روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والسادس والثلاثون 136 بقلم شمس محمد

موقع كتابك في سطور

رواية غوثهم الفصل المائة والسادس والثلاثون 136 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والسادس والثلاثون

رواية غوثهم البارت المائة والسادس والثلاثون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والسادسة والثلاثون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الواحد والخمسون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
“فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ”
‏وأنا يارب مَغلوب،
‏وأناديك بقلبٍ يرتجف،
‏أجبر قلبي بما أرجوك بِه كل يوم،
‏ فَوحدك تعلم بحالي يا رب..
أدعوك بل أرجوك ألا تكلني
لنفسي طرفة عينٍ، وألا تتركني
تائهًا لا أدري مساري إلى أين.
_”مقتبس”
__________________________________
يومًا ما برحمة الخالق سندرك مشاعر العودة..
رُبما البعض يجهل قيمة شعور العودة لكن من عاشه هو من يُقدره أحق التقدير، أتعلمين أقصد أي عودة؟ العودة التي تقترن بالراحةِ من بعد التعبِ، وبالفرحِ من بعد الحزن، وبالأمل من بعد الألمِ، عودة تُشبه عودة الطير مكسور الجناحين بعد رحلةٍ طيرٍ كانت شاقة عليه، أو رُبما هي عودة السفن لمرساها من بعد إبحارٍ وسط أمواجٍ هائجة حطم أخشابها وأظهر الشقوق بها، عودة تشبه عودة من تغرب عن بيته لأعوامٍ بحثًا عن الرزق ومن ثُم عاد لموطنه وارتمى بين ذراعي أمه، أتعلمين أي عودة أخرى تشبه تلك العودة؟ عودة الأسير يوم أن ينفك الأسر بإرادة خالقه ويدرك شعاع الحُرية المُنبثق من شمسٍ طالت أيامه بنورها، الفرحة التي أقصدها أنا هي فرحة عودة كل شيءٍ لأصله، رُبما عودة البصر لمن فقد بصره، عودة السمع لمن راح عنه سمعه، عودة الضال لبيته مُسترشدًا، وعودة التائه لعناق أحبته مُستهديًا، عودة كل جزءٍ لأصله الكُل، أما أنا؟ فأنا أود أن أتوب ثم أعود، أود أن تكون عودتي لنفسي معكِ هي العودة المرغوبة، لطالما تمنيت أن أحظى في قوة إيماني بصبر “أيـوب” وأن أتحمل مرارة الفقد كما تحمل “يعقوب”، فلما راح عنه “يـوسف” الحبيب فقد البصر ودعا خالقه وكان إيمانه بالغًا وأمل العودة عن قريب، وأنا مالي فقط غير الأمل والدعاء، فأنا لستُ من النبيين حتى يبلغ الصبر في فؤادي مداه، ولا أملك في قلبي غير الصدق وأنا أرجو الخالق، والخالق أرحم من أن يرد قلبًا دعاه، فاللهم إني أسألك أن تَمُن عليَّ وعلىٰ قلبي أولًا بصبر “أيـوب” وأن تُبسط لي من الرزق ما تشاء وتكتب لي عودة تُقارن فرحتها بفرحة “يعقوب”.
<“الطير يرقص حزنًا بعد قتله حتى يُنهي أنفاسه”>
الطُرقات المُعتمة منذ بدايتها وأنتَ تدخلها خائفًا، لن تُهديك في مُنتصفها نورًا ليحثك على التكملة، وإنما ستجبرك وتدفعك نحو النهايةِ دفعًا، رُبما الخطأ في بعض الأحيان كان علينا نحن بسبب الاختيار الخاطيء لقطارٍ كان ركوبه سهلًا منذ البداية، لكن عند العودة من المؤكد أن ثمن التكلفةِ سيزداد أضعافًا.
ضُرِب وتلقى العديد من الضربات في جسده، الدم يحاوطه وينزف منه وهو يرتجف فوق الأرض بعدما تركوه أخيرًا فوق الرمال الصفراء التي تغير لونها حينما نزل فوقها دمه، حاول فتح فمه لكي ينطق ويستغيث بأحدهم لكنه لم يقدر ووجد صوته فارًا بعيدًا عن أحباله الصوتية، شعر بالقهر على نفسه وهو يُذل بتلك الطريقة، ظل يحاول لمدة ثوانٍ حتى أُغلِقَت جفونه فوق بعضها واستسلم للألم.
مرت دقائق عليه وهو فوق الأرض فاقدًا لوعيه حتى أتى أحد الشباب من وسط الحفل يتحدث في هاتفه لكنه لمح جسد المطروح أرضًا فأغلق هاتفه وركض نحوه سريعًا وهو يحاول معه لكي يُعيد له وعيه ومن ثم ركض نحو الحشد الغير واعٍ لما يدور حوله ثم استعان بالبعض وقاموا بمعاونته في رفع “مُـحي” داخل واحدةٍ من السيارات الخاصة بهم والآخر ولج عالمٍ غير العالم الذي كان فيه..
كان “مُـحي” فاقدًا لوعيه في هذا العالم، لكنه ولج عالمًا أكثر هدوءًا من الذي كان يعيش فيه، وجد نفسه هُناك بعيدًا عن الجميع في مكانٍ صافٍ، وجد نفسه تائهًا لا يعلم كيف تكون سُبل العودةِ من جديد لحياةٍ لا يعلم عنها أي شيءٍ لكن يشعر أنها تخصه هو، وقف يلهث في طريقٍ لم يجد به صوتًا إلا أنفاسه المهدورة هباءً ورافقها خرير الأشجار..
وجد نفسه في النهاية على شفا حُفرةٍ من النار فأطلق أنفاسه المحبوسة وهو يعود للخلف ركضًا قبل أن يسقط بها، ظل يركض للخلف ركضًا حتى صدح صوت والده وهو يرجوه أن يقترب منه، التفت له مشدوهًا فوجد “تَـيام” يقترب منه ثم سحبه من كفه كأنه أتى ينقذه وأثناء عودته معه بخنوعٍ وجدها تبتسم له كأن بسمتها تخصه هو وحده، كانت تخصه في واقعه والآن تخصه في أحلامه، التفت لها يسألها بعينيه ماذا يفعل فوجدها تُشير له عبر طريقٍ رآه هو أخضرًا كأنه طريقٌ للجنة، أعاد عينيه لها فوجدها تخبره جملة واحدة قبل أن يتحرك نحوها:
_لو عاوز توصل لازم تمشي في الطريق الصح، أوعى تتوه من نفسك يا “مُـحي” اختار طريقك صح قبل ما تضيع فيه.
_”جـنة”… “جـنة”!!
ظل يُردد اسمها في حُلمه وقد ظهر صوته أقرب للهمهمات الغير مفهومة تزامنًا مع استعادته لوعيه بداخل المشفىٰ، بعدما وصل إلى هناك مع الشباب الذين قاموا بمعاونته، استفاق من حالة الإغشاء تلك وفرق جفونه عن بعضها وهو يحاول السيطرة على ألم رأسه وجسده وحاول مجابهة الضوء الساقط على عينيه لكنه فشل في ذلك بشكلٍ واضحٍ..
في مكان الحفل كانت “إيـمي” تبكي بعيدًا عن الأعين بعدما تسبب هو في كسر قلبها وقام بجرح مشاعرها للمرة التي لا تعلم عددها، حتى أنها رأت الشباب وهم يضربونه ولم تتدخل بل صمتت وتركته وهي تراقبه بتشفٍ لعل ذلك يُطفيء نيران قلبها الذي لم يكترث هو به، انقسمت بين نفسها لنصفين، أحدهما أشفق عليه وتمنى أن ينقذه، والنصف الآخر نقم عليه ورأى أن ما يحدث معه هو العدل، حبها له تحول لكراهيةٍ وأول من تلقى الأذى كان هو ولم تهدأ إلا حينما أخذوه الشباب ورحلوا به ورأتهم هي بنفسها.
اقترب منها ذاك الشاب المهووس بها بعدما تسبب في ضربه وقام بتسليط الشباب عليه بعدما استمع لحديثهما سويًا، وقد تواصلت نظراتها الباكية بعينيه الجامدتين ورسم البراءة على وجهه وهو يقول مُشفقًا عليها:
_عرفتي أنا بكرهه ليه؟ علشان مخليكِ مالكيش لازمة وفرحان بجريك وراه وخلاص، كلنا عارفينه وعارفين أنانيته، بتاع سهر ورقص وكباريهات، ولما اتعدل شوية بقى بتاع بنات محدش عارف عددهم كام، عمره ما كان يستاهلك، أنا بس اللي بحبك وبتمنى قُربك مني، وعلشان تعرفي إني بحبك أنا اللي عملت فيه كدا، علشان يحرم يكلمك تاني بالطريقة بنت **** دي.
توسعت عيناها بغير تصديقٍ فوجدته يقترب منها أكثر وقد بدت الثمالة واضحةً على وجهه وفي نظراته وهو يقترب منها ثم حاول أن يتمادى في قربه لكنها دفعته عنها بكفين مُرتجفين، فازداد قُربه ثم أمسك مرفقها وهي ترتجف أمامه، الآن أدركت أن “مُـحي” حتى لو يحبها كما تود، لكنه كان يحافظ عليها هي، لم يقترب منها بأي شكلٍ، ولم يحدثها بطريقةٍ تُثير ازعاجها، لم يضرها بشيءٍ بل كان هدفه أولًا وأخيرًا هو الدفاع عنها والحفاظ عليها، قامت بدفع هذا الشاب عن مُحيط جسدها بعدما دقت نواقيس الخطر في عقلها.
وقفت أمامه بعينين زائغتين وقبل أن تسود نظراته برغبته في الاقتراب منها نجحت هي في تخليص نفسها ثم ولجت سيارة “مُـحي” ولحسن حظها أن المفاتيح لازالت في حقيبة خصرها فأخرجتها بسرعةٍ وبحركاتٍ غير محسوبة ثم جلست بها وهي تبكي بقهرٍ، بكت وانتحبت باكيةً والآن أدركت أن “مُـحي” بالتأكيد في أشد الحاجة لمن يكون معه، تحركت بالسيارة بعيدًا عن المكان وهي تبكي وقد تحركت عيناها بحثًا في المكان بغير هُدىٰ.
__________________________________
<“خلفوا في القلوب حُزنًا والعبرات تُزرف كمدًا”>
كل شيءٍ يفعله المرء يُساق إليه من جديد، وعلى الرغم أن المبدأ السائد هو التعامل بالرحمة واللين إلا أن البعض لم يرق لهم إلا التعامل مع غيرهم بقسوةٍ وغلظة قلبٍ، لو كان هناك منهم فردًا فقط يفكر لو ثوانٍ أن ما يفعله سوف يُرد له بل ويترك الأثر في قلب غيره، من المؤكد سَيُحسن صُنعًا.
ازداد الليل ظُلمةً، واشتد الظلام عليها وهي هُنا تقف على جُرف هاويةٍ قبل أن تسقط في بئرٍ مُظلمٍ في عمق التفكير، انقضت جلستها مع أسرة زوجها بسلامٍ بعد ضحكاتٍ عالية وأصواتٍ صاخبة في جلسة عائلية رأت انعاكس أثرها على وجه “يـوسف” الذي دون أن يدرك ذلك انخرط وسطهم ومع “نـادر” تدريجيًا والآخر يبدو أنه يسعد بمجرد كلمة تُوجه إليه من ابن خاله.
جلست “عـهد” تستعد كلام “فُـلة” بشأن النصائح الطبية لصحتها النفسية، فأتت بدفترٍ قديمٍ لم تعد بحاجةٍ إليه وظلت تدون به مخاوفها وكل شيءٍ يتسبب في ظهور كوابيسها، بدايةً من طردها في الشارع مع أمها وشقيقتها مرورًا بخوفها من “سـعد” حتى وصلت للخوف على زوجها، دونت كل شيءٍ في الدفتر ثم قامت ببتر تلك الصفحات كما تُبتر الأجزاء من الجسد ثم قامت بتمزيق تلك الصفحات إلى أشلاءٍ صغيرة وهي تتمنى أن تتفتت كوابيسها لهذا الشكل.
عادت للخلف تستند على ظهر الفراش وهي تتذكر أحد الكوابيس التي داهمتها طوال حياتها حتى باتت شبه مُلازمة لها، اغمضت جفونها وهي ترىٰ الكابوس نفسه، حيث ذاك البغيض الملقب بـ “سـعد” حينما حاول الاعتداء عليها، تذكرت كل شيءٍ وانقبض قلبها بخوفٍ وسرعان ما تذكرت “يـوسف” وابتسمت تلقائيًا وهي تراه يزور كابوسها لكن تلك المرة خطفها وضمها بين ذراعيه يفرض حمايته لها كما كان يفعل والدها، ابتسمت وهي تتذكر عطره المميز ونظراته الحانية حينما يضمها له، تذكرت رفقه معها وهي بين ذراعيه وهو يُعيد ترتيب خُصلاتها.
غاصت في ثُباتٍ عميقٍ وآخر ما تذكرته أنها في عناقه آمنة من كل شرٍ، احتفظت بتلك الصورة التي رسمتها في خيالها أنها معه في عناقه، ونامت هكذا وهي تشعر به حولها لكن كما يُقال أن من كان به طبعًا لن ينفك عنه، وهو دومًا كان وقحًا، حيث ظهر في كابوسها “سـعد” وهو يُخبرها أنه لن يتركه فحملها “يـوسف” فوق ذراعيه ثم اقترب منها يُلثم وجنتها بعمقٍ أمام الآخر وهي تحاول بالابتعاد عنه، لكنه تشبث بها أكثر ولثم وجنتها الآخرى وحينها بدا الكابوس غريبًا حينما اقترب منهما “سـعد” فضمها “يـوسف” له أكثر ثم ركض بها ضاحكًا وهي خلفه تضحك لأول مرةٍ في نومها قبل أن تستيقظ على صوت صرخات أتت من خلفها لا تعلم سببها.
انتفضت من نومها وهي تلهث بأنفاسٍ مقطوعة تبحث عن مصدر صوت الصرخات المدوية وقلبها يُدمدم كما طبول الحرب حينما تُقرع وهي تجلس بتيهٍ، لكن تلك المرة كان الكابوس مُميزًا، تغير تمامًا كما تغيرت حياتها في حضرته، وقد تذكرت تلثيماته في كابوسها فزفرت بقوةٍ ثم ناقضت نفسها ببسمةٍ تراقصت فوق شفتيها وقالت بقلة حيلة:
_يعني يا ربي هو وقح في الواقع والأحلام كمان؟.
في الأسفل كان هو بغرفته يقرأ عن مرضه وحالته وكلما قرأ كلما ازداد عُمقًا وتوغلًا في نفسه، وجد العديد من الأعراض باديةً بوضوحٍ عليه، في نهاية الأمر اضطر لمصارحة نفسه أنه مُضطربٌ بما يُسمى اضطراب الشخصية الحادية، قرأ بالموقع كل الأعراض ووجدها باديةً عليه بشكلٍ عجزه عن الهرب من المواجهة أمام نفسه، ومن ثم تذكر العلاج الأول الذي بدأ فيه وسار على نهجه رغم اخفاقه عدة مراتٍ في ذلك.
أخرج الدفتر الخاص به ثم دون كل شيءٍ، دون مشاعره وتخبطه وحيرته ودون أهمية كل فردٍ في حياته، سار على نهج حديث “جـواد” له بشأن العلاج المسمى طبيًا باسم “علاج مستند إلى تعقل” أو بلغة علم النفس فهو يسمى “MBT”، ظل يكتب اسم كل فردٍ في حياته وأهميته ومدى إدراكه له ولمشاعره نحوهم في يومه بأكمله، كانت مهمة ثقيلة عليه لكنه حاول أن يتحكم في الأصوات بداخله لكي يُصبح هو المُسيطر على الجميع، تنهد بثقلٍ ثم ترك دفتره وقام بتصوير ما دونه وأرسله لـ”جـواد” الذي طلب منه ذلك، بينما هو فشعر بالألم يسري في جسده وكتفه بالأخص.
كاد أن يتحرك من موضعه لكن الباب فُتِح وولجت “قـمر” وهي تحمل في يدها حقيبة الدواء الخاص به ثم جلست بقربه وهي تقول بنبرةٍ هادئة وتعتذر منه:
_حقك عليا علشان اتأخرت عليك، بس بجد والله نمت من تعبي وصحيت على صوت المنبه علشان تاخد علاجك، وماما لقيتها نايمة في أوضتها، هغيرك على الجرح الأول استنى.
قبل أن يرد عليها جلست أسفل قدمه ثم قامت بالكشف عن الجرح الذي توسط سطح قدمه وأسفل ركبته أيضًا ثم قامت بتطهير الجرح أولًا وتوالت بعدها الأفعال بينما هو ابتسم بحنوٍ لها ثم حرك كفه يُمسد فوق خصلاتها لكي يتأكد أنها معه حقًا، مسح فوق خصلاتها ثم عاد للخلف بينما هي أنهت ما تفعله ثم رفعت رأسها تخبره بسعادةٍ لأجله:
_الحمدلله رجلك دلوقتي أحسن بكتير، الجرح الأول لم كتير والتاني عاوز بس يتغير عليه علشان يكون كويس، هغسل ايدي وأجيلك أديك العلاج، ثواني.
تحركت من أمامه ثم عادت له من جديد وتلك المرة أعطته المُضاد الحيوي وعقاقير مُضادة للإلتهاب وقد تناول هو الدواء منها ثم رفع عينيه لها يُظهر امتنانه بعينيه لها فوجدها تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_كدا بقى تقدر تنام وتكمل نومك براحتك والدوا هيشتغل، أنا عامةً نيمت “أيـوب” زيك كدا برضه، أخد العلاج بعد صلاة العشا ونام وقال هيصحى يصلي قيام الليل بس “آيـات” و “أيـهم” معاه فمش قلقانة، الليل ليك أنتَ.
ابتسم لها ثم قرر أن يراوغها بقوله الذي رسم به لوحة المرح ليُضفيه على كلامه:
_طب ما تيجي تاخديني في حضنك خليني أنام، ولا أنا لازم يبقى اسمي “أيـوب” يعني علشان آخد معاملة زي بتاعته؟.
استنكرت حديثه وطريقته وضحكت رغمًا عنها وهي تقول بنفاذ صبرٍ تذكره بما حدث في السابق من كليهما:
_أنتَ ليك عين تفتح بوقك أصلًا؟ فوق يا “يـوسف” أنا داخلة لقياك نايم في حضن “أيـوب” وهو كان بيقرألك قرآن، يعني أنتَ بتاخد الضعف مننا، اسكت بالله عليك أحسن.
ضحك وشاركته هي الضحكات أيضًا لكنها اقتربت منه ثم جلست بقربه وضمته بأحد ذراعيها ثم توسد صدرها برأسه وأغمض عينيه فمسحت هي على رأسه حتى تأكدت أنه خلد للنوم، في تلك اللحظة أقسمت أن عمرها بأكمله لو ضاع فداءً لخدمتهما سويًا لن تشعر بأي تعبٍ أو مللٍ، بل الأهم لديها أن كل من تحبهم يكونون بخيرٍ أمام عينيها، مرت دقيقة أو ربما دقيقتين انتظمت فيهما أنفاسه فتنهدت هي بقوةٍ ثم مسحت على كتفه وكأنها ترى صورة “مصطفى” فيه هو.
__________________________________
<“كان سلاحهم الخبث في الحديث، وسلاحنا نقاء القلب”>
العقل دومًا كان راشدًا للقلب، وفي مرةٍ قال أحد الحكماء أن العقل أبو القلب ولا يَصح أن تنقلب الأدوار، فالعقل له الدور الخاص به في تهذيب القلب وإصلاحه، لكن ثمة بعض الأوضاع تنقلب فيها الأمور إلى أخرى، فيملك حينها القلب سلطانًا يجبر العقل والجسد على الخضوع له، وفي تلك الأحوال يجب أن يتدخل راشدًا ويفصل بينهما.
بدأ الفجر يبزغ ويأتي معه النهار الجديد، وقد كانت “فُـلة” تجلس في شُرفتها بعدما قضت ليلها بأكمله في جُب التفكير، فكرت في كل شيءٍ حدث معها أمسًا وكيف انقلبت الأوضاع في طرفة عينٍ، وأكثر ما استحوذ على فكرها أولًا دفاع “مُـنذر” عنها وثانيًا رد فعل شقيقها تجاهها، لقد امتنع عن الكلام معها، وفقط رمقها بنظرةٍ لو جالت الأرض بأكملها لكي تنساها لن تستطع فعلها، زفرت بقوةٍ وغفت مكانها دون أن تعلم كم الوقت المار عليها.
بعد ساعاتٍ مرت عليها استيقظت على صوت ابنة شقيقها “تمارا” وهي توقظها فانتفضت من مكانها لتجد أمها وشقيقها معًا، فوزعت نظراتها بينهما بتساوٍ لتنطق أمها بنبرةٍ هادئة:
_”مُـنذر” اتصل بينا امبارح وخلى عمه تواصل معانا علشان ياخد معاد وييجي يتقدم وللآسف عمك وعياله وعمتك هيحضروا الخطوبة ساعتها، أنا آخر حاجة كنت أتوقعها إني استقبلهم في بيتي تاني بعد اللي حصل منهم لينا، بس أنتِ السبب في كدا وربنا يسامحك بقى.
ترقرق الدمعُ في عينيها وشعرت أن قلبها يُغرس بسكينٍ حاد في منتصفه، وهي ترى نظرات “جـواد” لها، عيناه قصت خيبة الأمل التي شعر بها منها، ونظراته النافرة منها أخبرتها أنها ارتكبت جُرمًا في حق نفسها قبل الجميع، لذا اقتربت منه تسأله بصوتٍ باكٍ:
_طب كلمني طيب، قولي أي حاجة.
لم يقدر على التمسك بقسوته أمامها فتنهد مُرغمًا ونطق بجمودٍ يُعبى عن قسوة كلماته معها وقد قرر أن يُرشدها لعقلها:
_أنا زعلان منك وأنتِ عارفة كدا كويس أوي، وعارفة أني مبعرفش أتعامل مع حد وأنا زعلان منه، أنا عمري ما حرمتك من الحرية ولا فرضت عليكِ حاجة وقدرت كويس أوي إنك سافرتي كذا دولة وخدتي دكتوراه وشخص ناجح في حياته وأكيد ليكِ حقوق مينفعش أتعداها، بس باعتباري أخوكِ فيه حاجات مش هينفع أقبل بالتهاون فيها، كدا هبقى مش راجل أصلًا يا “فُـلة” وهبقى مقصر في الأمانة اللي أبوكِ سابهالي.
هرعت العبرات من عينيها سريعًا وهي تُطالعه بأسفٍ فوجدته يسحب نفسًا عميقًا ثم قال بثباتٍ:
_مينفعش تتخطي حدودك مع “مُـنذر” طول ما مفيش أي رابط بينكم مهما كان السبب، كل حاجة تكون في إطار الزمالة وبس ودا اللي كان المفروض يحصل من البداية، بس أنتِ تخطيتي كل الحدود دي، كلام وهزار وضحك، وأكيد دي حاجة تغضب ربنا، فطبيعي تكون النهاية إن حد يخوض في شرفك وسُمعتك، ومن مين؟ من عمك اللي كان عارف إن أخوه بيتاجر في الأعضاء وساكت، عارف إن أخوه بيتاجر بأرواح الناس وقبض تمن سكوته، ويوم ما جه يعمل فيها راجل الشرف والمباديء، جه يعملهم عليكِ أنتِ، علشان كدا أنا زعلان منك.
ارتمت عليه هي تبكي فوق صدره بعدما استشعرت فداحة فعلها وكارثة ما قامت بارتكابه لكنها نطقت بصوتٍ باكٍ تستجديه بقولها:
_والله العظيم أنا بحبك ومجرُأش أزعلك مني حتى، مش هنكر أنا غلطت، وتخطيت حدودي كمان بس والله العظيم أكيد مقصدش ومعرفش، بلاش تزعل مني، أنا والله بعتبرك زي بابا بالظبط وعمرك ما قليت عن الدور دا في حياتي، اعتبرني “تمارا” وغلطت، هترضى تبعد عن “تمارا”؟.
كان حديثها بريئًا للغاية حتى عجز هو عن مقاومة الانصياع خلفه فضمها بكلا ذراعيه يائسًا ثم ضحك رغمًا عنه وقال بنبرةٍ ضاحكة:
_طول عمرك سوسة وبتعرفي إزاي تجيبيني، وأنا علشان بعتبرك زي”تمارا” بالظبط مش هضغط عليكِ تاني، بس مش هأكد عليكِ إن مينفعش راجل وست الحدود بينهم تتلاشى بأي شكل من الأشكال، ومش علشان المجتمع ولا العادات والتقاليد، بس علشان ربنا واضع حدود مينفعش إحنا كناس مسملين نتخطاها، أظن يعني أنتِ بتصلي وعارفة أوامر ربنا، صح ولا لأ؟.
أومأت موافقةً ثم لثمت وجنته بحركةٍ طفولية جعلته يضمها أكثر ثم لثم جبينها وقرر أن يتلاعب بها فقال بجديةٍ يُجيد دومًا رسمها واللعب بها:
_بالنسبة لموضوع “مُـنذر” فنعمل فتر خطوبة كدا قصيرة علشان نسكتهم ومحدش يتكلم وبعدها نفك الخطوبة دي خالص علشان متبقاش فيها توريط لأي حد منكم، وخصوصًا هو، كدا أفضل صح؟.
أصابها بخنجر الإحباط في منتصف قلبها فتراجعت للخلف تشمله بعينيها لترى نظراته جادة وحادة كأنه يصر على ما تفوه به، فغمرها اليأس لذا نطقت بخضوعٍ له يتنافى مع مشاعرها:
_اللي تشوفه صح أعمله، أكيد مش هجادلك.
هو يعلم أنها تكذب وتضغط على نفسها، فهو قبل أن يكون طبيبًا بارعًا في مجال الصحة النفسية، فهو أخٌ بجدارةٍ كأنه أمسى أبًا لها، لذا استطاع قراءة عينيها واستشف في نظراتها حُبها للآخر، فابتسم ونظر لأمه وحينها ضحكت له أمه ما إن فهمت مشاعر ابنتها تجاه الآخر، بينما هي فلتوها أدركت أنه لم يفعل ما فعله باسم الحُب وإنما فعلها بدافع المروءة والشهامة في الدفاع عن سُمعة فتاةٍ تلطخت وتوجب عليه أن يحافظ عليها.
شعرت هي حينذاك أنها ترغب في البكاء، لما من أحبته هي لم يكترث بها ويُحبها؟ لما يراها عادية ولا يوجد ما يُميزها عن غيرها لكي تكون شريكته؟ لما الأمر معه وصل لهذا التعقيد وكأن المستحيل تجلى في علاقتهما معًا ليمنع ما قد يكون ممكنًا؟.
__________________________________
<“أجبرت على طريقٍ وجدت في بدايته نورًا”>
قيلت في واحدةٍ من الأساطير اليونانية أن البداية دومًا تتناسب تناسبًا عكسيًا مع النهاية، فوقتما تبدأ البداية باختيارك أنتَ حتمًا ستكون النهاية بالإجبار عليك، فنحن وبكل طواعيةً مِنَّا نختار الطُرقات وبكل إجبارٍ علينا نتركها.
ظهر الصُبحُ عليه في المشفى وهو يجلس بوجهٍ ممتليء بالضربات والكدمات والعلامات الزرقاء التي بانت على وجهه، وكذلك ذراعه الذي تورم إثر جُرحٍ غائرٍ تُرِكَ في مرفقه، ورُكبته اليسرىٰ وما أسفلها تم وضعها في الجبس الطبي، جلس هنا بمفرده دون عائلته وأفراد عائلته أو أي شابٍ من أخوته، لقد كُتِبَ له المزيد من العمر لكي يحياه بفرصةٍ أخرى، وإبان ذلك صورتها لم تنفك عنه، لقد رآها من جديد حتى ظن أن عقله أصابه الجنون!!.
كُلما انفرد بنفسه تحضر صورتها له ويسري طيفُها أمام العين فتجعله مجذوبًا لا يعلم من هو ولا من أين، لقد أصبحت تسكن عقله ولم تُبرحه، وحبها توغل لقلبه وكتمه هو كأنه سرٌ ولم يُفصحه، لكنه نسىٰ أن العاشق وإن كان أبكمًا فالشوق يظهر في عينيه وسره يفضحه..
عاد حديثها من جديد في السيارة لسمعهِ حينما حذرته من موت الغفلة وكأن قلبها كان يشعر به، كانت رسالة لم يكترث هو بها ولم يدرك أنه سيعيشها خلال فترة قصيرة من المحادثة بينهما، ماذا لو كان مات على معصيةٍ مثل هذه؟ كان وسط الخمور والفتيات والموسيقى الصاخبة والملامسات المُحرمة، والنظرات الفجة، أكان سيُلاقي ربه بهذا الشكل المُخيب للنفس؟ عند وصوله لتلك النقطة انقبض قلبه وتمنى العودة لبيته سريعًا بعدما أخبر الشباب بحاجته لهم.
في منطقة نزلة السمان كان “نَـعيم” يشعر بالنيران تفتك بقلبه وتصاعدت ألسنتها لرأسه لكي تُلهبها أكثر، لم يعلم لما أراد أن تنشق الأرض وتبتلعه في جوفها، أو تمنى أن يملك جناحين يطير بهما لصغيره لكي يحتضنه، ولولا تعنت “إيـهاب” و “تَـيام” وإصرارهما في بقاءه هنا، لكان سبق الجميع، وبالفعل حينما اتخذ قراره وجد “إسـماعيل” يقف عائقًا أمامه يمنعه من الرحيل ورافق ذلك قوله:
_لو سافرت هتتعب وهو هيزعل مننا، خليك هنا مستنيه لحد ما يرجع لحضنك تاني، ابنك الصغير دماغه ناشفة أوي وأخواته راحه يجيبوه وأهو يعرفوا حصل إيه هناك خلاه يروح مستشفى.
حرك “نَـعيم” عينه بخوفٍ لوجه الآخر وقال بندمٍ:
_خايف أكون أنا السبب لما خليته يروح، بس كان لازم يعرف إني مش بجبره ومش هينفع أجبره، كان لازم هو بنفسه يشوف الفرق بينهم علشان يعرف هو عاوز إيه، لو بس بالي يرتاح وأفهم حصل إيه هناك ولا هو في المستشفى ماله أنا بالي هيتطمن وناري هتخمد كمان، بس أنا قاعد أول مرة أحس بعجز كدا.
حاول “إسماعيل” أن يُطمئنه فربت على كتفه وأضاف بنبرةٍ هادئة تمامًا يحاول بها نقل الهدوء للآخر:
_هييجي وهتشوفه وهتطمن عليه كمان، ولو حصله حاجة وحد رفع عينه فيه أنتَ عارف اللي فيها، عيالك محدش بيدوسلهم على طرف، وحقه هيرجع ويبات في حضننا كمان، روح بس صلي وأدعيله ربنا يردهولك بالسلامة وأنا هشوف “إيـهاب” وصل ولا لأ ولا أكلم “مُـنذر” حتى أتطمن منه عليهم.
لم يجد الآخر حلًا إلا الموافقة والسكوت فتحرك من أمامه وتوجه لغرفته بينما “إسماعيل” فأخرج هاتفه يطمئن على الآخر من شقيقه الذي أخبره أنهما لازالوا في الطريق ولم يصلوا للمشفى، وقبل أن يُغلق وجد “يـوسف” يهاتفه فجاوبه هو بثباتٍ يطمئن عليه، فوجده يسأله بلهفةٍ:
_هو إيه اللي حصل لـ “مُـحي” يا “إسماعيل”؟ هو كلمني قبل ما يسافر يسألني على المكان ويروحه إزاي وأنا قولتله، بس معرفش إن الواد هيروح يتضرب ويتطحن هناك ويرجع؟ حد راحله طيب؟.
تنهد”إسماعيل” بعدما تلقى نوبة اندفاع الآخر ثم قال بهدوءٍ تامٍ وهو يُطمئنه ويزيل عنه انفعاله وعصبية دماءه:
_ممكن تهدا شوية؟ أنتَ تعبان وجسمك لسه مجروح وبيوجعك أكيد، أتطمن يا سيدي هو بخير وطالما عرفت يبقى أكيد “إيـهاب” قالك، راحوا التلاتة مع بعض يجيبوه ويعرفوا ماله بالظبط، وأنا هنا مع الحج علشان يالعافية سكت بعدما كان هيروح.
تنهد “يـوسف” بثقلٍ ثم أغلق الهاتف معه وتحرك يبدل ثيابه البيتية بأخرى غيرها لكي يذهب إلى “نَـعيم” ورغم ألم جسده وتعبه العضوي إلا إنه تحامل على نفسه وما إن خرج من غرفته يضع ذراعه ويُثقل كتفه بالحامل وجد أمه تقترب منه بلهفةٍ وهي تسأله:
_أنتَ رايح فين دلوقتي؟ أقعد ارتاح بقى شوية علشان خاطري، كتفك كدا عمره ما هيتعالج وجروحك مش هتلم وأنتَ محمل بجسمك كله كدا وماشي عادي، يا حبيب عيوني أدخل نام علشان خاطري، عاوز إيه وأنا هعمله علشانك؟.
هو يعلم قدر حُبها له وخوفها عليه لذا تنهد بثقلٍ ثم قال بقلة حيلة كأنه بدا مُرغمًا أمامها حتى يُقنعها أن الأمر خارج استطاعته:
_الحج “نَـعيم” محتاجلي معاه، وأنا لو بطلع في الروح مش هقدر أتأخر عنه حتى، أتطمني أنا كويس والله ومش هسوق، “أيـهم” قالي لو عاوز الفترة دي أتحرك فيه شاب هيبقى معايا من الحارة يوصلني ويجيبني، هاخده معايا علشان تكوني متطمنة، بس تقبليها إن الراجل اللي وقف في ضهري وعمره ما ساب ايدي، أنا أديله ضهري؟ زعله وحش أوي وبيتعب وهو موته وسِمه إن حاجة تخليه مكسور، أتطمني يا “غالية”.
أومأت له بقلة حيلة ولم تملك حتى الجُرأة لكي تُعارضه بينما هو فلثم جبينها ثم ودعها وتحرك من الشقة نحو الأسفل وقد وجد بالفعل الشاب في انتظاره بجوار سيارته فرحب به وصافحه ثم تحرك معه بعدما ركب السيارة لكي يتوجه نحو بيت “نَـعيم” وهو يود أن يكون معه هناك في الثانية الحالية قبل التي تليها.
بنفس التوقيت أو رُبما بعده بقليلٍ توقفت سيارة “إيـهاب” عند المشفى المتواجدة على الطريق الإقليمي وقد تواجد فيها “مُـحي” ونزل من السيارة كلًا من “تَـيام” و “مُـنذر” خلف بعضهما بلهفةٍ حاول كلاهما أن يواريها خلف قناع الثبات، وبعد مرور دقائق وصلوا له وأول من ركض له كان شقيقه الذي ضمه لعناقه فحاول “مُـحي” أن يضمه ورفع أحد ذراعيه وقال بصوتٍ منكسرٍ:
_اتاخدت غدر وملحقتش أدافع عن نفسي حتى، صعبان عليا نفسي أوي وأنا بحاول كدا ومش لاحق أعمل حاجة.
مسح شقيقه على رأسه ثم هدأه بقوله الذي بدا ناعمًا أقرب لطريقة التعامل مع طفلٍ في صغر عمره:
_متزعلش نفسك يا حبيبي، الحمدلله إنك بخير وقومت زي الفل ومش مهم أي حاجة تانية، المهم أنتَ أخبارك إيه، فيك حاجة تانية؟.
حرك رأسه نفيًا بالسلبٍ وابتعد عن شقيقه ليرى ابن عمه أمامه وقد جاوره “إيـهاب” وقد تم الإطمئنان عليه وعلى صحته وأول من تحدث بتعجبٍ كان “إيـهاب” الذي يملك حدسًا يكتشف كل شيءٍ غامضٍ حوله:
_هي “إيـمي” قاعدة برة بتعيط ليه؟ هو إيه اللي حصل بالظبط علشان تقعد كدا برة، دا أنا قولت هاجي ألاقيها في حضنك، أصلها بتعزك وباباها بيثق فيك.
كان يسخر منها ويتهكم من الوضع، وقد اتقدت نيران “مُـحي” في عينيه وقال بنبرةٍ جامدة كأنه يأمرهم أو هكذا بدا مطلبه الهادر بانفعالٍ:
_حد فيكم يخرج يطردها برة ويخليها تغور من هنا بدل ما وعزة وجلالة الله أخرج أطلع اللي فيا فيها كله، أنا مش طايق وشها ولا وش اللي خلفها، غورها من هنا يا “إيـهاب” وقولها زي ما شافتني بتضرب وسكتت تمشي من سُكات.
انفعل في وجوههم دون أن يدرك ذلك حتى أن الحديث خرج منه بغير وعي وقد لاحظ البقية تحوله الغريب بتلك الطريقة فيما سأله شقيقه بتعجبٍ من هذا الإنفعال الغريب عليه في حالته تلك:
_مالك يا سيدي؟ ما تهدا شوية كدا، بعدين مش دي المفروض إنها أختك وأنتَ هنا علشانها أصلًا؟ هو إيه اللي حصل غير الأمور كلها كدا، وبعدين هي مالها؟.
أدرك ما تفوه به لسانه بل وتذكر”مُـحي” كيف رآها واقفةً تتابع ما يحدث معه دون أن تتدخل أو حتى تدافع عنه، وآخر ما رآه قبل أن يسقط أرضًا كانت نظرتها المُتشفية به وهو يسقط بجسده فوق الرمال كما الخيل المكسور كبريائه، لم يظن يومًا في حياته أن من عاش هو يتولى مهمة الدفاع عنها أن تأتِ هي بنفسها وتهزمه وتجعله خاسرًا أمام نفسه، لقد رآها أختًا له ورفيقة الطفولة وهي لأجل نفسها فقط تسببت فيما وصل إليه.
زفر مُطولًا يُخرج أنفاسه من رئتيه ثم قال بصوتٍ مبحوحٍ بسبب انفعاله عليها لما فعلته معه وقد تراجع عن ذلك حينما أدرك أنها في أمنه ويتوجب عليه إعادتها:
_معملتش حاجة، بس الأحسن حد فيكم يخليها متقفش قدام وشي، وعلشان أبقى عملت اللي عليا بكفاية، آخرها معانا نوصلها القاهرة تاني وبعدها تغور في ستين داهية مش عاوز أشوفها تاني، وتحمد ربنا أوي إني هسكت لحد كدا.
في الخارج وقفت “إيـمي” تستمع له وقد هرعت عيناها بالعبرات فور أن وصلتها كلماته الكارهة لها، لم تتخيل أن يأتِ يومًا ويتحدث عنها بتلك الطريقة لكنها جلست فوق المقعد في انتظار الرحيل من هنا، وقد حمدت ربها أن الشاب الذي أنقذه كان يعرفها ورآهما معًا، فهاتفها وأخبرها بمكانه وحينها ذهبت هي إليه بسيارته التي تُرِكَت معها بل وتركها تقودها هي كما أخبرته أنها تُحب هذا الفعل.
لم تنسَ نيران قلبها عند قدومها ركضًا إليه حينما أوقفها الطبيب الذي تولى الكشف الطبي عن حالته وسألها حائرًا:
_أنتِ الآنسة “جـنة”؟ عمال يقول اسمك من أول ما فاق.
حينها توسعت عيناها بدهشةٍ ولم تُصدق أنه يذكر اسم تلك الفتاة في نومه حتى، هي تعرفها، وتعلمها، فالأنثى دومًا تُدرك الأنثى التي يميل لها قلب الحبيب، وهي منذ الوهلة الأولى التي وقعت فيها عيناها عليها ورأت نظرات “مُـحي” لها أدركت أنه يُكن لها بعض المشاعر، أما حاليًا فهي على يقينٍ أنه وقع في عشق تلك الفتاة ولن يدخر جُهدًا في المحاولة لكي يصل إليها، هذا هو رفيقها وهي تعرفه جيدًا.
وقعت في عمق الشرود ولم تخرج منه إلا حينما سقط ظل “مُـنذر” عليها ففزعت هي منه ومن طلته أمامها بهذا الشكل بينما هو مال عليها يُخاطبها بنبرةٍ أقرب للهمس ورغم ذلك أخافتها كثيرًا:
_هما كلمتين ملهمش تالت، الواد اللي وقف قدامه قبل كدا في عيد ميلادك؟ عاوز منك يا آه، يا لأ، وعلى الله تكدبي.
أخافها وحذرها وهي رغمًا عنها أومأت له موافقةً بحركاتٍ تائهة غير مدروسة ونبست من بين شفتيها بصوتٍ بالكاد يُسمع أو يُفسر:
_هـ.. هو.
رأت صدره يعلو ويهبط بعنفٍ فتراجعت للخلف بخوفٍ منه بينما هو تركها وعاد للغرفة من جديد وهي خلفه تلتقط أنفاسها المهدورة في ساحة العِراك الوهمي، ورأت أن بقائها هُنا يُعد كارثة وقبل أن تتحرك أوقفها “إيـهاب” بجملةٍ واحدة فقط جعلت قلبها يرتجف وجسدها يجفل إثر حديثه:
_لو خطيتي خطوة واحدة بس برة أنا هحجزلك الأوضة اللي جنبه، زي ما اتنيلتي على عين اللي خلفك وجيتي هنا معاه يبقى تستني لحد ما نرجع كلنا، وأنتِ عارفة كلمتي مبتتكررش.
عادت مُتقهقرة تجلس فوق المقعد بصمتٍ وقد أردكت أن هذه العائلة ستقوم بشن الحروب ضدها لأجل أخيهم، وهي لو كانت تملك جزءًا من الجُرأة كانت ركضت من المكان وتفر بعيدًا، لكن لطالما كان “إيـهاب” هو من ألقى الأمر فهي فقط تطيع بصمتٍ دون أن تُنازل وتُعارك.
__________________________________
<“لقد وجدنا عندكم حياةً لم نكن نعلم عنها شيئًا”>
هناك عوالم خفية لم نكن نعلم عنها شيئًا، عوالم مُضيئة لم نُدركها من قبل إلا حينما قُرِنا بمن نحبهم، من المؤكد أن بعض الأشياء لا تضيع ولا تختفي وإنما نحن نحتاج لمن يكون برفقتنا حتى يُشير لنا على تلك الأشياء التي عجزت أعيننا عن إدراكها ورؤيتها.
يبدو أن أصحاب الأرواح المرحة هم أكثر الناس شعورًا بالسعادة رغم كل المصاب فوق رؤوسهم، وتلك القطة التي أتت لهذا البيت جعلت صوت المرح يتردد في كل مكانٍ بالبيت حتى وصل لغرفة “أيـوب” بالأعلىٰ وقد تعجب هو أثناء الجلوس في مرقده، لكن تعجبه لم يدم كثيرًا فهو يعلم أن زوجته لها تلقائية تجعل في بعض الأحيان الرُهاب الإجتماعي يخشاها ويخشى روحها المرحة.
كانت هي بالأسفل تضحك مع نساء البيت وخاصةً مع “وداد” التي فرحت أن ابن رفيقتها حصل على زوجة مثل هذه كما كانت تتمنى أمه، وقد سألتها هي بصوتٍ رافقته الملامح الخبيثة عن استفسارها:
_وأنتِ إيـه اللي وداكِ شارع المعز عنده؟.
كانت هي قبلها تسرد عليهن تفاصيل معرفتها بـ “أيـوب” وكيف كانت تتعامل معه بغرابةٍ قبل أن يأتِ لبيتها وتصبح زوجةً له، وقد قلبت عينيها يمينًا ويسارًا ثم أشارت للمرأة أن تقترب منها فاقتربت الأخرى لتجدها تتفوه بنبرةٍ خافتة:
_كنت رايحة علشان أطرف عينه.
عقدت المرأة حاجبيها فأومأت لها بأهدابها بطريقةٍ مرحة جعلت الأخرى تضحك عليها وكذلك “آيـات” أيضًا التي لم تستطع إخفاء فرحتها بها لأجل شقيقها الذي لولا تواجده معه ومزاحها وخفة ظلها كان من المؤكد سيفقد أعصابه وتتجدد أحزانه، لكن بوجودها وهي بهذا المرح حقًا تساعده دون أن تعلم بذلك في تخطي الكثير من الأشياء.
خرجت “نِـهال” من المطبخ لهن تضع الكعك والمشروبات وتقدمها لهن وقد لاحظت “قـمر” ضيقها وتهجم ملامحها فقررت أن تشاكسها بقولها:
_على فكرة كان ممكن تقولي إنك متضايقة وأنتِ بتجيبي الحاجات لسلفتك الجديدة لحد عندها، كان ممكن تقوليلي وأقوم أساعدك، صحيح ماكنتش هقوم بس أهو كنت عرفت يعني، شكلنا كدا مش هنعمر مع بعض يا “نِـهال” مقلقة منك.
أشارت “نِـهال” على نفسها باستنكارٍ ونظرت لـ “آيـات” التي حركت رأسها نفيًا بمعنى أنها لا تعلم وقد تدخلت “قـمر” تُزيد المناقشة بقولها:
_أوعي تكوني فاكرة لما تكشري في وشي كدا هخاف منك بقى وأتهد وأقول دي شكلها سلفتي الواعية ولازم أسمع كلامها، علشان لو فاكرة إن بالطريقة دي أنا هتهد يعني، يبقى معاكِ حق والله يسامح اللي يزعلك يا شيخة.
ضحكت “نِـهال” دون أن تعي لذلك وكأن الأخرى تملك سحرًا تُضيف به الضحكات في أي مكانٍ حتى ضحكت هي الأخرىٰ ثم حدثتها بطيبةٍ:
_أيوة كدا أضحكي أضحكي، دي خالتو “أسماء” لما بتشوف حد مكشر كانت بتفضل وراه لحد ما يضحك، مهما كان اللي مزعلك مفيش حاجة مستاهلة، هي يعني الجنة كانت ضاعت مننا؟ دا إحنا كلنا هنا طافحين الدم وبرضه الحمدلله.
أومأت لها “نِـهال” ثم شكرتها وابتسمت لها ثم استأذنت منها وتوجهت نحو شقتها مُباشرةً وقد وجدت سبب حزنها يجلس فوق الأريكة وهو يمسك هاتفه في يده، نظرته وحدها جعلتها تتعجب من جلوس طفلٍ بتلك الطريقة وكأنه يتعرض للخيانة، سهامه المُثبتة نحو الهاتف بشرودٍ كأنها لا تعلم هدفها جعلتها تُحمحم لينتبه لها فألقى هاتفه سريعًا ورفع رأسه نحوها، قرأت هي تعبيرات وجهه التي انقسمت إلى الخوف والحزن معًا، فجلست بجواره تسأله بمزاحٍ:
_تصدق قربت أتأكد إنك بوق بس؟ مش قولت إنك مش هتقعد اليومين دول هنا خالص ولا حتى هتفضل في البيت علشان “أبـانوب” هنا؟ إيه يا عم؟ طب كنت بتتكلم بثقة ليه كدا؟ وزعلت “أيـهم” مننا، كسفتنا الله يسامحك.
حرك كتفيه لها وقال بنبرةٍ واهنة بالكاد وصلتها:
_عادي، هنا أحسن وكمان “أبانوب” عندهم ناس عند تيتة “تريز” وهو قاعد معاهم هناك، زعلانة من قعدتي أنزل طيب؟.
حركت رأسها نفيًا بسرعةٍ ثم ضمته لها وهي تُراضيه بقولها الهاديء الذي مسح على قلبه:
_لأ طبعًا، أنا فرحانة أوي إنك قاعد معايا هنا ومنور الشقة، فيه أم تكره ابنها يقعد معاها ويكون جنبها كدا؟ هو بس ابنها يضحك شوية كدا معاها ويفرد وشه الدنيا هتكون زي الفل والله، اضحك بقى مبحبش أشوفك مكشر، يلا ولا أسيبلك البيت ومش هتعرف طريق ليا والله.
ابتعد عنها يعقد حاجبيه فوجدها تمازحه بقولها:
_معلش أصل أنا طول عمري أسمع إن الأمهات كلها بتقول كدا، وأنا جديدة في الكار دا مشي حالك معايا، بعدين كله إلا زعلك، مش عاوزاك تقولي إيه مزعلك بس قولي أعمل إيه يخفي يزعلك دا خالص؟ أي حاجة هعملها ليك.
رآها فرصة من ذهبٍ لكي يستغل وقته معها وفي نفس الوقت يتناول الحلو المُفضل لديه فهتف بلهفةٍ صبغها بالمرح:
_عاوز طاجن أم علي وعليه من فوق صوص شوكلاتة ويكون سخن وجنبه شاي بلبن ونشغل فيلم كرتون زي المرة اللي فاتت ونقعد مع بعض ومتنزليش وأنا مش هنزل.
رفعت حاجبيها بذهولٍ منه ثم قالت بنبرةٍ ضاحكة:
_كل دا؟ دا أنتَ زعلك وحش أوي، بس وماله عيني الاتنين، يلا معايا بس تساعدني اتفقنا؟ علشان ننزلهم تحت كمان وناكل مع بعض كلنا أحسن ما يزعلوا علشان ماكلوش معانا، يلا يا حبيب ماما.
أخذته معها وهو ولج المطبخ يجلس فوق المقعد يتناول الفاكهة من أمامه وهي تتحرك أمامه تبحث عن المكونات في إطار مطبخها وبين الحين والآخر تبتسم للصغير، ثم تمازحه ثم تقبله ثم تشاكسه، فعلت معه كل شيءٍ حتى أن الصغير ضحك أخيرًا حينما حاولت تقليد أبيه وطريقته، فعلا صوت ضحكاته عاليًا رغمًا عنه وعن أنف غضبه.
في الأسفل كان “أيـوب” في غرفته يتحدث مع “تَـيام” ويطمئن عليه، وقد علم منه أنهم في طريق عودتهم من جديد لمدينة القاهرة بعدما أخرجوا “مُـحي” من المشفى أخيرًا، أراد أن يتحرك ويكون معهم ويعاونهم لكنه بالطبع يعجز عن معاونة نفسه فتنهد بثقلٍ ثم حمد ربه على كل شيءٍ، وقد طُرِقَ الباب عليه فولجت هي تمسك الحامل المعدني عليه كوب الشاي وقطع الكعك، بينما هو ابتسم لها وقال بمراوغةٍ:
_والله الواحد طول عمره مؤمن إن البلاء باب للعطاء، بس دا عطاء كبير أوي أنا مش قده، أوعي تكوني بتعملي كدا بس لحد ما تتجوزيني وبعدها تباني على حقيقتك، أوعي دا أنا مسلمك قلبي.
ابتسمت هي له ثم اقتربت منه تضع الأشياء أمامه فوق طاولة الفراش الصغيرة وقالت بنبرةٍ ضاحكة:
_قلبك في أيد أمينة يا أسطى “أيوب”، قوم بس أنتَ بالسلامة وهتشوف بنفسك إن قلبك في أيد أمينة معايا ووعد أحافظ عليه زي ما هحافظ على صاحبه علشان واثقة إنك هتحافظ عليا كمان، صح ولا لأ؟.
أومأ لها موافقًا وهو يبتسم بعينيه قبل وجهه وقد اقتربت هي منه تُلثم وجنته بشقاوةٍ ثم عادت تستقر في جلستها لكي تُطعمه بيدها، بينما هو فعاد “أيـوب” مُدلل أمه كما كان يزعم شقيقه حينما كانت تُطعمه في فمه بنفسها في أوقات مرضه، وفي كل مرة يرى نفس الحب، ونفس العطاء، حتى أن التفاني هو نفسه من كلتيهما.
__________________________________
<“إن كان العالم يراك مجنونًا في فرحك، فتبًا للعالم”>
لا يَهُم ما يراك العالم عليه، لكن ما يَهُم حقًا ما ترى أنتَ العالم عليه، فلو كان العالم يكره لك سعادتك فلا تنشغل ولا تكترث وتجاهل العالم بأكمله، فنحن في نهاية الأمر نسير وفقًا لما نريد وليس ما العالم يُريد.
مرة واحدة قُم بكسر القواعد وتخطى القوانين وأطلق العنان لسعادتك ولا يَهُمك من الأمر شيئًا، فلا شيءٍ يدوم والجميع مُعرض للزوال، وهذا النهج يسير عليه “بـيشوي” العاشق للتمرد وكسر خطوط المألوف، فقد صدح هاتفه برقم رفيقه “أيـهم” فأخرجه يجاوب على المكالمة ببراءةٍ لم تلق بخبيثٍ مثله:
_خير يا “أيـهم” في إيه؟.
اغتاظ الآخر من مجرد لهجته فقط فاندفع في الهاتف بنبرةٍ عالية يُعبر عن غيظه بقوله مُنفعلًا:
_أنت هتشتغلني يا ابن “تـريز”؟ إحنا مش اتفقنا النهاردة هنروح نتكلم مع “جـابر” ونحل المشكلة علشان الوضع دا ميصحش؟ يعني إيه أكلم أمك دلوقتي تقولي أصل هو خدهم وخرج؟ بقى أنا أقولك مينفعش الوضع كدا وبتغلط نفسك، تروح تزود البلة طين فوق دماغ أبونا كلنا؟.
زفر “بـيشوي” بقوةٍ ثم قال بنبرةٍ أعربت عن ضجره ونفاذ صبره وقلة طاقته في الحديث أو التكملة:
_بقولك إيه؟ هو أكيد فاهم اللي فيها وأنا كمان فاهم، هنيجي نتكلم معاه هيقولك أنا أجيب “ملاك” يشهد وأنا أهو بقولك بكرة عم “مـلاك” ييجي وهو يحكم بينا بقى، وطالما كدا كدا هتطبل فوق دماغ، يبقى خليني على الأقل اسمع طبلة رايقة، بعدين عيال أختي مكتأبين، والمثل بيقولك الخال والد، بوسلي “إيـاد” وسلام.
أغلق معه الهاتف ثم التفت لمن معه بالسيارة حيث جلس “يـوساب” في الأمام وحمل على فخذه “أبانوب” وفي الخلف جلست خطيبته وشقيقتها ومعهما جلست “كاترين” التي كانت في غاية سعادتها بتلك النزهة، وبعد مرور بعض الوقت أوقف سيارته أمام مدينة الملاهي وقال بنبرةٍ ضاحكة:
_فسحة عُمر “جـابر” أبوكم ما هيفسحكم زيها.
صدح صوت ابن خالته يوقفه بنبرةٍ عالية تبعتها أخرى تهكمية لاذعة:
_يابني مبنقولش كدا، معداش عليك جبر خواطر خالص؟ أبوهم عمره ما فسحهم أصلًا، دا حابسهم وحابس أنفاسنا كلنا معاه.
تدخلت “مارينا” تهتف بتقريعٍ لهما لكي توقفهما هما الاثنين عن سخريتهما:
_لأ هتحلووا بقى أنتوا الاتنين هننزل نروح بيت أبونا وورونا مين هيكمل معاكم الخروجة دي، أنا خُلقي ضيق بأمانة، جربوا بقى تكملوا كدا في السكة دي، كلنا هنتفاجيء بيا وأنا أولكم، متفقين؟.
أومأ الاثنان لها ثم نزلوا من السيارة وولجوا المكان مع بعضهم وقد قرر “يـوساب” أن يتولى مهمة الصغار برفقة “مـارينا” وهو يعلم مدى حبها لهما، وقد شاركته هي نفس الشيء وقررت أن تكون مع الصغار أينما حلت أقدامهم، ورأى هو في ذلك فرصة جديدة لكي يستطع التحدث معها ومعاونتها.
أما “بيشوي” فمن المؤكد أنه لن يقدر على ركوب أي شيءٍ من هذه الأشياء فاكتفي فقط بالسير معها بصمتٍ، كانت ترتدي قُبعة صوفية فوق رأسها وقامت بفرد خصلاتها، وارتدت ثيابًا شتوية من خامة الصوف، وقد أحمر وجهها بفعل الهواء المُداعب لوجهها وهي تسير بجواره صامتة، أما هو فاكتفى فقط بالمراقبة لها، راقب هدوئها الذي يثير استفزازه وراقب عينيها الجميلتين الذي ودَّ المُحاربة لأجلهما، وراقب ملامحها التي تتبدل بين الفرح والحماس.
اكتفى بالمراقبة فقط دون أن يُفسد عليها لحظتها كأنه قاريءٌ مُخضرم في مجال القراءة حتى وصل لمرحلة الملل من كل الكتب، إلا صفحات وجهها لا يمل منها، عيناها تبدو كأنها الكتاب المُفضل لديه في القراءة حيث الشغف المستمر والدافع الدائم للقراءة، التفتت هي له تبتسم بعينيها ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
_كويس إنك مش هتركب حاجة من دول، أنا كمان مش بحب الحاجات دي وبتدوخ منها أوي، بحب اتفرج عليها من بعيد بس، إنما أجرب دي مقدرش، ساعات بحس إن فيه متعة فايتاني بس برجع بقول أحسن ما أجربها وقلبي يقف.
ابتسم لها برزانةٍ ثم قال بثباتٍ حينما أشار لها نحو ثلاجة الحلوى لكي تنتقي منها ورافق ذلك قوله:
_فيه حاجات على الأقل لازم نجربها مرة علشان منبقاش متضايقين إن فيه حاجة فايتانا، حتى لو الحاجة دي هتخلينا نكسر القواعد ونتخطى القوانين، مش مشكلة، مرة واحدة بس على الأقل نتمرد فيها ونعلن العصيان، والله لو نفع خلاص زي الفل، منفعش يبقى مش مشكلة، إحنا مش نازلين ببرمجة، إحنا هنا بنتعلم ونتدرب لحد ما نوصل للطريق.
توسعت بسمتها حتى وصلت لضحكةٍ عالية جعلته يغار عليها من النظرات التي توجهت نحوها، فحمحمت هي ما إن لمحت نظراته نحوها ثم قالت بصوتٍ هاديءٍ:
_كلامك حلو والله بس ملحوظة صغيرة ليك، أنتَ تقريبًا بتتمرد في اليوم الواحد ١٠٠ مرة غالبًا أنتَ برمجت نفسك على التمرد خلاص يا باشمهندس “بـيشوي”.
ضحك لها هو الآخر ثم قال بمزاحٍ معها:
_مش مشكلة، ما أنا قولتلك إن لو جاب نتيجة يبقى خير وبركة وأنا بصراحة من ساعة ما جربت وهو جايب نتيجة أوي، أعملي زيي بقى وجربي كدا تتمردي بس مش عليا، عاوزك قطة مخربشة يا “مهرائيل” اللي ييجي على سكتك تهبشيه بضوافرك.
_قول يا رب، يمكن أتعلم.
كان هذا ردها عليه بينما هو جلب لها المُلثجات ثم تحرك معها في المكان بهدوء وكلاهما يفعل نفس الشيء، حيث هي تراقب الأماكن المُحببة لها في تلك المدينة وهو يراقب مكانه في عينيها، هي تبتسم كُلما وصلها صياح الصغار، بينما هو يبتسم كُلما تلاقت عيناه بعينيها وتحدثت المُقل مع بعضها.
__________________________________
<“أحذر من ذاك الصديق الذي أصبح عدوًا لكَ”>
رُبما ذاك الصديق الذي أصبح عدوًا فجأةً كان منذ بدايته عدوًا لكن انعكاس حُبك له هو الذي دفعك لاختلاق الأُلفة في قلبك له، الصديق يا عزيزي لا يُصبح عدوًا، وإنما العدو يجيد أن يُصبح صديقًا جيدًا.
عادوا لمدينة القاهرة ومعهم “مُـحي” الذي جلس في سيارة “إيـهاب” في الخلف بتعبٍ بلغ أشده عليه، بينما “تَـيام” جلس بجوار مقعد القيادة وبين الحين والآخر يلتفت لشقيقه ويطمئن عليه ويمسح على جبينه ويناوله المياه في فمه، بينما الآخر فكان يريد أن يُلقي بنفسه بين ذراعي والده، لأول مرةٍ يشتاق لعناق والده بتلك الطريقة حتى حينما تغيب عن البيت لمدة عامين كاملين، أما الآن فهو يشعر أنه لم يلمحه منذ أعوامٍ..
في السيارة الخاصة به قادها ابن عمه “مُـنذر” وفي الخلف جلست “إيـمي” بشرودٍ وبين الحين والآخر تمسح عبراتها التي تخونها وتُذرَف وقد لاحظ هو كل انفعالاتها لكنه لم يكترث بها، بل هناك أخرىٰ تسكن عقله وتمر دومًا أمام عينه ويبدو أن احتلالها استوطن قلبه.
وصلوا لبيت “نَـعيم” الذي ما إن علم بذلك ركض للخارج يستقبل ابنه بشوقٍ ولهفةٍ وخلفه وقف كلًا من “يـوسف” و “إسماعيل” ومعهما “سمارة” أيضًا التي أشفقت كثيرًا عليه وهي تراه بتلك الهيئة التي تدل على ألمه وتعبه وكثرة المُعاناة التي تلقاها على يد الآخرين، بينما “نَـعيم” فاقترب بلهفةٍ يضمه بين ذراعيه فاستسلم هو لقوة عناق والده كأنه عاد صغيرًا..
كانت “إيـمي” تقف بخوفٍ من “نَـعيم” في الخلف ومما هو قادمٌ على الجميع وهي تعلم أن هذا الفعل لن يمر مرور الكرام أمام الجميع، بل هناك ثأرٌ قادمٌ عليهم سيقام لأجل فتى البيت المُدلل، هي هنا محط الأنظار أمام الجميع وهم يسألون بعينيهم عما حدث، وقبل أن تهرب هي لبيتها حدث ما لم يتم توقعه من أحدٍ حينما ولج والد “إيـمي” برفقة أحد أفراد الشُرطة وقال بنبرةٍ جامدة:
_هي دي الأمانة يا حج “نَـعيم”؟.
انتبه له “نَـعيم” الذي توسعت عيناه بغير تصديقٍ وسأله بتعجبٍ من هجومه عليهم بتلك الطريقة:
_في إيه يا “رؤوف”؟ أنتَ هنا كدا إزاي وإيه الطريقة اللي داخل بيها دي؟ بعدين لو تقصد بنتك أهيه صاخ سليم قدامك مفيهاش خدش واحد، فتح عينك وشوف ابني اللي راجع عامل إزاي والله أعلم باللي حصله وشافه، جرى إيه؟.
اقترب “رؤوف” يسحب كف ابنته ثم رفع صوته بنبرةٍ عالية وهدر أمام الجميع في وجه “نَـعيم” بنبرةٍ أقرب للصراخ:
_ويكسروا رقبته كمان علشان يبطل قلة أدب، البيه حاول يتهجم على “إيـمي” ولما الشباب شافوه هناك كسروا عضمه بعدما كان سكران وعميان طينة، وجاي تعلي صوتك بدل ما تربيه، بس دي غلطتي علشان سلمت بنتي ليه وقولت أهو أخوها ومتربيين مع بعض من الحضانة، أستاهل ضرب النار علشان عملت كدا.
توسعت عينا “مُـحي” وأوشك بؤبؤاه على الخروج من محجريهما وقد تواصلت نظرات الجميع مع بعضهم في حديثٍ صامتٍ أنابت خلاله الألسنة الأعين لتتفوه بدلًا منها، لكن نظرات الإتهام لم تبرح الأعين خاصةً إن كان المتهم له سوابق إجرامية، فهل سينتصر ويُدافع أم يرضخ ويستسلم؟.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى