بخبثٍ:
_جرى إيه يا “مـارينا” يعني قطعتي مرة واحدة كدا وعاملة نفسك حاجة مفيش منها اتنين، ولا هو إحنا يعني علشان طُلاب غلابة مش زي الدكتور إيـاه، اتكرفلنا؟ نسيتي اللي كان بينا؟.
توجهت إليه بعينيها وهي تُطالعه بغيظٍ وبعدما تنفست بقوةٍ تدخل الهواء عنوةً داخل رئتيها هتفت بثباتٍ قوي:
_خير يا “روماني”؟ بتتكلم وترخم وشغل تالتة تالت أوي وكأننا في حضانة، المفروض إننا ناس كبيرة وعاقلة ولازم يكون فيه آدمية في تعاملنا كـ زملا حتى في كلية واحدة.
رفع حاجبيه ساخرًا وابتسم بتهكمٍ وقد أقترب منها أكثر يُسقط ظله عليها وهتف بوقاحةٍ يتمادى في حديثه:
_كـ زُملا؟ أكيد أنتِ بتهزري، بس أنا بقى مش بمزاجك ومفيش حد يديني على قفايا، علشان كدا لو مظبطيش نفسك أنا هروح لأبوكِ مكان شغله وأقوله إن أنتِ كنتي ماشية معايا وياما فهمتيهم إنك نازلة تقابلي صحابك وكنتي بتيجي تقابليني، وريني ساعتها بقى هتعملي إيـه، وجو إنك شايفة نفسك علينا دا عشان الدكتور بتاعك، أنا معنديش مانع أقوله برضه وأهو يبقى عارف إنك حرباية بتتلون.
توسعت عيناها وهي تُطالعه بخوفٍ خاصةً مع اقتراب “يـوساب” منهما حينها أدركت أنها النهاية لا محالة وقد أقترب هو يسأل بنبرةٍ جامدة محاولًا التحكم في أعصابه:
_خير يا كابتن !! تايه ولا حاجة؟.
ألتفت الآخر يُطالعه بخبثٍ وهو يشير إليها برأسهِ هاتفًا:
_لأ خالص، الفكرة بس إني مسجلتش كلام الدكتور في السيكشن وكنت بسأل بس، السؤال حُرم ولا حاجة يا دكتور؟.
وزع الآخر نظراته بينهما ليجدها خائفة وهي تزدرد لُعابها فهتفت بثباتٍ بعدما أقترب أكثر منه ومنع عنه رؤيتها:
_لأ إطلاقًا، بس أبقى أسأل زمايلك في الجروب وهما هيجابوك كلهم ويبعتوا الحاجة ليك وطالما قلبك على مستقبلك أوي كدا، أبقى سجل كل حاجة في ميعادها أول بأول، أتفضل يلا.
بادله الآخر حديثه بابتسامةٍ مُقتضبة حينما مط شفتيهِ ثم تحرك من المكان وقد ألتفت لها “يـوساب” يأمرها بإقتضابٍ:
_قدامي يلا يا “مارينا” أتفضلي.
لاحظت هي لهجته المُحتدة ونبرته العالية وهذه تقريبًا مرته الأولى التي يتحدث فيها معها بتلك الطريقة الآمرة، أما هي فسارت خلفه تحاول التوصل لحلٍ يُسعفها لكي تنقذ نفسها وصورتها وسُمعتها كفتاةٍ في المرحلة الجامعية، خاصةً حينما نالت الإحترام في عيني “يـوساب” ودعمه له ومحاربته لأجلها، ومن المؤكد هي وقعت في فخٍ بكامل إرادتها وصعب عليها الخروج منه.
__________________________________
<“بشرٌ يسكنهم الخبث، لا تأمن نفسك وسطهم”>
في بيت “الـراوي” بمنطقة الزمالك..
هذا البيت الذي فرغ من الجميع عدا “سـامي” و زوجته، وقد تحرك ذلك الخبيث في البيت مثل الحية الملونة يسير في البيت مُستكشفًا الغامض والمثير خاصةً في أمر ابنه، حتى تهادت إليه فكرة جعلته يُركض مسرعًا في أرجاء البيت.
وفي الجهة الأخرى ظلت تتابع “فاتن” ساعة الحائط لكي تخرج من البيت لتذهب لابنها المريض خاصةً حينما أخبرتها “حنين” أن حالته النفسية تزداد سوءًا ويتوجب عليها مجاورته، وقد دلفت المرحاض تتحمم وتتجهز للرحيل ثم خرجت تجمع أشيائها لكنها لاحظت غياب هاتفها وظلت تبحث عنه لكنها لم تجده.
فتحت باب الغرفة لتجد “سـامي” في مواجهتها وحينها شهقت هي بفزعٍ من طلته المهيبة أمام وجهها فجأةً بتلك الطريقة وقد أزدردت لُعابها بخوفٍ لتجده يسألها بخبثٍ:
_خير يا تونة؟ رايحة فين دلوقتي؟.
رجعت للخلف وهي تتنفس بحدةٍ وجاوبته بضياعٍ وخدرٍ تحت أثر صدمتها برؤيته الغير هوينة عليها:
_كنت بدور على تليفوني، كان هنا ومش لقياه.
أبتسم لها بخبثٍ أكبر ثم قبض على خصلاتها فجأةً وهو يضع الهاتف نصب عينيها وهو يهدر من بين أسنانه مُتجاهلًا صرخاتها المُتألمة:
_تليفونك اللي عليه رقم “عبدالقادر العطار” وابنه ورقم “نَـعيم الحُصري”؟ بتضحكي عليا أنا يا “فـاتن”؟ طب وريني بقى مين هينجدك من تحت إيدي، ورحمة أمي لأخليكِ تتعلمي الأدب وتتربي من أول وجديد.
أنهى صراخه الهادر وهو يُلقيها أرضًا حتى أرتطم جسدها بالأرض الرُخامية أسفل منها وهي تصرخ بألمٍ وقد خلع هو حزام بنطاله وبدأ ينهال عليها بالضربات يُكيلها لها وهو ينعتها بأفظع الكلمات المُشينة وهي تصرخ في محاولةٍ منها لإيجاد غوثٍ قد يُنقذها منه، لكن يبدو أن نهايتها كُتِبت على يديه.
______________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)