روايات

رواية غوثهم الفصل المائة وخمسة وستون 165 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة وخمسة وستون 165 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة وخمسة وستون

رواية غوثهم البارت المائة وخمسة وستون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة وخمسة وستون

“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثمانون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
حُمقًا شكوْتُ لِغيرِ اللهِ أوْجاعي
فَلم تُلامِس لديهِم غَيرَ أسماعِ
وحينَ بُحتُ بها للهِ في ثقةٍ
لمَستُ راحةَ قلبي بينَ أضلاعي
ربّاهُ إن الروح ترجو رحمةً
تاه الطريقُ فيا إلهِ دلّها
ضاقت بها الدنيا وبابُك مُشرعٌ
إن لم تكن أنت المغيثُ فمن لها
يا من يراني على ذنبي فيُمهلني
‏جُدْ لي بعفوكَ إن الذنبَ أشقاني
‏يارب هذي دموعي جئتُ أسكبها
‏فاغسلْ بجودك آلامي وأحزاني
_”مقتبس”
____________________________________
لكنك لا تعلم معنىٰ أن تركض طريقًا بشق الأنفس…
ثم تلتفت برأسك التفاتة مُهتزة فترى نفسك لازِلت عند نقطةالبداية _في ذاك الطريق_ وكأنك لم تطىء هذا الطريق
حتى، وفي الحقيقة أنتَ أمسيت في منتصفه مقتولًا، لا تعلم معنى أن يقتلك طريقٌ كنت تذهب إليه بكل حماسٍ وكأنك موقد فوق لهيبٍ ثم تقتلك البرودة في منتصفه، لا تعلم أن الطريق وإن كان قصيرًا لكن كل خطوةٍ فيه قتلت تلك المحاولات في مهدها، لا تدري أنك مُجرد حطام سار فوق الأرض وما إن وصل للنهاية وجد نفسه محترقًا وما بقى منه كان رمادًا يحاول لملمة نفسه من شتات الرياح قبل أن تُهاجمه، لا تعلم معنى أن تكون الطرف الأضعف في الحرب مع الحياة ثم تقف في المنتصف بغير فعلٍ لتجد نفسك باكيًا، تبكي لعديدٍ من المرات، أولها بسبب حربك التي كنت فيها الطرف الأضعف، والثانية لأنك لم تجد مُنصفًا لك في تلك الحرب، ورُبما الثالثة لأن هزيمتك كانت واضحة مثل بيان الشمس في ظهيرة اليوم..
لكن وقبل أن تيأس وتفترض الهزائم؛ تذكر قدرة الله في تبديل كل أمرٍ من عُسره ليسرهِ، وتذكر أن تلك الحروب دنيوية، وأي مكسبٍ بها كان خائبًا إن خسرت نظير ذلك ذاتك وما أنتَ عليه..
<“اليوم تشرق شمسنا من خلف الغمام المُعتمة”>
“لا تجعل غيوم الماضي تُغطي شمس الحاضر”..
وإنما دع كل حاضر يُشرق ويُنير كما الشمس الساطعة من خلف الغمام المُعتمة، لا تترك فرصةً لماضيك ينتصر على حاضرك فتخسر كليهما، وإنما دع حاضرك ينتصر على ماضيك فتصبح أنتَ الرابح من دروس الماضي وحياة الحاضر، لا تقف عند ناصية اليأس وتطيء بقدميك ذاك الطريق_ البعيد والقريب_ في آنٍ واحدٍ؛ وإنما قف عند مفترق الطرق وصارع كي تسير نحو حاضرك…
أشرقت الشمس ومعها القلوب أيضًا، في باكورة الصباح تسللت آشعة الشمس نحو الشقة تملأ أركانها بالحياة كما حيت القلوب من جديد، وكان “يـوسف” نائمًا و زوجته تتحرك في الشقة تقوم بتحضير ثيابه وعباءة الصلاة قبل موعد الجمعة، ثم اقتربت منه توقظه بنعومةٍ وهي تُمرر أناملها فوق عينيه ثم ضحكت على هيئته أثناء نومه حينما كان يحتضن الوسادة بين ساقيه ويضع كلا كفيه أسفل وجنته، بدا رقيقًا وأقرب في نومته للطفل البريء، ناهيك عن ذاك الوقح الذي تعهده هي والعالم أجمع، فمن يُخيل له أن هذا هو “يـوسف” الذي يعمل لسانه كما نصل السيف الحاد؟..
تذكرت ليلة الأمس حينما عاد لها وأخبرها أنه كمن عاد يأمن في كنفه أحبته، عاد الغريب ورست سُفنه أخيرًا من بعد تيهٍ في عمق البحر وقد قُدِر له أن تكون هي مرساه الأخير، ظلت تحاول معه كي توقظه حتى باغتها حينما شدها له فجأةً ثم نطق بصوتٍ لم يخل من أثر النعاس والنوم:
_كفاية فرك من الصبح، نامي وريحي.
ضحكت على طريقته ثم رفعت رأسها تواجهه وهي تقول بنبرةٍ حماسية بانت في طريقتها وأيدتها في ذلك نظراتها الرامقة له:
_لأ كفاية نوم، نايم بقالك أربع ساعات حلوين أوي عليك، بعدين أنتَ وحشتني، وخالو “فضل” مستنينا وعازمنا كلنا على الفطار مع بعض وطنط مستنياك، جايلك قلب تنام وكل دول مستنيينك ترجع، يا جاحد يا ظالم.
رفع أحد حاجبيه لها ثم سألها بشرٍ بعدما كشر عن أنيابه:
_جاحد وظالم؟ أنتِ الغياب عنك طول لسانك أوي، شكلك عاوزة تتأدبي يا عسل، أفوق بس وأظبطك علشان واضح إن عيارك فلت.
كررت ضحكتها الرنانة بصوتٍ عالٍ من جديد لتأسره في صباح اليوم وقد ضحك هو معها ثم استيقظ كي يبدأ يومًا جديدًا بحياةٍ كان يود أن يعيش فيها منذ أن وجد وحده في تلك الحياة، كان يتمنى أن يختبر شعوره وسط عائلةٍ اشتاقته ما إن يعود من سفره، وكان يرى بعينيه الكثيرين وهم يعودون من العمل لأجل أهلهم وذويهم وهو وحده من كان يتغرب من بلدةٍ لأخرى ومن مدينةٍ لغيرها فقط كي يهرب من وحدته وكُربة حاله..
كان سعيدًا في تلك اللحظة وهو يتجهز كي يذهب لعائلته وقد وجدها جهزت له العباءة البيضاء وجهزت لنفسها فستانًا باللون الأبيض به نقوش خضراء صغيرة مُزركش بها فوق أرضية القماش، وقد ارتدت الحجاب باللون الأخضر ثم جاورته وهي تبتسم بحبٍ فاض من عينيها له ونظراتها سردت الكثير عليه وخاصةً بعد تجاوزها لماضيها البائس والتمسك بالحاضر معه هو، فقال هو بغزلٍ لم تنفك عنه الوقاحة:
_هي إيه الحكاية يا ست أنتِ، عملوا فيكِ إيه في غيابي، بس الشهادة لله وكلمة الحق تتقال يمين بالله أنتِ perfect.
تنهدت هي بعمقٍ ثم تمسكت في ذراعه وهي تقول بصدقٍ استطاع هو أن يفسره من نظراتها ونبرتها:
_علشان عاوزة أعيش حياتي معاك زي أي اتنين حياتهم عادية، عاوزة أكون أم لعيالك وعاوزة كل حاجة بينا تكون طبيعية، مش عاوزاك تفضلي تدي بس ومتاخدش مني حتى أبسط حقوقك، بعدين أنا قولت برضه استغل وجودك علشان أنسى اللي حصل فيا كله، يعني يستغلك بصراحة.
ضحكت وهي تنطق بجملتها الأخيرة بينما هو فمد ذراعه يقربها له ثم جعل رأسها يستقر فوق موضع نبضه وقال مستطردًا بعدما وجد الرد المناسب على كافة الحديث:
_وأنا هنا ومعاكِ علشانك، ولو كل الاستغلال هيكون حلو كدا يبقى استغليني العمر كله، المهم تكوني بخير وبس، الدنيا كلها بما فيهم أنا فداكِ يا “عـهد”.
ولأجل ذلك الحديث لم تستطع مقاومة احتضانه فوجدت نفسها تأمن به وهي تضع نفسها في عناقه وكأن تلك هي اللغة الخاصة بهما سويًا، بينما هو فابتسم بسعادةٍ وهو يرى حلمه ملموسًا نصب عينيه ومتواجدًا بين يديه، بينما هي فلو كانت الراحة شيئًا ماديًا لكانت جابت العالم من المشرق للمغرب تجمعها بين راحتيها ثم تقبض عليها بأكملها وتختصه هو وحده من بين العالم بأكمله وتضعها في قلبه كي تغمره السكينة؛ كما فعل هو وملأ قلبها بالأمان، هذا الذي ما إن أتاها وكان غريبًا عن المدينة ثم شاء له المولىٰ دونًا من بين كل الطرقات أن يسلك ذاك الذي أوصله إليها، ومنذ ذاك الحين وجد الغريب مدينته..
فلو كانت المدينة لساكنيها فقط؛ هو الآن بين أحضان مدينته وأمسىٰ آمنًا، وتلك المدينة لا تُضيء لغريبٍ سواه هو وحده..
____________________________________
<“والزاهد يوم أن فُتِنَ كانت فتنته قمرًا..”>
يُحكى في بلدةٍ ما عن زاهدٍ ابتعد عن الحياة..
عكف عن العالم والبشر وترك كل الملاذ،
فلاذ بنفسه نائيًا عن الآثام،
وقلبه لم يعد يقبل سوى باليسير من الأحلام،
وأن يكون وسط الناس أطيب الآنام، فكُتِبَ له أن يكون هو الزاهد البعيد عن دُنيا الآلام، ويوم أن شُدِهَ بفتنةٍ كانت خير الفتنة من بين كل الناس والأنام، فكانت فتنته قمرًا وذاك القمر كان حقيقيًا وليس مجرد ما يراه في الأحلام، فيا قمري قُل لي بربك
هل أنا أراك حقًا نصب عيناي، أم أن عقلي وقلبي أرادا سرقتكِ من الأوهام؟..
يومٌ هاديء غير صاخبٍ يمر عليهم بطيفٍ الهدوء من بعد ما يقارب شهرًا في حياة ممتلئة بالعديد من الصراعات والهزائم، أما اليوم فكانت الجمعة هادئة للغاية، حيث صوت القرآن الكريم يصدح في الشقة بصوت القاريء “محمود علي البنا” يتلو ويرتل سورة الكهف، و “أيـوب” يجلس مستمعًا للقرآن ويردد بنبرةٍ خافتة، والبخور الطبيعي برائحته العطرة يملأ المكان ويريح النفوس ويهديء صخب أمواج العقل المضطرب…
كان جالسًا بصمتٍ وقلبه يتمنى ويتضرع أن ينتهي عمره على طاعةٍ قبل أن تسلب أنفاسه في معصيةٍ، كان يتمنى أن تكون حسناته في تلك الحياة بفائدةٍ تنفعه في مماته، وعقله يردد لقلبه مُلقيًا عليه المخاوف بقوله الذي بثه له الشيطان في لحظة غياب
“يا خيبة العمر إن كنت حاسبًا نفسك العبد المُطيع
وذنوبك بين الحنايا لا تُلمح بالعين ولا أنتَ عليها تستطيع”
في تلك اللحظة ارتجف قلبه وظل يردد الاستعاذة برب العالمين من شيطانه الرچـيم وقد أتت له “قـمر” بعدما أنهت صلاة الضُحى وجلست بقربه ببسمةٍ بشوشة جعلته يبتسم من تلقاء نفسه هو الآخر وكأن البسمة هي ما يغمر قلوبهما سويًا…
كان يعلم سبب تلك البسمة والسعادة البادية بالأخص بعد عودة شقيقها من جديد وقد أخرجته من صمته وشروده بقولها مستفسرةً بحماس كل جمعةٍ تمر عليهما:
_الجمعة دي هتديني إيه؟.
توسعت بسمته ثم رفع كفيه بموازاة رأسه ثم أعطاها تلك المرة حرية الخيار كي تنتقي بنفسها ما تود التحصل عليه من المعلومات وأكد ذلك بقوله:
_أنا هسيبلك أنتِ الفرصة علشان تختاري نتكلم عن إيه النهاردة، حابة تعرفي إيه أكلمك عنه قبل ما أنزل المسجد؟.
دارت بعينيها تفكر في الأمر وتبحث عن شيءٍ تود معرفته منه وتغيبت عنها أجوبته فتحمست وهي تقول بلهفةٍ:
_عاوزة أعرف ليه بنقرأ سورة الكهف يوم الجمعة تحديدًا وليه لازم حد يقرأها علشان كدا الإذاعة بتشغلها وكل محطات القرآن؟
في الحقيقة أعجبه سؤالها وبدا ذلك واضحًا من ملامحه وحينها أومأ موافقًا ثم حمحم كي يبدأ شرحه مع باستفاضةٍ كي ييسر عليها أمر المعرفة وبدلًا من أن يصيبها بالعجز في معرفتها وإدراكها للأمور التي تخص الدين الإسلامي، فأتاها بقوله:
_تُقرأ سورة الكهف كل يوم جمعة، ومفيش فرق بين أن تكون قراءتها ليلاً أو نهارًا، ومن قرأها كانت له نورًا بين الجمعتين، كما نُقل عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال:”من قرأ سورةَ الكهفِ في يومِ الجمعةِ، أضاء له من النورِ ما بين الجمُعتَينِ” وغير كدا ليها أفضال كبيرة أوي زي القصص اللي في السورة نفسها، زي مثلًا..
سكت عن الحديث ثم بدأ مُجددًا الحديث بقوله:
يقرأ المسلمون سورة الكهف يوم الجمعة، لأن النبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم – أخبرنا إنها نور بين الجُمعتين والنور يعني هداية، يعني هداية المسلم لاختيار الصح من الغلط ،ويدله على العمل الصالح الذي يوصله إلى رضا الله تبارك وتعالى.
ليه بقى سورة الكهف دون باقي السور تحديدًا؟.
لأن ورد في سورة الكهف ٤ قصص، وهذه القصص تتضمن أربع فِتن في الدنيا وهذه الفتن هي:
1 – قصة فتية الكهف = و فيها فتنة الدين .
2 – قصة أصحاب الجنتين = وفيها فتنة المال .
3 – قصة موسى عليه السلام و الخضر= وفيها فتنة العلم .
4 – قصة العبد الصالح ذي القرنين= وفيها فتنة السُلطة .
والقصص دي فيها الكثير من الدروس والعبر والمواعظ، كما أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أرشدنا إلى حفظ أول عشر آيات من سورة الكهف ومن حفظهم سينجيه الله تعالى من أكبر فتنة على الإطلاق و هي فتنة المسيح الدجال..
وفضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة
وردت في عدة أحاديث في فضل قراءة سورة الكهف، منها حديث عن أن حفظ عشر آياتٍ من سورة الكهف يعصم من فتنة المسيح الدّجال، وكذلك أنّ من قرأها يوم الجمعة أضاء له من النّور ما بين الجمعتين. والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم، فاللهم أهدنا وأهدي بنا واجعلنا سببًا لمن اهتدى..
ابتسمت هي له بحماسٍ فوجدته يضيف بتفسيرٍ لنقطةٍ ما في سابق حديثه وكلماته التي ذكرها عليها ضمن إجمال الحديث:
_القصص اللي في سورة الكهف كانت كل قصة فيها موعظة لفتن دنيوية الإنسان سهل يقع فيها، علشان كدا هي نور الهداية بين الجمعتين، لأن لو بغينا هنلاقي إن من بداية الأسبوع لحد نهايته الإنسان بيعاني، بيتضغط في شغل وحياة وتعب وتبدأ الدنيا تاخده، فييجي يوم الجمعة راحة للإنسان من الدنيا والجري فيها، فمثلًا هنلاقي:
– (فتنة الدين)
في قصة الفتية أصحاب الكهف، الذين فُتنوا عن دينهم فثبتوا على الحق.
– (فتنة المال)
في قصة صاحب الجنتين، وكيف ثبت صاحبه وزل هو وكفر.
– (فتنة العلم)
في قصة موسى مع الخضر، وفيها من اللطائف والفوائد والفرائد ما يحتاج مجلدًا لشرحه.
– (فتنة الملك)
في قصة ذي القرنين، وكيف لم يفتنه السلطان والملك والنفوذ عن دين الله.
و”كهف الفتية” رمز العصمة من الفتن حينما آواهم الخالق داخل الكهف فسألوه الرشد في أمرهم وحينها لبثوا في الكهف إلا أن وجدوا كل القرية مؤمنة، فنُسبت السورة لهم وسميت باسمهم وتأتي سورة الكهف كلّ أسبوعٍ لنأخذ منها أجُورًا زائدةً، وتُودعُ فينا من جميلِ القِصَصِ مَا تُنير درُوبَنَا.
تلك المرة كانت سعيدة حقًا كما الفراشة حينما يأتيها الربيع ويباغتها بفتح أبواب الحقول نحو الزهور وقد كانت هي في أسعد لحظاتها وهي تأخذ منه العلم والمعرفة ويعاونها في أمور دينها، كانت سعيدة للغاية وهي تشعر في قربه بالأمان، وقد وجدته يزيد من فرحتها أكثر حينما أمسك هاتفه يضعه في كفه المنبسط ثم طالبها بمشاركته الأجر حينما قال بأملٍ في تحقيق المُراد:
_أمسكي واكتبيه أنتِ على صفحة غوث علشان نتشارك الأجر وكل حد يقرأ تاخدي أجر على معرفته وأهم حاجة تكون النية خالصة لوجه الله تعالى، تمام يا “قـمر” ؟.
أومأت له موافقةً ثم بدأت تكتب بمعاونته عبر تلك الصفحة التي قام هو بإنشائها لنشر المعلومات الدينية والآيات القُرآنية وهي أول فردٍ يشاركه الأجر من بعد “آيـات” شقيقته التي تتولى مهام الرد على أسئلة النساء والفتيات..
دقائق مرت نزل فيها “أيـوب” من شقته وأمامه كانت تسبقه “قـمر” التي كان وجهها بشوشًا لهذا اليوم المنتظر الذي كانت في أوج لحظات الانتظار له بالأخص عند عودة شقيقها واجتماعه بهم من جديد، لاحظها “عبدالقادر” الذي ابتسم لها ثم لثم جبينها أمام ابنه الذي ضحك لهما، فيما قال “عبدالقادر” بحبٍ لها:
_روحي النهاردة وقضي اليوم معاهم، بس مفيش بيات هناك ترجعي تاني وتجيبي الشيخ دا في أيدك، خلاص “يـوسف” رجع ومفيش حجج تانية تخليكِ تقعدي بعيد عننا، يلا روحوا علشان تشوفوا طريقكم، ربنا يبارك فيكم ويسعدكم.
أومأت هي له موافقةً ثم دعت له وهي تتحرك بجوار زوجها كي يوصلها لبيت أمها ثم يعود من جديد للمسجد كي يجهزه للمُصليين قبل موعد صلاة الجُمعة، وإبان سيرهما وعند نقطة المُلتقى أتى “يـوسف” بزوجته وفي الجهة الأخرى قابله “أيـوب” بزوجته وحينها تلاقى الصديقان في المنتصف والقلوب تُصرح بحاجتها لعناقٍ يُطفيء لهيب الشوق…
اقترب “أيـوب” في نفس لحظة اقتراب الثاني وضم كلاهما الآخر في عناقٍ قويٍ وكلاهما يرحب بالآخر بقوله وفعله، تحدث “أيـوب” أولًا يخبره عن مدى حاجته له في تلك الأيام الماضية حينما كان يشعر أن الطريق تاه به وضل السُبل:
_طول الشهر اللي فات دا كنت محتاجك جنبي.
ربت “يوسف” فوق ظهره وأكد حاجته هو الآخر بقوله:
_وأنا والله العظيم لولا مكالمتك ليا قبل كل فجر كان زمان عقلي طار مني هناك، ليك وحشة يا غالي أنتَ وكل الحبايب.
ابتعد عنه بعد جملته ثم ضم شقيقته التي تعلقت في رقبته بينما هو سحب نفسًا عميقًا يشبه ذاك الذي يسحبه الغريق بعد نجاته وحينها تذكر كل الأيام التي حُرِم فيها من عناقها عند عودته للمدينة الظالم أهلها، فقال بصدقٍ بعدما استشعر نعمة الخالق عليه:
_الحمدلله على نعمة وجودك، صحيح ميقدرش النعمة غير اللي اتحرم منها، وأنتِ حضنك نعمة والحمدلله إن ربنا ردلي النعمة دي من تاني، طمنيني، رفعتي راسي في غيابي ولا قصرتيها؟.
ابتعدت هي عن شقيقها ثم مسحت عبراتها التي داهمتها حينما شعرت بنفس المشاعر التي كانت ستشعر بها لو احتضنها والدها قبل أن يرحل، فمن المؤكد عناقه كان حنونًا ودافئًا كما عناق شقيقها الذي أطفأ برودة روحها، وقد صعدت هي برفقة “عـهد” بينما ذهب الرفيقان مع بعضهما نحو المسجد الذي أشتاق “يـوسف” إليه كثيرًا ولتلك السَكينة التي كانت تغمره حينما يضع جسده بين جدران المسجد وصوت القرآن الكريم كان شفاءً لقلبه من كل شيءٍ..
____________________________________
<“قتل العالم الطفولة فينا، والآن يحيا فينا ذاك الطفل”>
أتعلم تلك اللحظة حينما تقف أمام خط النيران وهي تتجه نحوك وأنتَ تقف بكامل اللامبالاةِ تنتظرها كي تقترب منك وتلتهمك كي ينتهي أمرك؟ في حقيقة الأمر قد يراك العالم مجرد كسولٍ لم يتحرك قيد أنملةٍ كي يُنقذ نفسه من النيران، لكن في الحقيقة الغائبة أنتَ مجرد رمادٍ نجا من باقٍ كان فيه إنسانًا، فهل يُعقل أن يحارب الرماد المُحترق ألسنة النيران المُتصاعدة؟.
منذ باكورة الصباح وهي تُهاتف وتتصل وتطلب منه الإسراع في القدوم وقد تحرك هو بسرعةٍ بواسطة دراجته حينما أكدت عليه أن يحضر بها، فخرج من البيت قبيل صلاة الظهر بلحظات قليلة ثم شق طريقه لها وحماسه يزداد حتى يراها، الطفل الذي فيه بدأ يحيا من جديد بعدما قتله العالم غدرًا بغير رأفةٍ أو شفقةٍ، الآن أصبح ينتظر الحياة تأتيه منها هي وحدها، بعدما كان الموت هو مصيره الحتمي من هذا العالم..
أوقف الدراجة أسفل بنايتها ينتظرها فوجدها تنزل له وهي تحمل حقيبة ظهرٍ كبيرة الحجم ثم وأخرى في يدها وقد عقد حاجبيه أمامها وهو يسألها بحيرةٍ:
_أنتِ مهاجرة يا “فُـلة” ولا إيه؟.
حركت رأسها نفيًا وضحكت له بعينيها وهي تجاوبه بما أنتوت فعله معه:
_لأ مش مهاجرة، بس هنرجع اللي هاجرونا.
ضيق عينيه هو أكثر وحرك رأسه يستفسر منها فوجدها تتجاوزه ثم أعطته حقيبة ظهرها يضعها في الدراجة ثم أرتدت الأخرى فوق ظهرها وجلس هو أولًا وهي خلفه تتمسك بظهره كما اعتادت بينما هو سألها عن وجهة الطريق حيث أصرت هي أن يكون اليوم تحت رعايتها ويسير بتنظيمها، وما إن سألها جاوبته بتوريةٍ كأنها تلاعبه بالألغاز:
_الطريق اللي رايحينه بعيد أوي، بس قلوبنا تستاهله يا “مُـنذر”
ولتوهِ سكت من الجواب الحاضر منها دومًا وطوال الطريق هي تقوده وتُرشده للقيادة وهو يتحرك بطواعيةٍ خلف إشاراتها له وهي كلما أقتربت ازدادت حماسًا أكثر، فعلت هذا الشيء لأجله هو قبل نفسها، أرادت أن تحيا معه ما لم يكتب لها من العمر خاصةً بعدما عاونها في تجاوز محنتها الأخيرة ووقف لها أمام ضعفها بالمرصاد.
بعد ساعتين أو أكثر أوقف الدراجة أخيرًا أمام حقلٍ ذراعيٍ عند بدايته كان هناك مدخلًا مرسومًا بالأشجار المتقاوسة مع بعضها كما زين قرص الشمس الأصفر هذا المدخل كأنه زُينَ خصيصًا للناظرين كي يسرق قلوبهم قبل أعينهم، وفي الحقيقة وقف هو يرفرف بأهدابه يرى الطيور توازي حركة رموشه وكأن الطيور تحررت من أسرها أخيرًا، بينما هي جاورته ثم قالت بحماسٍ:
_دي أرض عيلة ماما، كنا بنيجي هنا كل أجازة لما ننزل مصر نقضي اليوم كله هنا لحد الغروب ما يظهر ونشوفه بعدها نتحرك ونمشي، هنا هتسمع صوا قلبك وهو بيضحك ويعيش من تاني، كأن الحياة بتصالحك بهدنة سلام بعد الحرب اللي اتفرضت عليك طول العمر، أيدي أهيه همدها ليك، موافق تخلي قلوبنا تعيش اليوم دا ونرجع القلوب اللي هجرتنا؟.
طالع عينيها بنظراتٍ مهتزة ثم طاف بعينيه في المكان يطالعه بعينيه بينما هي فكانت تنتظره يمد كفه كي يحتضن كفها ويبدأ مع مشوار الحياة الذي اخترته معه هو، وقبل أن يفعل ما أرادت زفر بقوةٍ وأخبرها بصوتٍ مهزومٍ:
_بس أنا مجربتش أعيش قبل كدا، ومعرفتش يعني إيه حياة ولا معنى إن حد يداوي حد، كل دا عرفته لما عرفتك أنتِ، فإزاي أساعدك تعيشي وأنا أصلًا ميت ميعرفش الحياة دي عاملة أزاي؟.
ابتسمت له بحزنٍ تزامنًا مع هبوط دمعاتها من بين حصار الأهداب ثم أخبرته بنبرةٍ ضائعة كأن حالها يُطابق حاله الحزين في موت القلب الذي من المفترض يكون هو مصدر الحياة:
_مش مهم تكون عارف إزاي تعيش، كفاية إيدك تكون في أيدي علشان نعيش مع بعض، أيدي أهيه ممدودة ليك أنتَ، أمسكها وصدقني هنقدر نعيش اللي فاتنا، الطيور بترجع من تاني لما تلاقي صاحبها مش ناسيها، وقلوبنا زي الطير خليها تشوف الحرية دي…
حديثها حثه على الفعل، فوجد نفسه يرفع كفه لا إراديًا منه ويُعانق كفها وكأنهما طيران اصطحبا بعضهما كي يطلعا على العالم الواسع بدلًا من الأسر الذي ضيق عليهما الخناق، حينها وفقط تسللت آشعة الشمس وهبطت تُعانق كفيهما كي تبث الدفء لهما فتشعر به القلوب الباردة التي حاوطها الثلج وأغدقها الصقيع، وجدها تبتسم له وتضحك بصوتٍ عالٍ ثم جرته لها وركضت نحو الحقل الذراعي وصوت ضحكتها الرنانة يعلو ويعلو فوق كل صوتٍ وقلبه يهتز إثر هذا الصوت ويتمنى لو يضحك مثلها…لكن المعضلة في قلبه الحزين..
قامت بفتح الحقائب وأخرجت شرشفًا تضعه فوق الأرض ثم أخرجت الطعام وبدأت توضع الأطباق والخبز ثم أشارت له فعقد حاجبيه من جديد وحينها ضربت رأسها بكلا كفيها وهي تسأله بنبرةٍ ضاحكة:
_أنتَ هتعملي فيها ابن بشوات؟ أنزل على ركبك وأقعد جنبي خلي البساط أحمدي وأنزل يا عم متعصبنيش.
نزل على عاقبيه وجلس في مواجهتها يطلع على عينيها بدلًا من الحقل الأخضر حوله وحينها ابتسم ما إن لامس شعاع الشمس عينيها وبدت أمامها لامعة بوميضٍ يجزم هو أنه يراه لمرته الأولى في عينيها فأنشده في تلك المُقل التي بثته دفئًا وحياةً، خجلت هي من تمعنه فيها فتلجلجت أمامه وهي تهرب بنظراتها منه فأعاد هو رأسها من جديد كي يطالع عمق عينيها وسألها بصوتٍ رخيمٍ:
_أخرة اللي أنتِ بتعمليه إيه يا “فُـلة” بس؟.
رمشت هي أمامه بتوترٍ ثم قالت بصدقٍ وكأنها لم ترد إخفاء الحقائق عنه وعن قلبها ذاته:
_أخرته أني عاوزة قلبك يحس بيا، عاوزة اتأكد أني فعلًا ليك ولقلبك زي ما أنا بحس كدا ناحيتك، المرة اللي خليتك تحضني فيها لما كنت تعبانة كان نفسي فعلًا أجرب الأمان دا معاك أنتَ، أنا وأنتَ بقينا نصيب بعض خلاص، يبقى خلينا نعيش النصيب دا.
أومأ لها موافقًا ثم جلس يعاونها في وضع الطعام وتحضير الجلسة ثم بدأت هي تلتقط الصور لهما سويًا والطعام كي توثق تلك الذكرى تجعلها لحظةً بمقدار الحياة بأكملها، وما تلى ذلك كان تناولهما الطعام سويًا وسط ضحكات وسخريات ومزاحٍ كان متبادلًا بينهما، حتى قفزت من موضعها تهتف بحماسٍ:
_يلا بقى علشان نلعب ونعيش الحياة..
قبل أن يدرك مقصدها وجدها تمسكه من كفه تسحبه كي يقف معها ثم قامت بتشغيل السماعة الذي أتت بها هي ثم التفتت تخبره بثقةٍ:
_هنجري هنا وسط الزرع ونلف اللفة كلها واللي يسبق التاني يصارحه بحاجة هو ميعرفهاش، بس بشرط أنتَ متغشش في اللعب، بس أنا أغش عادي علشان شكلك ضلالي ومش هترحمني، اتفقنا؟.
ضحك رغمًا عنه ثم وقف بجوارها وقد بدأت الركض في الممر وسط الحقل الزراعي وهو بجوارها وكلاهما يسعى كي يسبق الآخر، بينما هي فكانت تتمنى الاعتراف يصدر منه هو، كانت تتتوق لتلك اللحظة التي يقف فيها ويصارحها بما يتمناه قلبها، ولكن في حقيقة الأمر هو كان في عالمٍ موازٍ لها، حيث تحقق حلم اليقظة الخاص به ووجد نفسه في ذاك الحقل الذي كان يتخيل نفسه فيه معها، وهي بجواره تركض ضاحكةً ثم فردت ذراعيها توازي حركة الطيور فوقها وآشعة الشمس تُصادق موضعهما وتبثهما الأمل بدلًا من الألم…
استمع لصوت قلبه يضحك مثل قلبها ووجد نفسه يعيش ويحيا وكأنها مدت كفها وانتشلته من أسفل الرُكام ثم حفظته في كنفها وداوت جروحه التي مر عليها الزمن ولم تبرأ بعد حتى الحين، وقد وصلت هي وسبقته وظلت تقفز في موضعها وهي تحتفل بنصرها عليه ولم تعلم أن انشداهه في تلك اللحظة كان سببًا في هزيمته أمامها بتلك الطريقة الساحقة..
وجدها تقترب منه وهي تقول بأنفٍ مرفوعٍ:
_أنا خلاص كسبتك أهو، الدور عليك تعترف وصدقني مش هقبل بأقل من كدا، الحكم واجب عليك إنه يتنفذ، بس بشرط يكون اعتراف محدش يعرفه غيري أنا وبس أو على الأقل أكون من المميزين اللي عارفينه، قولت إيه؟.
قلب عينيه يمنةً ويسرى بتفكيرٍ بدا عميقًا ثم وضع كفه في خصرها وقربها منه حتى ضحكت هي أمامه فوجدته يهتف بشقاوةٍ قلما يتعامل بها معها حيث اعتادت دومًا على جموده:
_أنا علشان خاطر عيونك هعترف بكذا واحد، وكلهم علشانك أنتِ وبس، لأنهم تقريبًا ميخصوش حد غيرك، إيه رأيك؟.
تأهبت حواسها وكذلك نظراتها بينما هو بدأ فعليًا حينما رفع كفه يُحرك خصلاتها بعيدًا عن عينيها ثم ابتسم بهدوء وقال بصدقٍ بعدما أنصت لقلبه فكان حديثه مُلهمًا ومُلهِمًا:
_أنا شوفت الموقف دا كتير في أحلام اليقظة، كل ما اليأس كان بيغلبني كنت بروح لخيالي علشان أشوفك، كل مرة كنت بشوف نفسي عيل صغير بيضحك وبيجري وسط الزرع وأنتِ معايا وإيدك بتشدني علشان مهربش منك، كل مرة كنت بحس إنك كتير عليا كنت بلجأ لقلبي وبشوفك فيه بتجري وضحكتك منورة وشك..
لمعت عيناها وهي تراه بهذه النسخة ولمرتها الأولى وقد نكون النادرة في العمر بأكمله بينما هو لثم وجنتها ثم عاد يطالعها وهي تحاول إخفاء تأثرها به وبقربه لكن العين إن أرادت أن تُفصح عن شيءٍ لن تكتمه الملامح، ولكي تهرب من هذا الموقف سألته بضحكةٍ واسعة:
_يعني بتشوفني بقلبك بس؟ طب وعيونك؟.
ثبت عينيه عليها وضحك مرغمًا ثم قال بيأسٍ أمامها:
_عيوني دول بيموتوا فيكِ..
وهُنا شهقت هي ببلاهةٍ وفرغ فاهها وضحكت عيناها، ومن شدة انفعالها ألقت نفسها عليه تحتضنه فدار هو بها حينما أمسكها بكفٍ واحدٍ وهي تضحك وهو معها يُقاسمها الضحكات ويُرافق قلبها بالفرح، ويُشاطرها في الليل وينوب عنها في مواجهة الحزن، هو الميت الذي قتلته قبيلته، وهي الزهرة التي انتظرت ذاك الميت كي تُلقي بنفسها بين ذراعيه ويحفظها في رعايته..
____________________________________
<“لا بأس فلنحيا من جديد لطالما لم نمت بعد”>
لا بأس من تجربةٍ في تلك الحياة..
لطالما كانت فينا الأنفاس ساكنة لم تزل، ولا بأس من مصادقةٍ مع الحياة من بعد الموت الذي طغى على أيامنا فاطفأ نورها ووهجها في أعيننا، لا بأس من هزيمةٍ كانت في منتصف الدرب فجعلتنا نعود بالخطى لنقطة البداية، ولا بأس من محاولةٍ جديدة فلعل مسعانا يُكلل بالنجاح..
بعد صلاة الظُهر وانتهاء الناس من صلاة الجماعة في المسجد خرجوا الرجال ووقفوا مع بعضهم كما المعتاد بعد الصلاة وقد خرج “يـوسف” مع “أيـوب” والثاني يغلق باب المسجد وفي تلك اللحظة اقترب منهما “عبدالقادر” يرحب بابن رفيقه ثم ضمه له وهو يقول بفرحٍ لأجل عودته سالمًا لهم:
_الحمدلله على رجوعك لينا بخير من تاني، الحارة كلها نورت بيك من تاني، نورت مكانك يا ابن الغالي، أخبارك إيه يا حبيبي؟.
وفي الحقيقة هو لا يعلم ما به، فعناق عمه له بتلك الطريقة جعله يضيع من نفسه وقلبه ينتفض وكأن “مصطفى” عاد يحتضنه من قبره، أو ربما العناق ذاته كان متطابقًا بين الرفيقين، في تلك اللحظة كانت عيناه أدمعت بالفعل ورق قلبه لأجل ذاك الذي يحتضنه، وما أن انفك العناق بينهما حمحم “يـوسف” ثم نطق بقوةٍ يواري خلفها رقة قلبه:
_الحارة منورة بوجودك فيها يا عم “عبدالقادر” ربنا يبارك في عمرك ويحفظك لينا.
طالعه “عبدالقادر” بدهشةٍ نطقتها عيناه ولعجبه في الأمر هو حتى لم يُخيل له أن “يـوسف” ذاك الغريب الذي ولج الحارة يشن الحرب عليهم هو نفسه من كان في عناقه والآن يدعو له بدوام الصحة وطيلة العمر، حينها ضمه له من جديد كأنه استشف حاجته لهذا العناق كأنه يودعه به ثم استأذن من الجميع وتحرك وفي يده أمسك “إيـاد” الذي رحل مع جده نحو البيت وخلفهما تحرك “أيـهم” كي يطمئن على زوجته التي لازمت البيت حفاظًا على الجنين وتنفيذًا لتعليمات الطبيبة..
في بيت “غَـالية” تحديدًا فوق السطح كانت الموائد موضوعةً وفوقها أصناف الطعام المُختلفة والمتنوعة بعد عودة الرجال من المسجد ومن بينهم “يـوسف” الذي احتضن أمه وشدد ضمته لها وقبض بذراعيه ثم قال بصوتٍ رخيمٍ:
_تصدقي الشهر دا كان أطول من عمري كله علشان كنت عاوز أجيلك وأحضنك يا “غـالية” بس إيه يا ست أنتِ دا عمالة تزيدى حلاوة وجمال كدا ليه؟ هو المرحوم مظبط الدنيا في الأحلام ولا إيه؟.
ضحكت رغمًا عنها وهي تضمه لها ثم مسحت فوق ظهره وهي ترد عليه وتتمنى له أن يبقى وسطهم آمنًا ومُطمئنًا دومًا وقد التفوا حول مائدة الطعام ومعهم “رهـف” التي أتت بعدما أصرت أسرة “عُـدي” على ذلك وهي رحبت بتلك الفكرة كثيرًا كي تعتاد على العائلة، بينما “عُـدي” فجلس في مواجهتها ودون أن ينتبه لهما أحدٌ أخبرها بنبرةٍ خفيضة:
_السطح هنا مليان ورد، شوفي الورد اللي يعجبك وخدي منه، واعملي حسابك بعد الفطار هننزل علشان نشوف الموبيليا ونلحق قبل ما الفلوس اللي معايا تتصرف، عاوز أتلم وأتجوز بقى بعد إذنك، ممكن يعني؟.
أومأت له بخجلٍ وأخفضت رأسها تهرب من أسر عسليتيه لزرقاوتيها بينما هو فكان يشعر بمصالحة العالم معه هي بعدما أخيرًا وجد أحلامه فيها هي، فبالرغم من بعدها عنه فهي أيضًا كانت قريبة من القلب بشكلٍ ملحوظٍ كمن يقف على قمة جبلٍ وكلما فرد كفيه وجد نفسه يحتضن القمر ويلتقط النجوم في رحاب كفيه، وهي تمثل الحالتين على حد السواء وبقدر البُعد كانت أقرب من كل قريبٍ..
دقائق مرت من بعد تناول الطعام ليعلو الصوت أكثر وترتفع نغمات الضحكات العالية الرنانة وسط دفء العائلة التي تضم المرء وتدنو به من السلام بدلًا من وجع الحروب وقد بدأت مشاكسة كلًا من “أيـوب” و “يـوسف” لبعضهما حينما ركضا خلف بعضهما يتشاجران على شطيرة كانت هي الأخيرة في منتصف الصحن وقد كانت من نصيب “أيـوب” الذي توقف عن الركض ثم قام بشطرها لنصفين وأعطى لـ “يـوسف” واحدًا منهما وقال بهدوءٍ:
_مش هيجيلي نفس آكلها من غيرك.
ضحك له “يـوسف” ثم أخذها منه وقال بنفس ذات الطريقة:
_بألف هنا وشفا على قلبك، دا أنا أزودهالك.
أنهى جملته ثم أكل من نصف الشطيرة حتى أنهاها بداخل فمه مما جعل البقية يضحكون عليهم بصوت ضحكاتٍ رنانة وسعيدة كانت دافئة ودفئها يتوغل للقلوب فيُخمد صقيعها للأبد..
في الأسفل كان “نـادر” يتجول في الحارة كي يجلب بعض المُشتريات لشقتهم ولحسن حظه تقابل مع “حـنين” التي ابتسمت له في محل الخضروات وسألته بثباتٍ تواري خلفه لهفتها برؤيته:
_معقولة سيادة القبطان بنفسه واقف يجيب خضار؟.
انتبه لها فابتسم بحنوٍ بعض الشيء وكأنه يسعد من مجرد لقاءٍ عابرٍ بين المُقل ثم جاوبها بقلة حيلة:
_أهو هعمل إيه يعني، قولت بدل ما ماما تنزل أنزل أنا أحسن وأجيب ليها اللي هي عاوزاه، سيادة القبطان خلاص راحت عليه أوي وبقى أقل من العادي كمان يا “حنين” بس الحمدلله على كل حال برضه، أنتِ مش عندك شغل النهاردة؟.
حركت رأسها نفيًا ثم قالت بنبرةٍ ضاحكة:
_كان فيه مشروع عريس جايلي بس اعتذر علشان سافر شغل ضروري فقولت أنزل أجيب حاجات للبيت أحسن بدل القعدة وبدل ما أقعد أسمعلي كلمتين من ماما يحرقوا دمي ويخلوني أحس بالذنب، وبصراحة أنا خلاص معنديش طاقة لأي حاجة تاني.
لا يعلم لما شعر من حديثها أن الأمر أمسى غريبًا عليه، شعور غريب اجتاحه وهو يقف أمامها ويستمع لخبر خطبتها من جديد خاصةً حينما توطدت علاقته بها خلال الشهر الفائت بالأخص منذ تلك اللحظة التي عاون فبها شقيقها ووفر له سُبل العمل، حينها سألها باقتضابٍ خرج منه رغمًا عنه:
_طب وأنتِ موافقة تتخطبي تاني؟.
حركت كتفيها وهي تقول بلامبالاةٍ حقيقية كأنها حقًا لا تكترث بالأمر وما فيه أو هكذا أصبح حالها:
_صدقني مبقاش عندي طاقة لأي حاجة والله، بقيت بتفرج من بعيد كأن الأيام دي متخصنيش أصلًا، لو ليا نصيب في الحاجة يبقى أهلًا وسهلًا بيها، ماليش ومش بتاعتي يبقى خلاص مش هعلق نفسي بيها، مبقاش فيه حاجة فارقة ليا غير يدوب شوية راحة ويوم يعدي بسلام من غير مشاكل مع حد ولا خلافات ولا حتى أكون عداوات، يومي بقى بادر زيي.
كانت تتحدث وكأنها إمرأة في العقد الخامس من عمرها وشافت على إتمام العام الستين وفقدت الشغف تجاه الحياة، كان يعلم حقيقة مشاعرها ويفهم ويدرك ما تُعانيه فتنهد بقوةٍ ثم أغصب شفتيه على بسمةٍ هادئة وهو يقول:
_لسه العمر قصادك طويل ولسه أيامك جاية عيشيها، أي فرصة تجيلك تخليكِ تعيشي الحياة وتشوفي الحلو اللي فيها متديهاش ضهرك، وكل ما تيأسي خليكِ فاكرة إن ساعات البدايات الجديدة بتكون أحسن مليون من النهاية اللي وقعنا بعدها ومقمناش تاني.
استمعت لنصيحته كاملةً ثم سحبت نفسًا عميقًا تدخل الهواء عنوةً داخل رئتيها ثم قالت بأسفٍ وندمٍ على حالها وحال الكثيرات مثلها بذات الظروف القاسية:
_المشكلة بجد إن كل اللي بييجي بييجي علشان أنا واحدة ليها ظروف خاصة بيها ومن المفروض أقبل بأي وضع علشان ليا تجربة قبل كدا، كأني فرز تاني بالظبط علشان كدا مش حاطة أمل في حاجة غير هما كام يوم عاوزاهم هاديين يعدوا عليا بخير وسلام علشان اللي فاضل أصلًا مش حمل كركبة تانية، معلش كلت دماغك، عن إذنك.
تركته وتحركت من أمامه بعدما فاضت بالكثير من الحديث، بينما هو شعر نحوها بمشاعر أخرى تُخالف وتُغاير تلك الصورة التي يضعها بها منذ أن عرفها حيث يراها في صورة بدأ القلب يساورها بإطارٍ من المؤكد سيكون مميزًا فقط لأجلها هي..
أما هي فما إن تركته وقفت تلتقط أنفاسها المهدورة أمامه بعدما تفاقمت فيها المشاعر لديه وشعرت أن الأمر أخذ يزداد في الخطورة، فهي أصبحت تسعد ما إن تراه، تطمئن لمجرد الحديث معه، تتمنى الزمن يتوقف وهي أمامه، تشعر معه أن الركض أخيرًا أنتهى ووصلت لمنتطقتها ما إن تلمحه حتى ولو بمحض صدفةٍ عابرة وهي تعود من عملها، تشعر كأن الحياة تحتاج للمزيد من الفرص، وياليتها لو تحظى هي بفرصةٍ معه هو…
عاد “نـادر” لبيته بعدما جلب الطلبات ثم ولج وجاور أمه وجلس بجانبها فخرجت لهما “مادلين” التي كانت تتناول كعكعًا من صنع يد “فـاتن” وقد جلست بجوار “نـادر” الذي خرج من شروده وسألهما باهتمامٍ لحصوله على الجواب:
_قولولي هو أنا عادي لو أديت نفسي فرصة تانية وأقرر أفتح قلبي وأتجوز من تاني؟.
تبادلت النظرات بين الإمرأتين بانشداهٍ وقد فرغ فاه “فـاتن” و كذلك فعلت الأخرى فأضاف هو مُفسرًا كلماته بقوله:
_أقصد يعني لو أنا بفكر موقفش حياتي عند اللي حصل فيا وأحاول من تاني يمكن القصة الجديدة تكون أحسن مليون مرة من اللي فاتت، بصوا أنا مش واثق أوي في الخطوة، بس حاسسها.
هنا تدخلت “فـاتن” تحذره بقولها حينما لمحت الشغف في عينيه اللامعتين بهذا الضوء المتوهج:
_أوعى تقولي “نورهان” بنت عم “شهد”.
دار بعينيه ثم حمحم بخشونةٍ وسكت عن الكلام فوجد “مادلين” تتدخل وهي تخبره بحكمة عقلٍ:
_بص نصيحة مني بلاش، بأي شكل من الأشكال مستحيل علاقة زي دي تكمل بعد كل اللي حصل دا، غير كدا دي مش ناضجة ولا مسئولة عن حياتها ولا تصرفاتها، فلو ناوي فعلًا تفتح الموضوع تاني وتدي نفسك فرصة، يبقى مع حد يعوضك عن اللي فات.
سحب نفسًا عميقًا يدخل الهواء لصدره ثم قال بثباتٍ:
_لأ هي مش “نـورهان” لأن مش حاسس بحاجة ناحيتها، هي واحدة تانية بس لسه متأكدتش من الخطوة، لما اتأكد منها هعرفكم، بس أنا أكيد مش هقفل على نفسي أكتر من كدا، كفاية اللي حصلي واللي خسرته، صح ولا كلامي غلط؟.
أومأت له كلتاهما بينما هو فتحرك نحو الشرفة يقف بها ويُطالع السماء كي يبحث فيها عن المُتسع من وسط هذا الضيق الذي يسكنه وقد تكررت صورتها أمامه مُجددًا بعد مرور شهرٍ تحاوطه بطيفها في كل فعلٍ يصدر منها، لتوهِ تذكر عودتها من العمل وهي تمر على شقيقها تطمئن عليه ثم تتحرك نحو البيت بعدما توزعه ببسمةٍ هادئة ثم ترحل بصمتٍ..
ابتسم ثم تنهد بقوةٍ ومسح وجهه بكلا كفيه وعاد يطالع السماء ثم نطق بصوتٍ مسموعٍ يتضرع لخالقه أن تكون هي البداية الجديدة للحياة الصحيحة عوضًا عن تلك السابقة التي خسر فيها كل شيءٍ حتى نفسه:
_يا رب لو هي من نصيبي، سهلي طريقي ليها..
وهكذا اختتم الحديث الدائر بين قلبه وعقله وترك الميزان كي يربح بالكفة الممتلئة ولا يعلم هو أي الكفتين ستربح خاصةً حينما يأخذ الأمر طور الجدية، لكنه يأمل في رحمة الخالق الذي كتب له العديد من الفرص وياليت فرصته الجديدة تكون معها هي…
____________________________________
<“هذا الخيار الذي نظنه النجاة، كان هو الهلاك بذاته”>
فكرة؛ الأمر مجرد فكرة تساور حدود العقل..
ثم تتوغل وتنتشر فتبث الخوف في سائر الجسد ومن قبل الكل يشعر بذلك القلب، فهل حسبت الأمر يومًا وفكرت في تلك الاختيارات التي تظنها نجاةً لكَ ثم تتفاجيء بها وهي هلاكك الوحيد؟ إذا لم تفعل فدع لعقلك فرصة التفكير كي تلمح الجانب السيء من خيارك…
اليوم بالرغم أنه المفضل لديها إلا أن تواجده في حياتها وتطفله على أيام عمرها جعل كل شيءٍ ثقيلًا على النفسِ بشكلٍ لا يُحتمل، أصبحت ثقيلة على نفسها قبل الآخرين وهي المنهزمة في حربٍ شُنت ضدها كي تصبح هي الخاسرة الوحيدة أمام الجميع، اليوم هي تغرق في عمق البحر ولم تجد من يمد كفه لها، ومنقذها الوحيد من بشاعة المشاعر أبعدته عنها الدنيا بأكملها حتى خمدت عزيمته في التمسك بها ويبدو أنه تركها تعاني مصيرها وحدها..
خرجت “جـنة” من غرفتها تمر في صالة الشقة فلمحتها أمها التي استصعبت أمرها وشعرت بإنطفاء وهجها وقبل أن تتحدث أتى “بهجت” يطلب من زوجته بهدوءٍ وهو يعلم أن ابنته انقطعت عن الحديث معه:
_”مهند” هييجي النهاردة وعاوز يحدد معاد الفرح، أنا قولت أعرفكم علشان متتفاجئوش بكلامه لما ييجي وياريت الآنسة المحترمة اللي عارفة كلام ربنا ترد عليا، أظن يعني حرام بنت تقاطع أبوها، هو دا اللي عرفاه من كلام ربنا وقربك منه؟.
حينها التفتت له بحدةٍ ثم قالت بجمودٍ وهي ترشقه بنظرات حادة رغم إنكسار العين وارتجافة النبرة واهتزاز الصوت:
_عاوزني أعمل إيه يعني؟ أنتَ أول حد كان السبب إنه يخوض في سمعتي وشرفي، عارف ليه؟ علشان سكاتك لابن أخوك خلاك تضيع حق بنتك وهي بتتداس قصاد عينك وبيجوا على سمعتها وشرفها، بدل ما تخلي “وائل” دا يحط لسانه جوة بوقه، أنا مش هقدر أصفالك للأسف..
تهدج صوته وهي تُحدثه وبكت أمامه بانكسارٍ وقبل أن تساوره الشفقة نحوها وقد كان قاب قوسين أو أدنى من هذا الفعل؛ لكنه تراجع مُسرعًا وهتف بصلدةٍ تعمدها كي لا يتقهقر أمام دمعاتها:
_وأنا مش هقبل إن بنتي الوحيدة يوم ما ربنا يكرمها وتتجوز تقع في واحد بتاع كباريهات وصايع، دا بس مبهور بيكِ مش أكتر وأول ما يضمنك ليه مع أول خناقة ليكم هيروح كباريه ويقضي ليلته في حضن الرقاصين وأزايز الخمرة، بقى بترفضي الشيخ اللي عارف ربنا علشان خاطر دا؟.
في تلك اللحظة وحينما اختصه بالحديث وجدت نفسها تندفع لأجله وتثور وهي تُناضل أمام والدها بقولها الحاد:
_وهو كل حد مربي دقنه يبقى شيخ خلاص؟ بعدين هو تاب وإحنا مش من حقنا نتكلم عن ماضيه طالما دي حاجة بينه وبين ربنا، مش هنعاير الناس بماضيها لمجرد إننا معملناش الغلط دا، إحنا بس مستورين مش أكتر وربنا لو كشف ستره علينا كلنا شكلنا هيكون وحش، وآخر مرة نجيب سيرة ماضي “مُـحي” هنا، طالما هو مش هنا يبقى محدش ليه دعوة بيه أو بغيره، دعوا الخلق للخالق..
أنهت الحديث الذي كان بمقام درسٍ لوالدها ثم تحركت نحو غرفتها وهي تبكي لأجل ذاك الحبيب الذي تفرق عنها قبل حتى أن يجتمع بها، ولجت غرفتها ومنها نحو الشرفة تبحث عنه فلم تجده، فعادت تجلس فوق الفراش وهي تتذكر مقابلتها مع ذاك المدعي الذي تمت خطبتها له ولاحظت الكثير من التناقضات في شخصه، فهو حتى لم يُمثل ولو مقدار الكسور العشرية بشخصية “أيـوب” وإنما هو نسخة غريبة لصورة الرجل الملتزم تراها للمرة الأولى في حياتها..
ترك والدها الشقة وبعد مرور دقائق دخلت لها أمها ثم جلست بجوارها وهي تقول بنبرةٍ هادئة كي تواسيها وتسترضيها:
_دي حاجة مش جديدة على أبوكِ يا “جـنة” هو طول عمره كدا، بيقلب بسرعة وودنه في بوق الكل ياخد منهم الكلام وبس، وعيلته الله يهدهم عالم زبالة ميتقلعوش من الرجل، يكرهوا الخير للناس زي عينيهم، أوعي تكوني فاكرة إنهم رافضين “مُـحي” علشان كلامهم عن حياته وماضيه والهبل دا، هما بس مستخسرينه فيكِ، مش عاوزينك تاخدي واحد زي دا، عاوزينك تاخدي واحد على قد حاله ويتعبك في عيشتك علشان متبقيش أحسن من أي بنت تانية في العيلة، أنا معاشراهم وعارفة طبعهم، بالله عليكِ متزعليش نفسك.
بكت “جـنة” أمامها وطالعتها بخضراوتيها الذابلتين من فرط البكاء وحينها لمحت أمها القهر في عينيها فتحركت نحو الشرفة وفي يدها هاتفها، وبعدما غابت لمدة ثوانٍ عادت تجاورها ثم مدت يدها لها بالهاتف وهي توميء لها بتأكيدٍ فالتقطت منها الهاتف بكفٍ مرتجفٍ وهي تُنبس بترددٍ وقد توقعت أن المتحدث هي خالتها، لكن صوته فاجئها حينما قال بثباتٍ كاذبٍ:
_إزيك يا مشقياني، بصي من غير زعل أنا خدت رقم مامتك علشان أكلمك من غير مشاكل ودي آخر مرة هكلمك فيها، بس أنا لسه عند رأيي وموقفي ومش هسيبك لغيري، هبقى مجنون لو عملت كدا بعدما لقيتك وربنا جعلك سبب علشان ألحق نفسي قبل ما أخسر الدنيا والآخرة يا “جـنة”، عاوز أكسب الاتنين بس وأنتِ معايا، معلش استحملي بس لحد ما ربنا يكرم، بس أنتِ ليا مش لغيري، حتى “وائـل” ابن عمك دا ليه روقة عندي بس قبل أي حاجة مش هغامر بسمعتك، ماشي يا “جـنة”؟.
أدمعت عيناها من جديد وطالعت أمها التي حركت رأسها موافقةً ثم تحركت نحو الشرفة فوجدته يقف عند باب عمله وما إن طلت عليه ابتسم لها فابتسمت هي بالفطرة رغم بكاء عينيها، وحينها مازحها بقوله:
_طب بالله عليكِ دي عيون ينفع تعيط؟ دول جايبيني على جدور رقبتي من أول مرة شوفتهم فيها، أمسحي دموعك وادعي ربنا يوصلني ليكِ بأسرع وقت، وآسف إني صممت أكلمك بس أتمنى تقدري موقفي، أتفقنا؟.
وفي هاته اللحظة جل ما استطاعت أن تتفوه كانت جملة واحدة فقط بعدما عادت تبتسم له من شُرفتها:
_اتفقنا يا “مُـحي”.
وتلك هي مرتها الأولى في نطق اسمه مُجردًا من الألقاب وكأنها حقًا أبعدت المسافات عنهما وبدأت في السير داخل تلك الحلقة الجديدة عليها خاصةً حينما أغلق الهاتف وولج عمله من جديد، بينما هي ولجت تقف أمام أمها التي ضمتها لها ما إن رأت بسمتها ثم قالت بحنوٍ بالغ الأثر:
_ما عاش ولا كان اللي يزعلك يا حبيبة ماما، أنا موجودة معاكِ أهو وهفضل معاكِ لحد ما ترجعي تاني تضحكي ووشك ينور زي الأول، دا عينه رمادي يا بت، خسارة والله يروح لحد تاني.
ضحكت “جـنة” في عناقها ثم رفعت رأسها تسألها بحبٍ حينما أدركت محاولة أمها في التخفيف عنها وتهوين أمرها العصيب:
_هو أنا قولتلك قبل كدا إني بحبك أوي؟.
_قولتيها بس أنا بحب أسمعها منك أوي.
هكذا أخبرتها أمها فيما أومأت هي لأمها التي مسحت فوق رأسها ولثمت جبينها وهي تقسم أنها لن ترضخ لما يفعل زوجها، لن تقبل بتلك الصورة السلبية التي وضعت هي داخل إطارها وإنما ستحارب وتحاول لأجل صغيرتها، تمامًا كما تفعل القطة لحماية هرتها من صد الهجمات التي تقترب منها كي تسحبها لساحة القتال..
____________________________________
<“ولأنك لا تعلم ماذا يفعلون لن تتخيل ما يفعلون”>
الخديعة…
تلك التي تكمن بين نصرٍ وهزيمةٍ ويتلخص فيها الأمر أنه تم بالخديعة وليس إلا، فما بين هزيمة الأمسِ ونصر الغدِ تكمن اليوم الخديعة في مكمنها وتُدرس كي تقوم بدورها في سلب النصر من بين يدي مالكه، وفي تحويل الهزيمة إلى نصرٍ، فلا أحد يقفز من سفح هرمٍ إلى قمته إلا لو كانت الخديعة هي التي ترتكن في حنايا الأمر كي تفعلها..
في هذا المنزل سنجد بدلًا من القصة الواحدة العديد والعديد، وذلك لأن البيت ذاته بنى على أساس التنوع أو ربما لأن التنوع هو أسمى السمات المتواجدة في جنس بني آدم، فهنا وسط الكثيرين كان “نَـعيم” يجلس وسط خيوله يطمئن عليهم بنفسه ثم يحييهم كما يفعل دومًا وهم يردون التحية بصهللةٍ منهم ورفعة رأسٍ كما عودهم هو على العزةِ ورفعة الرأس..
بينما في الداخل فكان “تَـيام” يبحث عن والده كي يخبره عن ذهابه للحارة في أمرٍ يخص العمل وحينها قابلته “آيات” التي أوقفته وهي تبتسم له ثم أخبرته بنبرةٍ خافتة:
_فيه مشوار ضروري محتاجاك معايا فيه بس بليل، ممكن تيجي معايا؟.
عقد حاجبيه وهو يطالعها بعجبٍ فوجدها توميء له ثم أضافت بوجهٍ متوردٍ وهي تُجاهد كي تتحكم في سطوة حماسها:
_صدقني حاجة أكيد هتفرحنا مع بعض، بس أنا عاوزاك تكون معايا علشان نفرح مع بعض وبتمنى ربنا يكملها على خير ويطلع بجد، مع إني حساها أوي وشبه متأكدة منها.
حينها أيقن هو مقصدها من الحديث فتوسعت رماديتاه بغير تصديقٍ وفرغ فاهه بذهولٍ وهو يضحك لها بسعادةٍ ثم ضمها له يمسح فوق ظهرها وقال بحماسٍ طاغٍ:
_وآجي معاكِ لآخر الدنيا كلها كمان، يا رب تبقى بجد وأفرح بولادي منك أنتِ، بجد أنتِ حاسة طيب إنك حامل؟ أوعي تعشميني على الفاضي؟.
ضحكت له ثم ربتت فوق كتفه وهي تقول بحماسٍ انتقل لها منه هو ومن مجرد الحديث معه:
_خلي أملك في ربنا سبحانه وتعالى كبير.
_ونعم بالله، ربنا يكرمنا بالذرية الصالحة أنا وأنتِ.
هكذا رد عليها قبل أن يعاود ضمها من جديد ويحفظها بين ذراعيه وقلبه يردد بكل أملٍ أن يتحقق المُراد ويحمل ذريته منها هي، على الرغم من قصر مدة زواجهما التي لم تتخط الأربعة أشهر إلا أن مجرد الفكرة في مجملها جعل خيوط الأحلام تتشابك وتتضافر مع بعضها كي تكون الحلم المطلوب في نهاية الأمر..
في شقة “إيـهاب” كان هذا اليوم هو هدنته من بعد أسبوعٍ مر عليه في العمل الشاق والذهاب والإياب بين العديد من المحافظات وقد ترك اليوم بأكمله لابنته وزوجته بعدما تركهما لمدة أسبوعٍ يراهما فقط قبل النوم بلحظاتٍ عابرة، أما اليوم فهو يجلس ومدللته الصغيرة بين ذراعيه تتسطح فوق بطنها وفي فمها تلك القطعة البلاستيكية، وقد ظل يراقبها بتمعنٍ حتى تواصلت المُقل ببعضها فشعر بعينيها تبتسمان له وحينها شدد العناق كي تأمن بين ذراعيه..
أتت “سمارة” بالقهوة له وضحكت وهي تراه مندمجًا مع الصغيرة التي يبدو أن راحتها تواجدت بين ذراعيه بعد وصلة بكاءٍ دامت لما يقارب ساعتين وهو وحده من يملك مفاتيح صمتها، وما إن لمحتها الصغيرة انتبهت لها وحاولت أن تقفز إليها فحملتها “سمارة” وهي تقول بدلالٍ طفولي كي يصل للصغيرة:
_يا روح قلب ماما يا ناس، يا حبيبة قلب ماما وعقل ماما يا ناس، إيه الحلاوة دي يا مقطقط، يخربيت حلاوة أبوكِ تتاكلي أنتِ وهو أكل كدا، بحبك، أنا بموت فيكِ.
ظل يراقبها مبتسمًا ثم تحرك ولثم جبين زوجته ثم فعل المثل مع ابنته وطالع الغروب من شرفة الشقة ثم قال بثباتٍ:
_هروح أشوف الواد “إسماعيل” عمل إيه مع العمال ونزلوا الحاجة ولا لأ لو اتأخرت متقلقيش ساعة بالكتير وراجع تاني بس هعدي على الحج.
أومأت له بوجهٍ مبتسمٍ ثم عدلت وضع صغيرتها فوق ذراعها تربت فوق ظهرها وقد تحرك هو نحو الطابق الموالي لطابق سكنه ثم بحث عن شقيقه فلم يجد إلا باب الشقة مفتوحًا حتى نهايته وكذلك الأضواء فظل يناديه ويكرر النداء لكن بلا جدوى، حينها ظل يغمغم بغير رضاءٍ عن إهماله ثم التقط المفاتيح من جوار الباب وأغلق الشقة ونزل منها يبحث عن شقيقه في الأسفل..
نزل وتقابل مع “ميكي” فسأله باهتمامٍ:
_هما الرجالة عند “إسماعيل خلصوا وحملوا مكان التكسير؟.
جاوبه الآخر بيقينٍ لا يقبل بشكٍ:
_آه يا عمهم بقالهم ييجي ساعة كدا والعربية اتحركت بالحاجة كمان من بدري، فيه حاجة ولا إيه؟.
بغير شيءٍ ساورته الريبة وسقط قلبه من موضعه وسأله من جديد بثباتٍ واهٍ وهو يحاول التمسك بالظن الخير قبل أن يفترض السيء أو الأسوأ:
_طب ماشوفتش “إسماعيل” طيب؟.
_لأ يا عمهم والله، دا من بدري مش باين، آخر حاجة خلاني أجيب شاي وأكل للرجالة ومن ساعتها مظهرش حتى لما طلعت لقيت الرجالة بتخلص وبيغيروا هدومهم والعربية كانت حملت الرطش ومشيت، خير ما تقولي حصل إيه؟.
حينها انتفض قلبه بانتفاضة ثائرٍ وهدر بخوفٍ حقيقي:
_أقلبلي البيت بكل الرجالة على “إسماعيل” وشوفوه فين، بسرعة ومحدش فيكم يسيب شبر من غير ما يدور، سامعني يا “ميكي” تقلبوا البيت كله..
بعد حديثه وإلقاء الأمر بدأ العمل من الجميع وكلهم يركضون ويبحثون عن الشقيق الغائب ونفسها النتيجة لم يتم العثور عليه، ولج في تلك اللحظة “مُـنذر” ولاحظ انقلاب البيت فسأل أحد الشباب الذي أخبره عن غياب “إسماعيل” وبحثهم عنه لما يُقارب الساعة، وقد خرج “إيـهاب” مثل الأسد الجريح يثور في وجه كل من يقابله ويخبره عن فشله في إيجاد شقيقه وأمله الأخير تبدد في ظهور “مُـنذر” الذي أنكر رؤيته وفي تلك اللحظة تيقن أن السيء حدث وسوف يلاحقه الأسوأ…
في داخل سيارة دفع رباعي، تم وضع “إسماعيل” الغائب عن الوعي من قبل الرجال الذين أختطفوه من شقته ووضعوه وسط بقايا مواد البناء المهدوم، وقد جلس قائد السيارة بجوار الآخر الذي ابتسم بظفرٍ ما إن لمح كنزه الثمين بداخل السيارة ثم أنصت لسؤال السائق الذي استفسر منه بقوله:
_على فين “ماكسيم” باشا؟.
توسعت بسمة “ماكسيم” ورفرف قلبه بانتصارٍ وهو يقول بولهٍ كي يطير فوق السحاب ويعانق النصر من بعد الهزائم المتعددة:
_أطلع على طريق الواحات..
الخديعة وبكل آسفٍ تنتصر..
والحياة ضوئها يخفت، والشر نجمه يسطع،
لا نحن استطعنا الحفاظ على ما فات، ولا نملك الجرأة
كي ندافع على من تبقى، اليوم تفتح صفحات التاريخ
وتُسطر الهزيمة وسط الانتصارات، وما بين هزيمة
الأمسِ، وانتصارات الغدِ كانت تكمن الخديعة وتستقر..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى