رواية غوثهم الفصل المائة والسابع عشر 117 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الجزء المائة والسابع عشر
رواية غوثهم البارت المائة والسابع عشر
رواية غوثهم الحلقة المائة والسابعة عشر
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثاني والثلاثون_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
____________________
عقيدتنا تقودنا عبر الطريق
يصونها اليقين..
تكلؤها رعاية الرحمن من مخاطر الطريق
فتطمئن للوصول في يقين..
وغيرنا تاهوا في الطريق
إذا آثروا أن يرحلوا بلا يقين..
فأضطربت مسالك المسير
وضل عنهم الطريق.
_”عماد الدين خليل”
“ابتهالات في زمن الغُربة”
__________________________________
سأكتب تلك المرة للوصفِ رغم كونه لم يُنصفك..
أتعلمين كل ماهو غريبٌ وسارقٌ للأبصار والأنظار معًا؟ هكذا أنتِ، في الحقيقة كنتُ مولعًا بكل ما هو قديمٌ وغريبٌ تستأصل فيه العراقة ويتمسك بأقدمية الزمان، رُبما أنتِ أسطورة لم ترد في أساطير اليونان بأكملها، ورُبما قوية قوة “شيريهان” وهي تتحدى العالم لتُجبر ناسه على الخضوع لها ولقوتها، أتعلمين تحديدًا من أنتِ؟ أنتِ في كل وصفٍ ما يجعل المرء شاعرًا براحته بعدما كان سيفٌ موضوعًا فوق نحره ثم أنزاح عنه ليلفظ أنفاسه الأخيرة، هل سبق لكِ وأدركتِ شعور الغريب لموطنه؟ أو شعور عودة الابن الضال لأمه؟ هل أدركتِ شعور يوم العُطلة لشخصٍ لم ينل الراحةِ لمدة أسبوعٍ متواصلٍ من الأعمال الشاقة؟ أو رُبما مشاعر الشبع من المياه بعد ظمأٍ طال وحَجَر الحَلق، يبدو أنكِ لا تعلمين من أنت، لكني أعلمك جيدًا، فالمرء لن ينس من أعطاه الحياة، ولا يغفل عن سبب النجاة، أنتِ في أدق وصفٍ لكِ أسطورة رائعة من وسط الأساطير النادرة، وفتاة قوية من وسط مدينة يسكنها الجُبناء، وقريبة من الفؤاد حتى بات الجميع في تواجدك غُرباء..
<“كل شيء هُنا مُباحٌ في الحُب والحرب”>
كل شيءٍ مُباحٌ في الحُب والحرب، لكن ماذا إذا كان حُبك هو ذاته ساحة الحرب؟ بكل تأكيدٍ سيضطر الفارس إلى خوض الحرب والقتال فيه بضراوةٍ حتى لا يكون جبانًا، ولكي نربح علينا في بعض الأحيان اللجوء إلى المداهمة الغير متوقعة، خاصةً إذا كان الهدف يُشبه عـكا في حصونها وتمنعها، فعلى المُقاتل أن يُداهم بكل قوةٍ ومن يعلم؟ لعل مداهمته تُكلل بالنجاح ويخترق الحصون المنيعة وينل وسام الشجاعة والاستبسال..
وزع “عُـدي” نظراته بينهم ثم هتف بشموخٍ وهو يشير على كلتيهما وكأنه أراد تفجير قُنبلته في وجه الجميع بغير رحمةٍ:
_دي الآنسة “ميار” كانت خطيبتي.
أبتسمت الفتاة بتكليفٍ فيما تأججت نيران “رهـف” وظهرت الدماء المندفعة في وجهها وحينها أضاف “عُـدي” مُشيرًا عليها بقوله:
_ودي الآنسة “رهـف” إن شاء الله هتبقى خطيبتي.
قام بتفجير مفاجأته الغير متوقعة أمام الثلاثة حتى هو لم يعرف كيف تملكته الجُرأة لذلك الحد لكن كرامته لن تقبل أن يُصبح مجرد لُعبة يريدها شخصٌ وقتما يشاء ويتركها وقتما يشاء لذا أخذ الخُطوة وكانت المفاجأة صادمةً لهم من العيار الناري الذي ما إن يُصيب هدفه يستقر في مركزه، وقد وقف شامخًا كأنه لم يفعل أي شيءٍ فيما تتبعته الأنظار المُتعجبة ليبتسم هو بجانب ثُغره ما إن وصله رد الفعل على حديثه وخاصةً “رهـف” التي رمته بنظرةٍ تائهة جعلته يتولى قيادة الأمر قائلًا:
_الحقيقة كنا لسه بنخطط نعلن عن الموضوع بس لسه علشان كتب كتاب “ضُـحى” كنت مآجل الكلام في الموضوع دا حاليًا، بس أنتِ مش غريبة يا “مـيار” وزي أختي يعني.
الصاع يُرد صاعين وبقوةٍ أشد، هي من سبق ووقفت أمامه تُنهي علاقتها به وتُفضل عليه غيره لأجل شقة أكبر حجمًا ولأجل وظيفة أكثر مالًا، فهل يُعقل أن يأمن فردٌ على نفسه مع فتاةٍ سطحية مثل هذه؟ يبدو أن بعض البشر نسوا أن كما تُدين تُدان والموقف يُرد حتى ولو تغير العنوان، وقد فهمت الأخرى ذلك فتراجعت متقهقرة كمدينةٍ ظالمة ظلت تُنادي على المُحارب وتفاجأت به يستبسل لأجل الدفاع عن أخرىٰ، فهتفت بحديثٍ ودي لكنه مصطنعٌ:
_مبروك يا “عُـدي” تستاهل كل خير، مبروك يا آنسة “رهـف” وربنا يسعدكم مع بعض، عن إذنكم.
أنهت حديثها وأولتهم ظهرها لترحل بما تبقى من كيانها المُبعثر وقد وقف “يـوسف” مشدوهًا بينهما يتابعهما بعينيهِ ليجد “رهـف” تخرج من طور صدمتها وهي تقول بإندفاعٍ بكل آسفٍ ظهر فيه توترها حتى خرجت حروفها مُتقطعة:
_أنـ… أنتَ بأنهي حق تعمل كدا وتقول.. تقول اللي قولته دا، هو أنا لعبة في إيدك يا أستاذ أنتَ؟ شوف أخوك يا “يـوسف” وفهمه إن كدا غلط…
كانت ستكمل حديثها لكن إقتراب “عُـدي” منها بطوله الفارع يُهيمن عليها بظلهِ جعلها تصمت لتجد عينيه تقريبًا تبتسمان وتعكس جمود ملامحه حين هتف:
_أنا عملت اللي مينفعش يتعمل غيره، وقولت اللي هيحصل ومش هتنازل عنه، ومش هتبقي خطيبتي بس لأ، أنتِ هتبقي مراتي وأم عيالي كمان، ودا علشان أنتِ مش عارفة عاوزة إيه، بس أنا عارف وفاهم وقابل كمان.
كان يُشير إلى علاقتها السابقة وإلى الصدمة التي لازالت تُعاني منها وأخبرها بمدى تقبله لها، بينما هي فتوترت للحظاتٍ وزاغت عيناها في كل مكانٍ تهرب من النظر إليه حتى وجدته يُضيف بنبرةٍ رخيمة:
_حرام عليكِ تضيعي قلبين عاوزين الأمان لبعض.
حسنًا بتلك النبرة وهذه الطريقة أجبرها أن تخضع للنظر داخل عينيه لتتلاقى الأعين وتتحدث المُقل ويستشف خوفها وهي تتوسله أن يبتعد وفي نفس التوقيت تترجاه أن يدنو تجاه حصونها ويقوم بهدمها ويُحارب لأجلها، وهو الباسل الشُجاع سيحارب لأجلها وفي تلك اللحظة تراجع “يـوسف” وترك لهم فُرصة الحديث، فبكت “رهـف” وهي تسأله بالفكرة التي جالت بخاطرها وقررت أن تصارحه بها:
_هو أنتَ قولت إني هكون خطيبتك علشان ترد اللي هي عملته فيك قبل كدا؟ لو كدا أنا مش هزعـ..
بترت حديثها حينما أندفع أكثر نحوها وأسكتها بإصبعه الذي لم يُلامسها بل أشهره في وجهها وهتف بنفاذ صبرٍ منها:
_لو أنتِ شايفة نفسك كدا أنا مش هقدر أشوفك كدا، أنتِ مش بديل ولا كوبري علشان أرجع بيكِ حقي، بس كان لازم تفهم إن مكانها مشغول بحد تاني غيرها، وإن مبقاش ليها مكان جوايا، هي كانت ضيفة لحد ما صاحبة المكان تظهر، وأهيه ظهرت خلاص يبقى ليه بقى تتردد على مكان مش مكانها؟.
حديثه كان يُشبه الصمت بعد حربٍ وقصفٍ حتى أبتسمت له بعينيها الزرقاوتين ولمح هو الإطمئنان في نظراتها وغرق في أمواج عينيها الفيروزية وقد سيطر عليها الإرتباك اللحظي فوجدته يهتف بشرودٍ في عُمق عينيها:
_صحيح أنا مش سباح غشيم بس الموج في عيونك عَفي.
غازلها بكل صراحةٍ وكأنه يُدمر الحدود الفاصلة بينهما وقبل أن تبتعد عنه وتهرب من سطوته وجدته يهتف من جديد بثباتٍ دون أن يُرمش له جِفنٌ:
_كتب كتاب أختي بكرة، ومستنيكِ وهاجي أجيبك من بيتك لو ماجيتيش، عاوز أعرفك على الحج والحجة، أتفقنا؟.
أومأت بشرودٍ ثم أبتعدت عنه أخيرًا وهي تلتقط أنفاسها المهدورة في ساحة قتاله وقد تتبعها هو بعينيه براحةٍ تامة حينما أختطف من عينيها الحديث المسكوت عنه حتى فضحته عيناها، استشف نظراتها الآملة فيه بكل خيرٍ رغم الخوف البادي في عينيها وقد عاد له “يـوسف” يهتف بإعجابٍ صريحٍ بموقفه:
_أهيه چينات “فـضل” ظهرت أهيه، جدع إنك عملت كدا وسمعت كلامي، على فكرة هي محتاجالك أوي فوق ما تتخيل، بس “رهـف” جبانة أوي وبتخاف من بعد موت باباها وموت “حـمزة” وحاطة في دماغها إن أي حد هيسيبها، ورينا شطارتك هتكمل ولا هتغرق من على الشط؟.
أبتسم له “عُـدي” وطفق الإصرار يظهر في نظراته وهتف بتحدٍ لنفسه قبل البقية يبث لروحهِ العزيمة المفقودة:
_وراها لحد البراميل.
ضحك “يـوسف” له ثم مسح فوق كتفه بينما “عُـدي” فتنفس أخيرًا وأيقن الوجوب الواقع عليه في أن ينتقل للمرحلة الثانية في علاقته بها لتُكلل بشكلٍ رسمي، وكأن صوت شهامته ومروءته أخبره أن ما لم يرتضيه لشقيقته لا يرتضيه لغيرها، وبالتالي سيكمل حربه حتى النهاية المُرادة، فإما الغزو والتوغل داخل أراضيها، وإما الإنسحاب كُليًا لكن أولًا علينا تذكر أن كل شيءٍ مُباحٌ في الحُب والحَرب..
__________________________________
<“من يسكنه الخطأ لن يقتنع بالصواب”>
حزين، مهموم، ثقيل الوجود، عزف العالم بأكملهِ، كره نفسه وكره دور الضحية ودور المغدور به الساذج الذي عاش عمره في غياهب الظلام، ضاق عليه رحب الفضا ولازال البكاء لم يسعهُ، يريد أن يبكي لكن البكاء لن يكفيه، لو كان بكاءً كان بكىٰ، ولو كان حُزنًا كان حَزِن، لكن الأمر يُشبه القتل في روحٍ تتألم ولن يدركها الموت حتى الآن..
جلس “نـادر” في غرفتهِ حبيسًا وهو يتذكر كل تفاصيل حياته وخاصةً الحادث الآخير الذي كان بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير وقضت على الروح وما تبقى منها، أقتربت منه “فـاتن” تجلس بجواره فوجدته يزفر بقوةٍ لكي يهرب منها بخزيٍ تراقص بحزن في مُقلتيه وحينها ربتت هي فوق رأسه فوجدته يزدرد لُعابه بألمٍ وهتف بصوتٍ مبحوحٍ:
_اللي فيا مش قادر أعيش بيه وكأن الدنيا مش مكفياني، ولا قلبي بقى مكفيني خلاص ولا مكفي حُزني، أنا تعبان أوي ومقهور، أول مرة أحس إنها ضيقة عليا كدا، ليه؟ ليه عملت كدا وقتلت ابني كأنه عيل ابن حرام، محسيتش بيه للدرجة دي؟ أنا دلوقتي عاوز آخد نور عينيها وأعميها علشان عينيها الجاحدة اللي مفيهمش أمان، أنا حبيتها بجد، وكان عندي استعداد أحارب كل الدُنيا علشانها، والله كان استعداد أحارب الكل علشان هي تبقى بأمان، نفسي أقتلها.
تركته يُخرج مافي جَبعته وطاقته السلبية والألم الساري في روحه ثم سحبته لها وجعلت رأسه يتوسد صدرها ومسدت على ظهره بحبٍ بالغٍ وهتفت بحديثٍ هاديءٍ تمسح فوق قلبه:
_اللي عملته هو الصح يا حبيبي، سيبها تروح لحال سبيلها وربنا الحمدلله نجدك منها بدل ما تضيع عمرك على واحدة زي دي، والحمدلله إن الطفل دا مجاش الدنيا علشان ميكونش عنده أم زي دي، أديك شوفت الأم الضعيفة السلبية بتضيع حياة ابنها إزاي وبتوصله لفين.
أشارت بحديثها على حالها وحاله وقد استشف الألم في عينيها فتراجعت هي عن هذا الوضع ثم أضافت من جديد:
_ربنا يعوض عليك، وعلشان كدا عاوزين نروح حارة العطار ونقعد هناك، أبـوك خلاص السواد ملا قلبه وعمى عينه ومبقاش أمان، وخوفه من أبو “شـهد” هيخليه يعمل أي حاجة علشان يضمن سلامته، لازم نكون هناك معاهم.
تنهد بعمقٍ يُخرج الضيق الكامن بين جنبات صدره وقد استمع لصوتٍ مُزعجٍ يأتي من الخارج جعله يترك الفراش ويستند على عصاه ويهرول للخارج متجاهلًا ألم قدمه فوجد أمامه والده الذي هتف بغلظةٍ بعدما أقتحم الشقة وفتحتها له “حنين”:
_يلا معايا علشان تروح ترد مراتك، وترد إعتبارها زي ما أهانتها وهتعمل حفلة كبيرة وتعزم فيها الشركة كلها، وتصلح الهبل اللي عملته، أنا معنديش استعداد أخسر كل حاجة بسبب هبلك وغبائك، يـلا.
سحبه من كفه وحينها أفلت “نـادر” يده من قبضة أبيه وأضاف بصلدةٍ وخشونةٍ:
_مش رايح ومش هردها وملهاش وجود تاني عندي في حياتي، ولا حتى إعتبار يترد، اللي عملته كان جزء من حقي اللي هي داست عليه وفرمته، ومش لازماني تاني خلاص، أنا بقيت بقرف منها.
أقترب “سـامي” يقبض فوق تلابيبه وهتف من بين أسنانه المُطبقة فوق بعضها بغيظٍ ونفورٍ وبُغضٍ كأنه يحاول الاستمساك بآخر ثوابت عقله:
_أنتَ لو فاكر اللي عملته شطارة تبقى عيل خايب وبريالة كمان، بعملتك دي الكل بيتكلم عنك وعنها والموظفين طلعوا كلام زي الزفت عليكم، لدرجة إنهم قالوا إنها خانتك، شوفت وصلت لإيه بغبائك دا؟.
سأله بإنفعالٍ جعل “نـادر” يقوم بدفعهِ بعيدًا عنه وأضاف بوجعٍ من نظراته وهو يرمق والده الذي خيب أماله للمرةِ التي يفشل في حصرها:
_ومين قالك إنها مخانتنيش؟ اللي عملته دا كان أصعب من الخيانة كمان، هي قتلت ابني اللي أنا كنت بحلم بيه وهي عارفة إني كنت محتاجه، قولتلها أنا ماليش حد وعاوز يكون عندي عيلة تحبني وأحبها، قولتلها أنا محدش بيحبني علشان أنا “نـادر” وكلوا بيحب اللي بياخده مني وبس، حتى أنتَ عمرك ما حبيتني، أنا كنت لعبة بتقهر بيها “يـوسف” وتنصر نفسك على “مُصطفى” بيها، قولتلها لو بقيت أب أنا عندي استعداد أصلح كل حاجة وأولهم نفسي، بس هي إيه؟ مسكت السكينة اللي كنت بحمي نفسي بيها وقطعت في روحي وأنا حي، لسه عاوزني أرجعلها؟ يا أخي ملعون أبو دا حب اللي يخليني مُهزأ كدا، مش عاوزه حتى لو كان منك أنتَ..
تهدج صوته وأنكسرت نظراته وأرتخى جسده لكنه تحامل على نفسه ووقف صامدًا وقبل أن يتحدث من جديد وجد “عـاصم” يظهر من خلف باب الشقة وجاور “سـامي” وحينها أبتسم بتهكمٍ وطالع وجه أمه التي رمقت شقيقها ببغضٍ بينما أضاف “عـاصم” بثباتٍ:
_أنا اللي جابني هنا مش والدك لأنه أصر إني مطلعش، بس أنا جاي علشانك وعلشان “نـزيه” بهدل الدنيا بسبب اللي عملته، مش هيرحمك لا هو ولا عيلته، رجعها ورُدلها إعتبارها وبعدين حلوا مشاكلكم مع بعض بالهدوء، متنكرش إن اللي عملته كان غلط كبير أوي في حقك قبل الباقيين، دي بنت ناس برضه مش واحدة من الشارع.
من جديد يبتسم بنفس السخرية مواريًا خلفها ألمه ووجعه وقد هتف بثباتٍ كاذبٍ حيث تنافىٰ مع ألمه وإرتجاف روحه:
_تصدق بالله، أنا لو كنت جيبت واحدة من الشارع كانت هتبقى بنت أصول عن “شـهد” ولا إزاي بقى مش حضرتك اللي مطبخها معاه، وفهمتوني إن “يـوسف” مش بيحبها وعاوز يوصلها وياخد اللي عاوزه منها وباباها خاف عليها وهي خافت منه علشان المصحة اللي كان فيها؟ وساعتها بقيت أنا الواد الخلوق المتربي اللي صلح الغلط وبيلحق سمعة العيلة!! صح؟ خدوا الكبيرة بقى أنا لغيت التوكيل اللي كنت عامله ليها والشقة بتاعة الكمباوند كتبتها باسم أمي وهأجرها وكل حاجة ليها هناك وصلتها بيتها الصبح، وتحمد ربنا إني راجل بيقدر قيمة انها ست، علشان لو حد غيري عربجي كان أقل واجب خلاها خدامة تحت رجله وكنت ساعتها هاخد اللي أنا عاوزه كله، فطلبكم مرفوض وأنتم مش مرحب بيكم هنا، ولو على أبوها أعلى ما في خيله يركبه، وياريت يبقى يربي بنته بقى.
وجهٌ جديد يتلبسه، ملامح حادة ظهرت فوق صفحات وجهه، نظرة قاتمة يرمقهما بها، قوة شخصية جديدة طفقت تعلن عن نفسها عليه، حدة طباعٍ يبدو أنه سيتسلح بها، والأهم من كل ذلك إصراره على ما يُريد، وقد أرشقه “سـامي” بنظراتٍ نارية حادة جعلته يجلس فوق المقعد وهتف بلامبالاةٍ ظاهرية:
_تشربوا حاجة ولا تلحقوا تمشوا قبل ما “نـزيه” يتصرف؟.
قام بطردهم بطريقةٍ مباشرة وغير مباشرة في آنٍ واحدٍ حتى رحلا من أمامه بينما هو فأشبه في لحظته هذه الطفل الذي لم ترحمه القبيلة وأحرقه جسده لكي يُدفيء ليلهم، فعادت روحه المسلوبة تحرق أجسادهم على قيد الحياة وحينها جلست أمه بقربه فيما وقفت “حـنين” تُناظره بشفقةٍ وهي بين الفنية والأخرى تراه يتلقى صفعة جديدة فوق وجهه تتسبب في إنحناء ظهره.
__________________________________
<“إن غدًا لقريب لكي يجمع كل حبيب”>
من المُتفرض أن الغد هو يوم النور في حياته من بعد الظلام، الغد سيجمعه بالحبيبة التي رآى فيها كل أملٍ وتمنى أن تكون هي له كل أملٍ، الغد سننسى الآلام ونُرافق الأمال، الغد سيتلاشى الظلام وتحل محله الضُحى، الغد سيرافق القلب “ضُـحى”..
على عكس عادته الجامدة والقوية كان قلبه يُهلل مثل الطفل الصغير بفرحٍ وهو يَعُد الساعات المتبقية لأول لقاءٍ بينهما يحق له فيه أن يضمها ويختطفها من كل العالم، يبدو أن هناك مؤامرة وقتية تُحاك ضده حتى لا تأتي اللحظة المطلوبة ويتحقق حُلمه، لكن على كلٍ كما صبر طوال عمره سيصبر مُجددًا حتى يمل منه الصبر، وقد وقف أمام الحُلة السوداء التي سيرتديها غدًا وأبتسم بعينيه ثم أخرج من جيبه طاقم الذهب الخاص بها، ثم السلسال الذهبي الذي أمر بصناعته لأجلها خصيصًا حيث كانت القلادة عبارة عن مفتاح الحياة الفرعوني وقد دون اسمها عليه باللغة الهيروغليفية لتكون هديتها الخاصة منه هو..
تنهد”إسماعيل” بقوةٍ وتمم على أشيائه النفيسة كأنه طفلٌ صغيرٌ عشية العيد يُتمم على ثيابه الجديدة ويعد الوقت لكي يرتديها منذ بزوغ الفجر حتى وقت الضُحى، ففرحته كانت فرحة غير عابرة، حتى الآن لم يُصدق أنه أحب ووقع في شِباك الحُب، حتى الآن لم يُصدق أن هناك من فرضت سُلطانها على القلب، وقد خرج من غرفته نحو الخارج وسط الهرج والمرج الشديدين ومنه وصل لخارج البيت فوجد “نَـعيم” يقف بجوار الجزار وهتف بصرامةٍ يأمره:
_مش هوصيك تدبح وتخلص علشان الأكل يتوزع بكرة، الساعة خمسة أهيه، على عشرة تكون كل حاجة خلصانة، وأظن الرجالة عندك والعِدة والحاجة، أتفقنا؟.
رجلٌ في وقاره وهيبته إذا أمر يُطاع وإذا نادى تلقى التلبية، وقد اشار الآخر على عينيه وتحرك من المكان نحو الأضحية يتوجه بها نحو المكان المُخصص للذبيح، ووقتها أقترب “إسماعيل” يسأل والده الروحي بتعجبٍ:
_هو في إيه؟ وإيه العِجل دا جه إمتى؟.
أبتسم له “نَـعيم” ووقف أمامه يهتف بتفسيرٍ من خلال ملامحه المُنبسطة:
_دا يا سيدي فضلة خيرك أُضحية علشان نأكل الغلابة ونفرح الناس، ناسي سيادتك إن كتب كتابك بكرة؟ ولا عاوز الناس تاكل وشنا بقى؟ يقولوا “نَـعيم الحُصري” اللي السمان كلها بتقفله جوز ابنه من غير ما يوجب مع الناس؟.
أهتز ثبات “إسماعيل” لوهلةٍ وأرتجف قلبه إثر حديث الآخر وطالعه بتعجبٍ من نظراته التائهة وهو يستفسر بحيرةٍ:
_بس “إيـهاب” مقاليش حاجة خالص، ومقالش كمان إننا هندبح ولا هنجيب حاجة هنا، كل اللي قاله ليا إنه هيبعت حاجات لبيت “ضُـحى” علشان ميصحش منعملش بأصولنا، بس معرفش حوار الدبيح دا.
حينها كان يشعر بالاستغراب البالغ فوجد الآخر يكاتفه ويقف بمحاذاتهِ وطوق كتفه بذراعه الكبير وأضاف بحبٍ له:
_علشان أنا ماليش دعوة بـ “إيـهاب” أنا قولتله ناوي أعمل إيه وقولتله إني عاوز أفرحك علشان ربنا يكرمك والناس تدعيلك، بعدين أنتَ مالك هو أنا هحاسبك ياض؟ سيبني أفرحك زي ما طول عمرك مفرحني ومريحني ومخليني متطمن، مبروك يا غالي.
ترقرق الدمع في عيني “إسماعيل” وطالعه بحبٍ خالصٍ فاض من نظراته وحينها أقترب منه يضمه ويعانقه فلم يكن أمام “نَـعيم” إلا أن يتشبث به ويمسح فوق ظهره وكأنه لم ينس أن هذا الشاب القابع في عناقه هو نفسه ذاك الصغير الذي أهتم بأمره وأول من أظهر حنانه ومسح دمعة هاربة من عيني “نَـعيم” حينما بكى على فراق أحبته، ومن هذا الحين وهما معًا يحتويان بعضهما البعض..
في نفس البيت بجوار غرفة الخيول..
وقف “مُـنذر” يشعر بالضيق يستولى على رحابة صدره، ويشعر أن هناك همٌ يجثو فوق صدره ليمنع عنه حُرية التنفس، لقد عاش طوال عمره لا يكترث بمشاعره ولا نفسه حتى أصبح كما الآلة المُبرمجة، لكن الأمر يزداد في الخطورة الآن، فلقد بدأ من إهتمامه بـ “مُـحي” ومحبته لعمه وبحثه عن “تَـيام” ومحاولة استرجاع حق “إسماعيل” وكأن هذا الطبيب المتحذلق يفشل في معالجة نفسه، والكارثة الأكبر أن القلب يميل لتلك الاستثنائية عن الجميع ويريد أن يتمسك بها في حين أن كل شيءٍ ينذره بالخطورة، لكنه يقف عاجزًا عن فعل أي شيءٍ..
لاحظ صوت خطوات ناعمة تتهادىٰ إلى أُذنيه كأنها تخشى الإقتراب من حظائر الخيول الذي وقف بقربهم لكنه ألتفت ليجد “چـودي” صاحبة الملامح الشقراء تقف أمامه ببسمةٍ لطيفة ثم نطقت بتوترٍ من تواجدها:
_أنا جيت علشان شوفتك لوحدك من بعيد، ممكن أمشي لو متضايق عادي مش مشكلة.
ثبت عينيه عليها وفكر لوهلةٍ خاطفة هل كل الفتيات الصغيرات ينجذبن له هو تحديدًا؟ هل جاذبيته تسرقهم نحوه أم فضولهن لغموضه وصمته هو ما يدفعهن لإكتشافه؟ طال صمته وتفحصه لها بينما هي فكادت أن تتحرك وتترك المكان لكنه أوقفها قائلًا على عُجالةٍ:
_أقفي!! تعالي متمشيش.
توسعت ضحكتها بشكلٍ ملحوظٍ حتى قرأ هو تعابيرها المُنبسطة ووجدها تقترب منه ووقفف بجواره ثم طلبت منه بتلقائيةٍ:
_ينفع تشيلني علشان أعرف أشوف الخيول؟.
أومأ موافقًا ثم حملها بين ذراعيه ومال بها نحو الخيول فوجدها تمسح على رأس أحدهم ثم أخذت قطعة من الجزر الموضوع وأدخلته في فم الفرس وهي تضحك بحماسٍ بالغٍ بينما هو فراقبها مُبتسمًا حتى صفقت بكفيها كتعبيرٍ عن فرحتها وهي تقول:
_Yes, Yes
_أكلته لوحدي، ومخوفتش لما أقول لـ “عمهم” عرفه علشان لو مش هيصدقني ماشي يا “مُـنذر”؟.
أبتسم لها وأومأ بشرودٍ مع ملامحها البريئة بينما هي أسلتت نفسها من بين ذراعيه ثم جلست فوق الدرجتين الرُخاميتين وحينها جاورها هو بصمتٍ فوجدها تحرك رأسها للأمام وهي تسأله بتعجبٍ من طيلة صمته وغموضه:
_هو أنتَ ليه مش بتقعد معانا كلنا وبتكون لوحدك؟ على فكرة الميس قالت إن مينفعش نكون لوحدنا كتير، أنا كنت زيك وبقعد لوحدي برضه، بس بطلت خلاص.
ضيق جفونه يسألها بصمتٍ عن سبب حديثها وقد أنفلت لسانه يسأل بتعجبٍ:
_ليه كنتِ بتقعدي لوحدك؟.
سؤاله كان في غير محله حيثُ فتح لها العديد من الجراح والآلام فهتفت هي بصوتٍ مبحوحٍ من الحزن:
_علشان بابا وماما ماتوا وأنا كنت بقعد لوحدي، و”سـراج” كان بيروح الشغل ويسيبني، بس الميس قالت إن كدا مش كويس ولازم نكون بنقعد مع ناس كتير ويكون عندنا صحاب بس أنا مش عندي صحاب خالص، أنا بحب “سـمارة” أوي.
حسنًا فتاة صغيرة ثرثارة تتحدث عن كل الأمور مثل الكبيرات ويبدو أن حب الحديث فطرة لديهن منذ الصغر، هكذا فكر فيها لكنه نحى تفكيره جانبًا وسألها بتعجبٍ:
_ليه مش عندك صحاب؟.
حركت رأسها هربًا من نظراته المُكتشفة لنظراتها المُتألمة وهتفت بصوتٍ مبحوحٍ أقرب للبكاء:
_علشان هما كلهم عندهم بابا وماما، أو عندهم حد واحد، بس أنا مش عندي حد، ولما بقول إن “سـراج” هو بابايا بيضحكوا عليا ويقولوا مينفعش أقول كدا علشان هو خالو بس، فأنا بزعل ومش بحب أتكلم معاهم، أصلًا بيقعدوا يغيظوني وأنا مش بحبهم خالص، أنتَ بقى مش عندك صحاب برضه؟.
حرك رأسه مومئًا لها وهتف بصوتٍ مُحشرجٍ:
_مش عندي للآسف، بس بحب “إسماعيل” و “مُـحي” و “تَـيام” و “إيـهاب” كمان ممكن نقول إن دول هما صُحابي يعني، رغم إن هما أكتر من كدا بكتير.
ضحكت له بوجهٍ مُشرقٍ ومدت كفها له لكي تُصافحه وهي تقول بنبرةٍ حماسية أثناء تقديمها لعرضها عليه:
_ممكن نكون أصحاب؟.
موقفها ذكره بموقف “تـمارا” حتى البراءة هي نفسها وقد وجد كفه الكبير يضم كف الصغيرة ويصافحها لكي يقبل عرضها بصمتٍ فقفزت هي بحماسٍ تتراقص أمامه ليكتشف هو أن العالم الممتليء بالصغيرات يُشبه العوالم الوردية التي تملؤها الزهور، وقد أقتربت منه من جديد تسأله بلهفةٍ حماسية:
_ممكن تركبني الموتوسيكل بتاعك؟ ينفع؟.
أيضًا الصِغار يحتذلقون على الكبار؟ هذا أول ما فكر به مُبتسم الوجه أمام إرتباكها لكنه قرر أن يترك نفسه لحركات الموج فأنتصب في وقفته ثم حملها بين ذراعيه وهتف بثباتٍ:
_ينفع بس بشرط، تيجي تحكيلي كل حاجة مزعلاكِ أو مفرحاكِ وأنا هساعدك علشان المرة الجاية متخبيش عيونك وأنتِ زعلانة، أتفقنا؟.
حركت رأسها عدة مراتٍ بحماسٍ فيما تحرك هو بها نحو مقر دراجته البُخارية ثم أجلسها فوقها وجلس هو خلفها ثم شرع في قيادة الدرجة فوجدها تضحك بنبرةٍ عالية وقامت بفرد كلا ذراعيها في الهواء وفتحت فمها وحركت رأسها بينما هو فأخذ بها جولة حول البيت الكبير حتى لمحهما “نَـعيم” الذي أبتسم لأجل الاثنين خاصةً حينما ضحك “مُـنذر” أخيرًا بعد يومين وأكثر من الوجوم وعبوس الوجه، وقد حضر “سـراج” الذي تولى مهمة الإشراف على عقد قران رفيقه والتحضير لكل شيءٍ يخصه وما إن لمح ابنة شقيقته وقف يُراقبها مُبتسم الوجه العينين لأجل رؤيتها سعيدة وقد تمنى أن تبقى هكذا طوال الوقت.
__________________________________
<“لقد ضاق المكان بنا وعلينا”>
في النظرات النسبية العالمية تم الإتفاق على أن لا يتواجد شيءٌ يحصل على محبة الجميع ولا يتناسب مع كل الأذواق، لكن مالم يتم الإتفاق عليه أن تتم مُحاربة مالم يتناسب مع أختياراتك أنتَ، فهل سبق لكَ وفكرت ما هو الحل إذا ما فضلته أنتَ وأخترته بمحض إرادتك لم يختارك هو ولا حتى يراك؟ فكم من مُفضلٍ أخترته أختار غيرك وهزمك أمام العالم..
في حارة العطار كان العمل على قدمٍ وساقٍ لأجل عقد القران المُحدد غدًا، وكانت المُناسبة في وقتها حيث سعادة غامرة من كل الأطراف، وفي بيت “عبدالقادر العطار” أمر بحضور ابنه الثاني الذي كان في بيت “فـضل” يعاونهم في نقل الأشياء والمقاعد ويُتمم على دار المُناسبات لعقد القران وقد كانت “قـمر” معه وذهبت معه للبيت حينما أمر والده بضرورة حضوره وقد ولجت معه فوجدت “عبدالقادر” يطالعهما بنظراتٍ قوية ثم هتف بثباتٍ:
_تعالوا أقعدوا، كويس إنكم جيتوا مع بعض.
ظهر القلق على وجهيهما وخاصةً “أيـوب” وما إن جلسا سويًا تنهد والده وهتف بلمحة حُزنٍ حاول إخفائها لكنه فشل حين نطق:
_بُص أنا مش عاوزك تزعل، بس حد مقدم فيك شكوى وإحتمال يجيبوا حد غيرك يكون مسئول عن المسجد، وأنا علشان عارف إنك هتضايق قولت أعرفك علشان متتفاجئش وحد يحرجك، ممكن تكون مسئول عن مسجد تاني أو متبقاش أصلًا.
تبدلت ملامح “أيـوب” وحاوط الجمر عينيه وقد قبض على كفه يُكظم غيظه وهو يستفسر بجملةٍ واحدة خرجت جامدة ومندفعة رغمًا عنه:
_وبسبب إيـه إن شاء الله؟.
هتف والده مُفسرًا بقولهِ الحزين لأجل ابنه:
_بيقولوا إنك بتأثر على عقول العيال الصغيرة، وإنك بتزرع فيهم فكر مُتطرف وبتلعب بعقلهم ومش بتنفذ التعليمات، بس متقلقش أنا مش هقبل حاجة تزعلك ولا تضايقك، وهتصرف وهردلك إعتبارك بس الفترة دي خليك زي أي حد بيصلي وخلي الشيخ “زيـد” يأذن هو ويصلي بالناس، لحد ما نلاقي حل.
أحب الأشياء على قلبه تُنهب من بين قبضتيه وهو الذي يجد راحته الوحيدة هناك ويشعر أنه ضيفٌ في بيت الرحمن بل ويفعل كل ما بوسعهِ لكي يهتم به، فهل يُعقل أن يُحرم من هذا الفعل البسيط المُحبب لقلبه؟ شعر بقبضة قوية تمتد لداخل قلبه تعتصره وقد وقف يهتف بصوتٍ مهزومٍ أعرب عن داخله:
_إيه الغلط اللي بعمله أنا مش فاهم؟ مجرد شاب مسلم بنصح الناس وأعلم الأطفال وأمد إيدي للشباب علشان يلحقوا نفسهم وكدا أبقى غلطان؟ واحد مسلم بينفذ أوامر دينه، مطلوب مني أنفذ تعليمات البشر وأسيب تعاليم رب البشر؟ بدل ما يسيبوني ألحقهم وأوعيهم، بس إزاي؟ لازم أبقى هلاس ومنافق وكداب وبتاع أغاني ورقص علشان أعجب والأبواب تتفتحلي، غير كدا يخنقوني ويضيقوها عليا، علشان اللي يطلعوا يبقوا جَهلة مش فاهمين ولا واعيين، كل اللي شاغلهم يملوا بطونهم ومش مهم العقول، ربنا يرحمنا برحمته، صحيح دنيا.
أنهى حديثه ثم فتح باب المكتب وغادره وحينها ركضت خلفه “قـمر” تُنادي عليه بصوتٍ عالٍ بعدما استشفت الحزن على ملامحه وصوته حتى وجدته يتوجه نحو الحديقة فركضت خلفه وهي تقول بلهفةٍ لكي تستوقفه:
_استنى بس يا “أيـوب” استنى أنا هنا.
توقف بمنتصف الحديقة وهي توقفت خلفه مُباشرةً وهي تقول بتأنيبٍ واضحٍ له:
_كدا برضه تجريني وراك الكام متر دول؟ عامل زي العيل الصغير اللي غضب ومشي في وشه، بس حصل خير، هتقولي بقى مالك ولا هتسكت وتقولي مبعرفش أقول؟ أنا ممكن أطمنك برضه، مش أنتَ لوحدك اللي بتعرف تطمن الناس.
ألتفت لها والاستفسار كان مرسومًا فوق معالم وجهه التائه وكذلك كانت نظراته لكنها أقتربت منه تقطع المسافة بينهما حتى أضحت في مواجهته مُباشرةً وهي تقول بحكمةٍ ووعيٍ غريبين عليها:
_ممكن تكون متضايق علشان أنا عارفة إنك بتحب المسجد وبتحب وجودك وإهتمامك وخدمتك فيه وحقك طبعًا، بس متزعلش نفسك علشان حاجة عادية زي دي هتعدي، مش أنتَ قولت قبل كدا إن الإنسان بيبتلى في الحاجة اللي بيحبها وعليه يصبر على الإبتلاء دا، علشان مهما كانت النتايج بتكون في صالحه؟ هفكر مكانك مثلًا وأقولك يمكن تروح مكان تاني يكون أهله محتاجينك أكتر وتاخد ثواب أكبر، ويمكن اللي ييجي غيرك يقدر يفيد هنا أكتر، ويمكن لما الأمور تتغير تلاقي حكمة جديدة ماكنتش واخد بالك منها، يمكن بترتاح في المسجد هنا وخدت على الناس وعلى رعايتهم وتقديم المساعدات ليهم بس يمكن فيه مكان تاني محتاج “أيـوب” أكتر، بعدين أنتَ ليه زعلان؟ أنتَ شاغلهم ومضايقهم تبقى ماشي صح، كمل يابني ربنا يوفقك.
مازحته بجملتها الأخيرة حتى أرتسمت الضحكة على شفتيه بتروٍ بالغٍ جعلها تبتسم له هي الأخرى فيما سألها هو بحيرةٍ حقيقية:
_من إمتى العقل والحكمة دول؟.
توسعت بسمته عند سؤالها فيما حركت هي كتفيها وهتفت ببراءةٍ وهي تُسبل عينيها نحوه بتلقائيةٍ ودون تصنع:
_أتعلمتهم منك وبقيت قدوة ليا، يعني الإنسان محتاج برضه يفكر بصورة مختلفة تخليه يشوف حقيقة الأمور بعين مختلفة عن نظرته الدايمة، بعدين أنتَ ممكن تزعل براحتك بس مش قدامي يعني، علشان هحس إني ماليش لازمة.
أقترب أكثر ثم لثم جبينها بإمتنانٍ أوضحه عُمق قبلته فوق جبينها ثم أبتعد عنها يُطالع عينيها وهو يقول ما سبق ونطقته عيناه:
_مينفعش تحسي إنك مالكيش لازمة، علشان في الأوقات اللي زي دي أنتِ دورك كبير أوي وخلاني آخد بالي من اللي توهت عنه بتفكيري، الشيطان للآسف سيطر عليا ومتأكد لولا كلامك كان زمان الزعل سيطر عليا، ربنا يباركلي فيكِ يا كُل ناسي.
أخجلها بحديثه ونظراته وبقربه المُهلك منها، فدوى صوت نبضاتها عاليًا وهي تتابعه بعينيها فوجدته يُملي عينيه من ملامحها التي لازالت البراءة مُرتسمة فوقها وفي عينيها البريئتين أيضًا أعلن افتتانه وهزيمته ليهتف بتيهٍ إثر غرقه في ملامحها:
_عارفة إنك شبه العصر الأندلسي أوي، نفس الأصالة والقوة وكل حاجة مميزة فيه، حتى كتاباته وموشحاته ومدوناته، لما كنت بحب أفصل عن العالم دا كنت بقرأ في كتب الأندلس، عصر شمسه دهبي ولونه بني دافي ومايته عذبة علطول، زيك بالظبط، القلب كان ليه حق يميل ليكِ.
إزدردت لُعابها وسألته بترقبٍ ذاك السؤال المؤرق لليلها منذ أن جمع بينهما الخالق سويًا وأضحت زوجته:
_يعني مش عاوزني أتغير؟.
حرك رأسه سلبًا ثم رفع كفه يخفي خُصلة شاردة أسفل حجابها ظهرت من ركضها خلفه وقد بدا صوته رخيمًا:
_متعمليش حاجة تغيرك وتغير براءة قلبك مهما كان السبب حتى لو أنا، أنا حبك على بعضك زي ما أنتِ، ودوري أوجهك بس مش دوري أدفنك، بكرة تكوني في بيتي وساعتها أنا هفهمك يعني إيه راجل ليه قوامة على الست، واحدة واحدة هنمشي الطريق ببعض، ومش عاوزك تعملي حاجة علشاني يا “قـمر” أنتِ عملتي الحاجة الوحيدة اللي أتمنيتها خلاص.
أبتسم عند جملته الأخيرة فوجدها تسأله بعينيها بنظرة فضولٍ جعلته يمسح فوق وجنتها وهتف بصدقٍ:
_إنك تحبيني وتكوني ليا.
توسعت ضحكتها وكأنها تعيش ليلة بداخل عالم الأحلام الوردية وقد ضمها هو له ومسد على ظهرها وهو يتذكر عناق أمـه التي كانت تحتويه في حزنه وغضبه، فهذه القطة التي تمسح برأسها فوق كتفه ذكرته بها كثيرًا فلم ينطق ولم يتكلم بل شعر أن هناك كنزٌ وقع بين يديه، وقد زاد تمسكه بها يهرب من حزنه لها هي وكأن قلبه هتف مُهللًا:
“أيها التائه الشريد بخوفٍ سكنك..
لا داعٍ لحُزنكَ فأنتَ الآن تحتضن سكنكَ”
__________________________________
<“هدية جديدة من الحياة ننسى بها ما عايشناه”>
غريبٌ هو أمر المرء حينما ينتظر قدوم لحظة مُعينة بذاتها ثم ما إن تقترب منه يود هو الفرار منها، ليس خوفًا من اللحظة وإنما خوفًا من عدم مصدقيتها، فالعقل أحيانًا يعجز عن الاستيعاب للدرجة التي تجعله يلجأ للتكذيب خوفًا الاستفاقة على أملٍ كاذبٍ يُخيب أماله..
كانت “ضُـحى” تقف فوق السطح تُتابع المقاعد المصفوفة فوق بعضها والديكورات وأدوات الزينة الخاصة بتجهيز المكان لأجلها غدًا وقد توقف عقلها عن العمل المطلوب حيث لازالت غير مُدركة أن من تمنته وراقبته في صمتٍ سيصبح أمام عينيها دومًا وأبدًا، وقد شعرت بتخمةٍ في مشاعرها كأنها تناولت وجبة دسمة فقررت الهروب من تلك الرهبة قبل أن تظهر عليها وهي خير من يتصنع القوة..
وقف “فـضل” يقوم بعد المقاعد ومراجعة الأدوات التي ستتولى “عـهد” مهمة ترتيبها بعدما طلبت العروس منها ذلك وقد جلس فوق أحد المقاعد وهو يتمنى أن تمر فرحة ابنته بسلامٍ، وقد أتت زوجته تجلس بجواره وهي تقول بسعادة أمٍ تشهد فرحة ابنتها:
_الحاجة حلوة أوي والبت بنت اللذين بقت زي القمر، بقى حد يصدق إن “ضُـحى” كبرت كدا وبقت عروسة زي القمر؟ ربنا يسعدها ويجعله راجلها دنيا وآخرة آمين يا رب.
أبتسم لها وهتف بقلة حيلة:
_أهيه أيام بتجري من العمر، هنمسكها يعني يا “أسـماء” ربك بس يسهل وأحاول أجمع قرشين من هنا لحد جوازها، وأنتِ جهزي الأكل علشان أهلك وأخواتك الناس هتيجي من الشرقية يعني سفر، ييجوا يتغدوا علطول قبل كتب الكتاب.
لاحظت الضيق المُرتسم فوق ملامحه بسبب كثرة المدفوعات المطلوبة منه فهتفت بحنقٍ تؤنبه على معاندته:
_بصراحة يا أخويا أنا مش فهماك، ما “يـوسف” قالك متشيلش هم أنا موجود و “عُـدي” شَرحه برضه والاتنين الله يحفظهم مش مقصرين، غاوي عِند ليه يا “فـضل”؟.
تنهد هو بثقلٍ ثم هتف مُفسرًا بتبريرٍ لها:
_علشان أنا عندي عزة نفس يا “أسماء” ومش بعرف أطلب حاجة من حد ولا أمد أيدي، دول عيالي عاوزاني أمد أيدي وآخد منهم بدل ما أديهم؟ مش كفاية صمموا كتب الكتاب “يـوسف” اللي يشيله كله؟ بس أنا مش هبقى راضي عن نفسي وهحس إني مقصر.
ربتت هي فوق كتفه وأبتسمت وهي تقول بحنوٍ:
_لا عمرك قصرت ولا هتقصر، طول عمرك بتعمل اللي عليك وزيادة، كنت بتحرم نفسك من كل حاجة وتسهر في الشغل وتسافر وتطبق برة علشان خاطرهم ومخليتش حد فيهم يحتاج حاجة ولا عمرك قبلت مساعدة من حد حتى الحج “عبدالقادر” نفسه رغم إنه حاول كتير معاك، يبقى آن الأوان ترتاح شوية وتخليهم يصرفوا طالما ربك فرجها من وسع وكرمهم، بطل بس تشيل الهم وربنا يرزقك.
حرك رأسه مومئًا لها ثم وقف لكي يتوجه للأسفل فأمسكت هي كفه تسأله بأملٍ قُتِل مع مرور الزمن معه:
_رايح فين؟ السطح دا محركش حاجة في مشاعرك، مفيش كلمة حلوة تبل بيها ريقي يا راجل دا أنا شعري قرب يشيب.
ضحك على طريقتها وتفوه حديثًا مُغاير لما تتفوه هي به:
_تعالي بس سخنيلي الأكل أنا جعان.
رفعت طرف منخارها ترمقه بشررٍ فيما تنهد هو وسألها بقلة حيلة زاحمتها ضحكات يائسة عليها وعلى تذمرها:
_يا ولية كلام حلو إيـه بقولك بنتك كتب كتابها بكرة وشوية وهنبقى جد وجِدة وأنتِ عاوزة كلام حلو؟ أكبري خلاص بقى.
إن أكثر ما يؤلم المرأة أن يذكرها رجُلها بتقدمها في العمر لذا كادت أن تنفجر وتصرخ في وجهه كما عادتهما لكن فرحته بابنته عرقلت طريقها حينما أقترب منها يُربت فوق كتفها وهتف بصدقٍ دون أن يُمازحها:
_المفروض متستنيش مني كلمة حلوة علشان أفعالي بتقولهالك علطول، أنتِ بنت أصول يا “أسماء” ولولاكِ مكانش زماني وقفت على رجلي تاني، لولا إنك معايا وبتهوني عليا وكملتي الطريق من غير ما تسيبي إيدي كان زماني أنا و “غـالية” لسه مكسورين بعدما الدنيا ضاقت علينا كلها، أهو أنتِ بقى مفيش منك اتنين، الست اللي تسند جوزها وتعدي معاه بكل اللي عدتيه دا تستاهل كتير، في الآخر عيالك هيمشوا وكل واحد هيشوف حياته وأنتِ اللي هتفضلي معايا، يعني أولي وآخري عندك أنتِ.
حسنًا في بعض الأحيان الكثير المنقطع يُوفي الغرض بدلًا القليل الدائم وقد أبتسمت له بعدما بثها جُرعة هائلة من المشاعر جعلتها تبتسم له وفي تلك اللحظة ولج لهما “عُـدي” الذي هتف بمزاحٍ:
_الله؟ أنا قولت البت “ضُـحى” بتشتغلني، بس واضح كدا إن “يـوسف” مش هيجيبه من برة يعني، الواد طالع لخاله، براحتكم كدا كدا بس أنا عامل حسابي مفيش جيش، تيجي يا حج “فضل” تعملهالي دلوقتي وتجيبلي أخ؟؟ أوعى.
ألتفت له والده يُطالعه بنظراتٍ ساخرة جعلته يقترب منه ثم أخرج حفنة من الأوراق المالية ووضعها بكف والده وهتف بثباتٍ ورأسٍ مرفوعٍ:
_خلي دول معاك بقى علشان مصاريف بكرة وكتب الكتاب ومتقولش لأ، الحمدلله خير ربنا كتير، وميجيش من بعد فضلك وخيرك، المهم بقى بعد كت كتاب “ضُـحى” إن شاء الله هنروح نتقدم للبنت اللي بحبها.
أندفعت “أسماء” تسأله بإنفعالٍ جم بعدما ساروها القلق بسبب حديثه خوفًا أن يكون أختارها هي نفسها للمرةِ الثانية:
_أوعى تكون هي تاني؟ أقسم بالله على جثتي البت تدخل عيلتنا، كسرت بخاطرك مرة قبل كدا خلاص تروح لأمها تجوزها بقى وتختارلها بدل ما تصدعنا.
فهم أن الحديث يخص خطيبته السابقة فأبتسم لها وسألها بزهوٍ في نفسه:
_تعرفي عني كدا؟ دي خلاص بابها أتقفل معايا وسكتها خلصت وجابت آخرها، المرة دي واحدة عندها أصل ووفية، واحدة هبقى متطمن وأنا معاها على نفسي وبيتي وعيالي، عمومًا أنتوا عارفينها، “رهـف” اللي جت هنا زميلتي في الشغل.
شهقت أمه بفرحةٍ كبرى وسألته بتلقائيةٍ:
_البت أم عيون زرقا؟.
أكد لها موافقًا فوجدها تطلق زغرودة عالية صدحت في المكان بسعادةٍ لأجل ابنها بعدما استشفت الفرح باديًا فوق صفحات وجهه، وكأنها إمرأةٌ حُيزت لها الدنيا بأكملها بسعادة أولادها الاثنين وقد ضحك والده رغمًا عنه ومسح فوق رأس صغيره يُهنئه ويبارك له، ولأول مرةٍ تلحظ زوجته تشابهما سويًا، حتى الطباع والمُكابرة هي نفسها والملامح الوسيمة نفسها، والإصرار لما يريدان نفسه.
__________________________________
<“لا يملكون أهلًا، والدنيا تُشبه الغابة”>
هُنا في حدثٍ فريدٍ من نوعه، وسط مكانٍ يُنافي في باطنه ما يظهر على خارجه، وبالطبع عقلك البريء لن يُسعفك أن تتخيل القادم أو رُبما تظنها خيالات غريبة في روايةٍ وهمية من عقل كاتبٍ يسعى للواقعية السوداوية، لكن في حقيقة الأمر هذا الواقع حدث بالفعل..
ففي واحدةٍ من دور الأيتام الخاصة برعاية الفتيات تحديدًا بداخل قبوٍ تحت الأرض تواجدت مجموعة فتيات مُغيبات عن الوعي قصدًا من الإشراف الطبي، هنا في غرفةٍ حوائطها أسمنتية وقوالب الحجارة تظهر منها بفعل الرطوبة العالية التي أكلت جدران المكان بها إضاءة بُرتقالية من مصباحٍ واحدٍ فقط حتى لا يظهر أثر الضوء، هنا وسط رائحة العفن والمياه الراكدة محلها يزحف فوقها مجموعة حشرات خبيثة، هنا وسط تقريبًا ستة عشر فتاةٍ مُلقين أرضًا فوق بعضهن لا يعلم مصيرهن إلا الخالق وحده..
وقد أقترب الطبيب الأرعن الذي يستغل عمله فيما حرمه الله يدون البيانات الموضوعة من خلال السوار المحاوط فوق رسغهن وحينها جاوره زميله يهتف بفظاظةٍ:
_خلص يا “ربـيع” العربية كلها نص ساعة وجاية، التقارير خلصت ولا لسه؟ مش عاوزين قلق ولا غلط زي المرة اللي فاتت، ركز بدل ما راسك تتقطع وساعتها محدش هينفعك.
ازدرد الآخر لُعابه وأخرج محارم قماشية من جيب قميصه يمسح بها وجهه المُتصبب عرقًا ثم هتف بتوترٍ وبنبرةٍ مهتزة بسبب خوفه من التهديد:
_ياعم بطل تخوفني، قولتلك واخد بالي، أنا نوعت في الأمراض يعني حبة تهتك في الرحم، وحبة سرطان في الثدي وحبة تانيين بسبب بتر في أعضاء في الجسم، ودي صورهم هنا أهيه، التقارير بتواريخ قديمة، أبوس إيدك أنتَ تخلي بالك من التواريخ والورق دا، لو حد عرف هنروح في داهية كلنا.
أنهى حديثه ثم ألقى نظرة على الفتيات التي في بداية ربيع عمرهن وتتراوح سنون أعمارهن من بين الرابعة عشر حتى السابعة عشر وأزيد، وقد أهتز قلبه لوهلةٍ لأجلهن فمصيرهن بات معلومًا، حيث جزءٍ منهن سوف يتم استخدامه في أعمالٍ فجة مُحرمة وجزءٍ في الإتجار بالأعضاء وبالبشر ككلٍ، جريمة تُرتكب في حق البريئات والداعم لذلك أنهن لم ولن يُسأل عن مصيرهن فهل تمتلك إحداهن أهلًا؟ بالطبع لا، فيتم الأمر وكأن ليس هناك رقيبًا، لكن من يراقب ويَطلع هو الخالق الذي لا ينام..
مسح جبينه المتندي عرقًا وقبل أن ينطق أجفل جسده حينما فُتِح الباب بقوةٍ وظهر منه مدير دار الرعاية وهتف بفظاظةٍ:
_خلص يابني منك ليه قبل ما يتنيلوا يفوقوا، المرة دي مش عاوز غباء، الناس اللي عاوزينهم مبيهزروش وممكن يموتونا كلنا عادي، يلا خلصوا علشان هيتشحنوا في عربية الزبالة.
أحقًا!! بشرٌ خلقهم المولىٰ وكرمهم ويتعامل معهم بشرٌ أخرون بمثل تلك الطُرق؟ الأمر بالطبع يتم عند ظهور ذوي السُلطة المُتجبرين في الأرض يفرشونها بالفساد والطُغيان، وقد صدح صوت هاتف مدير المكان فأخرجه بلهفةٍ وهو يقول مُرحبًا بمخاطبه:
_أهلًا أهلًا يا باشا، لأ أتطمن جهزتهم والمرة دي شوية حلوين أوي ولسه خام، خراط البنات خرطهم صح، ساعات بالكتير يا باشا وهيكونوا عندك زي المرة اللي فاتت، أنا تحت أمر معاليك، بس لو سيادتك تبعد العين عننا والتفتيشات اللي كل شوية تحضر دي كله هيبقى تمام.
وصله الرد الفظ من الآخر مما جعله يهتف متراجعًا:
_لأ يا باشا معاليك مقصرتش خالص، إحنا كلنا عايشين بخير معاليك وفضلك، مع ألف سلامة يا باشا، مع ألف سلامة.
أغلق هاتفه ثم حرك عينيه نحو الفتيات يرمق أجسادهن بنظراتٍ شهوانية فجة ثم بلل شفتيه ونطق بتحسرٍ:
_والله خسارة في أبوهم، مش إحنا أولىٰ؟.
يتحسر على جمال زهورٍ في ربيع العمر، بالطبع ليس شفقةً وإنما طمعٌ في أجسادهن وجمالهن البريء، فتيات تقدم كقرابينٍ لبشرٍ أغدقهم جنون العظمةِ وحُب الذات حتى ظنوا أن الأرض ومن فوقها تخضع لهن، لكن الخالق وحده هو من سيكشف الغُمة ويُرسل الغوث.
__________________________________
<“خلف كل رسالة فنية، قصة ألمٍ ومُعاناةٍ”>
ما يُصنع بحبٍ يصل للناس بحبٍ، وما يُكلله الإجتهاد تُجنىٰ ثماره سريعًا، وما يُصنع من باب التفاخر وحب الذات والغرور لن يكتمل ولن يُحقق المُراد تحقيقه، فأصنع أولًا بكل حُبٍ ثم أبحث عن الثمار المُجناة..
قبيل الفجر بساعاتٍ قليلة بدأت “عـهد” أولىٰ خطواتها في تجهيز المكان حتى تنتهي منه قبل الغد، وقد أفنت كل جهدها فيما تفعل بكل حُبٍ حيث يظهر للآخرين بنفس مشاعر الحُب وقد كان “يـوسف” معها يعاونها فيما تفعل بل هي توجهه وهو يتحرك ويفعل بفضل توجيهاتها له وهي تقوده وتُحركه، وفي الأسفل كانت “قـمر” مسئولة عن إعداد الطعام لأقارب “أسماء” والحاضرين من أماكن بعيدة..
تحركت “عـهد” تُنهي الخطوات الأخيرة في وضع المقاعد وتزيين موضع جلوس العروسين بخاماتٍ يدوية استخدمتها هي لأجلهما خصيصًا باللون الأسود واللون البُني الفاتح بأول درجاته حيث لون ثياب العروسين معًا، وقد ظلت تتحرك وهو معها حتى تولى مهمة الكهرباء وأضاء السطح بالإضاءة الذهبية وحينها توجه نحو الأريكة يجلس فوقها بتعبٍ ثم أمسك زجاجة المياه يرتشف منها وحينها وقفت هي تتابع المكان بعينيها بعدما حولته لمساتها إلى شيءٍ جديدٍ كُليًا..
راقبها بعينيه المُبتسمتين ثم أشار لها وحينها أقتربت منه فوجدته يُفسح لها مكانًا ثم أنزل جسدها يضع جذعها العلوي فوق فخذيه ثم مسح فوق كتفها وسألها بحنوٍ بالغٍ:
_تعبتي صح؟ تنزلي تنامي؟.
حركت رأسها نفيًا ثم هتفت بصوتٍ يتراوح بين الخدر والإفاقة والوعي:
_لأ مش عاوزة أنام، أنزل أنتَ نام بكرة اليوم طويل.
كادت أن تتحرك لكنه أوقفها وثبتها فوق فخذيه ثم حرك بنان أنامله في خصلاتها يُمسدها لها وحينها أبتسمت هي بتأثرٍ نظير جُرعة الحنين المتدفق كما الشلالات نحو قلبها، بينما هو ففعل لها ما كان يتمنى الحصول عليه حيث يمسح فوق رأسها ويحتويها بعد تعبها، وحينها سألته بنبرةٍ ضاحكة تسخر من نفسها:
_نفسي أغني دلوقتي، وعاوزة أنام.
جملتها المتناقضة جعلته يبتسم لها ثم مال بجسده عليها يُلثم وجنتها ثم هتف بمزاحٍ:
_طب ما تغني، هو أنا قولتلك لأ؟.
تتفست الصعداء ثم بدأت تُدندن بنبرةٍ صوتٍ ناعمٍ وكأن حالة الصفاء التي حاوطتهما تلك تغلغلت لداخلها حتى أنعكست عليها بتلك الطريقة وهي تقول:
_سألوني الناس عنك يا حبيبي
كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا..
بيعز عليِّ غني يا حبيبي
ولأول مرة ما بنكون سوا..
سألوني الناس عنك يا حبيبي
كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا..
بيعز عليِّ غني يا حبيبي
ولأول مرة ما بنكون سوا..
_سألوني الناس عنك سألوني
قلتلن راچع وعاتبوني
سألوني الناس عنك سألوني
قلتلن راچع وعاتبوني..
غمضت عيوني خوفي لا
الناس يشوفوك مخبا بعيوني
وهب الهوىٰ بكاني الهوىٰ
لأول مرة ما بنكون سوا.
أختارت الأغنية الأحب لقلبه ولقلبها من المُطربة الأحب لكليهما وقد أقشعر جسده وهو يستمع لها وحينها مسح فوق رأسها وسألها بإهتمامٍ:
_عارفة قصة الأغنية دي ولا لأ؟.
هذا المُثقف صاحب الذوق الفني الرفيع الذي يعلم كل القصص بالتقريب يسألها وهي لا تملك الجواب، لذا رفعت جسدها تواجهه بعينيها مُستفسرةً عن مقصده فوجدته يشرع في سرد القصة قائلًا بلباقةٍ رافقها التأثر:
_سنة ١٩٧٢ “فيروز” كانت بتتمرن على دورها في مسرحية المحطة المشهورة أوي، وقتها جوزها “عاصي الرحباني” جاله نزيف في المخ، وهو كان داعم كبير أوي ليها وعمره ما فارقها في حاجة تخصها ومكانش بيحضر البروڤات بتاعتها ودي كانت أول مرة تحصل، علشان طول عمره كان بيحضر الحفلات والمسرحيات وعمره ما غاب عنها، ومع دخوله وغيابه اتأثرت “فيروز” بسؤال الناس عنه وهو مش موجود، ساعتها أخوه “منصور” كتب الكلمات دي لما استشفها من الوضع حواليهم، وكانت زي رسالة شوق من “فيروز” لجوزها…
_ساعتها الكلام تم تلحينه من “زياد الرحباني” أخوهم الصغير اللي كان عنده ١٧ سنة وقتها، بس بعدها خرج “عاصي” من المستشفى وزعل أوي لأنه أفتكرهم بيتاجروا بمرضه وكان هيحذف الأغنية بس نجاحها ونجاح المسرحية كسر الدنيا وقتها ونوعًا تراجع علشان نجاح مراته وأعتبر إن قرار وقفها قرار إنفعالي، وبعدها بـ ١٤ سنة من الأغنية دي مات “عـاصي” ووقفت “فيروز” في حفلة قدام ألأف البشر تدور بعينها عليه بس هو مكانش موجود زي ما أتعودت، ساعتها قالت “غمضت عيوني خوفي للناس يشوفوك مخبا بعيوني” وعيطت علشان صورته كانت حاضرة معاها رغم موته وغيابه..
تأثر وهو يتذكر والده الراحل عنه وكذلك هي أيضًا، دومًا يؤثر عليها بقصصه النادرة التي تسمعها لمرتها الأولى منه هو وحينها ضمها لعناقهِ ومسح فوق كلتا عينيها حينما أجهش فيهما البكاء ثم لثم مفترق خصلاتها وكأنه يخبرها بصمتٍ رسالته ذاتها التي لم تتغير حين يهتف:
“أنا هنا” وتلك المرة هو حقًا هنا يُشاركها الفرح ثم الحزن ثم يحتويها وكأنها هي هو نفسه.
وقفت “غَـالية” تتابعهما من على بُعدٍ باكيةً بعدما استمعت للقصة من ابنها وقد تذكرت الحبيب الراحل عنها وترك فؤادها عليلًا بالعشق، تركها من أعطاها الحُب والحياة وفي تلك اللحظة أغمضت عينيها حتى توقف بكائها بسبب ألم الرحيل، وتذكرت كيف كانت تلك الأغنية هي المفضلة لكليهما أيضًا، لقد رحل عنها لكنه لم يرحل منها، وذهب وترك عالمها، لكنه لازال هو عالمها…
__________________________________
<“جاء اليوم الموعود، يوم الوفاء بالوعود”>
في اليوم التالي، أو عفوًا اليوم المنتظر من الجميع وهو يوم عقد القران، كان العمل قائمًا في بيت “نَـعيم” حيث توزيع مئات الوجبات لإطعام أهل المنطقة بأكملها وقد قام “إيـهاب” بهذا الدور وعاونه “سـراج” أيضًا والسبب أن المنطقة بأكملها تخضع لإشرافهما عليها ومعرفة أصغر أزقتها بتفاصيلها…
أما البيت نفسه فكانت البهجة تملئه بحضور “تَـيام” الذي عاون والده في التحرك والتحضير وعزيمة الناس للحفل المُقام مساءً وقد تحرك يُعرف الناس على ابنه البكري بوصفه “مُحمد” وصفته “تَـيام” الابن الذي سُرق بسبب غدر البشر ثم عاد لعناق والده، وقد هاتفته “آيـات” وحينها أنسحب من جوار والده يجاوبها بفرحةٍ لاحظتها هي وسألته عنها فكان جوابه:
_مشيت مع بابا النهاردة نعزم الناس وعرفهم عليا وشوفت فرحتهم بيا كأني ابنهم هما، كل ما نروح لحد ويعرف إني ابنه يرحب بيا ويشكر فيه وكلهم قالوا إني شبهه، أول مرة أحس إني ليا أصل كدا وإني مش لوحدي وليا ضهر، دا أبويا بجد ومسنود عليه بجد، وفرحته بيا حقيقية.
أبتسمت هي بدورها ثم تفوهت برقةٍ كعادتها:
_أنتَ تستاهل كل خير الدنيا علشان كدا ربنا بيكرمك لأنك طيب وراضي ومحترم قضاء ربنا ومش ساخط ولا ناقم، وربنا سبحانه وتعالى بيقول “ولئن شكرتم لأزيدنكُّم” وأنتَ فرحت وشكرت ربنا وربنا بيكرمك، أنا قولت أتطمن عليك علشان بصراحة وحشتني بقالك كام يوم غايب.
تراقص فؤاده بين أضلعه إثر حديثها ثم هتف بمراوغةٍ مرحة كعادته الأولىٰ منذ أن أضحت هي قرينة أيامه:
_دا كرم ربنا كتير أوي عليا، عارفة بس لو باب يتقفل علينا أنا هشرحلك الموضوع واصل لفين، علشان رحرحة كتب الكتاب مش عجباني لأ، أو أنتِ متربية بزيادة عمومًا كلها أيام خلاص.
أخجلها ذاك الوقح بحديثه حتى أنهت المكالمة وتحججت كذبًا بنداء “نـهال” عليها حتى ضحك هو ثم ألتفت ضاحكًا فوجد “مُـنذر” صاحب الجبين المُقتضب والملامح العابسة قد عاد من العمل لتوهِ فسأله بتعجبٍ:
_حمدًا لله على سلامتك، مالك؟.
حرك الآخر كتفيه كأنه ينفي كونه يشعر بالضيق وفي الحقيقة هو يكذب فكيف يخبره أنه ذهب للعمل ولم يراها اليوم ولا حتى وجد الصغيرة، بالطبع هي عروس ويُحق لها أن تأخذ قسطًا من الراحة، لكن كيف لها أن تكون ظالمة لهذا الحد وتُحرم عليه هو الراحة؟.
في شقة “إيـهاب” توجه إلى هناك لكي يقوم بتحضير نفسه لعقد القران وقد وجد زوجته تجلس بحماسٍ فور أن أذن لها بما ودت حينما طلبت منه أن تذهب مُبكرًا لبيت العروس وقد وافق هو على مضضٍ لكنها أقنعته بطريقتها الخاصة ودلالها عليه، وما إن صعد وجدها تجلس في إنتظاره فهتف بجمودٍ وتعبٍ:
_أنا ورايا مليون حاجة مش هينفع أوديكِ.
أصابها الإحباط وهي ترمقه بغيظٍ بسبب رفضه فزفر بقوةٍ وهتف مُعدلًا حديثه بآخرٍ أثلج نيران غضبها:
_”مـيكي” هيوصلك لحد هناك، أنا هآمن عليكِ معاه بس ترسي هناك بلاش بنت البلد اللي جواكِ تخرج وتساعدي هناك، تروحي تلزقي مكانك متتحركيش يا إما والله….
_من غير ما تحلف والله مش هتحرك من مكاني هما أصلًا عاوزيني معاهم علشان متحركش بعدين هما صمموا وقالوا إني مش غريبة عنهم، سيبني بقى أحس إني مش لوحدي كدا.
هكذا كان ردها عليها حتى سكت هو ووافق وأوصلها للآسفل لموضع السيارة ثم أدخلها وأوصى معاونه عليها وشدد عليه الوصايا فهتف الآخر يُطمئنه بقوله:
_متقلقش يا “عـمهم” عيني في وسط راسي لحد ما توصل لهناك، وهفضل هناك أوصل بقية الحاجة اللي طلبتها مني، سلام يا “عـمنا”.
أنهى حديثه وولج السيارة يقودها فيما وقف “إيـهاب” يتابعه حتى تحركت السيارة وعاد هو لعمله من جديد يتابع كل شيءٍ للحفل المُقام في البيت ليلًا، ورغم ذلك لم يشعر إلا بالفرح وفقط لأجل ابنه البكري كما يُلقبه.
__________________________________
<“اليوم أجتمعنا والفرح معنا”>
مرت ساعات أخرى مع نهاية النهار وبداية الغروب وبدأ الناس يتوافدون على الحارة بدار المناسبات فيها لكي يتم حضور عقد القران أولًا وقد وصلت السيارات تباعًا إلى هناك من قبل الطرفين ووقف “إسماعيل” أمام المكان ينتظر قدومها بفارغ الصبر بعدما هاتفه “يوسف” وأخبره أن يسبقهم إلى هناك..
أتى شقيقه يجاوره ويُكاتفه ويُطمئنه أنه معه وكذلك أتى “مُـنذر” ومعه “تَـيام” و “مُـحي” ووقفوا بجوار بعضهم ودقائق وحضروا رجال آل “العطار” ومعهم “نَـعيم” ثم زارت البهجة المكان حينما وصلت سيارة العروس وخلفها عائلتها مع إرتفاع صوت الألعاب النارية والموسيقى من أبواق السيارات ومعهم المأذون..
بهجة أنتشرت بالمكان مع نزول العروس من سيارتها والفتيات خلفها ثم بدأوا بالتحرك نحو الداخل حيث المكان المخصص للنساء والآخر المقرر للرجال، وفي الخارج وقف “مُـحي” يتحدث في هاتفه بكامل تركيزه وقد ظهرت الجنية نفسها أمامه وهي تبحث عن الفتيات وحينها ردد مُستنكرًا:
_”جـنة”؟!.
أنتبه له “مُـنذر” الذي سلط عينيه على الفتاة وقد أبتسم بسخريةٍ ما إن أدرك أن هذه هي الفتاة التي جعلت ابن عمه يفكر فيها دومًا، وقد تلاشت بسمته حينما وجد سيارةٍ ما تصف بالمكان وترجلت منها برفقة “تـمارا” فهتف مستنكرًا تواجدها هنا حتى ظنها خيالات وهمية:
_”فُـلة”؟!.
حقًا من حفر حُفرةً لأخيه وقع فيها، فهو الذي سخر منذ ثوانٍ من ابن عمه الآن يصبح الحال هو نفسه حينما وجدها أمام عينيه برفقة ابنة شقيقها وكأنها تتعمد أن تؤرق راحته أينما كان وأينما حلت خُطاه، والأدهى أنها حقيقة وليست خيالات وهمية..
______________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)