روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والسابع والخمسون 157 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والسابع والخمسون 157 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والسابع والخمسون

رواية غوثهم البارت المائة والسابع والخمسون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والسابعة والخمسون

“روايـة غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثاني السبعون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
إني سألتُكَ هل تعفو هل تعفو و تُعطيني
أنا خاطئٌ أنا يا الله أنا خاطئٌ أنا يا الله
يدفعُني، يدفعُني إلى ذنوبي ما حُملتُ من طينِ
أنا خاطئٌ أنا يا الله يدفعُني،
يدفعُني إلى ذنوبيَ ما حُملتُ من طينِ..
لكنها هفوات.. لكنها هفوات..
لستُ أُنكرُها.. لستُ أُنكرُها..
و أنتَ أعلمُ يا ربي بتكويني
جلت صفاتُك يا غفار.. جلت صفاتُك يا غفار..
لي أملٌ.. لي أملٌ في العفو عِندكَ إن خَفت موازيني..
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
كُنتُ أحسب نفسي غير البائسين
ولستُ أدري كيف أصبحتُ مثلهم…
بدت طاقتي وكأنها اُحترقَت وكأن سُبلي تقطعت،
فكل الأشياء الضائعة لم تُهمني ولم تُبكيني
لكن حينما ضيعتني؛ بكيتُ على ما فاتني
حتى ضيعت البكاء نفسه، فما عاد البكاء ذاته يأتيني..
أنا الذي يوم إن أدرك حياته؛ ندمت على ما فات من سنيني،
وحيدٌ أنا بين الآنامِ، وكل من أحببتهم كانوا بلادًا عن حدودها قررت أن تُنفيني، لا يهمني من العالم الآن سوى نفسي، ولما يا نفسي فعلتِ مثلهم وأمام ذاتي خذلتيني؟
فلو تعلمين كام كان الأمر شاقًا؛ لما فعلتيها أمام مرآتي وأنتِ تُغربيني، أنا هنا ضائعٌ بين السُبل، حتى البكاء ضاع مني، وما عاد البكاء ذاته يُبكيني..
<“كي يظهر الحق عليك بفضح الباطل”>
الحق المخبوء لن يعود..
وإذا ظلت العبارة هكذا تُصبح باطلة، فالحق المخبوء يعود بتلسيط الضوء على كل باطلٍ، فحتى نعلم نِصاب الأمور الصحيحة علينا أن نضع كل شيءٍ في موضعه الصحيح، ومن الأول تلك الأشياء يتوجب فضح الباطل، وإعلان الحق أمام العالم..
كان الاجتماع بينهم أشبه باجتماع الحق مع الباطل، اجتماعٌ غريبٌ من نوعه لم يُخيل لأحدٍ أن يحدث ذات يومٍ، ولأن “أيـوب” دومًا يبحث عن الحق فما كان عليه إلا مساعدة الآخر والتحالف معه وهذا ما حدث بالفعل، تحالفا سويًا وكانت نتيجة هذا التحالف بجلوس “أيـوب” فوق مقعدٍ موضوعٍ بداخل غرفة المكتب الخاص بمدير الدار..
جلس وقابله في الجلوس “باسم” أيضًا وهو يضع هاتفه بالوضع المُعاكس كي تلتقط الكاميرا تلك الجلسة وتقوم بتصويرها، كان يشعر بالبُغض الشديد تجاع المكان لكنه تحامل على نفسه وحاول أن يبدو طبيعيًا كما كان الاتفاق بينه وبين الآخريْن، وقد مل “أيـوب” من الانتظار فزفر بقوةٍ ثم قال باستياءٍ من كثرة الجلوس:
_أنا عمري ما مليت من الصبر، بس المرة دي بجد مش طايق أصبر أكتر من كدا، هو هنا ولا لأ يا “بـاسم”؟.
رفع الآخر عينيه له ثم ابتسم بسخريةٍ وقال يوضح الحقيقة المخبوءة تحت وطأة فسادٍ طاغٍ بين كل إنشٍ والآخر في بلدةٍ تفشى بها الفساد:
_هو هنا ولسه واصل من ساعتين، بس تلاقيه محتاج يروق على حاله ولا حاجة، ماهي الدار هنا كلها مكاسب من دهب، بنات ملهاش أهل، حلوين الحلاوة الشرقية اللي تجيب أي راجل، اللي بيحصل فيهم هنا ملهوش رادع ولا كبير، ولا حتى ليهم أهل يدوروا عليهم، ما تفرقش بقى اللي هيحصل إيه، المهم المزاج وبس..
دار”أيـوب” بعينيه في المكان ثم عاود النظر إليه يسأله بريبةٍ انتابته فورما بدأ عقله يرسم صورة تخيلة بما قد يحدث أو حدث بالفعل؛ ليباغته بسؤالٍ قاتمٍ كان هو الجواب بذاته:
_قصدك إيه بيروق على حاله؟ ممكن يكون بيعمل حاجة هنا ومع حد من البنات كمان؟ دي تبقى مصيبة سودا لو دا بجد، وتبقى كارثة لو اللي زيه عايشين عادي من غير عقاب دنيوي قبل ما يلاقي مصيره في الآخرة، اللي زي دول لازم يكونوا عِبرة.
ابتسم الآخر بزاوية فمه ثم هتف بتهكمٍ مرير يُعدل فوق كلمات الآخر:
_دول القدوة هنا، الأبواب كلها بتتفتح ليه وللي زيه، فلوس ومناصب وحصانة وشغل وواسطة، ياريت يا “أيـوب” الوضع وقف هنا وبس، دول كمان بيبيعوا البنات دي ويتاجروا بيهم للأجانب والأمراء العرب، اللي بيدفعوا فلوس فيهم، من شهرين كدا بالظبط كنت بتابع قضية الإتجار بالبشر وساعتها لقيت إن فيه زيارات بتتعمل هنا بشكل تكراري من أمراء عرب معاهم فلوس وبيدخلوا على هيئة زيارات كتيرة مُتكررة وفلوس وهدايا، دا اللي باين في العلن، بس السر بقى فيه العكس، وهو إنهم بينقوا البنات من هنا، واللي بيقع عليها الاختيار ورقها يخلص وتتسلم، تسافر بقى برة جواز سياحي، وبعد ما خلاص يزهقوا منها تترمي هناك في الكباريهات والديسكوهات، ومين بقى هيدور وراهم؟ شعب مش واعي لحاجة؟ ولا أهالي قبضوا التمن؟ ولا بنات بتخاف من الفضايح والجُرس؟.
والحقائق المخبوءة في بعض الأحايين لا يتوجب عليها أن تظهر، فهي الحقائق التي بإعلانها للعالم لا تقول سوى أن المواجهة هي أصعب ما قد يفعله المرء في حياته، وكأنها بظهورها تعلن حربًا لا تطلب سوى الموت بشرفٍ أو الحياة بخزيٍ، فما بين خيولٍ حُرة ترفض الذل وبين ميادين المعارك الحُرة، لن تجد في العِراك إلا بطاريق تُصفق بكلا كفيها للباطلِ، وضباع تسير خلف القطيع..
والحق…الحق وبكل أسفٍ مسلكه سيبقى فارغًا.
اختنق صدر “أيـوب” وابتلع غصته بصمتٍ وقبل أن يغوص في تفكيرٍ أسودٍ قاتمٍ حالك الحال؛ فتِح الباب عليهما من المطلوب رؤيته، ذاك البغيض الذي يبتسم بعمليةٍ سمجة تجعل من يُطالعه يبغض رؤيته، منذ الوهلة الأولى وكان “أيـوب” يخشى مُطالعة عينيه والتقاء كفيه بكفيه، لكن اللقاء محتومٌ، حيث جلس الآخر برسميةٍ وقال بعمليةٍ طاغية:
_مساء الخير، متأسف جدًا على التأخير بس كان فيه حاجات كتير بخلصها لأني لسه جاي من السفر وكان فيه أمور كتير محتاجة رعاية وترتيب، خصوصًا لو بعد انقطاع عنها لفترة طويلة.
قبل أن يجاوبه “أيـوب” تدخل “باسم” يردف بطريقةٍ عملية مُماثلة لمن يحدثه لكن بحديثٍ مُبطنٍ واراه خلف ثباته:
_كان الله في العون، إحنا عارفين إن السفر بيدهور المسائل ويبوظ الأمور، خصوصًا لو بعد انقطاع عنها، الله يقويك.
جاهد “أيـوب” لكتم ضحكته حتى لا يفتضح أمرهما بينما “باسم” فغمز له خفيةً بعينه اليُسرى فتولى هو دفة الحديث منه وحمحم بقوةٍ ثم بادر في القول بلينٍ قصده متعمدًا:
_أنا بعتذر طبعًا عن إني جيت من غير ميعاد سابق، بس أنا للأسف عندي الفترة دي ضغوطات كتيرة الفترة دي، فأنا كنت جاي علشان أتكلم معاك وأسألك عن الخدمات اللي ممكن نوفرها هنا، لأني عاوز أعمل خير من نوع مختلف شوية، ممكن لو سمحت؟.
بدا الحديث مُبهمًا إلى حدٍ ما فلم يلتقطه الآخر حتى فسره “أيـوب” بقوله التالي الذي أتى سريعًا إلى حدٍ ما كي لا يترك لعقل الآخر مجالًا للتفكير:
_أنا والدتي رحمة الله عليها متوفية وأنا طفل صغير، فتقدر تقول كدا إني حاسس باللي هنا كويس جدًا، ومدرك لحجم آلامهم النفسية، فأنا بالصدفة عرفت مكان الدار هنا وعرفت إنها بتحتاج مساعدات كتيرة، فأنا بطلب من حضرتك يوم كامل يكون بكامل تكاليفه عليا أنا، هجيب هدايا وألعاب وكل شيء البنات تحتاجه، ومعايا الدكتور “باسم” دكتور نفساني ومعاه طاقم كامل، هيتبرعوا اليوم كله بجلسات نفسية للدار هنا، بحيث إن البنات هنا تخرج لو جزء بسيط من تعبهم النفسي اللي بيعيشوه بسبب فقد الأهل، يعني من باب التهوين عليهم، وتكون فترة نقاهة كمان.
ولأن الجبان دومًا يخشى المساس بحدود جُرمه سيرفض حتى لو نقطة نورٍ تقترب من ظلامه، لذا أندفع برفضٍ قاطع يُعطي رفضه بقوله الجامد الخالي من شائبة لينٍ:
_لأ، للأسف الدار هنا بترفض أي نوع من الإيفينتات أو المناسبات أو الاحتفالات، حضرتك عاوز حاجة تقدمها ليهم تتفضل تتبرع لتطوير الدار، أو هدايا وملابس وألعاب، غير كدا الحقيقة مش بنقبل ودا من شروط الدار هنا.
تلاقت أعين الآخريْن سويًا في لقاءٍ عابرٍ لم يدم كثيرًا، وقد عاد “أيـوب” بنظراته للآخر يسأله بتروٍ عن سبب الرفض القاطع بتلك الطريقة:
_ممكن أعرف السبب؟ يعني دي المفروض خدمة لبنات الدار وأظن محدش طلب مقابل، فيه أماكن كتير بتسعى لتوفير حاجة زي دي وفيه مقترحات كمان إن المتابعة النفسية تكون أساسية في الملاجيء ودور الأيتام، حضرتك لو رافض أنا معايا ورق مختوم وكل شيء جاهز.
تململ الآخر في جلسته وبدأ يشعر بالضجر من وضعه بتلك الجلسة الملولة، بدأ الضيق يستولى عليه فجاوب مُتشدقًا بنزقٍ طاغٍ أقرب للجمود:
_السبب إني مش مستعد أخلي البنات هنا تجرب نوع جديد من المشاعر بعدين ترجع تفتقدها، مع احترامي ليك بس لما هما يتعودوا ويرجعوا تاني للي كانوا فيه، مين المسئول؟ الدار مش هتقدر توفر ليهم حاجة زي دي تاني، فالأفضل يكون كل شيء في المعقول، فلو عاوز تتبرع أتفضل، عاوز تجيب هدايا وأشياء مادية ليهم يكون أفضل كمان.
بدا كأنه يقوم ببناء الحوائط المنيعة أمام جيشٍ يحاول اختراق الحصون، فهم يحاولون وهو يستخدم الحِنكة الكلامية في سد المسارات عليهم، وقد هتف “باسم” بدهاءٍ كأنه يعلم هو مربط الفرس في ميدان المعركة الحامية:
_طب عندي اقتراح، إيه رأيك في يوم ترفيهي هنا؟ يعني نكرمك أنتَ لرعايتك للدار ولوقتك ونعملك حفلة هنا بحيث دا يشجع الناس للتبرع والهدايا وإنهم يكونوا عارفين المصدر، ومش بس كدا، دا فيه جمعيات خيرية كمان ممكن تجيب متطوعين وشباب ويعملوا تكريم ليك حتى البنات هنا تعرف إنك بتعمل دور كبير ليهم، دور عظيم كمان.
ولأن الحقير يحتاج لاحتفالٍ صاخب،
سيلهث ركضًا خلف التصفيق الكاذب…
وهو يحتاج لهذا الفعل، يحتاج أن يكون البطل المغوار في عين الناظرين، فبدلًا من الاختباء خلف مكتبه هكذا يقوم بدور الراعي، عليه أن يفعل شيئًا جديدًا، فلتوه يصعد لخشبة المسرح وتُرفع عن وقفته الستائر، ثم تزداد التصفيقات له، ثم الإضاءة التي تُميض وتخبو وهو بطل المسرحية صاحب الطلة الأخيرة فوق خشبة المسرح، ها هو يقف يتابع من علياءه احتفال العالم به، والبقية حوله يزعمون أنه البطل الحقيقي، فينشقع نور الغرور في الفؤاد الدَنس..
رسم عقله له الصورة الأساسية لاحتفالهم به ولظهور بطلًا مما يجعل أعين المُتربصين تبتعد عن خباياه، وبالطبع الأمر يصب في الصالح الخاص قبل العام؛ فكانت النتيجة بقول:
_تمام، ممكن حضراتكم تسيبوا أرقامكم ونظبط معاد مع بعض.
وهُنا طرق القاضي فوق المنصة وبات الحكم بعد المداولة، فإما الحُكم عدلًا، وإما الإنسياق خلفًا، وفي كلا الأمرين، طريق الحق مُضيءٌ رغم قلة سالكيه، ومع نظرة ارتياحٍ تبادلاها الاثنان سويًا، تلاها تبادل أرقام الهواتف الخلوية..
في الخارج استطاع أن يدخل المكان معهما لكنه فضل أن يبقى بالخارج كي لا يتقابل مع “هـاني” ويتم كشف أمره، وقد وقف يراقب الحديقة والمكان والفتيات الصغيرات بعينين مقهورتين، فمن يعلم عن شرور الظلم أكثر من ذائقه؟ هو اختبر أعتى المشاعر وأكثرها قهرًا، اختبر اليُتم، واختبر الغُربة، تجرع المُر، وترعرع في القسوة، والآن يرى زهرة صغيرة جميلة الملامح تُذكره بـ “چـودي”..
نفس الهيئة والخصلات الشقراء، ونفسها الأعين الزرقاء ونفس السن الصغير، فتاة في عمر الزهور، لكن الخريف ترك بصمته عليها بدلًا من الربيع، فتاة حزينة وشاردة تضم رُكبتيها لصدرها وعيناها تذهب وتعود بخوفٍ وارتياعٍ، وقبل أن يقترب منها وجد أحدىٰ المُشرفات تسحبها من ذراعها وتضمها لصفٍ مع الأُخريات من نفس العُمر الضائع في غياهب الظلام، وكأن الربيع تاه عن سُبلهن..
خرج “مُـنذر” من مكانه بذهنٍ شاردٍ ثم التقى مع الآخريْن وأخبراه بما فعلا بالداخل مع ذلك البغيض، وقد رحل قال “بـاسم” وهو يستعد للرحيل بدارجته البخارية:
_طب استأذن أنا علشان ورايا كباريه.
توسعت عينا “أيـوب” والتفت له بانشداهٍ كأنه يستنكر ما يسمعه فقام “بـاسم” باشعال سيجاره ثم قال بنبرةٍ يائسة لصديقه أن يخبر الآخر بحقيقة الأمر:
_أبقى فهم صاحبك يا عم “مُـنذر”.
تنهد”مُـنذر” بثقلٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_هو مش رايح بمزاجه يا “أيـوب” هو عليه مراقبة طول الوقت علشان كان في المعتقل، وعلشان كدا بيروح هناك يتوه العيون عنه ويتقي الشُبهات، وفي نفس الوقت الناس اللي بتساعدنا هناك، بس لازم نعمل كدا علشان ميتشكش فيه.
تاه “أيـوب” منهما لوهلةٍ ثم ابتسم بسخريةٍ موجعة وهو يرد مُعلقًا بقهرٍ وكمدٍ على حالٍ لم يتخيله بواقعه:
_اللي أعرفه كان زمان اللي يعوز يتقي الشُبهات وبيعمل حاجة حرام كان بيروح المسجد علشان الناس تعرف إنه راجل متقي وصالح، لكن اللي بيتقوا الشُبهات دلوقتي بيروحوا كباريه وسط الفواحش؟ ربنا يخرجنا منها على خير.
حرك “باسم” رأسه بيأسٍ ثم رحل بغير وداعٍ، بينما “مُـنذر” انتبه لعدم وجود السيارة الخاصة بالآخر فسأله بتعجبٍ:
_هي فين عربيتك اللي جيت بيها؟.
التفت له “أيـوب” وقال بعدما تنهد تنهيدة ممدودة:
_دي عربية طلبتها علشان مش معايا عربية لسه، هطلب واحدة دلوقتي وهتيجي علطول متقلقش، روح أنتَ شوف وراك إيه دلوقتي.
جلس “مُـنذر” فوق الدراجة ثم أشار له بقوله:
_أركب أنا هوصلك، يلَّا ومش عاوز رفض.
ابتسم له “أيـوب” ثم أمتطى الدراجة خلف الآخر ورأى أن هذا أسلم الحلول، فهو يود كسر الحواجز بينهما كي يكتسب ثقته حتى لا يفلت عُقاله من بين أنامله، ولأن تحالفهما هذا سينتج عنه الكثير من الأشياء، أول شيءٍ عليه أن يفعله هو توطيد العلاقة بشكلٍ واضحٍ قبل أن يعود من جديد للظلام..
__________________________________
<“لم نكن أخوة بالدمِ، لكنه أخٌ لقلبي”>
ليست كل الأخوة كانوا أخوة بالدمِ..
بل أكثرهم قُربًا للقلب كان بالحُبِ، فهذا هو صديقي ويشهد العالم أنه لقلبي أقرب من أخٍ، فهو يُقاسم قلبي الألم ويشاطر روحي الوجع، هذا هو بر الأمان وأنا الغريق التائه في بحرٍ لم أجد له بَـرًا أأمن به، فما الحياة إلا البحر القوي، وما المرء إلا ضعيفًا بغير ذويه..
_دا إيه دا إن شاء الله؟.
هدر بها “يـوسف” الذي وقف على أعتاب الصيدلية بعد عودته من عمله وللحظ العسير أنه في أوج غضبه، والسبب في انتهاء العقار الطبي الذي كتبه له “جَـواد” تزامنًا مع شجارٍ بالعملِ انتهى بعودته مُبكرًا ثم ذهب لهناك وياليته ما فعل، حيث وقف يتأهب لشجارٍ عاصفٍ وياللحظ السيء الذي يملكه من يقف أمامه، حيث رد “بهجت” بنبرةٍ جامدة:
_وسع من وشي أنتَ.
أنهى جملته وكاد أن يتحرك وهو يمسك بمرفق “مُـحي” الذي حتى الآن لم يقاومه وإنما التزم الصمت المُطبق على روحه وقد رفع رأسها للأعلى فوجدها تقف في الشرفة وهي تواري جسدها خلف الستار الرمادي الثقيل، لكنه رآها، وقد قام “يـوسف” بإبعاد الآخر عن “مُـحي” ثم قال بنبرةٍ جامدة بعدما وقف أمامه كالحصن المنيع:
_وسع أنتَ من سكته أحسنلك بدل ما ترجع تزعل مني، ولو أنا هسكتلك بس يبقى علشان فرق السن اللي ما بينا وعلشان خاطر الحج “عبدالقادر” مش أكتر، إنما غير كدا لأ، علشان أنا بطبعي مبحترمش حد.
كان الإنفعال باديًا عليه بشكلٍ واضحٍ وقد تعرف عليه “بهجت” وأدرك هويته فنطق بصوتٍ عالٍ مُشيرًا بكلماته على الآخر:
_طب اسمع بقى، صاحبك دا ولا قريبك ملهوش قعاد هنا، دا أخره معايا، واللي هو كان قاعد علشانه مش هينوله مهما يحصل، طالما هي كدا بقى، وزي ما قولت أنتَ شايل خاطر “عبدالقادر” فأنا شايل نفس الخاطر وخاطر “تَـيام” كمان، غير كدا محدش يزعل، وأظن كلامي واضح.
رفع “يـوسف” حاجبيه وسأله بسخريةٍ تهكمية كأنه يخبره أن الأمر لا يهمه ولا هو يكترث به ولا بكلماته:
_ولو مش شايلهم خاطر يعني؟ أنا مبتتهدش يا عمنا، اللي عندك أعمله، بس لو فكرت تقرب من أخويا متلومش غير نفسك وبس، أنتَ أو أي حد تبعك تاني، وطالما هي مش صيدلية اللي جابوكم يبقى محدش يقربله هنا.
في الواقع هو يتسم بوقاحة الطباع وطول اللسان، أما في نوبات الغضب فالأمر أكثر حِدة، لطالما كان شخصًا حدَّيًا وقع في فخ المرض اللعين فأصبح أسيرًا له، ولطالما كان هو صاحب الحق التفت لـ “مُـحي” وأشار نحو الداخل وهو يهدر بعنفٍ:
_على جوة يلَّا، شوف شغلك واللي يفكر يقرب منك عرفني وأنا موجود، لحد ما نشوف آخرتها إيه بقى مع العالم دي.
وفي تلك اللحظة أتى ابن عمها “وائل” ووقف أمام عمه كأنه يعلن نفسه خصمًا أمام “يـوسف” ثم هدر بانفعالٍ هو الآخر:
_أنتَ بتعلي صوتك على مين أنتَ؟ احترم نفسك وخليك فاكر إنك هنا مش في منطقتك، أنتَ مجرد واحد غريب ساكن هنا يبقى تحترم نفسك وتتكلم بالأدب مع أهل المكان، فاهم ولا تحب أفهمك أنا بطريقتي؟.
ضاقت عينا “يـوسف” كما ضاق به الحال ذرعًا وقد حث “مُـحي” للدخول ودفعه بخفةٍ داخل مقر عمله ثم هدر بلامبالاةٍ لمن يحدثه:
_أتحرق.
أنهى كلمته القاطعة ثم استعد للرحيل لكنه عاود الخُطى من جديد ووقف في مواجهة الشاب وأكمل بذات الوقاحة:
_وبجاز وسخ.
ساد التحدي بين نظراتهما وقد تنهد “مُـحي” بقوةٍ ثم وقف بمحاذاة “يـوسف” وقال بنبرة صوتٍ متباينة بين الهدوء والثقل بما يحمله فوق روحه من همٍ لا يُحتمل:
_رَّوح أنتَ يا “يـوسف” خلاص مفيش حاجة، أكيد دا سوء تفاهم وأنا هقدر أحله ولو أحتاجتك هكلمك، شكرًا يا أخويا.
تعمد أن يتكيء على كلمته الأخيرة وقد وقف “يـوسف” أمامه يوزع نظراته بينهم ثم التفت لوالدها وقال بنبرةٍ جامدة أقرب للأمر القاطع:
_من غير ما أعرف إيه هي أسبابك بقولك أهو ولو قربت منه تاني أنتَ واللي تبعك هزعلك جامد، وعنوان كبيري أنتَ عارفه، ودا آخركم عندي، أبعدوا بقى عن سكتي علشان صدقوني كلكم هتتفاجئوا بيا، وأنا حجم أخلاقي مش كبير كفاية علشان أسكت لحد محتاج يتأدب.
أنهى الحديث ثم غادر قبل أن يفعل ما لم يُحمد عقباه، أولاهم الدُبر ورحل عن الجميع يتوجه نحو شقته يلوذ بنفسه من براثن رأسه في بيته، يهرب لكنفٍ آمنٍ، ولج شقته بخطواتٍ هادئة وما إن وطأ بقدمه الشقة كان يبحث عنها هي، يبحث عن الوتين الأشد منه أمام ضعف نفسه وكان هذا أفضل ما فعله هو..
كانت تقف بالمطبخ تُعد الطعام له قبل أن يأتي من عمله وقد شعرت هي به خلفها من خلال صوت أنفاسه فالتفتت له تسأله بعينيها عن حالته تلك فوجدته يرتمي برأسه فوق كتفها، ألقى بحمله وفقط التزم بالصمت، أما هي فمسحت فوق ظهره برقةٍ ثم قالت بصوتٍ هاديءٍ مُراعاةً لضجيج رأسه:
_مالك بس يا “يـوسف”؟ مش كنت كويس إمبارح وراجعين مبسوطين مع بعض؟ فيه حاجة مزعلاك طيب؟.
تنهد بثقلٍ ثم ابتعد عنها ونطق بصوتٍ مبحوحٍ:
_أنا هسافر قريب، علشان فيه مشكلة ولازم أروح أشوفها في آلات البترول والمُعدات بتاعة المَكن هناك، بس مقداميش حل تاني وأنا مش عاوز أروح هناك، أنا ما صدقت ألاقي هنا مكان ليا.
لاحظت شتات نظراته وارتجاف كفه وعلو صوت أنفاسه فعلمت أن السبب في نوبة غضبٍ قادمة عليها أن تحتويها هي، لذا أمسكت كفه وقالت بثباتٍ واستبسالٍ:
_طب وفيها إيه؟ هما كام يوم وهترجع تاني هتلاقيني هنا مستنياك وأنتَ هتشتغل وتعمل الحاجة اللي بتحبها، مش دا شغلك اللي قولت إنك بتحبه علشان بتكون في الموقع؟ هتروح وتعمل حاجة بتحبها ولو عليا متقلقش هروح عند ماما ومش هقعد لوحدي من غيرك هنا، يعني هكون في أمان كمان، أنتَ إيه مشكلتك؟.
حاول أن يقتبس بعضًا من الهدوء الذي تتحدث هي به فسحب نفسًا عميقًا ثم جاوبها بتيهٍ لم يسترشد هو منه:
_مشكلتي في دماغي وأنا لوحدي، طول ما أنا هناك بكون لوحدي ومبترحمش من اللي بيحصل فيا، مشاكلي هناك كتيرة وبكون علطول عصبي وصعب أوي لدرجة إنهم بقوا بيبعتوني أنا هناك علشان عارفين إني هجيب نتيجة، الناس هناك بتخاف مني، وأنا بخاف من نفسي.
تلك المرة هي ترى فيه الطفل الذي يبغض طفولته، ترى بعينيها خوفه من العالم البشع، ترى تيه الرجل الذي ضل السُبل، أشفقت عليه كثيرًا لكنها حاولت أن تمسك بكفه وتنتشله من بؤرة الظلام تلك بقولها:
_متخافش علشان الوضع أختلف، تليفوني هيكون مفتوح علطول وأي وقت تكلمني هتلاقيني، هرد عليك وأكون معاك، كلم مامتك وأضحك معاها، أو أقولك؟ كلم “قـمر” خليها تضحكك شوية وهي بتناقر فيك، كلم “أيـوب” خليه يقويك بكلامه، كلم صحابك عند عمو “نَـعيم” محدش فينا ممكن ميردش عليك، الوضع دلوقتى أختلف خالص، أنتَ مش لوحدك، كلنا معاك وأنا قبل الكل علشانك.
تنهد بقوةٍ ثم ضمها له من جديد وعاد يلتزم الصمت، لا يجد هو ما يقوله لكن رأسه تزبد بالكثير من الكلام وكأنه يثبط من عزيمة نفسه، كُلما حاول أن يدعم نفسه وجد رأسه تُعيده لنقطة الصفر من جديد، تذكر أمر العقار الطبي المُنتهي فابتعد عنها يهتف بلهفةٍ:
_أنا نسيت العلاج، من غيره مش هبقى كويس.
مسحت هي فوق ذراعه وابتسمت بحنوٍ وقالت:
_أنتِ شايل معايا شريط احتياطي، خد منه دلوقتي وأبقى أنزل هات كمان شوية واحد تاني غيره، أنا هكمل الغدا وأنتَ ألحق صلي قبل المغرب يأذن، العصر كدا هيفوتك، يلا وسلم أمرك لربنا، الشغل دا أكيد في صالحك أنتَ.
أومأ موافقًا ثم بادل بسمتها بأخرى أهدأ ورحل، لم يجد من الكلام ما يُنصفها به ولم يجد من الأحرف ما يُوضع أمام حُسنها، هي تبدو له كرحمة من الخالق، وهو لا يفعل شيئًا سوى أنه يحمد خالقه على نعمة وجودها معه، هي الأفضل دومًا وأبدًا، وكأن الحياة فعلت ما فعلته به ليتهيأ كي يلتقي بها هي، والحياة لأجلها هي وبها تُسمى حياة..
__________________________________
<“صاحب الشر يضمره في نفسه لنفسه”>
من كان يكتم في سريرته شرًا بالتأكيد يحمله لنفسه قبل الآخرين، فهو صدقًا لم ينتبه أن أول ذائقٍ لذاك المصير لم يكن غيره هو، يفعل ما يحلو له ويُزيد من شره وفي نهاية المطاف كل ما فعله سوف يقع في طريقه هو أول شيءٍ..
بعد مرور ساعة..
أو رُبما أقل من ذلك كان “مُـحي” جالسًا فوق المقعد بعمله وحاله حقًا يثير لأجله الشفقة، كره والدها غير مُفسرٍ له والأسباب بدت مُبهمة، لم ينس نظرة عينيها له من الشُرفة وهي تخبره خفيةً بعذرٍ لم يفهم سببًا له، لكنه حقًا لا يفهم أي جُرمٍ فعل له كي يرى تلك الكراهية منه..
في الأعلى كانت هي حبيسة غرفتها بصمتٍ وهي تكره كل ما آلت إليه الأوضاع الأخيرة، تكره سيرتها المُكررة على لسان عائلتها، وتكره أفعال والدها، وتكره الخاطب الجديد، ولا تُحب إلا ذاك الذي يتعذب بسبب حبٍ لم يُكتَب لهما، وبالطبع قطعة الألماس اللامعة إذا أتى أحدهم بسيرتها سيكون الأمر فوق طبقٍ من فضة لكل كارهٍ لها، وابن عمها لم يُمرر الأمر وإنما ذاع الخبر في العائلة بشأن شجار والدها مع أحد الشباب بسبب الابنة المُحترمة، والكارهين يرددون الحديث شامتين بها..
بكت ونشغ بكاؤها بصوتٍ مسموعٍ حتى ولجت أمها لها وهي تقول بأسىٰ تضامنًا معها ومع حُزنها:
_تعالي برة أبوكِ عاوزك.
توسعت عيناها بهلعٍ وجف حلقها لكنها تحاملت على نفسها وارتدت الخمار وخرجت وهي تُنكس رأسها للأسفل وقد غضت بصرها عن ابن عمها البغيض الذي لوك سيرتها مثل العلكةِ بالفمِ فتحدث والدها بلهجةٍ صلدة:
_أنا لحد دلوقتي ساكت ومتكلمتش معاكِ، بس أنا مش هسكت أكتر من كدا، “وائل” ابن عمك قالي إنه شاف الواد دا في المستشفى يوم حادثة “أيـوب” وقالي إنك جيتي معاه بالعربية مع “آيـات” ولما عدى من كام يوم من هنا شافه في الصيدلية، وقالي خد بالك منه أنا مش مرتاحله، وجه “تَـيام” لما عرف إنك جايلك عريس طلبك ليه، كل دا معناه حاجة واحدة، إن فيه بينكم حاجة وأنا آخر من يعلم، وعلشان مبقاش ظالم، خليت ابن عمك يسأل عنه، وكفاية أوي اللي عرفته، أظن أنا كدا عملت اللي عليا بزيادة.
رفعت رأسها نحو والدها الذي تولى مهمة القاضي وأصدر حكمه ضدها وقد هرعت العَبرات من عينيها، هي الآن تقف بموضع الجانية ويتوجب عليها أن تُكفر عن ذنوبٍ لم تقترفها، بينما ابن عمها تحدث بثباتٍ يرسم به وقارًا غير موجودٍ في طباعه:
_إحنا بناتنا غاليين يا عمي مش بنفرط فيهم لأي حد، وإذا كانت “جـنة” لسه صغيرة مش مدركة حاجة فواجب عليا بما إني أخوها الكبير إني أحافظ عليها، وعلشان كدا بقولك أهو أتطمن أنا هفضل معاك لحد ما نسلمها لعريسها ونفرح بيها، وهي عاقلة وهتسمع الكلام.
والقهر يمتد لأبعد عُمقٍ بالقلب ويسكن فيه، فهي حتى الآن لم تفهم لما تُعامل بمثل تلك الطريقة، ولما يتم وضعها بتلك الصورة؟ فقط لأجل مشاعر حديثة اجتاحتها كفتاةٍ لم تلقَ اهتمامًا هكذا من ذي قبل؟ أكان يتوجب على قلبها أن يكرهه في حين أن الآخر كان يفعل كل شيءٍ كي يصل لها؟ تنهدت بثقلٍ وهي ترى والدها ينسحب من مكانه وظل ابن عمها جالسًا بموضعه ثم وقف في مواجهتها وهو يقول بثباتٍ:
_أظن يعني كدا مفيش حد أحسن من حد، فاكرة نفسك ملاك مبيغلطش وشايفة نفسك على الكل ليه مش فاهم، مش علشان لابسة محترم وواسع هتعيشي الدور، تخيلي كدا كل بنات العيلة لما يعرفوا بقى؟ هيشمتوا فيكِ، لو منك أوافق على “مهند” وكفاية فضايح أوي لحد كدا، أظن أنتِ عاقلة بما فيه الكفاية وعارفة مصلحتك فين يا عروسة.
ببغضٍ رفعت عينيها له فوجدته يبتسم لها باستفزازٍ جعلها تستغفر ربها بدلًا عن سبه بأفظع الشتائم وقد ازدردت ريقها ثم قالت بنبرةٍ خاوية تمامًا كأنها مُبرمجة:
_ألف شكر يا ابن الأصول، على ما أظن برضه إنك راجل محترم ومتربي وعارف إن عرض الناس مش مجال للكلام، فتخيل عرض بنت عمك بقى؟ تصدق أنا كنت ساعات بستغرب عمايل “مُـحي” وبقول إزاي بيتصرف كدا، بس دلوقتي اتأكدت أنه أنضف منك، علشان لما فهم طبعي معملش حاجة تخلي حد زيك يجيب في سيرتي.
_لأ يا شيخة؟.
هكذا رد عليها يُقاطع حديثها ثم قال بسخريةٍ أكبر:
_بيقولوا مراية الحب عامية، بس واضح كدا إن مرايتك أنتِ متكسرة ١٠٠ حتة، دا جاي يشتغل تحت بيتك، يعني بيقول للي ميعرفش يعرف وياخد باله، خمار إيه بقى اللي أنتِ لابساه وقرآن إيه اللي أنتِ حفظاه وأنتِ ماشية معاه من ورا أهلك؟.
أغتاظت منه وأول شيءٍ فعلته؛ أولته ظهرها كي تهرب من وقاحته التي لم تكف عن الازدياد أكثر، لقد أصبح الأمر لا يُحتمل ولا يُطاق والآن تود فصل رأسه عن جسده، ولجت غرفتها واستندت على الباب من الخلف تبدأ في وصلة بكاءٍ لا تنقطع حتى أتاها صوت والدها من الخلف يُهاتف “مُـهند” وحينها تحركت نحو الفراش ترتمي عليه ثم كتمت صوت بكائها بالوسادة ووجعها بكل أسفٍ بداخلها لم تجد له كاتمًا.
__________________________________
<“الليل أتى على ساهرٍ فأيقظ ذكرياته”>
الذكريات لا تموت، وإنما هي كما القط بأكثر من روحٍ..
وبالأخص تلك الذكريات الأليمة التي تخفت فقط ومع أقل هجمة من رياحٍ عاتية يزداد لهيبها، أو رُبما الذكريات تشبه حقًا القط بسبعة أرواحٍ وكُلما ظننا أنها لقت حتفها، نتفاجأ بها من جديد حُرة من غير قيودٍ وهي تطيء بقدمها أرض حاضرنا..
خيم الليل على المكان وعلى الجميع، و “أيـوب” رقد فوق الفراش بعد أن عاد من المسجد لكنه لم يجد النوم، وكأنه هجرهُ وتركه أسيرًا في الماضي، وذكرى تليها الأخرى وأخرى معها الأخرىٰ وهو كُلما أغمض عينيه عاد من جديد يفتحهما خوفًا من تكرار الألم بكلا نوعيه، سواء كان نفسيًا أو جسديًا، عاد ظهره يؤلمه وكأن نصل الزجاج يمر فوق جلده، رؤيته للدار عادت له بأسوأ لحظاته فانتفض من موضعه يمسح فوق وجهه ثم استغفر ربه سرًا واستعاذ من شيطانه..
بحث بعينيه عنها فلم يجدها بجواره، عاد واستلقى فوق الفراش يزفر بمللٍ حتى ولجت هي الغرفة ثم خلعت الخمار البيتي وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_نشرت الهدوم أهو بكرة بقى نبقى نكويها، شوفت الشطارة؟ أنا ست بيت من يومي على فكرة وبعمل كل حاجة في يوم واحد عادي جدًا، إيه رأيك؟.
أجبر شفتيه على التبسم لها ثم قال بصوتٍ مليء بالضياع كأنه لم يعطيها أي تركيزٍ بالكلامِ:
_ربنا يبارك فيكِ ويجعله في ميزان حسناتك، لو عوزتي حاجة عرفيني أساعدك فيها وأنا مش هتأخر، بدل الحمل ما يكون عليكِ لوحدك.
ضيقت جفونها بتعجبٍ ثم أمسكت وجهه وأعادته لها وهي تسأله بحيرةٍ من طيلة صمته وزيغ نظراته:
_أنتَ مالك مش مركز معايا ليه طيب، فيك حاجة صح؟.
طالت النظرات بينهما ولم يجد ما يُقال فالتزم الصمت؛ وحينها مسحت هي فوق كتفه ثم سألته بهدوءٍ:
_قولي طيب مالك ومين مزعلك؟ أنتَ من ساعة ما رجعت وأنتَ سرحان وكأنك في عالم تاني، أتخانقت مع حد برة؟.
حرك رأسه نفيًا لها ثم رد بنبرةٍ شبه ميتة:
_الدنيا دي مضيقاني، حالها غريب وناسها أغرب كمان، مش فاهم ليه ممكن حد يأذي حد غيره ملهوش ذنب في حاجة لمجرد مصالح شخصية في دنيا مش دايمة؟ يعني مثلًا ليه حد يحقد على غيره وليه حد يستغل اسم حد غيره؟ وليه حد تاني يتاجر بأرواح الناس كأنها ملكه؟ وليه اللي زيي مينفعش يعمل أي حاجة تخليه إنسان حر؟ ليه معايا العلاج ومينفعش إني أديه للناس؟.
ازدادت الريبة التي انتابتها منذ أن وقعت عيناها عليه، فوجدته يُضيف بسخريةٍ موجعة:
_عارفة؟ أنا لو بشكلي وحياتي دي والعلم اللي ربنا كرمني بيه حاولت أساعد الناس وأنصحهم وآخد بأيدهم، هيتقبض عليا تاني يوم، وهشوف اللي شوفته ومش عارف أنساه، بس لو أنا هلاس وبعلم الناس الرقص والأغاني والعُري، يا سلام هاخد جايزة ويعملوني أماثل في كل سيرة، أنا اللي زيي حمله تقيل علشان الدنيا سجنه، سجن وهو لا بأيده يجيب الحقوق ولا ضميره هيساعده يسكت، أنا متضايق، ونفسي أحس شوية إني قادر أرتاح هنا.
مدت كفها تُربت فوق كتفه تمسح عليه ثم قالت بحزنٍ لأجله كأنه تطلع على فؤاده وتبصر حاله:
_صدقني أنا يمكن أكون مش فاهمة قصدك بالتحديد بس ربنا يعلم إني لو بأيدي حاجة مش هتأخر عنك بيها، قولي يريحك إيه وأنا أعمله ليك، حتى لو وجودي مش هيريحك قو….
قاطعها حينما أقترب منها يُلثم جبينها بُغتةً وقد طالعته بتعجبٍ من فعله فتنهد هو ثم قال بنبرةٍ دافئة عكس الأخرى سابقتها:
_وجودك هو اللي بيريحني دلوقتي، كل ما أكون برة وأفتكر أي حاجة وحشة برجع أفتكر إنك معايا هنا، بعدين أنا مش قصدي على كدا، أنا قصدي إني ملزوم بدور ومحروم من إني أقوم بيه، والله العظيم والله العظيم اللي عمري ما هحلف بيه كدب، أنا حاسس إني لقيت معاكِ “أيـوب” اللي ضاع مني بعد موت “رُقـية” وملقتهوش تاني، فيكِ منها كتير، ودا اللي مطمني على نفسي.
لمعت عيناها بالعبرات تأثرًا بحديثه وقد لمح هو العبرات تكون غُلافًا شفافًا فوق المُقل فمد إبهامه يمسح كلتا عينيها بالتوالي ثم تنهد بقوةٍ وقال بنبرةٍ هادئة:
_متعيطيش، دا حقك عليا إني أقول الحق وأشهد بيه ليكِ، يعلم ربنا إن اللي في قلبي ليكِ كتير أوي وأنا مش هقدر أنكره، يمكن مش بعرف أتكلم كتير، بس أنتِ حاسة بيا صح؟ فاهمة أني… أني بحبك صح؟.
أومأت له موافقةً فوجدته يضع رأسه فوق كتفها وقد ازداد انشداهها بما فعل وسألته بتيهٍ وهي تشعر بالمسئولية تجاهه:
_قولي طيب أريحك إزاي؟.
تنهد هو بقوةٍ وأضطربت أنفاسه وهو يقول بصوتٍ مضطربٍ مثل أنفاسه المُتلاحقة:
_ينفع تطبطبي على ضهري زي المرة اللي فاتت؟.
والطلب هنا أتى بهيئة رجاءٍ كأنه يتوسلها أن تساهم بحاضره في تحدي ماضيه وقد لمحت هي الألم في صوته فأخفت دمعاتها ثم مسحت فوق ظهره بكفٍ مرتجفٍ وبداخلها تتمنى أن ألمه يزول، تتمنى أن تُساهم في إبعاد حزنه، بينما هو فأغمض عينيه وتخيل أن كفها ماهو إلا المصل المُضاد لجراحه التي لم تندمل مع مرور الزمن، سكت وانتزع نفسه من ماضيه وركض لها في حاضره وهي تعلم كيف تتولى التصرف لأجله، وفي بلاغة القول أكثر ما كان يصفهما كان:
_أتيتُكَ من غُربتي
فلا تكوني كما بلادي وتؤذيني،
كوني لي أنتِ بلدًا آمنًا،
فأني أتيتُكِ تائهًا وعن حدودك الآمنة لا تُنفيني.
__________________________________
<“لأنكَ كنت ولازلت جيشي الوحيد، أنا أحتمي بكَ”>
في القوانين المُتعارف عليها لدى البشر؛
من كان داعمًا في السيء قبل الحلو هو من يستحق أن يكون جيشًا للمرء في ضعفه قبل قوته، ولأن مشاركة الجيش كانت أمرًا واجبًا، يتوجب على كل إمرءٍ أن يشارك جيشه في هزائمه قبل نصره…
في جُنح الليل نجلس ساهرين تحت وطأة أحلام غريبة، فلا هي قريبة كي يسهل تحقيقها ولا هي بعيدة حتى نستطع نسيانها، وإنما هي تتركنا عالقين في المنتصف حيث اللامفر منها وهي الأمر المُحتم مواجهته، فهل لو كان الأمر بيدنا كنا أخترنا ما يتوجب علينا أن نشعر به؟ أم أن الأمر مجرد اجتياحٍ ومر؟…
كان “مُـنذر” يجلس فوق صخرة قريبة من البيت بصمتٍ تام وسكونٍ وعيناه لم تبرح موضع نجوم السماء، يجلس حالمًا في حياةٍ بعيدة عنه، لتوهِ رأى “إسماعيل” يضحك في الهاتف مع زوجته والسعادة مرسومة فوق ملامحه وهو يختار أثاث شقته بسعادةٍ، ثم بعدها رأى “إيـهاب” يجلس برفقة ابنته وزوجته ويبدو أنه أحب البيت مؤخرًا منذ أن أتته “دهـب”…
ابتسم بنعومةٍ ثم أطلق زفرة قوية حينما سرى طيف “فُـلة” أمام عينيه ففتح هاتفه يُطالع صورتها برفقة القط الخاص بها، جال بعينيه في ملامحها ثم تنهد بقوةٍ يدخل الهواء رئتيه كي يُزاحم همومه ووجد البسمة تتسع رغمًا عنه فتذكر حياته برمتها وهتف بخيبة أملٍ من نفسه:
_ياريتك كنتِ جيتي ليا في زمن تاني،
يمكن حياتي معاكِ كانت أختلفت كتير عن دلوقتي..
أغمض عينيه بعد أن أحتفظ بصورتها بين الجفون والرموش، ثم ترك نفسه للخيال حيث حلمه الذي لم يبرح خياله معها، فهي تركض وسط الحقول وهو خلفها وصوت الضحكات العالية يصدح في المكانِ ويرنو عاليًا وكأنها تنتشله من خراب الخريف نحو ربيع العمر..
ولأن القلوب تتقاسم في الأحلام وتتشارك بالهيام..
كانت تماثله في جلسته هي الأخرى بشرفتها، كانت تدون اسمه في صفحات دفترها وأول حرفٍ من اسمه وخلفها تركت المذياع يصدح بأغنية تحبها هي فتركت القلم ثم لفت الوشاح الصوفي حول جسدها وعادت للخلف تتذكره تزامنًا مع كلمات الأغنية وهي تقول:
_على بالي ولا أنتَ داري باللي جرالي..
والليالي سنين طويلة سيبتهالي،
يا إنشغالي بكل كلمة قولتهالي،
على بالي ولا أنتَ داري باللي جرالي
والليالي سنين طويلة سيبتهالي..
أغرورقت عيناها ما إن تذكرته وتذكرت ماضيه المؤلم؛ فتنهدت بثقلٍ وتركت نفسها لنوبة البكاء لأجله هو، رأته صغيرًا في أوج الاحتياج لذراعين آمنين لكنه كل الأذرع الممدودة كانت فقط تتعدى على طفولته، رأته يبحث عن الدفء فيلقى بوسط الحرائق وكأن الغاية تُبرر الوسيلة، تمنت أن تفتح له ذراعيها وتضمه بعيدًا عن قسوة العالم، تمنت أن تكون هي أأمن المدائن له، وياليت التمني كان ممكنًا..
مر “جـواد” من جوارها فوقف يراقبها وما إن لمح عينيها الباكيتين ولج لها بخطواتٍ هادئة جعلتها تنتبه له فزفرت بقوةٍ بينما هو فسحب نفسًا عميقًا ثم جلس بقربها وقال مُقررًا أكثر من كونه مستفسرًا:
_العيون دي بتعيط بسبب الحب صح؟.
أومأت له بغير كذبٍ فابتسم هو ثم فتح لها ذراعه وملامح اليأس مرتسمة فوق وجهه وما إن ألقت بنفسها بين ذراعه وصدره تتكيء عليه كما الحائط، ضمها هو له ثم مسح فوق خصلاتها وقال بحنوٍ كأبٍ وليس أخًا وكأنه فاق أباه في دوره:
_طب وبنوتي الحلوة هتقولي ولا تخبي؟.
ولأجل الجُرعة المفرطة من الحنان منه وقعت هي أسيرة الحنو والهدوء، التزمت الصمت لثوانٍ ثم قالت بنبرةٍ باكية حينما ابتعدت عنه وأخبرته بما يتوجب عليه أن يعلمه:
_”مُـنذر” عرفني على حياته كلها قبل ما ييجي هنا، وأنا زعلانة علشان هو شاف حاجات كتيرة أوي كانت صعبة على طفل أنه يتحملها، زعلانة علشانه وعلشان أنا بيصعب عليا أي طفل يتعرض لحياة صعبة، وهو مشافش شوية، اللي شافه كان صعب ولا يُحتمل، وأنا معنديش حاجة أقدمها ليه، ولاغية عقلي علشانه.
وهو أدرى الناس بحالها، يعلم بيقينٍ ماهي عليه، كما أنه يعلم أن خبايا الأمر لم تظهر بعد، يعلم أنها تعمدت إخفاء الحقيقة فقال بدهاءٍ بدا واضحًا فوق ملامحه:
_وهو دا بس اللي عرفتيه؟ عامةً يعني أنا عارف كل حاجة عنه، عمه قبل ما ييجي يتقدم ليكِ ويطلبك ليه جه هنا وصارحني بكل حاجة، قالي على اللي حصل كله وقالي إنه مش هيخفي ويكدب لأنه مش من النوع اللي يوصل باللوع، وأنا علشان جميله في رقبتي ومساعدته ليا أيام المستشفى كان لا يمكن أخذله، خصوصًا إن “مُـنذر” نفسه مش وحش، ولما عاش وسط الناس اتعامل عادي جدًا، والسبب التاني اللي خلاني أتعامل بنضج، هو إنك حبيتيه وأنا شوفتها في عينيكِ، ولأني دوري حاليًا كأب في حياتك كان واجب عليا أحميكِ من الزعل، أنتِ بقى هتختاري إيه؟.
والسؤال هُنا أعم وأشمل من كل الحكايا التي يمكن أن تحمل مجرد نهايات ختامية لقصص فريدة من نوعها، فقالت هي بصوتٍ باكٍ أضناها العشق:
_هختاره هو، مش بأيدي بس مش عاوزة غيره، وأنتَ موافق صح؟ صدقني أنا اللي جوايا هيتصلح بيه هو، أنتَ أكتر واحد عارف حصلي إيه على أيد عمك، مش قادرة أثق في حد تاني غيره هو، نفسي أجرب أكون متطمنة، وقلبي بيقولي إنه رغم كل حاجة هيقدر يطمني يا “جـواد”.
ولأنه قبل أن يكون أخًا حصل على درجة هائلة في الطب النفسي فقربها له أكثر ثم مسح فوق خصلاتها وقال مؤازرًا لها:
_يبقى أختاريه هو، خليكِ نسخة تانية من الدنيا اللي هو ميعرفش حاجة عنها، أكيد مش هييجي أوسخ من عيلة أبوكِ والعار اللي ملازمنا بسببهم، لو هتقدري يبقى مدي إيدك في أيده وأنا واقف في ضهرك، مش هسيبك.
ازداد بكاؤها وهي تندس بين ذراعيه وقد شدد هو ضمته لها ثم مسح فوق خصلاتها ومشاعره نحوها تزداد حُبًا، يدعمها فيما تفعل لطالما كان أعلم الناس بمصائب العشق في حياة المرء، وإن لم تأخذ من تلك المصائب درعًا لها، حتمًا سيكون هذا الدرع ضدًا وندًا لها..
__________________________________
<“إذا كنت تنوي الرحيل فرُدَّ لي نفسي التي معك”>
لتوك أخترت أنتَ الرحيل
وكأنكَ تهواه وتراه خير السبيل..
ألم يسري طيفي أمام عينيك؟
ألم تبحث لأجلي عن البديل؟
لقد زار حيينا الميت هوىٰ عشقك
فأصبح قلبي بهواك حيًا لكنه عليل،
بربك قُل لي أكان حُبي لكَ ذنبًا؟
أم أنك فقط تحتاج لكي تصدق بالدليل؟..
أمر الرحيل يُصبح محتومًا..
حينما يكون القلب ممن أحب مكلومًا، وهو اختار الرحيل ولن يتراجع متقهقرًا، فبعد مرور يومين بدأ “عُـدي” في تجهيز الأوراق الخاصة بانتقاله لواحدةٍ من دول الخليج العربي كي يبدأ بما يتمنى هو، وقد وقع في حاجة ورقة أخرى خاصة بعمله السابق فبدأ يتحرك كي يُحضرها ويضعها بملفه، والأمر لن يتم دون معاونة “مادلين” و “نـادر” الذي أقنعها أخيرًا أن تفعلها..
وصل “عُـدي” الشركة وهو يتواصل مع “نـادر” الذي أخبره وهو يمسك الورقة بيديه وخرج لتوه من مكتب “مادلين” وطمئن رفيقه بقوله:
_خلاص الورقة معايا أهيه، تعالى خدها علشان تلحق تبعتها قبل الليلة، مع إني بتمنى متلحقش بصراحة.
تململ الآخر في المكالمة وهو يعبر داخل الشركة ثم قال بنبرةٍ خاوية وكأنه فقد كل ذرة حياة به حتى ولو بصوته:
_يادي النيلة عليا، أبوس أيدك أركن الصعبنيات على جنب مش هتأكلنا عيش خلاص، أسبوع وحصلني خلينا نبدأ من جديد وصح المرة دي، صدقني الحياة فرمتنا بما فيه الكفاية، خلينا نهرب من العالم دا بقى.
_على رأيك، حتى أهو نعتزل ما يؤذينا بالمرة.
هكذا رد عليه حينما لمحه يقترب منه ثم أغلق الهاتف معه وتحرك نحوه يسلمه الورقة ثم قال بأسى تضامنًا مع في رحلة حزنه الشاقة التي بدأ هو بأخذ الخطوات نحوها، وما إن التقط “عُـدي” منه الورقة تنهد بقوةٍ ثم قال بأسفٍ:
_عارف إننا ملحقناش نكون مع بعض هنا كتير، بس صدقني أنا عاوز أرتاح، أنتَ صاحبي وهتساعدني أرتاح متصعبهاش عليا، بعدين هما سنتين وهرجع مش كتير يعني.
رفع “نـادر” حاجبيه باستنكارٍ وسأله بغير تصديقٍ:
_أنتَ عبيط يالا؟ سنتين إيه اللي مش كتير؟ هو العمر فيه كام سنة علشان تضيع منهم سنتين في تجربة جديدة خطواتها صعبة ونتايجها مش مضمونة؟ أنتِ ليه أحوالك مش مفهومة كدا؟ وليه أنتَ نفسك مش مفهوم؟.
زفر “عُـدي” بقوةٍ ثم رفع كفه يمرره فوق عنقه ونهاية خصلاته حتى استقر كفه فأضاف هو بحيرةٍ في أمره:
_مش مهم كل حاجة تكون مفهومة، ساعات الفهم بيتعب ونرجع نقول ياريتنا ما فهمنا، سيب الحاجة اللي مش فاهمها أحسن علشان لو فهمت هتتعب، وأنا متعابنيش غير إني فهمت، يمكن كان متأخر بس فهمت.
تنهد “نـادر” ثم ربت فوق كتفه وقال بسخريةٍ موجعة:
_ماظنش إن “مصطفى الراوي” كان ممكن يتخيل إن عياله يتعبوا كدا؟ فاكر لما كان بيقول أنا عاوزكم تقفوا جنب بعض ومع بعض؛ مش في وش بعض؟ أهو أنا دلوقتي واقف بودعك علشان هتمشي بعدما لقيتك من تاني، بس لو هتسافر وترتاح، يبقى سافر خلاص.
في تلك اللحظة أتت هي من الخلف، أتت فجأةً وهو لا يعلم أنها هُنا وقد وقف “نـادر” يوزع نظراته بينهما فالتفت لها “عُـدي” وطالعها بخيبة أملٍ كأنه يتهمها بالذنب فيما آل إليه حاله، بينما هي تحاملت على نفسها وسألته بصوتٍ باكٍ:
_هو أنتَ هتسافر خلاص بجد؟.
نظر لرفيقه أولًا ثم نظر لها هي وأومأ موافقًا، وفي تلك اللحظة غامت عيناها الزرقاوتان بأمواجٍ من البكاء الذي بدأ يداهمها وسألته بصوتٍ باكٍ:
_طب ليه؟.
في تلك الحظة أنسحب “نـادر” من بينهما ينزوي بعيدًا عنهما وقد تنهد “عُـدي” ثم نطق بثقلٍ:
_علشان مبقاش ليا حاجة هنا خلاص، أحلامي كلها حبر على ورق مش أكتر، واللي بعوزه دايمًا مش عاوزني، فليه أصعبها على نفسي؟ خليني ألحق اللي فاضل من أحلامي يمكن أجرب طعم الراحة شوية، وصدقيني أنتِ مالكيش ذنب، بس أنا اللي بالغت في الأحلام، مين في الدنيا دي طال النجوم؟.
هرعت العَبرات منها أمامه وهي تُطالعه بتيهٍ فوجدته يوليها ظهره ثم التفت تلك المرة وتحامل على نفسه كي يلوذ بفرارٍ، بينما هي هرولت خلفه بسرعةٍ رغم تشوش عينيها بالبكاء، ولسوء حظها تجمد لسانها عن العمل فلم تقوْ على التفوه إنما واصلت ركضها خلفه؛ حتى سقطت رغمًا عنها أرضًا فوق رُكبتيها فأنفجرت باكية بصوتٍ عالٍ كأنها طفلة صغيرة تعثرت بالطريق ولم تجد عونًا لها، هو رحل وهرب منها، وهي ركضت تُلاحقه بدون جدوىٰ..
هو سبق وتشبث بكفها وهي بكل آسفٍ تركت كفه في المنتصف، هو حلم حُلمًا حولته هي لكابوسٍ، وحديث القلب كان خير دليلٍ حين تفوه بألمٍ:
_إن كان الحب ذنبًا فأنتَ فاعله،
وإن كان الهوىٰ جُرمًا فأنتَ مماثله،
فماذا فعلنا وكيف هوينا وسقطنا دون
أن ندري أننا هوينا؟، فقُل لي لما أنتَ
تهوى وتُحب؟ وأنا من يقع عليه عبء الذنب؟.
__________________________________
<“لأنك لا تعرف من نحن، عليك أن تسأل أولًا”>
إن أتاك الثعلب كي يمكر عليك..
راقصه كما لو كنت ثعبانًا، فمن أراد أن يلعب عليه أن يدرس فنون اللعب جيدًا، ومن كان لا يعرف قوانين اللعبة سنكتب له دستورًا كاملًا، وحينها هو سيرفع لنا القُبعة..
نُثابر ونصبر لأجل الحياة التي نُحب، ولأجل من نُحب..
نجلس عنوةً مع الأيام، ونصادق رغمًا عنا الحياة، نقف تارةً على الأبواب، وتارةً أخرى نرغب في الغياب، وفي كل ذلك بداخل كلٍ منا تتواجد حربٌ لا يوجد منها مُفرٌ، وهو حربه شارفت على الأسبوع بدون توقف، لازال يعمل وينتظر الأمل، وكثرة الانتظار أنعكست عليه بالألم، وهو رهن الانتظار فقط..
قُبيل المغرب ولجت “مادلين” الصيدلية له تبتاع بعض العقاقير والمسكنات الطبية فوجدته يقف ويتصفح هاتفه فنادته حتى رفع عينيه لها وابتسم ما إن رآها فقالت هي بنبرةٍ ضاحكة:
_إيه اللي واخد عقلك؟ هتطفش الناس منك.
ابتسم لها “مُـحي” ثم أغلق هاتفه وقال بنبرةٍ هادئة:
_لو حلوين زيك كدا يبقى ميهونوش علينا، ها عاوزة إيه؟.
مدت يدها له بالورقة وتحرك هو يجلب لها ما تريد ثم التفت لها يضع الأشياء وقال يمازحها بنبرةٍ ضاحكة:
_بقولك إيه أنا عرفت إنك أتطلقتي، عندي ليكِ عرض، إيه رأيك أجوزك أبويا؟ على الأقل راجل بيفهم وهيقدر الجمال دا كله، قولتي إيه؟ حتى هعوضك وأقولك يا ماما.
ضيقت جفونها عليه وكادت أن تضربه بحقيبتها لكنه عاد للخلف ضاحكًا ثم لوح لها بذراعه وأضاف بتهكمٍ:
_أنتِ تطولي تتجوزي “نَـعيم الحُصري” أصلًا؟ على الأقل أرحم من “عـاصم” واكل مال اليتامى، أبويا بقى هو اللي بيأكل اليتامى دول، فكري كدا؟.
ضحكت تلك المرة رغمًا عنها وضحك هو أيضًا، وقد أخرجت المال تدفعه له فحمحم هو بخشونةٍ ورد بجديةٍ:
_طب خلي علينا إحنا المرة دي بقى.
_شكرًا بجد، أتفضل عشان متأخرش بقى.
أخذ منها النقود وابتسم لها وما إن التفتت هي ولج الطبيب فارتعدت هي وعادت للخلف فطالعها بتعجبٍ ثم قال بأدبٍ:
_آسف يا فندم معلش، اتفضلي.
أومأت له وكادت أن تتحرك فصدح صوت الزغاريد من الخارج وحينها هوىٰ قلب “مُـحي” من موضعه فخرج من مكانه يقف على أعتاب الصيدلية ليجد مجموعة من الأفراد يلتفون حول “جـنة” وهي في المنتصف حزينة وهذا ما بدا واضحًا عليها، وقد جاورته “مادلين” بحيرةٍ في أمره، بينما “عبدالمعز” وقف بجواره يقول بأسفٍ:
_أنا كنت داخل أقولك تروح بدري علشان هما للأسف رايحين يجيبوا الدهب من الصايغ اللي على أول الحارة، متزعلش نفسك، محدش عارف نصيبه فين.
وللمرةِ الثانية يقف مكسور الجناحين وقد تعب حقًا من الطير الغير مُجدي، مل من الحياة التي لم ترحمه ولم تعطف عليه بما يرغب ويود، تلاقت عيناها بعينيه وكأنها تلك هي وسيلة التواصل الوحيدة بينهما حتى قطع والدها هذا التواصل حينما قاد عائلته والبقية نحو مقدمة الحارة بالأخص تجاه محل المصوغات الذهبية..
تحرك “مُـحي” دون أن يعي لنفسه ماذا يفعل ورآها في الداخل ترتدي خاتم الخطبة الخاص بالآخر بواسطة أمه، وقف بتيهٍ جامد الحِراك يلعن ذاك البغيض وأمه وعائلته ووالدها وأبناء عمومتها، وكل فردٍ وقف بينه وبينها وقد لمحه ابن عمها فقال بنبرةٍ ضاحكة للبقية:
_يعني معملناش خطوبة علشان العروسة عاوزاها سُكيتي، لكن الزغروطة كمان سُكيتي؟ سمعونا زغروطة حلوة كدا.
تعالت الزغاريد من كل حدبٍ وصوبٍ بداخل المحل وهو يتابعها كما الصائم الذي يقف بجوار طاولة مليئة بالطعام ويُحرم عليه أن يقترب منها، هي كما الحلوى المُشتهاة وهو المحروم عليه تذوقها، كما اليتيم الذي يقف ويتابع الحلوى بيد الآخرين من أبناء عمره وهو يتوجب عليه أن يعمل كما لو كان أكبر من أعوام عمره، بُلىٰ بحبها وقُضيت لغيره، فحلم هو وحقق غيره حلمه..
عاد بخيبة أملٍ وكتفين متهدلين حيث الصيدلية وياليته يجد بها دواءً كما يبيع هو لكل مريضٍ يسأل عن الدواء، أيعجز طبيبٌ عن مداواة جرحه وهو الذي يداوي جراح السائلين؟ أتى ابن عمها ووقف خلفه يهتف بوقاحةٍ:
_أظن كدا تخلي عندك دم بقى وتمشي، لو راجل من ضهر راجل بجد تمشي وتسيب الحارة، متبقاش زي العيل الصغير كدا شبطان في حاجة مش ليك وعاوزها وخلاص.
قبل أن يلتفت”مُـحي” ويرد عليه وجد النصف الآخر منه شكلًا ومضمونًا يقف أمامه وفي مواجهة الآخر ثم قال بجمودٍ قاسٍ لأول مرةٍ بحياته:
_أنا بقى هوريك تربية الراجل دا عاملة إزاي.
أنهى جملته ثم ضرب الشاب في بطنه بقدمه حتى أسقطه أرضًا ثم أقترب منه يُكمل ما بدأه وكل مافي داخله فقط أن يثأر وينتقم لأجل ذويه، وكأن هذا هو طبع الخيول، مهما ضعفت قوتها، لا يثور منها إلا الأصيل.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى