روايات

رواية غوثهم الفصل المائة وتسعة 109 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة وتسعة 109 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة وتسعة

رواية غوثهم البارت المائة وتسعة

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة وتسعة

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الرابع وعشرون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
أعلم إني عنك بعيد لكني والله أحبك
وحُبك في قلبي أقرب من الوريد..
فأنا العبد الضعيف وقد أكون عنك
أنا البعيد، لكن حبك يسكني وليس ببعيد..
فأعلم أني عاصيك والذنب أكبر مني
ورغم ذلك لم أبعد عنكَ وأكره الذنب البغيض..
عبدٌ ذليلٌ قصد بابك وأنتَ يا ربي الرحيم
فنفسي وأنا والهوىٰ أعدائي،
وشري ليس عني ببعيد..
_”غَـــوثْ”
__________________________________
تنوعت الفنون وأشدها سرقةً للإنتباهِ كانت عينيكِ،
حيثُ تلك التميمة التي تلاقفت الفؤاد بين جفونها تضمه وترعاه بسحرها، فأنا أعلم أنكِ لم تعرفينني قدر المعرفة فدعيني أتولى تلك المهمة وأخبرك من أنا..
لا أعلم إن كنتُ سلعةً أم مجرد شيءٍ ثمين لم يُحالفه الحظ، فأنا منذ أن ذاع خبر تواجدي فوق أرض الحياة حُكِمَ عليَّ بالموت وياليتني نِلته، لم أحب الحياة وهي لم تُحبني..
فالكره كان متبادلًا بيننا، وحتمًا ستسأليني لما أردتُ أحبها وأنا أكرهها وسأخبرك وقتها أن العشق هو ما يدفع المرء لفعل كل شيءٍ، نعم هو من يجعل من مات قلبه ينبض من جديد، لذا سأخبرك عن مقولة مآثورة قرأتها في الشعر الروماني، يُقال فيها أن “الحُب ضرب من الحرب”…
وهذه حقيقة لا شك فيها، فالحب لا يحتاج سوى الشُجعان،
ولا يهرب منه إلا الجبان، وأنا لم أكن بجبانٍ بقدر ما أنا أجهل العلم بحروب الحُب، لكن الحق يُقال أن عيناكِ وما بها من فتنةٍ تُحارب لأجلها البُلدان، ويُقتل فداها الشُجعان، وأنا وقلبي نترك أماننا وأمننا وننزل المعركةِ في الميدان، فإذا كنتُ أنا الفارس المقدام، كوني لي سبايا الحرب في كل زمان..
<“الشر أحد طُرق الموت، فقاتله بكل ضراوةٍ”>
لن يُقتل المرء ولا يتألم لنفسهِ،
بقدر ما ينخر الألم في قلبه عندما يختص الأمر بأحبتهِ، فَرُبما نتجاوز ما يُصيبنا، لكن نعجز عن استيعاب ما يُصيب أحبتنا، فالأمر يُشبه سياسية الجزء بالكل، حيث الكل الكبير يتألم إذا تأذى الجزء الصغير منه، وقد أنقلب البيت في حارة “العطار” رأسًا على عقبٍ من بعد وصولهم خبر اختطاف الصغير “إيـاد” ليخيم الحزن على البيت حتى جدرانه فقدت زهوتها، وألوانه تلاشت عنها لمعتها، والزهور أضحت في أوج ذبلَتُها، والأعين تبكي بمرارةٍ على فقد أعز أحبتها..
كان “أيـهم” يجلس في البيت يُناظر هاتفه بأعين تطلق الشررِ وهو يهز كلا قدميه بإنفعالٍ فقد مرت ساعة كاملة منذ أن رأى روحه مُكبلة في صورة ابنه، أراد أن يصرخ ويرفع صوته ويبكي، لكنه لا يُظهر ضعفه أبدًا، وقد مسح فوق وجهه وكلتا عينيه يحاول إخفاء العبرات التي تُعاندة لكي تُظهر نفسها أمامه، وقد وصله صوت طُرقات عالية فوق الباب تلاها دخول “نِـهال” بحالٍ أزاد ألمه وعمق جُرحه وهي تبحث عن ابنها صارخةً باسمه باكيةً وقد أغمض هو عينيه هربًا من الإنكسار المُحتم لشموخهِ..
كان “عبدالقادر” يقف وهو يُشبك كلا كفيه خلف ظهره بينما “آيـات” فكانت تجلس باكيةً وهي تتأهب لرؤية صغيرها من جديد وتردد بلسانها دعاء حفظه ورعايته وعودته سالمًا، أقتربت حينها “نِـهال” من زوجها تجلس على رُكبتيها أمامه وبكت عند قولها وهي تتوسله بقهرٍ أن يُكذب ما وصلها:
_علشان خاطري قول إن اللي شوفته دا كان كدب، قولي إن ابني هنا واللي شوفته مش حقيقة، علشان خاطري يا “أيـهم” هو راح فين طيب؟ مش علطول بييجي لوحده؟ إيه اللي حصل المرة دي، علشان خاطري ريحني، أبـوس إيدك..
بكت وأنتحبت ليقاطع البكاء حديثها وحينها وضع كفه فوق كفيها يضمهما بـه ثم هتف بثباتٍ تمنى أن يمتلكه حقًا:
_هيرجع، والله هيرجع ولو عاوزين رقبتي أنا مش هتأخر ثانية إني أرجعه، تفتكري أنا ممكن أسيب أبني؟ ماكنتش هقعد كدا أنفذ التعليمات وأتكتف بدل ما أخرج أحرق الدنيا على دماغ الكل، هرجعه وأعتبريه وعد.
صرخت بملء صوتها وكأنها أمه الحقيقية التي حملته ثم أرضعته ثم وضعته في مهده، وفي الحقيقة علاقتها به أعمق بكثيرٍ مما يُرىٰ، فهذا الكويكب الصغير وهبها الحياة وعلمها كيف يمكن للمرء أن يبدأ من جديد من بعد الفشل، أحتواها بذراعيه الصغيرين منذ أول لقاءٍ لهما حينما مسح عبراتها المُنسابة وأستمر طوال علاقته بها على هذا المنوال، حيثُ يمسح فوق فؤادها فيحول جروحها إلى عبير روحها، وقد مسح “أيـهم” فوق رأسها هو الآخر فوجدها تتمسك به وكأنها تتشبث بزورق النجاة من وسط عمق البحر، وتتلمس منه الأمان.
في الخارج بين أروقة الحارة..
أنقلبت الأمور وأضحت المنطقة خاضعة لسلطته وحده، حيث سيطر عليها من الأطراف حتى الأرجاء مرورًا بأوسطها وأعلن حالة الطواريء فيها، الأمر الذي أثار تعجب الناس من افتراش الحارة بالرجال والشباب والأقوياء بوجهٍ عام منهم، والجميع هنا يعلم أن الأمر لطالما يخص بيت “العطار” فعليهم الصمت والإلتزام، بينما “بـيشوي” فبعدما فعل كل ما فعله بالحارة لم يترك محيط الإختطاف وهو يقوم بالبحث والكشف في كاميرات المكان القريب من الطريق العمومي وبين الرفض والترحيب كان يتعامل هو، حتى رفض أحد مالكي المحال التجارية تفتيش مكانه خشيةً من إقتراب المشكلات منه لكن الآخر لم يضع في قاموسه هذا..
لذا قام بسحب الرجل من تلابيبه وقد خرج عن طور تعقله ليصبح آخرًا لم يعهد الآدمية وهتف بنظراتٍ عامية عن الرؤية:
_مش هحلف ومش هقل أدبي، بس لو محصلش اللي أنا عاوزه محلك دا لو شوفت منه كرتونة برة الشارع أنا هلبسهالك في وشك، بقولك يا عديم الدم عيل صغير مخطوف وأنتَ بحتة الكشك بتاعك دا مش عاوز تساعد؟ ترضاها لعيالك دي؟ أنــطق!!.
صرخ فيه وهو يهزه بإنفعالٍ وقد تدخل “تَـيام” بينهما يحول من المزيد وهتف يستجديه منفعلًا بقوله:
_مش وقته يا “بـيشوي” خلينا في المهم، وأنتَ ياعم الحج، بنقولك ابن أخونا مخطوف وعاوزين حاجة توصلنا ليه، دا عيل صغير هو أنا بقولك عيل سوابق؟ يا باشا أقولك؟ أنا هراضيك وهتاخد اللي عاوزه، بس خلينا نشوف الكاميرات عندك، وربنا أنا هراضيك.
تراجع الرجل عن موقفه الجبان وسمح لهما وقد زجره “بـيشوي” بعنفٍ ثم أقترب من الحاسوب يقوم باسترجاع المقاطع أمام المركز التعليمي حتى لاحظ وقوف “إيـاد” يبحث في هاتفه عن شيءٍ ما ومن ثم أقترب منه ثلاث رجال وفي لمح البصر وأقل من طرفة العين أتت سيارة لهما منزوعة الأرقام وتم فتحها وقد حمل أحدهم “إيـاد” لداخل السيارة قبل أن يُصدر أي رد فعل نظرًا لفارق القوة الجسدية بينه وبينهم، فهو بالكاد يصل إلى منتصف قدم أحدهم…
حينها نظرا لبعضهما البعض وخاصةً أن قانونيًا هذا المقطع لن يُعتد به ويعد باطلًا، فطريقة الحصول عليه غير مشروعة وطريقة الإبلاغ به تحتاج لكثيرٍ من الوقت، لذا قام “بيشوي” بتصوير المقطع من الشاشة ثم خرج من المكان وخلفه “تَـيام” الذي حاول أن يبحث عن حُجة قانونية قوية تسعفهم.
في وسط الحارة بقرب البيت..
كانت السيرة عالقةً بكل الألسن يرافقها الشفقة والخوف والقلق على صغيرٍ مثله، صغيرٌ لم يفعل أهل بيته أي شرٍ في حياتهم بل أفنوا نفسهم لخدمات كل المحتاجين دون كللٍ أو مللٍ أو حتى تخاذلٍ منهم، وفي المقهى الشعبي وسط المنطقة كانت المقهى بأكملها تتحدث وكأن الأمر أضحى مُثيرًا للجدلِ، وقد نزل “شُـكري” من بيتهِ يتوجه نحو المقهى قبل أن يبدأ روتينه المعتاد في الجلوس حتى نهاية ساعات اليوم..
وقد تتبع بعينيه حركة الشباب وتأمينهم للحارةِ فظل يحرك رأسه ويشرأب بها مُتتبعًا بعينيهِ ما يحدث حوله وقد تجاهل كل ذلك ثم رفع صوته يعطي طلباته للعامل بقولهِ:
_رصلي حجر شيشة يا بني، وواحد شاي على مياة بيضة، وأغسل الكوباية كويس بلاش نتانة وعفانة.
أقترب منه العامل يرمقه بيأسٍ يضع كوب الشاي ونرجيلة الفحم وهو يرمقه باستهانة وتقليل من شأنهِ وقبل أن يتحرك أمسكه من رسغه يسأله بسخريةٍ:
_بقولك إيه يا ريس، هي الحارة مالها الأمن فيها شادد حيله كدا والكل ماشي متكهرب، وعربية “بـيشوي” ماشية في وشها كأنها في حرب، المحافظ جاي يُطلب عروسة من هنا.
لوى الآخر فمه بتهكمٍ وهتف ساخرًا يجاوبه:
_ياعم “شُـكري” صباح الفل، الواد “إيـاد” حفيد “العطار” أتخطف الصبح والحارة كلها ملهاش سيرة غيره والدنيا مقلوبة.
كان الآخر رفع كوب الشاي يرتشف منه وما إن وصله الحديث بصق ما أبتلعه في الفراغ وصرخ بذهولٍ جليٍ في كل إنفعالاته:
_حــبـيب خـالو!! إزاي؟ ما أنا شايفه من يومين كويس.
يبدو حقًا أنه يحفظ ولم يعي بالفهم، بالطبع هو يغرق متنعمًا في الجهل دون أن يكترث بالمعرفةِ، وقد ترك المكان يهرول بعيدًا بفزعٍ فقد يبدو أنه أدرك لتوه حجم الكارثة التي حلت عليهم.
__________________________________
<“لكم الفعل، ولنا رد الفعل وإن كان هو تجاهلكم”>
بعض الناس في الأغلب لم ينعم عليهم الخالق بهبة الرحمة أو حتى إدراك قيمة لمشاعر الآخرين، حيث يصدرون تجاه الآخرين الفعل، ثم يُثار غضبهم عند رد الفعل، هؤلاء هم من ولدوا بطبعهم يحملون بين أوردة فؤادهم الأنانية، ويحبون أنفسهم حد التعظيم، فلذا لا تتوانى في رد الفعل إن كان صاحب الفعل ذاته يلعب في الحرب بغير نزاهة..
بداخل مشفى الأمراض العقلية..
كان “جواد” وصل المشفى بعدما طلبه أحد الأطباء وذهب هو مهرولًا إلى هُناك ثم رأى بأم عينيه ابن عمه ينزف الدماء وقد تولى هو مهمة علاجه وتمضيض جرح أنفه المتورمة وقد تأوه الآخر أثناء الفعل فهتف بنبرةٍ جامدة:
_لو فاكر إنك كدا بتسكتني يا “جـواد” تبقى غلطان، أنا هخرج من هنا وأعمل محضر للبلطجي دا، وربنا ما هسيب حقي لا منكم ولا منـه.
هدر بإنفعالٍ يخبرهم حديثه وقد راقبته “فُـلة” التي وقفت منزوية بجوار “مُـنذر” عن عيني الآخر فيما تولى شقيقها مُهمة الرد عليه بحديثٍ عاقلٍ مُرتب حيث هتف بعقلانية ورزانة بعدما عدل من وضع نظارته الطبية:
_أظن يا “هاني” أنتَ عارف إنك بتقول أي كلام لأنك في المُطلق شخص ضعيف ومهزوز، يعني عارف إن دخولك هنا غلط وكلامك معاها بالأسلوب دا غلط، وتعديك للحدود دي غلط، وأنا لو همجي كنت كسرتك تحت أيدي علشان فكرت بس ترفع صوتك على أختي، بس أنا هكتفي باللي دكتور “مُـنذر” عمله، ولو مش واخد بالك فهي بنت عمك يعني كان من باب أولى إنك أنتَ اللي تدافع عنها، بس أنتَ هتجيب النخوة منين؟.
أشتعلت نظرات الآخر غيظًا وحقدًا وهتف ساخرًا:
_طب ولما أنتَ راجل حقاني أوي كدا، واكل عليا الفلوس ليه يا دكتور؟ ١٠ مليون جنيه أختفوا زي الهوا ومحدش يعرف عنهم حاجة والمستشفى كلها رجعتلك، إيـه مخاوي سيادتك ولا مناسب الحكومة؟.
زفر الآخر مُطولًا ثم وقف يهتف بثباتٍ ردًا عليه:
_لو قصدك على الفلوس اللي أبوك كسبها وأستثمرها في البشر كأنهم بضايع فأنا الحقيقة معرفش عنها أي حاجة غير إني سلمتها للحكومة، وأهالي المرضى خدوها تعويضات عن اللي حصل، وفي المقابل صرفت زيهم علشان أطهر المكان من سيرة أبوك واللي عمله بعدما موت أبويا بالجلطة والقهرة، أبوك اللي كان بيصطاد الشباب والبنات ويرميهم هنا ويعمل ما بداله، يا أخي دا أنا لو منك أوطي راسي في الأرض إني أبن لواحد زي دا، ليك عين يا بجح؟ أمشي برة ومشوفش وشك تاني لو صدفة حتى، بــرة.
قام بطردهِ وتوبيخه فيما كان “مُـنذر” بداخل الشرفة الواسعة يستمع لكل الحديث الذي يدور بينهما وقد تعجب كثيرًا مما يَطل سمعه، فبعدما ظن أنه ترك القرية الظالم أهلها وأتى يتمتع هنا في رحاب الأمان، تفاجأ بنفس الظُلم هنا أيضًا وقد يبدو أنه أشد قسوةٍ، وقد نزلت عبرات “فُـلة” وهي تتذكر المآساة المارة عليهم وكيف تم نعتهم أنهم أبناء رجلٍ قاهرٍ لم يأبه بالبشر، وكيف حارب شقيقها وأتخذ من اسمه وصفًا يليق به حيث أضحى كما الجواد الحُر في الميدان دون الحاجةِ لفارسٍ يقوده..
وقد لاحظها “مُـنذر” فأدرك أنها رُبما تُعاني من ألمٍ في روحها سببته لها تلك السيرة وقد سحب المحارم الورقية يمد يده لها بها وهتف بثباتٍ:
_على ما أظن عياطك دلوقتي ملهوش فايدة، مش منطقى بعدما هزقتيه وعملتي كل دا جوة إنـك تعيطي كدا.
ضحكت رغمًا عنها ما إن أدركت المزاح في كلماتهِ وقد سحبت منه المحارم وهي تقول بغير اكتراثٍ بالآخر:
_أنا مش بعيط علشانه، هو حمار في ستين داهية، أنا بعيط علشان أفتكرت بابا ومرضه وإزاي أتحسر في آخر أيامه ومات مقهور على اسمه وسُمعته، عانى كتير أوي بسبب اللي المفروض إنـه أخوه، والغريب إنه بيطلب حق مش حقه أصلًا، ومستغل إننا مؤدبين ومش بتوع شوشرة وردح زيه، بس لو دي هي الطريقة يبقى ميزعلش من النهاية بقى لما يخسر كل حاجة عنده.
حرك رأسه مومئًا وقد طالته لمحة ارتيابٍ ضيق فيها جفونه وهو يقوم بالربط بين تجارة الأعضاء البشرية وبين المُتاجرة في الفتيات الصغيرات بداخل دور الأيتام، ثم المتاجرة بأطفال الشوارع المُشردين وكأن زمن الرِق عاد بأبشع صوره، فلم يكتفوا فقط بالمتاجرة فحسب، بل أضحت الأمور أكثر شراسةٍ يحاوطها غيام من غياهب الظلام، لنصبح في زمنٍ يتم التعامل مع البشر فيه كما لو كانوا مجرد سِلع زهيدة الأثمان، بالية القيمة، يبدو أننا أصبحنا في طور الهمجية والاستعباد من جديد ومن مات ولقى حتفه، من المؤكد كُتِبَت له النجاة من هذا العالم المدنس بقذارة النفوس البشرية…
__________________________________
<“لقد عانيت من ماضٍ يشبه ذلك، هل أضحى حاضري؟”>
رُبما أنا المُخطيء..
فحين أنا من حسبتها نيرانًا أنطفأت وولىٰ زمانُها لكنني لم أظنها خامدة فقط، فمع أول هبوبٍ للرياح نحوها تأججت من جديد وأمتدت نحو الخارج تحرق الأخضر بيابسه، فهذا العالم الغير خليق بتوددٍ ولا ينعم مع الرحمةِ بمؤاخاةٍ، هو ذاته من يعهد مع الشر مُصادقةٍ،
فلقد حاربت نفسي لأحظى بالسلم من المعاركِ كافة،
الآن أصبحت أبحث عن سبب إلحاقي بكل الخسائر..
كان “أيـوب” يقود سيارته على الطريق خلف الحافلة ومعه زوجته و “عـهد” كما أتى بهما إلى هُنا فيما ركب “يوسف” مع طاقم العمل إجبارًا له وليس طواعيةً منه كقوانين يتوجب عليه الإلتزام بها، وعند وصولهم نحو موقف الحافلات بمدينة “القاهرة” ركب “يـوسف” في الخلف بجوار زوجته وشقيقته فيما جلس “عُـدي” في الأمام بجوار “أيـوب” بعدما أطمئن على “رهـف” مع خالها الذي أتى بالسيارة ورحل بها..
وأثناء القيادة قد وصلت مكالمة هاتفية لرقم “أيـوب” مزودة بتقنية تبديل الأصوات ليصبح الصوت غلظًا:
_السلام عليكم يا شيخنا، أنا قولت بما إنك قربت توصل البيت أعرفك اللي فيها علشان متتفاجئش لما تروح، حبيب عمو هيبقى زي عمو، يا رب بس تلحقه.
تعجب “أيـوب” من الحديث والصوت وقد ساورته الشكوك وأمتدت أيادي الريبة تضيق عليه الخناق فأنتهت المكالمة بدون إطالةٍ وتبعها صورة مُرسلة له لابن شقيقه مُكبل الأيدي مُلقى فوق أرضٍ أسمنتية وقد أوقف السيارة فجأةً مما أدى إلى دفع الجميع للأمام فجأةً وقد سأله “عُـدي” بتعحبٍ وقلقٍ:
_حصل إيـه يا “أيـوب”؟ العربية فيها حاجة؟.
صمت عن الرد وهو يتنفس بحدةٍ أثناء مُطالعته للهاتف وقد وجد” يـوسف” يدفعه في كتفهِ يهزه لكي ينتبه لهم؛ فهتف هو بتيهٍ وغصة على الفور أحكمت الحصار في حلقهِ:
_”إيـاد” أتخطف، حد بتعلي صورته دلوقتي وقالي إنه أتخطف.
شهقة عالية صدرت من فم “قـمر” مع إنقباضة في قلب “عـهد” وقد هتف “يـوسف” بصوتٍ مُضطربٍ يُنبئه بما يتوجب عليهم فعله:
_يلا يا “أيـوب” على البيت، مش وقت صدمة وذهول، بسرعة خلينا نعرف إيـه الحكاية.
عاد الآخر بأدراجهِ إلى مرحلة الرُشدِ وقاد السيارة يشق بها الطريق شقًا نحو الوجهة المُرادة حيث بيته، وقد فقد حقًا صبره بأكملهِ، فبات وكأنما العقل عدوًا له حيث استخدم ضده سلاح الذاكرة يفتك به حيث ذكره بما مر عليه بأيام أختطافه، حيث الألم والخوف والوحدة والمصاعب والظلام والبرودة والقسوة، كل شيءٍ كان يطوله في مخدعه تيقن أنه سيطول روحه الثانية، وقد أقسم لنفسه أن الفجر لن يبزغ إلا بعودة ابن أخيه..
في حارة “العطار”…
وبالبيت تحديدًا كانت “نـهال” بين ذراعي “آيـات” تتمسك بها وكلتاهما تبكي بخوفٍ وقد وقف “أيـهم” يتحدث في الهاتف مع “تَـيام” الذي استمر في تمشيط الحارة مع الشباب من جهةٍ و “بـيشوي” من الجهة الأخرىٰ وقد أمرهما بعدم إبلاغ الشرطة أو تدخل أي فردٍ من أفرادها حسب الأوامر المُرسلة له وقد وصلته رسالة أخرى جعلته يفتحها على أوج سرعته ليرى ابنه بنفس الصورة التي تم إرسالها لـ “أيـوب”..
هُنا وفقط شعر بالعجز يتمكن منه وكأنه أضحى شيخًا أنحنى ظهره بقدر مرور سنوات عمره، طالته أيادي الخيبة وتشعب القهر في أوردته وهو يرى القطعة الأخرى منه فوق الأرض الأسمنتية مُكبل الأيدي، عاجز الحِراك، موصد العينين، صامت اللسان، بريء الهيئة، صورة مؤلمة لأي أبٍ في المُطلق، فما بال بهذا الذي يعتبر ابنه كل عالمه؟ مرت عيناه فوق الصورة وفَرَت دمعة من كلتا من المُقلتين يُصاحبها ألم الفؤاد الصارخ يشكو جُرحه ووجعه..
في مكانٍ آخرٍ نعم أهله براحة الجهالة..
حيث شقة والدة الطفل البيلوجية التي كانت تجلس فوق مخدعها تلوي كلا فخذيها للخلف وهي تمسك هاتفها وتلعب تلك اللعبة الإلكترونية الشبيهة بِغُرف المعرفة وهي تلوك علكة بداخل فمها ثم فتحت مُكبر الصوت وهتفت بحماسٍ:
_بت يا “سـوما” الواد بعتلي ماسة يا بت.
كانت تقصد بقولها تلك الهدية أو الرمز التعبيري بداخل اللُعبة وقد أهداها لها أحد اللاعبين في تلك الغرفة الإجتماعية لكونها ماهرة في اللعب معه بفريقه، ومن ثم كُلما نالت على المزيد من الهدايا بهذا القدر أمتلأت خزينتها بالعديد من الأموال الحقيقية، وهي!! هي حقًا أضحت ماهرة فيما تفعل حيث تُجني الكثير من الأموال في تلك اللعبة نظير حصولها على الهدايا واستثمار وقتها في اللعب..
وقد ولج شقيقها يلهث وهو يغلق باب الشقة وبحث عنها ليجدها تقول بزهوٍ في نفسها ومهاراتها النادرة:
_كدا بقى معايا قيمة ٤٠٠٠ جنيه خلال الأسبوع دا،
هستنى يزيده وأروح أصرفهم، جالك كام يا بت يا “سـوما” شكلك واخدة كتير دا أنا مبشوفكيش قافلة خالص؟.
بالطبع هي وأمثالها قليلين الوعي لم يدركوا أن هذه ماهي إلا مُقامرة صريحة لكنها مُزينة بصورةٍ أخرى حتى تجر أقدام أمثالها إلى هذه التطبيقات الفَجة المُحرمة، وقد أقترب منها شقيقها يسحبها من مرفقها وهو يهتف بتوبيخٍ:
_أنتِ يا بت مخك مش معاكِ خالص؟ أربعة وعشرين ساعة ماسكة المخروب دا ولا اللي كأنك مرات أبو هشيمة والبورصة هتقع منك، أبنك مخطوف ياختي والحارة تحت تُرشي فيها الملح مينزلش، وأنتِ قاعدة عاملة نفسك مديرة بنك الحظ؟.
توسعت عيناها وسقط الهاتف من يدها فور التقاط سمعها لحديث شقيقها وخاصةً ما يَخُص ابنها وقد صرخت هي بملء فاهها حتى استيقظت على إثر ذلك أمـها مفزوعةً وما هي إلا ثوانٍ توشحت فيها بعباءتها السوداء وخطفت غطاء رأسها وركضت نحو اللاشيء بغير هُدى..
وقد مرت دقائق تبعها طُرقاتها فوق باب البيت وهي تصرخ باسم طليقها وابنها حتى فتحت لها “وداد” التي رمقتها بسخطٍ فولجت هي مثل الإعصار تصرخ باسم ابنها وما إن رأت طليقها صرخت في وجهه عاليًا:
_هي دي الأمانة يا “أيـهم”؟ دا حفاظك على ابني اللي ما صدقت تاخده مني؟ ابني فين بدل ما أطلع على القسم وأعمل فيكم محضر أبهدلكم هناك، ابــني راح فــين؟..
صرخت بعبارتها الأخيرة بوجعٍ لا يعلم هو إن كان كاذبًا أم حقيقيًا، لكنه آثر تجاهلها حتى لا ينفس عن طاقة غضبه فيها هي وقد أنتبهت لها “نِـهال” بعينين متورمتين من كثرة البكاء فأقتربت الأخرى منها تمسكها من مرفقها وهي تقول بإتهامٍ صريح:
_وديتي ابني فين؟ رسمتي الدور عليهم وصدقوكي بس أنا لأ، عارفة اللي زيك كويس وعارفة إنك قولتي تخلصي منه، بس ورحمة أبويا ما هسيبك وهطلع روحك في أيدي.
كانت تحاول دفعها لكن “أيـهم” تدخل بينهما ودفعها بعيدًا عن زوجته التي بكت مُجددًا وتلك المرة بوجعٍ تفاقم بداخلها وهي تعلم ما ترمي إليه الأخرى بكلماتها، وهدر بنبرةٍ عالية يصرخ فيها:
_أقسملك بالله أنا لو سلمت نفسي لدماغي هخرج روحك في إيدي، دلوقتي بقى ليكِ ابن وجاية تسألي وتلومي وتعاتبي؟ ولا جاية تاخدي لقطة قدام الناس؟ أسمعي علشان مقلش أدبي وأنتِ عارفة إني بعك لما تقفل معايا، أحترمي نفسك وقدري إنك هنا غريبة وفي بيتها، فهمتي ولا أفهمك بطريقتي؟..
كان حديثه عاليًا يشق الصمت بحوائط البيت وقد أنكمشت في نفسها فهي تعلم جيدًا أن غضبه مثل البركان لذا بكت أمامهم وهي تراه يسحق كرامتها أمام الجميع وكأنه أخرج السكين من قلبه يطعنها في فؤادها، وقد لاحظت ضمه للأخرى يمسح فوق ظهرها وهي تبكي عاليًا لكنها لم تصدق ما تراه، فهل يُعقل أن زوجة الأب تبكي بتلك الطريقة لأجل ابن زوجها؟..
نُشِبت الغيرة فيها وقبل أن تفعل أي شيءٍ أقترب “عبدالقادر” يُحذرها برسالةٍ مُبطنة في الخفاء خلف كلماته:
_البيت بيتك يا بنتي، ودا ابنك وإحنا مش جبابرة علشان نمنعك من إنك تقعدي لحد ما تطمني على ابنك، بس مش هسمح ليكِ تتمادي في حق حد هنا، دا بيتها ومش من الأصول إنها تتهزأ فيه، أتفضلي أقعدي.
طالعه “أيـهم” بنظراتٍ نارية وكأنه يُعاتبه لكن الآخر يعلم كيف يقود الأمور في تلك الأجواء المتوترة وخاصةً حينما ولج ابنه الثاني وخلفه “يـوسف” وقد هتف الأول بلهفةٍ وخوفٍ:
_”إيـاد” فين يا بابا؟ أنتوا قاعدين هنا لسه؟.
كان يسألهم بضياعٍ وتشتتٍ والعبرات مُنحبسة داخل مُقلتيه وقد وقف أمامه “أيـهم” يهاتفه بضعفٍ وتوسلٍ وكأنه وجد غوثـه أخيرًا:
_مستنيك، أنا دلوقتي بس مش عاوز غيرك في ضهري علشان أرجع ابني، أنا مش هعرف أتصرف، أتصرف أنتَ.
كانت كلماته عاجزة تعبر عن لسان حاله الضائع، وقد تواصلت مُقلاتهما ببعضها ليقرأ هو الترجي والتوسل في نظرات شقيقه وقد أمسك كفه يضغط عليه بمؤازرةٍ خفية يهتف بثباتٍ:
_ابنك هو ابني أنا كمان، ووعد هيبات في حضنك الليلة دي وحضن أمـه، أدعيلي بس وصدقني أنا لا يمكن أتهاون في حاجة تخص “إيـاد” بس خلي أملك في ربنا كبير.
ناظره شقيقه بضياعٍ وقد ضمه “أيـوب” بحمايةٍ يمسح فوق ظهره ويبثه جزءًا من قوتهما الهاربة وقد وقف “يـوسف” هو الآخر بجوارهما وهتف بثباتٍ:
_أنتَ وأبوك وأخوك عمركم ما عملتوا حاجة وحشة لحد، يبقى أتطمن إن ربنا مبيضيعش تعب حد ولا خير حد عمله ولا حد بيتاخد بذنب حد، دي في البشر بس، إنما ربنا رحيم بعباده، أنا مع أخوك لحد ما ابنك يجيلك.
قطع عهدًا يعلم أنه سيلتزم به، يعرف أنه سيقوم بها وسيفعل كل شيءٍ لأجل الصغير وقبله لأجل رفيقه الذي فعل لأجله الكثير، وقد صدح صوت هاتف “أيـهم” بنفس الرقم الذي يراسله وقد فتح المكالمة ليصله نفس الصوت الغريب يهتف بقوله المستمتع:
_كدا أخوك وصل عندك أهو، ببساطة بقى علشان نخلص من الموضوع دا، ابنك في الحفظ والصون زي ما “نـادر” معاك برضه في الحفظ والصون، الفرق بس إن الدكتور والممرضين هيعترفوا إنك خطفت “نـادر” دا لو فكرت تقل بعقلك وتبلغ، الموضوع بسيط، سلم واستلم.
استمع “عبدالقادر” للحديث وكذلك البقية وقد تيقنوا من هوية الخاطف ومن ثم تدخل “أيـوب” متجاوزًا عن قصدٍ الجزء الخاص بإختطاف “نـادر” وهدر بصوتٍ أقرب للإنفعال:
_أنا معاك أهو، عاوز إيـه وأنا هعمله بس “إيـاد” يفضل بخير، صدقني أنا فيا جزء صعب حد يسيطر عليه، لو شعراية بس منه اتأذت أنا هقلب حياتك جحيم وهخليك تتمنى الرحمة ومتطولهاش، مش هنبلغ ولا حتى هنعارض بس أنتَ خليك قد كلمتك…
أُغلِقَ الهاتف في تلك اللحظة وقد ولج “بـيشوي” ومعه “إيـهاب” وفي مقدمتهما “نَـعيم” وابنه وقد هتف بلهفةٍ قلقة:
_حصل إيـه يا “عبدالقادر”؟ في جديد؟.
كان حينها “عبدالقادر” يُطالعه بإنكسارٍ ولم يتحدث بينما “أيـهم” فتولى المُهمة بدلًا عنه وتكلم ليخبره بما حدث وصدر من مكالمة الآخر وقد شرد “يـوسف” في ذكرى صباحية حدثت اليوم في الرواق بخارج غرفته وهو يهاتف زوجته بعدما أجمع حاجته ليجد عمه يتحدث مع “سـامي” بتعجبٍ:
_برضه مش عاوز ترجع معانا، هتستفاد إيه لوحدك هنا؟.
أصدر سؤاله باستياءٍ جعل الآخر يتصنع الثبات وهتف:
_مضغوط شوية يا “عـاصم” والجو هنا كويس علشان أرتاح شوية من ضغط الأعصاب خصوصًا لما أتطمنت على “نـادر” إنه بخير وكلمني، يومين بس أغير جو وهتلاقيني وراك علطول علشان نتابع الشغل، مش هوصيك.
أومأ له الآخر ثُم رحل من المكان يجر حقيبته بينما “يـوسف” فلم يكترث وإنما تجاهل الاثنين معًا عندما ردت زوجته عليه وقد عاد لحاضره من رحلة الشرود على صوت “نَـعيم” الذي أصدر فرمانًا لم يقبل الرفض، حيث كان أمرًا قاطعًا:
_”إيـهاب” تروح التجمع ومعاك “بيشوي” تاخدوا “نـادر” من هناك وتودوه لحد بيته وخلص الكلام على كدا، وقبلها يكلم أبوه خلينا نخلص من الجنان دا، طالما هو بياخد حقه من عيل صغير يبقى نعرفه إن الرجالة مبتاخدش حقها وهي خايفة زي العيال.
ظهر التبرم فوق ملامح الاثنين وقد هتف “إيـهاب” بقسوةٍ يرفض الانسياق خلف هذا الفعل:
_مش هينفع، إحنا كدا بنسمع كلامه وبنعمل اللي هو عاوزه، لو على ابننا هنجيبه من غير خوف، إنما منطاطيش راسنا لواحد زي دا، وبكدا هيشم نفسه أكتر.
أيده بالقول “بـيشوي” يوافقه في كل كلمةٍ بينما “عبدالقادر” هتف بنبرةٍ جامدة رسم فيها القوة والإصرار:
_الحج “نَـعيم” معاه حق، خلصونا من الحكاية دي، علشان ببساطة اللي مرحمش “أيـوب” وهو عيل صغير ضعيف المرض بينهش في جسمه مش هيرحم “إيـاد” وهو قوي وصالب طوله، أسمعوا الكلام يلا.
وقف “أيـوب” يشعر بالتصدع في روحه والألم في قلبه المكلوم، وقد خُيْلَ له ما يصير مع ابن شقيقه، وقد لاحظ أن الوقت يمر بمنافاةٍ لحالتيه، حيث يمر الوقت ببطء في غياب سر سعادة البيت فيما بدأ النهار يُظلم مما جعله يقع صريعًا في غياهب الذكريات المؤلمة، فهو أكثر الناس درايةً بالظلام هُناك، وأعلمهم بقدر الخوف المُتسلل للقلب، كما يعلم كيف تمتد أيادي القسوة وتُغلف الروح..
كل شيءٍ جعله يستمع لصوت صرخات الصغير المُستجدية، بينما فتمنى أن يُغمض عينيه عن الصورة المتقافزة لبصيرة عقله وعن الصوت المُتغلغل لأذنيه حيث الصغير وهو يبحث عن النجاة من بين براثن الوحوش وقد طالع الساعة في معصمه ليجد العصر شارف على القدوم فولج يتوضأ لعله يسترشد في نفسه بالهدى بدلًا من الغضب…
__________________________________
<“دعني أفصح لكَ عما في قلبي لكَ”>
العودة إلى المكان الذي تشعر تجاهه بالندم
هي أكثر العودات صعابًا فوق الأنفس، حيث يُصاب المرء بشللٍ من كثرة التفكير وكأن الأرض بكل همومها تجثو فوق صدره وقد عاد “مُـنذر” بعد نهاية دوامه إلى بيت عمه بعدما وعده أنه ريثما ينهي العمل سيعود إليه من جديد..
أوقف دراجته البُخارية تزامنًا مع وقوف سيارة “مُـحي” في مواجهته وقد نزل كلاهما من رُكابهِ يتواجهان بالعينين مع بعضهما حيث الندم من جهةٍ والإيلام والمُعاتبة من الجهة الأخرى في وضعٍ تبادلي حيث ما يأت من هنا، يتكرر من الجهة الأخرى، وقبل أن يتجاهله “مُـحي” أوقفه الآخر حينما أعترض طريقه يهتف بنزاعٍ قوي بينه وبين نفسه:
_أنا عاوز أكلمك ضروري، ممكن؟.
رفع “مُـحي” عينيه نحوه بعدما سلطهما فوق قبضة الآخر المُمسكة به ليجده زفر بقوةٍ كأنه يُبرمج نفسه للقادم بقوله:
_أنا غلطت يومها في حق نفسي قبل حقك أنتَ، علشان قولتلك حاجة مينفعش تتقال لأنها مش موجودة أصلًا، أنا مش بكرهك ومستجراش أكرهك حتى، أنا بس بخاف، بخاف عليك أو بخاف من حياتك، بس مش كره، لأ، أنا مبكرهش غيره هو وبس.
تعجب “مُـحي” من حديثه وأعطاه كامل تركيزه فوجد قبضته ترتخي فوق رسغه وهتف بضياعٍ أظهرته عيناه الخائنتين:
_أنا خايف ييجي يوم تغلط وتبقى نتيجة الغلطة دي “مُـنذر” تاني كل ما يفتكرك يدعي عليك، خايف تسيب نفسك للغلط وسكة الحريم دي وتبقى النتيجة إنك توطي راس أبوك في الأرض، أبوك اللي ميستاهلش إنك تخلي حد يبصله بصة مش كويسة، صدقني أنا لو فيه حاجة واحدة منعاني إني أفضل هنا، هي إن أبوك ميستاهلش واحد زيي يكون في بيته، بس أنا غلطت لما وجعتك، ممكن متزعلش ونبدأ من جديد؟.
على غير المعتاد أضحى هادئًا ولبقًا غير منفعلٍ، يتحدث بهدوءٍ وطلب بتهذبٍ وقد أثار كل ذلك تعجب “مُـحي” الذي قرر أن يصدق في الحديث بقولهِ الذي بدا متألمًا:
_عارف أنا ليه أتوجعت منك؟ علشان قبلها بكام يوم أنا كنت بفكر إزاي أخليك تحس إنك وسط أهلك رغم إنك عمرك ما حسستني بكدا، كنت بفكر إزاي أخليك تقضي وقت حلو معانا وتتعود علينا زي ما “تَـيام” أتـعود عليا، حسيت بالوجع منك علشان أنا عمري ما جربت إحساس العيلة والأخوات دا، وما صدقت لقيت أخويا ولقيتك، بس للآسف لقيتك بتوجعني كل ما عينك تيجي في عيني، صحيح كنت بكدب نفسي بس شوفتها زي ما سبق وشوفتها في عيون عمك، بس لو أنتَ بتكرهه قيراط، فأنا بكره اللي خلفك ٤٨ قيراط.
ضيق “مُـنذر” جفونه ورمقه بتحذير من التمادي خاصةً أن الجملة الأخيرة مُبطنة أو متوارية وقد تنهد بعمقٍ ثم سأله بإيجازٍ:
_يعني مش زعلان مني؟.
حرك “مُـحي” كتفيه بلامبالاةٍ جعلت الآخر يرفع أحد حاجبيه فأضاف من جديد بجديةٍ بالغة وصدقٍ:
_مش زعلان منك علشان عارف إنك لسه بتتعود علينا، ويمكن أنتَ موجوع أوي، بس على فكرة أنا قلبي طيب، علشان لو أنا وحش هخليك تمشي من هنا بعدما قليت مني، بس أمثالك محتاجين الشفقة وحد يمدلهم إيده، إيدك في أيدي وأخدك كباريه أخليك….
قبل أن يُكمل حديثه قام “مُـنذر” بالقبض على عنقهِ حتى تأوه الآخر ضاحكًا وهو يلوذ بنفسه من بين قبضة الآخر وهتف يوقفه بقوله:
_خلاص خلاص، بهزر ياض يخربيتك أبوك.
تركه “مُـنذر” أخيرًا وحانت منه ضحكة طفيفة ظهرت فوق شفتيه وقد أدرك لتوهِ أنه ربح أخًا ربما سيكون عونًا له وقد عانقه “مُـحي” بعناقٍ مُباغتٍ دافيء جعل الآخر يقشعر بدنيًا له ثم عانقه هو الآخر ليصله صوته يهتف بعاطفةٍ صادقة:
_أديني فرصة أثبتلك إني أخ كويس، لو مش مصدقني أسأل “تَـيام” وهو هيقولك، وبكرة بنفسك هتعرف إنك ليك أخ في ضهرك، كفاية إنك حاربت لحد ما جيبت “تَـيام” لينا من تاني، دي لوحدها دين في رقبتي أنا، أدينا فرصة بس.
مسح الآخر فوق ظهره وكأنه يخبره عن صدقه لما يتفوه عنه ثم ولج الاثنان معًا للبيت فوجدوه على غير المعتاد حيث كان هادئًا شبه مُظلمٍ وكانت “سـمارة” تجلس فوق الأريكة تُتابع التلفاز بتركيزٍ وقد صاح “مُـحي” عاليًا يلفت نظرها:
_السلام عليكم يا “سـمارة” فين أهل البيت؟.
وقفت أمامه تقوم بضبط حجاب رأسها وهتفت بشفقةٍ أوضحتها كلماتها وهي تُرشدهم إلى مكانهم:
_محدش هنا خالص، “سـراج” جه أخد “جـودي” من شوية و “إسماعيل” في الشغل، والحج و “إيـهاب” راحوا حارة العطار، بيقولوا يا حبة عيني “إيـاد” ابن أستاذ “أيـهم” أتخطف والحج جري على هناك دوغري، ربنا يرده لأهله سالم غانم وميوجعش قلب حد على ضناه.
أدهشت كليهما بالحديث وقد قرر “مُـنذر” أن يتوجه إلى هناك على الفور وقد ترك “مُـحي” في البيت تحسبًا لحدوث أي شيءٍ، فهو يملك دراية كافية في مثل تلك الأمور وعليه تحرك بدراجته البخارية يشق بها الطريق نحو حارة “العطار” فمن غيره يعلم مساويء الإختطاف وقوة الآخرين في السيطرة على البشر خاصةً الضعفاء مثل الصغار.
__________________________________
<“مرة واحدة فقط تتيح لك الفرصة لكي تصبح إنسانًا”>
في منطقة التجمع الخامس..
وصل الاثنان سويًا للشقة التي يقطن بها “نـادر” وقد كانت أعصابهما تَلفت تمامًا، حيث أضحى شاغلهم الأكبر هو الصغير وعودته وخاصةً مع إنقضاء معظم النهار وقد رفض “نـادر” رفضًا قاطعًا أن يرحل وهتف بحدةٍ فيهما:
_مش هامشي من هنا ولازم أعرف فيه إيه؟ شكلكم مش طبيعي وباين إن فيه حاجة، يبقى على الأقل تفهموني.
كان “إيـهاب” يحاول أن يتمسك بحبال الهدوء متسلقًا عليها فيما كان “بـيشوي” على النقيض تمامًا حيث هتف بضجرٍ ونفاذ صبرٍ:
_عاوز تفهم؟ طـب هفهمك وأقولك إن أبوك عديم الشرف خطف ابن “أيـهم” الصغير ومساومنا بيك قصاده، أنا مش فارق معايا حد غير العيل الصغير اللي ملهوش ذنب في حاجة وأبوه واقف عاجز هناك، صدقني أنا لحد دلوقتي ماسك أعصابي بس موعدكش أفضل كدا كتير.
كان يهدده بصراحةٍ دون أن يواري كلماته وقد تدخل “إيـهاب” بثباتٍ يهتف بنفس الصلدة والنبرة الصلفة:
_بص!! أنتَ مش عاوز تتحرك من هنا، ودا حقك بس أنا بقى عندي ليك فكرة تانية خالص، طلع تليفونك وأسأل أبـوك كدا إن كنت مش مصدقني ولا عارف حصل إيـه وأوعدك أنتَ بنفسك هتفكر تاخد خطوة تانية.
سحب “نـادر” الهاتف الصغير من فوق الفراش حيث كان يجلس فوق المقعد المُتحرك وقد أخرج رقم والده وطلبه هاتفيًا وفتح السماعة الكُبرى ليصل الصوت للجميع حيث قال هو مُبادرًا:
_أنا “نـادر” يا بابا، بص علشان أنا معنديش استعداد أدخل صراعات ومشاكل مع حد ومش فايق، بس هو سؤال واحد، “إيـاد” ابن “أيـهم” معاك؟ ولو معاك أحب أقولك إني مش هرجع خطوة واحدة بس من مكاني غير لما الواد يوصل لأبـوه، دي قصادي دي بقى، وصدقني أنتَ كدا بتزود علينا المشاكل.
أغتاظ “سـامي” من حديث ابنه وهتف بثباتٍ أجاد رسمه:
_أنا يا حبيبي؟ هخطف عيل صغير ليه يعني؟ بعدين هما أكيد عندك وأنتَ بخير وكويس وفي أمان معاهم، أنا اللي يهمني مصلحتك يا حبيب بابا، أنتَ فين بس وكويس ولا لأ؟.
تجاهل “نـادر” كل ذلك وهتف بحدةٍ بالغة وكأنه لم يستسغ طريقة والده في التحدث بتلك النبرة:
_أنا اللي عندي قولته، رجع الواد وأتطمن إنه في حضن أبوه وبخير وساعتها أنا بنفسي هرجع وهمشي من هنا، عيب أوي بقى كدا، يا جدع راعي حتى عجزي اللي هما مقدرينه، بس أقولك خلي الشغل ينفعك، أنا مبقاش فارقلي حد وأنتَ أولهم.
أغلق في وجهه المُكالمة وقد قرر “سـامي” تجاهل كل ذلك وحينها أخرج هاتفه يُرسل رسالة صوتية لـ “أيـوب” ثم أغلق الهاتف تمامًا وقرر أن يتجول في المدينة تلك لعله يبعد عن التوتر المُصاحب له.
في حارة “العطار”..
كان “أيـوب” في المسجد يلزم المحراب وهو يتوسل ربه بالدعاء أن يجد ابن شقيقه قبل أن يطوله آذاهم، كان يحاول التفكير بصورةٍ صحيحة وقد ولج له “يـوسف” يجلس أمامه على عاقبيه وهتف بثباتٍ:
_من ساعة ما خطيت هنا وأنا أول مرة أشوفك بالضعف دا، أول مرة أحس إنك محتاج حد يقف في ضهرك رغم إنك برة كنت واقف صالب طولك وبتتكلم عادي، أنا معاك مش هسيبك ولا حتى هخليك تمشي خطوة لوحدك، قوم نشوف فين أبن أخونا ونرجعه تاني، دا أنتَ اللي بتساعد الكل حتى.
أغمض “أيـوب” عينيه وقد صدح صوت هاتفه ففتحه مُسرعًا ليجد رسالة بصوت “سـامي” الذي هتف ببرودٍ:
_علشان بعد كدا تحترم نفسك يا “أيـوب” وتتلم ومتفتحش صدرك أوي كدا وتتحداني، أنا سيبت مراتك يومها ومرضيتش أزعلها رغم إنها كان ممكن تحل حاجات كتيرة أوي بس معلش خيرها في غيرها، روح ألحق حبيب عمو وأعتبروها قرصة ودن صغيرة، أوعى تكون نسيت.
استمع كلاهما للرسالة وقد طفق الشرر يظهر في عيني “يـوسف” بينما “أيـوب” فخرج من المسجد مهرولًا نحو سيارته وقد لحقه “يـوسف” بصمتٍ وقبل أن يجاوره هاتفه بنبرةٍ مُحتدة:
_أرجع يا “يـوسف” خليك هنا أحسن.
تجاهله الآخر وولج السيارة بينما “أيـوب” فقد توقف عن الجدال وفتح تابلوه السيارة يُتابع السلاح فيها ثم أغلقه من جديد وقد شق سيارته نحو المكان الذي آمل أن يجد فيه ابن شقيقه، وقد ألتزم “يـوسف” الصمت لحين الإنتهاء من تلك المهزلة لكن عقله لم ينفك عن أسر الحديث الخاص بشقيقته، فتلك الجملة عَلُقَت بذهنهِ لم تبرح محلها، وقد قرر أن فور الحصول على الصغير لاسيما من معرفة الأمر وإن أضطر للضغط على الآخر..
أما “أيـوب” فكان كما يذهب للجحيم بنفسهِ حيث قرر أن يذهب إلى المكان الذي تم إختطافه فيه، لازال يعلم ذاك المكان جيدًا ولم ينفك عن عقله، وقد قرر أن يقوم بالمخاطرة والذهاب إلى هناك لعله يجد مبتغاه، كما أن هناك جزءٌ أكد له ذلك أنه سيكون هناك..
__________________________________
<“يأتون للبيت بكل خيرٍ، أفسح لهم”>
حل الليل بعتمته وسكونه والبيت لازال مُنطفيًا…
وقد قررت “قـمر” أن تذهب إلى هناك بصحبة “عـهد” حتى تطمئنان على أهل البيت بعد تلك الفاجعة، وقد لفت نظرهما بكاء “نِـهال” وحالها الصعب وأمامها “أماني” التي كانت تبكي بصمتٍ فقط وقد ذهبت “قـمر” تجلس على رُكبتيها أمامهما وهتفت بنبرةٍ أقرب للبكاء لكنها تحاملت على نفسها ألا تفعل ذلك حين هتفت:
_حقك تعيطي وتخافي بس مش من حقك تيأسي من رحمة ربنا، هيرجع والله وينور البيت تاني، بعدين “إيـاد” راجل مش مجرد عيل صغير، قومي صلي وأدعيله يلا.
هتفت “نِـهال” بنبرةٍ باكية حينما تذكرت صورته:
_قلبي وجعني عليه أوي يا “قـمر” صورته صعبة أوي وهو يا حبيبي متكتف ومرمي فوق الأرض، دا عيل صغير لسه ميستحملش كل دا، بينتقموا من عيل صغير؟ ذنبه إيـه طيب؟.
أقتربت تلك المرة “عـهد” تقف بجوارها ثم ضمتها تمسح فوق رأسها بقولها:
_ملهوش ذنب غير إنه من عيلة بتتقي ربنا وعمرهم ما ظلموا حد في الدنيا، بعدين بصي فيه كام حد مستعد يموت نفسه علشانه برة، دا غير عمه اللي وعدك إنه هيبات في حضنك الليلة دي، خلي أملك في ربنا كبير.
كانت “أمـاني” تتابعهن بعينيها بتعجبٍ من الحديث مع الآخرى، ألم يكن من المفترض أن تكون هي أمـه اللازم على الجميع مواساتها؟ لما أتت أخرى تتمتع بذلك الحق؟ وهي تجلس كمن لا علاقة له بما يصير حولها، حقًا الجميع هنا أغبياء أو أصابهم العمى، فكيف لم يلحظوا تواجدها وهي معهم تبكي لأجل ابنها؟..
لاحظت “قـمر” نظرتها حينما تحركت تقف بجوار “آيـات” و “عـهد” وقد رمقتها “أمـاني” بسخطٍ جعلها تميل على أذن “عـهد” وهتفت بتعجبٍ من نظرات الأخرى لها:
_هي دي مين وعـمالة تبرقلي كدا ليه؟.
أنتبهت لها “عـهد” التي حدجت الأخرى بكراهيةٍ ونفورٍ وهتفت بنبرةٍ أقرب للهمس:
_دي مامة “إيـاد” بس علطول زي ما أنتِ شايفة كدا عينها بتبص بقرف ورافعة مناخيرها في السما، وتموت في الإفترا على الخلق، متخانقة معاها أصلًا مبكلمهاش ولا هي بتطيقني.
على الفور كرهتها “قـمر” ما إن علمت أنها تكره زوجة شقيقها، لا تعلم لما حينما يختص الأمر بـ “عـهد” على الفور تكره من يكرهها وتحقد على من لا يُحبها لذا ظهرت روح شقيقها عليها وهي تُخفي “عـهد” خلفها وكذلك “نِـهال” ففي الحقيقة هي كلما أحبت شخصًا ودت حمايته حتى من نظرة العين، وقد علمت أن الأخرى تكره “نِـهال” من نظراتها…
في مكان آخرٍ…
كان المكان شبه مهجورٍ الأصوات صداها يتردد فيه بوضوحٍ، كان يقع في أرجاء إحدى المناطق البعيدة شبه النائية وسط مجموعة من الصناعات الصعبة حيث صناعة الرُخام والأسمنت ومواد البناء وما على شاكلتها وغرارها وقد أوقف “أيـوب” السيارة وخطف سلاحه يضعه في ظهره، هنا حيث لا مكان للعقل، ولا فرصةٍ للتفاهم، إذا أراد أن يُصبح قاتلًا سيفعلها لأجل ابن شقيقه، ربما يبدو مُتناقضًا لكنه لن يبدأ هو بالقتل إلا إذا بادر أحدهم وفعلها وحاول قتله..
تبعه “يـوسف” الذي قام بالتأمين على مديته فريثما يحتاجها بل وبكل تأكيدٍ سيحتاجها، وقد وقف “أيـوب” في الخارج يشمل المكان بعينيهِ ويمشطه وما إن لاحظ حركة إطارات السيارة فوق الأرض الرملية علم أن هناك بصيصٌ من الأمل يلوح في عقله، وقد ولج لمقدمة المخزن ودلف لمنتصفه وخلف رفيقه وقد هجمت عليهما مجموعة من الرجال المستأجرين لمثل تلك المهام وحينها وقفا في ظهر بعضهما يقوم كلاهما بتأمين الآخر وقد تولى “أيـوب” مهمة الضرب بينما “يـوسف” فغالبًا مديته كانت تكفي لترك أثار الجروح في جسد كلٍ منهم..
وقد لاحظ “يـوسف” إعتداء أحدهم على “أيـوب” وحينها برق بعينيه حينما وجده يضع فوهة السلاح فوق رأس الآخر وقد هتف المعتدي بغلظةٍ يُهدده:
_أرجع ورا!! أرجع بدل ما أفرغ السلاح في رقبته..
كان “أيـوب” جامدًا ونظراته كذلك وكأنه تمثالٌ منحوت لا روح فيه ولا حياة، بينما “يـوسف” فقد حرك كتفيه بلامبالاةٍ وأضاف بغير إكتراثٍ بما يُعانيه الآخر:
_خليهولك.
رفع الشاب حاجبيه بغير تصديق بينما “أيـوب” ففي لمح البصر قام بلوي ذراع الآخر ثم قام بخطف السلاح منه وأشهره في رأسه وهو يهدر بإنفعالٍ جَامَّ حيث فرغت طاقة صبره:
_ولا !!! “إيـاد” فين بدل ما أفرغ أنا السلاح فيك، مش هبقى على صايع زيك خاطف عيل صغير، أنـطق هو فين؟.
لم يجاوبه الآخر وأبتلع لُعابه وقد تدخل “يـوسف” يخطفه من يد “أيـوب” وهتف في أذن الخاطف بهسيسٍ مرعب:
_على السكة كدا الحلوة دي متربية على الغالي وواخدة دروس تقوية على أيد قدوة، قولي الواد فين بدل ما أوريك جدول هتعيش الباقي من عمرك تسمعه، دا لو عيشت أصلًا، وخلي بالك، كبيري علمني إني لو فتحتها مكسرش بخاطرها وأزفرها، تحب تيجي فيك؟.
لم يجاوبه الآخر وألتزم الصمت وحينها قام “يـوسف” بالضغط فوق عنقه لتظهر الدماء على الفور، بينما “أيـوب” فقد لمح بابًا صغير الحجم جعله يطالع المكان بإرتيابية وقد تحرك إليه ورآى بعينيه أثار أقدام عدة بحركاتٍ هوجاء، فعلم أن ذلك نتيجة هرولة الرجال للداخل، فقام بإخراج سلاحه وأطلق عيارًا ناريًا على القفل المعدني وقد فُتِح الباب وجاوره في لحظتها “يـوسف” الذي هرول إليه وقد ولج “أيـوب” مُسرعًا وحينها توسعت عيناه بصدمةٍ…
في بيت “العطار..
كان “أيـهم” يقطع البيت ذهابًا و إيابًا بتوترٍ خاصةً مع إختفاء شقيقه و رفيقه معًا، الأمر الذي جعله خوفه يزداد على شقيقه من جهةٍ وعلى ابنه من الجهة الأخرىٰ، حقًا ما في داخله لا يُحتمل، لما لم يتم إختراع أي شيءٍ يساهم في إخماد نيران الجروح المُلتهبة، لما لم يجد ما يسعفه في موقفه هذا ويُريح قلبه؟.
ألتفت للخلف فتلاقت عيناه بعيني والده الذي بدا كأنه يعتذر منه على ما تسبب فيه لحفيده، أعتذر بدون قولٍ لكن عيناه تفوهت بها وقد أقترب “تَـيام” من زوجته وهتف بنبرةٍ هادئة بعيدًا عن الأنظار:
_عاوزك تخلي بالك من نفسك، صدقيني هيرجع بس أنتِ كدا هتقعي من طولك يا “آيـات”، يرضيكي ييجي الشبر ونص دا يقولي أنتَ مش قد الأمانة؟ بعدين أنتِ ساكتة مش عاوزة تتكلمي، قولي أي حاجة طيب.
نزلت عبراتها تلقائيًا وأنتحبت أمامه وقد ضمها هو بلهفةٍ يمسح فوق رأسها فوجدها تصرح بما أحتجزته في قلبها منذ الصباح من خوفٍ على الصغير:
_قلبي زعلان علشانه أوي يا “تَـيام” أنا اللي مربياه وشيلته على أيدي وطول عمره مفارقنيش، كفاية اللي شافه من مامته وإحنا بنحاول نصلحه، دلوقتي هيرجع خايف وتعبان، أنا خايفة يحصله حاجة تزود وجع قلبي عليه، دا ابني مش ابن أخويا.
مسح فوق رأسها وظهرها يُهدهدها بحنوٍ ورقةٍ ثم أضاف يُعاهدها بقولهِ الصادق الذي يعلم أن للكذب ليس سبيلًا فيه:
_هيرجع، هيرجع علشان عمه وأبوه رجالة، ووراهم رجالة، هيرجع وحقه معاه كمان، وبكرة هتقولي بنفسك إنه وراه رجالة ياكلوا علشانه الزلط، وهو محظوظ إنه أتربى على إيدك، أدعيله وأدعي الليلة دي متخلصش غير لما يكون في حضن أهل البيت كلهم..
أبتعدت عنه للخلف تمسح وجهها فيما رفع هو كفه يمسح فوق عينيها ثم لثم عينيها اليُمنى وكأنه أراد أن يحمل الحزن بعيدًا عنها وقد أنسحبت هي من أمامه بخجلٍ تقف بقرب النساء تزامنًا مع فتح البيت مع إطلالة “أيـوب” و “يـوسف” وقد استقر “إيـاد” بين ذراعي عمه وما إن ولج البيت تحدث هو بذاته بنبرةٍ مرحة لأهل البيت:
_حضروا الأكل يا جماعة أنا جيت.
حالة ذهول أصابت الجميع مع صوت الصغير الذي تردد في سمعهم وقد ركضت نحـوه “نِـهال” وخلفها “أمـاني” بينما الأولى خطفته من عمه وتلقفته بين ذراعيها تنهال عليه بالقُبلات والأحضان وهي تبكي وقد ضمها “إيـاد” بكلا ذراعيه وهتف بنبرةٍ ضاحكة على غرار طريقة والده:
_يا ستي متكبريش الموضوع، دا أنا عمي “أيـوب”.
ضحكت هي على حديثه فيما ركض نحوه “أيـهم” وقام بمعانقته وهو يشدد ضمته عليه بكلا ذراعيه القويين وهو يقول بصوتٍ مبحوحٍ:
_وحشتني ياض، قطعت نفسي وأنتَ غايب عني.
ضحك “إيـاد” ومسح فوق ظهر والده وحينها لمح أمـه البيلوجية تقف بين الناس وقد تهجمت ملامحه وقرر أن يُخرج كبريائه عليها فألتفت لأمه الثانية يخبرها بنبرةٍ ضاحكة:
_طبعًا علشان أنا مخطوف معملتيش أكل يا ماما، صح؟
أقتربت منه تلثم كفه وجبينه ثم هتفت بنبرةٍ باكية:
_شاور نفسك في إيه يحضر لحد عندك، أقولك خلاص هاجيبلك أكل من برة، شوف نفسك في إيه، عاوز إيـه؟.
مال عليها لكي تضمه ثم هتف بنبرةٍ أقرب للبكاء وكأن رؤيته لأمه هي ما ألمته حقًا وليس ما عاناه طوال اليوم:
_أحضنيني، علشان كنت خايف.
هتفها بنبرةٍ أقرب للبكاء وحالٍ تبدل في ثوانٍ فوق الوجوه وأولهم “أيـهم” الذي فهم مشاعر ابنه في تلك اللحظة وكم تمنى أن تنسحب هي وألا تتدخل وتُزيد من سوء الموقف، وقد طالع وجه ابنه الذي استقر بعينيه فوق وجه الأخرى يرمقها ببغضٍ وكأنه كره حتى ضعفه أمامها، وكأنها تسببت في كبر عمره أضعافًا فوق عمره الأصلي..
__________________________________
<“لما يأتونك بعد الرحيل، هل يحسبونك البديل”>
بعض الخطوات نخطوها بعد دراسةٍ كُبرى..
والبعض الآخر يكون نتيجة قرارٍ أو أمـرٍ جعلنا ننساق خلفه تابعين للآخرين دون التفكير في أنفسنا أو قرارتنا، فالدافع الأكبر هو المصلحة الشخصية وفقط…
وفي منطقة التجمع الخامس..
نزلت “شـهد” من سيارتها نحو البناية التي وصلتها بياناتها من حماها وقد ولجت بعجالةٍ وخصلاتها تطاير من خلفها بحريةٍ نتيجة سرعة خطواتها الواسعة وقد وقفت أمام الشقة تطرق بابها بعنفٍ حتى فتحته لها “حـنين” تسألها بعينيها عن هويتها وقد رمقتها الأخرى بتعالٍ وهتفت بخيلاءٍ:
_خشي يا شاطرة أندهي حد.
_شـاطرة!!
خرجت تلك الكلمة باستنكارٍ من الأخرىٰ وهي تملأ عينيها بهيئة الأخرىٰ ثم أنهت تفحصها بها على صوت “فـاتن” تسألها عن هوية الطارق وكات أن تندفع الأخرى وتدخل لكن “حنين” أوقفتها تسألها بحدةٍ كونها تطفل على البيت:
_أنتِ مين وداخلة فين كدا؟.
سخرت منها “شـهد” بنظراتها وهتفت بتعالٍ أكبر:
_مبقاش غيرك أنتِ اللي هتوقفني أدخل لجوزي؟ أنا “شـهد” مرات “نـادر” اللي سيادتك بتخدميه هنا.
أهانتها وتمادت في الإهانة ولم تدرك قسوة حديثها على تلك المسكينة التي أزدردت لُعابها ورطبت شفتيها بإنكسارٍ فيما دفعتها “شـهد” من وجهها ودلفت للداخل وحينها رأت زوجها يجلس فوق المقعد المتحرك وأمه بجواره تعاونه مع الممرض وقد مستها الكهرباء حيث أهتز جسدها من هول ما رأت، ليس حُبًا له وإنما خوفًا على نفسها، وقد أيقنت أن أمر إجهاضها كان في نصابه الصحيح…
٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى