روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والسادس والأربعون 146 بقلم شمس محمد

موقع كتابك في سطور

رواية غوثهم الفصل المائة والسادس والأربعون 146 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والسادس والأربعون

رواية غوثهم البارت المائة والسادس والأربعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والسادسة والأربعون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الواحد وستون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
أحنُ إلى لقياكَ يا ربي راضيًا
فقد طال حرماني و طال رجائيا
عرفتُكَ يا ربي ببحثٍ و فطرةٍ
فجئتُكَ صباً طاهر الحب خاليا
و هذي تسابيحي و هذي خواطري
و في ساحةِ الرضوان قد همتُ شاديًا
أناديكَ في يُسري، أناديكَ في عُسري و فرحتي
أناديكَ في يُسري و عُسري و فرحتي
و في ساحةِ الرضوان قد همت شاديًا
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
وإن ضلَّ قلبي مَـن غير عينيك يهديني لدربي؟
وإن ضلَّ قلبي أي سبيلٍ اختار حتى انتصر في حربي؟
رُبما تتقطع بنا الأسباب، ورُبما قد يحل علينا الغياب، ورُبما نكون في نظر الناس مجرد غريبين ولسنا بأحباب، ورُبما أخون العهود المقطوعة بشأن البقاء وأجد عند مفترق الطُرقات الباب، لكن وبالرغم من كل ذلك لن أنسَ أن أنتِ كنتِ ولازلتي في القلب بمقام كل الأحباب، فإن ضلَّ قلبي أنتِ وحدكِ من بعد خالقي تهديني وتُرشدين دربي..
أتعلمين؟ فكرت مرارًا أن أكتب لكِ خطابًا لكن كما قال “أوفـيد” في واحدةٍ من الأساطير الإغريقية
“أحيانًا ما تكون الدمعة أقوى من خطابٍ”
وأني أنا من الأساس ضعيفٌ فدعيني التجيء للقوة في عَبراتي لكي تكون بمثابة ألف خطابٍ لكِ، أتعلمين يا عزيزتي لقد ذاع أن الرجال هم الأقوياء؛ لكن يبدو أن الجميع قد غفلوا عن لحظة قهرٍ واحدة تتلاشى بها قوة المرء، العالم لم يرأف بي يا رفيقتي، ولم يرأف حتى بكوني صغيرًا احتاج للرحمةِ بدل من العنف، ورُبما كنت أنتظر أن تمتد لي الأيدي تُعانقني بدلًا من أن تُعاقبني، رُبما كنت احتاج لنظرةٍ حانية بدلًا من تلك الأخرى القاسية، ورُبما كان كل أملي أن يتلاشىٰ ألمي، كنت آمل أن تلك الأضواء التي ألمحها بطرفي في نهاية الطريق تكون أنوارًا تُهدىٰ لي، ولم أكد أعلم أنه ضوء النيران التي ستلتهمني، ومن جديد إن عادت الذكريات تلتهمني وضلَّ قلبي، مَـن غيرك أنتِ وعينيك بعد مولاي سيرشدني لدربي؟.
<“من أحسن صنيعةً لكَ لا تردها بسوءٍ أيها الوقح”>
العواصف لم تنذر بأي نُذرٍ قبل المجيء سوى بلمحة هدوءٍ يتبعها سكونٌ ومن ثم ينقلب كل شيءٍ رأسًا على عقبٍ، هدوء يعقبه انقلابٌ جذريٌ في كل شيءٍ حتى تلك الأشجار التي نستظل تحتها نجدها تُجرف من جذورها لنصبح عرايا بدون ساترٍ وكأن الحوائط هُدِمَت فوق رؤوسنا.
الصفعة الأولى تليها الثانية فوق وجهها وهي في قبضته بخصلاتها ويده تشتد عليها وهي تصرخ في براثنه؛ ليأتيها صوته هادرًا بصراخٍ:
_ردي يا “مادلين”؟ بتبعيني له؟ بتحطي ايدك في ايده ضد جوزك وبتقويه عليا عيني عينك كدا؟ بتستغفليني؟ أنـــطقي!!.
تبع صراخه بقبضة قوية فوق وجهها حتى تواصلت الأعين مع بعضها لتجد الغضب المستعر منه نظير الخوف والنفور منها وقد سلبت جزءًا من شجاعتها _وإن كانت هاربة منها_ وواجهته بحقيقةٍ ضارية وهي تصرخ في وجهه:
_ماشي، هقولك يا “عـاصم” آه ساعدته، وآه حطيت ايدي في ايده وآه خليته يرجع حقه، عارف ليه؟ علشان لو مش واخد بالك دا ابن أخوك ولحمك ودمك، حطيت ايدك في ايد واحد غلاوي كاره إن أي حد يكون عند عيلة وأصل، خلاك تدوس على عيل يتيم برجلك من غير ما حتى تاخد بالك إن العيل دا محتاج لحضنك، عيل كنتوا بتحرموه من الأكل واللعب والخروج ورمتوه في كل مكان ممكن يخليه يتجنن ولا يموت من القهرة، زعلان أوي علشان ساعدته؟ طب ماهو أنتَ بتساعد “سـامي” ودوست على أختك اللي منك ورميها بعيد، عندك مبرر غير إنك مريض؟.
الحقيقة صفعة ولن يُسكتها إلا صفعة مثلها؛ توالت الصفعة الثالثة فوق وجهها حتى سقطت أرضًا تستند على ظهرها بينما هو وقف أمامها يتنفس بعنفٍ وهذا ما بدا واضحًا من حركة صدره، ثم أشار نحو باب الغرفة وهدر بصياحٍ حاد:
_بـــرة، غوري برة بدل ما أموتك في ايدي النهاردة، أنتِ خاينة ومالكيش أمان ومفيش راجل هيأمن على نفسه مع واحدة زيك، غـــوري!!.
صرخ فيها بهياجٍ حاد ثم أولاها ظهره قبل أن يضعف أمامها من جديد، يعلم قدر حبه لها وأن فعلتها تلك حتى وإن كان الأصل بها صحيحًا لكنها غير مقبولة لطالما خيبت أماله بها، بينما هي استندت وتحاملت على جسدها المُثقل بفعل ضرباته لها وبفعل الدم الذي أخذ ينزف بقوةٍ من أنفها وأتى حديثها المُتشنج ببكاءٍ لم تُفصح عنه له:
_أنا فعلًا همشي وأسيبك لوحدك، علشان أنتَ متستاهلش مساعدتي ليك ولا إني حتى أمد ايدي وأفضل مسكاك، أنتَ واحد كره أخوك الميت عامي عينيك، بقيت مش قادر تشوف الصح من الغلط خلاص، بس أقولك؟ أنتَ زي ما كرهت الكل فيك وعيشت لوحدك، برضه آخرتك هتكون لوحدك، يا هتتجن زي ما جننت “يـوسف” يا هتموت لوحدك من غير ما حد يحس بيك وساعتها هتتمنى بس لو الزمن يرجع بيك علشان تلاقي “يـوسف” واقف في ضهرك من تاني بس الزمن مبيرجعش تاني، ومش كل اللي راح بينفع يتعوض.
الكلمة في بعض الأحيان تكون أشد من السلاح، وهي الآن تطعنه بسلاح الكلمات وكأنها ترد له قسوة أفعاله حتى وجد نفسه هو الذي يهرب منها بعدما قامت بهدم الحائط الذي تستر خلفه، هرب من الغرفة نحو غرفة أمه وسرعان ما انتابته حالة خللٍ جعلته يترنح لكي يسقط فوق الفراش كمن عاد من حربٍ خسر بها كل شيءٍ.
استعادت هي رابطة جأشها واستأنفت السير في طريق القوة ثم جمعت الأشياء الخاصة بها في حقيبة كبيرة الحجم وبدلت ثيابها لكي ترحل لكنها لاحظت أن مفاتيح سيارتها لم تكن موجودة ففهمت أن ذكر الحرباء الذي يعيش وسطهم هو من تسبب في ذلك وبناءً عليه تحركت بخطواتٍ تائهة تقبض على هاتفها فوجدت أسفل الدرج يقف “سـامي” بملامح شامتة بها ثم طأطأ بلسانه يُبدي شفقة زائفة..
تجاهلته وعبرت المسافة المتبقية فأتاها صوته من خلفها بكل ما دلَّ على فرحه فيها وفيما آلت إليه:
_بالشفا يا “مادي” حقيقي كان نفسي تكملي معانا أكتر وقت ممكن بس محصلش للأسف، أتمنى تكوني اتعلمتي من غلطك كويس وتشوفي مكان يلمك، على ما أظن أنتِ كنتِ جاية حتة سكرتيرة من الشارع مالكيش مكان ولا مطرح يلمك؟.
حاولت أن تستمسك قدر الإمكان أمامه حتى لا تنتهي ليلتها بين أزقة السجون، تمالكت على حالها أمامه حتى التفتت تواجهه بنظراتٍ تحتقره بها ثم أضافت باللسان:
_اللي مالوش أصل هو أنتَ وأظن كلنا عارفين أنتَ مين وأصلك إيه يا جربوع، فوق يالا أنتَ هتشوف نفسك عليا أنا؟ دا أنت روحت ولا جيت آخرك جزمة في رجل “عـاصم” وعباد للقرش، ولو عليا هبدأ من جديد وهقف تاني على رجلي، علشان أنا مش عويلة بحتاج لحد، الدور والباقي على اللي مستني الحسنة تجيله علشان يقدر يسد جوعه.
يُقال أن من خسر كل شيءٍ لن يفرق معه شيءٌ، وهي خسرت الكثير ولن تقف وتبالي بمن لا يبالي بها، سترحل وتترك المكان خلفها يُظلم بعدما كانت أخر شعاعٍ من النور به، رمت كلماتها ثم رحلت من المكان تجر حقيبتها وخرجت من البيت لا تقصد وجهة مُعينة، بل خرجت تجهل كل مكانٍ حولها حتى وقع بصرها على الهاتف في يدها..
ساورها القلق ونشب التيه بمخالبه في وعيها فتاهت من نفسها وهي لا تعرف إلى أين تتجه، وسرعان ما تذكرت أن “نـادر” هاتفها صباح اليوم وأخبرها عن مساعدته لها وقتما تحتاج له، بالطبع هو المناسب الآن، نظرًا لزواج “يـوسف” الذي لم يمر عليه ليلتين حتى الآن، أخرجت هاتفها وطلبت الرقم وما إن جاوبها أتاه قولها:
_خالك طردني وأكيد خد مني كل حاجة، معايا الهدوم والموبايل بس، تعالى خدني يا “نـادر” أنا لوحدي في الشارع.
انتفض هو من مرقده ثم سحب سترته الشتوية المُعلقة وخرج من البيت، الموقف يتكرر من جديد حيث يجد من تستغث به، الأمر بأكمله كان غريبًا عليه حتى عجز عن تفسيره، هو اعتاد أن يكون مُهمَّلًا ولا يكترث أحدهم به، لكن يبدو أن الأمر اختلف الآن فأصبح الآخرون في حاجةٍ إليه، ودع أمه ورحل لكي يلحقها من قسوة الشارع وقد أمرها بلهفةٍ وهو يتحدث معها:
_ادخلي عند “رهـف” متفضليش في الشارع لوحدك.
نفذت أمره وذهبت تجلس في بيت جارتها حتى أتى لها هو في وقتٍ قياسٍ ثم رحل بها لكي تكون برفقة أمه وتجلس معهم وتأخذ من بيتهم ملاذًا لها بدلًا من قسوة الشارع وشراهته على امرأةٍ مثلها قد تكون مطمعًا للآخرين بغير رحمةٍ أو شفقةٍ..
__________________________________
<“أحنُ للقياكَ حتى وأنتَ هنا بالدار ومعي بالجوار”>
لن تمر ليلة تُشابه غيرها في الألم..
ستختلف كل ليلةٍ عن الأخرى فتارةٍ نجد الألم وتارةٍ سنرى الأمل، ربُما الكلمات متشابهة والفارق في انتقال حرفٍ، لكن المعنى ينعكس كُليًا عند هذا الانتقال، وكأن الحال تبدل من العتمة الغامضة إلى النور المُفعم بالحياةِ..
تلك الليلة أكثر هدوءًا عليهما بعد مرور ليلتين صعيبتين بسبب كوابيسها، لكن تلك الليلة زادت بها الألفة بينهما في الأحاديث والسُخريات وتقييم ملابس حفل الزفاف، ليلة هادئة شتوية مرت عليهما تُعاكس سابقيها الذي كانوا مؤلمين، وبعد جلستهما سويًا و”عـهد” تستقر بين ذراعيه تخبره عن قسوة كابوسها وهو يتوسد الفراش وهي تضع رأسها فوق صدره، كانت تخبره عن كل شيءٍ كما أوصتها “فُـلة” بهذا الفعل، وهو كان يستمع لها بانصاتٍ ويُشاطرها الألم ويضمها له بحمايةٍ..
سقطت بعد ذلك في النوم المبكر وتركته بمفرده يتأمل تواجدها بجواره وهي تتشبث به حتى مرت ساعة كاملة وهو يمسح فوق رأسها ويتشبث بكفها، ابتسم بصفاءٍ حينما تذكر أيام صغره وقتما كان يفتقد لعناق أحدهم، وكان يجمع الثياب من الخزينة ويتكوم بجسده وسطها لكي يشعر أن هناك من يُعانقه، هيئتها الآن وهي تتمسك به وتتشبث بذراعه جعلته يبتسم أمام وجهها ثم مسح فوق جبينها بطرف ابهامه..
التقط بأذنه صوتها وهي تُغمغم بنبرةٍ خفيضة لم يفهم منها شيئًا حتى مال برأسه عند شفتيها ليجدها تهمس باسمه في نومها وهي تقول:
_”يـوسف”… خدني معاك.
عقد حاجبيه وفهم أن هذه هي البداية لكابوسها وقد تذكر نصائح “فُـلة” بشأن تلك الحالة حتى انزلق بكفه أسفل خصرها يضمها له بحمايةٍ فائقةٍ ثم مسح على خصلاتها بالكف الثاني وهتف بصوتٍ رخيمٍ وعميقٍ توغل لسمعها:
_أنا معاكِ هنا أهو، مش همشي من غيرك.
تململت في نومها وهي تنازع لفك حصار قيده عن جسدها بينما هو عاكس فعلها حينما ضمها أكثر له وبدأت يده تتحرك على وجهها، وشفتاه تقترب من أذنها بقوله:
_فتحي عيونك وبصي إحنا فين، أنتِ معايا هنا في بيتنا.
صوته كان ندًا لكابوسها ولأول مرةٍ تكون الإفاقة بتلك السهولة، بغير ركضٍ ولا بكاءٍ ولا عويلٍ ولا ضربات قلب متسارعة، فتحت عينيها تُطالعه بسهامها فوجدته يعود للخلف حتى تتبين هويته، حينها ابتسمت له وتضرج وجهها بخجلٍ وهي تُنبس بنبرةٍ خاملة بعدما تذكرت فعله في حلمها:
_مساء الخير، هي الساعة كام؟.
تلقائيًا ابتسم لها هو الآخر ثم لثم جبينها وقال بخيبة أملٍ:
_الساعة ١١ بليل لسه، غدرتي بيا ونمتي وسيبتيني لوحدي.
تنهدت بعمقٍ ثم ارتمت عليه وهي تقول بجرأةٍ لم يعهدها منها وهي تخبره لأول مرة بهذا الشيء:
_حضنك حلو ونمت من غير ما أحس.
ضحك رغمًا عنه ثم طوقها بكلا ذراعيه بحمايةٍ لكي تستأنف نومها الهاديء بينما هي تعجبت من تلك اللحظة، أهذه هُدنة لجأ إليها عقلها لكي يكف عن أفعاله؟ أم أن نومها بين ذراعيه وتواجده هو السبب في تلك النومة الهنيئة؟ جالت بها الأفكار ثم تذكرت آخر شيءٍ طلبته منه قبل نومها فسألته باندفاعٍ:
_أنتَ حكيتلي اللي قولتلك عليه ولا لأ؟.
عقد حاجبيه وجبينه وقد نسى بالفعل ما طلبته هي منه، بينما هي ورغمًا عنها بغير قصدٍ منها أتت جملتها متدللة باغواءٍ كأنها تقصد:
_يا “يـوسف” قولتلك احكيلي قصة عن التاريخ اليوناني نفسي اسمعها منك، فضلت تسمع فيا أنا وغفلتني، شكلنا مش هنعمر مع بعض يا جدع أنتَ.
من جديد تجعله يضحك على طريقتها العفوية التي جعلت السعادة تسري في جسده وقد شدد ضمته لها أكثر ثم مسح فوق ذراعها وقال بعدما تنهد بعمقٍ:
_عيوني الاتنين، أنتِ جيتي في جمل يعني.
ضحكت باتساعٍ له حتى أخفض هو عينيه لها لكي يواجهها بنظراته وهو يحتضنها بعينيه ثم بحث عن الإلهام من عينيها، بحث في وجهها عن أي قصة تاريخية قد تُلهمه للجواب الفصيح وقد وجد إلهامه في مُقلتيها الساحرتين، وجد ماهو أعمق من التاريخ لكي يسرده عليها، فتناول شرح القصة بقوله:
_هحكيلك قصة “بينيلوبي” أكتر زوجة وفية في تاريخ الإغريق كله، لو هينفع أشبهك بحد يبقى نخلينا في تشبيهك بيها هي، مش عارف بس لما سافرت وروحت أسوان وسيبتك لوحدك، أنا كنت خايف أرجع، خوفت إني أرجع ألاقيكِ كرهاني، بس لما رجعت لقيت عيونك مشتاقين ليا، شوفت إنك كنتِ مستنياني ومملتيش، ساعتها أنا كنت غلطان بس أنتِ كنتِ وفية، بالظبط زي اللي عملته “بينيلوبي” لما غاب جوزها عنها..
ساورتها الحيرة أكثر وبدا الاهتمام جليًا في عينيها حتى تنهد هو ثم واصل المُقل مع بعضها ليرى نظراتها تستفسر عن المزيد ليأتيها قوله العميق كأنه أعظم مؤرخي العصور:
_”بينيلوبي” دي كانت مرات مرات “أوديسيوس” ودا كان موجود في الأوديسة اللي كتبها “هوميروس” عن وقت حروب الأغريق اللي كانت بتطول بالسنين، بعد جواز “بينيلوبي” من “أوديسيوس” خلفت منه ابنه “تيليماخوس” ابنهم وساعتها جوزها طلبوه علشان الحرب وقتها، ومشي بما إن الحرب دي كانت فرض عليهم، ولأنه وفي كمل في الحرب وغاب عن بيته وأسرته، ولشدة جمال “بينيلوبي” وقتها رجالة كتيرة أوي حاولت تتقدم ليها بهدف الجواز منها، بما إن جوزها غاب عنها ومبقاش موجود خلاص، بس هي كانت وفية لجوزها أوي، وأصرت عليه هو..
وجد أنه بحديثه استحوذ على كامل تركيزها وانصاتها له بعينين مُلتهفتين لاستقبال المزيد، بينما توسعت بسمته أكثر وهو على مرأىٰ قريبٍ منها:
_وقتها هي كانت خايفة ترفضهم وتصدهم علشان خافت على نفسها وابنها إنهم يحاولوا يأذوه، ووقتها قررت تخدعهم وتتحايل عليهم بالمكر علشان محدش فيهم يقرب منها، وقالتلهم إنها هتختار واحد منهم بس بعدما تخلص خياطة كفن حماها، وبالمناسبة وقتها عدد الرجالة تخطوا الـ ١٠٠ زي ما اتذكر في الأوديسة، وفي النهار كانت بتخيط الكفن، وبليل تفكه تاني علشان ميخلصش، ووقتها حد من الخدم كشفها وذاع الخبر، الحرب دامت وقتها ١٠ سنين، واحتاج “أوديسيوس” ١٠ سنين علشان يرجع تاني، ودا لأن البحر غضب عليهم وسلط عليهم عواصف هوجاء مقدروش يصدوها، ولما اختفى رجع بعد ٢٠ سنة بس وقتها لما رجع اتخفى كأنه راجل متسول واتقال سببين، الأول إنه بيختبر زوجته والتاني إنه متخفي من الأعداء اللي حبسوه وعذبوه..
توقف يلتقط أنفاسه ثم أكمل مُتابعًا حديثه بفراسةِ مؤرخٍ مُخضرمٍ:
_وقتها وفي الآخر يعني هي أعلنت موافقتها إن الخاطب اللي هيقدر يطلق السهم من خلال ١٢ حلقة ناحية الهدف المصوب، وطبعًا هي كانت عارفة إن جوزها بس اللي يعمل كدا، وهو الوحيد اللي يقدر يصوب الهدف من وسط كل الحلقات دي، وساعتها كل الخاطبين حاولوا وفشلوا، إلا إن “أوديسيوس” بهيئته المستعارة نجح في تسديد الهدف وكدا يكون حقق أول شرط، وبعد كدا سدد سهم ناحية واحد من أعدائه وقتله، بعدها قتل كل الخاطبين اللي اتقدموا لمراته وساعده وقتها ابنه، وقتها هي مقتنعتش إن دا جوزها، أو جايز وفائها ليه كان أكبر من إنها تقبل البديل، ولما هو اللي بقى جوزها من تاني، طلبت منه يؤمر الخدم يحركوا السرير بتاعهم، بس هو ساعتها اتعصب واحتج عليها لأنه وقالها إن السرير دا واحدة من قوائمه قايمة على شجرة زيتون حية، ودا السر اللي كان بينهم، وساعتها صدقت إنه جوزها وحضنته والزوجين اتقابلوا من تاني أخيرًا.
وقتها ضمها له لتتوازى نهاية الأسطورة بنهاية قصتهما فابتسمت هي في عناقه، قرائته للتاريخ جعلته فصيحًا في اسقاط أي أسطورةٍ عليهما سويًا لتجد أن كل قصص العشق تلق بهما كثيرًا، يبدوان كأسطورةٍ غرامية تضافرت خيوطها من كل زمانٍ وحينٍ وكُلما تفككت تلك الخيوط ما كانت إلا لكي تتلاقى من جديد، ابتسمت له بحبٍ بالغٍ ثم رفعت نظراتها تطلب منه بضحكةٍ واسعة زينت محياها البريء كما براءة عينيها:
_ممكن تبقى تكتبهالي باللغة العربية زي ما عملت قبل كدا وكتبت قصة “بجماليون وجالاتيا”؟ عاوزة أحتفظ بكل دا منك أنتَ.
أومأ لها موافقًا بترحيبٍ لما تود بينما هي تحركت من جواره ثم قالت بصوتٍ عاد له الاضطراب حينما تذكرت ما فعلت بالتحديد حينما التقطت ذراعه المُغطى باللاصق الطبي:
_تعالى أغيرلك على جرح ايدك.
اعتدل هو أمامها وكشف عن ذراعه لها وبدأت تضمده بعنايةٍ وتركيزٍ كأنها تعوضه عن فعلتها وعن ابتعادها عنه وعن عدم قدرتها لمواجهة الماضي الذي يعرقل خط سير الحاضر، وقد لاحظها هو حتى انتهت بشرودٍ حزين التقطه هو، لكنه لن يسمح للحزن أن يعود بعد يومٍ كاملٍ قضاه في فرحةٍ وأنسٍ معها، فتحرك وهي معه بعدما شبك كفه بكفها ثم توجه بها نحو المطبخ وأشار آمرًا بمزاحٍ معها:
_أنا جوعت، ويلَّا علشان هنساعد بعض في الليلة دي.
عادت الضحكة تملأ وجهها وهي تعاونه بين ضحكات منه وممازحات تجعلها ترتمي عليه ضاحكةً، وما بين يده التي كانت تتسلل لها ويقربها منه حتى تبدأ تعتاد على قربه وهي تبتسم له في محاولةٍ منها لمحو الماضي الذي انتظر موعد فرحتها لكي يداهمها بصفعة قوية، والآن بدأت تُدندن مع زوجها الذي وضع كلا كفيه في خصرها وهي بقربه تعتاد رويدًا رويدًا.
__________________________________
<“بعد طريق فاشلٍ تتواجد مئات الطُرقات الناجحة”>
فلنبدأ من جديد، البدء من جديد هو دومًا قصة الرابحين الذين لم تعرقلهم تعرجات الطريق، وفي المُطلق لن نجد طريقًا مستقيمًا بل نحن سنجد من وسط التعرج خطوة تجعلنا نقفز للأمام لنتخطى كل عقبةٍ كانت تحول بيننا وبين البدء من جديد..
عاد النهار وعاد معه الأمل، تلك هي القصة التي نعيش عليها، وكأنهما توأمان من رحمٍ واحدٍ خرجا للدنيا بنفس لحظة انفراج الجفون عن بعضها، وقد كانت “مادلين” تجلس في الشُرفة صباحًا بعد مرور يومين على جلوسها برفقة “فـاتن” و “نـادر” الذي كان كما الصديق لها، بينما هي غرقت في يَّـم أحزانها حتى أتت لها “فـاتن” تمسح على يدها وهي تقول بنبرةٍ خفيضة:
_قعدتك دي مش هتحل حاجة، بقالك يومين قاطعة الأكل ووشك دِبل خالص، هما مالهمش أمان واتصرعوا على القرش خلاص، قومي بس كلي معايا قبل ما “نـادر” ينزل شغله، قومي دي الدنيا هنا حلوة أوي، بسيطة وجميلة والجيران هنا كلهم ناس عسل.
حركت رأسها بتيهٍ فأتى “نـادر” ووقف أمامها وهو يقول بهدوءٍ لبق:
_وبعدين؟ هتفضلي زعلانة كدا كتير؟ تأقلمي بسرعة وشوفي اللي بعد كدا إيه، ووعد حقك هيجيلك لحد عندك، وبلاش كلمة مالكيش حد دي، أنتِ زي أختي برضه واللي بينا مش كتير، وبعدين أنا بقول نحط خيبتي على خيبتك ونشوف حد ييجي يلحقنا من هم الوكسة دي.
رفعت عينيها الباكيتين له وهي تقول بنبرةٍ أعربت عن انكسار روحها:
_عارف اللي مزعلني إيـه؟ إنه حتى مفكرش في يوم واحد حلو بينا، عملت كتير علشانه وفضلت معاه وراضية وساكتة وحاولت كذا مرة معاه علشان يتغير ويلحق نفسه من المصايب السودا اللي أبوك رماه فيها، دا واحد مكانش بيفرق معاه ابنه، عمره ما اهتم بيك ولا حتى بمراته وكل همه مصالحه وبس، مين اللي ضيعك لما أجبرك تتجوز “شـهد”؟ ومين اللي خلاك تكره “يـوسف” لما اتحرقت وقالولك إن هو عمل كدا علشان بيكرهك؟ ومين اللي خلاك توافق على كل حاجة تضر بيها غيرك ومن قبلها كانوا بيضروك أنتَ؟ أديني أهو مشيت بس يوريني مين هيفضل معاه تاني، ولو عليا فأنا كنت شايلة فلوس على جنب لزوم قلبته عليا، هرجع تاني للتصميم وهساعد “زيـزي” عمة “نـور” بس هو هيموت لوحده زي ما عاش لوحده.
كانت تتحدث بقهرٍ عن شخصٍ فعلت كل ما بوسعها معه لكي تنتشله من كهف الظُلمات، حاولت معه، وحاربت لأجله، حتى أنها اعتادت تشاركه هزائمها من العالم حولها، وللبؤس الشديد كان هو أول الناس في مواساتها، لقد ظنته ربحًا ثمينًا ولم تُدرك أنه الخسارة الفادحة، اشترته بكل ماهو نفيس وفي النهاية باعها بأبخس الأثمانِ.
التفوا حول المائدة مع بعضهم هم الثلاثة، والهزيمة كانت تحط بداخل قلوبهم، تبدو كأنها المحطة الأخيرة لتستقر في نفوسهم، هزيمة لحقت بهم مما فعلوا لأجلهم كل شيءٍ، كانوا يتناولون الطعام حتى صدح صوت هاتف “نـادر” برقم “عبدالقادر” فسحبه سريعًا يجاوب بودٍ بعد التحية:
_متقلقش يا خالو، صحيت وبفطر كمان وجايلك.
ضحك الآخر مُستحسنًا جوابه ثم قال بألفةٍ طاغية بينهما:
_ألف هنا وشفا على قلبك، أنا هحصلك على هناك.
ابتسم “نـادر” وهو يغلق معه المكالمة بينما “مادلين” بمجرد ذكره كلمة “خالو” توسعت عيناها بذعرٍ لاحظه هو فعدل عن هذا الطريق حينما قال بثباتٍ:
_متقلقيش دا مش “عـاصم” دا خالو “عبدالقادر” وهو اللي طلب مني أقوله كدا علشان يرفع عني الاحراج بدل ما أحس إني غريب، أهي خطوة جديدة هبدأها معاهم وحقيقي مبسوط بيها أوي أوي.
أومأت له موافقةً بابتسامةٍ هادئة بينما رحل هو وودعهما لكي يذهب إلى عمله وقد أكد عليهما أن تكونا في أمانٍ وألا تثقا بأي فردٍ قد يطرق باب الشقة وقد حصل منهما على وعدٍ أكيدٍ ثم ذهب وهو يشعر ببعض الأمان لوجود الاثنتين معًا.
__________________________________
<“من سلك درب الصـبر، ربح ونال الجَـبر”>
الصبر دومًا نتائجه معلومة، والعُجالة في الأمر خسائرها مُدركة، لذا يتوجب على كل فردٍ أن ينتهج الصبر مهما طال، فبالطبع الخاسر الوحيد هو ذا الذي تعجل في كل شيءٍ وأدرك الخسارة لكل شيءْ..
بحديقة البيت التي تشبه قطعة من النعيم بأرض الدنيا، جلس “عبدالقادر” بجوار ابنه “أيـهم” الذي أخبره عن سير العمل باستفاضة وعن طبيعة العمل الذي زاد مؤخرًا، لقد ربحوا العديد من الأعمال في مجال العقارات مؤخرًا، وقد توسع “بـيشوي” في بعض المحافظات البعيدة التي جعلت العمل ينتشر بين المقاولات وأدوات البناء وبالأخص في المنتجات الرُخامية، وقد أتت سيرة “نـادر” من وسط الحديث، فقال والده مستفسرًا:
_أهم حاجة تخلي “نـادر” ميحسش إنه متضايق ولا لسه وسطكم تايه، خليك معاه واحدة واحدة وهو هيستوعب، اكسب فيه ثواب ومتخليهوش لوحده.
أومأ له موافقًا ثم قال بلهفةٍ كأنه تذكر لتوه أمرًا ما:
_صح فكرتني، هو أصلًا دماغه حلوة وشكله ليه في سكة التجارة دي، عمل حركة حلوة في إنه يربط العمال هنا بعمال المصنع، وقال يبقى البدل بينهم بحيث إن كلهم يستفادوا والعمالة تزيد أكتر، وقال إنه هيروح المصنع نفسه هناك يشرف بنفسه وهيروح معاه “تَـيام”.
أومأ والده بحركةٍ رتيبة ونظرة تدل على استحسان الفعل وقد استأنفا عملهما من جديد، بينما عادت”نـهال” من عملها وتوجهت نحو شقتها بعدما وجدتهما سويًا، وقد عادت بتعبٍ بلغ أشده عليها، وبكل آسفٍ بدأ الأمل ينمو بداخلها أن المراد كان حان المنال، لقد لاحظت أن بعض العادات البيولوچية للجسد حدث بها خللٌ ما حتى بدأت بتفسير الأمر بتلك الصورة، ولجت بيتها وجلست تسحب نفسًا عميقًا وقد أخبرتها اختها صباح اليوم بحماسٍ:
_بصي هاتي اختبار من الصيدلية يمكن يكون حصل أخيرًا، طالما بتقولي إنك تعبانة كدا وجسمك تقيل وحاسة بتعب، إن شاء الله ربنا يكرمك ويراضيكِ باللي بتتمنيه.
حينها تفاقم الأمل لديها فاندفعت تخبرها بلهفةٍ مدافعة:
_بس أنا راضية كدا والله، أنا كنت فين وبقيت فين يا “نـوال” كفاية أوي إني مع راجل بيحبني ويحترمني ومش بيزعلني بكلمة واحدة، ولو على الوحدة فأنا عندي “إيـاد” بالدنيا كلها، أنا والله مش عاوزة غير إن ربنا يباركلي فيهم بس وميحرمنيش منهم.
كانت صادقة بشأن كل كلمةٍ تتفوه بها، صدقت بشأن الحديث عنهما وأنهما خير ما نالت من الأيام، وآخر ما تبقى لها لتغدو تلك المرأة المُفعمة بالحياة بعدما كانت أخرى مُظلمة وباهتة، تنفست بعمقٍ حينما أتاها قول شقيقتها:
_يا ستي ربنا يباركلك في بيتك وجوزك وابنك، بس برضه خلي أملك في ربنا كبير، مش يمكن الطفل دا يكون عوض ليكِ ولجوزك ولابنك عن كل حاجة؟ “إيـاد” يعني هيفضل لوحده؟ لأ طبعًا لازم أخ منك ليه علشان العلاقة دي تتثبت أكتر، وأنتِ الحمدلله عاقلة وحنينة وأكيد هتقدري توازني بينهم، متنسيش بس إنك تعملي اختبار الحمل.
خرجت من شرودها على اهتزاز الهاتف وقد كانت رسالة من الشقيقة تطمئن عليها، فتنهدت هي بقوةٍ وتوجهت نحو المرحاض وقبل أن تبدأ بعمل الاختبار أصابها الإحباط حينما استعاد الجسد عادته البيولوچية وأدركت أن حدوث الحمل كان مستحيلًا، بدلت ثيابها ثم وقفت بخيبة أملٍ وتلك المرة بكت، بكت وكأنها لا تجد مُتسعًا غير البُكاء، بكت لأن تلك المرة الأمل كان قويًا..
أرسلت لشقيقتها تخبرها عن الاثباط الذي أصابها في مقتلٍ ولا تعلم لما الحزن؟ أهي طبيعة مشاعرها التي تقودها، أم أن الأمل الذي كان بداخلها حينما تلاشى أُصيبت بالاحباط، أم أن حدوث أمرٍ هكذا يعد من باب المستحيلات؟ استمرت في البكاء حتى طُرق الباب بطرقات صغيرة من كف ابنها، وعلى إثر ذلك مسحت وجهها ثم فتحت الباب تسأله بصوتٍ مختنقٍ:
_نعم يا حبيبي؟ عاوز حاجة مني؟.
لاحظ هو أثر البكاء عليها وعلى وجهها كما التقط بعينيه الصغيرتين _المُشابهتين لعينين والده_بعض العَبرات العالقة في أهدابها، وعلى إثر ذلك ضم خصرها بحنوٍ بالغٍ جعلها تبتسم من بين دموعها وقد انزلقت بجسدها تضمه باكيةً حتى مسح على قلبها بقوله الهاديء:
_متزعليش يا ماما لو فيه حاجة مخلياكِ تزعلي، ممكن تقوليلي أنتِ ليه متضايقة وأوعدك إنك هتضحكِ علطول، عارفة؟ “أيـوب” كان بيقولي إن اللي زعلان يدعي ربنا يفرحه، ويكون واثق إن أي حاجة هو عاوزها ربنا هيكرمه بيها أو بالأحسن منها أو يحرمه منها ويبعد عنه حاجة تانية ممكن تزعله أكتر، أنا على فكرة كنت زعلان وفضلت أدعي ربنا بيكِ وجيتي أنتِ تعيشي معانا هنا.
ماذا تحتاج هي أكثر من ذلك؟ لقد حصلت على أكثر مما تمنت ذات يومٍ، لو كانت تريد الحب فزوجها يعشقها، ولو كانت ترغب في بيتٍ دافيء فهذا البيت يحتضنها بين أذرعته، ولو كانت ترغب في إنجاب طفلٍ فهي معها قطعة ماسية يتوجب عليها حمايتها، ضمته بين ذراعيها بقوةٍ وضحكت بسعادةٍ وكأنها تحولت في طرفة عينٍ وقالت ترضي فضوله بشأن بكائها:
_اعتبرني بعيط من فرحتي بيك وإني عندي ابن زيك أحسن حاجة في الدنيا كلها، بعيط علشان أنتَ جيتلي متأخر وأنا قبلك كنت بزعل كتير أوي، أنتَ نعمة كبيرة أوي من ربنا.
أومأ لها موافقًا ثم أضاف بزهوٍ وخيلاءٍ في نفسه:
_دا كدا كدا يعني، فكري كدا من غيري هتعملي إيه؟ هتلاقي حاجات كتيرة أوي ضاعت منك للأسف يعني، ربنا يحفظنا.
تأكدت حقًا أنه مجرد نسخةٍ مُصغرة من النسخة الأكبر منه حتى ضحكت بصوتٍ عالٍ ثم حملته بين ذراعيها وتوجهت به نحو الخارج وهي تضحك معه وتُدغدغ جسده بأصابعها، وفي تلك اللحظة ولج “أيـهم” لهما وقد قال بخبثٍ أنذرت به ملامحه:
_زي ما أنتم، والله ما حد فيكم متحرك.
أوقفت الصغير فوق الأريكة وطالعته بتوجسٍ خفيةً مما ينتوي فعله حتى اقترب هو بغتةً من صغيره وأكمل ما كانت تفعله هي حتى صدح صوت ضحكاته وهو يتوسل والده بالتوقف لكن الآخر لن يُضحي بهيئة صغيره فرحًا، فازداد فعله قوةً ثم ضمه ولثم وجنته وهمس له ما لم تلتقطه هي وكانت النتيجة نقل الفعل من كليهما على خصرها حتى ضحكت وتوسلتهما بالتوقف وانتهى توسلها بسقوطها بين ذراعي زوجها الذي هتف بوقاحةٍ فور تلقفه لها:
_اسم الله على الحلويات.
تضرج وجهها خجلًا من تواجد الصغير ليس إلا، بينما هو لثم جبينها ثم أبعدها عنه وقال بنبرةٍ هادئة يشدد بها من أزرها:
_مفيش حاجة تستاهل زعلك، كل حاجة رحمة من ربنا لينا ولازم نرضى بيها، أنا عن نفسي راضي بيكِ أوي وراضي بيه ومش عاوز غيركم، بلاش تزعلي نفسك.
نظرت إليه بحيرةٍ كيف فهم سبب حزنها فقال بنبرةٍ خفيضة:
_واضح كدا إني مش لوحدي اللي بحب أخواتي أوي.
فهمت أن السبب هي شقيقتها التي دومًا تكون الداعم الأكبر لها وخاصةً في مثل تلك المواقف، أومأت له ثم قالت بنبرةٍ خفيضة وهي تستعد لدخول مطبخها:
_ربنا يباركلي فيكم أنتَ وهو.
رحلت بعد جُملتها تلك ثم ولجت للداخل لكي تبدأ عملها في تحضير الطعام للاثنين ولا تنكر أن وجودهما معًا قد أعاد الروح لها من جديد، تواجد كليهما معها كان أكثر ما تتمناه في يومٍ حتى لو ما تمنته ذات يومٍ كان لغيرها.
__________________________________
<“لا الزمان هو الزمان لكنكَ كنتَ ولازِلتَ أنتَ الأمان”>
رُبما يتغير الزمان ورُبما تمر الأيام،
ورُبما يتبدل بنا في الأرض كل مكانٍ، لكن دومًا وأبدًا كان تواجد الأحبةِ هو الأمان، وحتى وإن زادت المسافات، فلازلنا معهم نشعر في ربوعهم بالأمان، ولا أمانٌ يُقارن بهذا الذي ظلت رائحته ساكنة في المكان وتتعلق بالوجدان..
هدوء، سكينة، راحة تتنافى مع شقاء العالم الخارجي، أمانها وجدته معه منذ أربعة أيام وهي تسكن بيته، صوت القرآن الكريم لا ينفك عن سمعها، رائحة البخور تفوح في الشقة لتهديء الأعصاب وترتخي لها المشاعر، الآن يجلس فوق الأريكة يمسك أحد الكتب الخاصة برياض الصالحين ويبدو أن تلك هي القراءة المفضلة لديه حتى وصل لنصف الكتاب بعد عودته من المسجد.
“أيـوب” الهاديء صاحب الوجه البشوش يجلس أمامها شاردًا في كتابه حتى تسائلت هي هل منذ صغره وهو ينتهج تلك الحياة الهادئة؟ اكتشفت به العديد من الجوانب التي لم تكن تعلم عنها شيئًا وحينما سألته في الصباح أتى جوابه بمزاحٍ:
_ماهو أنا فضلت محوش محوش محوش علشان يوم ما ربنا يكرمني أخرج الوش دا، بعدين أنا مع كل العباد Good boy، بس معاكِ أنتِ لازم أكون Bad boy.
وقتها ضحكت بملء فاهها خاصةً مع عبث نظراته لها وقد شردت فيه مُجددًا فلمحها هو تقف تراقبه فأغلق كتابه ثم سألها بوجـهٍ مبتسمٍ:
_نعم، عاوزة حاجة مني؟.
حركت رأسها موافقةً ثم قالت ببسمةٍ انتقلت لها منه:
_كنت بحضر الأكل وقولت تيجي تقعد قصادي نتكلم شوية بدل ما تقعد لوحدك وأنا لوحدي، أو بصراحة عاوزاك تساعدني بأمانة ومن غير كدب عليك.
أومأ موافقًا لها ثم تحرك خلفها مبتسم الوجه وما إن ولج المطبخ ولمح الطعام الذي تقوم بتحضيره فاقترح عليها بهدوءٍ لكي لا يُصبح مُتطفلًا عليها:
_بقولك إيه؟ أعملك طاجن حلو من أيدي؟ يعني بدل ما تتعبي أنتِ وتحطي كل حاجة لوحدها، أنا عامل فُخار حلو أوي والأكل فيه بيكون ليه طعم تاني، تجربي؟.
أومأت له بحماسٍ وقد ارتدى هو واقي الثياب باللون الكُحلي ووقف أمامها يبدأ في صنع الطعام بالوعاء الفُخاري وهي تراقبه بكل شغفٍ وسعادةٍ، تخشى أن تفق من حلمها الجميل هذا على صفعة قوية من الواقع تُجردها من ثياب الفرح، وقفت تتخيله بكل ما تمنت، كان في أحلامها رفيقًا وحبيبًا وصاحبًا وخليلًا وزوجًا وأبًا، رأت فيه كل ما ودت أن تحصل عليه، بينما هو ابتسم بهدوءٍ ثم طلب منها:
_ممكن تحضري حاجة السلطة لحد ما أخلص؟.
أتت له بما طلب منها وبدأت بالفعل في تحضيرها بعدما أخفض نيران الموقد الغازي وأخبرها أن المسألة فقط تحتاج لدقائق وقبل صلاة العصر سينتهي الغداء، وقفت أمامه تقطع الخضروات ليراقبها هو بعينيه وشعر أن تلك اللحظة هي لحظة الجبر من بعد الصبر، اقترب منها ووقف خلفها ثم رفع ذراعيه يوازيهما فوق ذراعيها وأمسك معها السكين ونطق بشقاوةٍ هادئة جعلتها تبتسم بسعادةٍ:
_السلطة بالذات أمي موصياني أقطعها مع مراتي كدا.
عَلا صوت ضحكاتها أكثر وشاركها هو وبدأت يداه تنتقل مع يديها في كل فعلٍ إبان تقطيع الخضروات وهي تُغمغم بسعادةٍ عن مدى فرحتها بمشاركته معها، بينما هو مال يُلثم وجنتها ثم ألصق وجهه في وجهها وحدثها بخفوتٍ:
_ممكن النهاردة بعد صلاة الفجر نتحرك مع بعض، هاخدك مشوار مهم أوي ومحتاجك معايا فيه، وأتمنيته من أول مرة دقيت فيها بابك علشان تكوني ليا، موافقة تيجي معايا بس بشرط مش هقولك فين.
حركت رأسها لكي يتسنى لها رؤيته ثم قالت بحماسٍ:
_معاك فين ما هتروح وتكون كمان، مش مهم المكان قد ما المهم إنه معاك أنتَ وبس، وطالما هتكون فرحان صدقني هفرح أوي علشانك، معاك يا حبيب أيامي كلها.
حديثها كان غريبًا، تملأه الحياة في حين أنه لم يعهد ذلك من قبل، كلماتها ترفعه حيث السماء السابعة ولتوه أدرك لما وضع الخالق الحدود بين كلا الجنسين، لتوهِ أدرك أن هي حبها له سُلطة على القلب الذي اصطفاها لكي يهواها، نظرتها البريئة تلك جعلته يضمها وهو يخفيها بين ذراعيه ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_ربنا يقدرني وأكون الراجل اللي يستاهلك.
هكذا أختتم عناقه قبل أن يُلثم جبينها وهي أمامه لم تفعل شيئًا سوى التبسم في وجهه فقط، بينما هو تمم على الطعام وبدأ في تسوية الأرز فوق الموقد وهي معه تعاون بما تستطع فعله وما قد يحتاجه هو، وقد اقتربت تقف بجواره وهي تسأله باهتمامٍ:
_هو أنتَ علطول هادي كدا؟ يعني ملتزم بالهدوء كدا وطيب أوي ومش بتعمل قلق؟ دا أنا بدأت أحس إني خنقاك هنا.
بأعين مبتسمة وجه نظراته لها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_لأ خالص، بالعكس أنا حابب أوي فكرة إننا مختلفين عن بعض كدا، دا بيحقق معادلة صعبة بين الزوجين، أصل تخيلي إحنا الاتنين هاديين؟ هتبقى حياة روتينية ملهاش طعم، لكن مرة نجرب الهدوء مع بعض ومرة نجرب الجنان، وأظن مفيش جنان زي إني واقف بعملك أكل يا عروسة أهو.
ضحكت ثم اقتربت منه تثرثر بكلماتها وتسرد له كل ما غاب عنه في أيام عمرها، تخبره عن كل ما مر في العمر ولم يكن هو حاضره، بينما هو ينصت لها ويتابعها ثم يشاركها وبداخله يود أن يسجد للخالق طوال عمره على كرمٍ جعله يدرك أن ربيع العمر معها جعله ينسىٰ خراب الأمس.
__________________________________
<“لمحة ظلامٍ تمر من وسط النور، حتمًا سيخفيها النور”>
من قال أن العالم المثالي لازال موجودًا؟..
لقد تلاشت المثالية من قاموسنا ونحن أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يكون العالم خلف ظهرنا ولم يغير بنا شيئًا، وإما العالم يربح علينا ويغير بنا كل شيءٍ، وفي هذا وذاك نحن إما نكون الرابحين، وإما الخاسرين..
انتصف النهار مصطحبًا معه اللون البُرتقالي في لوحةٍ جميلة تحبها الأعين التي تحتاج لرؤية تلك البهجة الهادئة، هي تجلس في الحديقة ببيت والدها بعد ابتعادها عن زوجها لمدة أربعة ليالٍ منذ شجارهما سويًا، لم تكن مجرد الفتاة المُدللة التي تلتجيء لوالدها كلما رغبت في شيءٍ ولذا لم تخبره عن سبب جلوسها في البيت هنا وذهابها بعد نومه..
كان والدها في عمله وترك البيت لها تفعل ما يحلو لها به، على الرغم من عدم اقتناعه بفكرة جلوسها معه والفارق بين كلا البيتين عدة أمتار تربط بينهما حديقة واحدة، لكنه لم يتدخل بل ترك لهما منفسًا، وتلك هي الحياة الزوجية بعينها، بين شدٍ ورخوٍ تتارجح الأيام بين فردين مرجعهما لبعضهما.
رائحته حاوطت المكان، وظله سقط عليه ودون أن ترفع عينيها تكاد تُجزم أن وسامته التي تعشقها تطالعه بأكثر النظرات حنوًا، حاولت أن تتماسك أمامه حتى جلس وردع حركتها تلك بامساكه لكفه وهتف “سـراج” بهدوءٍ يُخالف طباعه:
_أنا آسف علشان مزعلك مني ومخليكِ بعيد عني كدا، بس أنا بحبك وخايف عليكِ يا “نـور” مش عاوزك تتأذي ولا عاوز حاجة تقرب منك تخليني أخاف عليكِ، بتقولي واحدة مدمنة وعاوزة تقربي منها؟ والمفروض أطاوعك كمان؟ أنا ما صدقت ربنا يراضيني بقربك مني، يبقى ليه بقى أخاف عليكِ؟.
تنهدت هي بثقلٍ ثم رمقته بعتابٍ ورغمًا عنها داهمت العبرات عينيها البريئتين وهي تجاوب حديثه بحزنٍ:
_كان هيحصل حاجة لو كنا أتكلمنا كدا من الأول؟ صدقني أنا كنت محتاجة إنك تشاركني الكلام وأقولك عن سبب خوفي كله، كان نفسي أقولك إني بشوف نفسي القديمة فيها وأنا تايهة وضايعة ومفيش حد معايا ياخد بايدي، الوحدة ممكن تخلي الإنسان يوصل لمرحلة من الجنون يا “سـراج” ممكن الحال يوصل بيه إنه يقتل نفسه لمجرد إنه لوحده، هي مش بتعمل كدا بوعيها، هي بتاخد مسكن لوجع الأيام ليها، صدقني مش هقدر والله أديها ضهري، ضميري مش هيرتاح.
زفر هو بقوةٍ أمام إصرارها الضاري كما المحارب المقاتل ثم تنهد بعمقٍ وقال بتحذيرٍ شديد اللهجة عليها:
_تمام، بس قسمًا بربي لو حصل حاجة واحدة بس تضرك أنا مش هيكفيني رجالة العيلة دي كلها لو اعتبرنا إنهم رجالة أصلًا مش ***** قدامي، عاوزة تقربي براحتك بس أنا عيني عليكِ ومش هخليكِ لوحدك مع حد منهم، تمام؟.
أومأت موافقةً كمن أرادت خوض مضمار التحدي بنفسها أمامه بينما هو استعاد جزءًا من هدوئه ثم أضاف بتريثٍ بعدما توقف يشرف عليها من علياءه:
_ياريت بقى ترجعي بيتك مش عارف أتخمد من غيرك، هروح الشغل كام ساعة هدفع فلوس وأنزل بضاعة في الكافيه وأرجع ألاقي البيت منور بيكِ.
رفعت رأسها في شموخٍ واستمسكت بكبرياء أنوثتها وقالت:
_دا بعينك، لما تبطل طول لسانك دا وإيدك تتعامل كويس بعد كدا، وعلشان أريحك أنا أصلًا هشتكيك لعمو “نَـعيم” علشان هو حلفني لو حصل أقوله، أنا هروح أقوله إنك بوقك دا عاوز قفل عليه وايدك عاوزة قطعها يا أبو لسان طويل.
يعلم أنها تعانده وتكذب ليس إلا لذا دنىٰ منها أكثر حتى تحدث أمام وجهها القريب منه بصوتٍ ناعمٍ لم ينفك عنه العبث:
_طب دا اسمه كلام؟ ولما لساني يتقفل مين هيتغزل في الحاجات الحلوة اللي قدامي ويبوس الخدود العسل دي؟ ولو ايدي اتقطعت مين هيحضن غيري يعني ويطبطب ويهادي؟.
لا شك أنه أوقح الرجال في العالم، لن يتوانْ عن اخجالها حتى تضرج وجهها بخجلٍ ثم هتفت بغيظٍ من وقاحته:
_أنتَ سافل وقليل الأدب يا “سـراج”.
_وأنتِ جامدة وحلوة أوي يا “نـور”.
هكذا هتفت هكذا رد وقد اقترب منها يلثم جبينها لكي يسترضيها ويبتلع غيظها بفعله وهي كما القطة الصغيرة تطالعه ببراءةٍ حتى قطع صوت والدها لحظتهما تلك بقوله:
_غريبة يعني أنتوا اتصالحتوا خلاص؟.
توسعت عيناها كأنما تم الامساك بها في الجُرم المشهود بينما هو غمز لها بثقةٍ ثم اعتدل والتفت يواجه حماه بقوله المتهكم بسخريةٍ:
_ولما أنتَ عارف طيب مرضيتناش ليه؟.
وزع “عـادل” نظراته بينهما وسرعان ما قال بحكمةٍ:
_مش من حقي طالما محدش فيكم سمحلي بحاجة زي دي، هي صحيح بنتي بس أنا مش هقدر أفرض نفسي عليكم وعلى مشاكلكم ونصيحة مني محدش فيكم يدخل حد بينكم، الموضوع ممكن يكون تافه ويكبر بسبب التدخل، بعدين أنا شايفك شاطر وبتعرف تراضي كويس أوي أهو.
أشار بكلماته على اقترابه منها حتى ضحك له الآخر بعبثٍ ثم مال عليها يقبل جبينها ويضمها لوهلةٍ عابرة ثم واجه أبيها بقوله المرح كأنه يهددهما:
_عقلها وخليها تدخل بيتنا عيب دا إحنا جيران ودا الأحسن.
_ولو معقلتهاش هتعمل إيه يعني؟.
ألقى والدها السؤال ليأتيه الجواب الخالي من مثقال ذرة تهذب:
_أقسم بالله آجي أشيلها وأعقلها أنا ولا هيفرق معايا حاجة.
أنهى الحديث ثم خرج من البيت حتى كاد والدها أن يدفعه بأحد قوالب الحجارة لكي يُصيب ظهره بينما ضحكة ابنته وسعادتها جعلته يضحك مرغمًا ثم جاورها وجلس بجانبها بصمتٍ فوجدها تقترب منه وهي تضمه بسعادةٍ يعلم جيدًا أن سببها ذاك الوقح.
رحل الآخر وذهب إلى عمله وبدأ يتابع كل شيءٍ ثم ولج مكتبه وجلس به وفتح دفتره الجديد الذي دون عليه اسم الأحلام، لقد بدأ التحضير لمشروعٍ جديدٍ يحتاج لكامل نشاطه وماله وذكائه، وعليه أن يحسب الخطوة الواحدة آلاف المرات، وبينما هو أنغمس في خضم الأفكار وجد “عـزيز” معاونه يدخل له ويحدثه بهدوءٍ:
_بقولك إيه فيه ناس برة عاوزاك، شكلهم تقال.
عقد حاجبيه فوق زرقاوتيه وسرعان ما تغلب عليه فضوله فسمح لهم بالدخول، ولجوا خمس رجالٍ مع بعضهم استقبلهم هو بحفاوةٍ ثم أعطاهم كرم الضيافة، وقد رفع أحدهم كفه بقطعة “حشيش” يُهاديه بها ثم قال بزهوٍ:
_حتة جديدة أهيـه مش خسارة فيك.
ابتسم بتكلفٍ له ورفض بأدبٍ تلك القطعة التي قد تساوي لغيره وسيلة انقاذٍ من تلك الحياة:
_تشكر يا معلم، مبطل والله، خبيها لصاحب نصيبها.
أعادها الرجل لمكانها من جديد وقد تولى غيره الحديث بكل مباشرةً وبغير تزييفٍ للكلمات:
_بص، من الآخر محدش هينفعنا غيرك، بيتنا واقف بس على الحفر عاوزينك تشوف حد من حبايبك كدا يعاين ويشوف الحِسبة واللي يطلع من أبو قسم معاه، كدا كدا الحكومة هتاخده، يبقى إحنا أولىٰ بخيره من غيره، شوف يلزمك إيه وإحنا معاك وأظن يعني دلوقتي وضعك اختلف، أنتَ فتحت بيت وبقيت مناسب نائب المحافظ، يعني ضهرك محمي قدام الحكومة.
طريقته كانت ملتوية ورغم ذلك أنذرت بكل صراحةٍ فيما وزع “سـراج” نظراته بينهم ثم حرك رأسه لليسار قليلًا وهتف متسائلًا بثباتٍ:
_وعمولتي..؟.
اندفع أحدهم يخبره بنفس ذي الثبات القاتل:
_تلاتة مليون، واحد ونص قبل، وزيهم بعد، وعلى الفكرة البيت مليان والمقبرة فيه على تومة عينها، يعني مكسبها مضمون أوي.
عاد للخلف وقال بثقةٍ كان يعهدها قديمًا:
_خمس مليون، تلاتة قبل، واتنين بعد طالما البيت مليان زي ما بتقول، ولو مش عارف إني هنفعك ماكنتش جيت لحد عندي، موافقين على البركة، مش موافقين يبقى بلاها خالص.
نظرة واحدة طافت بينهم يتفقون بها على مطلبه، وقد جلس متأهبًا ينتظر جوابهم الأكيد حتى أماءوا بموافقةٍ له وتمموا الصفقة شفهيًا، صفقة حضارية لم تكن الأولى وبالطبع لن تكن بالأخيرة، مجموعة من الجاهلين يسيطر عليهم طمعهم وحبهم للمال، يلجأون لسمسارٍ مثل ذاك لكي يُتمم البيعة بعلاقاته المشبوهة، والمعروف بينهم أنه:
“سمسار الحضارة”
__________________________________
<“في داخل كلٍ منَّا يتواجد بحرٌ لن نجد سبيلًا للنجاة”>
في أعماقنا تتواجد البحار العميقة حيث اللامفر منها، بحار عاتية قوتها تبتلع المرء حتى يثقل جسده فيغدو غير قادرٍ على مجابهة حروب الأمواج التي تتقاذف بجسده، فمن قال أن السجن معروفٌ بالضيق؟ بالطبع هو لم يُجرب أن يُسجن المرء بداخل نفسه وكأنه يُلقي بنفسه في اليَّمِ بغير هوادةٍ..
تجهزت وبدت في كامل أناقتها، حياة جديدة أقرب للروتين العُرفي المتعارف عليه في المجتمع المصري _وإن كان بصورةٍ خاطئة ومُغايرة لأحكام الدين_ لكنها مجرد عادات وانتشرت، الآن تتجهز لنزهة برفقة خطيبها الصامت الغوغائي وإن كانت الصفات تتنافى معًا!!.
ارتدت معطفًا طويلًا بأولى درجات اللون البُني وأسفل منه سترة قطنية سوداء اللون والبنطال باللون الأسود الداكن ثم قامت بصنع تلك الجديلة التي كانت سببًا في إطراءه عليها ذات يومٍ، لقد تنهدت بقوةٍ وهي تتابع نفسها ثم انتعلت الحذاء وحملت حقيبة الظهر وتوجهت نحو مكتب شقيقها لكي تخبره.
كان “جـواد” غارقًا في خِضم العمل حتى ولجت هي له بهيئتها تلك فابتسم لها ثم حذرها بقوله الرصين:
_مفيش تأخير دا أولًا، نلتزم بالحدود ثانيًا، ولو أنا وافقت فدا علشان خاطر الحج “نَـعيم” بس مش أكتر ولأني واثق فيه وفي طلبه مني، متتأخريش وخلي موبايلك مفتوح.
ابتسمت له بحبٍ بالغٍ وهي تجزم أن مشاعر أبوته لها تغطي على مشاعر الأخوة، وقد اقتربت منه ثم لثمت وجنته بحركةٍ خاطفة جعلته يضحك بيأسٍ وقبل أن تخرج من الغرفة عادت له تسأله باهتمامٍ:
_تفتكر “يـوسف” مع اضطرابه هيقدر يصمد قدام حالة مراته دي ولا ممكن الاضطراب يقوده ويخليه يتصرف غلط؟
رفع أحد حاجبيه وسألها بحنكةٍ زائفة:
_جرى إيه يا دكتورة؟ عاوزاني أفشيلك أسرار المرضى؟.
حديثه بدا كأنه يُذكرها بطبيعة العمل الذي يمارساه سويًا وقد ابتسمت هي له ثم رفعت كفيها كعلامة استسلامٍ له وأضافت بنبرةٍ ساورتها ضحكة طفيفة:
_لأ طبعًا، بس شكلك نسيت إن الحالة دي مرتبطة بحالة تانية عندي، وعمومًا هستشيرك بما إنك أكثر خبرة مني، حالة “عـهد” كلها مبنية على الماضي وتحكماته فيها، بمعنى إن العقل الباطن عنده الرصيد الكافي علشان يقدر يوجهها لكل فعل ورد فعل، مع الضغوط النفسية والخوف والتفكير بيقف، فكان لازم أخلي للحاضر دور قوي يقنعها إن الماضي ملوش أثر، زي الصدمة كدا لما بتفك التجلطات، أنا اعتبرت إن الماضي دا جلطات ولازمه صدمة تفكها، وأكيد مكانش ينفع أخوفها من الجواز وفكرة إنها تعيش مع “يـوسف” في مكان واحد، لأن قربه منها هو الحاجة الوحيدة اللي هتخليها تنسى الماضي، صح كدا؟.
اِفتر ثغره ببسمة زهوٍ بها وبما فعلت وبما توصلت إليه في عملها وقد أومأ هو لها، ثم أضاف شارحًا أمر الحالة التي تخصه:
_حالة “يـوسف” عند اللي بيحبهم بتتبدل مليون درجة، عقله مش بيستوعب إنه يكون مؤذي ليهم، ولو حصل مرة غصب عنه بيجلد ذاته ونفسه، عيلته وحبايبه وكل اللي يخصوه هو عامل ليهم رصيد كافي عنده وسايب ليهم مكانة كبيرة تخليه يقدر يصد أي فعل طايش، هو برضه محتاج لوجود “عـهد” علشان يتأكد إنه عادي يعيش ويحب وعادي يستقر زي ما حاول قبل كدا مع “شـهد” وللأسف كانت أكبر صدمة حصلت في أحلامه، كان لازم يكون مع “عـهد” ودا هيساعده يغير طريقة تفكيره اللي واقفة عند إنهم وهم لمجرد إن عقله شايفهم كُتار عليه وإن مش بعد كل دا يطلع ليه عيلة ويلاقي بنت بتحبه حب أسطوري، لأ وكمان دا مقبول من الكل وكلهم يتمنوا رضاه، حتى “أيـوب” لما حاول يصاحبه “يـوسف” حس بالانتصار على الدنيا لمجرد إنه مرغوب، فكرة قُربه من مراته كزوج أنا واثق إنها آخر اهتماماته قدام سلامة “عـهد” لأنه بطبعه راجل عاقل مش من النوع اللي عاوز يرضي نفسه وشهواته، أولًا وأخيرًا إنسانيته وبذرة “مصطفى الراوي” بتكسب.
فهمت الآن مقصده حينما حاولت اقناعه أن يتحدث مع “يـوسف” بشأن تأجيل الزواج لكنه رفض بل حثها على دعم كلا الطرفين حتى وصلوا لتلك النقطة، وفي تلك اللحظة صدح صوت هاتفها برقم خطيبها فأذن لها شقيقها بعينيه فتحركت بخطى سريعة لخارج البيت لتجده يرتدي “سويت شيرت” باللون الأسود لائم ملامحه وهيئته وقد استند على سيارة عمه..
اقتربت منه تلقي التحية بنبرةٍ ضاحكة:
_مساء الخير يا غوغائي.
ركز عينيه عليها ثم ماثل نبرتها وأتى رده مشابهًا:
_مساء النور يا غريبة الأطوار.
ربما يحق لها أن تغضب لكن في حالته تلك أقل الكلمات منه تعد انجازًا لها بكل تاريخها، لذا ناولته ضحكة من ثغرها المبتسم ثم تحركت معه نحو السيارة التي قادها بصمتٍ من كليهما، اختارت هي المكان وتولى هو مهمة الذهاب بها، رُبما هو جديدٌ في تلك الحياة الروتينية التي لم يفهم كيف له أن يتعامل فيها، لكن محاولاته تُحسب لأجلهِ..
أنتهى الأمر بهما في مطعمٍ على ضفاف النيل في منطقةٍ راقية ربما تناسب أصحاب الذائقة الكلاسيكية، أما هو؟ فبالطبع لا، هو حتى وإن لم يجد ما يلائمه هنا لكنه لن يتخل عن جنونه، لقد كان أمهر قائدي الدراجات البخارية بكل أنواعها، لم يدع رهانًا إلا وكان النصر حليفه به، اعتاد على خوض السباقات سواءً شرعية كانت أو غير ذلك، فهل يقبل أن يجلس هكذا؟.
المكان لم تشبه شائبة، بل هو مزين بشكلٍ رائق، أضوائه هادئة تبعث في النفس أملًا، الطاولات بأكملها عالية ومستديرة لكي يلتف حولها الأزواج، مجرد جلسة رومانسية لم يفقه عنها شيئًا، فلو كان الأمر به القليل من الإثارة والتشويق لكان اندمج وسطهم، غرق في بحر أفكاره وهو يتلاعب بميدالية مفاتيحه غير مكترثٍ بمن هي أمامه وهي تراقبه حتى هتفت بجزعٍ من صمته كأنه مجبورٌ على مجالستها:
_أنا زهقت تحب نمشي؟.
واصل عينيه بعينيها ثم أتاها بالجواب الصريح:
_ياريت.
رفعت كلا حاجبيها له بتعجبٍ من صراحته وقد توقعت أن يحاول معها لأجلها، لكنها حسمت أمرها ثم خرجت تسبقه وقد ترك هو حساب العصير الذي لم يُشرب ثم تحرك خلفها وقبل أن تقترب من السيارة أوقفها حينما حاوط كفها بتلقائيةٍ غير محسوبة ثم قال بثباتٍ:
_ممكن نتمشى مع بعض أحسن؟.
لم تجد جرأة تمنعه بها بل وافقت وتحركت معه بصمتٍ ثم شدت طرفي معطفها حتى تمنع تسلل البرودةِ لها، فيما تنهد هو ثم اقترب من السور المعدني المُطل على نهر النيل وقد جاورته هي بصمتٍ ثم استنشقت الهواء مغمضة العينين.
راقبها “مُـنذر” بثاقبتيه ثم قال مُثنيًا عليها وعلى هيئتها بصراحةٍ تعهدها منه في قليلٍ من المرات:
_على فكرة شكلك حلو في الطقم دا، واضح إنك بتحلي الحاجة مش العكس، اكتشفت دا مؤخرًا فيكِ، واضح إنك زي النيل دا، اللي يجرب قربكم، رجوعه ليكم يكون بفرض عين.
فرقت جفونها لتطالع وجهه أسفل ضوء القمر الساقط عليه وقد فاجئها بما يقول حينما أتى حديثه بهذا القدر من الصراحة وقد ابتسمت له بخجلٍ فطري ثم ماثلت حركته السابقة واستندت على السور تطالع النيل وهتفت بضحكةٍ متعجبة في طياتها انطوت السُخرية:
_عمري ما توقعت أرجع مصر تاني وأقف في يوم عند النيل جنب خطيبي وأكون زي اللي كنت بشوفهم وأنا صغيرة كدا، بس واضح ان اللي بنفتكره صعب بيكون دا أقرب حاجة لينا.
هي بريئة، وهو قاتل وتلك هي المعادلة الأصعب، لم استمر في خداعها أكثر من ذلك بالطبع سيكره نفسه قبل أن تفعل هي، عليه أن يتريث قبل أن يفعل أي شيءٍ لكنه استغل فرصة عدم النظر إليه في المحاولة مع نفسه، لقد كان يشبه الطفل الصغير التائه وهذا ما أكدته نظراته ليأتيها قوله الذي لم تتخيله ولو بأبشع كوابيسها:
_مهما تخيلتي حاجات صعبة، أكيد مش هتيجي بصعوبة إن اللي أنتَ مخطوباله عيل جه في الحرام لحظة شهوة مش محسوبة، وكمان تربية عصابات وقتال قُتلى.
الكلمة كمان الحصان؛ إذا تركت لجامه سيقود بكل جموحٍ في ميدانٍ أبوابه مُغلقة ووقتها النتائج قد لا تكون معلومة بقدر ما تكون البداية أنذرت الجميع بكل شيءٍ.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى