روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والعشرون 120 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والعشرون 120 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والعشرون

رواية غوثهم البارت المائة والعشرون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والعشرون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الخامس والثلاثون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
مدحوا لمن يرجوا بقايا فضلهم
وأنا أود من الكريم عطائي
إن يمدحوا بعض الملوك تملقا
فأنا لربي مخلص بثنائي
فهو الذي ما رد طالب فضله
وأنا ببابك قد بسطت ردائي
أتيت لبابك بالذنوب محمل
فوجدت قبلي حسرتي وحيائي
_”مقتبس”
__________________________________
بكل درجات الحُب والوصل أنا أُحبك..
فبدايتي معكِ منذ الهوىٰ وهو أول درجات الحُب حتى الخُلة أعظم الدرجات وصولًا في القلب، رُبما تتواجد الحروب بيننا لكن السُلم أيضًا لازال في أرضنا، يقال دومًا أن كل شيءٍ متاحٌ في الحُب والحرب، لكن ماذا إذا سُلبت الراء من الحرب وتحولت أرضها المُجرفة لحقول زهورٍ مُفعمةٍ بالحب؟ أتتوقعين حينها أن يتوه كلانا في الدرب؟ أم أن الوصول سيعلو من وجيف القلب؟ لا يُهم لنا مدى صعوبة الحرب، ولا حتى يُعيقنا خطر الدرب، فحتى وإن تغربنا ورحلنا واحدٌ منا في الشرق وخليله في الغـرب، فالوصل باقٍ بين كل قلب..فأنا من لكِ من بين سائر البشر أطمئن، ورأى فيكِ الفؤاد مسكنه ولكِ حَن، ومن بين كل الغُرباء قلبك من عَليه مَن، أتظنين تائهًا مثلي قد يترك موطنه الذي وجده فيكِ أنتِ إلا أذا فَلَّ عنه عقله أو ربُما قد يكون جَن؟ قلبي الذي ألتزم الصمت طوال عمره يوم أن تكرم وعليَّ مَن، قال يوجه الحديث لكم أنه لكِ ولقلبكِ شعر أنه أطمئن..
<“مُجـرد جراحٍ في الروح، لا تكترثوا بها”>
في نهاية المَطاف يتوقف المرء في نهاية طريقٍ كان مجهولًا يرى بأم عينيه ما فعله بأكملهِ يمر كما الشريط العارض، رُبما لما يتوقعها منذ البداية لكنه هو من سبق وأختار تلك النهاية ظنًا منه أنه سيربح في نهاية هذا المَسلك لكنه لم ينتبه إن نهاية الطُرقات تكون وفقًا لما أختاره هو وفقط..
توقفت السيارة أسفل البناية المنشودة وقد ترجل “سـراج” منها أولًا بخُطىٰ واسعة عنيفة ثم فتح الباب موضع جلوسها وهتف بنبرةٍ هادرة أقرب للصراخ:
_أنـزلي يلا!!.
أنتفضت فزعًا منه ومن نبرته الهادرة وقد لمحت نظراته النارية التي ترتشق بها من مُقلهِ وقد زحفت بجسدها فوق الأريكة وترجلت من السيارة لتجد نفسها مُحاصرة بين الاثنين ثانيًا وقد قاداها إلى الشقة التي يقطن بها “نـادر” وهي تشعر أن قلبها يرتجف مثل قُط أسفل قطرات المطر وماهي إلا دقائق معدودة وفتح “يـوسف” الباب لها ووقتها سقط فؤادها من محله…
أبتسم هو بعينيه بسمة المنتقم الذي يُلاقي الإنتصار في حربه أخيرًا، أما هي فكانت تناقضه تمامًا، فما إن رآته هو أمامها أدركت أنها على وشك خسارةٍ فادحة وقد أشار لهم وولجوا الشقة وهي لازالت مُحاصرة بين الاثنين الآخرين لكن ما إن تلاقت عيناها بعيني “نـادر” وقتها دمعت عيناها وهي تتوسله أن ينظر لها نظرته القديمة نفسها، لكنه رد لها الصفعة بعشر أمثالها حينما رمقها بنفورٍ وإشمئزازٍ تجلى كلاهما في ملامحه وقد جلس “يـوسف” بجوار رفيقيه وهتف بثباتٍ:
_يارب فيلم من نظرة عين دا يخلص علشان فيه كلام مهم هيتقال وأنا في العموم خُلقي ضيق بصراحة، يبقى ننجز بقى.
حركت رأسها نحوه تهتف بإندفاعٍ أقرب للصراخ:
_أنا من رأيي إنك متدخلش بيني وبينه، خليك في حالك.
رفع كلا حاجبيه مستنكرًا ردة فعلها ثم ترك موضعه ووقف أمامها يهتف بتهكمٍ وبحديثٍ لاذع:
_هو أنتِ ليكِ رأي أصلًا؟ عمومًا لو عندك رأي يبقى تقوليه في حالة واحدة، لما آجي أخبط على باب بيتك وأقولك أرجوك يا جلالة الملكة رأيك علشان مش قادرين نعيش من غيره، غير كدا زيك زي الجزمة مسمعش ليكِ صوت ولا نفس غير لما أقول.
كادت أن تُناطحه وتنتهج وضع الهجوم لكنه رفع سُبابته وأوقفها بإشارةٍ منه تلاها قوله الحاد الذي أعرب عن إنفعاله:
_ولا كلمة قــولت.
أوقفها من جديد بصوته الهادر ثم ألتفت لابن عمته وأشار له حتى ناوله الآخر الورق المطلوب فتنهد هو بثقلٍ ثم هتف بثباتٍ يُحسد عليه رغم كرهه للموقف ككل:
_بصي، علشان أنا آخري جاب آخر ما عنده معاكِ خلاص، أنا استحملت كتير منك ومش مُجبر أتحملك وأنتِ مريضة بمرض الأنانية ومصلحتك وبس، قليتي أدبك وقليتي بأصلك وسكت، أتجوزتي “نـادر” علشان مصلحتك وفوت وسيبت الدنيا كلها ومشيت، كنتِ ست خاينة وأنتِ مع جوزك بتفكري في غيره وعديتها وكُلنا عدينها رغم إن شرعًا الست اللي على ذمة راجل مينفعش تفكر في غيره حتى لو كان ميت، قتلتي ابنك وكنتِ هتقتلي جوزك، إيـه؟؟ أنتِ مالكيش كبير؟.
صرخ فيها وهو يستفسر بحديثه بينما هي فقبل أن تجاوبه وجدته يدفع الأوراق في وجهها وهتف بنبرةٍ جامدة:
_أمضي على الورق دا، علشان لسه موضوعك طويل أوي، يلا ومش هنكتر في الكلام كتير، أنا معنديش وقت أضيعه مع أشكال ضالة زيك كدا.
أمسكت الورق وما إن طالعت الأوراق توسعت عيناها فوجدته يبتسم ساخرًا وهتف بنبرةٍ ظهر بها التشفي:
_أيوة هو صح كدا، ورقة فيها تنازل منك عن كل حقوقك لـ “نـادر” النفقة والمؤخر وكل حاجة عندك والدهب والألماظ اللي في الشقة كمان، ودا أقل واجب، تاني حاجة بقى هي إنـك دلوقتي هتفتحي تليفونك العسول دا وتمسحي الهبل اللي عملتيه دا بدل ما أكسرك أنا.
أبتسمت تستهزيء به ثم تركت الأوراق وقامت بضم كلا ذراعيها عند منطقة الصدر وهتفت باستهتارٍ كأنها تستمسك بالعروة الوثقى مع المُعاندةِ:
_دا شيء ميخصكش، ومش هتقدر تعمل حاجة أصلًا يا “يـوسف” وأنتَ عارف وأنا عارفة إنك مش هتقدر تعمل حاجة، ولا ناوي تفتح عليا مطوتك وتخرج شغل البلطجة بتاع السمان؟.
أهانته وتمادت في الإهانات وقبل أن تنطق من جديد أمسك الزجاجة الموضوعة ودفعها بها حتى صرخت هي وتراجعت للخلف فهدر هو بإنفعالٍ جلي:
_تحبي أوريكِ شغل البلطجة بجد؟ حتى لو ناويها مش أنتِ اللي تستاهلي إني أقلل من نفسي علشانك، أمضي وأخلصي علشان تغوري في ستين داهية من هنا، أخــلصي.
صرخ فيها حتى أرتجفت مُجددًا وألتصقت بالحائط خلفها فيما سحب هو الأوراق ثم ألقاها بوجهها وقد أقترب منها “إيـهاب” ونحىٰ “يـوسف” عنها ثم هتف بهيبةٍ طاغية على صدى كلماته ووقفته:
_بصي !! أنا كعبي عالي ومقامي كبير فعلشان كدا قدامك حلين ملهمش تالت يا تمضي علشان نكمل باقي اليوم يا ورب الكعبة أفضحك وأفضح البيه اللي خلفك وأقول إن بنته أجهضت نفسها علشان شايفة شوفة تانية، قلة أدب بقلة أدب بقى، والمطوة وشغل البلطجة بنطلعه مع الرجالة علشان نرجع حقوقنا، مش مع العقارب اللي زيك، ولو أنتِ من ضهر راجل هاتي أتخن تخين عندكم وأنا هسنله الخوجة مخصوص، ولو مش عارفة هي إيه فدي بـ لُغتنا يعني المطوة، هـا !! مش نخلص بقى؟.
كانت تعلم أنها كقطٍ صغيرٍ وسط عرين الأسود ولم يكن أمامها إلا أن تنجو بنفسها لذا سحبت الأوراق تُدلي بتوقيعها عليها وقد أغمضت عينيها ووقفت أمام “نـادر” تهتف بنبرةٍ مبحوحة:
_عارفة إنك زعلان ودا حقك، بس والله عمي هو اللي قال لبابا نعمل كدا علشان حقوقي ترجعلي منك، بص أنا مش عاوزة حاجة خلاص، بس أنا عرفت إني خسرتك بجد، أنتَ حبتني وأنا أكتشفت دا متأخر والله، بس علشان خاطري أنا مش عاوزة حاجة غيرك أنتَ.
ضحك رغمًا عنه حتى جلجلت ضحكته عاليًا بشكلٍ أقرب للهيسترية ثم هتف بوجعٍ أتضح في صوته ونظراته:
_متأخر أوي، يعني أكتشفتي كدا بعدما كسرتيني وأنتِ بتباتي كل يوم في حضني وبتفكري في واحد تاني ولا بعدما قتلتي ابني اللي عيشت أحلم بيه، ولا بعدما فشلتي تقتليني أنا ذات نفسي؟ تفتكري أنا ممكن حتى أفكر فيكِ تاني؟ أنا عن نفسي مبسوط أوي كدا، إن لو باقي حاجة في طريقي مش هقضيها معاكِ، أنتِ خسارتك أكبر مكسب في كل الدنيا.
هرعت عيناها العبرات وهي ترى خسارتها له نصب عينيها وقد أستند على عصاه ووقف بجوار “يـوسف” وهتف آخر ما يملكه في الصندوق الأسود:
_اللي متعرفيهوش إني للآسف أستاهل اللي يجرى فيا، عارفة ليه؟ علشان أنا فكرت إني لما أتجوزك كدا أنا بلحقك من “يـوسف” اللي حاول يعتدي عليكِ وقالك إنه مكانش في وعـيه ساعتها، أفتكرت نفسي بطل وجامد إني بلحقك، بس أنتِ تستاهلي أكتر من كدا كمان.
وقف “سـراج” مدهوشًا يشعر بالتيه بينهم وكذلك “إيـهاب” فيما تنهد “يـوسف” الذي سبق وعلم بما حدث فجر اليوم وقد أمسك الأوراق في يديه ثم أقترب منها يشير بكفه حتى تعجبت هي فوجدته يهتف ببرودٍ جلي:
_مفاتيح العربية بتاعتك هاتيها.
توسعت عيناها فوجدته يسحب الحقيبة من خصرها ثم قام بفتحها وأخرج منها مفتاح سيارتها وأخرج الهاتف أيضًا ثم قام بسحب اصبعها وفتح الهاتف ومنه قام بفتح التطبيقات وقام بإزالة المقطع من كل الأماكن ثم ألقى هاتفها أرضًا تحت نظرات الدهشة من الجميع ثم سحب هتف بإنفعالٍ:
_كدا الفيديوهات أتمسحت وتليفونك أتكسر أبقي خلي أبوكِ يجيبلك واحد بقى جديد لأنك زي ما أنتِ شايفة كدا مبقاش ليكِ أي حاجة خلاص، والعربية دي هخليها أفسح بيها “قـمر” و “عـهد” لأن بصراحة لونها مايع ومش ذوقي خالص.
علا صدرها وهبط أمامه وكادت أن ترفع كفها وتصفعه لكنه أمسك كفها وأهبطه من جديد وفي تلك اللحظة صدح صوت جرس الشقة ففتحه “سـراج” الذي ما إن وجد الزائر أمامه أبتسم بشرٍ وهتف بغموضٍ:
_يابن اللعيبة يا “يـوسف” دي أحلوت أوي.
__________________________________
<“بعض الزهور ينتشي المرء بالقضاء عليها”>
في السائد والمُتعارف عليه لدى البشر بكافة الأرجاء أن الورد يُسقى لكي نأخذ منه الرحيق ونستمتع بِـعبيره الآخاذ، أما البعض الآخرين وهم القاعدة الشواذ بين الجميع يسعون لقطف الزهور قبل أن يفوح عطرها ويملأ الحقول في الربيع..
فتاة صغيرة تجلس تفرك كفيها وجسدها يرتجف وقد كانت أقرب في وصفها لورقةٍ في مهب الريح وكأن الخريف أسقطها من الشجرة التي كانت تأويها، حيث كانت تجلس في مكتبٍ فوق أريكة جلدية في غرفةٍ يملؤها الترف والتنزه، ألوانها هادئة، أثاثها وثير، تلفازها كبير، نافذتها تطل على الحديقة والشمس تملؤها، وعلى النقيض كُليًا غرفتها التي تتشارك فيها مع ستة عشر فتاةٍ غيرها..
غرفتهن كانت كئيبة، طلاء الجدران سقط وكشف عن الطبقة الأسمنتية خلفه، تلفازها قديم وصغير، رائحتها مكتومة من عدم وصول الهواء لأرجائها، إضاءتها ضعيفة، كل شيءٍ بها يدل أن العيش هُنا أشبه بعيش الكـرب، وقد نحت تفكيرها جانبًا وعادت لفكرها من جديد في صديقتها “هـدية” حيثُ تلك المفقودة عنها حتى وصل “شـفيق” مدير الدار وولج المكتب يرسم الثبات فوق وجهه وواجهها حين هتف:
_خـير يا “عـزة”؟ “فـايزة” قالت إنك عاوزة تتكلمي معايا ضروري، أتمنى يعني تكوني هديتي شوية عن آخر مرة كنتِ منهارة فيها.
هالتها طلته الطاغية لكنها أبتلعت الغصة المستوطنة لحلقها وهتفت بإندفاعٍ أمامه:
_أنا عاوزة أعـرف “هـدية” راحت فين؟ كل أسبوع فيه بنت بتختفي ومحدش يعرف عنها حاجة، وهي مكانتش تعبانة ولا كانت بتشتكي من حاجة والدَكتور اللي كشف عليها دا هو اللي قال إنها تعبانة وعاوزة تعمل التحاليل، ودتوها فين؟ هي مماتش.
أقرت أكثر من كونها تستفسر، فيما تنهد هو بثقلٍ ثم عاد للخلف يستند بظهره على المقعد ثم شملها بنظراتٍ متفحصة يشملها من الأعلى للأسفل حتى اخمص قدميها، وبكل آسفٍ كانت نظراته جريئة مُتفحصة لأنوثتها البريئة، وقد أهتدى عقله إلى فكرةٍ جعلته يبتسم بزاوية فمه وأعرب عن إعجابه بذكائها قائلًا:
_شكلك ذكية أوي وأنا بحب الأذكيا، عمومًا هريحك، “هـدية” أو غيرها يستاهلوا حياة تانية غير دي تمامًا، يعني لو فضلوا هنا هيضيعوا عمرهم على الفاضي خصوصًا إنهم حلوين وشاطرين ولسه خام، فإحنا بنختار ليهم حياة تانية، يخرجوا ويشتغلوا ويشوفوا الدنيا برة علشان يأسسوا لحياتهم ويحققوا أحلامهم كمان، وعلشان كدا بنخرجهم من هنا، ولعلمك، مفيش بنت خرجت من هنا وندمت أبدًا، بالعكس كلهم بيفرحوا لأنهم بيشوفوا الحياة اللي كانت ضايعة منهم وبقى عندهم اللي ناقصهم حتى صاحبتك.
توسعت عيناها بصدمةٍ جعلته يتحرك من مقعده ثم أمسك قطعة حلوى مُغلفة ثم أعطاها لها متعمدًا الإحتكاك بها حتى سحبت هي نفسها وجرت جسدها فوق الأريكة لتجده أبتسم تلك البسمة اللعينة مُجددًا ثم هتف بصوتٍ أجش ورغم ذلك بدا ناعمًا:
_لو عاوزة تكوني زيهم وتخرجي من هنا، عرفيني وأنا بليل همشيكِ من هنا ومحدش هيسأل حتى لأنك هتخرجي بإذني وبالمرة تكوني مع “هـدية” صاحبتك، قولتي إيـه بقى؟.
تراقص بؤبؤاها بحركاتٍ غير رتيبة مُزعزعة فوجدته يقبض على كفها يحثها بنظراتٍ طَلَّ منها شعاع الدفء مثل تسلل آشعة الشمس للأعين حتى تلاقت مُقلها الدفء ليغلف الصقيع؛ فحركت رأسها بإيماءةٍ خافتة توافقه، على الأقل ستضمن البقاء بجوار رفيقتها للأبد مهما كانت العواقب، لكن تلك الزهرة الرقيقة لم تُدرك ما يضمره ذلك البغيض في نفسه العَفنة وهو ينظر لفتاةٍ في هذا العُمر الصغير بهذا الكم من التواقح، ليكتشف فيها جوهرة نفيسة يستحقها هو.
__________________________________
<“أفججوا النيران في أنفسهم بنجاح غيرهم”>
أصعب ما يمكن للمرء أن يتحمله أن يجد العالم بأكملهِ يُحاربه فيما يُحب، والأصعب هو وجوب الصمت لكونه لا يُحق له أن يَرد، فالعجيب في الأمر أن المرء يُحق له أن يشن الحروب على غيره، لكن استرداد غيره لحقوقه لا يحق..
جلس فوق المقعد في مكانه المُفضل الذي تغيب عنه لفترةٍ ثم آن له الوقت أن يعود ويجلس فيه، فإذا كان تـرك ما يُحب بالتأكيد لن يترك كل شيءٍ، لذا ظل في محله بشارع “المُـعز” وهو يشعر بالثقل يجثم فوق صدره لكنه حاول صرف حزنه بعيدًا والتوصل لحكمة الخالق في هذا الحدث بعدما تم منعه من تولي مهام الخطيب بالمسجد، وقد غرق في فكره حتى وصله الصوت الأحب لقلبه حينما هلل بمرحٍ:
_”أيـوب”.
رفع عينيه من فوق الورق الموضوع أمامه وقد وجد “إيـاد” يركض نحوه وقد أبتعد بمقعده للخلف يتلقاه بين ذراعيه وقد استقر “إيـاد” بين ذراعيه ليضمه عـمه وقد وجد “أيـهم” يقف في منتصف المكان فتحرك نحوه وهتف بتعجبٍ جلي:
_”أيـهم”!! بتعمل هنا إيـه؟.
أقترب الآخر يجلس فوق المقعد المواجه لشقيقه ثم هتف بنبرةٍ هادئة مُفسرًا بها سبب تواجده برفقة صغيره:
_أنا كنت مع “بـيشوي” و “تَـيام” وهما قالولي مش عاوزيني في حاجة فبصراحة روحت خلصت مشوار تاني كدا وقولت أجيب “إيـاد” علشان يتفسح شوية ونضرب كشري مع بعض هنا، زعلان أمشي؟.
ضحك “أيـوب” بخفةٍ ثم بعثر خصلات الصغير وهتف بثقلٍ كأنه أُجبِرَ على الحديث:
_هزعل يعني إنك جيت؟ أنا بس استغربت علشان عارف إنك مشغول النهاردة، المهم الرُخام أتحرك ولا لسه؟ مش عاوزينه يتأخر إحنا طول عمرنا بفضل ربنا مواعيدنا مظبوطة.
استشف شقيقه الحزن في ملامحه فسأله بإهتمامٍ:
_أنتَ شكلك مش عاجبني، وأنا مش بتكيف لما أشوفك كدا، قولي فيك إيـه يخليك متضايق وقالب وشك كدا، أنتَ فيه حاجة تانية مضيقاك صح؟.
لم يجد “أيـوب” بُدًا من الكذب فتنهد مُرغمًا وهتف بثقلٍ:
_فيه آه، فيه إنهم بيحرموني من الحاجة اللي بحبها وبرتاح وأنا بعملها، فيه إنهم واقفين في طريقي زي الشوكة في الزور ومش سايبني في حالي، وأنا والله العظيم مش عاوز غير إني أكون في حالي وبس، مش عاوز حد منهم يحبني ولا يقبلني غصب عنه، بس على الأقل ميأذونيش طالما مش بأذيهم، إنما ليه يوصلوني أني أتحرم من الحاجة اللي بحبها؟ أنا آذيت مين باللي بعمله؟.
كانت أسألته تموج مثل هياج البحر بين ضلوعه وقد أدرك شقيقه ذلك فعاد للخلف يهتف بثباتٍ وقوةٍ يشدد بهما أزر شقيقه:
_علشان ناجح ومحبوب، وربنا رزقك بالقبول وكل الناس بتحبك، تتوقع إيه لما ناس تعيش عمرها كله تحاول تعمل حاجة وييجي حد تاني في أقل من ربع وقتهم يعملها؟ أكيد لازم يتكره، طب هقولك، “رُقـية” مرة لما كنا قاعدين في ساعة صفا كدا أشتكيت ليها من عيل بيحاول يأذيني في الدرس وساعتها حكتلي إن جدك الله يرحمه كان عنده حتة أرض هو وجاره وفصلوها عن بعض فبقى كل واحد عنده حتة التاني عنده زيها، بس جاره ركنها وقال كل ما هتفضل سعرها يعلى، جدك كان راجل تقي، قال خلاص بدل الركنة يبني عليها مسجد لأهل البلد بدل ما المسجد اللي أول الطريق دا وبيروحوا يصلوا فيه، ساعتها الناس كُلها بقت بتهلل باسم جدك، ويحبوه ويساعدوه، جاره أتضايق وزعل لما الناس حطوه في مقارنات مع جدك وإنه عمل الحاجة الأحسن، وراح ساعتها يبلغ وجاب ناس وقال إنه عامل نصباية وإنه مش قد البُنا وأتهمه كتير أوي..
_والبلد كلها قامت على جدك مقعدتش، إزاي يعني يستغلهم وينصب عليهم وجابوا العُمدة والعمدة جاب ناس تحكم بينهم ومن وسط الناس دي جه راجل كان مبسوط أوي من القاهرة وحكيم وعاقل عرف جدك أبو “رُقـية” على جدك “بـكر” وبدأ الشغل بينهم والاتنين أتشاركوا في بنا المسجد، بحيث واحد بالجهد والفلوس والتاني بمواد البُنا والخامات، وقتها جـه أبوك البلد وشاف “رُقـية” وحبها وأتجوزها، والمسجد كمل وربنا يجعله في ميزان حسنات الاتنين، وحصل أحسن حاجة في الدنيا كلها، عارف هي إيـه؟.
سأله بثباتٍ وجديةٍ جعلا الآخر يبتسم له وهو ينفي ذلك بإشارةٍ من رأسهِ ليأتيه الجواب الغير متوقع بقول:
_خلفوني أنا، ودي كانت أحسن حاجة.
ضحك “أيـوب” رغمًا عنه أخيرًا وكذلك ضحك “إيـاد” الذي شابه والده كثيرًا حتى في حب الذات وقد حمحم “أيـهم” ثم استعاد جديته ثانيةً وتحدث:
_لأ بجد، تدابير ربنا وإرادته مشيت وبحكمة الخلق ميعرفوهاش، كان النصيب ابن زيك لأبوك وبنت زي “آيـات” وحب زي حب “رِقـة” كل دا علشان واحد عاوز الشر لغيره لمجرد إنه عمل حاجة نفسه أضعف من إنه يعملها، عارف بقى؟ الحكمة في إيه؟ في الحديث اللي علطول تقولوا ليا، هقولك أنا الحديث،
قال ﷺ “أَنَّ الأُمَّه لو اجتمعتْ عَليٰ أنْ ينْفَعوكَ بِشيْءٍ لنْ ينْفَعوكَ إلَّا بِشيْءٍ قدْ كَتبَهُ اللَّه لكَ، وإن اجْتمعُوا علىٰ أنْ يضُرُّوكَ بِشيْءٍ، لمْ يضُرُّوك إلاَّ بِشيْءٍ قدْ كَتَبهُ اللَّه عليكَ، رُفِعَتِ الأقْلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ”
هيآذوك بإيـه؟ هما بشر خلاص زيك زيهم، المكتوب عند ربنا هو اللي هيحصل وأمر الله نافذ لا محالة، بعدين أنا هسيبك من غير ما أردلك حقك؟ مبقاش “أيـهم” ابن كبير حارة العطار لو حقك مجاش.
أبتسم شقيقه له بإمتنانٍ وكأنه أعاد له عقله الغائب، لم نجد يومًا أي فردٍ من بني أدم عُصِم من الخطأ، بل دومًا نجد بشرًا يتأرجحون بين التغيب والتعقل، وهذا بالرغم من ذلك في أصغر اللحظات يضيع عقله عنه لكنه يعود مُجددًا لطريقه وقد أنتصب شقيقه في وقفته وهتف بمزاحٍ:
_ضحكتك وطمنتك أهو تعالى بقى يلا أعزمنا على كشري.
وافقه شقيقه ثم خرج معه وفي يده أمسك “إيـاد” الذي كان أكثر من مُمتنٍ بتلك الجَمعة بين أحب الرجال على قلبه في المنطقة الأحب له بكل شبرٍ في أراضيها وهي تجمع بين الطُراز الإسلامي وبين الحضارة التي تجلت في معالم البناء، فأعتبرها نُزهة لطيفة تمسح فوق قلبه.
على الطريق السريع المتوجه إلى “الأسكندرية”
كان “بـيشوي” يقود سيارته وهو يتبع سيارة النقل المُعبأة بالرُخام وقد جاوره فيها “تَـيام” الذي صدح صوت هاتفه برقم أمـه فجاوب على مضضٍ وهو يتوقع فحوىٰ المُكالمة:
_أيوة يا ماما خير؟.
_أنتَ فين يا “تَـيام” دلوقتي وصلتوا؟.
كانت نبرتها قلقة عليه للغاية وهي تستفسر عن مكانهما وقد جاوبها هو بموضعه وطمأنها لكن ما إن استمع لصوت “نـيڤين” بجوارها تهتف بتهكمٍ:
_وهو عيل صغير هيتوه يعني؟ ما خلاص عملتي اللي عليكِ بطلي رقة قلب شوية معاه بقى، حِكم والله.
أغمض عينيه ثم هتف بنبرةٍ جامدة يهدر دون وعيٍ منه:
_أقفلي يا ماما، سلام يلا.
أغلق معها الهاتف وألقاه أمامه وقد لاحظه “بـيشوي” الذي أبتسم بسخريةٍ وهتف يوبخه بقوله:
_أنا فرحان فيك بأمانة، أنتَ تستاهل كل دا، قولتلك خلاص سيبها لأخواتها مش هتفضل تحارب كتير علشانها، وهي كلمة توديها وكلمة وتجيبها، وحاليًا بقى الورث هو اللي شاغلهم، يا سيدي خليها تكتب ليهم كل حاجة وريح نفسك يمكن يرتاحوا، أحسن من قلة القيمة دي.
تنهد “تَـيام” بثقلٍ يُخرج كبت أنفاسه ثم هتف بقلة حيلة:
_أنا أصلًا ناهيتها خلاص، أبويا أولى وأحق بيا ويستاهل أسيب الدنيا كلها علشانه، لما فكرت لقيت إني باجي عليه في كل حاجة وهو متحمل وساكت، أخلص بص وأروح أعيش هناك عنده وساعتها كل حاجة هتترتب خلاص، كفاية إهانات منهم ليا لحد كدا، أنا تعبت منهم وهي كتر خيرها مش مُجبرة تخسر عيلتها علشاني، ربك يسهلها.
لازال هو يشعر بنقصان شيءٍ ما وسطهم وهُم لازالوا يعاملونه كما لو كان لم يكن منهم، هو يحمل في قلبه لهم الحُب وهم لا يحملون له إلا الكُره، وقد صدح صوت هاتفه من جديد برقم والده فسحبه وجاوب على المكالمة بضحكةٍ واسعة:
_حبيبي، أنا بخير متقلقش، على الطريق أهو.
شتان مابين حاله في المكالمتين، فالأولى كان يشعر بالثقل وكأنه مُلزمٌ بها والثانية يشعر بالأمان من مجرد التواصل بينهما، وقد استمر والده يطمئن عليه وعلى رفيقه ويخبره عن البيت والعمل وإنتهاء الشقة تمامًا وأضحت فقط تنتظر قدوم أصحابها، وقد شعر وقتها بإنتمائه لوالده فشاركه الحديث عن العمل وتفاصيل يومه حتى العودة بخيرٍ..
__________________________________
<“أتى من تسبب في كل شرٍ”>
في بعض الأحيان ثمة بعض الأفعال عند القيام بها لا تُنجيك بقدر ما تُبليك، فوقتها رُبما تشعر بالثُقل في روحك لكن إذا كان هذا الفعل يصفع عدوك أضعافًا فلا تتردد في فعلها، فربما رؤية هزيمة الـعدو أمام عينيك تُنجيك أنتَ وذاتك..
في نفس الشقة أجتمع بها الشباب مع “نـادر” وطليقته وأمه والضيف الجديد كان “نـزيه” الذي ما إن رأى ابنته ثارت ثورته لكن “يـوسف” أوقفه بقوله الساخر:
_بقولك إيـه رَيح؟ إحنا جايبينك تاخد بنتك وتعرف إنها بقت على الحديدة خلاص ومرة تانية لو شوفتها قدامي أنا هدوسها برجلي وصور “نـور” اللي هي نزلتها أتمسحت خلاص، ربي بنتك زي ما عمال تاكل في دم الغلابة وتدوس عليهم، ودلوقتي برة.
من جديد الأدوار تتبدل لكي يصبح هو محل الآخر ويهينه كما تمت إهانته، لكن تلك المرة جرد ابنته من وسائل الترف والتنزه، وما إن طالع والدها الوضع حوله أبتسم مُستهزئًا وهتف بتهكمٍ يوجه حديثه لطليق ابنته:
_طب وأنتَ يا أستاذ “نـادر” سايبه يعمل كدا في مراتك وواقف ساكت؟ هي دي الرجولة والشهامة؟ راجل أنتَ وهو بيهين مراتك ويقلل منها قُدام الكل كدا؟ بس الغلط مش عليك، أنا حسابي هخلصه مع اللي رباك ووعد يا “نـادر” هجيبك راكع تحت رجلي تتمنى الرضا وبرضه مش هتنوله، وأنتَ يا “يـوسف” كل مرة بتديني فكرة غلط عنك.
أنتشى “يـوسف” بشهادته لخسارة الآخر وقهره وقد هتف باستهتارٍ كأنه لا يكترث بمسئولٍ حكومي مثل هذا البغيض:
_خلي بالك بس تضيع منك.
هكذا كان جوابه الوقح فيما هتف “نـادر” بصلدةٍ:
_هي مش مراتي أنا مطلقها وحتى لو دا يعتبر طلقة واحدة فالموت عندي أهون من إن دي تكون مراتي، ولو في شهور العِدة فأنا محرمها عليا، يعني كدا آخركم معايا أما موضوع الذُل دا فبنتك مسابتش حاجة لسه معملتهاش تذلني بيها، لو أنتَ راجل وقابل على كرامتك كدا فأنا مش هقبل، ولو فيه حب في قلبي ليها فدا أتحول كره خلاص، برة يلا.
إهانة جديدة يتلقاها رجلٌ مثله تضج المجالس ومصادر الأموال بذكراه وقد سحب ابنته من ذراعها وفتح الباب بعدما شملهم بنظرةٍ حاقدة، فيما أوقفه “سـراج” بقوله المتشفي:
_”نـزيه” بيه!! أنا الصبح عملت كام مكالمة كدا مع علاقاتي الشمال، وقدمت فيك بلاغ لمباحث الأموال العامة، ومصلحة الضرايب والسجل التجاري لشركاتك، وآسف يعني ممكن كتاجر سُمعتك تضرب، بس متقلقش، لو أتضربت أنا هجيب الدوا على حسابي.
يوم الصفعات التي لا ترحم ويوم إنتصار “يـوسف” على الجميع، أتتذكرون كيف برأ الخالق الذئب من دمِ بن “يـعقوب”؟ واليوم إرادة الخالق تسير فوق إرادة البشر ويتحقق ما أراده الله للعباد، كانت صفعة لا تُحتمل فوق الوجه، لكنه تحرك بابنته لكي يلحق ما يُمكن له إلحاقه قبل أن تتدمر سُمعته وسُمعة عمله، وفي نفس الدقيقة هتف “إيـهاب” بحنقٍ:
_خلاص يلا نمشي؟.
حرك “يـوسف” رأسه نفيًا ثم جلس يُهندم سترته وهتف مُفسرًا:
_لأ لسه الفقرة التانية، بصوا أنا رايق أوي النهاردة وعندي استعداد أعمل أي حاجة، فعلشان كدا خلونا مستنيين، هو مش هيتأخر عمومًا.
بالفعل صدح صوت جرس الباب وكان الطارق “سـامي” الذي تفاجأ بـ الشباب وخاصةً “يـوسف” الذي أبتسم بشرٍ ثم هتف ببرودٍ أعرب عن إنتشائه بقوله:
_والله ولا عمري تخيلت إني أعمل اللي هعمله دا، بس تخيل أنا جايبك هنا مخصوص علشان أقهرك؟ بص أنا هخلي أخويا الصغير هو اللي يقولك بقى كل حاجة.
أشار على “نـادر” الذي رأى الشر في عيني والده لكنه أستند فوق عصاه ثم نطق بجمودٍ:
_أنا المرة دي بجد مش عاوزك ولا عاوز منك حاجة خالص، عاوزك تبعد عني وتسيبني في حالي خالص، النهاردة أنا كنت بتشتم والناس كلها بتتهمني إني راجل ظالم وزبالة، وأنتَ كنت فين؟ في الشغل طبعًا، بتعمل إيـه؟ بتكوش على فلوس وخلاص، بس أنا فاض بيا، أنتَ ولا مرة عملتلي قيمة ورد إعتبار، راجل زيي وطولي كان زمانه أب لسه أبوه بيضربه!! وعلى إيـه؟ أنا هسيبهالك وأمشي.
أنهى حديثه بوجعٍ فيما صرخ “سـامي” عاليًا بإنهيارٍ وهو يرى أكثر ما خشى حدوثه أمام عينيه:
_لأ، متسمعش كلامه يا “نـادر” دا بيستغلك، عاوز يستخدمك ضدي بس، أنا والله كنت في الشغل علشان الناس تتلهي بعيد عنك أنتَ، “يـوسف” بيكرهك وعاوز يستغلك بس علشان يقهرني مش أكتر، أنا بحبك يا “نـادر” بحبك وهو علشان معندوش أب زيك عاوز يحرمك من كل حاجة.
كان حديثه يشع خُبثًا وقد أنهار أمام ابنه الذي رغم كل شيءٍ تألم لهذا الوضع لكنه وعد “يـوسف” أن يُكمل معه الطريق حتى النهاية لذا أقترب منه “يـوسف” يسانده وهتف بتشفٍ وشرٍ:
_معلش بقى يا أنكل، يدوبك نلحق نتحرك علشان نرجع الحارة بدري، أصل ابنك أخيرًا هينول شرف دخول حارة “العـطار” ويبقى تحت حمايتي كمان، ومش بس كدا؟ دا الحج “عبدالقادر العطار” بنفسه هيتولى رعايته، سوري نسيت أقولك إن “نـادر” كمان عملي توكيل بكل حاجة حتى الشركة أنا اللي هتصرف فيها باسمه، هتقولي إزاي والنهاردة الجمعة، هقولك زي ما الست والدة كانت بتقضيها رقص لحد الصبح.
يتواقح ويتمادى ويُبالغ لكنه صاحب الحق، وصاحب الحق يملك العين القوية في فعل كل شيءٍ، لذا كان الآخر أمامه صامتًا كأنه داخل كابوسٍ مروعٍ، فيما تحرك “يـوسف” نحو الداخل وأشار لـ “فـاتن” التي قامت بجمع الحقائب وخرجت لابن شقيقها تهتف برأسٍ مرفوعٍ:
_أنا جمعت الحاجة كلها خلاص بتاعتي وبتاعة “نـادر”.
توسعت عينا “سـامي” الذي تأكد أن ما يحدث هي الحقيقة بذاتها، بل والأدهىٰ أن “يـوسف” يقف أمامه شامخًا رافع الرأس عزيزًا، ثم أقترب منه وأشار إلى “إيـهاب” بقوله:
_اللي واقف دا أخويا الكبير، يوم ما رجلي خطت السمان كله قال عليا الغريب وبقى اللقب بتاعي هو الغريب، وفي مرة جت عيال شايفة نفسها عليا وأنا عند الخيول عدموني العافية، وكسروني علشان عاوزين خيول بالعافية من غير فلوس، وواحد فيهم ضربني بالمطوة في دراعي ساعتها وخلاني تحت رجله يكمل فيا ضرب وأنا عيل لسه عودي بيشد، وساعتها معرفتش أجيب حقي، بس الحج “نَـعيم” أمر العيال دي تتجاب وساعتها بقى، “إيـهاب” علمني الحق بيرجع إزاي..
_قالي إن الحق بيرجع بالأصعب، اللي يشوف نفسه عليك بحاجة خُدها منه وخليه يبكي عليها، واللي وجعك بكلمة ردهاله ١٠ علشان يفكر قبل ما ييجي يتكلم ويوجع غيره مرة تانية، وأول حاجة عملتها لما خدت حقي بأيدي ضربت العيال دي وخدت منهم المطوة اللي فرحانين بيها، علشان أعرفهم إن اللي عاوز يعمل نفسه جامد مش مبيروحش يصدع الناس، نفس الفكرة أنتَ، باخد منك اللي مخليك صالب طولك وشايف نفسك، معلش قلة أدب مني بقى، بس مش معقول يعني تبقى واخدني محتوى ليك وأنا أبلع وأسكت، مش دايب في جمالك أنا، ودلوقتي برة بقى علشان الشقة ترجع لأصحابها.
قام بطرده كما فعلها الآخر في العديد من المرات وقد وقف “سـامي” مصدومًا وهو يرى ابنه يُسحب كما الطفل الصغير ليأخذ صف غريمه وقد صرخ وثارت ثورته لكي يتحصل على ابنه من جديد لكن السيف سبق العزل وخرجوا من الشقة وقد تولى “إيـهاب” مهمة إخراج “سـامي” وتركه وسط الطريق تائهًا يصرخ باسم ابنه لكي يعود له كما كان، لكن يبدو أن ابنه تلك المرة قصدها عمدًا مُتعمدًا..
_________________________________
<“حياة جديدة رُبما تنتظرك، فتحرك نحوها”>
لابد من خطوةٍ واحدة يتم أخذها لكي تحصل على ما أردته، خطوةٌ يتوجب عليك أن تتحلى بالشجاعة لكي تخطو نحوها ثم ترى نصب عينيك ما يجعلك على يقينٍ أنكَ فعلت الصواب يوم أن تضم أحلامك بين ذراعيك..
جلس “مُـنذر” في بيت عمه يمسك الحاسوب وهو يمرر محرك البحث في عدة ملفات وصلته من المجهول الذي يعاونه من الخارج ومنها خرائط متعددة لمختلف الأماكن المرصودة بترقبٍ لسرقة الآثار منها، أما الملف الثاني فهو يخص البشر، أو عفوًا السلع الرخيصة التي أضحت زهيدة الثمن مؤخرًا، وقد رأى اسم عدة دور أيتام وأماكن مختلفة يتم نقل البشر منها وكأنهم ليسوا من جنس بني أدم، وقد صُعِقَ وهو يرى اسماء الاشخاص وبعد الصفقات التي تمت بالفعل رغم غياب “مـاكسيم”!! وما يُعني ذلك أن بديله هُنا..
زفر بقوةٍ ثم أغلق الحاسوب وأمسك هاتفه يتصفحه قليلًا رغم قلة الفئة التي يُتابعها حيث أختصرها فقط في الشباب وعمه وزملائه بالعمل وقد وجدها أمامه في قائمة إقتراح الشخصيات فأبتسم وولج حسابها يتصفحه فوجد العديد من الأشياء الغريبة مثلها، لكنه أيقن أنها تحب القمر وتعشق الزرع الأخضر، وهذا من كثرة تصويرها لهما، وأيضًا صورها برفقة ابنة شقيقها الصغيرة وكأنهما نسختان بمختلف العمر في الصفات المرحة، وقد وجدها أرسلت له تمازحه:
_بتراقبني ليه؟ خير؟.
توسعت عيناه بصدمةٍ لكنه سرعان ما أيقن من هي وأنها تُلقي بالتخمينات أمامه فضحك وكتب لها يجاوبها:
_لأ مش براقبك ولا حاجة، واضح إنك أنتِ اللي مركزة معايا أوي بدليل إنك عرفتي إني فاتح بعتيلي علطول، شكلك نسيتي إني بفهم برضه زيك، بس أقولك حاجة؟ أنا فاهم إنك مخلية “تـمارا” تقرب مني علشان تصاحبني، وعامةً أنا مبسوط أوي بإهتمامك دا.
أبتسمت رغمًا عنها وطواعيةً من قلبها الساذج وقد أضاف هو مُتحديًا بذلك تردده وخوفه:
_بصي أنا معنديش صحاب وبرضه حياتي الجديدة دي غريبة وعلشان كدا مستغرب الأوضاع هنا، بس أنا أكيد حاسس مثلًا إني متطمن معاكم ومرتاح، أنا مش شخص حياته طبيعية ولا عمري كنت طبيعي، بس يعني ممكن أعتبرك صاحبتي زي “تـمارا” و “چـودي” كدا.
تعمد إرسال الاسم الثاني فوجدها ترسل له بغيرةٍ واضحة استشفها من الرمز التعبيري المبعوث بحنقٍ:
_مين “چـودي”؟.
ضحك بخفةٍ ثم أرسل لها صورته برفقة الصغيرة فضحكت هي حينما شاركها بصورةٍ فأبتسمت هي أكثر حينما وجدته يُبرر له بـقوله:
_دي بنت أخت “سـراج” صاحبنا هنا.
قررت أن تراوغه وكتبت هي الأخرى:
_خلاص أنا قررت أعتبرك زي “مـارد”.
أرسل لها نفس رسالتها بإختلاف الاسم لترسل له صورتها برفقة قطها المُذكر وقد ضحك هو وفتح أبواب قلبه على مصراعيها وهي تتوغل لداخل قصرٍ مهجورٍ مُظلمٍ، ثم بدأت دورها كأميرة في هذا القصر لتقوم بإضاءة الأنوار أولًا ومن ثم تكتشف بعد كل ذلك ماهو قادمٌ، وقد فتح صورتها يقوم بتكبيرها ليرى الدفء في عينيها يتسلل نحو قلبه فرق فؤاده وتحرك من موضعه، وقد صدح السؤال في عقله:
_تفتكر ممكن تحب واحد زيك؟.
ذاك السؤال البغيض الذي يتردد في العقل فيؤلم القلب جعله يُغلق الهاتف ثم ألقاه بجواره، لقد بدأ ينجذب لها كما تنجذب الفراشات نحو اللهب، لكنه لم ينس أبدًا أن ماضيه لن يُقبل، قاتل مثله وسارق ونسبه مجهول، هل يُعقل أن تقبله طبيبة مثلها بعائلتها؟ هي لو فقط تُطمئنه أو لو يتناسى هو لكانت الأوضاع أفضل مما هي عليه…
خرج من البيت يتوجه نحو حظائر الفرس وقد وجد هناك “مُـحي” بجوار مُهرته اللامعة وقد كان الآخر شاردًا بصمتٍ فوقف بجوراهٍ ورفع كفه يضعه فوق ظهره وسأله بثباتٍ:
_بتفكر فيها صح؟.
حرك الآخر رأسه نحوه يسأله بحيرةٍ نطقتها عيناه:
_هي مين؟.
_البنت اللي شوفناها في الفرح، شكلك بيتغير قدامها كأنك عيل تايه ما صدق يلاقي حد يعرفه، تعرفها منين دي؟.
تعجب في باديء الأمر لكنه تنهد وتفوه بثقلٍ:
_المصيبة السودا إني معرفهاش، هي جـنية مش “جـنة” بتظهرلي أنا بس ومنين ما تكون موجودة عيني بتلقطها بسرعة، هي غير الكل كدا، تحسها طفرة غريبة مش معروفة، بس مختلفة ومميزة، مش عارف، بس اللي عارفه إن مستحيل واحدة زي دي أبقى أنا مثلًا فتى أحلامها، بس يمكن هي تكون مثلًا البنت اللي نفسي فيها.
تفهم “مُـنذر” مشاعره المُتخبطة لكنه قرر أن يعاونه فهتف بثباتٍ يدعمه بـه:
_عارف إن اللي شبه بعض لما بيكونوا جنب بعض بيكونوا غريبين؟ يعني مينفعش الأسود كله مع بعضه ولا الأبيض كله مع بعضه، لازم يكون فيه إختلاف شوية علشان الحاجات التانية قيمتها تظهر وتبان كمان، فصدقني أختلافكم دا يمكن يكون سبب كبير إنكم تنجذبوا لبعض، بعدين أظن يعني يا “كازانوفا” أنتَ مفيش ست تقولك لأ، مش دا كلامك؟.
أبتسم بزاوية فمه وهتف بتهكمٍ لاذعٍ يواري خلفه الكثير:
_دي بالذات نفسي تقولي لأ، وواثق إنها هتقول لأ، علشان مش زيي ومش شبهي حتى، بس يمكن تكون سبب حاجات كتير تتغير علشانها، وألاقي فيها الحنية اللي بسمع عنها من الكل دي، وأنتَ كمان بكرة تحب واحدة وتحبك هي كمان لأنك أكيد تستاهل تتحب.
كلاهما يُشابه الآخر في تناقضه مع قرينه وكلاهما يحتاج لفرصة ذهبية لكي يأخذ خطوة واحدة يُكللها النجاح، لذا سكت الإثنان عن الحديث وظلا يراقبا الخيول بصمتٍ..
في الملحق المجاور لهم..
كانت تجلس في شقتها بمفردها بسبب تأخر زوجها وقد مررت كفيها فوق بطنها المنتفخة ثم راقبت التقويم وهي تبتسم بحنانٍ وتَعُد الأيام المُتبقية لوضع جنينها الأول من بعد أربعة أشهر وأقل، وقد ضحكت بحماسٍ حينما تذكرت سعادة زوجها أمسًا في عقد قران شقيقه وكيف دللها بسبب سعادته وما إن تذكرت أمر غيابه حتى في يوم أجازته جعدت ملامحها وهتفت بحنقٍ:
_راجل وغـد بصحيح، بغزالة.
أنهت جملتها تزامنًا مع وصوله فزفرت بقوةٍ وتصنعت اللامبالاة فيما جاورها هو وتنهد بثقلٍ ثم سألها بصوتٍ مبحوحٍ به لمحة سُخرية:
_إزيك يا اسم ولقب وصفة، أخبارك إيـه؟.
أرشقته بنظراتٍ نارية غاضبة ثم حركت رأسها للجهة الأخرى تهرب منه فوجدته يشرأب برأسه نحوها وهتف ساخرًا بتهكمٍ لاذعٍ:
_دي وسيلة عقاب جديدة؟ لأ حلوة بصراحة، إمبارح أغير وأكل وأشرب وأسرح وأنيم والنهاردة البوز دا، تصدقي إني راجل ناقص رباية بصحيح، وغـد على رأيك.
ألتفتت له تسأله بإندفاعٍ في وجهه بعدها تحول للإحباط:
_أنتَ ليك عين تتكلم وتتريق؟ كنت فين سيادتك من الصبح والنهاردة أجازتك؟ سايبني كأني ماليش لازمة هنا؟ يعني إمبارح تفضل تدلل وتهنن فيا والنهاردة تهملني؟ إيـه شغل القهوجية دا؟ بتجر رجل الزبون يا “إيـهاب”؟.
ضحك رغمًا عنه على تذمرها وطريقتها لكنه وأد تلك الضحكة سريعًا فهي منذ أن حملت في بطنها صغيرهما وهي أصبحت تتصرف بغرابةٍ ثم تبكي وتصرخ ثم تعود وتحتضنه ثم تدفعه بعيدًا عنها لذا ضحك معها فوجدها ترفع حاجبيها له بشرٍ، أما هو فزفر بقوةٍ وسألها بثباتٍ:
_طلباتك إيـه ولخصي أنا على أخري.
أقتربت منه تطلب منه بصراحةٍ دون أن تواري هدفها:
_خدني في حضنك زي إمبارح، أنا حاسة إني تعبانة النهاردة بس مش بعرف أتوجع غير لما أجيب آخري في الوجع، ولا هتقول إنك نازل تاني؟ يا أخويا ياريتني كنت سلم على الأقل كنت هشوفك في الطالعة والنازلة.
ضحك رغمًا عنه ثم ترك موضعه وأقترب منها بُغتةً يضع كلا ذراعيه على جسدها، واحدٌ خلف رُكبتيها والثاني خلف ظهرها ثم حملها على ذراعيه حتى شهقت هي بلهفةٍ من فعله لكنه ولج بها الغرفة ثم وضعها فوق الفراش وجلس بقربها ثم سحب العقار الطبي يُعطيه لها وقد تناولته هي بعدما نست موعده بينما هو لم ينس، ثم جلس وسحبها لداخل حضنه وضمها بين ذراعيه ثم هتف بسخريةٍ:
_في العموم الستات دماغها تعبانة ومش فاهمة هي عاوزة إيه، بس أنتِ ست وحامل، يعني الويل ويلين، فعدي يومك معايا كدا خالص، علشان وربنا المعبود أنا على أخري والله، وجاي تعبان وفاصل خالص، أما الحدوتة بقى، فأنام شوية ونصحى ناكل وأحكيلك حواديت كتير أوي، نامي بس يلا.
تنهدت هي وأغمضت عينيها وقد شدد هو ضمته لها ثم حرك أنامله في فروة رأسها يقوم بتمسيد سطحها وأخيرًا بعد يومٍ بلغ عليه التعب فيه أشده يحتويها بين ذراعيه وكأنها كل ما له في تلك الدنيا، حتى في أوج لحظات غضبها يشعر بمسئوليته نحوها لذا أبتسم حينما وجدها تدس كفها في خصلاته أثناء نومه تمسد فوق رأسه لتتحول بسمته إلى ضحكة يائسة على أفعالها الأغرب من كل غريبٍ..
__________________________________
<“هي لحظاتٍ سعيدة أتت فجأةً”>
شتان ما بين نعيم الجهل وشقاء المعرفة، يبدو الأمر وكأن الفارق بينهما يملأ الفراغ بين السماء والأرض من وسع الفجوة الفارقة بينهما، لكن إذا كان الأمر يستوي في الألم فيما بعد، فأنعم بنعيم الجهل وأترك شقاء المعرفة جانبًا..
فوق سطح البناية لازالت البهجة منتشرة بجلوس الفتيات سويًا وقد صنعن لأنفسهن جلسة فوق سطح البيت بها العديد من المأكولات والمشروبات والتسامر والغناء بصوت “عـهد” ورقصات “قـمر” و “ضُـحى” فمن يراهن يظنها عشية العيد وقد صعدت لهن “أسماء” ومعها “غـالية” و “مـي” وقد ضحكت النساء عليهن حتى هتفت “مارينا” بنبرةٍ ضاحكة:
_واضح كدا إنهم خدوا على الفرحة أوي.
أنتشرت الضحكات عليهن وقد وقفت “أسـماء” تشاركهن
الفرحة وهي تصفق لهن وتحتضن ابنتيها وتتراقص معهن وقد عادوا من جديد للضحكات ثم بدأت “نِـهال” بالإندماج وسطهن ثم تلتها “جـنة” ثم أخرهن كانت “آيـات” التي تحركت وفقًا لرغبتهن جميعًا، جلسة مرحة وساحرة و “عـهد” تُدمدم فوق الطاولة بينما “ضُـحى” فرفعت صوتها تطلق زغرودة عالية جعلت الجميع يضحكن عليها بأصواتٍ عالية وقد رفعت “عـهد” صوتها عاليًا:
_اللي تاعبنا سنين في هواه
عامل نفسه ميعرفناش
بعد العمر دا كله معاه فاتنه
وقال راجع ولا جاش..
ضحكات وتسامرات وأصوات غناءٍ عالية وتصفيقات وكأن الفرح أحب الجلوس وسطهن لذا أستمرت الجلسة بينهن بسعادةٍ بالغة وفقط ما يتمنوه أن تدوم تلك الجلسة بكل مافيها من فرحٍ..
__________________________________
<“فتحت عَـكا أبوابها ترحيبًا بالفاتح”>
نَـحنُ لكِ نحنْ، والقلب أيضًا أطمئن، ومن بعد التيه استهدى لطرقاتك وفي كنفك عرف كيف يَسكن ويُسكن ويأمن ويطمئن..
في مـقر شركة “الراوي” كان العمل يومًا استثنائيًا لذا تم خروج بعض الموظفين أبكر من موعدهم المعتاد للرحيل وقد خرج “عُـدي” من مكتبه يقف بجوار مكتبها وقد خرجت هي تحمل حقيبة الحاسوب فحملها هو من يدها ثم أبتسم لها باستفزازٍ حتى سألته هي بتكهنٍ:
_أنتِ هتعيش الدور بقى شكلك كدا؟.
حرك كتفيه ثم جاوب بزهوٍ في نفسه لكونه استطاع سبر أغوارها أخيرًا وتخطي حصونها المنيعة:
_حقي طبعًا، مش أخيرًا وصلت البر، رغم إني لسه غريق والله زي ما أنا بس مش مهم، بكرة نحل أمر الغرق دا.
توترت هي منه وأصابتها التُخمة وهي تتحرك بجواره ولأول مـرة لم تكترث لنظرات الناس حولها بل رفعت رأسها وسارت بجواره حتى وقفت بجوار سيارتها ففاجئها بقوله:
_أنا كلمت مامتك وخدت منها معاد علشان أتقدم رسمي، أنا للآسف مش بتاع لعب وهزار، أنا بحب كل حاجة تبقى صح، وزي ما مرضيتش أختي يبقى فيه في موضوعها حاجة غلط يبقى برضه مرضهاش ليكِ، هسيبلك فرصة برضه تفكري في الموضوع علشان متحسيش إنك مخضوضة مني، وفكري براحتك علشان متتحرجيش، وأيًا كان قرارك هحترمه والله.
رفعت عينيها له تراقب ملامحه والخوف البادي عليها وقد سألته بخوفٍ من نفسها وإضطراب مشاعرها:
_حتى لو فكرت والإجابة طلعت لأ؟.
أبتسم لها بصفاءٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_حتى لو كدا مفيش مشاكل، برضه هفضل محافظ على مشاعرك زي ماهي في قلبي يا “رهـف” ويمكن تبقي أول حاجة ألح وأكرر طلبي علشانها، بس فكري بقلبك وألغي مشاعرك، أنا قلبي عاوزك وعقلي عاوز عقلك يكمله، يبقى خسارة أضيعك مني وأنتِ تضيعي نفسك مني، ولو عليا مستني منك كلمة واحدة ترد فيا الروح، والله قابل بالقليل منك مهما كان، وبراحتك مش هجبرك على حاجة.
طمأنها بحديثه فأبتسمت له هي بوجهٍ مُشرقٍ ثم تنهدت بعمقٍ وفتحت باب سيارتها تتهرب منه وهي تقول بمزاحٍ:
_لو حصل ووافقت يعني أبقى هات بوكيه ورد حلو.
مال على باب السيارة يهتف بسعادةٍ أجاد إخفائها:
_بحق الشقا اللي شوفته في حياتي كله، هجيبلك ورد وقصاد كل وردة هنسى معاها كل يوم صعب شوفته، وأنتِ برضه لازم تنسي اللي زعلك قبلي، ولو على الورد هجيبه بس هاتي أنتِ الـود.
ضحكت على مغازلته ثم لوحت له بكفها وقد وقف هو يتابع أثرها ببسمةٍ واسعة وقلبٍ يتراقص بين الضلوع بفرحٍ لم يرْ مثيله إلى حينما فتحت له القلعة الحصينة أبوابها وأعلنت الإذعان لولاية حكمه، وكأن القلب حدثه ممنيًا نفسه بقوله:
“ظفرنا أنا وأنتَ وفُتِحَت لنا أعتى الحصون..
ربحنا الحُب من الحياة
وكأنها هي ليلى وبها أنا المجنون.”
__________________________________
<“الحُق يرد بطرقَنا، هل أزعجناك؟”>
يُحق لصاحب الحق أن يسترده بالطريقة التي تناسبه وكيفما يشاء، فلا للآخرين أن يزعجهم الأمر، فمن سبق وأعتدى على حقك لا تتردد قبل أن تسترد حقك منه مهما كلفك الأمر..
في حارة “العـطار” وبداخل بنايةٍ ما فيها تبعد بمسافة قليلة عن بناية “يـوسف” ولج شقةً فيها برفقة عمته وابنها ومعهما “حنين” التي تسكن هنا من الأساس وتعد تلك الحارة هي مسقط رأسها وقد أطمئن هو عليهم ثم هتف بثباتٍ:
_أنا كدا عملت اللي أتفقت عليه معاك رجعتلك حقك من بنت “نَـزيه” والفيديو خلاص أتمسح من عندها والناس آخرها كلمتين بيومين وتنسى، وبما إنك كملتها معايا للآخر أنا عاوزك تفهم حاجة، أنا مش علشان بساعدك يبقى مسامحك، اللي بينا زي بحور الدم مبينشفش، ومن الأول فهمتك إني بستغلك لحد ما أظبط دنيتي مع أبـوك و “عـاصم” علشان مترجعش تقول إني استغليتك، بس أهم حاجة إنك تبقى عارف علشان الخيانة مش طـبعي.
أنزعجت “حـنين” من طريقته فأندفعت فيه بتهورٍ توقفه بقوله:
_مالبراحة يا جدع أنتَ!! هو أنتَ علطول كدا زي القطر محدش عارف يوقفك؟ طب راعيه وراعي حالته وتعبه حتى، بس نقول إيـه ناس مفيش في قلبها رحمة وإكمنه غلبان وطيب وساكت ليك بتيجي عليه كدا؟ والله أنتَ صعب أوي.
لوت “فـاتن” فمها بخوفٍ من رد فعل ابن شقيقها الذي توسعت عيناه وألتفت لها بحركةٍ رتيبة ثم شملها بعينيه يستطلع هويتها ثم سألها بحيرةٍ:
_مين أنتِ؟.
رفعت أحد حاجبيها ثم هتفت بحنقٍ:
_أنا “حـنين” الممرضة اللي مسئولة عنه ولو مش واخد بالك هو تعبان وحالته صعبة أوي نفسيًا قبل جسديًا بس نقول إيه بقى مش كل الناس بترحم، فيه ناس قلبها جاحد.
أنهت مرافعتها في الدفاع عنه فيما افتر ثُـغر “يـوسف” ببسمةٍ طفيفة ثم طالع ابن عمته وهتف بسخريةٍ:
_مقالوش إن التمريض فيه قسم مرافعات يعني يا “نـادر” بس وماله تلاقي الآنسة فالتة وربك كرمها من وسع، عمومًا اللي أتفقنا عليه هيحصل بس كمل معايا، والشقة دي هتفضلوا فيها لحد ما نفضي البيت من الأشكال اللي فيه، ولو محتاجين حاجة رقمي معاكم ولو موصلتوش ليا، يبقى “أيـهم” أقَرب وهو مكاني.
أنهى حديثه ثم أنتصب في وقفته وشمل الفتاة بنظرة جعلتها ترمقه بغضبٍ وهي تحصره في صورة الظالم الذي لم يرحم الضعيف بينما هو فكتم ضحكته على تلك الحمقاء ثم اخرج هاتفه وأخرج رقمًا منه وقد أنتظر حتى وصله الرد فهتف بثباتٍ وتريثٍ قاتلٍ:
_أعمل اللي اتفقنا عليه.
في بيت “الـراوي” بمنطقة الزمالك كان “سـامي” يجلس كمن يجلس فوق النيران الملتهبة كأنه يجلس فوق موقدٍ وقد ظل يثور ويجول وهو يجد الوضع تأزم أكثر، ففي حالة فرض “عبدالقادر” سيطرته على الجميع فهذا يُعني نهايته الحتمية وقد وقف “عـاصم” بجوار زوجته يراقب وضع البيت الفارغ عليهم حتى صدح صوت هاتف “سـامي” وأخرجه يجاوب على المكالمة وما إن وجد رقم المحامي الخاص بالشئون العائلية جاوب مُسرعًا فهتف الآخر بآسفٍ يخبره بما حدث:
_أنا آسف يا “سـامي” بيه بس “نـادر” من يومين بالظبط عمل توكيل لـ “يـوسف الراوي” وحوله كل حاجة حتى حسابه في البنك كمان خلاه مشترك بينهم هما الاتنين والحقيقة مش عارف دا حصل إزاي، بس هو حصل.
يُقال دومًا أن ضربتين في الرأس تؤلمها، لكنهم نسوا أن كثرة صفعات الوجه تُهشمه، وإن كانوا سالبي الحق مثل ذاك فنسأل الله أن يُهشم رأسه أيضًا، أما الصافع فنسأل الله المُباركة في عمره.
__________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى