روايات

رواية غوثهم الفصل المائة والسابع والأربعون 147 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة والسابع والأربعون 147 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة والسابع والأربعون

رواية غوثهم البارت المائة والسابع والأربعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة والسابعة والأربعون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثاني وستون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
في ساحةِ الرضوان قد هِمت شاديًا
سِل الواحةَ الخضراء وَالماء جاريًا
وهذه الصحاري والجبالَ الرواسيَ
سل الروضَ مُزدانًا سل الزهر و الندى
سل الليلَ و الإصباحَ و الطيرَ شاديًا
وسل هذه الأنسامَ و الأرضَ والسما
وسل كلَ شيءٍ تسمع الحمد ساريًا
اللهم صلِّ و بارك عليه وسلم تسليمًا.
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
بداخل كُلِّ مِنَّا بحرٌ لم نجد عمقا له بل نغرق فيه…
نحنُ كما السُجناء في ماضٍ والأكثر ألمًا أن السجان هو أنفسنا، مُحاصرون نحن من كل اتجاهٍ حتى مستقبلنا يُقيدنا، تُشبه أيامنا الشجرة التي عصفت بها الرياح، هُزمنا من العالم بأكمله ولم نعد نجد ما يُنصفنا حتى أنفُسنا، هزائم شتى تُلاحقنا وكأننا في مضمار سباقٍ نخوضه بشق الأنفس حتى كِدنا أن نلفظ الأنفاس الأخيرة، لكن وبرغم ذلك لم تؤثر بنا الهزائم لطالما كنا مع نحب، لكن وبكل آسفٍ حينما تُلاحقنا منهم الهزائم نشعر وكأن كل العالم يُحاربنا، إبان ذلك القلوب تتحدث فتقول لرفقائها عن كل شيءٍ هَزمها وبالرغم من ذلك يأتِ الحديث موجعًا، كأن هناك قلب يشكو لرفيقه بقوله باكيا بالرغم من عدم فعل الأعين لذلك، فتغدو متحجرة
“لقد اعتدت أن أخبرك بكل شيء،
اعتدت أن أشاركك نصري وأخبرك عن هزائمي؛ وبالأخص
تلك الهزائم التي أصابتني من نفسي قبل الآخرين، أما اليوم
فالخبر كان فريدا من نوعه؛ فحينما أتيت لأخبرك عن
هزيمتي اليوم كنت أنت الهزيمة بذاتها”.
<“خضع الطير للذُل بداخل قفصٍ ولم يطل السماء”>
الطيور الحُرة قد تُجبر في بعض الأحيان على تقديم فروض الولاء والطاعةِ وتتنازل عن حُريتها؛ لكنها لن تنسَ أبدًا حُريتها وتخضع للذُلِ حتى ولو داخل سجنها، بل ستظل ساعيةً لكي تتخلص من كافة القيود المحاوطة لجناحيها..
حديثه كان صفعةً وما أشد منها قسوةً على صفحة وجهٍ في ليلةٍ شتوية، باغتها بجملته تلك لكي يقطع سيل أحلامها المتدفق ومن ثم تواصلت الأعين مع بعضها فوجدته يُضيف بصوتٍ جامدٍ لا حياةَ به ولا روحٍ:
_مهما وصل خيالك مش هييجي أبدًا بصعوبة إني واحد أصله خسيس، يمكن اللي بقوله صعب عليكِ بس أنا مش هقدر أخبي عليكِ وأخدعك، أنا مش الدكتور النفساني الشاطر ولا المُعيد الجامعي في أكبر جامعات برة، أنا
“مُـنذر الموجي” العيل اللي عنده ١٠ سنين وأبوه باعه علشان يخلص منه حمله، أو كنت فاكره أبويا قبل ما أعرف أنا مين، ولما عرفت سامحته، على الأقل هو رباني ١٠ سنين في بيته، إنما أبويا الحقيقي أول ما عرف بيا حكم عليا بالموت علشان يداري على غلطته..
لما لا يضحك ويُخبرها أن حديثه ماهو إلا مزحة سخيفة يتحدث بها لكي يفتتح معها شتى المواضيع؟ لما هو صادقٌ لتلك الدرجة في كلماته ونظراته التي لم توحِ أيًا منهما بالمزاحِ؟ لما عليه أن يكون متألمًا لهذا الحد وكأن عيناه تصرخ بدلًا عن لسانه؟ شردت في فكرها به بصمتٍ فوجدته يجلس فوق الرصيف بخيبة أملٍ، يجلس بهزيمة الخاسر في الحرب وكأن جيشه تحالف مع العدو ضده، وأتى بالقول المؤلم:
_عيل عنده ١٠ سنين فوق عبارة وسط شباب ورجالة كلهم هربانين من العيشة واللي عايشينها، أربع شهور وخمس أيام في المياه والضلمة والبرد، كل شوية ننزل عند بلد نترمي فيها، ونهرب من هنا لهنا، كلهم كانوا أكبر مني وأنا الصغير الوحيد بينهم، كان معايا واحد تاني وعدني إنه هيكون أخويا وصاحبي، كان شقي وصوته عالي وكان بيحارب وسطهم علشان يجيبلنا الأكل من ايديهم، فضلت ماسك فيه بايدي وسناني، ماكنتش أعرف حد غيره أصلًا، بس هو سابني هو كمان، مكملش الرحلة معايا، آخر حاجة فاكرها منه لما مسك في حضني من البرد وهو عمال يترعش وبيوصيني على نفسي….
لم يقدر على التكملةِ، خدعته الكلمات وفَرت بعيدًا عنه كأنه فقد الأبجديات بأكملها، عادت الذكرى تستوطن القلب وما بال القلب بغير الذكرى القاتلة، هرعت العَبرات من عينيه كما تنزف الدماء ولأول مرة يُدرك أن الألم لم يكن بمخبوءٍ في المُقلِ، وجدها تجاوره بحركةٍ هادئة وهي تلحظه بعينيها الدامعتين وكأنها تواسيه بغير كلامٍ، بينما هو هرب من أسر عينيها له ثم تنهد بعمقٍ وتفوه بهزيمةٍ أكبر:
_كان هو آخر حاجة تثبت إني إنسان فيا الروح وحي، آخر حاجة كانت بتقول إن اللي جوايا دا قلب عيل صغير بيحس ويدق، وآخر موقف فاكره ليه، لحظة ما خدوه من حضني لما مات ورموه في المياه علشان الجثة متعفنش فوق المركب، كان أخويا وصاحبي وكنت ماسك فيه زي اللي ماسك في أمه، كان بيتخانق معاهم ويخطفلنا اللقمة من ايديهم وبوقهم، بعدها أنا مبقيتش أنا أصلًا، كملت معاهم الطريق وكل يوم بتمنى أموت علشان أروحله، كنت بدعي إنهم يرموني في المياه زيه…
من جديد يُداهمه البكاء وقد علا صوت بكائها معه وهي تبكيه هو، رفعت كفها تواري فمها خلف أناملها المرتجفة بينما هو أكمل وأخرج ما في جبعته، هو لن يستطع أن يحصل على تلك الفرصة من جديد ويتحدث فيها بتلك الاستفاضة، بالطبع هذا الأمر نادر الحدوث:
_روحت معاهم وكملت الطريق للآخر كله، دخلت من وسط الناس اللي “ماكسيم” بيشغلهم عنده زي العبيد، كنت هناك في مكان زي المدرسة العسكرية، ومعانا قادة بيدربونا على كل حاجة، كانت حياة غريبة أوي، بس قابلت هناك شاب أكبر مني بسنتين، قالي يا تكون قاتل يا تكون مقتول، ولو عاوزهم يقدروك، اتعلم تكون قاتل، علشان حتى لو اتقتلت جثتك مش بتترحم وبيتاجروا بيها، ساعتها حصل قدامي عيني وفيه ولاد كتير اتقتلوا وتاجروا بيهم، كنا شباب عرب من كل الدول، وكل واحد فينا بيتعلم حاجة، فضلت أتعلم القتل وبقيت أسرع وأشطر واحد ينشل مهما كانت المسافة، كنت ببرر لنفسي إني كدا كدا مقتول وأول واحد قتلته كان أنا، وبعد ٣ سنين كانت أول مرة أقتل واحد منهم…
وبالطبع الأخيرة في تلك اللحظة حينما قتلها بحديثه بغير شفقةٍ أو رحمةٍ، هكذا فكرت وهي تجلس بجواره وتتمنى أن تفيق من تلك الغفوة السخيفة التي ابتلعتها في جوفها، أرادت أن تركض بعيدًا عنه أو ربما أرادت أن تضمه، لا تعلم لما تضاربت مشاعرها لهذا الحد أمامه؟ أما هو فسحب نفسًا عميقًا، وظل على موقف هروبه من عينيها وقال بثباتٍ واهٍ يتنافى مع صراخ قلبه وصوت التهشيم الصادر منه:
_أنا بقولك علشان أريحك وأديكِ حُريتك مني، مش هينفع في يوم مصيرك يرتبط بواحد زيي، مينفعش دكتورة زيك في يوم من الأيام اسمها يرتبط بواحد قاتل، وجايز الغلطة من الأول غلطتي علشان خبيت بس مكانش هينفع أقول أي حاجة، خليكِ بعيد أحسن علشان أنا طريقي كله جحيم، حتى لو حياتي دلوقتي هادية فأنا مسير الحرب تقوم عليا من تاني، وهبقى حاجة من اتنين، يا قاتل يا مقتول وفي أي وضع اللي زيي مسيره يموت في الآخر.
الآن فهمت سبب الجفاء والرفض والصمود أمامها، لقد كان يحاول بشتى طاقته أن يُصرفها بعيدًا عنه وهي بكل غباءٍ كانت تظهر من العدم لكي تُعرقل خطوات فراره، ومن جديد يُخرجها من حياته وتلك المرة بغير رجعةٍ، وأكثر ما استطاعت قوله من بين بكائها كان:
_ممكن نمشي؟.
بالكاد فسر الأحرف من بين البكاء وقد أومأ موافقًا ثم وقف ومد كفه لها لكي تقف، لكنها استندت على كفيها وهي ووقفت سريعًا دون أن تحتاج لمساعدته، فتح لها باب السيارة الخلفي وقد جلست هي بغير حديثٍ، وقاد هو بنفس الصمت، فيما صرفت عينيها بعيدًا عنه وهي تبكِ بصمتٍ وتشرد في الطريق ببكاءٍ مؤلمٍ..
بينما هو راقبها في المرآة يتوسلها بنظرة وداعٍ أخيرة قبل الرحيل، هو يرى في عينيها الخُذلان؛ لكنه لن يُنكر أنه أيضًا يرى الشفقةِ في عينيها وهذا أكثر ما يبغضه هو أن يكون محط أنظار الشفقةِ، أوقف السيارة أمام بيتها وقد ترجلت هي منها سريعًا وأولته ظهرها تتجه نحو اليمين حيث بيتها، فيما وقف هو جهة اليسار وعند مفترق الطُرقات وبغير وداعٍ؛ افترقا..
علم أن هذه هي النهاية الحتمية لهما؛ لكنه كان يأمل أن تكون الدنيا معه أحن مما يُعايشه، لقد تجرع الكثير من القسوةِ حتى بات يحفظ الكؤوس المعقرةِ بالقهرِ، وها هي تتجه لليمين، وهو يتجه لليسار وكأنها لوحة وداعٍ في طرقات فيينا برع في إبراز قسوتها راسمها، وكان أقرب وصفٍ لحالته هو:
_مسكين اختفى من قلبه النور
لوحده ولو وسط الكل مقهور
لا هو مهزوم ولا هو منصور
بس زيه زي طير بجناح مكسور.
__________________________________
<“لحظة واحدة تأتينا في العُمر لكي نُعانق فيها الأماني”>
بعض اللحظات تأتِ بعد الكثير من الصبر وتُهدى للمرء لكي يُعانق أحلامه الذي لم يظنها بواقعٍ، ويُحقق أمانيه التي وضعها في طي المُستحيل، لحظات من كثرة حلاوتها لا نُصدق حدوثها وإنما نعتبرها ضمن الأحلام الوردية التي تحملنا فوق السحاب الصيفية بخفةٍ طيرٍ اتسع له الأفق..
الآن يجلس في السيارة في على الطريق يقودها بهدوءٍ لأجل تلك التي تنام بجواره وتتمسك بكفهِ وكأنها تخشى أن يفلت منها، ابتسم ما إن حانت منه التفاتة نحوها ورأى محياها الهاديء الذي تناقضه بشقاوتها ودلالها ما إن تستيقظ وتكون معه..
لقد خرج من البيت بعد صلاة الفجر وبعد إتمامه عاداته اليومية الدينية بأكملها، وقبل أن يأخذ الخطوة أخبر “يـوسف” في المسجد عن اصطحابه لشقيقته في رحلةٍ خارج مدينة القاهرة وحينها أتاه الجواب من الآخر بمزاحٍ:
_ماشي روحوا، بس أعمل حسابك إنك هتبقى تاخدني المكان دا أنا كمان، ولا أنا مةشبهش يا ابن “العطار”؟.
حينها وبوجهٍ مبتسمٍ وببشاشة روحٍ هادئة جاوبه يرحب بفكرته والعزم على تنفيذها:
_بس كدا؟ من عينيا الاتنين، دا إحنا يزيدنا شرف بوجودك في مكان يخصنا، أرجع بس من المشوار دا وبعدها أخدك ونروح هناك.
حينها ودع الرفيقان بعضهما بعناقٍ أخويٍ وبتوصياتٍ على الشقيقة والرفيق وعلى كليهما سويًا حتى أنفض العناق وذهب كلًا منهما لوجهته، وقد ودع “أيـوب” أسرته الكبيرة وأخذ قمره ورحل بعد التوصيات من والده وشقيقه على نفسيهما وأكد هو لهما ذلك، ولم ينس نظرة والده التي استوطنها القلق وهو يرجوه ألا يتأخر عنه، وها هو في الطريق وشارف على الوصول لمكانٍ أراد أن يصطحبها إليه منذ أن أصبح اسمها محفورًا على جدار قلبه قبل وثيقة الزواج..
وقف في صفٍ طويلٍ بداخل محطة الوقود لكي يزود سيارته بالوقود، وحينها شرد فيها من جديد وكفها يزداد تمسكًا بكفه إبان نومها، وقد أقسم هو في تلك اللحظة أن لو كل ما فات من العمر قبلها كان فقط تهيئًا لقدومها ومجيئها؛ فهو راضٍ وأكثر لطالما كانت هي نهاية الصبر، مادام رُزِقَ من بعد زُهده بالقمر؛ حتمًا لأجلها سيعشق الليل والسهر..
وميضٌ يُضيء ويخبو وهو يتذذكر كل شيءٍ مر عليه قبل حضورها لحياته؛ حيث وفاة أمه بين ذراعيه، ومرضه النفسي بعد وفاتها، فقده للنطق بعد فقده لأمه، إصابته بمرض السرطان الخبيث وفقده لشعره وحاجبيه نتيجةً لتلقي جُرعات الكيماوي، تذكر اختطافه ومعاناته من كلا الأمرين، سواء الاختطاف أو المرض الخبيث، تذكر أيضًا فترة مراهقته العسرة بين الالتزام والفتور وضياع نفسه منه في التأرجح بين التوبة والمعاصي، اعتقاله الأول الأكثر صعوبةً وألمًا، أما المرة الثانية فيبدو أنه اعتاد عليها، أما الأخيرة فهو لم يبالِ بها كثيرًا، حتى حادثه الأخير وتوقف قلبه وموته وعودته للحياة، تذكر كل شيءٍ ولم يُنسيه كل ذلك سوى تشبثها بـه..
استأنف القيادة من جديد وهي لازالت نائمة كما هي؛ لكنه ما إن شعر بوحشة الطريق أتى برأسها ووضعها فوق كتفه لكي تكون أكثر راحةً لها هي، حتى وصل لعند البيت المنشود وأوقف السيارة ثم أوقظها بنبرةٍ هادئة جعلتها تفتح عينيها على مضضٍ وقد سبقها هو ونزل للبيت وهي خلفه تتفحص المكان حولها وقد لقطته بعينيها يقف أمام هذا البيت… الفلاحي كما ترى؟..!!
ترجلت من السيارة ووقفت خلفه وهو يفتح الباب الخشبي الكبير وقبل أن يفعلها سألته هي بنبرةٍ لازال بها أثر النعاس:
_”أيـوب” هو البيت دا فلاحي كدا ليه؟.
عقد حاجبيه ما إن وصله سؤاله ثم التفت لها برأسه يجاوبها بسخريةٍ تتناسب مع هزلية كلماتها:
_معلش، شكلهم مكتريلنه السمنة البلدي.
ضحكت رغمًا عنها خلفه فيما حرك هو رأسه نفيًا بيأسٍ منها والضحكة لم تنفك عن شفتيه ثم أدار المفتاح في مجراه وكما اعتاد دومًا هو أن “صوت التكة أمان” وهاهو بمجرد أن يفتح البيت يجد الأمان الذي يتنافى مع الخوف الخارجي، كان البيت مُظلمًا بشكلٍ تقشعر له الأبدان، كما أن وسعه وعلو سقفه بعثا في نفسها خوفًا، حتى تمسكت برمفقه فوجدته يشير نحو البيت وهو يقول بنبرةٍ هادئة وملامح مبتسمة:
_دا بيت “رُقـية” وبيت عيلتها كلها، البيت دا أغلى حاجة في حياتي سابتهالي هي أمانة في رقبتي وآخر حاجة كان فيها ريحتها وريحة الحبايب كلهم، كانت وصيتها ليا إني أول ما ربنا يكرمني بالبنت اللي أحبها وتكون مراتي إني أجيبها وأعرفها على البيت دا، ومن يوم ما دقيت بابك أطلبك ليا، كنت بعد لليوم اللي اللي هنيجي فيه مع بعض.
أومأت له بتوترٍ التقطه من عينيها فابتسم لها ثم سألها بدهاءٍ كأنه يُقر بما يستفسر عنه بعدما ضم كفها بكفهِ:
_هو أنتِ خايفة تدخلي البيت؛ صح؟.
من جديد توميء له بصمتٍ فيما تنهد هو بقوةٍ ثم وسع بسمته وترك كفها وولج للداخل يفتح الأضواء وأبواب الغُرف، ثم غاب لمدة دقيقة بالتقريب تبعها صوت القرآن الكريم بالمذياع ثم ظهر بوجهٍ مبتسمٍ يُشير لها لكي تجاوره في الداخل وتدخل البيت، وقد ولجت هي بخطى وئيدة نحوه كأنها تتردد..
وقفت في صالة البيت تسحب نفسًا عميقًا وهي تقف في عقر هذا البيت البيت العتيق، رائحته طيبة بشكلٍ غريب، الطلاء كان بُنيًا عتيقًا يشع الدفء للقلوب، وقفتها هكذا تشبه الوقوف في صباحٍ نادٍ في فصل الشتاء، مع انتشار روائح المخبوزات الطازجة والفطائر الصباحية، وما أضاف للوحةِ بهجةً كان صوت القرآن الكريم بتلاوةٍ عطرة للقاريء
“محمد رفعت” وآشعة الشمس التي تتسلل من بين شرائح خشب النوافذ، وقد رفعت عينيها تطوف في المكان فوجدت السقف عاليًا بشكلٍ جعلها تفكر هل هو أتى بها إلى هُنا بوسيلة مواصلات، أم آلة زمنية عادت بها لأعوام الخمسينيِّات، لوحة قامت بأسرها وهي تشتم عبق المكان القديم الآسر لها…
أتى هو ووضع الحقائب بجوار الباب ثم أغلقه ووقف خلفها يسألها باهتمامٍ عن رأيها وتبدل حالها بمجرد أن ولجت وقامت بأسر البيت بعينيها:
_ها عجبك البيت؟.
التفتت له تخبره بصوتٍ انشقع منه الحماس كما القمر المنير ثم هتفت بلهفةٍ توازي لهفة عينيه في حصوله على جوابٍ منها:
_البيت حلو أوي ودافي، عارف؟ من كتر كلامك عن مامتك الله يرحمها أنا حسيت إن البيت دا شبهها أوي، وريحته طيبة زيها، بيت قديم وريحته زي ريحة الناس الطيبين بتوع زمان، بس هو إزاي البيت مترتب كدا؟ هو فيه حد عايش هنا؟ قولي آه بالله عليك علشان معيطش وأخاف هنا.
رسم هو ملامح ساخرة لم تلِق بخوفها لكي تُبدده ثم هتف بتلقائيةٍ لم تزد إلا مِن ذُعرها:
_بقولك بيت أمي الله يرحمها يبقى إيه بقى؟.
توسعت عيناها في ذعرٍ وأول ما بدر لذهنها كانت قصاقيص تلك القصص الخبالية الخاصة بمجال الرعب الذي كان يسردها عليها “عُـدي” وتشاركه في خباله “ضُـحى” لبث الخوف في قلبها، وقد ظهر أثر ذلك كله عليها فحاولت أن تتقدمه بخطواتٍ غير رتيبةٍ وما كان عليه إلا أن يمسك بمرفقيها ثم قال بلهفةٍ يوقفها:
_استني هنا، أنتِ رايحة فين؟.
حاولت أن تتحدث ما إن تذكرت القصة المُرعبة التي سبق وقُصَت عليها وقد لمح هو الذعر في عينيها ولم يعلم سببًا له، لذا ضمها له له بحنوٍ ثم مسح فوق جسدها وهو يرتجف وقال بنبرةٍ هادئة تعج بالحنو لكي يُطمئنها:
_أهدي بس كدا، خالة أمي الله يرحمها بيتها على أول الشارع هنا وهي اللي بتخلي بالها منه البيت وترعاه ولما عرفت إني جاي معاكِ هنا، بعتت ستات بيتها يظبطوه علشان متتعبيش نفسك، خايفة ليه بقى؟ أنتِ مش مؤمنة وموحدة بالله؟.
أومأت موافقةً له بأعين زائغة ثم هتفت تستجديه بأملٍ:
_ونعم بالله، ممكن طيب أنام علشان حاسة إني تعبانة؟.
أومأ لها موافقًا ثم لثم جبينها بعمقٍ وقال بنبرةٍ هادئة:
_حاضر، أدخلي نامي وغيري هدومك وأنا هروح أفتح باقي الشبابيك والبيت، وعلى الضهر هصحيكِ إن شاء الله، يلا أنتِ منمتيش كويس من إمبارح.
دقائق مرت عليهما انتهت به يجاورها في الفراش ورأسها يتوسد صدره بعدما بدلت ثيابها وتمسكت به بقوةٍ وأطبقت بجسدها على جسده ومن ثم غاصت في نومٍ عميقٍ كمن ألقى بنفسه في اليَّم، أما هو فظل يراقب ملامحها الهادئة ولاحظ وجوم وجهها فمرر إبهامه يقوم ببسط ملامحها وفك عُقدة جبينها حتى تنهد مُطولًا ثم ضمها إليه أكثر مُلثمًا وجنتها وماثلها في التشبث؛ متذكرًا يوم أن كان يتشبث في “رُقـية” عند مجيئه لهنا، وهاهي مرته الأولى من بعد رحيل الحبيبة الأولى التي يجد فيها من يضمه بدلًا من الوحشة القاتلة.
__________________________________
<“العُمر يسير ويُمر وطيف من أحببنا لا يمر”>
بعض القرارات تحتاج فقط للخطوة الأولى لكي نأخذها، خطوة واحدة قبل أن نُطالع عُمق اليَّم وقبل أن نسقط به بإرادتنا، وبالطبع تلك الخطوة تحتاج لعزيمةٍ هائلة لكي تدفع المرء نحو الفعل، وتبثه صبرًا لتلقي رد الفعل..
اليوم الخامس يمر وطيفها لم يمر..
هكذا ردد بخلده بذهنٍ شاردٍ وهو يجلس في عمله الجديد دون أن يلمح طيفها ولو بمحض الصُدَفِ، الآن يخوض مضمار تجربةٍ جديدة عليه كُليًا وها هو يُجزم أنه لولا الحاجةِ لما كان خاض تلك التجربة الغريبة والفريدة من نوعها، فوظيفته وعمله لا يتناسبان مع مهنته أبدًا، بل هو هنا يجلس قسرًا ويتحمل لأجل شيئين فقط؛ أن يقترب منها ومن مكانها، ولأجل نظرة الفخر التي تطله من عيني والده كل يومٍ..
لكن هذا لا يمنع أنه هُنا يُعاني بشكلٍ لا يُصدق، لقد تدرب في يومين فقط لا غير وأصبح على درايةٍ كافية بكل شيءٍ هنا، لكنه لم ينسَ أن بيومه الثاني في العمل أتى له فتى صغير لم تتخطَ أعوامه السابعةِ ومد يده بغطاءٍ مجوف أبيض مستدير وهتف بنبرةٍ طفولية:
_عمو، ماما بتقولك عاوز العلاج اللي دا غطاه.
حينها وبكل بديهيةٍ قلب الغطاء في يده وقد اِفتر ثغره ببسمةٍ ساخرة ثم هتف يتشدق بنزقٍ أقرب للسخريةٍ والتهكم:
_روح يا حبيبي قول لماما زي ما ربنا كرمك وجيبتي الغطا، هاتي الدوا نفسه علشان عمو يعرف أنتِ عاوزة إيه.
وقد خرج الصبي ركضًا، واستمر هو في بيع العقاقير الطبية حتى في اليوم التالي ولجت له سيدةٌ عجوز بلغ عليها الكِبر أشده ثم قالت بأنفاسٍ لاهثة إثر سيرها الطويل:
_الله يرضى عنك يابني، عاوزة معجون سنان وفرشاة صغيرة وهات معاك حبايتين مسكن للصداع وكيس أوكسي اللي هو كيلو دا.
حينها ضاقت حدقتاه فوقها بتيهٍ ثم أتى بها بما هو لديه ثك أخبرها أن ما تحتاجه من مسحوقٍ ليس بمتواجدٍ لديهم وأن المكان يختص فقط ببيع العقاقير الطبية ولا يوجد ماهو دون ذلك لديهم، وحينها ظلت تتحدث وتثرثر وتتهمه بصرف الرزق بعيدًا عنه وخرجت خاوية الوفاض دون أن تبتاع أي شيءٍ منهم، وعلى هذا المنوال في يومه يتعرض للطرائف والغرائب ولازال يتحمل فقط لأجلها هي.
تعمق في شروده بها وقد خرج “مُـحي” من شروده على صوت الطبيب الثرثار _كما يُلقبه هو_ وقد جذب انتباهه بسؤالٍ لم يتبينه، وللحق هو يتقبله رغم أنه لا يتقبل أيًا من البشر، لكنه كان طبيبًا بشوش الوجه، بلغ من العمر ستة وأربعين عامًا ورغم ذلك يبدو في منتصف الثلاثينيات، لكنه يظل يتحدث مع بكثرةٍ والآخر يمل؛ لكنه يتحمل.
أعاد الطبيب الكرة بسؤاله من جديد باسم الوجه:
_بقولك بس شكلك ماكنتش غاوي صيدلة أنتَ يا “مُـحي”؟
يبدو الحديث تخمينًا أو سؤالًا لفتح الحديث، وقد جاوبه الآخر بثباتٍ يؤكد صدق تخمينه بقوله:
_لأ خالص، أنا بس جيبت مجموع في ثانوية عامة وكان بابا مبسوط بيا أوي، والتنسيق جابلي صيدلة القاهرة فروحتها، لكن أنا كان نفسي أول ما أخلص أسافر برة واستقر هناك، ماكنش هدفي أكمل هنا.
ابتسم له الطبيب ثم عدل من عويناته الطبية وقال بثباتٍ:
_كدا أفضل، الغُربة برة كسرة نفس، بس برضه الغُربة غُربة النفس من الروح، ربنا يوفقك وتحقق اللي نفسك فيه.
أومأ له مبتسمًا وقد قطع الصمت الذي يحوم عليهما دخول والدها، نقطة الغيث التي تظهر من العدم تبثه أملًا ثم يرحل من جديد، وقد رحب بالطبيب وتبادل معه التحية وهو يأخذ أنواعًا شتى من العقاقير الطبية، وما إن التفت “مُـحي” يناولها له، ضيق جفنيه وسأله بتخمينٍ لهويته:
_أنا عارفك، أنتَ أخو “تَـيام” صح.؟
أومأ له موافقًا وعلم أنه استنبط هويته من الشبه بينهما، وقد تولى مهمة تعريفه عن نفسه فرحب به الآخر بحبورٍ ودعا له بالتوفيق لأخذ تلك الخطوة، وقد التفت للطبيب يخبره بضحكةٍ يائسة:
_طب بقولك إيه بقى، بما إن الجماعة مش هنا وأنا دماغي مصدعة بصراحة عاوزك تجيبلي شريط مسكن يهدي دماغي دي شوية، دي فرصة مبتتكررش كتير أني آخد مسكن.
عاتبه الطبيب بنظراته ثم تحرك وأتى له بدواءٍ أقل في المفعول والضرر، بينما “مُـحي” فلن يدع الأمر يمر مرور الكرام دون يعلم أين هي، لذا تولى دفة الحديث بمزاحٍ لم يكن بالغًا:
_طب ودي تيجي يعني؟ علشان الجماعة مش هنا تقوم تخربها كدا في غيابهم؟ طب هما فين أراضيهم وأنا أبلغ عنك؟ كله إلا سلامة المرضى عندنا.
ضحك له والدها بدوره ثم التفت يجاوبه ضاحكًا:
_مش هنا يا سيدي، راحوا اسكندرية عند أخت المدام علشان بنتي بتحب اسكندرية في الشتا أوي، أهو راحوا يتفسحوا ويغيروا جو شوية، هتنكد عليهم بقى؟ كلها يومين وأروح أجيبهم.
يبدو أنه يمازحه وهو لا يحتاج إلا أن يوطد علاقاته مع هذا الرجل، لذا ابتسم له بهدوءٍ ثم انصرف بذهنه بعيدًا عن البقية يشرد في تلك الجِنية كما يُلقبها هو، يومان، فقط ما يتبقيا له لكي يراها ويخبرها عن تلك الخطوة التي أخذها لأجلها، بالطبع هي لن تصدق، وهو أيضًا لا يُصدق ما يفعله، لكن العشق ما إن يطرق أبواب الرجل يعيده إلى صوابه، خاصةً إن كان مثله على شفا حُفرةٍ من النار، ولتوه يُجر نحو أبواب النعيم؟.
خرج من شروده على صوت شقيقه يلقي التحية ويتبادل أطراف الحديث مع الطبيب ويعرض عليه ما يمسكه والآخر يرفض بشدة، فيما أقترب منه “تَـيام” ثم مد يده له بحقيبةٍ بيضاء بلاستيكية بها طعامٌ لأجله ثم تفوه بهدوءٍ وبسمةٍ رائقة:
_الأكل بتاعك أهو علشان ملحقتش تفطر وإحنا نازلين، تخلص وتيجي ورايا على المسجد علشان صلاة العصر، مش هاجيلك ومش هرن عليك، تيجي لوحدك !! مفهوم؟.
ابتسم له بغير تصديقٍ على تقديم تلك الرعاية الفائقة، ولم يصدق أنه رُزِقَ بشقيقٍ حنون القلب مثله لكي يكون رقيبًا حنونًا عليه، لطالما كان يتمنى أن يحصل على شقيقٍ يكون له كما الأخوين “إيهاب” و “إسماعيل” والآن هو في كنف شقيقٍ من يراه يظنه توأمه… والتوأم لا يقصد به فقط تطابق الملامح، وإنما تشابه القلوب، فهو ما إن يشعر بشيءٍ يجد شقيقه يشعر مثله أو ربما يُعاني منه..
كاد “تَـيام” أن يترك المكان ويعود لعمله لكن صوت الشقيق أتى وأوقفه يعرقل رحيله بلهفةٍ:
_أنتَ أحسن حاجة حصلتلي في حياتي كلها بعد إن أبويا يبقى “نَـعيم الحُصري” مفتكرش إني محتاج غير وجودك معايا وبس.
حينها أتى الرد عليه ببسمةٍ حنونة ثم إيماءة من الرأس يخبره عن فهمه وتقديره لمشاعر الآخر، ثم ودعه وأوصاه على نفسه وعلى عمله وعلى اللحاق به نحو المسجد والآخر يصمت ويرحب ويؤكد صدق الفعل والوفاء بالوعد.
_”شط اسكندرية، يا شط الهوا”..
انتشرت الكلمات عاليًا من أسفل شرفة الشقة المُطلة على البحر في مدينة الإسكندرية الملقبة بعروس البحر الأبيض المتوسط، وقد كانت “جـنة” تجلس وهي تتابع حركات الأمواج الهائجة، تزامنًا مع قطرات المطر بين كل حينٍ والآخر، وهي هنا تعشق الشتاء، وتُحب المطر، تخشى البحر لكن ذلك لا يمنعها من التطلع إليه عن بُعدٍ..
لامت نفسها ما إن أتى ذهنها بمقارنةٍ بينه وبين البحر لتزجر نفسها وتطالبها بالوقوف عن التفكير به، لقد أتت هتا لكي تهرب من تفكيرها وشرودها به، ولم تعلم أنها تصاحبه معها حتى في نزهتها، تتذكر كل شيءٍ به، بسمته، طريقته، كلماته، نظراته، كل ما به يدعوها لكي لا تُفكر بغيره، وكأن التفكير بها أمسى ذنبًا عليها وهي تعجز عن التوبة والاقتلاع عنه..
أتت خالتها وجاورتها وهي تداعب وجنتها فخرجت الأخرى من حالة شرودها وابتسمت بلطفٍ جعل الأخرى تتمسك بها في الجُرم المشهود وسألتها بخبثٍ:
_بتفكري في مين؟ في العيون الرمادي؟.
تلون وجهها وتغضن خجلًا، وقد ضحكت خالتها ثم جلست بقربها وقالت بحنوٍ وصدقٍ كونها تعد صديقةً لها:
_مش محتاجة الكسوف دا كله، أنتِ مش مقتنعة ليه إنك حبيتيه؟ غصب عنك حبتيه علشان كدا مش هتقدري تنسيه لو روحتي آخر الدنيا يا “جـنة”، بعدين هو إيه مشكلته؟ ماهو بيحاول يوصلك وصريح معاكِ مش كداب.
اندفعت في وجهها تعبر عن حنقها:
_مشكلته في حياته نفسها، يا خالتو افهميني، أنا طول عمري بحلم بواحد يكون قدوة ليا، ياخد بايدي ويعرفني الصح من الغلط ويقويني على الدنيا ويساعدني على الآخرة، إنما دا لأ، هخاف يرجعني لورا تاني وأنا والله ما بصدق، هخاف أخسر نفسي معاه، دا بيعمل الغلط عيني عينك من غير كسوف ويقولي أنا هعمل كذا، فيه كدا؟.
ربتت خالتها فوق كتفها وقالت بحنوٍ ترشدها لما غاب عنها:
_يا حبيبتي هو لو وحش هيكدب ويلاوع، بعدين مش يمكن ربنا يجعلك سبب لهدايته ورجوعه لطريق ربنا؟ عاوزة تقنعيني إن كل الملتزمين اتجوزوا وفضلوا زي ما هما؟ إحنا بشر بنغلط ونتوب ونرجع ونقع ونقف من تاني، يمكن هو يكون شايف فيكِ كدا، مش كان نفسك في زوج يكون صاحب وأخ وحبيب وونس ليكِ، يمكن دا يكون ونسك.
تنهدت بعمقٍ تخرج به ثقل أفكارها، ثم وضعت رأسها فوق صدر خالتها تتنهد بقوةٍ وهي تفكر لما هو تحديدًا الذي يحتل الرأس ويستوطن الفؤاد ليعلن عن نفسه محتلًا بارعًا قام بغزو أرضها، ولن يخرج إلا باستسلامها له ورفع الراية لكي يفعل ما يحلو له؟ لما كلما حاولت الفرار من حصاره تجد نفسها تتمنى أن يتحول حصاره لأمنٍ يحميها؟
__________________________________
<“لولا لمحة الظلام لما ظهر فينا النور”>
لكي نُدرك قيمة الشيء علينا أن نواجه نقيضه، ولكي نعلم ما فقدناه علينا أن نُدرك فقده، فمن لا يعلم عن شيءٍ يجهل في النظير بشأنه كل شيءٍ، لذا هي مرة واحدة يدق بها الخطر فوق الأبواب لدينا ثم نعلم أن ما علينا سوى أن نتلحف برداء الصبر..
العالم في الخارج أصبح يمثل له وحشًا ضاريًا وهو ما إن تأتيه الفرصة يستغلها لكي يلوذ بنفسه بعيدًا عن الخارج، لقد أصبح “سـراج” يملك ملجأ الأمان والسكن على هيئة نورٍ انشقع ليدحض بالظلامِ بعيدًا عنه، خاصةً بعد ليلة أمسٍ حينما عاد ووجدها تنتظره في غُرفتهما وأخبرته بمزاحٍ أتى بكبرياءٍ:
_أنا جيت هنا بس علشان ببرد بليل أوي.
وبكل عبثٍ وشقاوةٍ ضمها له وهتف يراوغ بالقول:
_يا شيخة !! وأنا موجود؟ طب دي عيبة في حقي.
وانتهى الأمر بها ضاحكةً بين ذراعيه وهو يقطع لها وعدًا أنه لن يرتكتب أي خطأٍ يُزعجها منه، وقد وصل لبيته فوجده فارغًا منها ومن الصغيرة، ووصل للحديقة بالخارج فوجد مدبرة بيت حماه ترعى الحديقة فسألها باهتمام:
_هي “نـور” مش عندك يا مدام “تغريد”؟.
التفتت له تجاوبه ببسمةٍ عذبة تناوله مراده من الجواب:
_لأ يا أستاذ “سـراج” هما راحوا النادي وزمانهم على وصول علشان بحضرلهم الغدا، أعمل حساب حضرتك معاهم؟.
أومأ لها مُبتسمًا ثم استقر في حديقته فوق المقعد يتذكر غرامه ولوعته لتلك الـ “نـور” التي كل الطرقات في النهاية أدت إليها هي، لم ينس أي شيءٍ يخصها حتى أنه ما إن أصبح يستثقل شيئًا؛ بات يأتيها هي ويلقي بحمله أمامها، لكن ليست تلك المرة، فتلك المرة سيفعلها فقط لأجل الحماية الأبدية لها ولصغيرته، وقد شرد في ذكرى عرضه للزواج منها وكم كان نبيلًا في فعله، بعدما سبق هي وقدمت الفعل سلفًا..
كانت ذكرى مولده وحضرته هي في المكان المخصص به ومن وسط طاقم العمل ولجت له من بين الجميع وكانت اسمًا ووصفًا يليقا بها، حيثُ ظهرت كما شعاع النور واقتربت منه بخجلٍ تمد كفها بعلبةٍ سوداء مخملية نُقِشَ عليها اسمه من الخارج، باللون الذهبي، حينها التقطها منه وفتحها ليجد بها قلمًا وميدالية باللون الأسود واسمه يُزينهما باللون الذهبي، ومعهما ساعة من علامة مسجلة شهيرة تشابه الألوان ذاتها؛ وقد أتى تبريرها بسعادةٍ لانشداهه بهديتها:
_أنا قولت تبقى حاجة تستخدمها علطول علشان تفتكرني وتميزني بالهدية دي، حاجة بسيطة بقى تتعوض المرة الجاية إن شاء الله.
وقتها لم ينكر سعادته بفعلها، لا ينكر أنه حتى يرغب بإخبارها عن كل آثامه بغير أن يترك شيئًا مخبوءًا، أراد أن يهديها قلبه بين راحتيها ويخبرها أن تفعل ما يحلو لها، وبعد مرور أسبوعٍ من هذا اليوم وجدها تقف في موضع عملها بمكان “يـوسف” وعلم من الأغاني في الخلفية أن هي قد أتت منذ برهةٍ، فولج يخبرها بصدقٍ:
_أول ما بسمع “عامر منيب” هنا بعرف إنك لسه جاية.
حينها وبكل شغفٍ لمعت به الأعين أتاه قولها:
_بحبه أوي، أكتر صوت بحب احساسه وخصوصًا لو من غير موسيقى، ساعات بفضل أقول يا بخت مراته بتسمع صوته وإحساسه وكل كلامه متوجه ليها هي، علشان كدا بحب أغانيه وصوته أوي.
وقتها بنفس اليوم مساءً راسلها كما عادتهما يوميًا في شتى المواضيع والأحلام والأماني حتى توقف عن الرد لمدة دقيقتين تبعهما بارساله مقطعًا صوتيًا يخلو من الموسيقى، بل كان فقط بصوت المطرب المفضل وقد أختص ذاك المقطع ليكون شاهدًا على حبه لها:
_من أول يوم في لقانا، خدني هواك
عيشت معاك أحلى سنين عمري يا غالي،
بان علطول إيه جوانا، لما العين جت في العين
ولا حسيت باللي جرالي، بينا نعيش..
دا العمر ليلة متقوليش، نستنى ليلة،
دي الأيام جنبك جميلة وعمري يا غالي
لقيته معاك، بينا نعيش دا العمر ليلة..
أرسل لها المقطع ثم أرسل رسالة صوتية منه لها يُكلل فعله بطلبٍ صريحٍ منه دون أن يزيف أو حتى يجمل كلماته:
_تتجوزيني يا “نـور”؟ وقبل ما تردي أنا هقابلك وأقولك على كل حاجة فيا وبعملها، ومش هخبي عليكِ حاجة، ولو وافقتي المقابلة هعرف إن دي موافقة مبدأية منك بيا أنا.
حينها رحبت ووافقت واستمعت وأنصتت، بل وفتحت له أبواب النور على مصراعيها وأخبرته أن يدخل لها بعد وعدٍ قطعه بعدم العودة لتلك الطرقات وانتهاج الطُرق الملتوية، وهو قطع الوعد ونقضه أول مرةٍ وهاهو ينقضه للثانية..
خرج من شروده على صوت هاتفه برقم الرجل نفسه صاحب عملية الآثار الأخيرة فزفر بحنقٍ ثم خطف الهاتف ليجدها المكالمة السابعة الفائتة دون جوابٍ منه، ولكي لا يتهرب جاوب، واستمع للحديث، فأتى رده فاترًا مقتضبًا:
_كنت مشغول شوية يا حج معلش، وزي ما قولتلك على معادنا إن شاء الله هجيب معايا الخبير اللي قولتلك عليه ونشوف البيت ونعاين، بس أصبر يومين علشان الحكومة شادة حيلها بسبب المشروع الجديد ومحدش عارف يفلص منهم، بس وعد حوارك هيخلص كله حاضر.
إبان حديثه رفع رأسه ليجدها تقف أمامه بكتفي متهدلين وحينها أغلق الهاتف سريعًا ثم انتفض يواجهها بقوله ملهوفًا بتوترٍ أضاع حروفه:
_”نـور”.. أنتِ جيتي إمتى؟.
رمشت له بتيهٍ ثم قالت بصوتٍ خرج من شق الأنفس:
_أنتَ رجعت تاني للطريق دا؟ مقدرتش تحافظ على وعدك للمرة التانية ليا؟ ما صدقت تجيلك الفرصة عشان تغلط؟ ولا علشان بقيت مضمونة ليك خلاص واتجوزتني يبقى ضامن إنك مش هتخسرني؟.
بكت وهي تسأله ترثي حالها وصمته أمامها يخبرها عن طيب خاطرٍ أن ما تتفوه به صدقٌ وحدث بالفعل، طعنها بخيبة الأمل في قلبها، وقبل أن تتحرك من أمامه أوقفها بلهفةٍ يتوسلها بالبقاء:
_استني بس، أنتِ فاهمة غلط، المرة دي أنا فعلًا مجبور والله مش بخاطري، المرة دي كل حاجة ضدي ومفيش حل تاني غير إني أحـ….
قطعت حديثه حينما دفعت كفه بعيدًا عنها وصرخت فيه باهتياجٍ صريحٍ:
_بس كفاية كدب بقى عليا، كل مرة تكون أناني وتختار الطريق السهل ليك اللي بيحقق اللي أنتَ عاوزه وبتجيبها في إنك مجبور؟ المرة الأولى علشان تحافظ على شغل عيلتك وباباك وورثك، والمرة التانية علشان خاطري أنا و “چـودي” وخوفك علينا، والمرة دي بقى ليه؟ قالولك هنشغل مراتك رقاصة في كباريه؟ وبنت أختك هنسرحها بمناديل؟ أنتَ كداب واللي فيه طبع مبيسيبهوش، وأنتَ طبعك قلة الأصل يا “سـراج”… ليه يا أخي تكسفنى قدام نفسي دا أنا كنت مراهنة عليك.
بكت أمامه بضعفٍ وهي تخبره عن كسره من جديد لها، بينما هو أمسك وجهها بين راحتيه وقال مستجيرًا بتضرعٍ:
_علشان خاطري يا “نـور” بلاش كلام يخسرنا بعض ويخلينا نندم بعدين، أنا مش هخون وعدي ليكِ بعدما بقيتي كل حاجة ليا، هسألك سؤال واحد بس، واثقة فيا؟ عندك شك إني ممكن أخون ثقتك وأخون العهد بينا؟ أبوس ايدك فكري قبل الجواب..
توسلها بكل جوارحه ولم يترك مثقال ذرةٍ في كيانه مخبوءةً دون أن يكشف عن حاجته لها، وهي بدورها رأت الصدق جليًا في عينيه، فأوقفت البكاء وأعطت نفسها قسطًا من الراحة وقالت برأسٍ مرفوعٍ:
_مشكلتي إني واثقة فيك، بس دي هتكون آخر مرة أثق فيك لو فكرت تخون الثقة دي وتخلف بوعدك معايا، صدقني مش هقدر أسامحك ولا هتلاقي حاجة تشفعلك.
رمت كلماتها وكادت أن تتركه وتذهب نحو بيت والدها لكنه سحبها نحوه وأطبق عليها بعناقٍ قويٍ يتشبث بها كما يفعل الغريق ويجد نجدته في لوحٍ يقله لبر الأمان، حاولت أن تدفعه بعيدًا عنها لكنه غمغم متوسلًا لها أن تبقى حتى رضخت له وسكنت حركتها بذهنٍ شاردٍ حيث اللامفر من قلقٍ عليه وبسببه هو لا غيره.
__________________________________
<“في ماضيا وحاضري ومستقبلي أنتِ كل شيءٍ”>
الماضي رُبما يمر، والحاضر طيفه يسري، والمستقبل قد يكون مُبهمًا، لكن هناك بعض الأسس تتواجد في كل زمانٍ وحينٍ، فلا ماضٍ تخفى منه، ولا حاضر نعايشه بغيرها، ولا متستقبل نطمح إليه إلا بها، فماذا لو كانت أسس العشق مُخلدة بين صفحات كل زمانٍ ونحن فقط نُسايرها؟.
أمطارٌ كثيفة هطلت بغير نُذرٍ وكانت أقرب للسيول، عرقلت على خطها نظام السير في المدينة بأكملها، وتوقف العمل بإطرادٍ قاسٍ في بعض الأمكنةِ، حتى الطُرقات أصبح السير فيها شاقًا للغاية، ومن وسط الجموع كانت “ضُـحى” عالقةً حتى أتى “إسماعيل” إليها بسيارته وأنقذها حينما أخبرته عن فشلها في إيجاد سيارةٍ تقلها لبيتها، وقد سبق وأخبر والدها عن اصطحابها لبيته ثم يعيديها من جديد لهم..
وفي بيت “نَـعيم” جلست وسطهم تمازحهم وتضحك معهم وهي تشاهد المشتريات التي جلبها “إيـهاب” لصغيره الذي يفصله عن وضعه بمهده فقط أيام معدودات، كانت تبارك لهم وتمازح “سمارة” وتخبرها أن لم تكن بزوجة العم الهينة وإنما هي تؤكد بقولها:
_أنا مش هكون مرات عم طيبة خالص، صدقيني هخطفه منكم ولو حد فيكم فكر يقرب منه هاكله، مش هسيبك تتهني بيه لوحدك خدي بالك.
وقد أتاها الرد بترحيبٍ من الأخرى ضاحكةً:
_مش هتكون مرات العم؟ مبروك عليكِ يا حبيبتي يتربى في عزك على الأقل هضمن شوية نوم بعد الولادة، شهلي أنتِ بس وتعالي وأنا والله ما هحوش حد عنك.
قطع وصلة الحديث بين الجميع خروج “مُـنذر” من غرفته يرتدي ثيابًا تدل على خروجه من البيت حيث سترة جلدية سوداء أحكم إغلاقها وقد ألقى عليهم التحية باقتضابٍ وفتورٍ ورد عليه البقية بأكثر ازدهارًا، وقد سأله عمه بمزاحٍ:
_أخيرًا خرجت من أوضتك؟ عملت إيه إمبارح مع خطيبتك صحيح؟ قولت هترجع متأخر لقيتك مكملتش ساعتين ورجعت، أنتَ تمام؟.
طاف بعينيه على الجالسين ثم أطلق زفرة قوية تعبر عن ثقلٍ يحمله بداخله ثم قال بثباتٍ واهٍ عكس صراخ الروح:
_تمام متقلقش، بس ممكن لما أجيلك أقولك؟.
عمه لم يكن بجاهلٍ ولا غريبٍ عن ذويه، وإنما من نظرةٍ في وجهه أدرك أن ليس على ما يُرام لذا أومأ له موافقًا ولمح انسحابه بعينين شاردتين ماثلتهما عينا “إيـهاب” في النظر، بينما “ضُـحى” فلمحت عينا زوجها أثناء تتبعهما له فرفعت نفسها تصل لأذنه وهتفت بشفقةٍ عليه:
_تصدق بيصعب عليا أوي؟ فكرني بيك أول معرفتي بيك وأنتَ بائس ولوحدك وحزين زيه كدا، طب تصدق؟ صاحبك دا عاوز حد زيي كدا في حياته ياخد بحسه ويونسه.
ولأنه يغار وبشدة ونزعته الرجولية قوية وجد نفسه يسألها بسخريةٍ أقرب للتهكمٍ بنبرةٍ هامسة:
_جرى إيه يا مطرقعة ما تظبطي كلامك، خليكِ في حالك واللي يخصك وبس، سيبي كل واحد في حاله ومالكيش فيه.
ضحكت رغمًا عنها من تقلبه وجعدت ملامحها تسخر منه، فيما تنهد هو بقوةٍ ثم سألها بنبرةٍ خفيضة يعلم منها إلى أين تفكر حيال أمره:
_طب لو كان قدامك فرصة تختاري بينا إحنا الاتنين كنتِ هتختاري مين فينا؟ بما إننا شبه بعض ومش فارقة؟.
بدلت ملامحها لأخرى شقية وعابثة ثم قالت بصدقٍ يقسم أنه لن يراه في أعين أخرى غيرها ولن يصله التأكيد من نبرةٍ تماثلها صدقًا:
_أنا لو قدامي كل الدنيا دي هختارك أنتَ قصاد الكل يا “إسماعيل” ومش عاوزة غيرك، حتى لو كل الناس بقت شبهك بس أنتَ عندي متتقارنش بحد أبدًا.
نطقت والرد على نطقها لن يُستسغ أمام البقية، لذا شبك كفه بكفها ثم وقف يستأذن من البقية وبالأخص والده الروحي:
_عن إذنكم يا جماعة، “ضُـحى” هتروح تبص بصة على الخيول ونرجع تاني.
تحرك بها يقبض على كفها وفي الخلف شقيقه يطلق صفيرًا عاليًا عابثًا ثم تبع ذلك بجملةٍ أكثر عبثًا:
_أيـوة يا عم الله يسهلك، كان زمان وولىٰ.
لكزته زوجته في مرفقه لكي يتوقف عن إحراجهما فمال عليها يهمس بخبثٍ يعبر عن بالٍ رائقٍ يملكه هو دللت عليه غمزته الشقية:
_ما تيجي نروح نبص بصة إحنا كمان.
في الخارج وصل “إسماعيل” بها لمكان الخيول ثم وقف خلفها وهي ترفع كفها تمسح فوق رأس الخيل وعرقه النابض كما علمها هو وهي تهتف بمرحٍ:
_إزيك يا “قـمر” عامل إيه؟.
لا يعلم لما رآها ترمي الاسم بتلك الطريقة كأنها تتكيء على مخارجها، فاقترب منها يضع كفه على كفها وهو يقول بنبرةٍ خفيضة توغلت لسمعها:
_على فكرة هو ليه اسم تاني بيحبه أوي، ممكن تقوليله يا “بـحر” وهو هيفرح برضه، أنا اتفقت معاه نغير الاسم علشان مش منطقي تبقى أختك اسمها “قـمر” وتسأليني أنتَ فين أقولك عند “قـمر” مش ناقص جنانك عليا.
ضحكت بصوتٍ عالٍ وهي تعود برأسها للخلف وقد شاركها الضحك هو الآخر ثم حتى تواصلت المُقل ببعضها ونطقت الأعين بحبٍ صادقٍ وهي بالأخص تحتضنه بعينيها مما جعله يتحدث بانشداهٍ نحو عمق بُنيتيها بخليطٍ من عسلٍ دافيءٍ:
_عارفة؟ بحب أوي لما تبصيلي كدا من قريب كأن عيونك بتحضني، في مرة “صلاح چاهين” كان كاتب بيت حلو أوي عن العيون لما بشوف عيونك بفتكره، الحضن في عيون اللي بنحبهم ملهوش مثيل في الدنيا، كأن العيون حاضنة القلوب..
بدا الحماس جليًا فوق ملامحها تنتظر منه المزيد فوجدته يميل أكثر عند أذنها وهتف بنبرةٍ آسرة لها يكرر عليه حديث “صلاح چاهين” وكأنما كُتِبَ الكلام لأجل تلك المتمردة:
_”‏أعرَف عيون هي الجمال والحُسن
‏وأعرَف عيون تاخد القلوب بالحُضن”.
توسعت بسمتها أكثر ثم التفتت بِكُليتها لتصبح في مواجهته بينما كفيه تسللا لخصرها يُقربها منه ثم ابتسم بسعادةٍ وهو يتمنى أن تدوم أبدًا وطويلًا، تمنى أن تبقى معه في كل وقتٍ وحينٍ وزمانٍ ومكانٍ، وقد لمح بعينيه عُلبة طلاء الجدران والكتابة فوقها، فتحرك نحوها ثم أمسكها وعاد يجلس على عاقبيه ثم دون كتابةً فوق الجدران:
“أنتِ لستِ الوحيدة التي خلقها الإله في
الدنيا لكنك أنتِ الوحيدة التي خلقها الإله في قلبي
الملك أخناتون مخاطبًا زوجته نفرتيتي
إسماعيل الموجي مُحدثًا زوجته ضُحى”
خط بيده ذلك فوق الجدار ثم رسم مفتاح الحياة لدى المصريين القدماء كدليلٍ على خلود حُبهما سويًا، ثم التفت لها بعينين ضاحكتين على عكس هدوء ملامحه ثم نطق مُفسرًا:
_مفتاح الحياة دا أنتِ بالنسبة ليا، والكلام دا صدق علشان أنا حاسس بيه، صحيح أنتِ مش الست الوحيدة اللي في الدنيا دي بس أنا وقلبي مش شايفين غيرك أنتِ وبس، شكرًا إنك مكملة معايا الطريق رغم صعوبته.
يا الله.. هل يُحرم الإنسان لكي يُعوض بمثل هذا؟ هل كل ما سبق عليها كان تمهيدًا فقط لمجيء رجلٍ مثله يُعمر خراب روحها؟ واحدةٌ كانت مجرد فتاة في نظر رجلٍ يلهث خلف أي فتاةٍ تملك قدرًا من الجمال حتى ولو كان متواضعًا، والآن هي أمام رجلٍ يخبرها أن نساء العالم بأكملهن لا يأتين معها في مُقارنةٍ واحدة… جلست بقربه فوجدته يضمها له بحمايةٍ كان ذات يومٍ هو يبحث عنها في جُنح الليل.
رُبما قصص العشق تتواجد منذ أن بدأ التاريخ يسطر حكاياه فوق الجدران لتنازع الزمن حتى تبقى مكانها وتُخلد بغير ميتةٍ، وما بين ماضٍ خلد القصص ومستقبلٍ في انتظار المزيد، ها هو الحاضر يُدون فوق جدرانه حُبًا جديدًا..
__________________________________
<“أطلقوا الصوت من اللسان والحبر من الأقلام”>
الأقلام في بعض الأحيان تكون كما اللسان تصرخ وتُنادي وتُطالب؛ فيأتِ من يخشى ذلك ويُكمم الأفواه ثم يسرق الحبر ويُمزق الأوراق ثم يقطع السُبل على كل حُـرٍ يسير بحثًا لمخرجٍ من نظام الرقيق والعبودية، لذا كُلما زادت الأقلام كتابةً؛ كُلما زادت الأصوات ارتفاعًا..
كل شيءٍ غريبٍ في تلك الحياة قد يكون أصيب هو به، لقد هرب منذ الأمس بعد عودته من مقابلته لها وامتنع عن الذهاب لعمله، هو يعلم أن المسألة وقتية فقط قبل أن يُشرد من جديد وتقام عليه الحرب، لذا سمح لنفسه بعطلةٍ رسمية كي لا يواجه شقيقها وهو بمثل تلك الوضاعةِ، يكفيه نظرتها له وبكل تأكيدٍ لن يتحمل نظرة الطبيب النبيل صاحب المُثل العُليا..
أوقف دراجته البخارية عند منطقة “جبل المُقطم” في انتظار الرفيق الذي يعمل بدلًا عنه ويسير خفاءً لكي يقتنص ما يوده كلاهما، وقد جلس بنصف جلسةٍ يرتكن فوق الدراجة ثم أشعل سيجاره فلمح الآخر يحمل حقيبة ظهره ويضمها بكفها وهو يقف وسط مجموعة من الصبية الصغار ويُراقص كُرة قدمٍ فوق رأسه بمهارة لاعبٍ لا يقدر فريقٍ كاملٍ على صد حركاته، استمر على فعله حتى صفق له الصغار وأطلق له “مُـنذر” صفيرًا عاليًا يلفت نظره نحوه..
اقترب الصديقان من بعضهما ببسمةٍ بشوشةٍ مهما فعل الزمن بهما من أفاعيلٍ لم يقدر على محو بسمتهما تلك، عناقٌ دافيءٌ أتى من “باسم” لم يقدر الآخر على مبادلته بل سلم نفسه له، حتى ابتعد “باسم” وهتف بمزاحٍ لم يلِق مع صدق مشاعرهما:
_كفاية مياصة بقى ونشوف ورانا إيه؟.
امتعض وجه “مُـنذر” ثم تنهد بقوةٍ ثم فتح الآخر حقيبة ظهره يشير بداخلها تزامنًا مع قوله مُفسرًا:
_هنا كل حاجة عندك ليها علاقة بـ “حمزة التهامي” الله يرحمه، كل المقالات وكل العناوين والأسماء والرموز كمان اللي كان بيستخدمها، وهتلاقي فلاشة فيها كل حاجة عندك عاوزها، قبل ما يموت الله يرحمه، كتب عن كل حاجة حصلت، عن المستشفيات الاستثمارية وإزاي بتكون ستاير تخفي وراها كواليس الإتجار بالأعضاء، واتكلم عن مستشفيات الأمراض العقلية وإزاي بتكون ستارة لاستغلال فقد أهلية الناس ويتم التجارة بيهم، واتكلم عن الآثار وتكتم الحكومة عليهم وعلى الناس اللي بيتاجروا وعن تورط أعضاء في مجلس الشعب، مش بس كدا، دا خبط في كام وزارة بالاسم وذكر رموز من أسماء عنده مقالاته، كل دا عمله في وقت قصير، وبما إنه يملك موقع وجريدة كان شريك فيها باسم عيلته كلها كان معليهوش أي قيود..
_هتلاقي عندك كل حاجة بتاريخها وبوثائق بصور وحالات وشهود كمان عندك، وهتلاقي كل الأماكن اللي كان بيدور فيها والصور اللي كان بيستخدمها هو والشاب اللي كان بيساعده، أما قتله بقى، فدي طريقة أبالسة متخليش الجن الأزرق يفكر حتى في تكذيبها لو ثانية، ضربة معلم بصحيح، كان عنده ساعتها مناسبة عائلية وهو رايحها خبطته عربية، بس مش دي الفكرة، الفكرة إن العربية كانت بتسوقها بنت والبنت دي نزلت عادي بعدما خبطته ووقفت وعملت الإجراءات وبانت قتل خطأ بغير عمد، وأتحكم عليها بسنة سجن، البنت قضت المدة وبعدها فص ملح وداب، وفي نفس السنة وقع كام رجل أعمال منهم ورا بعض ومنهم اللي اتقتل ومنهم اللي انتحر في السجن، بس ماظنش كدا حق “حـمزة” رجع، حقه لسه في رقاب الكل.
اندفع “مُـنذر” في وجهه يهتف بحدةٍ:
_حقه رجع إزاي؟ حقه لسه متعلق في رقبة كل ظالم مش قابل يسمع الأصوات، حقه مجاش علشان اللي وقعهم هو بنفسه اللي قواهم في يوم من الأيام، حقه مرجعش ومش هيرجع غير لما الناس كلها تعرف مين هو “حـمزة” اللي مات علشانهم وعلشان صوتهم يوصل، مش قادر أصدق إني كان مطلوب مني في يوم من الأيام أصفيه بنفسي، وكويس إنه كان تعاملك أنتَ اللي معاه من بعيد، يمكن أقدر أقبل بذنبي إني مقدرتش أحميه منهم، بس ذنبي دا هكفر عنه حتى لو هموت بعدها مش فارقة، بس على الأقل أموت بكرامة.
ناوشت الريبة قلب “باسم” وحفرت بمخالبها في قلبه فازدرد لعابه بخوفٍ واندفع يسأل بترقبٍ كانت اللهفة وسيلة إظهاره:
_”مُـنذر”!! بلاش تهور منك، أنا بعملك اللي عاوزه علشان أريحك وتتأكد إني في ضهرك بس بلاش غباء يخليني أخسرك، أنا خسرت “حـمزة” وخسرت كتير بس بلاش أنتَ كمان، بعدين أنتَ ليه خلتني أكتبلك المقالات اللي طلبتها وليه عاوز رقام لجان إلكترونية؟ ناوي على إيه تاني؟.
السؤال هُنا هل كُل ما ينتويه المرء يقدر على تنفيذه؟ نعم إذا استدعى العزيمة المطلوبة سيفعل المرء ما لم يُخيل له حتى أن قدراته قد تفعلها، وفي خضم شروده هتف بحرقة الغريب بوطنه:
_ناوي أرجع حق “حـمزة” وأي حد صوته راح علشان الناس تعرف حقها فين، هعرف الناس إن فيه شباب لسه واعي وفاهم مش كلهم بيجروا ورا الرقص والمخدرات والشذوذ والأفكار الهباب دي، هقولهم إن حقهم دلوقتي لو مفاقوش ليه هيعيشوا عبيد طول عمرهم، مفيش بلد في الدنيا شبابها ينفع يرفع أيده عنها ويسكت عن حقه أو حتى ميعرفش أنه ليه حق فيها لو كلنا بقينا مغيبين، مين اللي هيدافع عن حقنا؟ كدا كدا بايظة من كله.
رمقه الآخر بيأسٍ ثم هتف بلهفةٍ كأنه تذكر لتوهِ:
_صح، الورق دا هتلاقي فيه حاجات تخص “يـوسف” سواء في فترة المصحة أو بعد كدا، هتلاقي عندك كمان بحث علمي باسمه هو، والغريب إن بحث زي دا يترفض أصلًا، ومش بس كدا دا اتسرق واتنسب لناس تانية، وبعدها اختفى تمامًا، البحث دا كان معمول عن مواد من مشتقات البترول بتتدفن في الصحرا لأن تفاعلها قوي مع الطبيعة حواليها وبالتالي أثرها صعب أوي، علشان كدا “يـوسف” عمل بحث عن المواد دي، ولقى إن مواد منها تقدر تدير مصانع وآلات حربية، وتدخل في الأسلحة والذخيرة والسلاح النووي، لو دولة فقيرة ومُعدمة قررت تستغل المواد دي وتحطها ضمن بدايل البترول والمقودات المعروفة، بس للأسف محدش ركز معاه ولا سمعله، وآخر حاجة بحثه دا أترمى ومحدش يعرف حاجة عنه، وكان سبب لقهر “يـوسف” على بحثه وشغله.
تعجب “مُـنذر” مما يُسرد عليه وشرد بحيرةٍ وهو يفكر لما كل الظروف كانت ضد “يـوسف” ولم ينصفه أي شيءٍ في تلك الحياة حتى علمه وعمله؟ لما لأنه شابٌ ولد وعاش في خضم تلك الصراعات؟ هل يُعقل أن عقلية فَذة مثله تقابل بهذا الكم من الإهمال؟ هل من الأساس الأوطان لا تكترث بشبابها وكل ما يعنيها فقط ذوات الشيب المتحايلين؟
آهٍ.. وألف آهٍ على أوطانٍ يخسر بها المرء
ماضيه وتاريخه بأبخس الأثمان،
وآهٍ من أوطانٍ يُقتل فيها الحاضر بكل قهرٍ،
وآهٍ من أوطانٍ من رغب أن يحيا بها مستقبلًا عليه أن يُسكت لسانه، ويكسر جناحيه، ويُجفف حبر قلمه، ويُعصم عينيه عن كل خطأٍ، آه.. وياليت الآه تُعبر.
__________________________________
<“لحظة فقد واحدة هي الفيصل بكل شيءٍ”>
لحظة واحدة يفقد فيها المرء كل شيءٍ كانت تطله يداه من ثم ينقلب كل شيءٍ برمتهِ ولم تعد الحياة كما كانت، يفقد شيئًا أو عزيزًا ومعهما يفقد نفسه كأنما غادر جزءٌ من الروح، فلو يعلم كل مرءٍ منا أن كل شيء سوف يغادر لما كان أحب شيئًا لتلك الدرجة..
منذ رحيلها عنه وهو لم يعد كما هو، تبدل حاله كُليًا وأصبح صوته يجذب البعيد قبل القريب وأنفعالات غضبه طالت طاقم العمل بأكمله، لقد جرد حياته منها ولم يعلم أن هي من كانت درعًا له ذات يومٍ، أصبح “عـاصم” على شفا حُفرةٍ من قهرٍ لحقه بسبب غياب “مادلين” عنه وكأنه نزعت يديدها عن حياته وتركته في منتصف الطريق بعدما غدرت به وخانت ثقته..
كان يجلس بوجومٍ يسكن وجهه وملامحه بتحفزٍ شديد لافتعال أي معارك كأنه يصارع شياطين رأسه، وعلى إثر ذلك ولجت “رهـف” بجسدٍ مُرتجفٍ بسبب حالته الغريبة منذ أيامٍ، وقد حدجها بنظرةٍ تعج بالسُخفِ تجاهلتها عن قصدٍ ثم وقفت أمامه تهتف بتوترٍ:
_لو سمحت فيه حاجات كتيرة متلغبطة بسبب غياب “مادلين” وهي لوحدها مع حضرتك اللي كان ممكن تعالجها والإدارة حاليًا لسه ماخدتش أي قرار؟ هل نقدر ناخد قرار بديـ….
قبل أن تُكمل بتر حديثها بصراخٍ هادرٍ في وجهها:
_يــوه!! أنتِ غبية مبتفهميش ليه ؟ أطلعي برة شوفي حد من البهايم اللي برة خليهم يشوفوا حل، ولا أقولك روحي شوفي “يـوسـف” بيه خليه يقطع شهر عسله وييجي يشوف حل مش دا ماله اللي كل دماغنا بيه وصدعنا؟ خليه ييجي بسلامته، بــرة يلا.
ارتجف جسدها إثر البكاء وهرعب العبرات من عينيها تتوالى فوق وجنتيها، تشفق على حالها كثيرًا وهي تُعامل هكذا بتلك الطريقة السخيفة رغم كونها هنا تحمل الكثير على عاتقها، وقد خرجت ركضًا من مكتبه وقد تشوشت رؤيتها بسبب الدموع، وتوجهت نحو مكانها المفضل تجلس به، وفي الخلف لاحظها “عُــدي” الذي كان يُراقب ركضها من خلف زجاج مكتبه وقد لحقها نحو موضع جلوسها ثم قال بلهفةٍ:
_أنتِ بتعيطي ليه؟ حصل حاجة زعلتك؟.
رفعت رأسها وطالعت عينيه بأخريتين باكيتين ثم انتوت كذبًا تعلم أنه ليس بالسهولةِ لكي ينطوي عليه لكنها ستفعل:
_لأ، أنا بس حسيت بضغط من الشغل، يمكن دي هرمونات إمرأة عاملة تحت الضغط.. والسكر كمان والله.
فهم أنها تكذب لتخفي شيئًا؛ فمال عليها يسبر أغوارها بعينيه ويُناقض قولها بما تفوه به من بين شفتيه:
_كدابة، عينك بتكدبك وأنتِ مبتعرفيش تكدبي أصلًا، وأنا مش غريب عنك، إزاي هسمي نفسي جوزك وأقرب حد ليكِ لو مش فاهم اللي فيكِ يا “رهـف”؟.
هرع الدمع أكثر وأسرع وكأن باهتمامه لمس أهم الأوتار في إمرأةٍ مثلها وهي ضعفها، لذا أخبرته بما حدث معها دون أن تترك شيئًا في الخبيئة، أخبرته عن إهانته لها وطرده لها بتلك الطريقة المُهينة، وقد تحفزت ملامحه وأحتدت قسماته وتلبسه الغضب الأعمى، فاستقام وتحرك بخطواتٍ واسعة يدك الأرض أسفله وهي خلفه تركض لكي توقفه فوجدته يفتح باب مكتب الآخر ثم ولج كما الإعصار المدمر..
وقف قبالة الآخر ثم هتف بنفاذ صبرٍ:
_اسمع!! إحنا هنا مش شغالين عند أهلك، إحنا في مكان محترم وولاد الناس وأسلوبك من الصبح دا مش هينفع معانا فأظبط حالك بدل ما أظبطك أنا، أما بقى إنك تغلط فيها وتعلي صوتك عليها فدي أنا مش هسمحلك بيها، ولولا فرق السن ما بينا كان زماني معرفك مقامك، بس هعمل حساب إنك للأسف كبير وكان زمانك معاك عيال من دوري، وخلاصة القول تعتذر ليها دلوقتي، بدل ما قسمًا بربي هكسر المكتب دا فوق دماغك هنا، هي كتر خيرها شايلة الشغل وساكتة، إنما تفكر تقل منها أنا هقل منك قدام الكل، اعتذر ليها قــولت.
توسعت عيناها بغير تصديقٍ بعدما هدر هو بصراخٍ حاد في وجه الآخر وقد وقف “عـاصم” يقلب الحديث في رأسه ورأى أن في نهاية الأمر هي لم يكن لها شأنًا في كل ذلك، كما أنه يحبها وتحظى بمكانةٍ منذ صغارها لديه، فلا ضررٍ من مجرد اعتذارٍ في حقها؛ وقد نطق بضيقٍ جزعت له نفسه:
_حقك عليا يا “رهـف” أنا آسف.
توسعت عيناها أكثر فيما استكانت ملامح خطيبها ثم بادر بالتحرك وهو يقودها للخارج ونطق بجمودٍ قبل الرحيل:
_جدع، المرة الجاية لو حصلت هكسر دماغك هنا.
أنهى حديثه ثم قادها للخارج حيث مقر جلوسها المُفضل تتابع النيل من حولها، وقد تحرك من جوارها واختفى لثوانٍ ثم عاد وجلس بقربها في يده زجاجة عصير، وزجاجة مياهٍ ثم مد يده لها بهما حتى ابتسمت هي ببهوتٍ ثم تناولت منه الأشياء بصمتٍ، بينما هو لأجل مدينته التي طالبت منه الاستبسال لكي يحارب لأجلها، اليوم لن يتوارىٰ عن تحصينها بالكامل ضد هجمات أي عدوٍ، هي المدينة المستعصية وهو خير الفاتحين لها..
__________________________________
<“مرة واحدة في العمر نعِش به ليلةً تكون بكل العمر”>
كما تمر ليالٍ لا تُنس من شدة حُزنها وكربها على النفوس، وكذلك تأتِ ليالٍ أخرىٰ قد يفقد المرء فيها نومه من شدة فرحته، ليلةٌ قد تبدأ بألمٍ ثم تنتهي بأملٍ، ومن فم عاشقٍ أضناه سبيل الحُب، نطق هو أمام العالم أن كل المدائن لا تهمه لو لم تكن مُطلة على أضواء عينيها، وكُل الناس غُرباء عنه لو لم يكونوا له كما كان قلبها..
الأمر بدأ يختلف رويدًا رويدًا من ناحية كوابيسها، وبات هو أكثر تحكمًا في حالها بقربه، ففي البداية يبدأ الكابوس بحلمٍ يشبه حلم مراهقةٍ تختلس العشق من حبيبٍ سريٍ ثم يبدأ الحلم بتحويل مساره وقبل أن تنتابها الحالة يكون هو ندًا لكابوسها المروع، وكما يغزو حلمها، يغزو واقعها أيضًا وتفق بين ذراعيه تتنهد بعمقٍ، الأمر بات كمجملٍ يساور نفسه بمتعةٍ تُكللها الحماية..
وهاهو ينام ويتوسد الفراش يغط في نومٍ هاديءٍ والساعة شارفت على إتمام الثالثة صباحًا وقد غط في نومه منذ ما يقرب الساعتين وهي بجواره تنأى بنفسها بعيدًا بسبب حلمها، وقد وصلته همهماتها باسمه وهي تناديه، فتقلب للجهةِ الأخرى هاتفًا بحنقٍ:
_يا بت عاوز أنام، سيبيني في حالي بقى.
أولاها ظهره لكي يتجاهل صوتها ظنًا منه أنها تناديه في صحوها، لكن هسمها باسمه جعله يفتح عينيه ثم التفت لها واستند برأسه فوق كفه يراقبها بنصف عينٍ فوجدها تهتف باسمه من جديد وحينها ابتسم لرؤية محياها باسمًا على استحياءٍ ثم هتفت بنبرةٍ خافتة:
_أنتَ أحسن راجل في الدنيا كلها.
عقد حاجبيه ثم مال عليها يسألها بنبرةٍ أقرب للهمس:
_ هو مين دا؟.
_أنتَ يا حبيب عيوني.
جاوبته بخجلٍ من بين نومها وقد رفع حاجبيه بغير تصديقٍ ثم افتر ثغره ببسمةٍ هادئة ثم قال بسخريةٍ يشير إلى من تتحدث عنه في نومها:
_نفسي أكون مكان الصايع اللي خاربها في أحلامك دا، شكلها متيسرة معاه بالجامد، صحيح ناس ليها التهتهة في الكلام، وناس ليها الهنا في الأحلام.
حرك رأسه بيأسٍ وهو يراقب بسمتها وخجلها إبان نومها وفي طرفة عينٍ تحول كل شيءٍ للنقيض تمامًا؛ فباتت ترتجف في نومها وبدأت تغمغم بحديثٍ غير مفهومٍ تتوسل أحدهم أن يتركها ويترك جسدها، وحينها ضمها لجسده بحمايةٍ وبقدر ما حاولت أن تدفعه بعيدًا عنها؛ بقدر ما ازداد تشبثه بها أكثر وهتف في أذنها بقوةٍ ينتشلها من كابوسها:
_قومي يا “عـهد” متسمعيش كلامهم أنا معاكِ هنا أهو، قومي شوفي بنفسك هتلاقي نفسك معايا وفي حضني، قومي وفتحي عينك متخليش حد ييجي عليكِ، أنا هنا معاكِ أهو وأنتِ في حُضني وفي بيتنا، اللي مخوفك مش موجود أصلًا، فتحي وبصيلي يلا.
توسلها بمزيجٍ من القوةِ والحنو لكي تخرج مما هي به وقد انتشلها صوته لتفتح عينيها وتطوف في الغرفة بصمتٍ حتى استقرت بنظراتها فوق ذراعيه المُمسكيْن بها فتنهدت بقوةٍ ثم تشبثت به أكثر تهتف برجاءٍ تعلم أنه لن يخيب:
_خليك جنبي، متمشيش.
أومأ لها موافقًا ثم حرك كفه يمسح فوق منابت شعرها واستمر فوق خصلاتها المُسترسلةِ للخلف ورافق فعله؛ قوله الأكثر حنوًا:
_أنا معاكِ مش همشي ولا هقدر أسيبك أصلًا، دا أنتِ كلك أنا وأنا كُلي أنتِ، يبقى إزاي أسيب نفسي وأمشي؟ معاكِ وفي ضهرك يا “عـهد” لحد آخر نفس فيا.
تتهدت بقوةٍ فعلم أن تلك المرة كابوسها كان قويًا عليها فلثم جبينها ثم سألها باهتمامٍ:
_بقولك إيه؟ نقوم مع بعض نشرب شاي بالنعناع وناكل الفطاير الحلوة اللي أنتِ عملاها دي؟ بصراحة أنا جوعت أوي وماكلناش كويس، تمام؟.
أومأت له موافقةً ثم ولجت المرحاض بينما هو تحرك يسبقها نحو المطبخ وقام بوضع الفطائر داخل جهاز التسخين “ميكروييف” وقام بتحضير الشاي حتى ووقف بصمتٍ وبداخله يُشفق عليها كثيرًا، شعر بها تقف بجواره فحرك رأسه نحوها بصمتٍ فوجدها تسأله بتعبٍ:
_هو إزاي بعيد عني ومسجون ومش سايبني في حالي؟ ليه كلهم خلاص دورهم خلص بس مش بيسبوني، أنا نفسي أنساهم شوية وأشوف حياتي، أنا تعبت وعمالة أتعبك معايا، أنتَ بتحاول تقرب وأنا راضية بس عقلي رافض يصدق أي حاجة جديدة، صدقني تعبت.
ابتسم لها ثم ضمه بأحد ذراعه فتوسدت صدره برأسها بينما هو ظل يمسح فوق ظهرها حتى وجدها تتنفس بعمقٍ ثم ابتعدت عنه تهتف بلهفةٍ:
_ينفع نروح نقعد في البلكونة شوية؟.
بالطبع لن يرفض لها طلبًا لذا وافق وقام بسكب الشاي في القدحين وحمل الفطائر ثم ولج بها الشُرفة ليحقق أحد أحلامها البريئة ثم أغلق زجاج الشُرفة لكي يكونا بكامل حُريتهما، وقد جلست هي أمامه تشتم روائح الشتاء والسماء تنذر بمطرٍ قريبٍ، وهي تجلس أمام حبيب الروح فابتسمت له وهو شارد الذهن ثم سألته بحماسٍ:
_ينفع آجي في حضنك؟.
رفع حاجبيه تزامنًا مع بسمة عذبة زينت وجهه ثم فرق ذراعيه لها فتحركت نحوه تجلس على رُكبتيها وتلقي بباقي جسدها بين ذراعيه حتى ضمها هو بقوةٍ ثم أسند رأسه فوق رأسها بصمتٍ رانَ بينهما قطعته هي بضحكةٍ واسعة وهي تقوم بعد كل شيءٍ يُضفي لنفسها فرحًا:
_تخيل معايا كدا، قاعدة في بلكونة أحلامي، معايا مشروبي المفضل والفطاير اللي بحبها، مع راجل قمور وحلو ورومانسي وتقيل، وفي شقتنا مع بعض بعد كل حاجة عدينا بيها والدنيا شتا ومطر، تخيل ناقصنا إيه تاني علشان نكون مبسوطين؟.
أسبل أهدابه لأسفل ثم جاوبها بمزاحٍ جريءٍ منه:
_حتة عيل وتبقى جبرت يا عسولة.
ضحكت رغمًا عنها وضحك هو الآخر ثم ضمها له من جديد ومسح فوق خصلاتها ونطق بما ينقصهما لتكتمل تلك الليلة:
_ممكن تغنيلنا أنتِ، وكدا يبقى مش ناقصنا حاجة، وحشني صوتك أوي ومن بدري مغنيتيش ليا.
ابتسمت بكل حماسٍ ثم ابتعدت عنه تراقب ملامحه بعينيها كأنها تفعل مثله وتبحث عن شيءٍ يُلهمها في اختيارها وما إن وجدت صفاءً في عينيه وتبسم في محياه، طوقت عنقه بذراعيها ثم بدأت في الغناء بقولها:
_عمري ما شوفته ولا قابلته،
وياما ياما شاغلني طيفه،
عمري ما شوفته ولا قابلته
وياما ياما شاغلني طيفه..
وفي يوم لقيته، لقيته هو..
هو اللي كنت بتمنى أشوفه
_نسيت الدنيا وجريت عليه
سبقني هو وفتح إيديه..
لقينا روحنا على بحر شوق
نزلنا نشرب ودوبنا فيه،
ومين دا يصدق يجرى دا كله
ونعيش سوا، ونعيش سوا
عمر كله في يوم وليلة وليلة ليلة ليلة.
أنهت الغناء وهي تُمرر أناملها فوق وجهه وقد لثم هو أناملها ما إن اقتربت من شفتيه وما إن تواصلت الأعين معًا ضمها له من جديد وكأنه يفرض عليها حمايته في صحوها كما يفعل في نومها وها هي ليلة جديدة رائقة لن تُنسَ كان فيها العاشقين تحت ظلال الحُب في ليلةٍ شتوية أتى المطر فيها يزرو جلستهما، ليلة مقصدها أن الشبيه لشبيهه يطمئن والتائه لمسكنه سيظل يحن.
**********
ولأن ليس كل البشر بنفس الخصال؛ فبالتأكيد لن نجد منهم نفس الأفعال، وفي ليلةٍ شتوية ممطرة بخريرٍ جامدٍ نزل من سيارته لوجهته المنشودة ومنها نحو البناية المرغوبة، وتوجه للطابق المراد، وثيابه وقبعة معطفه تُقطر المياه الغزير، وقد فُتح الباب وهو يبتسم ببشاشةٍ وشوقٍ ما أن ظهرت “شـهد” أمامه وقد ارتمت عليه تُعانقه وهي تقول بلهفةٍ:
_مصدقتش نفسك لما قولتلي إنك هتعرف تيجي يا “نـادر” فرحتني أوي ووحشتني.
ضمها هو بكلا ذراعيه ثم ولج وأغلق الباب خلفه، وما يُدار هو بالطبع شيءٌ لا نعلمه ولا نعلم خباياه وكما قيل أن ليل الشتاء كان ساترٍ لكل أمرٍ مخبوءٍ، ويالها من ليلةٍ شتوية خبأت الكثير بين طياتها.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى