روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والسادس عشر 116 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والسادس عشر 116 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والسادس عشر

رواية غوثهم البارت المائة والسادس عشر

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والسادسة عشر

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الواحد والثلاثون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
تجيء إذا إنعدم المورد الموردُ
وتُعطي فما أخلف الموعدُ..
تظل إلى جانب الضائعين
ونار الهُدىٰ في الدُجي توقدُ..
يسدُ الطواغيت أبوابهم
وبابك يبقى فلا يوصدُ..
وتُمطر حين يحق الجفاف
وتُحيي الموات لكي يحصدوا..
_”عماد الدين خليل”
“ابتهالات في زمن الغُربة”
__________________________________
السلام على قلبك أيها الغَوثْ..
لقد سبق وسمعتُ أنك رجلٌ سبق ورفض القمر لأجل الحصول على “قـمر” فهل خُيل لكَ ذات يومٍ أن تكتب لأجلك “قـمر”؟ في حقيقة الأمر حتى أنا لم أتخيلها، لكن دعني أفعلها، أتعلم تلك الأساطير الخفية التي تقص تلك القصة المزعومة عن أميرٍ تتحاكى عنه كل البُلدان؟ ثم تتنقل أخباره لتصل لتلك الفتاة الفقيرة التي تسكن على ضفاف مدينته في كوخٍ خشبي فينبض قلبها لأجله عشقًا وولهًا من مجرد السمع؟ تلك القصة لم تكن بخياليةٍ فحسب، بل شاهدتُها ومعك عاصرتُها، فمنذ أن وصلتني أخبارك وكافة المعلومات عنك أيها الغوث وأنا أراك بأحلامي رفيقًا لأيامي، حتى وأنا أُفكر بكَ أعجز عن وصفك بكلماتٍ توصفك ولحُسنك تُنصفك، ولقد علمت أن اللغة العربية تحتوي على ثمانيةٍ وعشرين حرفًا وبالتقريب إثنا عشر مليون كلمة لكنهم لازالوا غير قادرين على إنصافك بحديثٍ، رُبما أعجز عن وصفك أنتَ، لكني لن أعجز عن وصف شعوري بكَ، فبالطبع تلك الحقيقة لن أُكذبها…أتدري شعور الطفل اليتيم حينما يتلقى الحنان لأول مرةٍ في عناقٍ دافيءٍ يحتويه وله ينتمي ومن قسوة العالم فيه يحتمي؟ أو شعور التائه الذي ضل السُبل أجمع ولم يَعد يعرف طريقًا ومن ثم يستهدى نحو السُبل الصحيحة؟ أو رُبما مجيئك وكأنك غوثٌ أشبه بحلول المطر ونزول الغيث على أرضٍ قاحلة قام الزمان بتجريفها، فأتيت أنتَ وكأن مجيئك يُشبه السلام الذي ربت على قلبي وحول كل العالم الموحش إلى حلاوة الأحلام..
<“تبدلت الأدوار والضعيف أضحى قويًا”>
الآن تبدلت الأدوار وكلٌ منَّا غدا في نصابه الصحيح، الآن يقف المصفوع سابقًا يرى بأم عينيه الصفعات وهي تتوالى فوق وجه من ظلمه، بالطبع لم يحسب منا حسابًا لتلك اللحظة لكنها أتت ومن كان يقف حزينًا منذ أعوامٍ، الآن حقه يعود أمام العالم أجمع..
_شاطرة إنك بتسمعي الكلام، كدا أفضل.
تنهد بقوةٍ ثم أضاف بعدما دار بعينيه يراقب الحشد الواقف ثم ثبت عينيه عليها وهتف بوجعٍ نبع من روحه المجروحة بسيف يديها البتار دون شفقةٍ:
_وأنا كمان هكافئك، أنتِ طالق يا “شـهد”.
بالطبع هي مُكافأة من نوعٍ خاص، أراد بها أن يثأر لكرامته المهدورة على يديها ويجرح كبريائها الذي طالما تعالت به عليه وعلى كل من حولها، لا يهمه وجعه الذي أخذ يأني الآن بل ما يهمه حقًا أنه ثأر لنفسه وتسبب في إذلالها أمام الجميع والآن وفقط يرد الصفعة بعشر أمثالها وكل واحدة منهم تضرب في مكانها الصحيح..
أمام حشدٍ كاملٍ وقف هو بشموخٍ يُحرر نفسه من قيودها المُشابهة للأغلال حول عنقه تُضيق عليه الخِناق وسط الهمسات المُستنكرة والهمهمات المتعجبة من العاملين بالمكان، وذهول البقية الذين وقفوا مُستنكرين ما حدث لكنه ثبت عينيه عليها يرى صدمتها فوق صفحات وجهها وحينها تذكر كيف مر الأمس عليه، فأضاف من جديد مُكملًا صفعاته:
_طالق، طالق، طالق بالتلاتة.
بدا كمن قام بسكب الوقود بجانب عود ثقابٍ لتشتعل الأجواء وتقف تلك الفتاة ابنة الطبقة المخملية وصفوة المجتمع تُهان أمام الجميع بتلك الطريقة وخاصةً أمام حبيبٍ سابقٍ أرتسم التشفي في نظراته ولم يظهر إلا صوت “عـاصم” إحتجاجًا على فعل ابن شقيقته بقوله:
_أنتَ أتجننت يا “نـادر” من إمتى بندخل حياتنا الخاصة في الشغل؟ إيـه شغل الجنان دا؟.
أنفعل الآخر في وجهه أمام الجميع صارخًا بقهرٍ:
_دا مش جنان، أعتبرني عقلت خلاص وفوقت يا “عـاصم” بيه وقولتلك متدخلش بيني وبينها، اسألها كدا عملت إيه تستاهل عليه الطلاق، بس خلاص هي مبقيتش تلزمني، تغور في ستين داهية..
لاحظت “مادلين” تفاقم الأوضاع عن حدها فقامت بأمر الموظفين بالرحيل من المكان بنبرةٍ عالية وأشارت لـ “رهـف” التي أذعنت لها وقامت بالتحرك وخلفها البقية وما إن فرغ المكان على الجميع وظهر بكاء “شـهد” حينها تقدم “عـاصم” من “نـادر” بخطواتٍ واسعة يهتف بحنقٍ في وجهه:
_أنتَ خلاص رجلك شالتك وهتعلي صوتك عليا؟ مبقاش ليك كبير يا “نـادر”؟ بقيت نسخة منه وماشي طايح في الخلق؟؟.
أشار على”يوسف” بكلماته ورأسه وحينها تدخلت “قَـمر” تهتف بوقاحةٍ كقطةٍ شرسة تنبش بمخالبها في وجه كلبٍ أراد أن يقترب من ذويها:
_أنتَ تطول إن حد فيكم يبقى زيه؟ مش أحسن ما يبقى زيك أنتَ؟ بعدين ماله أخويا اللي مش عاجبك دا؟ راجل ومهندس قد الدنيا وأخ مفيش منه وابن الناس كلها تتمنى زيه، فلما تتكلم عنه تتكلم عدل.
أنتبه لها “يـوسف” الذي أندهش من جُرأتها وطريقتها فس تولي مرافعة الدفاع عنه بينما هي تقدمت خطوتين للأمام فوجدت عمها ينتبه لها وهتف بتهكمٍ لاذعٍ يُقلل من شأنها أمام الجميع:
_وأنتِ هتعلميني أتكلم إزاي؟ مين أنتِ أصلًا؟.
كاد “يـوسف” أن يفعلها ويخبره من هي لكنها رفعت رأسها بزهوٍ وشموخٍ وهتفت تتحداه بعينيها قبل لسانها:
_أنا “قـمر مُصطفى الراوي” بنت المرحوم
“مصطفى الراوي”، تسمع عن مثل اللي خلف مماتش؟ أهو مات وسايب في ضهره اتنين وأعتبره مماتش، أنتَ بقى هتسيب مين؟.
حقًا!! أهذه هي “قـمر” البريئة نفسها؟ لقد أثارت دهشة الجميع بإهانتها ومُعايرتها لعمها حتى أخويها، وقد فرغ فاه “يـوسف” الذي لاحظ إحتقان وجه “عـاصم” وقبضتيه القويتين المُشتدتين بينما هي فكانت تُناطحه رأسًا برأسٍ وندًا بندٍ كأنها تنتقم لشقيقها خاصةً بعد علمها بما حدث له منهم، وحينها قام “يـوسف” بسحبها من كفها وأوقفها خلفه ثم هتف بقوةٍ:
_أظن عرفت هي مين، خليك بقى مع ابن أختك وحِل عننا وخلصوا حوارتكم دي مع بعض متخصناش في حاجة، وتاني مرة لما تتكلم معاها تتكلم بأدب، علشان دي زعلها برقبتك علطول ومش هعمل إعتبار للسن ولا المكانة.
تهديده أتى صريحًا وهو يمسك كف شقيقته ويُطالع “نـادر” بنظرةٍ غريبة على كليهما وكأنه يواري فخره بما فعل، وما إن مر بجواره هتف “نـادر” بثباتٍ للأخرى:
_حقك عليا يا “قـمر” لو كانت زعلتك، بس فيه ناس بتبقى معمية مبتشوفش كويس، ربنا يرحمنا منهم ومن قرفهم، ولو لسه عاوزة حقك يرجع تاني أنا معنديش مانع خديه بإيدك.
كانت إشارة منه لها أن تقترب وتقتنص حقها من الأخرىٰ التي تشعر بقسوة الطعنات خلف ظهرها بغير هوادةٍ بينما الأخرىٰ فأبتسمت بزهوٍ وأضافت بتعالٍ وتشفٍ فيهم جميعًا وأولهم “شـهد” التي نُكِسَت رأسها بخزيٍ:
_أنا ماليش حقوق عندكم، اللي ليه حق هو أخويا اللي كلكم دوستوا عليه، وأظن اللي حصل دا كان لازم يحصل ودي نهاية متوقعة، علشان اللي بيبدأ غلط نهايته بتتكتب قبل بدايته أصلًا.
أشارت بحديثها عليهم جميعًا وعلى فعلهم السابق مع “يـوسف” ثم تمسكت بكفه ليقودها هو للخارج تاركين المكان بأكملهِ وقد وقف “عُـدي” بينهم يراقب اشتعال الأجواء ثم أنسحب نحو مكتبه لكي يُكمل عمله ويُخرج طاقته المشحونة سلبًا فيه..
أما في الخارج فسارت زوبعات الإنتشاء في جسد “نـادر” وأوردته فور رؤيته لها ذليلة بهذا الشكل المُزري وقد أقترب منها يقف في مواجهتها وأضاف بقسوةٍ:
_دا أقل حاجة عملتها معاكِ ولسه اللي جاي أكتر، لو عليا أموتك بأيدي بس مش هريحك وأخليكِ تموتي، اللي زيك لازم تتذل وتعرف إن الله حق، وحق ابني هاخده منك الطاق عشرة، ودي البداية معاكِ، وريني بقى يا بنت الذوات شكلك هيبقى إيه وأنتِ بتتحولي من مديرة هنا، لواحدة أتطلقت زيها زي أي كلبة بيطرد في الشارع؟.
توسعت عيناها الباكيتان فيما أبتسم هو بشرٍ ثم تركها وألتفت مُغادرًا ولأول مرةٍ منذ أن أصبح مقترنًا بها يشعر أنه يقدر على التنفس بحريةٍ، لأول مرةٍ يشعر أن هو إنسانٌ وليس مجرد آلة تقوم بتنفيذ كل شيءٍ وكأنها تتلقى الأوامر وفقط، لأول مرة يُدرك أن الحرية لها ثمنٌ، لكن الثمن كان نفيسًا حتى شعر أنه يقوم ببتر جزءًا من قلبه ويقدمه قربانًا للحُريةِ..
__________________________________
<“لقد قضيتُ عمري مستعبدًا، مالي بحرية البشر”>
لا توجد نتائج جُزافًا في هذا العالم قط، بل كل شيءٍ يستند إلى خلفية سابقة تظهر عليها آثار اللوحة المرسومة حاليًا، فكيف لمن بدأ الرسم فوق خلفية سوداء مُلطخةً بالدم أن يجد الأمل في لوحته الحالية؟ الأمر يُشبه رجلًا عاش أيام عمره بمعزلٍ داخل كهفٍ مُظلمٍ ثم خرج ليجد المدينة بأكملها مُضاءة وهو فقط من أنقطع عنه وصول الضوء..
كان العمل اليوم شاقًا عليه بداخل المشفىٰ مع وصول حالات جديدة خاصة إليهم جنبًا إلى جنبٍ حالة “محمود” التي أخذت تتطور شيئًا فشيءٍ فأصبح “مُـنذر” هنا يشعر بأدميته وهو لأول مرةٍ يستخدم أسلحته بشكلٍ سلمي، حيث يستخدم علاجه في معاونة الآخرين بدلًا من السيطرة عليهم لكي يقضي عليهم بضربةٍ قاتلة، فاليوم نفسها اليد التي أمتدت للقتل تمتد للإنقاذ وبنفس السلاح..
جلس في حديقة المشفى بعدما طلب كوبًا من القهوة يرتشفها ليستعيد طاقته مع سيجارٍ أشعله أخيرًا منذ سويعات لم تتسنى خلالها الفُرصة، وقد شعر بكفٍ صغيرٍ يوضع فوق كتفه فألتفت برأسه ليجد تلك الرقيقة تعاتبه بنبرةٍ طفولية قائلة:
_أنا استنيتك كتير النهاردة يا “مُـنذر”.
أبتسم فور رؤيته لها وهتف مُبررًا سبب غيابه بقوله الهاديء:
_للآسف معرفتش أكون فاضي النهاردة خالص، بس أنتَ لسه هنا ليه؟ مش المفروض كنتي تروحي مع “فُـلة” من بدري؟ الدنيا خلاص ليلت.
ألقى سؤاله فيما حركت كتفيها وهي تقول ببراءةٍ:
_علشان “فُـلة” مخلصتش لسه برضه وقالت لبابا يمشي هو وبعدها إحنا هنروح أنا وهي مع بعض، بس الأول هناكل هنا علشان أنا جعانة خالص وهي كمان زيي جعانة، بس كدا.
أومأ موافقًا لها وهي تجلس بجواره وقد وجد “فُـلة” تقترب منهما وهي تقول ببراءةٍ وضحكةٍ زينت مُحياها:
_مساء الخير، حظك حلو بقى تاكل معانا.
أربكته ببراعة مُقاتلة في حربٍ خفية ببسمتها تلك، حتى تعجب هو من إهتزازٍ بداخله فور رؤيته للبسمة العذبة التي زينت وجهها لكنه نجح في إخفاء تفاعله بإمتيازٍ وقد جلست أمامه تقوم بإفراغ الطعام من الحقائب البلاستيكية وهتفت بثباتٍ زائفٍ تواري خلفه خُبثًا:
_أنا عملت حسابك معانا وقولت ناكل سوا وأهو مفيش زحمة ولا ناس كتير علشان تحس إنك متوتر، مش هنبصلك في اللقمة متقلقش خالص.
مدت يدها له بالطعام وقبل أن يُبدي إعتراضًا وجد الصغيرة تحثه وهي تُلح عليه أن يتناول الطعام معهما فأنصاع هو أخيرًا وأخذ الطعام من يد “فُـلة” وحينها سألته “تمارا” بشقاوةٍ مرحة:
_المفروض نعمل إيه؟ مش أنا علمتك؟.
حرك رأسه مومئًا لها مبتسم الوجه وهتف بثباتٍ:
_شكرًا.
نطقها خفيةً كأنها يوجهها للعدم لكن الأخرى أبتسمت له وبدأت في تناول طعامها وإطعام ابنة شقيقها التي أرسلت لها قبلة هوائيه ردت عليها الأخرى بمثيلتها حتى رأى هو جُرعة هائلة من الحب والمشاعر الغريبة عليه مما جعل قلبه ينتفض فزعًا من قوة مداهمة المشاعر لديه وحينها ركز بعينيه وحواسه مع الطعام يتناوله بصمتٍ هربًا من سطوة تواجدها عليه..
قامت هي بمراقبته وكأنها تقوم بدراسة أفعاله كاملةً حتى تستنج أي شيءٍ مما يفعله معها ولما يتعمد الهرب منها لكنها ما حدث تاليًا كان صدمة بكافة المقاييس، فوقتها حضر شخصًا يرتدي ثيابًا ذات طابعٍ رسمي وهتف بوقارٍ:
_مساء الخير يا “فُـلة” مساء الخير يا جماعة.
أنتبه له الجالسون وقد ركضت نحوه “تـمارا” مُهللةً بفرحٍ وهي تنعته بصفته لها:
_خالو، وحشتني أوي.
حملها وهو يبتسم لها بحماسٍ وتبادل التحية والمصافحة معها بينما “فُـلة” فأرتبكت من حضوره أمام “مُـنذر” الذي راقب الآخر بجمودٍ خاصةً حينما ذكر اسمها بذاك الشكل الودي، حتى أنه سلط عينيه عليه يُراقب نظراته نحو الأخرىٰ ثم وقف حينما وجدها تتولى مهمة التعريف قائلة بطريقةٍ رسمية:
_أستاذ “حـسام” يبقى خال “تمارا” ودا الدكتور “مُـنذر” زميل هنا ومن أكفأ الدكاترة في المستشفىٰ.
تم التعارف بينهما ومصافحة كلاهما للآخر بينما “تـمارا” هتفت بحماسٍ طفولي:
_”مُـنذر” صاحبي كمان وبقعد معاه هنا.
أبتسم لها خالها ثم أنتبه للأخرى وهتف بصراحةٍ بالغة تتناسب مع طباعه العملية المتصلدة:
_أنا آسف إني جيت فجأة بس أنتِ عارفة وقتي ضيق ومش ملكي، فأنا جيت علشان أفاتحك في موضوع جوازنا ونتكلم مع بعض بشكل أوضح قبل الميعاد الرسمي المتفق عليه لأني للآسف ممكن وقتها أسافر في شغل ضروري.
حديثه كان مثل القنبلة التي ألقيت على قرية هادئة ليعكر صفوها، حتى توسعت عينا “فُـلة” بصدمةٍ بينما “مُـنذر” فأحتقنت الدماء في وجهه فجأةً وشعر بإنسحاب الهواء من حوله لذا قرر أن ينسحب خلفه وهتف بجمودٍ ظاهري يتنافىٰ مع الرُكام المهدوم بداخله:
_طب أنا مضطر استأذن، وألف مبروك.
أرادت أن تصرخ وتوقفه عن الرحيل وأن تفسر له حقيقة الأمر دون حتى أن تملك سببًا لذلك، بينما هو لم يترك لها الفرصة حتى وترك المجال وأختفى من أمامها ولازالت عيناها تقوم برصدهِ وهو يتحرك نحو المشفى من الداخل، وفي تلك اللحظة أرادت أن تمسك رأس “حُسام” وتقوم بتكسيرها كُليًا وتُحطمها بعدما أفسد فرصة أقترابها منه..
أما “مُـنذر” فتعجب لما طرقاته دومًا مُحاطة بالألغام المُستترة؟ لما دومًا عليه أن يخطو في طرقاتٍ وعرة تكون ثقته فيها مُزعزعة؟ بالطبع القرار بات محسومًا، ستتم الموافقة على ذاك اللزج، فهل يُعقل أن تترك طبيبةٌ مثلها رجلًا مثل ذاك وتختاره هو وهو بكل آسفٍ لا يملك حتى إلا أصلًا تعجه الخِسة وتملئه الوضاعةِ؟ تألم قلبه من مجرد الفكرة وأغمض عينيه يهرب من صوتٍ بداخلهِ أضحىٰ يلح عليه أن يستمع إليه لكنه أبىٰ وقرر الرحيل من هُنا..
__________________________________
<“كما القط الشرس في الدفاع عن ذويي”>
تلك الدنيا تُشبه المسرح الكبير وكلٌ منا يملك دورًا يلعب فيه البطولة الخاصة به، رُبما لم يعجبك دورك فيها منذ البداية لكن تذكر أن نهاية المسرحية لم تأتْ بعد، فما أردت أنتَ تقوم بلعب دوره كان هو يصرخ من شدة الألم عند نهاية دوره..
كان يسير معها ببالٍ مُنشغلٍ غير رائقٍ بتاتًا، حيث لازال الموقف عالقًا بذهنه وهو يرى حقه يُرد إليه أمام الجميع، فكما سبق وقام والدها بطرده وتسببت هي وقتها بجرحه الآن وأمام طاقم عملٍ كان يُقدم لها كل الإحترام نال منها القهر مناله، وتم إذلالها أمام الجميع، فمن يُصدق أن هناك زوجٌ قام بتطليق زوجته أمام العاملين بالشركة دون أن يهتم بسُمعتها؟ بالطبع هي كارثة تحدث في المكان، لكن بكلٍ منا يتواجد جزءٌ دنسته الأيام بقسوتها فيسعد عند دورة الزمن على أعدائه…
وقد شعر أن هناك جُزءٌ فيه يُهلل فرحًا بتشفٍ لكونه يرى ابنة الطبقة الأرستقراطية تُهان بنفس الطريقة التي تمت إهانته بها وقد لاحظت ذلك شقيقته ولاحظت أن ملامحه مُضطربة فوقفت في مواجهته تهتف بتعجبٍ:
_مالك؟ شكلك متضايق من اللي حصل؟.
خرج من قوقعة شروده على صوتها وهتف مُبررًا بغير مبالاةٍ ظاهرية على عكس فرحته الداخلية:
_لا فرحان ولا زعلان أنا عادي بس مستغرب، مستغرب إزاي في يوم كنت مأمن ليها وحكيت ليها سري وكنت ناوي آمنها على شرفي وبيتي ونفسي، واحدة قتلت ابنها، تفتكري كان ممكن ترأف بيا؟ سبحان الله، أول مرة أفرح إن فيه فرحة مكملتش ليا، تخيلي كنت هقضي عمري مع دي، وأضيع “عـهد” مني؟ دلوقتي بس أنا بقيت بفهم كلام “أيـوب” وتفسيره للأمور، ربنا كان شايلي الخير كله مرة واحدة علشان أنسى بيه اللي فات عليا وعداني، وأنتِ أولهم.
أبتسمت له بسعادةٍ وهي ترى ملامحه بهذا الكم من الصفاء وقد شبكت كفها بكفهِ تستهدى للطُرقات بتواجده وهتفت بحنوٍ يرافقه المزاح كأنها تمسح فوق قلبه كما عادتها معه:
_علشان “أيـوب” مبيقولش حاجة غلط.
رفع حاجبيه مُستنكرًا فوجد بسمتها تتسع وهي تُكمل الحديث بقولها الأكثر إتزانًا:
_خلاص هتكلم جد، “أيـوب” وجهة نظره صح علشان هو ربنا رزقه بعلم وحكمة تخلي الناس تقدر تلجأ لعنده، وأنتَ قصاد كل التعب دا ربنا كرمك وحصدت الخير كله في وقت واحد، رجعلك حزء من حقك في الفلوس والبيت، ورجعتلك “غالية” الغالية وحضنها بقى موجود ليك، ولقيت بنت مفيش منها في كل الدنيا دي كأنها عملة نادرة، قوية وشُجاعة وحنينة ومسئولة ومؤدبة وعندها رحمة في قلبها ومعاك أخ زي “عُـدي” وصاحبة زي “ضُـحى” وفوقهم كلهم أنا، أظن دي مفيش كلام يوفيها يعني.
ظهر الزهر بنفسها في الحديث حتى ضحك لها وسار بجانبها وهو يمسك كفها ثم هتف بنبرةٍ هادئة أظهرت الراحة في صوته:
_أنتِ صح، كفاية وجودكم كلكم معايا، بعدين خصوصًا في حتة أنتِ دي فيها كلام تاني، أنتِ طلعتي قطة بتخربش، واللي يشوفك قدام “أيـوب” يقول البت يعيني قطة سيامي مبتنطقش، وأنتِ لسانك كُرباج علم على كرامة “عـاصم” شوية وكنتي هتخربشيه، قوليلي “أيـوب” شاف وش الشراسة دا؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تضحك له بينما هو ضحك لها ثم أشار برأسه نحو أحد المحال التِجارية وهتف بثباتٍ:
_تعالي أشربك عصير لمون بالنعناع نريح أعصابنا ونكمل لف على الفستان اللي نفسك فيه ومش لاقيينه دا، يلا يا قطة.
يبدو أنه أقترح عليها لقبًا يليق بها ويتناسب معها لذا ضحكت له ووقفت معه حيث أشار وطلب لهما العصير سويًا في الأكواب البلاستيكية ومن ثم استأنفا سيرهما معًا بجوار بعضهما وهي تشاركه كل شيءٍ وكذلك كان هو يستمع لها مُنصتًا ليتضح له أن هناك مُذهلةٌ أخرىٰ ظهرت في حياته، وأثناء ذلك طرأت في باله فكرةٌ جعلته يبتسم أخيرًا..
عاد لسيارته وهي بجواره وقد سألته بتعجبٍ:
_مش قولت هنلف نشوف الفساتين هنا في وسط البلد؟ هنروح فين؟.
أشار لها أن تتريث ثم هتف بثباتٍ:
_هنروح مكان تاني متأكد إنه هيعجبك.
طالعته بتعجبٍ لكنه قاد السيارة بصمتٍ خاصةً حينما صدح صوت هاتفها برقم زوجها فتنفست هي بعمقٍ ثم جاوبت على المكالمة برقةٍ وهدوءٍ:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أنا كويسة متقلقش عليا، مع “يـوسف” في العربية أهو رايحين نشوف الفساتين مع بعض، ركز بس في شغلك ومتقلقش نفسك عليا أنا بخير أوي الحمدلله وأسأل “يـوسف” حتى كنت زي النسمة في الشركة.
أنتبه لها شقيقها الذي أتضحت السخرية فوق تقسيمات وجهه بينما هي برقت بعينيها له تحذره حتى وصلها صوت زوجها يهتف بسخريةٍ وكأنه وصل لاقصىٰ درجات الشفافية معها:
_هو بعد زي النسمة دي أنا قلقت أكتر، مش مرتحالك بس طالما بقيتي بعيد عنهم ومع أخوكِ كدا أفضل بكتير، خلي بالك من نفسك وأنا هشوف الشغل وأرجع أكلمك بس لما أروح المسجد الأول، سلمي على “يـوسف”.
جاوبته بهدوءٍ ثم أغلقت المكالمة معه بينما شقيقها هتف بسخريةٍ عليها كونها دومًا تلتزم الصمت أمام “أيـوب” وتصبح أخرى غير تلك التي يراها:
_أنا عاوز أفهم هو بيعمل إيه يخليكِ بتبقي قطة سيامي كدا؟ هيبته مثلًا ولا أنتِ بتفرملي عنده؟ عمومًا بكرة يتقفل عليكم باب واحد ويشوف بنفسه كل حاجة.
تدللت بنظراتها عليه وهي تهتف بثقةٍ بالغة:
_بيحبني، غير كدا حبيبي ربنا يحفظه عينه مطروفة بيا ومش بيزعلني، بعدين هو أنا هعامله زي ما هعامل عيلة البهايم دول ولا إيـه؟ دا في حتة تانية غير التانيين دا.
من جديد يضحك لها وبعد مرور دقائق أوقف السيارة أمام مكانٍ منذ أن وقعت عينا “قـمر” عليه شهقت بقوةٍ حينما أتى بها إلى مكانٍ خاص بتصميم فساتين الزفاف والإحتفالات بشتى أنواعها وتصميماتها لكن ما سرق إهتمامها هو الاسم المدون فوق المكان فأمسكت ذراعه بقوةٍ وهي تسأله بترقبٍ مُلتهبٍ:
_هو دا بجد؟ “زيزي أبو الحسن” المصممة بتاعة المشاهير والبلوجرز جايبني عندها هنا؟.
أومأ لها موافقًا فشهقت من جديد بينما قبض هو على كفها ثم ولج المكان بها ومنه إلى مكتب “زيـزي” مُباشرةً وما إن رآته الأخرى حينها تعجبت وهتفت بسخريةٍ:
_مش معقول أنتَ بنفسك؟.
أبتسم لها بسمة طفيفة وقد تركت مقعدها وأقتربت منه ترحب به بحبورٍ وقد ألتقطت عيناها تلك التي تقف بدهشةٍ وهي تراها أمام عينيها فسألته بتكهنٍ:
_هي مين دي؟ مش ناوي تعقل.
أمسك كتفي شقيقته وهتف بثباتٍ:
_دي أختي “قـمر” عاوزة تقنعيني إن “نـور” معرفتكيش يعني اللي حصل وإزاي كل حاجة أتغيرت؟.
استنكرت حديثه وبات ذلك واضحًا على وجهها لكنها هتفت بغير إكتراثٍ رغم فضولها المُتأجج:
_أختك إزاي يعني؟ ولأ يا سيدي “نـور” مقالتش حاجة ليا أنتَ عارفها في حالها مش بتحب تجيب في سيرة الناس ولا تشغل بالها بحد.
_شاطرة خليها تعلمك.
هكذا كان رد عليها بمنتهى الوقاحة حتى عضت شفتها السُفلى تُكظم غيظها منه بينما دفع هو شقيقته للأمام وهتف بهدوءٍ تامٍ يتنافى مع سابق قوله:
_خديها بقى واللي تختاره يحضر، ولو عاوزة حاجة مخصوصة تعمليها، علشان زي ما أنتِ شايفة كدا هي غالية عليا أوي، غير كدا هي طلعت عرفاكِ وبتحبك كمان.
سألتها المرأة بعينيها فهتفت “قـمر” بلهفةٍ حماسية:
_جدًا والله وبحب تصميمات حضرتك جدًا علشان ذوقها حلو وشيك ومحترمة في نفس الوقت، وحضرتك طلعتي جميلة أوي.
تعجبت المرأة من حديثها فابتسمت لها وهي تقول بلُطفٍ وترحيبٍ:
_أنتِ طلعتي اسم على مسمى بقى، أخته إزاي بس، دا لسه مهزأني عيني عينك، بس علشان خاطر عيون القمر أنا عيني ليكِ والمكان كله وصاحبة المكان تحت أمرك بنفسها، تيجي أختارلك أنا؟.
فرحت “قـمر” بطريقةٍ مُبالغٍ فيها وهي توميء موافقةً، وكأنها لا تُصدق نفسها أن واحدة من كبار مجال التصميمات تتعامل معها مُباشرةً بشكلٍ ودي وتعاونها أيضًا، بينما “يـوسف” فابتسم لفرحة شقيقته ثم حرك عينيه يتفحص البقية لتقع عيناه على قطعةٍ سرقت لُبه وجعلته يقسم أنه يُشبه المذهلة خاصته ولن يتناسب مع غيرها هي وفقط.
__________________________________
<“لم أعلم ماحدث، لكنه حدث وحدث”>
لا شك أن أكثر ما يؤلم الطير الحبيس هو رؤية سربٍ من الطيور الحُرة تُحلق في السماء بكلا جناحيها بينما هو مُقيدٌ إلى الأبد، فإن أكثر ما يؤلم المرء أن يرى غيره مُنعمًا بما تمناه هو ولا دخل له في التمني لشيءٍ لم ينله..
وصل “مُـنذر” إلى بيت عمه مُباشرةً بعدما قاد دراجته بسرعةٍ جنونية وكأن أذنه توقفت عن عملها ولم تلتقط إلا أمر زواج الأخرى وحديث الشاب، من الأساس أو يُفترض أنها لم تهمه، لكن القلب كذبه وكذب صوته، فهي أول من ناوله بسمة هادئة في هذا العالم، وأول من جعلته يهتم بها، وأول من توغل لداخله صوتها، فهل يُعقل بعد مداهتمها له تنسحب بتلك الطريقة من أرضٍ أحتلتها؟.
ولج الغرفة التي خُصِصَت له بهذا البيت بنيرانٍ موقدة وهو يضرب كلا كفيه ببعضهما لكن الباب فُتِحَ بعدها وأطل منه “مُـحي” الذي هتف بتعجبٍ:
_إيـه يابني؟ صوتي أتنبح وراك وأنتَ مش باصصلي حتى.
رمقه الآخر بتيهٍ وكأنه يود الإنقاذ من هلاك نفسه له ولم يتفوه بل أرتمى فوق الفراش يمسح وجهه بكلا كفيه وحينها أقترب منه الآخر مُربتًا فوق كتفه ثم سأله بإهتمامٍ:
_مالك بس؟ حصل حاجة زعلتك؟.
إهتمامه حقًا أتى بوقته خاصةً لهذا الذي لم يختبر مذاق الإهتمام مُسبقًا فحرك رأسه مومئًا كموافقةٍ على حديث الآخر فجاوره “مُـحي” وسأله بنفس الإهتمام وإن كان تزايد عن سابقه:
_أحكيلي حصل إيه يزعلك كدا، ومش هقول لحد خالص.
أنتبه له ابن عمه وأرتبك لثوانٍ فحتى الآن هو لم يثق بنفسه حتى يثق في غيره لكنه قرر أن يرأف بنفسه ويُخرج ما في قلبه حتى تهدأ نيرانه المشتعلة:
_”فُـلة” جالها عريس.
كانت هذه هي عبارته الوحيدة التي هتفها بوجعٍ جعل الآخر يستنكر قوله وهتف مُستفسرًا ببلاهةٍ:
_سبايدر مان خد خطوة ليها ولا إيـه؟.
جملته الممازحة جعلت نيران الآخر توقد فوق مرجلٍ مشتعلٍ بينما ابن عمه فأعتدل يستعيد جديته الهاربة وهي فقط نظرة واحدة أسكتته كُليًا وقد أغمض “مُـنذر” عينيه بألمٍ وهتف يُخرج مافي جبعته:
_دي أخت صاحب المستشفى، بس أنا أصلًا ميحقليش أزعل ولا أغير عليها، مينفعش دا يحصل وأبقى منتظر حاجة منها، بس معرفش ليه حسيت إن حد جاي بياخد حاجة مني تخصني، معرفش ليه أصلًا هي علطول بتخليني أشوفها وأنا عيني مبتشوفش حد، النهاية محسومة أكيد لازم يختاروه هو، مش أنا.
تعجب “مُـحي” من حديث ابن عمه المُغاير لحديثهما أمسًا وأندهش من والوجع الظاهر في كلماته المُهترئة وفي نبرته المُتألمة ثم هتف بنبرةٍ جامدة بعض الشيء يستفسر منه بلمحة استنكارٍ:
_ليه إن شاء الله هو أنتَ شوية؟ هما أكيد خسرانينك.
أبتسم له الآخر بوجعٍ وترك فراشه يهتف بألمٍ بالغٍ لازال يشبه طعنة السكين الغادرة على أيدي من نُحب:
_ومفيش حد بيكسب ابن حرام “مُـحي”.
كانت صدمة في وجه الآخر الذي أشفق عليه وإزداد كرهه لعمه أكثر حتى أضحت العداوة بينهما تملأ المسافة بين الأرض وعنان السماء وظل يُراقب بعينيه ابن عمه الذي وقف في الشُرفة يُغمض عينيه فبعدما حاول أن يتفاعل مع البشر بمشاعره لطمته صفعة الهجر والرفض منهم…
__________________________________
<“هل يُعقل أن ننسى من أعطونا الحياة؟”>
من يملك أصلًا قليلًا هو فقط من ينسى أصحاب الفضل عليه، فكل مرءٍ منَّا يُعرف بقدر تقديره لمن حوله، فالجبان وحده هو من يُنكر مساعدة الآخرين له وكأنه يُشبه السارق حينما يتلصص ويسرق مالم يخصه من بين البشر..
في الخارج وقف “نَـعيم” يستند على عصاه وهو يرى “سمارة” تقترب منه وقد أعطاها بسمة هادئة تليق بوقار ملامحه الحادة بينما هي هتفت بنبرةٍ هادئة:
_أنا همشي يا حج علشان المُتابعة النهاردة، و”إيـهاب” هيحصلني على هناك، عاوز حاجة مني قبل ما أمشي؟.
حرك رأسه نفيًا لهل وأضاف بثباتٍ يُمازحها:
_عاوزك تخلي بالك من نفسك لحد ما تجيبي اللي عندك وتفرحينا كلنا، وعاوزك تسمعي كلام الدكتورة وكفاية تنطيط وترويق وشقلبة بقى، الواد حط صوابعه في الشق خلاص، غاوية هم ليه ما تدلعي عليه زي باقي الستات.
أنهى الحديث وهو يُطالعها بتعجبٍ فيمل ضحكت له وهي تقول بقلة حيلة:
_أهو اللي فيه طبع مبيتغيرش، أنا ماخدتش على القعدة والدلع بعدين كدا ولا كدا تعبانة فخليني أتحرك أحسن وربك يسهل، أنا بس عاوزاك كدا تحضر نفسك علشان تربيه وتشيله على إيدك، وساعتها أبقى قوله إنك جده.
لاحظ رجائها المتواري خلف كلماتها فهتف بقوةٍ يتحدى بها ضعفها وإهتزاز وتيرة صوتها:
_غصب عنك وعن أهله أنا جده وأنتِ بنتي، هو أنا عارفك من أيام قليلة يعني؟ من يوم ما دخلتي هنا وأنتِ بنتي يا “سـمارة” وأتشرف كمان بيكِ، بطلي خيابة أومال.
ترقرق الدمع في عينيها وفي تلك اللحظة أقترب منها “إيـهاب” الذي وصل لتوهِ وهتف مُستفسرًا بتعجبٍ:
_بتعيطي ليه؟.
حركت عينيها نحوه تنفي كونها تبكي بينما هو فرق نظراته بينهما بصمتٍ ثم حمحم بخشونةٍ وهتف بقوةٍ بعض الشيء:
_طب أنا جيت علشان نروح للدكتورة يلا.
تحركت معه بينما هو استأذن من “نَـعيم” ثم تبعها نحو الخارج وماهي إلا دقائق عابرة حتى ظهر النصف الآخر من شقيقه يجلس بجوار والده الروحي ثم هتف بزهوٍ:
_كل اللي طلبته مني تمام، كلمت المحامي يخلص ورق القضايا بتاعة “تَـيام” و “مُـنذر” علشان تغيير الاسم، وشقة “تَـيام” خلصت خلاص أخرهم بكرة فيها، وبالنسبة لـ “مُـحي” المصاريف خلصتها والمواد اللي شايلها هيمتحنها بعدما يخلص التيرم دا وكدا أعتبره أتخرج خلاص، تؤمرني بحاجة تانية؟.
سأله بحنوٍ وإهتمامٍ جعلا الجالس أمامه يُقربه منه ثم أمسك كفه يمسح عليه وهو يُخاطبه بصوتٍ أبوي:
_ميأمرش عليك ظالم، ربنا يسعدك ويفرحك ويقدرني وييجي يوم أردلك الخير أضعاف، وأديك فرحتك كاملة، عينك فاضحة خوفك يا ابن “المـوجي” ليه؟.
_ علشان موكوس.
هكذا جاوبه “إسماعيل” ظهر الألم في ملامحه وما إن تعجب الآخر بعينيه وملامحه هتف هو مُفسرًا:
_أنتَ ناسي إن أبو “ضُـحى” ميعرفش حاجة عني؟ ولا حتى أمها وناسي برضه إن الموضوع مخلصش وكلها حاجات بسيطة وهي هتبقى مراتي؟ كان نفسي أقولهم وأصارحهم علشان أرتاح بدل ما بحس نفسي زبالة كدا في عين نفسي.
تفهم “نَـعيم” تخبط مشاعره فمسح فوق خصلاته وأضاف بثباتٍ يُشدد به أزر الآخر ويقويه:
_تاني برضه؟ عمومًا أنا فاهمك وفاهم إن تربيتك هنا مش هتتقبل الكدب ولا إنك تغش حد خصوصًا إنك حُر نفسك، بس أنتَ يهمك مين غيرها هي؟ البت بتحبك بجد وباين عليها بنت أصول وشارياك بكل حاجة فيك، هي ليها وجهة نظر وأنتَ ليك وجهة نظر بس في النهاية بتحبوا بعض، يبقى سيب نفسك للموج يمكن يوصلك لبر الأمان، ولو على أبوها هو ملهوش إنه يعرف حاجة ليها علاقة بماضيك، هو ليه اللي قدامه، واللي قدامه “إسماعيل الموجي” زينة شباب السمان كلها، وحبيب قلبي أنا.
استطاع بحديثه أن يمسح فوق فؤاده المكلوم حتى أقترب منه “إسماعيل” يُلثم كفه وجبينه دون أن يتفوه بحرفٍ واحدٍ بل أكتفى بالصمت ورحل من المكان تاركًا الآخر يُطالع أثره بحبٍ خالصٍ على قلبٍ بريءٍ مثل قلب “إسماعيل”.
__________________________________
<“نيران الإنتقام حية تلدغ في صاحبها أولًا”>
لابُد من قدوم يومٍ تظهر فيه حقائق البشر، تلك الحقائق التي لا تُرى بالعين المُجردة، تحديدًا هؤلاء الذين أجادوا لعب دور الضحية أمام الجميع وفي حقيقة الأمر هم أكثر الناس شرورًا، هؤلاء الذين استخدموا سلاح الصوت المُرتفع أمام أشخاصٍ وبكل آسف لازالوا يخضعون للتهذب حتى أمام عدوٍ خبيث..
كانت “نـور” في حديقة بيتها تجلس بجوار والدها الذي لاحظ شرودها وإنطفاء ملامحها فسألها بتعجبٍ:
_مالك يا حبيبة بابا؟ حد مزعلك ولا إيه؟.
رفعت عينيها نحوه تبتسم بإرتباكٍ بينما هو قام بإرجاع خُصلاتها الشاردة للخلف وسأل من جديد بفضولٍ:
_أومال فين “شـهد” صاحبتك؟ أختفت فجأة.
ألمها بسؤاله عن رفيقتها السابقة حتى زحفت الدماء إلى وجهها بإحراجٍ من الجواب المُخزي، فكيف تخبره أن الصديق الذي صادقه قلبها هي أول من قامت بطعنها؟ إنه حقًا لشعورٍ مُخزي أن يُخجلك أكثر من وثقت به وتحديت العالم لأجلهِ، وفي تلك اللحظة صدح صوت هاتفها برقمٍ مجهولٍ فتحركت من أمام والدها تجاوب على المكالمة التي أتتها كغوثٍ خفي وما إن وضعت الهاتف فوق أذنها صدح صوتٌ حانقٌ يهتف ببغضٍ وكُرهٍ:
_أنا مش هسيبك يا “نـور” وربنا ما هسيبك بقى أنا يحصل فيا كدا بسببك أنتِ؟ لو وصلت إني أقتلك هقتلك علشان أنتقم منك، دلوقتي هتعملي فيها محترمة وعندك ضمير؟ نسيتي زمان وصياعتك وقلة أدبك؟.
أشعلت نيران غضبها بحديثها الفج وقد أندفعت الأخرى تهتف بنبرةٍ عالية أقرب للصراخ وهي توقفها عند حدودها:
_أحترمي نفسك شوية وخليكِ إنسانة لمرة واحدة في حياتك بقى، بتعايريني بإيه أنا مش فاهمة؟ علشان كنت عيلة وطايشة ومحدش معايا بينصحني؟ أنا لو فيه حاجة عملتها في حياتي غلط هتبقى إني في يوم صاحبتك، بس كدا خلاص خلصت يا “شـهد” وأعتبري إنك متعرفينيش أصلًا، واللي عندك أعمليه.
كانت تتحدث بقوةٍ غريبة عليها ثم أغلقت الهاتف دون أن تُخبرها لكن هناك خوفٌ تسلل لقلبها خفيةً فلم يكن أمامها إلا الركض نحو والدها تضمه وهي تهتز كما إهتزاز كل خليةٍ بها حتى ضمها هو بصمتٍ وظل يمسح فوق ظهرها وخصلاتها بخوفٍ على فلذة كبده الوحيدة وآخر ما تبقى له في هذا العالم..
في مكانٍ آخر تحديدًا بمنطقة التجمع..
وصل “نـادر” إلى الشقة التي يقطن بها برفقة أمه فوجد أمامه “بـيشوي” و “أيـهم” وقد هتف الثاني بقلقٍ عليه:
_يابني أنتَ فين خضتنا عليك؟ طمني أنتَ كويس؟.
حرك رأسه مومئًا دون أن يتحدث بكلمةٍ واحدة فأضاف “بـيشوي” بنبرةٍ قوية كطبعه الدائم:
_طب بما إنك بخير خلاص كدا عم “عـاشور” مشي هو و “حنين” لأنك الحمدلله مبقيتش محتاجهم، وصحتك بقت أفضل كتير عن الأول وكويس إننا إتطمنا عليك.
أنتبه له بتعجبٍ وتيهٍ في آنٍ واحدٍ فوجد “فـاتن” تهتف بلهفةٍ كأنها تود شيئًا بآخر أنفاسها:
_هي “حنين” هتفضل معايا شوية علشان أدوية “نـادر” وعلشان بتساعدني، فخليها الفترة دي معانا وكفاية والدها مشي وهي كمان هتمشي في أي وقت تحبه أنا أتفقت معاها.
لاحظا لهفتها في الطلب فنظر الرفيقان لبعضهما حائرين وقد أضاف “أيـهم” بثباتٍ بعدما تولى زمام الأمور يوافقها فيما تود:
_تمام مفيش مشاكل، طالما دي رغبتك وهي موافقة يبقى مفيش مشاكل، المهم إنكم تكونوا بخير ومتنسيش اللي قولتلك عليه علشان هيبقى قريب، بلغي بيه سيادة القُبطان وعرفيه اللي فيها تمام؟.
أومأت له موافقةً وعيناها تُتابع موضع وقوف ابنها وملامحه الباهتة التي شابهت ملامح الموتى في شحوبها، بينما هما تحركا من المكان وقد أرتمى “نـادر” فوق الأريكة فوجدها تقترب منه تسأله بإهتمامٍ عن سبب مظهره خاصةً أنها لم تعلم عن أي شيءٍ منذ خروجه بالأمس، فأضاف هو بوجعٍ:
_خديني في حضنك يا ماما.
ضمته بين ذراعيها بحركةٍ خاطفة وهي تُمسد على ظهره برأسهِ بينما هو فكان يُشبه الغريق الذي ظل يُحارب لأجل البقاء حيًا بعدما كاد أن يموت خنقًا، لكنه لم يظن أن خروجه من المياه سيحرك كل أوجاعه بتلك الطريقة، وقد ظل في أحضان أمه قُرابة الخمسة عشر دقيقة حتى وصلت طُرقات جامدة فوق الباب جعلته يبتعد عنها وقد تحركت هي تفتح الباب فقام زوجها بدفعها من وجهه وأقترب من ابنه يصرخ فيه قائلًا:
_أنتَ أتجننت يالا ؟! أنتَ واعي أنتَ عملت إيه؟ بقى بنت “نـزيه الـزاهي” تطلق بالطريقة دي؟ مش عارف دي مين وبنت مين؟ شكلك مخك خرف خلاص من الشُرب اللي كنت بتطفحه، رايح تفتح علينا أبواب جهنم؟.
صرخ فيه وهو يسأله بنبرةٍ عالية أعربت عن إنفعاله حتى وقف أمامه “نـادر” يهتف هو الآخر بقهرٍ نبع من داخله:
_سيبني مرة واحدة أحس إني راجل مش عيل في إيدك، سيبني أحس إني إنسان وعندي مشاعر زي اللي حواليا، سيبني أتوجع على نفسي وعلى ابني وعلى أحلامي اللي ضاعت بسببها، زعلان عليها أوي ومش زعلان على ابنك؟ مش زعلان على حفيدك اللي موتته بإيدها وماشية ولا هاممها؟ عمالين تدوسوا على قلبي كأني مبحسش ولا بتوجع، بس خلاص بقى إنساني وسيبك مني، روحلها وأعتبرها مكاني.
تأججت النيران في قلب “سـامي” من فظاظة ابنه في التحدث معه وقد زاد تعجبه حينما وجد ابنه يرمقه بنفورٍ وكأنه يتهمه بشيءٍ وحينها أشار “نـادر” نحو الباب يهتف بصراخٍ:
_روحلها، وأنساني خالص وأطلع برة.
لم يأتيه الرد كما أراد بل أتى غير متوقعٍ حيث صفعه “سـامي” للمرةِ الثانية في كبرهِ ليزداد قهر “نـادر” على نفسه وتزداد النيران إلتهابًا في روحه، والده الذي من المفترض يركض هو إليه لكي يحتمي به من غدر الآخرين تفاجأ به يُلقيه لهم لكي يكملون طعناتهم فيه، وفي تلك اللحظة فرت دموعه فوق وجنتيه من هول الصدمة ولم يعي إلا لأمه التي ركضت نحوه تدفع “سـامي” بكل ما أوتيت من قوةٍ وحينها فرض “سـامي” هيمنته وأشهر اصبعه في وجه ابنه يُهدده بقوله:
_ أنا هسيبك بس تاخد نفسك وترتاح شوية وتهدا علشان الصدمة ليها أثر عليك، بس ورحمة أمي ما هخليك تعمل حاجة من اللي في دماغك، أنا أموتك قبل ما يكسروا رقبتي بيك، ونصيحة مني بقى خاف على “قـمر” علشان مش هيسيبوا حق بنتهم منها، ولا أنا.
هدر بحديثه ثم خرج من المكان تاركًا الآخر في جُب صدمته ولأول مرةٍ يُدرك أن الموت راحةً كُبرى لم تُكتب لجميع البشر، ففي تلك اللحظة تعجب كيف لازال حيًا بعد كل تلك الضربات التي تلقاها؟ بل والأكثر تعجبًا كيف لمن خلقوا لأجل حمايتنا أن يكونوا هُم السبب في أكبر جرحٍ تُصاب به قلوبنا.
__________________________________
<“من لم يأخذ الخطوة، لن يأخذ أي شيءٍ”>
بعض الخطوات تبدو هامة بقدر ما تبدو ثقيلة، وكأن العلاقة بينهما طردية فكلما ازدادت الأهمية كلما ازداد ثُقلها، لكن تذكر أن القوي فقط هو من يملك القدرة على خوض حربٍ ثقيلة تحتاج لخطواتٍ أكثر ثُقلًا..
في صباح اليوم التالي كان “يـوسف” في سيارته وبجواره كانت تجلس “عـهد” في طريقهما للجلسة النفسية مع “فُـلة” التي تغيبت من العمل لأجلها، وقد شردت “عـهد” في طول الطريق بينما هو كان بجوارها يراقبها بعينيه ثم سألها بإهتمامٍ:
_مالك يا “عـهد”؟.
خرجت من شرودها تنتبه له وهي تقول بقلقٍ:
_متوترة أوي بصراحة، أنا مبحبش أتكلم عن الكوابيس دي وبكره تفكيري فيها، صحيح هي بقت ملازمة ليا بس أنا بقيت أحب أهرب منها حتى لو بالكلام، عارف ليه؟ علشان أنا مبحبش أكون ضعيفة خالص، أنا بحب أكون علطول قوية، وكوابيسي دي علطول بتثبتلي إني ضعيفة.
لاحظ هو إضطراب صوتها فتنهد بقوةٍ ثم أمسك كفها يهتف بحديثٍ لم يعرف كيف ينطقه لطالما كان قليل التحدث بمشاعره:
_بصي أنا مش هقولك كلام حلو علشان أنا قليل أوي لما بتكلم بمشاعري، بس أنا مش شايف قدامي ضعف أوي أي حاجة من دي، أنا شايف بنت قوية وبتقف في وش كل حاجة وقادرة تدي كل حاجة، أنتِ أتعودتي تدي من غير ما تسألي عن مقابل، وأنا بقى متعودتش آخد حاجة من غير مقابل، أتطمني يا “عـهد”.
بعد مرور دقائق توقفت السيارة أسفل البناية وحينها خرجا سويًا منها وتوجها نحو الشقة وقد ولجت معه لداخل العيادة بعدما استقبلتهما “فُـلة” ورحبت بهما بحبورٍ حتى تعجب “يـوسف” من ذلك وما إن ولجت زوجته للداخل هتفت تحثه بدعمٍ قلما يراه منها:
_أنا عاوزة أقولك أني فخورة بيكم أوي بصراحة، عاش إنك خدت الخطوة وشجعتها تيجي تاخد الخطوة هي كمان، أوعدك أني هعمل كل اللي أقدر عليه علشانها وأوعدك برضه إنها في عيني كمان.
أبتسم لها بعينيهِ فيما تحركت هي من أمامه نحو الداخل وتركته في الشرفة القديمة الممتلئة بالزهور والزرع وقد جلس هو فيها وأخرج من جيبه دفتره وقلمه ثم سحب نفسًا عميقًا لكي يكتب لها خطابًا كمكافأةٍ على مجهودها المبذول هنا..
في الداخل بمقر العيادة جلست “عـهد” وأمامها “فُـلة” التي ظلت تسألها عدة أسئلة عن الأعراض وتطورات الحالة بالإيجاب أو السلب والأخرىٰ تتفاعل معها في كل الأسئلة وتناولها الجواب بشجاعةٍ حتى تحدثت “فُـلة” بنبرةٍ عملية:
_بصي يا “عـهد” إضطراب الكابوس عامةً بييجي مع التهديدات اللي الشخص بيتعرض ليها باستمرار وتأثر عليه لدرجة إنه بيكون مسجون جوة الإطار دا مش بيخرج منه، ممكن ييجي مرة أو مرتين في ليلة واحدة، الفكرة إن حقيقي في تصويره للعقل بشكل مزعج، يعني كأنك قاعدة بتتفرجي على فيلم خاطف منك نفسك وكل همك إنك تخلصيه لأن الريموت مش معاكِ، وبالتالي أنتِ مُجبرة تكملي الفيلم دا لأخره، عاوزاكِ بقى تقوليلي الأعراض وصلت معاكِ لفين؟.
تنهدت الأخرى بثقلٍ وهتفت بتيهٍ وتعبٍ:
_الأعراض آخر شهرين بقت لا تُطاق وبقت أصعب من اللي فات خالص، بقيت أحس بالرعب والخوف وكأنه مصير محتوم مفيش هروب منه، بقوم عرقانة وضربات قلبي بحس إنها هتقف، ولما بخرج منه بتوه مببقاش عارفة أنا فين، ولا مين جنبي، بحس إني لما بفوق وأستوعب كل تفاصيله بتفكرها وقلبي بيتقبض تاني، ومبقدرش أرجع أنام، وساعات بحس إني خايفة حد يلمسني، وساعات بقرف من النوم وبحس باشمئزاز غريب، غير كدا بيأثر عليا باقي اليوم وبضطر أخضع لسلطته عليا…
توقفت عن استرسال الحديث ثم هتفت من جديد بتكملةٍ على سابق حديثها:
_ساعات بفتكر لقطات منه، وساعات بتوه جواه وبحس بالخوف إنه هيتحقق في أي لحظة، وساعات بكره نفسي علشان ضعيفة وأنا مبحبش أكون ضعيفة ولما بكون في الشغل ساعات برضه بحس بالتعب، وبحس إن جسمي تقيل أوي، بس مش هينفع أبطل شغل لأنه بيساعدني ألهي نفسي، وفيه حاجة كمان أنا بخاف من الضرب أوي لو حد جه يقرب مني بخاف كأنه هيضربني، وبخاف من الضلمة أوي، بحس نفسي بيتقطع فيها، أظن كل دا كتير أوي عليا..
تهدج صوتها باكيةً فيما رأفت بها “فُـلة” وأعطتها المحارم الورقية تمسح عبراتها المُنسابة حتى هدأت الأخرىٰ قليلًا وأضافت “فُـلة” بثباتٍ:
_النهاردة هنتكلم عن سبب من ضمن أسباب الكابوس وهو التهديد، دا العامل الأول اللي وصلنا للحالة دي، ومعاه عدة عوامل تانية كمان هناخدها بالتباع، التهديدات اللي كانت بتجيلك واللي مش لازم أذكرها من تاني عقلك الباطن بدأ يترجمها بصورة حقيقية ويهاجم بيها عقلك الواعي، لأنك ساعتها بتهربي من التهديد وبتتحديه بقوة مُزيفة، بس في الحقيقة خوفك وهواجسك بتخلي العقل الباطن يرسم الصورة من نفسه، علشان كدا أنتِ بقيتي تشوفي الكابوس صعب أوي ومش متخيلة إن التهديد وصل للمرحلة دي، بس دورنا مع بعض بقى نغير الوضع دا، تمام؟.
استحوذت على كامل تركيزها حتى أضافت بمتابعةٍ:
_بصي يا ستي، أول حاجة علشان تنسي التهديدات دي إنك تتخلصي منها بكل الطرق لأن عقلك مازال حافظها لسه وبيتحرك رهن إشارة قوتها عليه، فعلشان كدا، مطلوب منك تكتبي التهديدات دي وترميها أو تبلي الورقة لحد ما تبوش أو حتى تحرقيها، ساعتها الحاجات اللي متخزنة جواكِ هتفضى تلقائيًا، تاني حاجة التركيز مع العوامل اللي حواليكِ، زي إن “سـعد” خلاص في السجن يعني بعيد عنك، وزي إنك في أمان حاليًا مع “يـوسف” ووسط عيلتك والأمان بقى أضعاف، يبقى المرة من النهاردة نبدأ نخلص من التهديدات، وتنامي وأنتِ حاطة في عقلك إنك واقعيًا في أمان، تمام؟.
أومأت لها موافقةً واستُكملت الجلسة بنفس المنوال حتى خرجت “عـهد” له بحالٍ أفضل خاصةً بعدما قصت لها كوابيسها وشرحت ماذا ترى بداخلها وحينها أخذها ورحل من المكان وقد لاحظ أنها باتت أفضل بكثيرٍ من قلقها قبل الجلسة..
وبعد مرور بعض الوقت وقفت أمام شقتها فوجدته يجاورها ثم أعطاها الخطاب الذي كتبه وهتف بثباتٍ وقوةٍ يواري خلفهما قلقه عليها حتى لا تقلق هي:
_أنا هروح الشغل بقى علشان اتأخرت، خلي بالك من نفسك وأبقي أقرأيه وأنتِ في الأوضة جوة، سلام يا عسولة.
تركها وولج المصعد بينما زفرت هي بقوةٍ ثم ولجت لغرفتها مُباشرةً ولم تنتظر أكثر لكي تفتح الخطاب، بل سارعت بأنامل مرتعشة لكي ترى هوسها الورقي فوجدت ما لم تتوقع أن تجده حيث كتب لها بحروفٍ شبهتها بالكتابة الأسطورية:
_ “كيف حالك يا مُذهلة..
أولًا دعيني أخبركِ بشيئين في غاية الأهمية، أولهما أنني أحبك وأحببت الحياة من بعد حُبك، وثانيهما أنني الغريب الذي استقر من شتاته في رَحبك، لقد بدأ الآن الطور الأهم في حياتي وهو مُعالجة ما فات في سابق عهدي لأجلك أنتِ، فدعيني أقتبس قصة من إحدى البطلات المُفضلات لدي وأخبرك بقصتها وعن سبب محبتي لها، ليست تلك الأسباب السطحية الكاذبة الخاصة بجمالها، وإنما الأسباب الخفية حول قوتها وحياتها، أتتذكرين حينما أخبرتكِ عائلتي عن حُبي لـ “شيريهان” صاحبة المُقل السودا الساحرة؟ في حقيقة الأمر سحرها وقع عليَّ منذ أن كنتُ طفلًا في صغر عمري، كنت أُحب روحها وخفة ظلها ومرحها، لكن خلف كل ذلك كانت هناك أسبابًا أخرىٰ جعلتني أزداد تعلقًا بها ألا وهي أنها فقدت شقيقها الوحيد إثر حادثٍ أليمٍ وتسبب خبر وفاته في إصابتها بالشلل المؤقت حزنًا وكمدًا على فقيدها العزيز…
_ “في الحقيقة ذاك هو الجزء الذي يُشبهني معها، فحينما فقدت هي عزيز الروح فقدت أنا عالمي بأكملهِ، الفارق بيننا أنها لم تتحمل وأصيبت بالشلل بينما أنا تظاهرت بالقوة وأنا من الداخل أرق من جناحي الطير الحزين، أما السبب الثاني فهو تعرضها لحادثٍ غادرٍ نبع عن كره أصحاب السُلطة والجبروت، حينها أصيبت بكسرٍ في ظهرها وأماكن متفرقة من عظامها وشُل عمودها الفقري، مما ترتب على أثرهم أنها أصبحت قعيدة بالفراش لا يُحق لحرةٍ مثلها أن تتحرك، في الوقت ذاته كنت أشبهها كثيرًا، فكنتُ أنا طيرًا علمه والده أن الحُرية هي سبب العيش بكرامةٍ ثم تركه ورحل وفارق عالمه، فغدوت منذ ذلك الوقت مكسور الجناحين أمام عائلةٍ تملكها التجبر وساورها الطُغيان وأمسيت وسطهم قعيدًا عن الحِراك بكل حُريةٍ، في نفس الوقت كانت هي تتعرض وتخضع لعملياتٍ جراحية فيها أشد الخطورة عليها، لكنها لم تيأس بل تمسكت بالأمل ومثلها فعلت أنا، صنعت لنفسي أملًا أن كُربتي لن تبقى وسطهم كثيرًا وأن الطير سيُحلق من جديد مُنعمًا بحريتهِ..
_” وذات مرةٍ صادفني لها لقاءٌ تلفزيوني ورأيتها تسرد قصة مُعاناتها وكيف كانت تعاني من الألم في روحها قبل جسدها حتى أن عبارتها لازالت عالقة بذهني حينما قالت بألمٍ شديدٍ أرتسم فوق ملامحها “تعبت من الآلام وقوة الأقلام” بالطبع هذه العبارة لن يفهما إلا من تجرع قسوة حروفها، فأنا بالرغم من ما عانيته من آلام، أرهقتني صفعات الأقلام، تلك الأقلام التي توالت فوق وجهي الضعيف من بشرٍ يُفترض أنهم عائلتي بهذا العالم، كُنا متشابهين كثيرًا أنا وهي حتى أثلجت روحي في نهاية لقائها وهتفت بإنتصارٍ على نفسها الضعيفة قبل العالم حين قالت “وقُـمت” تلك الكلمة هتفتها بعدما استفاقت من صدمتها وقامت من جديد للعالم وظهرت مُجددًا تتحدى كل الجُبناء الذين ساهموا في كسرها، في حقيقة الأمر كنت أظن أنني أُشبهها كثيرًا، لكن عندما رأيتكِ علمتُ أنكِ نسخةً منها والفارق بينكما أنكِ لم تسمحي لأي ضعفٍ أن يتمكن منكِ بل دومًا وأبدًا كنتِ قائمة وشامخة مثل الخيل الحُـر، أتتذكرين ذاك اليوم حينما أخبرتك أنكِ البطلة الخاصة بي، وقتها تحديدًا رأيت وجه التشابه بينكما والفارق أيضًا أنكِ في هذا العالم معي وكأنكِ خُلقتي لأجلي أنا.. أنا ذاك الغريب الذي تغرب في الأرجاء حائرًا ويوم أن وصلت لعند أعتابك وأصابتني مُقلك وسهامك عرفتُ أنا المرسىٰ من بعد الغرق هُنا…
“رجلك الغريب والمُبهر/
” يـوسف الراوي”.
هكذا دون خطابه لأجلها يبثها قوة لم تعهدها من قبل، أراد أن يُحيي عزيمتها كما كانت هي تفعل وتُشدد من أزره، يكتب لها ما يعجز عن التفوه به، كتابته لها جعلتها تُجزم ببراعة وصفه ومهارته فيما يفعل، والآن بعد تلقيها تلك الجُرعة الهائلة من الدعم النفسي وثقت أنها لو أرادت ستقوم بإزاحة جبلٍ لطالما كان الشبيه هُنا والقلب يلقبه أنا..
__________________________________
<“قُم بمراعاة الكوكب الصغير الخاص بك”>
هذا الدفء الذي يتسلل للقلب من بعد صقيعٍ يجعل المرء متمسكًا حتى بأقل لحظات الأمان قبل أن يُسرق منه، فياليت العالم يتوقف عند تلك اللحظة التي يشعر فيها المرء بسعادته، قبل أن يتذكر ما يُحزنه..
في حديقة بيت “عبدالقادر” ألتفت الفتيات مع بعضهن يتسامرن في اختيار ثياب عقد القران الذي شارف على القدوم وقد هتفت “مـارينا” بحماسٍ حيث أتت مُهتمها الأحب:
_جماعة دي مُهمتي أنا، بصوا نتفق مع بعض إتفاق بقى، هناخد الدور اللي فوق ونلبس ونظبط نفسنا وبعدها نطلع على كتب الكتاب، وناخد راحتنا كلنا فوق مع بعض أحسن، إيـه رأيكم؟.
حصلت على الموافقة منهن فيما هتفت “آيـات” تحذرها بقولها بقوةٍ قلما تستخدمها معها في التعامل:
_لو لقيتك لابسة ضيق ولا حاجة تبين جسمك أقسم بالله هخليكِ محبوسة لحد ما نرجع، ولا ليه مش بقيتي مخطوبة دلوقتي؟ إحنا نخليه هو يتحكم ويؤمر بمعرفته فيكِ.
توسعت عينا “مارينا” بهلعٍ بعد حديث رفيقتها فيما أضافت “مهرائيل” بتشفٍ في شقيقتها:
_أحسن والله فرحانة فيكِ، دا غير إن هو حطلك جدول ونظام تمشي عليه علشان تبطلي عشوائية شوية، طلع حمش وشخصيته قوية أكيد مش جايبه من برة يعني، ابن خالته مين؟.
حينما ذكرته صدحت الضحكات عاليًا فيما استأذنت “نِـهال” منهن وتحركت تبحث عن ابنها فوجدته في ردهة البيت يتحدث مع عمه قائلًا بتهديدٍ واضحٍ:
_تجيبلي حاجة حلوة بدل ما أقول عملت إيه يومها؟.
صدح صوت “أيـوب” بحنقٍ ينهره قائلًا:
_أنتَ ياض مفيش عندك أخلاق خالص؟ بتبتز عمك يا ندل بدل ما تشكرني أني أنقذتك؟ على العموم هجيبلك بس علشان أنا راجل طيب ومش بحب أزعلك هجيبلك اللي نفسك فيه كله، إحنا عندنا كام “إيـاد” يعني؟.
_هو واحد بس والله يا عمو.
_سجدة شكر لله يا حبيب عمو.
هكذا دار الحوار بينهما حتى أنهاه “إيـاد” وألتفت ليجد أمه تراقبه ضاحكةً وقبل أن يرتبك سألته بحماسٍ بالغٍ فور أن أقتربت منه:
_طب مش هتقولي أنا “أيـوب” عمل إيه؟ على الأقل علشان أشكره إنه رجعك تاني ليا ولحضني وبقيت معايا.
قلب عينيه بتفكيرٍ ثم أومأ موافقًا وبدأ في سرد ما حدث حينها عندما ولج “أيـوب” داخل الغرفة الذي كان “إيـاد” حبيسًا بداخلها وقتذاك وكيف تحول من رجلٍ خلوقٍ نَعم بالتهذب لرجلٍ يقدر على كسر كافة القوانين لأجل ذويه..
حينها ولج “أيـوب” الغرفة ولحقه “يـوسف” فتفاجئا بالصغير يقف وأحد الرجال يضع فوهة السلاح في رأسه ثم نطق بفظاظة وغلظة:
_أرجع عندك أنتَ وهو، أرجع بدل ما أفرغ السلاح في راسه وأزعلكم عليه، يلا يا حبيبي منك ليه.
وقتها كان “إيـاد” يقف بخوفٍ وهو يتمنى أن يتم إنقاذه وحينها تقدم “أيـوب” بكل بسالةٍ وإقدامٍ ومن فرط قوته تراجع الآخر للخلف بينما هو سحب “إيـاد” منه ودفعه نحو “يـوسف” ثم أمسك الآخر وقام بدفعه بقدمه إنتقامًا لابن شقيقه وقبل أن يفعلها الآخر ويصيبه بالسلاح قام برفعه للأعلى حتى يفلت من العيار الناري ثم قام بكسر ذراعهِ وقبل أن يُكمل ضرباته توسله “إيـاد” أن يتوقف فتركه الآخر يتألم ثم أقترب يحتضن ابن شقيقه بقوةٍ وهو يسأله بأنفاسٍ متقطعة:
_أنتَ كويس؟ طمني عليك.
_كويس علشان أنتَ جيت.
قام “إيـاد” بسرد الموقف على أمه حتى ضمته هي بين ذراعيها تسمح فوق ظهره بحبٍ خالصٍ وهي تحمد ربها على عودته لها من جديد بعدما كادت أن تفقده للأبد، وقد استقر هو بين ذراعيها وطمأنها بقوله:
_أنا بقيت كويس خلاص ومعاكِ، روقي بقى.
ضحكت على طريقته ثم حملته رغم ثقل جسده القوي منذ صغره وجلست به فوق الأريكة وكأنها غريبة تلاقت بأعز الناس على قلبها وسط المدينة، ومن غير هذا الكوكب الصغير يقوم بفرد ذراعيه ويقوم بإحتوائها بينهما؟.
__________________________________
<“في العادة دومًا يقال أن المفاجأت هي أفضل شيءٍ”>
لا تقبل أن تكون سجينًا بين سياجٍ تُفرض عليك على هيئة علاقات إنسانية تقوم باستنزاف طاقتك، ولا ترضخ أن تكون مجرد شيءٍ من قبيل الإحتياط، إما أن تكون أنتَ الأساس، أو لا تكون من الأساس..
في مقر شركة “الراوي” كانت الأجواء مشحونة بتوترٍ يظهر بوضوح على أوجه الجميع وقد كان “عُـدي” أولهم حتى أتى موعد الاستراحة فقرر أن يخرج من مكتبه وهو يفكر في ترتيبات عقد قران شقيقته ودوره المطلوب منه في الوقوف مع والده وأسرته وتولي الدور الأهم في مساندة والده ماديًا ومن قبلها معنويًا رغم أنه في أصعب أوقاته وأكثرها في الألم النفسي لكنه لم يعتد أن يهرب من إلتزاماته..
خرج من مكتبه وولج لمكان الاستراحة فألتقطتها عيناه تجلس فوق الأرجوحة وحينها استشعر أن نبضات قلبه تتسارع وتتقاذف وكأنها بداخل سباق العِدو وقد قرر أن يتجاهلها كما وعدها وألا يفرض نفسه عليها وما إن استشعرت هي تواجده أقتربت منه بلهفةٍ وهي تستجديه بقولها:
_أنا عاوزة أتكلم معاك ضروري.
تعجب من طريقتها ومن لهفتها وإضطراب ملامحها وقبل أن يجاوبها وجد إحدى الفتيات التي تعمل بالشركة تقترب منه وهي تقول بأدبٍ وتهذبٍ:
_أستاذ “عُـدي” فيه آنسة برة عاوزة تقابل حضرتك ضروري وقالت إن حضرتك عارفها.
تأهبت حواس “رهـف” وتوسعت عيناها وقد ألتقط هو غيرتها عليه بتلك الطريقة فقرر أن يُكمل المسلك لنهايته وحينها آمر الفتاة أن تأتي بضيفته ووقتها ولجت آخر من توقع أن يراها هُنا، تزامنًا مع ظهور “يـوسف” مُقتربًا منه فوجد الفتاة تقول بلهفةٍ غلفها الشوق:
_عامل إيـه يا “عُـدي”؟ أنا مبسوطة أني لحقتك.
تعجب “يـوسف” من طريقتها وكذلك “رهـف” أيضًا، فيما هتف هو بثباتٍ يواري خلفه الكثير والكثير:
_أهلًا وسهلًا يا “مـيار” نورتي المكان.
تأهبت حواس “يـوسف” فور أن استمع لاسمها بينما “رهـف” فلم تتعرف على هويتها بل استشعرت قوة العلاقة بينهما وقبل أن تنسحب بإحباطٍ تمكن منها أوقفها “يـوسف” بإشارةٍ منه جمدتها بأرضها ثم هتف مستفسرًا بنظراتٍ ثاقبة:
_مش تعرفنا؟.
وزع “عُـدي” نظراته بينهم ثم هتف بشموخٍ وهو يشير على كلتيهما وكأنه أراد تفجير قُنبلته في وجه الجميع بغير رحمةٍ:
_دي الآنسة “ميار” كانت خطيبتي.
أبتسمت الفتاة بتكليفٍ فيما تأججت نيران “رهـف” وظهرت الدماء المندفعة في وجهها وحينها أضاف “عُـدي” مُشيرًا عليها بقوله:
_ودي الآنسة “رهـف” إن شاء الله هتبقى خطيبتي.
قام بتفجير مفاجأته الغير متوقعة أمام الثلاثة حتى هو لم يعرف كيف تملكته الجُرأة لذلك الحد لكن كرامته لن تقبل أن يُصبح مجرد لُعبة يريدها شخصٌ وقتما يشاء ويتركها وقتما يشاء لذا أخذ الخُطوة وكانت المفاجأة صادمةً لهم من العيار الناري الذي ما إن يُصيب هدفه يستقر في مركزه..
_______________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى