رواية غوثهم الفصل المائة والسابع والعشرون 127 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والسابع والعشرون
رواية غوثهم البارت المائة والسابع والعشرون
رواية غوثهم الحلقة المائة والسابعة والعشرون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثاني والأربعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
أين مني ومن نفسي احتمي؟
أنا الذي أخشاني وأخشى ذاتي
ولم أجد مكانًا فيه أرتمي..
تركتني نفسي ورحلت مني بدون
وداع، تائهٌ مني في نفسي والقلب
أيضًا بداخلي ضاع..
أعني عليِّ وعلى نفسي فهي
عدوي، وخصومة النفس للنفس
بغير توبةٍ ليس لها داع..
فأكتب لي توبةً من كرمك ورحمتك
وأنا قلبي لازال بريئًا حتى ولو تاه
ومن ضاع.
_”غَــوثْ”
__________________________________
بينما أنا أعيش في ظُلمات الليل وحدي بداخل كهفٍ مُعتمٍ وكأني أحد الأساطير التي ترعى النيران، وعزفت العالم بعيدًا عن الجميع، ورافقت الحيوانات من قلة خبرتي مع أمثالي من البشر، حينها حقًا سئمت، سئمت الوحدة وأنا بها وحدي، وسئمت الظُلمة التي لم تقصد غيري وتطل ما عندي، كهفي المُظلم امتدت ظُلمته لداخلي فلم أعد أعهد أي ضوءٍ بعد، وليس هناك لي من بعد ظُلمتي البُعد، وذات مرةٍ قررت أن أتمرد وأقف لنفسي مرصادًا، لذا تركت كهفي الموحش، وتركت لياليا الظلماء، ومررت في بلدةٍ أهلها وصفوا أنهم كُرماء، حينما يمر من بينهم المُتعطش يناولونه من أنهار الخير الماء، وإذ بي وأنا أسير في تلك البلدة تسرقني عين احداهن المزودة بسحرٍ أسودٍ ، ثم تفتني ضحكتها الرنانة، وتخطفني أغنياتها المُنشادة، كانت تتحرك بمرونةٍ كزهرةٍ يافعة تتباهى بجمالها الآخاذ بين حقل زهورٍ، كلماتها كأنها دنانيرٌ من ذهبٍ وقعت في كف متسولٍ يشحذ بين الناس، سُلِبت أمامها وكأنني رأيت البدور البيضاء فوق حشائش الخُضرةِ في وجهها على نهر صافٍ عذب، و لم أعهد طربًا مثل كلماتها، كأنها نغماتٌ حلوة تشدو فوق القلوب التي لا تعرف سبيلًا إلا الصمت المؤنب، منذ أن وقعت عيني عليها وأنا استمع لقلبي المُعتم حينما عاتبني بقول: “أحكمت أنتَ علينا بظلمة الليل والديجور
ولم تأخذنا ولو لمرةٍ لنرَ مثل ذاك النور،
أغرقتُ أنتَ سابقًا لكي تخشى البحور
أم أنك تحسب نفسك زاهدًا والعشق لك فجور؟.
<“لم أنتقم، بل كان ماضيه متروكًا عندي، فليأخذه”>
كل شيءٍ بتلك الحياة ستجد منه نُسختين، حتى الحقوق ذاتها، فهناك حقوق شرعية تعد مِلكًا لصاحبها، وهناك النسخة الأخرى وهي الحقوق الغير شرعية وهي لم تَمت سالبها، لكن البشر هم فقط من أرادوا أن تصبح كل تطمع به أنفسهم حقوقًا لهم، حتى وإن كانت الغير شرعية..
التحول المُفاجيء بشخصيته يُرعب الجميع حتى هو يفقد التعقل ويتغرب عن ذاته، فلم يعد ذاك الزاهد الذي يُهذب نفسه ويسعى لتحقيق المثالية بشخصيته وإنما قدرة تحمله أحيانًا تخونه حينما تمتليء بسرعةٍ ملحوظة فيفيض الغضب منه، ويفقد السيطرة على كبح جماح غضبه المُتقد..
_إيه يا “فـاتن” هتستقوي عليا؟ دا حقي وعاوزه، وقولتلك جاي آخد منك حقوقي الشرعية يا بنت “الـراوي”.
هكذا كان حديث” سـامي” قبل أن يهم بغلق الباب وما إن غلق الباب ليُعانق المزلاج ويُغلق عليهما وجد عائقًا يحول بين الباب والمزلاج ووقتها توسعت عيناه ليجد العائق يتحدث بتهكمٍ لاذعٍ وسخريةٍ أعربت عن تقليله منه:
_وماله أنتَ تاخد حقوقك الشرعية، وأنا هاخد منك حقوقي الغير شرعية، بسم الله، توكلنا على الله.
أنهى حديثه ثم دفعه وأغلق الباب وقام برفع أكمام قميصه وهتف بمراوغةٍ رافقتها السُخرية ومعها نظرة شرٍ شمله بها:
_لولا إن الغالية وصتني مقلعهوش، كان زماني بستعد بطريقة تانية خالص ليك، قولتلك بلاش أنا، بس شكلك مش بتصدقني يا عمو.
زحفت “فاتن” للخلف وهي تبكي بقهرٍ والدماء تسيل من جانب فمها إثر صفعته القوية فوق صفحة وجهها، فيما قام “أيـوب” بدفع غريمه حتى سقط فوق المقعد ثم همس بفحيحٍ في أذنهِ حتى ابتلع الآخر لُعابه ليظهر أمامه بقوته:
_مش قولتلك بلاش تيجي هنا علشان هزعلك؟ وقولتلك إني مش ناسي اللي حصل زمان منك بس بخزنلك علشان وقت الحساب أخلص كله مرة واحدة؟ شكلك مستعجل على التصفية بس أقولك؟ أنا والله برضه مش هقل أدبي معاك، علشان أنا بحب أوي أتكلم بأدب وأتعامل بأدب مع اللي مشافش أدب، عارف ليه؟ علشان أنا مؤدب وتربية راجل مؤدب والباقي أنتَ فاهمه.
تلميحٌ مُبطن اختصه بنظراته ولن يُكثر عن ذلك، سيكف في الحديث عند هذا الحد وفقط، وقد اعتدل في وقفته وشدد عوده الفارع وهو يبتسم بشرٍ ثم طاف بعينيه ليجد وشاح “فاتن” موضوعًا فوق الأريكة فتحرك يخطفه بخفةٍ ثم فرض هيمنته على جسد “سـامي” وقام بتكبيل يديه والآخر يصرخ بصوتٍ عالٍ:
_فُكني يالا، فُكني بدل ما أبلغ عنك وأتهمك إنك أرهابي وخاطف مراتي، أنتَ عارف إني معملتش حاجة غلط، أنا جاي لمراتي وابني، فُــك بــقولك!!.
هدر بانفعالٍ جلي في نبرته فيما أشار له الآخر بالصمت حتى سكت “سـامي” وصدره يعلو ويهبط بغضبٍ أعمى فنطق “أيـوب” بتهكمٍ:
_مراتك وحقوقك بالأدب، إنما بطريقتك دي أبقى قابلني لو طولت حتى منها مسكة أيد، أنا نفسي أفهم أخرة جبروتك دا إيه؟ فيه إيه تاني معملتوش، يا أخي دا أنا بشوفك بقرف منك، فاكر؟ فاكر زمان لما قولتلي أنا مش هقتلك، كدا كدا أنتَ ميت والمرض نهشك وهيكسر أبوك فيك، قولت إيه بقى دلوقتي؟ علشان تعرف إن ربنا مبيتعاندش، ردلي صحتي من تاني، ورد لأبويا قوته ورجع الغايب لحضن أمه، ودلوقتي ابنك ومراتك معانا، ودي البداية بس، اللي جاي خليه مفاجأة.
شدد الوثاق في ذراعيه بشدة لكي يضمن عدم إفلاته ثم قام بسحب أحد الحِبال الرفيعة من شرفة الشقة وجلس يربط كلا قدميه به وهو يشدد العُقد حوله والآخر يحاول سحب نفسه من فوق المقعد الذي ظل يتلوى فوقه كمن يجلس فوق مرجلٍ اتقدت به النيران، فيما اعتدل “أيـوب” في وقفته وتحدث بأدبٍ غريبٍ لم يتناسب مع الموقف:
_أنا آسف طبعًا إني مربطك كدا بس أنا عندي فرح أختي وأكيد مش هضيعه عليك، فهنروح نحتفل ونرجعلك تاني، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنهى حديثه ثم انتبه لـ “فـاتن” التي قامت بتغطية رأسها فخاطبها بهدوءٍ وتهذبٍ ناهيك عن قسوته مع الآخر:
_غيري هدومك علشان تيجي تقعدي مع البنات، اتفضلي.
أومأت عدة مرات بخوفٍ ثم تحركت بخطواتٍ أشبه بالركض وقد تنهد “أيـوب” ثم أغلق النوافذ والشرُفة وأي منفس هواءٍ والآخر يُتابعه بعينين ضائعتين حتى خرجت زوجته تقف بجوار “أيـوب” الذي أشار لها أن تسبقه نحو باب الشقة ثم مال يهمس من جديد للآخر:
_عن إذنك بقى أنتَ مش غريب، هخليك تجرب حاجة صغيرة خالص من اللي جربته على إيدك، ومتقلقش هقفلك النور كمان، ومش بس كدا؟ دا أنا هشغلك القرآن على الآخر عارف ليه؟ علشان قلبك دا استحالة يتحمل عظمة كلام ربنا.
أنهى حديثه والتفت للشاشة المُعلقة ثم قام بتشغيل محطة القرآن الكريم ورفع الصوت لآخره وبالطبع لم يتحمل “سـامى” الصوت وظل يصرخ لكي يُخفضه لكن “أيـوب” أغلق كافة الأضواء وفقط اكتفى بصوت القرآن دون إضاءة تاركًا الآخر خلفه يتلظى فوق المقعد وهو يهز جسده بحسرةٍ فيما أغلق “أيـوب” الباب وكأنه يُغلق عليه مقبرة موته، لكن القلوب التي لن تخشع وترق لكلمات الخالق، فهل يُعقل أنها تكترث لنهايتها دون أن تقوم بسبر اطماعها كاملةً؟.
نزلت معه “فـاتن” بانكسارٍ وخزيٍ استشفهما هو في وجهها فزفر بقوةٍ ثم وقف أمامها يهتف بأدبٍ وتهذبٍ:
_أنا آسف إني بتدخل بس أنا مش عاوزك تبيني حاجة قدام “نـادر” علشان الفترة دي واضح إنه مضغوط نفسيًا، وقبل ما ترجعوا الشقة كل حاجة هتكون خلصت، هاخدك عند البنات تقعدي معاهم وترتاحي شوية من ضغط الأعصاب دا.
أومأت بحركةٍ خافتة وقبل أن يستأنفا سيرهما أوقفته بسؤالها الذي بدا مُرتجفًا:
_هو أنتَ جيت إزاي؟.
عاد لها برأسه يخبرها بهدوءٍ ووقارٍ:
_”نـادر” هناك في البيت عندنا وعرفت إنك قاعدة لوحدك قولت أجيلك تقعدي معانا شوية وبالمرة تاخدي على الحارة وناسها، عامةً حصل خير وربنا بعتني ليكِ في وقتي المناسب علشان ألحقك، وآسف على تدخلي كدا بينكم، بس أظن يعني إنك بتحاولي تبعدي عنه، صح؟.
سألها بتخمينٍ حتى لا يصبح في صورة المُتطفل على زوجين خاصةً وهو يعلم أنها ضعيفة وقراراتها تتبخر في طرفة عينٍ لكنها صرحت عن مكنوناتها بقولها:
_صدقني كل يوم بدعي ربنا يخلصني منه حتى لو بالموت، نفسي أرتاح من هم وجودع في حياتي اللي اتقلبت جحيم، لحد دلوقتي مفيش حاجة عدلة حصلت في حياتي غير “نـادر” بس اللي بدأت أحس إنه بيحبني مش زي ما أبوه زرع كرهي فيه، غير كدا في داهية.
ابتسم لها بقلة حيلة ثم فرك وجهه بكلا كفيه وأشار لها لكي تتقدمه في المسير وبالفعل سارت أمامه تتعجب من الحارة التي طالتها أيادي التغيير، حقًا أمست مكانًا يليق بعائلة “العطار” فالمكان أمامها يشبه مدينة أثرية بها لمحة من الحداثة لذا وجدت هالة من الأمان تحاوطها في حضرة هذا المكان حتى وصلت للبيت أخيرًا برفقة “أيـوب” الذي أشار لها لمجلس النساء وقادها لهناك ثم عاد سريعًا للأسفل.
__________________________________
<“لأجل الآخرين ستجدنا شموعًا تحترق”>
قد تلجأ بعض العقول لاختلاق هُدنةٍ في حربها مع القلوب لعل الصراع بينهما يتوقف عند حدٍ يرحم صاحبه، وقد تتمرد أحيانًا القلوب على الأمر بإصرارٍ أن ما توده هي هو الأصح، ثم تنعت العقل بالغباء، وما بين عقلٍ لا يَرحم وقلبٍ لا يُرحم، تتخبط الأفكار بتيهٍ في ظُلمات النفس التي أمست ساحةً لعراكٍ بين اثنين من الأساس هدفهما واحدٌ..
في منطقة نزلة السمان، استمر الإشراف من جهة “إيـهاب” الذي بمجرد مروره بين الكبار في السن يحظى بالترحيب الشديد والمصافحة بحفاوةٍ وعلى نفس الغرار “يـوسف” المحبوب من أهل المنطقة بأكملها، الاثنان رغم صغر سنهما مقارنةً بعمر الرجال إلا أنهما استطاعا التوغل لهما في كل شيءٍ وأولهم القلوب التي تُفتح من تلقاء نفسها لهما..
أما “نَـعيم” فوقف يتابعهما بعينين مُبتسمتين متذكرًا سُخط “إيـهاب” من مجيء “يـوسف” لهما وأيضًا كره “يـوسف” لقوة الآخر وتحكمه فيه ونعته له بالضعف، والآن هما معًا منذ الصباح لم يترك أحدهما الآخر، بسمة رزينة زينت ثُغره وهو يجدهما يقتربا منه ثم وقفا بجواره كالحصن المنيع وهو يشتد جسده بقوةٍ وهما خلفه.
في الداخل لدى النسوةِ كانت “إيـمي” تجلس وسط الفتيات بحريةٍ وملابس حُرة حيث ارتدت فستانًا باللون الأسود يتلائم مع جسدها المنحوت بدقة، وخصرها الرفيع وقد التصق الفستان بجسدها يرسم قوامها بشكلٍ واضحٍ أبرز تفاصيلها وحينها جلست “ضُـحى” بجوار “سـمارة” تسألها بنبرةٍ خافتة بعيدًا عن صوت الموسيقى الصاخبة:
_هي مين البنت دي؟ شكلها مش من هنا.
أومأت الأخرى لها ثم أضافت مؤكدةً بنفس الصوت الخافت:
_هي كانت من هنا، دي تبقى صاحبة “مُـحي” وكانت متربية معاه هنا قبل ما يروحوا الشروق ويعيشوا هناك بس هي علطول بتتصل وبتيجي هنا عند جدتها، وهتموت على الواد “مُـحي” وهو دماغه جزمة قديمة ورافضها.
التوى فم “ضُـحى” بتهكمٍ وهي تتفحص الفتاة ثم عاودت النظر في وجه الأخرى تهتف بسخريةٍ:
_غبي، البت تحفة فنية تتاكل أكل، ماله دا؟.
ضحكت “سـمارة” وهي تقول بخبثٍ رسمته في ملامحها:
_عارفة؟ كل الشباب هنا عارفينها، كنت بغير منها أوي علشان كانت غاوية هزار مع “إيـهاب” و “إسماعيل” وكلهم وهي هنا من صغرها بس هي عقلت شوية لما كبروا، دي كانت مرووشة، وبتروش البيت كله هنا معاها.
توسعت عينا “ضُـحى” التي اختصت الفتاة بنظراتها خاصةً حينما ذُكِر زوجها العزيز، وهُنا ابتسمت للفتاة التي باصفرارٍ يُنافي الصفاء السابق لنظراتها، وبعد مرور دقائق بالخارج وقف “عُـدي” في انتظار الفتاتين بجوار سيارة “يـوسف” الذي انتصب في وقفته وألقى سيجاره بعيدًا حينما لمحهما..
اقتربت منه “قـمر” بسعادةٍ لمحها هو في عينيها وملامحها التي كانت كما الكتاب المفتوح له فاستطاع أن يلحظ شفراتها ويقوم بفكها ومعرفة كل شيءٍ بها، حتى جاورته هي تنطق بسعادةٍ دون أن تحتوي هذه السعادة بين طيات فرحتها:
_أنا مبسوطة أوي، عمري ما قضيت يوم حلو كدا قبل ما تظهر أنتَ، أصلًا ماكنتش بخرج خالص ولا بشوف حد ولا عمري اتعاملت مع الناس كدا، أنا مبسوطة أوي.
وقف يُطالع قسمات وجهها عن كثبٍ وسرعان ما ابتسم لها ثم احتواها بين ذراعيه حتى توسدت رأسها فوق صدره فيما ضمها بكلا كفيه ونطق بثباتٍ يواري خلفه تصدع ثباته المُشقق بفعل ماضٍ لم ينساه هو:
_يا رب دايمًا أشوفك مبسوطة يا “قـمر” وتفرحي زي ما أنتِ بتفرحي للناس كدا، ويقدرني وأعوضك عن غيابي قبل وجودي معاكِ كمان.
تمسكت به كهرةٍ تربت على الوداعة وهي تبتسم بعينيها الواسعتين فيما هربت من بينهم “ضُـحى” وهي تحاول أن تلتقطه بعينيها ومن المؤكد سيصعب عليها ذلك نظرًا لوقوفة بجوار “نَـعيم” وبالتأكيد لن يتركه ليلحظها هي، لذا ارتسمت خيبة الأمل فوق معالم وجهها وهي تلتفت تدريجيًا فوجدته بوجهها حتى شهقت بفزعٍ وكادت أن تسقط للخلف لكن كفه وُضِعَ خلف ظهرها وحال دون ذلك لكي تستقم هي بوقفها فسألها بصوتٍ رخيمٍ توغل لداخل قلبها:
_بتدوري على مين يا مطرقعة؟.
كادت أن تبتسم لكنها تصنعت الجمود واللامبالاة وهي تقول:
_مش بدور على حد، أنا ماشية أصلًا خلاص علشان يومي خلص هنا، فعادي كنت باخد جولة أخيرة بس، المهم سلام بقى عشان منتأخرش على العروسة في حارة “العطار”.
كادت أن تتخطاه لكنه اوقفها وأعادها له من جديد أمامه يتشرب ملامحها بعينيه دون أن يقو على الإفصاح بما يكنه بداخله له، ففي حضرتها تفر الكلمات وتهرب المعاني ويصبح العاشق أمام عينيها صامتًا يتعلم فقط الكلمات ليبني في أرضها حضارة عشقه لتتغنى بها الأجيال فيما بعد، ظل يُمعن نظراته في وجهها وهي تهرب بعيدًا عنه، فمهما امتلكت من جُرأةٍ بالطبع لن تُجابه قوة مشاعره لديها حتى رفع هو كفها ولثم راحته برقةٍ سلبت أنفاسها فأضاف هو بنبرةٍ رخيمة:
_خلي بالك من نفسك.
ماذا يقصد؟ أو بماذا يتحدث من الأساس؟ ولما لم يُحلق معها فوق السحاب الصيفية ثم يطلق السراح لنفسه كقطرة ندى عانقت بتلات الزهور في فصل الربيع؟ أي شعور هذا الذي داهمها حتى تصبح مُخدرة لتلك الدرجة في حضرته وهو يدعي البراءة كمن لم يفعل أي شيءٍ، أخيرًا وجدتها قوتها فتركته واقتربت من شقيقها الذي وقف في انتظارها.
وقف “يـوسف” يتابع أخوته ورحيلهم وتوصية “عُـدي” عليهما وتأكيد وصوله بهما للاحتفال الآخر وما إن رحلت السيارة من المكان تنهد هو بعمقٍ ثم وقف بجوار “سـراج” و “تَـيام” يسألهما بصوتٍ عميق انبثق منه الدفء:
_بقولكم إيه؟ نلم الليلة دي خلاص كدا؟.
تلهف “تَـيام” للجواب فأضاف مُسرعًا:
_ياريت بأمانة، خلاص كدا احتفلنا وفرحنا وأنا بصراحة جوعت ولسه فيها ساعتين لحد ما ناكل، وبكرة يوم مليان تعب وصعب، نريح شوية على الأقل.
أيده “سـراج” الذي اتضح عليه التعب والقلق معًا خاصةً وهو كل فترة يبحث كما المجنون عن “چـودي” ثم يعود ويصمت لكونها مع “مُـنذر” وتمسك بكفهِ، وكأن الآخر يحميها من شيءٍ مجهولٍ حتى يتمسك بها بتلك الطريقة، وقد انسحب “يـوسف” نحو “إسماعيل” يحاوره بنبرةٍ خفيضة:
_بصنعة لطافة كدا خلصلنا الليلة دي.
صدح صوت هاتفه في تلك اللحظة برقم زوجته التي هاتفته فانسحب بعيدًا يجاوبها ليجدها تهتف بنبرةٍ مُجهدة:
_هو أنا لو مروحتش عند “آيات” عادي؟ أنا تعبانة أوي وحاسة رجلي مش شيلاني وعاوزة أنام، ولسه حاسة إني عاوزة أغير وأظبط وشي وهدومي، قولت آخد رأيك بصراحة.
في بعض الأحيان هي تناوله ما يود وأكثر، وكأن بطريقتها تلك تجعله محورًا تتبلور حوله حياتها معه، لذا تنهد بعمقٍ ثم قرر أن يُعطيها ما تُعطيه له هي بقوله:
_عادي لو ماروحتيش بس هي صاحبتك برضه، وعادي برضه مش لازم تغيري هدومك أنتِ لبسك علطول حلو أوي وشيك جدًا وذوقك عالي، أما شكلك فأظن كفاية تدخلي عليهم بتضحكي بس ولو عاوزة تبقى خلاص وجبتي حُطي كُحل، وأشربي فنجان قهوة يفوقك، روحي فُكي عن نفسك أنتِ بنت زيك زيهم، و “قـمر” جيالك في الطريق أهيه.
ابتسمت هي فور أن تلقت الدعم منه كصغيرةٍ تاهت عن الطريق ووقفت تنتظر اشارة والدها على المسلك الصحيح فلم يكن أمامها إلا أن تستعن به ليقوم هو بدورهِ في الإشارة لما غاب عقلها عنه، وقد شكرته هي ثم أغلقت معه لتبدأ في تجديد طاقتها من جديد والفضل يرجع لتواجده معها.
أما هو فمكالمتها كانت كافية له لكي تُجدد له شغف الحياة ثانيةً لذا تحرك مع الشباب يشرف ويكمل دوره في إنهاء مراسم الاحتفال كما بدأوه هم، والإعلان عن نهاية اليوم أخيرًا بعدما استمر لقرابة نصف يومٍ بالتقريب..
__________________________________
<“لا تترك لوحاتك بدون ألوان حتى ولو كان الرمادي”>
بعض اللوحات تفتقر لتواجد الألوان، فترى بها الخطوط مرسومة ببراعة ودقة لكن زهو الألوان لم يتواجد بها، لذا مهما دققت النظر في تلك اللوحات ستظل مفقترة للروح، وهكذا حياة المرء، فهي دومًا إما باللون الأبيض، وإما باللون الأسود لكن لا مانعٍ لإضافة بعض الألوان كي تُضفي روحًا فوق لوحةٍ حُكِم عليها بالقُبح رغم براعة خطوطها..
كانت “نجلاء” تجلس فوق الأريكة في بهو البيت الكبير تتابعه بعينيها بتعجبٍ، البيت منذ الوهلة الأولى جعلها تشعر بمدى وضاعتها وحقارة أملاكها بجوار ما يملكه هو، لكن كل ذلك لن يهمها فيكفيها أنها عادت لرشدها باختيارها لابنها وقد استفاقت على صوت حمحمة من “نَـعيم” فهبت منتفضة من مكانها لتجده يقف أمامها بشموخٍ وهو يقول:
_أنا بشكرك إنك جيتي وكملتي فرحته بوجودك، عمومًا أنتِ أمه وأنا مهما حاولت أمحي الصفة دي مستحيل، بس أظن أنتِ بنفسك شوفتي بيتي ودي أقل حاجة عندي، لسه فيه اللي يساوي قد دا بكتير، وأنا متأكد إن ابني مش مادي علشان يبص للكلام الفاضي دا، المرة الجاية لما حد يتهمه بحاجة أبقي دافعي عنه، عن إذنك يا أم “تَـيام”.
أولاها ظهره ثم التفت خارجًا من البيت بعدما طل عليها ليدب الخوف في أوصالها منه، فهي حتى الآن تخشاه وتخشى نظراته لها وتشعر أنها مهما فعلت لن تنجو من براثنه فعليها أن تلتزم الصمت وترضخ لأوامره..
في الخارج التفوا الشباب حول النيران المُتقدة بأكملهم يرتشفون الشاي الذي صنعه لهم “إيـهاب” وناوله لهم فيما جلس “تَـيام” يراقب الوضع بعينيه وقد ظهرت بسمة هادئة فوق شفتيه وهو يتعجب مما آلت إليه الأوضاع، فبدلًا من وجود أخٍ في صفه وجد مجموعة كاملة تقف لأجله ويفعلون ما بوسعهم حتى تتم فرحته، وقد وجد شقيقه يجلس بجوارهم بعدما أغلق المكالمة فسأله “سراج” ساخرًا:
_ما تخطبها، الناس كلها عارفة إنكم لبعض.
رفع “مُـحي” عينيه له ونطق بضجرٍ يعبر عن استياءه:
_وهي علشان الناس عارفة كدا ألبس نفسي؟ أنا مش بحبها الحب دا، ماشي من صغرنا صحاب ومتربيين مع بعض بس مش مراتي يعني، بعدين أنا مش بتاع جواز، الجواز دا أكبر مني، ويوم ما هحب واحدة لدرجة أني مقدرش أعيش من غيرها، ساعتها أنا ممكن أعادي العالم كله علشان بس تكون مراتي وعلى اسمي، وطول ما أنا لسه مش حاسس بكدا، يبقى خلاص.
أيدوه البقية وأكثرهم كان “يـوسف” الذي التزم الصمت وهو يتذكر كيف ببراءة عينيها أتت لتهدم أعتى الحصون وأقواها وقامت بالتوغل لتصبح كما احتلالٍ بداخل أرضه واستوطنت الفؤاد وأصبح مقرًا لها، أما “تَـيام” فهو يعلم جيدًا معنى أن يميل القلب لواحدة فقط من بين النساء كافة لتصبح هي المرغوبة من بين فتيات حواء، لكنه قرر صرف تفكيره عنها حتى لا يدخل قوقعةٍ لن يخرج منها البتة..
بادر بسؤالهم باعتبارهم عائلته الجديدة التي سيبقى بجوارهم للأبد فعليه أن يوطد العلاقات بينهم ويُرسخ قيم العائلة:
_ما تعرفوني عن نفسكم كدا، بما أني يعني لسه في مرحلة التعارف معاكم، كلموني عنكم وأدوني نبذة مُبسطة كدا.
نظروا لبعضهم ببسمةٍ طفيفة وسرعان ما بادر “إيـهاب” بتولي المهمة بعدما سحب نفسًا من تبغ غليونه ونفث هوائه في الفراغ وقد خرج حديثه في قمة الثبات:
_معاك “إيـهاب الموجي” مُدرب خيول وكابتن رياضة، ورد سجون، قعدت أربع سنين هناك، سنتين تأجيل وسنتين من الحكم.
هكذا كان جوابه ليأتيه الرد من “تَـيام” بثباتٍ يدعمه:
_السجن للرجالة يا “عمهم”.
ضحكات طفيفة ظهرت فوق الأوجه فيما تولى”يـوسف” التعريف فألقى سيجاره بطول ذراعه هاتفًا بثباتٍ هو الآخر:
_معاك “يوسف الراوي” مهندس بترول، دخلت أحداث وأنا صغير، وقضيت في الحبس شهرين على ذمة قضية، وخريج مصحة نفسية.
توسعت عينا الآخر وأضاف بهدوءٍ يُمازحه:
_أجدع ناس يا هندسة.
نفس رد الفعل من الجميع حتى أتى دور “إسماعيل” الذي نطق بثباتٍ أجاد رسمه حينما عرف نفسه بقول:
_أخوك “إسماعيل الموجي” خريج كلية آثار جامعة القاهرة، بتاع ترميم آثار، مكشوف عني الحجاب وليا علاقات مع الجن.
تثبتت عليه الأعين ليحضر الرد من “تَـيام” بثباتٍ:
_حابس حابس ياعم.
ازدادت الضحكات على رد فعله الذي يتنافى مع طريقته الجادة ليتولى “سـراج” المهمة بزهوٍ وفخرٍ غريبين على ما يتفوه به:
_محسوبك “سراج الموافي” خريج إعلام جامعة القاهرة، نص البزارات اللي في السمان بتاعتي وبتاعة عيلتي، وتاجر آثار.
أومأ له “تَـيام” موافقًا وهتف يمازحه بقوله:
_سمعني سلام الفراعنة عمامنا.
ضحكوا بيأسٍ من رد فعله ويبدو أنه أصبح في طور الصدمة مما يُقال أمامه ويتم التعريف به عن أنفسهم وقد أتى الدور لـ “مُـحي” الذي ابتسم بعبثٍ وهو يقول:
_أخوك “مُـحي الحُصري” طالب في آخر سنة في كلية صيدلة جامعة القاهرة، زير نساء وبنات وفي مرحلة الهدايا حاليًا، دعواتك.
رمقه “تَـيام” بسخطٍ زائفٍ ثم دعا له ليقول “إسماعيل” مشيرًا إلى الآخر بقوله وهو يتعمد تذكيره:
_ركز على إنك تدعيله علشان دا حالته صعب أوي، دا أنا جايبه من أوضة الرقاصة بعد صلاة الفجر، أفسد وضوئي ساعتها بقذراته.
ضحك “يـوسف” حينما تذكر الموقف والبقية أيضًا حتى أتى الدور لـ “مُـنذر” الذي التزم الصمت منذ جلوسه وسطهم وهو يراقبهم فقط بعينيه وما إن توجب عليه أن يجاوب زفر بقوةٍ ثم نطق أخيرًا بقسوةٍ لم يتعمدها:
_”مُـنذر الموجي” سابقًا وحاليًا “مُـنذر الحُصري” دكتور نفسي وعميد في جامعة في هولندا بدراسة علم النفس… تربية عصابات مافيا وقناص محترف، وقتال قُتلى.
كان جوابه غريبًا وصادمًا للجالسين الذين ركزوا بعينيهم على وجهه المُتشنج وأولهم “إيـهاب” الذي ظهر الأسى فوق وجهه وهو يعلم صعوبة ما يُعانيه، أما “تَـيام” فتنهد مُطولًا ثم قال بمزاحٍ يُضفي به الضحكات لتلك الجلسة المُخيفة:
_طب يا شباب أنا أتشرفت بمعرفتكم حقيقي ومن غير مجاملات والله مش علشان أنتوا قاعدين، الكلام دا هقوله في ضهركم عادي برضه، بس واضح إني جيت بالغلط هنا، عمومًا أخوكم “تَـيام الشامي” سابقًا “تَـيام الحُصري” حاليًا خريج كلية حقوق ومحامي في الشئون الإدارية.
ظهرت صيحات الرفض وكأنه فجٌ يجلس بينهم ليسأله “إيـهاب” بسخريةٍ يُزيد بها المزحات بينهم:
_طب مفكرتش تتوب وترجع لربنا؟ دا طريق صعب.
وتدخل “سراج” يُضيف هو الآخر بنفس الأسلوب المُنتهج:
_لأ وبص فخور إزاي وهو بيقولها، لو منك أختشي شوية وأدعي ربنا يقبل توبتي ويستر عليك، محامي؟ يعني فلوسك دي كلها حرام.
تتبعت النظرات وجه “سـراج” وما لبثوا أن تمر النظرة لتنفجر الضحكات بينهم عاليًا حتى “مُـنذر” ضحك مُرغمًا بينهم وكأن الضحكات عدوىٰ أصابته هو الآخر حينما جاورهم وقد وقف في الخلف “نَـعيم” يراقبهم بعينيه المُتبسمتين وهو يشملهم جميعًا ثم قرر أن يخطو نحوهم وشاركهم الجلوس متعمدًا أن يكون بجوار “مُـنذر” الذي يبدو أنه أطمئن بوجود عمه معه.
__________________________________
<“أترك الماضي ودعه يرحل بعيدًا عنك”>
لا شك أنهم أطلقوا على عقارب الساعة هذا الاسم لأنها فجأةً تلدغ المرء بسمها المُفاجيء وتخفي خلف خُبثها أثر الماضي المؤلم ومع أول دفعة هواء ينكشف ما تم ستره أسفل غطاء النسيان، فيُكتَشف حينها أن ما مر كانت لدغة قوية من عقربٍ أثر سمه لازال باقيًا في الوريد..
في حارة “العطار” استمر الاحتفال بل ازداد مع وصول الفتيات وأخرهن “عـهد” التي اندمجت مع “ضُـحى” و “قـمر” فرحًا بـ “آيـات” التي كانت تنتظرهن بفارغ صبرها ليتبدل الوضع حقًا بمجيئهن لها وازدادت البهجة في المكان وكأنهن فراشات تقف فوق بتلات الزهور في فصل الربيع ومن ثم ينتشر معها الرحيق المُفعم بحياةٍ أخرى..
أما “أيـوب” فأمر أحد الشباب بالذهاب نحو الشقة المتواجد بها “سـامي” وأمره بحل وثاقه وتوصيله لعند بيته، حينها كان “سـامي” في حالةٍ يُرثى لها، حيث داهمه الضعف وضيق التنفس وشحوب الوجه بعدما تعرق جسده بشدة فوق الأريكة، وقد أخذه الشاب وألقاه أمام بيت “الراوي” ورحل بعدما طرق الجرس في الباب لينتبه له ساكني البيت.
في بيت “العطار” لاحظت “قـمر” تواجد عمتها وحينها طالعتها بضجرٍ ونفورٍ ولم تقوَ على الإنجراف لها كما فعل “يـوسف” ورفع رايته لها، أما الأخرى فثبتت عينيها عليها بشوقٍ وهي تتذكر حبها لها وحب الصغيرة لها، لكنها لم تدرك أن الصغيرة كبرت وأضحت عروسًا هي الأخرى، لكن “قـمر” داهمتها ذكريات مريرة بشأن أمها التي قضت سنين عمرها في قهرٍ وبكاءٍ وكأنها زهرة ذابلة تعيش على أملٍ أن تُسقىٰ، وقد تردد صوت صراخ “غَـالية” بقهرٍ في أذن ابنتها:
_يــا رب، بــرد ناري منهم وردلي ابني، أشوفه بس قبل ما أموت وأخده في حضني، مرة واحدة بس أبرد ناري منهم وردلي حقي وحق عيالي، حسبي الله ونعم الوكيل فيهم.
أدمعت عينا “قـمر” بقهرٍ ورغمًا عنها شعرت بالضيق يُخيم عليها وكأن الماضي يقوم بمد يديه حول عنقها فلم تجد مفرًا غير البكاء لتنفس عن هذا الوجع، صرخات أمها تتكرر في سمعها، حديث “يـوسف” عن ماضيه وحياته بألمٍ تكرر أمامها وهي تشعر بألامٍ حادة في روحها، وبدلًا من تدمير فرحة العروس انسحبت من المكان نحو الأسفل حيث حديقة البيت لكي تخفي نفسها بعيدًا عن الجميع..
تذكرت اليوم الذي سألت فيه أمها عن شقيقها فكان الجواب بقهرٍ وصراخٍ منه عمق جرحها على أيديهم:
_فضلت أسبوعين وأكتر شايلاكِ على ايدي وبلف زي المجنونة في الشوارع وأروح كل مكان ليهم يمكن ألاقي أي آثر مالقيتش، روحت عند جيران “فـاتن” قالولي دي سابت مصر وسافرت هي وعيلتها كلها، برضه فضلت ألف بيكِ والناس كانت بتفتكرني شحاتة وأنا كل شوية أعيط وأنتِ على دراعي تعبتي من قلة الأكل، رجلي اتفتحت والجزمة دابت من كتر اللف وبرضه ملقيتهوش، طب أنهي بلد وأنا ابيع روحي وأسافرله أجيبه من هناك، هو فين؟ يا رب دلني عليه.
كفكفت عبراتها المُنسابة لتنقع نفسها أنها تخطت كل ذلك لكن الرياح القوية دومًا هي ما تُثبت أن بعض الأشجار ثباتها في الأرض يكون واهيًا لذا مع أول ضربة تواجهها تخرج جذورها من الأرض وتسقط فوق جانبها، وقد شعرت بكفٍ يتسقر فوق كتفيها فالتفتت بخوفٍ خالط البكاء في عينيها ليقوم هو برفع كلا إبهاميه ويمسح عبراتها ثم نطق بنبرةٍ رخيمة احتواها بها في عمقها:
_حقك عليا أنا، أنتِ مش كويسة صح؟.
حركت رأسها نفيًا فاقترب هو منها أكثر ثم باغتها بقبلة رقيقة فوق عيَنها اليُمنى، ثم كرر الفعل مع عَينها اليُسرى وهي ترتجف بخجلٍ من سطوة قربه المُهلك وقد عاد “أيـوب” للخلف فوجدها تُطالعه بخجلٍ وحينها ابتسم لها بشقاوةٍ تعجبت لها حينما أضاف:
_كدا ظبطنا المسائل خلاص، تحبي نزود تظبيط؟.
ضحكت رغمًا عنها حينما وجدته مراوغًا لها فيما اقترب مُجددًا وضمها له ثم مسح فوق ظهرها وهو يُحدثها بنبرةٍ رخيمة ودافئة:
_”آيـات” بعتتلي إنك من ساعة ما شوفتيها فوق وأنتِ متضايقة، مش كل الناس بتقدر تسامح وتصفى للي أذوهم، بس مش منطقي تطفي فرحتك علشان حد، أفرحي وعيشي وقتك يا “قـمر” وأنا في ضهرك ووقت ما تحسي نفسك زعلانة تعالي ليا، هظبطلك الدنيا متقلقيش.
تلك المرة رفعت رأسها تواجهه بعينيها وهي تسأله بتيهٍ:
_هو أنا قولتلك إني بحبك؟.
دار بعينيه في الحديقة التي شهدت على سمو أخلاقه وترفعه وتهذبه وسرعان ما قارن بين هذا الذي يقف خلسةً برفقة حبيبته وبين ذاك الذي يجلس هنا يتعلم أمور دينه وحينها نطق بخبثٍ لم يخفَ عليها:
_وقتك ومكانك غلط خالص يا قُطة.
ضحكت بخفةٍ وهي تمسح رأسها فوق صدره بحركتها المفضلة لديها لتجده هو يحتويها ثم ظل يُمسد فوق رأسها وهو يكرر دعائه لها وبعض آيات الذكر الحكيم ماسحًا على قلبها حتى يهدأ من ضجيجه الذي لم يتوقف وفي تلك اللحظة أرادت أن تظل بقربه خشيةً مما ذكرياتها المريرة ووحدتها التي كانت تعيش فيها قبله.
__________________________________
<“اللحظات الحلوة تنتهي، أحرص ألا تصبح مثلها”>
لكل شيءٍ نهاية لا محالة، لذا قد يقضي المرء عمره بالكامل يدور في حلقاتٍ مُفرغة حتى يصل للنهاية السعيدة التي عاش أيام العمر بأكملها في انتظارها، لكن هناك بعض النهايات لا تُكتب لها اللحظات السعيدة وكذلك أنتَ قد لا تزورك اللحظات السعيدة، لكن أحرص على ذاتك قبل أن تنتهي..
في وسط النهار باليوم التالي..
وقفت “آيـات” تراقب نفسها بالمرآة بعدما أنهت الفتاة تزيينها ومعاونتها في الظهور بشكل العروس، هذا الملاك الأبيض يضحك في المرآة، لقد وقفت تتابع نفسها وهيئتها الرقيقة المتواضعة، عيناها كانتا واسعتين بشكلٍ ملحوظ ينشقع منهما الدفء، بشرتها البيضاء بها راحة كُبرى تجعل من يُطالعها يأخذها مَسكنًا له، ارتدت الخمار الأبيض فوق فستانها الفضفاض الذي كانت أكمامه مزودة بخامة الشيفون الناعم، فحتى لو بأحلامها لم تتخيل أن تصبح بتلك الرقة..
وقفت “نـهال” خلفها تُطلق الزغاريد العالية ثم ركضت عليها تحتضنها وهي تُبارك لها وتُهنئها بهذا اليوم السعيد، فهذا اليوم تحديدًا ستُزَف عروس البيت لبيتٍ جديدٍ، أما في الخارج فوقف “أيـهم” يتأهب لهيئتها أكثر من البقية، وقف ينتظر طلتها بعينين مُبتسمتين على عكس حزنه برحيلها من المكان، وجاوره “أيـوب” الذي كان يبتسم ببشاشةٍ حتى انتشرت الزغاريد بالأسفل تعلن عن وصول “تَـيام”..
دقائق مرت وخرجت العروس من الغرفة لتقابل شقيقيها وحينها نظرا الأخوان لبعضهما ثم اقتربا منها وضمهما “أيـهم” بين ذراعيه مُضللًا عليهما بكلا جناحيه، أما في الأسفل وقف “عبدالقادر” يُرحب بالعريس ووالده بحفاوةٍ ثم وقفوا حتى نزل بها “أيـهم” وخلفه “أيـوب” وقد اقترب منهم والدهم الذي شملها بعينيه المُتبسمتين بفرحٍ ثم لثم جبينها وأمسك يدها يُسلمها لزوجها المأخوذ بفعل سحرها الرقيق، ولم ينتبه إلا على حديث والدها الذي قال:
_أنا بديك أغلى حاجة عندي، الكنز اللي عيشت عمري كله محافظ عليه وعمري ما كنت هفرط فيها، بس أنا واثق إنك قد الأمانة وتستاهلها وهتحطها في عينك، خلي بالك منها، أنا والله واثق إنك في أمان معاها، دي عمرها ما نطقت كلمة تزعل حد.
اقترب “تَـيام” يأخذها من والدها ثم لثم جبينها وخاطبه بصدقٍ:
_في عيني الاتنين، أنتَ أكتر واحد عارف أنا فضلت قد إيه بتمنى قربها دا وكان نفسي استاهلها معايا، قدام أبويا أهو لو زعلتها تعالى بنفسك خد حقك مني تالت ومتلت.
هو يعلم أن قلبه أطيب من أن يتسبب في أي جرحٍ لها ويعلم أن هي أرق من أن تؤذيه بقولها لذا ابتسم لهما وترك عصفورته تُحلق بعيدًا عن بيته برفقةٍ رفيقٍ جديدٍ ستبقى معه للأبد ويتمنى لها أن تظل معه آمنة كما ترعرعت في كنفهِ هنا وقد تحركت السيارات في الخلف وأبواقها تُعلن عن الزفاف في أزقة الحارة بأكملها لينتقل هذا الخبر السعيد في الأرجاء كافة…
في بيت “عادل أبو الحسن” خرجت ابنته بالفستان الأبيض والتاج الفضي الذي استقر فوق مقدمة خصلاتها السوداء ليجدها كما الفراشة الرقيقة بهذا الثوب الذي تمنى أن يراها به للعديد والعديد من المرات، ألم يكن الأمس أول أيام عمرها بالمدرسة؟ هل مرت الأيام عليه بتلك السرعة لكي يوصلها اليوم لبيت زوجها؟ اقترب منها يُعانقها بشدة وهي تستقر بين ذراعيه بسعادةٍ بالغة ومرت دقائق تبعها صوت الألعاب النارية بالخارج فضحك هو بيأسٍ وهتف يمازحها:
_جوزك دا واد مزعج أوي.
ضحكت له من بين عبراتها المكتومة وقد نزل “سـراج” بوسامته وملامحه الشقراء التي لم تفصح عن جنسيته إلا حينما يتحدث فقط، وبغير ذلك كل من يراه يحسبه من أصحاب الجنسيات الأجنبية، وقد وقفت هي تراقبه بشغفٍ لتجده تجاوز والدها ثم اقترب منها هي يشملها بعينيه ثم مال يهمس لها بقوله:
_هو لازم الفرح والزفة ولا ندخل بيتنا علطول؟.
لكزته بكفها المرتجف من خجلها فوجدت والدها يُبعدها عنه وهو يزجره بضيقٍ زائفٍ ثم سلمها له بطريقةٍ رسمية جعلت “سـراج” يشعر أنه مثل الأمير بداخل قصرٍ وعروسه تُزف إليه من صاحب هذا القصر لذا ضمها بين ذراعيه ثم نطق بنبرةٍ خافتة:
_أنتِ شقتيني وشوفت بسببك الغُلب، بس راض، والله راضي طالما بقيتي معايا وبقيتي ليا يا “نـور” في آخرها.
مسحت فوق ظهره بكفيها دون أن تتفوه بل اكتفت أن تواسيه وتُطمئنه بقربها الذي انتظره كثيرًا وكثيرًا والآن فقط ينل مراده من كل الدنيا حتى خرج بها من البيت فوجد “نَـعيم” والشباب حتى عائلة “العطار” بأكملها بعدما مروا لهنا ليأخذون العروس الثانية وعلى غرار الزفاف السابق تم هذا أيضًا، فسارت السيارات تباعًا خلف بعضها في سعادةٍ قرروا أن يلتقطوها من الأيام الصعبة التي مرت عليهم..
في بيت “نَـعيم” كان البيت بردهته مُجهزًا لحفل الزفاف حيث تم رسم ممشى مُضيء للعروسين وتم إخراج الخيول استقبالًا لهم وتحضيرًا لجلسة التصوير الخاصة بهم، كما تم وضع الستائر البيضاء فوق الممشى المزود بالزهور والأضاءات البراقة، وفي سيارة “تَـيام” مالت “آيـات” على أذنه تعاتبه بلطفٍ:
_مش قولنا بلاش فرح وتكاليف؟.
انتبه لها وهو يقول بقلة حيلة كون الأمر خارج استطاعته:
_مقدرتش أوقف فرحته بابنه، معذور وعاوز يفرح ويفرحني معاه، بعدين دا مش فرح دي حفلة استقبال تليق بيكِ وإنك نورتي بيت “الحُصري” أخيرًا ونورتي حياة ابنه.
تلك المرة هي تجرأت حينما وجدت السائق ترك السيارة ثم اقتربت منه تُلثم وجنته برقةٍ ثم همست له برقةٍ حاولت هي التغلب عليها لكنها لم تقدر:
_شكلك حلو أوي في بدلة العريس.
ضحك رغمًا عنه ثم ضمها له ونطق بهيامٍ في وجهها حينما أخفض عينيه يلتقط بهما عينيها البريئتين:
_مش أحلى من شكلك ووجودك أنتِ معايا.
عبارة بسيطة يرد بها على حديها المعسول وكلماتها الرقيقة التي داهمته بها فجأةً وقد استقرت هي بجواره وقربه تستمع لصوت قلبه الذي يبدو أنه يرقص بين الضلوع فرحًا به وبقربها وبتلاشي العقبات بينهما وإزالة الحواجز التي قد تمنع اكتمال كيانهما ليصبحا شخصًا واحدًا..
نزل “سـراج” من سيارته بزوجته التي ضحكت بسعادةٍ وفرقت ما بين ذراعيها تستقبل “چـودي” التي ركضت لها بعدما تركت كف “مُـنذر” الذي ابتسم لها بعينيه وهي تحتضن زوجة خالها، وقتها وقف يتابع الشباب وهو يرى كل فردٍ منهم بجوار روحه ونصفه الآخر، انها حقًا أحلام بعيدة عنه وعن شخصٍ مثله، لازال يتذكر كل شيءٍ يخصها، ضحكتها واندفاعها وتسرعها، وذاك الجانب العقلاني الذي يراه فقط مع الحالات التي تختص هي بمعالجتها..
وقف يراهم يضحكون ويمرحون ويمازحون الشباب وخاصةً “إسماعيل” و “مُـحي” اللاذي لم يخلو حديثهما من الوقاحة والحقد الزائفين وضحكات البقية عليهم وقد لمح “يـوسف” الذي وقف بجوار شقيقته وزوجته يضحك معهما فتنهد بعمقٍ متذكرًا أن حياته كانت تشبهه إلى حدٍ ما فهل يعقل أن تكتب له الفرحة مثله، لقد تراقصت بسمة فوق شفتيه حينما تذكر غضبها وانفعالها منه بسبب مشاعرها التي يبدو أنها تحركت لأجله وقد ظهر ذلك عليها وهي تقوم بصفعه ثأرًا لمشاعرها، تلك الغبية لو تعلم أن حبها أضحى هو أجمل ما زار أيام العمر..
قرر أن يقف هكذا يراقب الفرحة كأنها وجبة مُحرمة عليه ولا يحق له أن يقترب منها، لكنه من كل قلبه تمنى لهم جميعًا السعادة وفرحة أيامهم لكنه وجد “إسماعيل” يخطفه لكي يلتقط معهم الصور ويشاركهم الفرح والسرور ورغمًا عنه وعن جموده ضحك لهم وأندمج وسطهم وقد غمز “إسماعيل” لـ “نَـعيم” الذي أرسل له قبلة في الهواء خفيةً..
وقفت “سمارة” تستند على ذراع زوجها الذي ظل بقربها ليجدها تهتف في أذنه بنبرةٍ خافتة:
_أنا وحشتني ليلة فرحنا، أغروني للرومانسة يا “إيـهاب” .
حانت منه التفاتة نحوها يشملها بنظراته الساخرة خاصةً بطنها المنتفخة فسحبت كفه تضعه موضع نظراته وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_بيقولك أهملتنا يا وغد.
ضحك رغمًا عنه ثم ضمها بأحد ذراعيه لتستقر بجانبه بوضع شبه مُلاصقٍ له ثم همس في أذنها برقةٍ خاصة بها هي وحدها من بين العالم بأكمله:
_حقكم عليا، بس الفرح خلص أهو وهدلعكم.
_مش مهم كفاية إنك معانا وحسك في الدنيا.
هكذا ردت عليه برقةٍ وحبٍ جعلاه يضحك بسعادةٍ ورضا ثم لثم جبينها وذهب بها يقف بمحاذاة الشباب يشاركهم الفرح ومُكملًا وقاحة البقية ومزاحهم وخاصةً حينما استلم شقيقه و “مُـحي” وسخر منهما سويًا وهنا البيت يشهد على قصص جديدة وفرحة زارت البيت تمحي في طريقها كل ألمٍ وفقد وتعبٍ زار أيامهم التي عاشوها ما بين بكاءٍ وقهرٍ وليالٍ عصيبة ظنوا أنها لن تمر عليهم، لكن دومًا الخالق يشاء للقلوب المعذبة بالرحمة والعوض.
__________________________________
<“طرف الخيط يسحب معه العبوة بأكملها”>
لولا أننا نجد بداية الشيء لما كُنا حصلنا على نهايته أبدًا، هي البداية التي توصل للنهاية وتؤدي لكل شيءٍ لم نكن نعلم عنه شيئًا فعند حصولنا على طرف الخيط نجد وتمسكنا به سنجد كافة الدلائل مُتاحة أمامنا..
مكانٌ متكدس بالأشخاص المتنوعين، منهم الباحثين عن مرتكبي الجريمة، ومنهم من أتوا هنا بسبب ارتكاب الجريمة، العديد من الاصوات والصيحات والأجساد تتصادم مع بعضها وهي تسير في الرواق الضيق، وبداخل غُرفة من وسط تلك الغُرف التي يجلس بها مسئول المباحث العامة في القضايا الجنائية فُتِح بابه وولج له شابٌ يرتدي ثياب الشُرطة وأخرجه من شروده يهتف بثباتٍ:
_فيه حاجات جديدة وصلنا ليها في الدار يا فندم.
رفع الآخر عينيه نحوه يتفرس ملامحه بنظراتٍ ثاقبة فوجده يُضيف بوقارٍ تزامنًا مع رفعه لكفه بملفٍ مُغلف وهو يقول:
_دا الكشف اللي فيه اسماء الناس بالزيارات الأخيرة في الملجأ تقريبًا آخر أسبوعين، وأرقام البطايق موجودة كمان، كل الناس اللي أساميهم موجودة سبق ليهم وترددوا على الدار قبل كدا، فيه منهم متكفل ببنات هناك، وفيه منهم اللي متعود يروح بتبرعات وهدايا وحاجات رمزية هناك للبنات.
عقد الآخر حاجبيه وهو يتفحص الملف الموضوع أمامه ويتابع الأسماء المُسجلة ليسأل بحدة طفيفة:
_طب ما دا شيء طبيعي، إيه الجديد؟.
اندفع الآخر بلهفةٍ يخبره بما توصل إليه:
_مابين كل الأسماء دي فيه اسم واحد بس لفت نظري، الاسم دا راح الدار مرة واحدة بس وتاني يوم حصلت جريمة القتل و “شفيق” دا أتقتل، هي ممكن تكون صدفة بس هل الصدفة دي هتحصل لواحد أول مرة يروح المكان دا، وتاني يوم علطول تحصل الجريمة دي بالغموض دا؟ ومش سايب دليل واحد بس وراه؟.
الحس البوليسي لدى الآخر بدأ يتحرك وساورته أيادي القلق تلتف حول عنقه فقام هو بفرد جسده للخلف يسأله بثباتٍ يُحسد عليه:
_اسمه إيه؟.
_”إسماعيل أشرف الموجي” عملنا تحريات عنه وطلع من الناس اللي ليهم اسمهم ووزنهم في نزلة السمان، ومتربي في بيت “نَـعيم الحُصري” أكبر تاجر خيول هنا ويعتبر كبير السمان كلها وكلمته مسموعة، المشكلة إن “إسماعيل” دا مفيش على سيرته غُبار بالعكس، طوب الأرض بيشهد بطيبته وأخلاقه كمان وعمره ما رفع عينه في حد، فالحقيقة أنا محتار.
عاد الآخر للخلف بظهره يتابع الفراغ بنظراتٍ ثاقبة ثم اتخذ قراره وهتف بثباتٍ وهو يوميء بحركةٍ رتيبة من رأسهِ:
_يبقى ننهي الحيرة دي ونروح نشوف “إسماعيل” دا حكايته إيه، رغم إنها مش بالسهولة دي تخلص، والقاتل يتجاب بس أهو طرف خيط خلينا نكره يمكن البكرة كلها تتجاب، هو يعني كان قديس ولا ملاك؟.
هكذا حتمت عليه صفاته وأصدر قراره بوضع الآخر في موضع الشك رغم ضعف الحُجة القانوينة في الربط بين كلا الامرين، لكن لا ضررٍ من التأكد عملًا بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في باديء الأمر.
_____________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)